وتسمى قل أوحي إلي وهي مكية بالاتفاق وآيها بلا خلاف ثمان وعشرون آية ووجه اتصالها قال الجلال السيوطي فكرت فيه مدة فلم يظهر لي سوى أنه سبحانه قال في سورة نوح استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا وقال عز وجل في هذه السورة لكفار مكة وإن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا وهذا بين في الارتباط انتهى وفي قوله لكفار مكة شيء ستعلمه إن شاء الله تعالى ويجوز أن يضم إلى ذلك اشتمال هذه السورة على شيء مما يتعلق بالسماء كالسورة السابقة وذكر العذاب لمن يعصى الله عز وجل في قوله سبحانه ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا فإنه يناسب قوله تعالى أغرقوا فأدخلوا نارا على وجه وقال أبو حيان في ذلك أنه تعالى لما حكى تمادى قوم نوح في الكفر والعكوف على عبادة الأصنام وكان أول رسول إلى أهل الأرض كما أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم آخر رسول إلى أهل الأرض والعرب الذين هو منهم صلى الله تعالى عليه وسلم كانوا عباد أصنام كقوم نوح حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء أي أو عينها وكان ما جاء به عليه الصلاة والسلام هاديا إلى الرشد وقد سمعته العرب وتوقف عن الإيمان به أكثرهم أنزل الله تعالى سورة الجن وجعلها أثر سورة نوح تبكيتا لقريش والعرب في كونهم تباطؤا عن الإيمان وكانت الجن خيرا منهم إذ أقبل للإيمان من أقبل منهم وهم من غير جنس الرسول عليه الصلاة والسلام حتى كادوا يكونون عليه لبدا ومع ذلك التباطيء فهم مكذبون له ولما جاء به حسدا وبغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم وتسمى قل أوحى إليّ وهي مكية بالاتفاق وآيها بلا خلاف ثمان وعشرون آية ووجه اتصالها قال الجلال السيوطي فكرت فيه مدة فلم يظهر لي سوى أنه سبحانه قال في سورة [نوح: ١٠، ١١] اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وقال عز وجل في هذه السورة لكفار مكة وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً [الجن: ١٦] وهذا وجه بين في الارتباط انتهى وفي قوله لكفار مكة شيء ستعلمه إن شاء الله تعالى ويجوز أن يضم إلى ذلك اشتمال هذه السورة على شيء مما يتعلق بالسماء كالسورة السابقة وذكر العذاب لمن يعصي الله عز وجل في قوله سبحانه وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [الجن: ٢٣] فإنه يناسب قوله تعالى أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً [نوح: ٢٥] على وجه وقال أبو حيان في ذلك أنه تعالى لما حكى تمادي قوم نوح في الكفر والعكوف على عبادة الأصنام وكان أول رسول إلى أهل الأرض كما أن محمدا صلّى الله عليه وسلم آخر رسول إلى أهل الأرض والعرب الذين هو منهم صلّى الله عليه وسلم كانوا عباد أصنام كقوم نوح حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء أي أو عينها وكان ما جاء به عليه الصلاة والسلام هاديا إلى الرشد وقد سمعته العرب وتوقف عن الإيمان به أكثرهم أنزل الله تعالى سورة الجن وجعلها إثر سورة نوح تبكيتا لقريش والعرب في كونهم تباطؤوا عن الإيمان وكانت الجن خيرا منهم إذ أقبل للإيمان من أقبل منهم وهم من غير جنس الرسول عليه الصلاة والسلام حتى كادوا يكونون عليه لبدا ومع ذلك التباطي فهم مكذبون له ولما جاء به حسدا وبغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فقال عز من قائل:
وحي لها القرار فاستقرت وقرأ زيد بن علي وجؤبة فيما روى عنه الكسائي وابن أبي عبلة في رواية «أحي» بإبدال واو وحي همزة كما قالوا في وعد أعد قال الزمخشري وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإعاء وإسادة وهذا أحد قولين للمازني والقول الآخر قصر ذلك على السماع وما ذكره من إطلاق الجواز في المضمومة تعقب بأن المضمومة قد تكون أولا وحشوا وآخرا ولكل منها أحكام وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في كتب النحو فليراجع وزاد بعض الأجلة قلب الواو والمضموم ما قبلها فقال إنه أيضا مقيس مطرد وإنه قد يرد ذلك في المفتوحة كأحد وعلى جميع القراءات الجار متعلق بما عنده ونائب الفاعل أَنَّهُ إلخ على أنه في تأويل المصدر والضمير للشأن اسْتَمَعَ أي القرآن كما ذكر في الأحقاق وقد حذف لدلالة ما بعده عليه نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ النفر في المشهور ما بين الثلاثة والعشرة. وقال الحريري في درته: إن النفر إنما يقع على الثلاثة من الرجال إلى العشرة وقد وهم في ذلك فقد يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح وقد ذكره غير واحد من أهل اللغة وفي كلام الشعبي حدثني بضعة عشر نفرا ولا يختص بالرجال بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا وفي المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى الأربعين والفرق بينهما أن الرهط يرجعون إلى أب واحد بخلاف النفر وقد يطلق على القوم ومنه قوله تعالى وَأَعَزُّ نَفَراً [الكهف: ٣٤] وقول امرئ القيس:
فهو لا تنمى (١) رميته | ما له لا عد من نفره |
وقد قال أهل الحكمة الجديدة بأجسام لطيفة أثبتوا لها من الخواص ما يبهر العقول فلتكن أجسام الجن على ذلك النحو من الأجسام وعالم الطبيعة أوسع من أن تحيط بحصر ما أودع فيه الأفهام وأكثر الفلاسفة على إنكار الجن. وفي رسالة الحدود لابن سينا الجني حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة وهذا شرح الاسم وظاهره نفي أن يكون لهذه الحقيقة وجود في الخارج ونفي ذلك كفر صريح كما لا يخفى، واعترف جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات بوجودهم ويسمونهم بالأرواح السفلية والمشهور أنهم زعموا أنها جواهر قائمة بأنفسها ليست أجساما ولا جسمانية وهي أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض فبعضها خيرة وبعضها شريرة ولا يعرف عدد أنواعها وأصنافها إلّا الله عز وجل ولا يبعد على هذا أن يكون في أنواعها ما يقدر على أفعال شاقة عظيمة يعجز عنها البشر بل لا يبعد أيضا على ما قيل أن يكون لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم ومن الناس من زعم أن الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها ازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق حدوث بدن آخر مشابه لما كان لتلك النفس المفارقة من البدن تعلقت تلك النفس به تعلقا ما وتصير كالمعاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة والكل مخالف لأقوال السلف. وظاهر الآيات والأحاديث وجمهور أرباب الملل معترفون بوجودهم كالمسلمين وإن اختلفوا في حقيقتهم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من آكام المرجان. وفي التفسير الكبير طرف مما يتعلق بذلك فارجع إليه إن أردته. واختلف في عدد المستمعين فقيل سبعة فعن زر ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير القرية التي بالعراق، وعن عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل وأين سبعة أو تسعة من اثني عشر ألفا ولعل النفر عليه القوم وفي الكشاف كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم، والآية ظاهرة في أنه صلّى الله عليه وسلم علم استماعهم له بالوحي لا بالمشاهدة وقد وقع في الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام رآهم وجمع ذلك بتعدد القصة قال في آكام المرجان ما محصله في الصحيحين في حديث ابن عباس ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما انطلق بطائفة من الصحابة لسوق عكاظ قد حيل بين الجن والسماء بالشهب فقالوا: ما ذاك إلا لشيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمر من ذهب لتهامة منهم به عليه الصلاة والسلام وهو يصلي الفجر بأصحابه بنخلة فلما استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين السماء ورجعوا إلى قومهم وقالوا: يا قومنا إلخ فأنزل الله تعالى عليه قُلْ أُوحِيَ إلخ ثم قال ونفى ابن عباس إنما هو في هذه القصة واستماعهم تلاوته صلّى الله عليه وسلم في الفجر في هذه القصة لا مطلقا ويدل عليه قوله تعالى وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف: ٢٩] إلخ فإنها تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كلمهم ودعاهم وجعلهم رسلا لمن عداهم كما قاله البيهقي وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن قال وانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم»
إلخ وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات. وقال ابن تيمية إن ابن عباس علم ما دل عليه القرآن ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة من إتيان الجن له صلّى الله عليه وسلم ومكالمتهم إياه عليه الصلاة والسلام وقصة الجن كانت قبل الهجرة بثلاث سنين. وقال الواقدي كانت سنة إحدى عشرة من
وفي شرح البيهقي من طرق شتى عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلّى العشاء ثم انصرف فأخذ بيدي حتى أتينا مكان كذا فأجلسني وخط عليّ خطا ثم قال: «لا تبرحن خطك» فبينما أنا جالس إذ أتاني رجال منهم كأنهم الزط فذكر حديثا طويلا وأنه صلّى الله عليه وسلم ما جاء إلى السحر قال وجعلت أسمع الأصوات ثم جاء عليه الصلاة والسلام فقلت:
أين كنت يا رسول الله؟ فقال: «أرسلت إليّ الجن» فقلت: ما هذه الأصوات التي سمعت؟ قال: «هي أصواتهم حين ودعوني وسلموا علي»
وقد يجمع الاختلاف في القلة والكثرة بأن ذلك لتعدد القصة أيضا والله تعالى أعلم. واختلف فيما استمعوه فقال عكرمة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: ١] وقيل سورة الرحمن فَقالُوا أي لقومهم عند رجوعهم إليهم إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً أي كتابا مقروءا على ما فسره به بعض الأجلة وفسر بذلك للإشارة إلى أن ما ذكروه في وصفه مما يأتي وصف له كله دون المقروء منه فقط، والمراد أنه من الكتب السماوية والتنوين للتفخيم أي قرآنا جليل الشأن عَجَباً بديعا مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى وهو مصدر وصف به للمبالغة يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ إلى الحق والصواب وقيل إلى التوحيد والإيمان وقرأ عيسى «الرشد» بضمتين وعنه أيضا فتحهما فَآمَنَّا بِهِ أي بذلك القرآن من غير ريث وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد أو حسبما نطق به الدلائل العقلية على التوحيد ولم تعطف هذه الجملة بالفاء قال الخفاجي لأن نفيهم للإشراك إما لما قام عندهم من الدليل العقلي فحينئذ لا يترتب على الإيمان بالقرآن وإما لما سمعوه من القرآن فحينئذ يكفي في ترتبها عليه عطف الأول بالفاء خصوصا والباء في به تحتمل السببية فيعم الإيمان به الإيمان بما فيه فإنك إذا قلت ضربته فتأدب وانقاد لي فهم ترتب الانقياد على الضرب ولو قلت فانقاد لم يترتب على الأول بل على ما قبله. وقيل: عطفت بالواو ولتفويض الترتب إلى ذهن السامع وقد يقال إن مجموع فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ مسبب عن مجموع إِنَّا سَمِعْنا إلخ فكونه قرآنا معجزا يوجب الإيمان به وكونه يهدي إلى الرشد يوجب قلع الشرك من أصله والأول أولى وجوز أن يكون ضمير به لله عز وجل لأن قوله سبحانه بِرَبِّنا يفسره فلا تغفل وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا اختلفوا قراءة في أن هذه وما بعدها إلى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وتلك اثنتا عشرة فقرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص بفتح الهمزة فيهن ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة ما هنا وأنه كان يقول وإنه كان رجال وقرأ الباقون بكسرها في الجميع واتفقوا على الفتح في أَنَّهُ اسْتَمَعَ وأَنَّ الْمَساجِدَ [الحج: ١٨] لأن ذلك لا يصح أن يكون من قول الجن بل هو مما أوحى بخلاف الباقي فإنه يصح أن يكون من قولهم ومما أوحى واختلفوا في أنه لما قام فقرأ نافع وأبو بكر بكسر الهمزة والباقون بفتحها كذا فصله بعض الأجلة وهو المعول عليه ووجه الكسر في أن هذه وما بعدها إلى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ظاهر كالكسر في إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً لظهور عطف الجمل على المحكي بعد القول ووضوح اندراجها تحته، وأما وجه الفتح ففيه خفاء ولذا اختلف فيه فقال الفراء والزجاج والزمخشري هو العطف على محل الجار والمجرور في فَآمَنَّا بِهِ كأنه قيل صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا وأنه كان يقول سفيهنا وكذلك البواقي ويكفي في إظهاره المحل إظهار مع المرادف وليس من العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار الممنوع عند البصريين في شيء وإن قيل به هنا بناء على مذهب الكوفيين المجوزين له ولو قيل إنه بتقدير الجار لاطراد حذفه قبل أن وإن لكان سديدا كما في الكشف وضعف مكي العطف على ما في حيز (آمنا) فقال فيه بعد في المعنى لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به ولا أنهم آمنوا بأنه كان رجال إنما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين عن
وزججن الحواجب والعيونا فيخرج على ما خرج عليه أمثاله فيؤول صدقنا بما يشمل الجميع أو يقدر مع كل ما يناسبه وقال أبو حاتم هو العطف على نائب فاعل أوحى أعني أنه استمع كما في أن المساجد على أن الموحى عين عبارة الجن بطريق الحكاية كأنه قيل قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ كيت وكيت وهذه العبارات وتعقب بأن حكاية عباراتهم تقتضي أن تكون أن في كلامهم مفتوحة الهمزة ولا يظهر ذلك إلا أن يكون في كلامهم ما يقتضي الفتح كاسمعوا أو اعلموا أو نخبركم لكنه أسقط وقت الحكاية ولا يظهر لإسقاطه وجه وعلى تقدير الظهور فالفتح ليس لأجل العطف فإن النائب عن الفاعل عليه مجموع كل جملة على إرادة اللفظ دون المنسبك من أن وما بعدها وإلّا لما صح أن يقال الموحى كيت وكيت وهذه العبارات فإن كانت أن في كلامهم مكسورة الهمزة وصحت دعوى أن الحكاية اقتضت فتحها مع صحة إرادة هذه العبارات معه فذاك وإلّا فالأمر كما ترى فافهم وتأمل والجد العظمة والجلال يقال جد في عيني أي عظم وجل أي وصدقنا أن الشأن ارتفع عظمة وجلال ربنا أي عظمت عظمته عز وجل وفيه من المبالغة ما لا يخفى وقال أبو عبيدة والأخفش الملك والسلطان وقيل الغني وهو مروي عن أنس والحسن في الآية والأول مروي عن الجمهور والجد على جميع هذه الأوجه مستعار من الجد الذي هو البخت وقوله عز وجل مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً عليها تفسير للجملة وبيان لحكمها ولذا لم يعطف عليها فالمراد وصفه عز وجل بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه سبحانه وتعالى وكأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقده كفرة الجن من تشبيهه سبحانه بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد فاستعظموه ونزّهوه تعالى عنه. وقرأ حميد بن قيس «جد» بضم الجيم قال في البحر ومعناه العظيم حكاه سيبويه وإضافته إلى رَبِّنا من إضافة الصفة إلى الموصوف والمعنى تعالى ربنا العظيم وقرأ عكرمة «جد» منونا مرفوعا «ربّنا» بالرفع وخرج على أن الجد بمعنى العظيم أيضا و «ربنا» خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا أو بدل من «جد» وقرأ أيضا «جدا» منونا منصوبا على أنه تميز محول عن الفاعل وقرأ هو أيضا وقتادة «جدا» بكسر الجيم والتنوين والنصب «ربّنا» بالرفع قال ابن عطية نصب «جدا» على الحال والمعنى تعالى ربنا حقيقة ومتمكنا وقال غيره هو صفة لمصدر محذوف أي تعاليا جدا وقرأ ابن السميفع «جدا ربنا» أي جدواه ونفعه سبحانه وكان المراد بذلك الغنى فلا تغفل وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا هو إبليس عند الجمهور وقيل مردة الجن والإضافة للجنس والمراد سفهاؤنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي قولا ذا شطط أي بعد عن القصد ومجاوزة الحد أو هو في نفسه شطط لفرط بعده عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد إليه عز وجل وتعلق الإيمان والتصديق بهذا القول بناء على ما يقتضيه العطف على ما في حيز فَآمَنَّا ليس باعتبار نفسه فإنهم كانوا عالمين بقول سفيههم من قبل بل باعتبار كونه شططا كأنه قيل وصدقنا أن ما كان يقول سفيهنا في حقه سبحانه كان شططا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً اعتذار منهم عن تقليدهم لسفيههم أي كنا نظن أن لن يكذب على الله تعالى أحد فينسب إليه سبحانه الصاحبة والولد ولذلك اعتقدنا صحة قول السفيه ولعل الإيمان متعلق بما يشعر به كلامهم هذا وينساق إليه من خطئهم في ظنهم كأنه قيل وصدقنا بخطئنا في ظننا الذي لأجله اعتقدنا ما اعتقدنا وكَذِباً مصدر مؤكد لتقول لأنه نوع من القول كما
وقرأ الحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم «تقول» مضارع تقول وأصله تتقول بتاءين فحذفت إحداهما فكذبا مصدر مؤكد لأن الكذب هو التقول وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ كان الرجل من العرب إذا أمسى في واد قفر وخاف على نفسه نادى بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك يريد الجن وكبيرهم فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا سدنا الجن والإنس وذلك قوله تعالى فَزادُوهُمْ أي زاد الرجال العائذون الجن رَهَقاً أي تكبرا وعتوا فالضمير المرفوع لرجال الإنس إذ هم المحدث عنهم والمنصوب لرجال الجن وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير وجماعة إلّا أن منهم من فسر الرهق بالإثم وأنشد الطبري لذلك قول الأعشى:
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها | لا يشتكي وامق ما لم يصب رهقا |
وذهب الفراء إلى أن ما بعد الفاء قد يتقدم إذا دل عليه الدليل كقوله تعالى وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف: ٤] وجمهور النحاة على خلافه وقيل في الكلام حذف أي فاتبعوهم فزادوهم. والآية ظاهرة في أن لفظ الرجال يطلق على ذكور الجن كما يطلق على ذكور الإنس. وقيل لا يطلق على ذكور الجن ومِنَ الْجِنِّ في الآية متعلق ب يَعُوذُونَ ومعناها أنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس وكان الرجل يقول مثلا أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي وهو قول غريب مخالف لما عليه الجمهور المؤيد بالآثار، ولعل تعلق الإيمان بهذا باعتبار ما يشعر به من كون ذلك ضلالا موجبا لزيادة الرهق.
وقد جاء في بعض الأخبار ما يقال بدل هذه الاستعاذة
ففي حديث طويل أخرجه أبو نصر السجزي في الإبانة من طريق مجاهد عن ابن عباس وقال غريب جدا أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أصاب أحدا منكم وحشة أو نزل بأرض مجنة فليقل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل السماء وما يعرج فيها ومن فتن النهار ومن طوارق الليل إلّا طارقا يطرق بخير»
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أي الإنس كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن على أنه كلام بعضهم لبعض أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً أي من الرسل أحد من العباد وقيل إنه لن يبعث سبحانه أحدا بعد الموت وأيّا ما كان فالمراد وقد أخطؤوا وأخطأتم ولعله متعلق الإيمان وقيل المعنى أن الجن ظنوا كما ظننتم أيها الكفرة أن لن إلخ فتكون هذه الآية من جملة الكلام الموحى به معطوفة على قوله تعالى أَنَّهُ اسْتَمَعَ وعلى قراءة الكسر تكون استئنافا من كلامه تعالى وكذا ما قبلها على ما قيل وفي الكشاف قيل الآيتان يعني هذه وقوله تعالى وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ إلخ من جملة الموحى وتعقب ذلك في الكشف بأن فيه ضعفا لأن قوله سبحانه وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ إلخ من كلام الجن أو مما صدقوه على القراءتين لأن من الموحى إليه فتخلل ما تخلل ما تخلل وليس اعتراضا غير جائز إلّا أن يؤول بأنه يجري مجراه لكونه يؤكد ما حدث عنهم في تماديهم في الكفر أولا ولا يخفى ما فيه من التكلف انتهى. وأبو السعود اختار في جميع الجمل المصدرة بأنا العطف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ على نحو ما سمعت عن أبي حاتم وقد سمعت ما فيه آنفا وأن مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن والجملة بعدها خبر وجملة أن لن يبعث إلخ
ننيته بعصبة من ماليا | أخشى رجيلا وركيبا عاديا |
وهند أتى من دونها النأي والبعد وهو خلاف الظاهر ودخول أَنَّا لَمَسْنَا إلخ في حيز الإيمان وكذا أكثر الجمل الآتية في غاية الخفاء والظاهر تقدير نحو نخبركم فيما لا يظهر دخوله في ذلك أو تأويل (آمنا) من أول الأمر بما ينسحب على الجميع وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ قبل هذا مِنْها أي من السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي مقاعد كائنة للسمع خالية عن الحرس والشهب أو صالحة للترصد والاستماع ولِلسَّمْعِ متعلق بنقعد أي لأجل السمع أو بمضمر هو صفة لمقاعد وكيفية قعودهم على ما قيل ركوب بعضهم فوق بعض وروي في ذلك خبر مرفوع وقيل لا مانع من أن يكون بعروج من شاء منهم بنفسه إلى حيث يسمع منه الكلام فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ قال في شرح التسهيل الْآنَ معناه هنا القرب مجازا فيصح مع الماضي والمستقبل وفي البحر أنه ظرف زمان للحال ويَسْتَمِعِ مستقبل فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال كما قال:
سأسعى الآن إذ بلغت أناها فالمعنى فمن يقع منه استماع في الزمان الآتي يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أي يجد شهابا راصدا له ولأجله يصده عن الاستماع بالرجم فرصد صفة شِهاباً فإن كان مفردا فالأمر ظاهر وإن كان اسم جمع للراصد كحرس فوصف المفرد به لأن الشهاب لشدة منعه وإحراقه جعل كأنه شهب ونظير ذلك وصف المعا وهو واحد الأمعاء بجياع في قول القتامي:
كأن قيود رجلي حين ضمت | حوالب غرزاو معا جياعا |
والعير يرهقها الغبار وجحشها... ينقض خلفهما انقضاض الكوكب
وقال أوس بن حجر:
وانقض كالدري يتبعه... نقع يثور تخاله طنبا
وقال عوف بن الخرع يصف فرسا:
يرد علينا العير من دون إلفه... أو الثور كالدري يتبعه الدم
فإن هؤلاء الشعراء كلهم كما قال التبريزي جاهلون ليس فيهم مخضرم. وما
رواه الزهري عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما عن ابن عباس بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار فقال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية» ؟ قالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم
. وروي عن معمر قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم، قلت: أرأيت قوله تعالى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ فقال غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلّى الله عليه وسلم وكأنه أخذ ذلك من الآية أيضا. وقال بعضهم: إن الرمي لم يكن أولا ثم حدث للمنع عن بعض السماوات ثم كثير ومنع به الشياطين عن جميعها يوم تنبأ النبي عليه الصلاة والسلام وجوز أن تكون الشهب من قبل لحوادث كونية لا لمنع الشياطين أصلا والحادث بعد البعثة رمي الشياطين بها على معنى أنهم إذا عرجوا للاستماع رموا بها فلا يلزم أيضا أن يكون كل ما يحدث من الشهب اليوم للرمي بل يجوز أن يكون لأمور أخر بأسباب يعلمها الله تعالى ويجاب بهذا عن حدوث الشهب في شهر رمضان مع ما جاء من أنه تصفد مردة الشياطين فيه ولمن يقول إن الشهب لا تكون إلّا للرمي جواب آخر مذكور في موضعه وذكروا وجدانهم المقاعد مملوءة من الحراس ومنع الاستراق بالكلية قيل بيان لما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته عليه الصلاة والسلام وقولهم وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بحراسة السماء أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً أي خيرا كالتتمة لذلك فالحامل في الحقيقة تغير الحال عما كانوا ألفوه والاستشعار أنه لأمر خطير والتشوق إلى الإحاطة به خبرا ولا يخفى ما في قولهم أَشَرٌّ أُرِيدَ إلخ من الأدب حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إلى الله عز وجل كما صرحوا به في الخير وإن كان فاعل الكل هو الله تعالى ولقد جمعوا بين الأدب وحسن الاعتقاد وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ أي الموصوفون بصلاح الحال في شأن أنفسهم وفي معاملتهم مع غيرهم المائلون إلى الخير والصلاح حسبما تقتضيه الفطرة السليمة لا إلى الشر والفساد كما هو مقتضى النفوس الشريرة وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي قوم دون ذلك المذكور ويطرد حذف الموصوف إذا كان بعض اسم مجرور بمن مقدم عليه والصفة ظرف كما هنا أو جملة كما في قوله منا أقام ومنا ظعن وأرادوا بهؤلاء القوم المقتصدين في صلاح الحال على الوجه السابق لا في الإيمان والتقوى كما قيل فإن هذا بيان لحالهم قبل استماع القرآن كما يعرب عنه قوله تعالى كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً وأما حالهم بعد استماعه فستحكى بقوله تعالى وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى إلى قوله تعالى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ إلخ وجوز بعضهم كون دُونَ بمعنى غير فيكون دون ذلك شاملا للشرير المحض وأيّا ما
كما عسل الطريق الثعلب شاذ فلا يخرج القرآن الكريم على ذلك. وقال بعض النحاة: هو ظرف عام لأن كل موضع يستطرق طريق والقدد المتفرقة المختلفة قال الشاعر:
القابض الباسط الهادي بطاعته | في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد |
وإنك كالليل الذي هو مدركي | وإن خلت أن المنتأى عنك واسع |
من يفعل الحسنات الله يشكرها معلوم وبعضهم أوجب التقدير لزعمه عدم صحة دخول الفاء في ذلك أي فهو لا يخاف بَخْساً أي نقصا في الجزاء. وقال الراغب: البخس نقص الشيء على سبيل الظلم وَلا رَهَقاً أي غشيان ذلة من قوله تعالى وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [يونس: ٢٧] وأصله مطلق الغشيان وقال الراغب: رهقه الأمر أي غشيه بقهر وفي الأساس رهقه دنا منه وصبي مراهق مدان للحلم وفي النهاية يقال رجل فيه رهق إذا كان يخف إلى الشر ويغشاه. وحاصل المعنى فلا يخاف أن يبخس حقه ولا أن ترهقه ذلة فالمصدر أعني بَخْساً مقدر باعتبار المفعول وليس المعنى على أن غير المؤمن يبخس حقه بل النظر إلى تأكيد ما ثبت له من الجزاء وتوفيره كملا
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة | عمرا وهم قسطوا على النعمان |
الجائرون عن سنن الإسلام كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
توقد بهم كما توقد بكفرة الإنس واستظهر أن فَمَنْ أَسْلَمَ إلخ من كلام الجن وقال ابن عطية الوجه أن يكون مخاطبة من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم ويؤيده ما بعد الآيات وفي الكشاف زعم من لا يرى للجن ثوابا أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم وكفى به وعدا أن قال سبحانه فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً فذكر سبب الثواب والله عزّ وجلّ أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد وهو ظاهر في أنه من كلامه عزّ وجلّ وقوله تعالى وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا إلخ معطوف قطعا على قوله سبحانه أَنَّهُ اسْتَمَعَ ولا يضر تقدم المعطوف على غيره على القول به لظهور الحال وعدم الالتباس وأَنْ مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن. وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لَوِ والمعنى وأوحى إلى أن الشأن لو استقام الإنس والجن أو كلاهما عَلَى الطَّرِيقَةِ التي هي ملة الإسلام لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً أي كثيرا وقرأ عاصم في رواية الأعمش بكسر الدال والمراد لوسعنا عليهم الرزق وتخصيص الماء الغدق بالذكر لأنه أصل المعاش وكثرته أصل السعة فقد قيل المال حيث الماء ولعزة وجوده بين العرب لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي لنختبرهم كيف يشكرونه أي لنعاملهم معاملة المختبر وقيل لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله تعالى وطاعته سبحانه ولم يتكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ووسعنا رزقهم لنختبرهم ويجوز على هذا رجوع الضمير
أن يكون بدلا من عذاب على حذف مضاف أي عذاب صعد ويجوز أن يكون مفعول نَسْلُكُهُ وعَذاباً مفعول من أجله وقرأ الكوفيون يَسْلُكْهُ بالياء وباقي السبعة بالنون وابن جندب بالنون من أسلك وبعض التابعين بالياء كذلك وهما لغتان سلك وأسلك قال الشاعر يصف جيشا مهزومين:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة (١) | شلا كما تطرد الجمالة الشردا |
في الحديث الصحيح: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»
واشتهر أن هذا من خصائص نبينا صلّى الله عليه وسلم أي شريعته فيكون له ولأمته عليه الصلاة والسلام وكان من قبل إنما تباح لهم الصلاة في البيع والكنائس واستشكل بأن عيسى عليه السلام كان يكثر السياحة وغيره من الأنبياء عليهم السلام يسافرون فإذا لم تجز لهم الصلاة في غير ما ذكر لزم ترك الصلاة في كثير من الأوقات وهو بعيد لا سيما في الخضر عليه السلام ولذا قيل المخصوص كونها مسجدا وطهورا أي المجموع ويكفي في اختصاصه اختصاص التيمم وأجيب بأن المراد الاختصاص بالنسبة إلى الأمم السالفة دون أنبيائها عليهم السلام والخضر إن كان حيّا اليوم فهو من هذه الأمة سواء كان نبيا أم لا لخبر لو كان موسى حيا ما وسعه إلّا اتباعي وحكمه قبله نبيا ظاهر والأمر فيه غير نبي سهل وقيل المراد بها المسجد الحرام أي الكعبة نفسها أو الحرم كله على ما قيل والجمع لأن كل ناحية منه مسجد له قبلة مخصوصة أو لأنه لما كان قبلة المساجد فإن كل قبلة متوجهة نحوه جعل كأنه جميع المساجد مجازا وقيل: المراد هو وبيت المقدس فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لم يكن يوم نزلت وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ إلخ في الأرض مسجدا لا المسجد الحرام ومسجد إيليا بيت المقدس وأمر الجمع عليه أظهر منه على الأول لا أنه كالأول خلاف الظاهر وما ذكر لا يتم دليلا له. وقال ابن عطاء وابن جبير والزجاج والفراء المراد بها الأعضاء السبعة التي يسجد عليها واحدها مسجد بفتح الجيم وهي القدمان والركبتان والكفان والوجه أي الجبهة والأنف. وروي أن المعتصم سأل أبا جعفر محمد بن عليّ بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم عن ذلك فأجاب بما ذكر. وقيل السجدات على أن المسجد بفتح الجيم مصدر ميمي ونقل عن الخليل بن أحمد أن قوله تعالى وَأَنَّ الْمَساجِدَ بتقدير لام التعليل وهو متعلق بما بعد والْمَساجِدَ بمعناها المعروف أي لأن الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ولما لم تكن الفاء في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلا يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها نعم قال غير واحد جيء بها لتضمن الكلام معنى الشرط، والمعنى أن الله تعالى يحب أن يوحد ولا يشرك به أحد فإن لم يوحدوه في سائر المواضع فلا تدعوا معه أحدا في المساجد لأن المساجد له سبحانه مختصة به عزّ وجلّ فالإشراك فيها أقبح وأقبح ونظير هذا قوله تعالى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا [قريش: ١- ٣] على وجه ولا يعد ذلك من الشرط المحقق ويندفع بما ذكر لزوم جعل الفاء لغوا لأنها للسببية ومعناها مستفاد من اللام المقدرة وقيل في دفعه أيضا أنها تأكيد للام أو زائدة جيء بها للإشعار بمعناها وأنها مقدرة والخطاب في تَدْعُوا قيل للجن وأيد بما
روي عن ابن جبير قال: إن الجن قالوا يا رسول الله كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك فنزلت الآية
ليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كانت مقبولة إذا لم تشركوا فيها. وقيل هو خطاب عام وعن قتادة كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله
الجن وإيمان بعضهم وكفر آخرين منهم ليكون حكاية ذلك لطفا لهم في الانتهاء عما كانوا فيه وحثا على الإيمان ثم قيل وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ويوحده كاد الفريقان من كفرة الجن والإنس يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً دلالة على عدم ارتداعهم مع هذه الدلائل الباهرة والآيات النيرة،
صافوا بستة أبيات وأربعة | حتى كأن عليهم جابيا لبدا |
يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية | عني وما من قضاء الله ملتحد |
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم كما في الكشف وظاهر كلام بعض الأجلة أنه إما استثناء متصل من رَشَداً فإن الإبلاغ إرشاد ونفع والاستثناء من المعطوف دون المعطوف عليه جائز، وأما استثناء منقطع من مُلْتَحَداً قال الرازي لأن البلاغ من الله تعالى لا يكون داخلا تحت قوله سبحانه مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً لأنه لا يكون من دون الله سبحانه بل منه جل وعلا وبإعانته وتوفيقه. وفي البحر قال الحسن هو استثناء منقطع أي لَنْ يُجِيرَنِي أحد لكن إن بلغت رحمتي بذلك والإجارة مستعارة للبلاغ إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته سبحانه وقيل هو على هذا المعنى استثناء متصل.
والمعنى لن أجد شيئا أميل إليه وأعتصم به إلّا أن أبلغ وأطيع فيجيرني فيجوز نصبه على الاستثناء من مُلْتَحَداً أو على البدل وهو الوجه لأن قبله نفيا وعلى البدل خرجه الزجاج انتهى. والأظهر ما تقدم وقيل إن إلّا مركبة من أن الشرطية ولا النافية والمعنى أن لا أبلغ بلاغا وما قبله دليل الجواب فهو كقولك إلّا قياما فقعودا وظاهره أن المصدر سد مسد الشرط كمعمول كان ولهم في حذف جملة الشرط مع بقاء الأداة كلام والظاهر إن إطراد حذفه مشروط ببقاء لا كما في قوله:
فطلقها فلست لها بكفء | وإلّا يعل مفرقك الحسام |
قوله صلّى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية»
والمعنى على ما علمت أولا في الاستثناء لا أملك لكم إلّا تبليغا كائنا منه تعالى ورسالاته التي أرسلني عز وجل بها. وفي الكشف في الكلام إضمار أي بلاغ رسالته وأصل الكلام إلّا بلاغ رسالات الله فعدل إلى المنزل ليدل على التبليغين مبالغة وإن كلا من المعنيين أعني كونه من الله تعالى وكونه بلاغ رسالاته يقتضي التشمر لذلك انتهى. وفي عبارة الكشاف رمز ما إليه لكن قيل عليه لا ينبغي تقدير المضاف فيه أعني بلاغ فإنه يكون العطف حينئذ من عطف الشيء على نفسه إلّا أن يوجه بأن البلاغ من الله تعالى فيما أخذه عنه سبحانه بغير واسطة والبلاغ للرسالات فيما هو بها وهو بعيد غاية البعد فافهم. واستظهر أبو حيان عطفه على الاسم الجليل فقال الظاهر عطف رِسالاتِهِ على اللَّهِ أي إلّا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته وظاهره جعل مِنَ بمعنى عن وقد تقدم منه أنها لابتداء الغاية. وقرىء «قال لا أملك» أي قال عبد الله للمشركين أو للجن وجوز أن يكون من حكاية الجن لقومهم. هذا ووجه ارتباط الآية بما قبلها قيل بناء على أن التلبد للعداوة أنهم لما تلبدوا عليه صلّى الله عليه وسلم متظاهرين للعداوة قيل له عليه الصلاة والسلام قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي ما أردت إلّا نفعكم وقابلتموني بالإساءة وليس في استطاعتي النفع الذي أردت ولا الضر الذي أكافئكم به إنما ذان إلى الله تعالى وفيه تهديد عظيم وتوكيل إلى الله جل وعلا وأنه سبحانه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه وسوء صنيعهم، ثم فيه مبالغة من حيث إنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم هذا فإن الذي يستطيعه عليه الصلاة والسلام هو التبليغ ولا يدع المستطاع ولهذا قال إِلَّا بَلاغاً وجعله بدلا من مُلْتَحَداً شديد الطباق على هذا والشرط قريب منه، وأما إن كان الخطاب للجن والتلبد للتعجب
فقول أبي حيان أنه بعيد جدا لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة ليس بشيء كجعله إياه غاية لما تضمنته الجملة قبل يعني فإن له نار جهنم من الحكم بكينونة النار له ومثل ذلك ما قيل من أنه غاية لمحذوف والتقدير دعهم حتى إذا رأوا إلخ والظاهر أن مَنْ استفهامية كما أشرنا إليه وهي مبتدأ وأَضْعَفُ خبر والجملة في موضع نصب بما قبلها وقد علق عن العمل لمكان الاستفهام وجوز كونها موصولة في موضع نصب ب (يعلمون) وأَضْعَفُ خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لمن والتقدير فسيعرفون الذي هو أضعف وحسن حذف صدر الصلة طولها بالتمييز وجوز تفسير ما يُوعَدُونَ بيوم بدر ورجح الأول بأن الظاهر أن قوله سبحانه قُلْ إِنْ أَدْرِي أي ما أدري أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً رد لما قاله المشركون عند سماعهم ذلك، ومقتضى حالهم أنهم قالوا إنكارا واستهزاء متى يكون ذلك الموعود بل روي عن مقاتل أن النضر بن الحارث قال ذلك فقيل قل إنه كائن لا محالة وأما وقته فما أدري متى يكون والأحرى بسؤالهم وهذا الجواب إرادة ما في يوم القيامة المنكرين له أشد الإنكار والخفي وقته عن الخلائق غاية الخفاء والمراد بالأمد الزمان البعيد بقرينة المقابلة بالقريب وإلّا فهو وضعا شامل لهما ولذا وصف ببعيدا في قوله تعالى تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران: ٣٠] وقيل إن معنى القرب ينبىء عن مشارفة النهاية فكأنه قيل لا أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم هو مؤجل ضرب له غاية والأول أولى وأقرب عالِمُ الْغَيْبِ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه عالم الغيب وجوز أبو حيان كونه
لدفع ذلك على أبلغ وجه حيث عمم الأمر في الرسل المرتضين وأقام كيفية الإظهار مقام الإظهار مع الإشارة إلى البعض الذي اطلعوا عليه المناسب لمقام الدعوة فقال عز من قائل إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي لكن الرسول المرتضى يظهره جل وعلا على بعض الغيوب المتعلقة برسالته كما يعرب عنه بيان من ارتضى بالرسول تعلقا ما إما لكونه من مبادئها بأن يكون معجزة وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية وكيفيات الأعمال وأجزيتها ونحو ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة بأن يسلك من جميع جوانبه عند اطلاعه على ذلك حرسا من الملائكة عليهم السلام يحرسونه من تعرض الشياطين لما أريد اطلاعه عليه اختطافا أو تخليطا لِيَعْلَمَ متعلق ب يَسْلُكُ وعلة له والضمير لمن أي لأجل أن يعلم ذلك المرتضى الرسول ويصدق تصديقا جازما ثابتا مطابقا للواقع أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أي الشأن قد أبلغ إليه الرصد وهو من قبيل: بنو تميم قتلوا زيدا فإن المبلغ في الحقيقة واحد معهم وهو جبريل عليه السلام كما هو المشهور من أنه المبلغ من بين الملائكة عليهم السلام إلى الأنبياء رِسالاتِ رَبِّهِمْ وهي الغيوب المظهر عليها كما هي من غير اختطاف ولا تخليط، وعلى هذا فليكن من مبتدأ وجملة إنه يَسْلُكُ خبره وجيء بالفاء لكونه اسم موصول وقوله تعالى
بكرامة الولي بالاطلاع على الغيب وكان ظاهر قوله تعالى عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ إلخ دالا على نفيها ولذا قال الزمخشري إن في هذا إبطال الكرامات أي في الجملة وهي ما كان من الإظهار على الغيب لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله تعالى الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط انتهى. أنجدوا وأتهموا وأيمنوا وأشأموا في تفسير الآية على وجه لا ينافي مذهبهم ولا يتم عليه استدلال المعتزلي على مذهبه فقال الإمام ليس في قوله تعالى عَلى غَيْبِهِ صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه سبحانه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد ويؤكد ذلك وقوع الآية بعد قوله تعالى قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ والمراد به وقوع يوم القيامة ثم قال فإن قيل إذا حملتم ذلك على القيامة فكيف
٢٧٦] وقد نص على ذلك العلامة التفتازاني فيكون المعنى فَلا يُظْهِرُ عَلى شيء من غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فإنه سبحانه يظهره على شيء من غيبه بأن يسلك إلخ ولا يرد كرامة الولي إذ ليست من الإظهار المذكور إذ لا يحصل له أعلى مراتب العلم بالغيب الذي يخبر به وإنما يحصل له ظنون صادقة أو نحوها وكذا شأن غيره من أرباب الرياضات من الكفرة وغيرهم وتعقب بأن من الصوفية من قال كالشيخ محيي الدين قدس سره بنزول الملك على الولي وإخباره إياه ببعض المغيبات أحيانا ويرشد إلى نزوله عليه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: ٣٠، الأحقاف: ١٣] الآية وكون ما يحصل له إذ ذاك ظن أو نحوه لا علم كالعلم الحاصل للرسول بواسطة الملك لا يخلو عن بحث بل قد يحصل له بواسطة الإلهام والنفث في الروع نحو ما يحصل للرسول وأيضا يلزم أن لا يظهر الملك على الغيب إذ الرسول المستثنى رسول البشر على ما هو الظاهر والتزام أنه لا يظهر بالمعنى السابق ويظهر بواسطته مما لا وجه له أصلا وأيضا يلزم أن ما يحصل للنبي غير الرسول بالمعنى الأخص المتبادر هنا ليس بعلم بالمعنى المذكور وهو كما ترى وقيل المراد بالغيب في الموضعين الجنس والإظهار عليه على ما سمعت وكذا عدم ورود الكرامة والبحث فيه كالبحث في سابقه وزيادة وقال صاحب الكشف في الرد على الزمخشري الغيب إن كان مفسرا بما فسره في قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: ٣] فالآية حجة عليه لأنه جوز هنالك أن يعلم بإعلامه تعالى أو بنصبه الدليل. وهذا الثاني أعني القسم العقلي تنفيه الآية وترشد إلى أن تهذيب طرق الأدلة أيضا بواسطة الأنبياء عليهم السلام والعقل غير مستقل وأهل السنة عن آخرهم على أن الغيب بذلك المعنى لا يطلع عليه إلّا رسول أو آخذ منهم وليس فيه نفي الكرامة أصلا وإن أراد الغائب عن الحس في الحال مطلقا فلا بد من التخصيص بالاتفاق فليس فيه ما ينفيها أيضا وإن فسر بالمعدوم كما ذكره في قوله تعالى عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الأنعام: ٧٣ وغيرها] فلا بد أيضا من التخصيص وكذلك لو فسر بما غاب عن العباد أو بالسر على أن ظاهر الآية أنه تعالى عالم كل غيب وحده لا يظهر على غيبه المختص به وهو يتعلق بذاته تعالى وصفاته عز وجل بدلالة الإضافة إلا رسولا وهو كذلك فإن غيبه تعالى لا يطلع عليه إلّا بالإعلام من رسول ملكي أو بشري ولا
وبالنسبة لبعض البشر وقيل أراد بالغيب المخصوص به تعالى ما لم ينصب عليه دليل ولا يقدح في الاختصاص علم الغير به بإعلامه تعالى إذ هو إضافي بالنسبة إلى من لم يعلم. وقال ثانيا في الجواب عن الاستدلال ولعله أراد الجواب عند القوم ما نصه وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير توسط وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقيا من الملائكة أي بالنفث في الروع ونحوه وحاصله أن الاستدلال إنما يتم أن لو تحقق كون المراد بالرسول رسول البشر والملك جميعا أو رسول البشر فقط وبالإظهار الإظهار بواسطة أولا والكل ممنوع إذ يجوز أن يخص الرسول برسول الملك وأن يراد بالإظهار الإظهار بلا واسطة ويكون المعنى فلا يظهر بلا واسطة على غيبه إلّا رسل الملائكة ولا ينافي ذلك إظهار الأولياء على غيبه لأنه لا يكون إلّا بالواسطة وهو جواب بمنع المقدمتين وإن كان يكفي فيه منع أحدهما كما فعل الإمام والتفتازاني في شرح المقاصد وتعقب بأن رسل البشر قد يطلعون بغير واسطة أيضا وفي قصة المعراج وتكليم موسى عليه السلام ما يكفي في ذلك على أنه قد قيل عليه بعد ما قيل وأغرب ما قيل في هذا المقام كون إِلَّا في قوله تعالى إِلَّا مَنِ ارْتَضى للعطف والمعنى فلا يظهر على غيبه أحد ولا من ارتضى من رسول وحاله لا يخفى ثم إن تفسير قوله تعالى فَإِنَّهُ يَسْلُكُ إلخ بما سمعت هو الذي عليه جمهور المفسرين وكانت الحفظة الذين ينزلون مع جبريل عليه السلام على نبينا صلّى الله عليه وسلم على ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن جبير أربعة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: ما أنزل الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلم آية من القرآن إلّا ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها حتى يؤدونها إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم ثم قرأ عالِمُ الْغَيْبِ الآية وقد يكون مع الوحي أكثر من ذلك ففي بعض الأخبار أنه نزل مع سورة الأنعام سبعون ألف ملك ملك وجاء في شأن آية الكرسي ما جاء وقال ابن كمال لاحت دقيقة بخاطري الفاتر قلما يوجد مثلها في بطون الدفاتر وهي أن المراد مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ في الآية القوى الظاهرة وَمِنْ خَلْفِهِ القوى الباطنة ولذلك قال سبحانه يَسْلُكُ إلخ أي يدخل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة
أن الرسل قد أبلغوا وقيل ليعلم الجن أن الرسل قد أبلغوا ما أنزل إليهم ولم يكونوا هم المتلقين باستراق السمع وكلا القولين كما ترى ونصب عَدَداً عند جمع على أنه تمييز محول عن المفعول به والأصل أحصى عدد كل شيء إلّا أنه قال أبو حيان في كونه ثابتا من لسان العرب خلاف وأنت تعلم أن التحويل في مثله تقديري وجوز أن يكون حالا أي معدودا محصورا ولا يضر تنكير صاحبها للعموم وأن يكون نصبا على المصدر بمعنى إحصاء فتأمل جميع ذلك والله تعالى الموفق لسلوك أحسن المسالك وقرىء «عالم» بالنصب على المدح «وعلم» فعلا ماضيا «الغيب» بالنصب وقرأ ابن عباس وزيد بن علي «ليعلم» بالبناء للمفعول والزهري وابن أبي عبلة «ليعلم» بضم الياء وكسر اللام من الإعلام أي ليعلم الله تعالى من شاء أن يعلمه أن قد أبلغوا إلخ وقرأ أبو حيوة «رسالة» بالإفراد وقرأ ابن أبي عبلة و «أحيط» و «أحصي» كل بالبناء للمفعول في الفعلين. ورفع «كلّ» على النيابة والفاعل هو الله عز وجل فهو سبحانه المحيط بالأحوال علما والمحصي لكل شيء عددا.