بسم الله الرحمن الرحيم سورة العلق وهي مكية بإجماع، وهي أول ما نزل من كتاب الله تعالى، نزل صدرها في غار حراء حسب ما ثبت في صحيح البخاري وغيره، وروي من طريق جابر بن عبد الله أن أول ما نزل ﴿ يا أيها المدثر ﴾٢ وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل٣ : إن أول ما نزل فاتحة الكتاب. والقول الأول أصح، والترتيب في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك
٢ الآية ١ من سورة المدثر. أما حديث جابر فقد أخرجه الطيالسي، وعبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن الأنباري في المصاحف، قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال: (يا أيها المدثر)، قلت: يقولون: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، وقلت له مثل ما قلت، قال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (جاورت بحراء، فلما قضيت جواري فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت من خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه رعبا، فرجعت فقلت: دثروني، فدثروني، فنزلت: (يا أيها المدثر، قم فأنذر...).. إلى قوله تعالى: (والرجز فاهجر)..
٣ هو عمرو بن شرحبيل الهمداني، وأبو ميسرة، الكوفي، ثقة عابد مخضرم، مات سنة ثلاث وستين. تقريب التهذيب..
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة العلقوهي مكية بإجماع. وهي أول ما نزل من كتاب الله تعالى، نزل صدرها في غار حراء حسبما ثبت في صحيح البخاري وغيره، وروي من طريق جابر بن عبد الله أن أول ما نزل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: ١] وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل: أول ما نزل فاتحة الكتاب، والقول الأول أصح، والترتيب في أخبار النبي ﷺ يقتضي ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ١ الى ١٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩)
عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (١٤)
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)
في صحيح البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها، قال: أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه التحنث في غار حراء، فكان يخلو فيه فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ثم ينصرف حتى جاءه الملك وهو في غار حراء، فقال له: اقْرَأْ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني ثم كذلك ثلاث مرات، فقال له في الثالثة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ إلى قوله ما لَمْ يَعْلَمْ، قال فرجع بها رسول ترجف بوادره الحديث بطوله، ومعنى هذه الآية، اقْرَأْ هذا القرآن بِاسْمِ رَبِّكَ، أي ابدأ فعلك بذكر اسم ربك، كما قال: ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ [هود: ٤١] هذا وجه. ووجه آخر في كتاب الثعلبي أن المعنى: اقْرَأْ في أول كل سورة، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم ووجه آخر أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، كأنه قال له: اقْرَأْ هذا اللفظ، ولما ذكر الرب وكانت العرب في الجاهلية تسمي الأصنام أربابا جاءه بالصفة التي لا شركة للأصنام فيها، وهي قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ، ثم مثل لهم من المخلوقات ما لا مدافعة فيه، وما يجده كل مفطور في نفسه، فقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ،
اسم الجنس، ويمشي الذهن معه إلى جميع الحيوان، وليست الإشارة إلى آدم، لأنه مخلوق من طين، ولم يكن ذلك متقررا عند الكفار المخاطبين بهذه الآية، فلذلك ترك أصل الخلقة وسيق لهم الفرع الذي هم به مقرون تقريبا لأفهامهم، ثم قال تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ على جهة التأنيس، كأنه يقول: امض لما أمرت به وربك ليس كهذه الأرباب، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص، فهو ينصرك ويظهرك، ثم عدد تعالى نعمة الكتاب بِالْقَلَمِ على الناس وهي موضع عبرة وأعظم منفعة في المخاطبات وتخليد المعارف، وقوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ قيل: المراد محمد عليه السلام، وقيل: اسم الجنس وهو الأظهر، وعدد نعمته اكتساب المعارف بعد جهله بها، وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى الآية نزلت بعد مدة من شأن أبي جهل بن هشام، وذلك أنه طغى لغناه ولكثرة من يغشى ناديه من الناس، فناصب رسول الله ﷺ العداوة ونهاه عن الصلاة في المسجد، ويروى أنه قال: لئن رأيت محمدا يسجد عند الكعبة لأطأن على عنقه، فيروى أن رسول الله ﷺ رد عليه القول وانتهره وتوعده، فقال أبو جهل: أيتوعدني، وما والي بالوادي أعظم نديا مني، ويروى أيضا أنه جاء والنبي ﷺ يصلي فهمّ بأن يصل إليه ويمنعه من الصلاة، ثم كع عنه وانصرف، فقيل له: ما هذا؟ فقال:
لقد اعترض بيني وبينه خندق من نار، وهول وأجنحة، ويروى أن رسول الله ﷺ قال: «لو دنا مني لأخذته الملائكة عيانا»، فهذه السورة من قوله: كَلَّا إلى آخرها نزلت في أبي جهل، وكَلَّا:
هي رد على أقوال أبي جهل وأفعاله، ويتجه أن تكون بمعنى: حقا، فهي تثبيت لما بعدها من القول والطغيان: تجاوز الحدود الجميلة، والغني: مطغ إلا من عصم الله والضمير في رَآهُ للإنسان المذكور، كأنه قال: أن رأى نفسه غنيا، وهي رؤية قلب تقرب من العلم، ولذلك جاز أن يعمل فعل الفاعل في نفسه، كما تقول: وجدتني وطننتني ولا يجوز أن تقول: ضربتني، وقرأ الجمهور: «أن رآه»، بالمد على وزن رعاه، واختلفوا في الإمالة وتركها، وقرأ ابن كثير من طريق قنبل: «أن رأه»، على وزن رعه، على حذف لام الفعل وذلك تخفيف، ثم حقر غنى هذا الإنسان وما له بقوله: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
أي الحشر والبعث يوم القيامة، والرُّجْعى
: مصدر كالرجوع، وهو على وزن: العقبى ونحوه، وفي هذا الخبر: وعيد للطاغين من الناس، ثم صرح بذكر الناهي لمحمد عليه السلام، ولم يختلف أحد من المفسرين في أن الناهي: أبو جهل، وأن العبد المصلي محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى:
أَرَأَيْتَ توقيف وهو فعل لا يتعدى إلى مفعولين على حد الرؤية من العلم بل يقتصر به، وقوله تعالى:
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى إكمال للتوبيخ والوعيد بحسب التوقيفات الثلاث يصلح مع كل واحد منهما فجاء بها في نسق ثم جاء بالوعيد الكافي لجميعها اختصارا واقتضابا، ومع كل تقرير من الثلاثة تكملة مقدرة تتسع العبارات فيها، وقوله: أَلَمْ يَعْلَمْ دال عليها مغن، وقوله تعالى: إِنْ كانَ يعني العبد المصلي، وقوله: إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، يعني الإنسان الذي ينهى، ونسب الرؤية إلى الله تعالى بمعنى يدرك أعمال الجميع بإدراك: سماه رؤية، والله منزه عن الجارحة وغير ذلك من المماثلات المحدثات، ثم توعد تعالى
قوم إذا سمعوا الصياح رأيتهم | ما بين ملجم مهره أو سافع |
لَنَسْفَعاً معناه: لنحرقن من قولهم سفعته النار إذا أحرقته، واكتفى بذكر الناصية لدلالتها على الوجه، وجاء لَنَسْفَعاً في خط المصحف بألف بدل النون، وقرأ أبو عمرو في رواية هارون: «لنسفعن» مثقلة النون، وفي مصحف ابن مسعود: «لأسفعن بالناصية ناصية كاذبة فاجرة»، وقرأ أبو حيوة: «ناصية كاذبة خاطئة» بالنصب في الثلاثة، وروي عن الكسائي أنه قرأ بالرفع فيها كلها، والناصية مقدم شعر الرأس، ثم أبدل النكرة من المعرفة في قوله: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ ووصفها بالكذب والخطإ من حيث صفة لصاحبها، كما تقول: يد سارقة، وقوله: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ إشارة إلى قول أبي جهل، وما بالوادي أكثر ناديا مني، والنادي والندى المجلس ومنه دار الندوة ومنه قول زهير: [الكامل]
وفيهم مقامات حسان وجوههم | وأندية ينتابها القول والفعل |
ومستعجب مما يرى من أناتنا | ولو زبنته الحرب لم يترموم |
[الوافر]
عدتني عن زيارتك الأعادي | وحالت بيننا حرب زبون |
وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ، وروى ابن وهب عن جماعة من أهل العلم أن قوله تعالى: وَاسْجُدْ خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن اقْتَرِبْ خطاب لأبي جهل، أي إن كنت تجترئ حتى ترى كيف تهلك، وهذه السورة فيها سجدة عند جماعة من أهل العلم، منهم في مذهب مالك ابن وهب.