تفسير سورة الهمزة

التفسير الوسيط لطنطاوي
تفسير سورة سورة الهمزة من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي .
لمؤلفه محمد سيد طنطاوي . المتوفي سنة 1431 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الهمزة
مقدمة وتمهيد
١- سورة " الهُمَزة " من السور المكية، وكان نزولها بعد سورة " القيامة " وقبل سورة " المرسلات "، وعدد آياتها تسع آيات.
٢- ومن أهم أغراضها : التهديد الشديد لمن يعيب الناس، ويتهكم بهم، ويتطاول عليهم، بسبب كثرة ماله، وجحوده للحق.
وقد ذكروا أن هذه السورة الكريمة نزلت في شأن جماعة من أغنياء المشركين، منهم : الوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، وأبي بن خلف.. كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويشيعون الأقوال السيئة عنهم.
وهذا لا يمنع أن السورة الكريمة تشمل أحكامها كل من فعل مثل هؤلاء المشركين ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.

التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة الهمزة (١٠٤) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩)
والويل: لفظ يدل على الذم وعلى طلب العذاب والهلكة... وقيل: اسم لواد في جهنم.
والهمزة من الهمز، بمعنى الطعن في أعراض الناس، ورميهم بما يؤذيهم...
واللّمزة من اللمز، بمعنى السخرية من الغير، عن طريق الإشارة باليد أو العين أو غيرهما.
قال الجمل: الهمزة واللمزة: هم المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة الباغون العيب للبريء، فعلى هذا هما بمعنى واحد.
وقيل: الهمزة الذي يعيبك في الغيب، واللمزة الذي يعيبك في الوجه وقيل: العكس.
وحاصل هذه الأقوال يرجع إلى أصل واحد، وهو الطعن وإظهار العيب، ويدخل في ذلك من يحاكى الناس في أقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا منه... «١».
ولفظ «ويل» مبتدأ وساغ الابتداء به مع كونه نكرة، لأنه دعاء عليهم، وقوله: لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ خبره، وهمزة ولمزة وصفان لموصوف محذوف.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٥٨٤.
504
أى: عذاب شديد، وخزي عظيم، لكل من يطعن في أعراض الناس، ويغض من شأنهم، ويحقر أعمالهم وصفاتهم، وينسب إليهم ما هم برآء منه من عيوب.
والتعبير بقوله: هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ يدل على أن تلك الصفات القبيحة، كانت عادة متأصلة فيهم، لأن اللفظ الذي بزنة فعلة- بضم الفاء وفتح العين- يؤتى به للدلالة على أن الموصوف به ديدنه ودأبه الإتيان بهذا الوصف، ومنه قولهم: فلان ضحكة: إذا كان يكثر من الضحك.
كما أن لفظ «فعلة» - بضم الفاء وسكون العين- يؤتى به للدلالة على أن الموصوف به، يكثر أن يفعل به ذلك، ومنه قولهم: فلان ضحكة، إذا كان الناس يكثرون الضحك منه.
وقوله- سبحانه-: الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ زيادة تشنيع وتقبيح للهمزة اللمزة...
ومعنى «عدده» : جعله عدته وذخيرته، وأكثر من عده وإحصائه لحرصه عليه، والجملة الكريمة في محل نصب على الذم.
أى: عذاب وهلاك لكل إنسان مكثر من الطعن في أعراض الناس، ومن صفاته الذميمة أنه فعل ذلك بسبب أنه جمع مالا كثيرا، وأنفق الأوقات الطويلة في عده مرة بعد أخرى، حبا له وشغفا به وتوهما منه أن هذا المال الكثير هو مناط التفاضل بين الناس.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي جَمَعَ- بتشديد الميم- وهو مبالغة في جَمَعَ بتخفيف الميم.
وقوله- تعالى-: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ، صفة أخرى من صفاته القبيحة، والجملة يصح أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا، جوابا لسؤال مقدر، كأنه قيل: ما باله يجمع المال ويهتم به؟ فكان الجواب: يحسب أن ماله أخلده.
ويصح أن تكون حالا من فاعل «جمع» أى: هذا الجاهل المغرور جمع المال وعدده، حالة كونه يظن أن ماله يخلده في الدنيا، ويجعله في مأمن من حوادث الدهر.
قال الأستاذ الإمام محمد عبده: أى أن الذي يحمل هذا الهمزة اللمزة على الحط من أقدار الناس، هو جمعه المال وتعديده... فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه، انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة، بحيث يكون كل ذي فضل ومزية دونه... ويظن أن ما عنده من المال، قد حفظ له حياته التي هو فيها، وأرصدها عليه، فهو لا يفارقها إلى حياة أخرى، يعاقب فيها على ما كسب من سيئ الأعمال... «١».
(١) تفسير جزء عم ص ١١٧.
505
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك سوء عاقبة هذا الجاهل المغرور فقال: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ.
و «كلا» حرف زجر وردع، والمراد به هنا إبطال ما توهمه هذا المغرور من حسبانه أن ماله سيخلده. والنبذ: الطرح للشيء والإلقاء به مع التحقير والتصغير من شأنه.
والحطمة من الحطم، وهو كسر الشيء بشدة وقوة، ويقال: رجل حطمة، إذا كان شديدا في تحطيمه وكسره لغيره، والمراد بالحطمة هنا: النار الشديدة الاشتعال: التي لا تبقى على شيء إلا وأحرقته.
أى: كلا ليس الأمر كما زعم هذا الهمزة اللمزة، من أن ماله سيخلده، بل الحق أنه والله ليطرحن بسبب أفعاله القبيحة في النار التي تحطم كل شيء يلقى فيها، والتي لا يعرف مقدار شدتها واشتعالها إلا الله- تعالى-.
فالمقصود بالاستفهام في قوله- تعالى-: وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ تهويل أمر هذه النار، وتفظيع شأنها، وبيان أن كنهها لا تدركه عقول البشر...
وقوله- سبحانه-: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ بيان للحطمة وتفصيل لأمرها بعد إبهامها.
أى: الحطمة هي نار الله- تعالى- الشديدة الإحراق، وأضيفت إلى الله- تعالى- لزيادة الترويع والتخويف منها، لأن خالقها- عز وجل- هو الذي لا يعجزه شيء.
وقوله- تعالى-: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ صفة أخرى من صفات هذه النار، وقوله: تَطَّلِعُ من الاطلاع، بمعنى الوصول إلى الشيء بسرعة، والكشف عن خباياه، والنفاذ إلى منتهاه.
أى: سيلقى بهذا الشقي في نار الله- تعالى- الموقدة، التي تصل إلى أعماق الأفئدة والقلوب، فتحيط بها، وتنفذ إليها، فتحرقها إحراقا تاما.
وخصت الأفئدة التي هي القلوب بالذكر، لأنها ألطف ما في الأبدان وأشدها تألما بأدنى أذى يصيبها، أو لأنها محل العقائد الزائفة، والنيات الخبيثة، ومنشأ الأعمال السيئة، التي استحق هذا الهمزة اللمزة بسببها العقاب الشديد.
ثم وصف- سبحانه- هذه النار بصفة ثالثة فقال: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أى: إن هذه النار من صفاتها- أيضا- أنها مطبقة ومغلقة عليهم بحيث لا يستطيعون الخروج منها، فقوله مُؤْصَدَةٌ اسم مفعول من قولك أوصدت الباب، إذا أغلقته بشدة، بحيث لا يستطاع الخروج منه...
506
وقوله- تعالى-: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ صفة رابعة من صفات هذه النار الشديدة الاشتعال.
وقوله عَمَدٍ- بفتحتين- جمع عمود كأديم وأدم، وقيل: جمع عماد، وقيل: هو اسم جمع لعمود، وليس جمعا له، والمراد بها: الأوتاد التي تشد بها أبواب النار.
وقرأ بعض القراء السبعة: في عمد بضمتين جمع عمود كسرير وسرر.
والممددة: الطويلة الممدودة من أول الباب إلى آخره.
أى: أن هذه النار مغلقة عليهم بأبواب محكمة، هذه الأبواب قد شدت بأوتاد من حديد، تمتد هذه الأوتاد من أول الأبواب إلى آخرها. بحيث لا يستطيع من بداخلها الفكاك منها.
وبذلك نرى السورة الكريمة قد توعدت هؤلاء المغرورين الجاهلين، الطاعنين في أعراض الناس بأشد ألوان العقاب، وأكثره إهانة وخزيا لمن ينزل به.
نسأل الله- تعالى- أن يعيذنا من ذلك.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
507

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير سورة الفيل
مقدمة وتمهيد
١- سورة «الفيل» وسماها بعضهم سورة «ألم تر... » من السور المكية الخالصة، وعدد آياتها خمس آيات، وكان نزولها بعد سورة «قل يا أيها الكافرون»، وقبل سورة «القيامة» فهي السورة التاسعة عشرة في ترتيب النزول من بين السور المكية.
٢- ومن أهم مقاصدها تذكير أهل مكة بفضل الله- تعالى- عليهم، حيث منع كيد أعدائهم عنهم، وعن بيته الحرام، وبيان أن هذا البيت له مكانته السامية عنده- تعالى-، وأن من أراده بسوء قصمه الله- تعالى-، وتبشير النبي ﷺ بأنه- سبحانه- كفيل برعايته ونصره على أعدائه، كما نصر أهل مكة على أبرهة وجيشه، وتثبيت المؤمنين على الحق، لكي يزدادوا إيمانا على إيمانهم، وبيان أن الله- سبحانه- غالب على أمره.
٣- وقصة أصحاب الفيل من القصص المشهورة عند العرب، وملخصها: أن أبرهة الأشرم الحبشي أمير اليمن من قبل النجاشيّ ملك الحبشة، بنى كنيسة بصنعاء لم ير مثلها في زمانها... وأراد أن يصرف الناس من الحج إلى بيت الله الحرام، إلى الحج إليها... ثم جمع جيشا عظيما قدم به لهدم الكعبة... فأهلكه الله- تعالى- وأهلك من معه من رجال وأفيال...
وكانت ولادته ﷺ في هذا العام... «١».
(١) راجع سيرة ابن إسحاق ج ١ ص ٤٣ وتفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ٢٢٣.
509
Icon