تفسير سورة لقمان

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت هذه السورة بإضافتها إلى لقمان لأن فيها ذكر لقمان وحكمته وجملا من حكمته التي أدب بها ابنه. وليس لها اسم غير هذا الاسم، وبهذا الاسم عرفت بين القراء والمفسرين. ولم أقف على تصريح به فيما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند مقبول.
وروى البيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس : أنزلت سورة لقمان بمكة.
وهي مكية كلها عند ابن عباس في أشهر قوليه وعليه إطلاق جمهور المفسرين وعن ابن عباس من رواية النحاس استثناء ثلاث آيات من قوله تعالى ﴿ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ﴾ إلى قوله ﴿ بما تعملون خبير ﴾. وعن قتادة إلا آيتين إلى قوله ﴿ إن الله سميع بصير ﴾. وفي تفسير الكواشي حكاية قول إنها مكية عدا آية نزلت بالمدينة وهي ﴿ الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ﴾ قائلا لأن الصلاة والزكاة فرضت بالمدينة. ورده البيضاوي على تسليم ذلك بأن فرضها بالمدينة لا ينافي تشريعها بمكة على غير إيجاب. والمحقوق يمنعون أن تكون الصلاة والزكاة فرضتا بالمدينة، فأما الصلاة فلا ريب في أنها فرضت على الجملة بمكة، وأما الزكاة ففرضت بمكة دون تعيين أنصباء ومقادير، ثم عينت الأنصباء والمقادير بالمدينة.
ويتحصل من هذا أن القائل بأن آية ﴿ الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ﴾ إلى آخرها نزلت بالمدينة قاله من قبل رأيه وليس له سند يعتمد كما يؤذن به قوله لأن الصلاة والزكاة الخ. ثم هو يقتضي أن يكون صدر سورة النازل بمكة ﴿ هدى ورحمة للمحسنين ﴾ ﴿ وأولئك على هدى من ربهم ﴾ الخ ثم ألحق به ﴿ الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ﴾.
وأما القول باستثناء آيتين وثلاث فمستند إلى ما رواه ابن جرير عن قتادة وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن قوله تعالى ﴿ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ﴾ إلى آخر الآيتين أو الثلاث نزلت بسبب مجادلة كانت من اليهود أن أحبارهم قالوا : يا محمد أرأيت قوله ﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾ إيانا تريد أم قومك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلا أردت. قالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها في علم الله قليل، فأنزل الله عليه ﴿ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ﴾ الآيات. وذلك مروي بأسانيد ضعيفة وعلى تسليمها فقد أجيب بأن اليهود جادلوا في ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بأن لقنوا ذلك وفدا من قريش إليهم إلى المدينة، وهذا أقرب للتوفيق بين الأقوال. وهذه الروايات وإن كانت غير ثابتة بسند صحيح إلا أن مثل هذا يكتفي فيه بالمقبول في الجملة. قال أبو حيان : سبب نزول هذه السورة أن قريشا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة لقمان مع ابنه، أي سألوه سؤال تعنت واختبار. وهذا الذي ذكره أبو حيان يؤيد تصدير السورة بقوله تعالى ﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ﴾.
وهذه السورة هي السابعة والخمسون في تعداد نزول السور، نزلت بعد سورة الصافات وقبل سورة سبأ.
وعدت آياتها ثلاثا وثلاثين في عد أهل المدينة ومكة، وأربعا وثلاثين في عد أهل الشام والبصرة والكوفة.
أغراض هذه السورة
الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة تتصل بسبب نزولها الذي تقدم ذكره أن المشركين سألوا عن قصة لقمان وابنه، وإذا جمعنا بين هذا وبين ما سيأتي عند قوله تعالى ﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ﴾ من أن المراد به النضر بن الحارث إذ كان يسافر إلى بلاد الفرس فيقتني كتب اسفنديار ورستم وبهرام، وكان يقرؤها على قريش ويقول : يخبركم محمد عن عاد وثمود وأحثكم أنا عن رستم واسفنديار وبهرام، فصدرت هذه السورة بالتنويه بهدى القرآن ليعلم الناس أنه لا يشتمل إلا على ما فيه هدى وإرشاد للخير ومثل الكمال النفساني، فلا التفات فيه إلى أخبار الجبابرة وأهل الضلال إلا في مقام التحذير مما هم فيه ومن عواقبه، فكان صدر هذه السورة تمهيدا لقصة لقمان، وقد تقدم الإلماع إلى هذا في قوله تعالى في أول سورة يوسف ﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص ﴾، ونبهت عليه في المقدمة السابعة بهذا التفسير.
وانتقل من ذلك إلى تسفيه النضر بن الحارث وقصصه الباطلة.
وابتدئ ذكر لقمان بالتنويه بأن آتاه الله الحكمة وأمره بشكر النعمة. وأطيل الكلام في وصايا لقمان وما اشتملت عليه : من التحذير من الإشراك، ومن الأمر ببر الوالدين، ومن مراقبة الله لأنه عليم بخفيات الأمور، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر، والتحذير من الكبر والعجب، والأمر بالاتسام بسمات المتواضعين في المشي والكلام.
وسلكت السورة أفانين ذات مناسبات لما تضمنته وصية لقان لابنه، وأدمج في ذلك تذكير المشركين بدلائل وحدانية الله تعالى وبنعمه عليهم وكيف أعرضوا عن هديه وتمسكوا بما ألفوا عليه آباءهم.
وذكرت مزية دين الإسلام.
وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بتمسك المسلمين بالعروة الوثقى، وأنه لا يحزنه كفر من كفروا.
وانتظم في هذه السورة الرد على المعارضين للقرآن في قوله ﴿ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ﴾ وما بعدها. وختمت بالتحذير من دعوة الشيطان والتنبيه إلى بطلان ادعاء علم الغيب.

يَشْتَمِلُ إِلَّا عَلَى مَا فِيهِ هُدًى وَإِرْشَادٌ لِلْخَيْرِ وَمِثْلَ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ، فَلَا الْتِفَاتَ فِيهِ إِلَى أَخْبَارِ الْجَبَابِرَةِ وَأَهْلِ الضَّلَالِ إِلَّا فِي مَقَامِ التَّحْذِيرِ مِمَّا هُمْ فِيهِ وَمِنْ عَوَاقِبِهِ، فَكَانَ صَدْرُ هَذِهِ السُّورَةِ تَمْهِيدًا لِقِصَّةِ لُقْمَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِلْمَاعُ إِلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ [٣] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، وَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِي الْمُقدمَة السَّابِعَة لهَذَا التَّفْسِيرِ. وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَسْفِيهِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَقِصَصِهِ الْبَاطِلَةِ.
وَابْتُدِئَ ذِكْرُ لُقْمَانَ بِالتَّنْوِيهِ بِأَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ وَأَمَرَهُ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ. وَأُطِيلَ الْكَلَامُ فِي وَصَايَا لُقْمَانَ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ: مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْإِشْرَاكِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَمِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ، وَالْأَمْرِ بِالِاتِّسَامِ بِسِمَاتِ الْمُتَوَاضِعِينَ فِي الْمَشْيِ وَالْكَلَامِ.
وَسَلَكَتِ السُّورَةُ أَفَانِينَ ذَاتَ مُنَاسَبَاتٍ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ وَصِيَّةُ لُقْمَانَ لِابْنِهِ، وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ تَذْكِيرُ الْمُشْرِكِينَ بِدَلَائِلِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَكَيْفَ أَعْرَضُوا عَنْ هَدْيِهِ وَتَمَسَّكُوا بِمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ. وَذَكَرَتْ مَزِيَّةَ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَتَسْلِيَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمَسُّكِ الْمُسْلِمِينَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَأَنَّهُ لَا يُحْزِنُهُ كُفْرُ مَنْ كَفَرُوا.
وَانْتَظَمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الرَّدُّ عَلَى الْمُعَارِضِينَ لِلْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لُقْمَان: ٢٧] وَمَا بَعْدَهَا. وَخُتِمَتْ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ دَعْوَةِ الشَّيْطَانِ، وَالتَّنْبِيهِ إِلَى بطلَان ادِّعَاء الْكُهَّان عِلْمِ الْغَيْب.
[١]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١)
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظَائِرِهَا فِي أَوَّلِ سُورَة الْبَقَرَة.

[سُورَة لُقْمَان (٣١) : الْآيَات ٢ إِلَى ٥]

تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
إِذَا كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤَالِ قُرَيْشٍ عَنْ لُقْمَانَ وَابْنِهِ فَهَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى قَوْلِهِ وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لُقْمَانَ: ١٢] بِمَنْزِلَةِ مُقَدِّمَةٍ لِبَيَانِ أَنَّ مَرْمَى الْقُرْآنِ مِنْ قَصِّ الْقِصَّةِ مَا فِيهَا مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَهَدًى وَأَنَّهَا مَسُوقَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا لِلَّذِينَ سَأَلُوا عَنْهَا فَكَانَ سُؤَالُهُمْ نَفْعًا لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَالْإِشَارَةُ بِ تِلْكَ إِلَى مَا سَيُذْكَرُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مُقَدَّرٌ فِي الذِّهْنِ مُتَرَقَّبُ الذِّكْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ ذلِكَ الْكِتابُ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [٢] وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٢] وَالنَّمْلِ [١] وَالْقَصَصِ [٢].
وآياتُ الْكِتابِ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَفِي الْإِشَارَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَعْظِيمِ قَدْرِ تِلْكَ الْآيَاتِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِنَ الْبُعْدِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي رِفْعَةِ الْقَدْرِ، وَبِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ
إِضَافَةُ الْآيَاتِ إِلَى الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ الْحَكِيمُ وَأَنَّهُ هُدًى وَرَحْمَةٌ وَسَبَبٌ فلاح.
والْحَكِيمِ: وَصْفٌ لِلْكِتَابِ بِمَعْنَى ذِي الْحِكْمَةِ، أَيْ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْحِكْمَةِ.
فَوَصْفُ الْكِتابِ بِ الْحَكِيمِ كَوَصْفِ الرَّجُلِ بِالْحَكِيمِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ الْحَكِيمَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أَرْشَقُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ بِالرَّجُلِ الْحَكِيمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْمُحْكَمِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ وَصَفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَقَوْلِهِمْ: عَسَلٌ عَقِيدٌ، لِأَنَّهُ أَحْكَمُ وَأَتْقَنُ فَلَيْسَ فِيهِ فضول وَلَا مَالا يُفِيدُ كَمَالًا نَفْسَانِيًّا. وَفِي وَصْفِ الْكِتابِ بِهَذَا الْوَصْفِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِلْغَرَضِ مِنْ ذِكْرِ حِكْمَةِ لُقْمَانَ. وَتَقَدَّمَ وَصْفُ الْكِتَابِ بِ الْحَكِيمِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ [١].
وَانْتَصَبَ هُدىً وَرَحْمَةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكِتابِ وَهِيَ قِرَاءَة الْجُمْهُور. وَإِذ كَانَ الْكِتابِ مُضَافًا إِلَيْهِ فَمُسَوِّغُ مَجِيءِ الْحَالِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَنَّ الْكِتابِ
أُضِيفَ إِلَيْهِ مَا هُوَ اسْمُ جُزْئِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ آيَاتُ. وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ بِرَفْعِ رَحْمَةٌ عَلَى جَعْلِ هُدىً خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَمَعْنَى الْمُحْسِنِينَ: الْفَاعِلُونَ لِلْحَسَنَاتِ، وَأَعْلَاهَا الْإِيمَانُ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَلِذَلِكَ خُصِّتْ هَذِهِ الثَّلَاثُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ إِطْلَاقِ الْمُحْسِنِينَ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ الْحَسَنَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْمُحْسِنُونَ يَأْتُونَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا.
وَزِيَادَةُ وَصْفِ الْكِتَابِ بِ رَحْمَةً بَعْدَ هُدىً لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قِصَّةَ لُقْمَانَ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْقِصَّةِ رَحْمَةٌ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْآدَابِ وَالْحِكْمَةِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى الْهُدَى أَنَّهُ تَخَلَّقَ بِالْحِكْمَةِ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَالْخَيْرُ الْكَثِيرُ: رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
والزَّكاةَ هُنَا الصَّدَقَةُ وَكَانَتْ مَوْكُولَةً إِلَى هِمَمِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مَضْبُوطَةٍ بِوَقْتٍ وَلَا بِمِقْدَارٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إِلَى هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي أَوَّلِ سُورَة الْبَقَرَة [٤- ٥].
[٦- ٧]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : الْآيَات ٦ إِلَى ٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [لُقْمَان: ٢]. وَالْمَعْنَى: أَنَّ حَالَ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ، وَأَنَّ مِنَ النَّاسِ مُعْرِضِينَ عَنْهُ يُؤْثِرُونَ لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِي يَهْدِي إِلَيْهِ الْكِتَابُ. وَهَذَا مِنْ مُقَابَلَةِ الثَّنَاءِ عَلَى آيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ بِضِدِّ ذَلِكَ فِي ذَمِّ مَا يَأْتِي بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَهَذَا تَخَلُّصٌ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ إِلَى مَدْخَلٍ لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ تَفْظِيعُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَمُشَايِعُوهُ مِنَ اللَّهْوِ بِأَخْبَارِ الْمُلُوكِ الَّتِي لَا تُكْسِبُ صَاحِبَهَا كَمَالًا وَلَا حِكْمَةً.
141
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ مِنَ النَّاسِ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى تَلَقِّي خَبَرِهِ الْعَجِيبِ. وَالِاشْتِرَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ وَالِاغْتِبَاطِ بِهِ وَلَيْسَ هُنَا اسْتِعَارَةً بِخِلَافِ قَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦] فَالِاشْتِرَاءُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ: فَالصَّرِيحُ تَشْوِيهٌ لِاقْتِنَاءِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ قِصَصَ رُسْتَمَ وَإِسْفِنْدِيَارَ وَبَهْرَامَ، وَالْكِنَايَةُ تَقْبِيحٌ لِلَّذِينَ الْتَفُّوا حَوْلَهُ وَتَلَقَّوْا أَخْبَارَهُ، أَيْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْغَلُهُ لَهْوُ الْحَدِيثِ وَالْوَلَعُ بِهِ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ.
وَاللَّهْوُ: مَا يُقْصَدُ مِنْهُ تَشْغِيلُ الْبَالِ وَتَقْصِيرُ طُولِ وَقْتِ الْبِطَالَةِ دُونَ نَفْعٍ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ اللَّهْوَ بَلْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةُ. ولَهْوَ الْحَدِيثِ مَا كَانَ مِنَ الْحَدِيثِ مُرَادًا لِلَّهْوِ فَإِضَافَةُ لَهْوَ إِلَى الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ عَلَى رَأْيِ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُثْبِتُ الْإِضَافَةَ عَلَى مَعْنَى مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ فَيَرُدُّهَا إِلَى مَعْنَى اللَّامِ.
وَتَقَدَّمَ اللَّهْوُ فِي قَوْلِهِ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٢].
وَالْأَصَحُّ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ فِي تِجَارَةٍ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ فَيَتَلَقَّى أَكَاذِيبَ الْأَخْبَارِ عَنْ أَبْطَالِهِمْ فِي الْحُرُوبِ الْمَمْلُوءَةِ أُكْذُوبَاتٍ فَيَقُصُّهَا عَلَى قُرَيْشٍ فِي أَسْمَارِهِمْ وَيَقُولُ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ يُحَدِّثُكُمْ بِأَحَادِيثِ عَادٍ وَثَمُودَ فَأَنَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَحَادِيثِ رُسْتَمَ وَإِسْفِنْدِيَارَ وَبَهْرَامَ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّضْرَ كَانَ يَشْتَرِي مِنْ بِلَادِ فَارِسَ كُتُبَ أَخْبَارِ مُلُوكِهِمْ فَيُحَدِّثُ بِهَا قُرَيْشًا، أَيْ بِوَاسِطَةِ مَنْ يُتَرْجِمُهَا لَهُمْ. وَيَشْمَلُ لَفْظُ النَّاسِ أَهْلَ سَامِرِهِ الَّذِينَ يُنْصِتُونَ لِمَا يَقُصُّهُ عَلَيْهِمْ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى إِثْرَهُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ مَنْ يَقْتَنِي الْقَيْنَاتِ الْمُغَنِّيَاتِ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ بن عبد الرحمان عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ وَلَا خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ»
، فِي مِثْلِ ذَلِكَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِنَّمَا
142
يُرْوَى مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا- يَعْنِي الْبُخَارِيَّ- يَقُولُ عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ يَضْعُفُ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ. الثَّانِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قِيلَ هُوَ ابْنُ خَطَلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً مُغَنِّيَةً فَشُغِلَ النَّاسُ بِهَا عَنِ اسْتِمَاعِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ. وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ أَنْسَبُ انْطِبَاقًا عَلَى قِصَّةِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ.
وَمَعْنَى لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيُلْهِيَ قُرَيْشًا عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ سَبِيلٌ مُوَصِّلٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ إِلَى الدِّينِ الَّذِي أَرَادَهُ، فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ مُجَرَّدَ اللَّهْوِ بَلْ تَجَاوَزَهُ إِلَى الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي تَفْظِيعِ عَمَلِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور لِيُضِلَّ بِضَمِّ الْيَاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ لِيَزْدَادَ ضَلَالًا عَلَى ضَلَالَةٍ إِذْ لَمْ يَكْتَفِ لِنَفْسِهِ بِالْكُفْرِ حَتَّى أَخَذَ يَبُثُّ ضَلَالَهُ لِلنَّاسِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ مَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَّحِدَ الْمَعْنَى.
وَيَتَعَلَّقُ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِفِعْلِ يَشْتَرِي وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِأَنَّ أَصْلَ تَعَلُّقِ الْمَجْرُورَاتِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمُتَعَلِّقِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، فَالْمَعْنَى: يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَيْ عَنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ فِي صَالِحِ نَفْسِهِ حَيْثُ يَسْتَبْدِلُ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يَتَّخِذَها عَائِدٌ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ السَّبِيلَ تُؤَنَّثُ. وَقَرأَ الْجُمْهُورُ وَيَتَّخِذَها بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يَشْتَرِي، أَيْ يَشْغَلُ النَّاسَ بِلَهْوِ الْحَدِيثِ لِيَصْرِفَهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ وَيَتَّخِذُ سَبِيلَ الله هزؤا. وقرأه حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى لِيُضِلَّ، أَيْ يُلْهِيهِمْ بِلَهْوِ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّهُمْ وَلِيَتَّخِذَ دِينَ الْإِسْلَامِ هُزْءًا. وَمَآلُ الْمَعْنَى مُتَّحِدٌ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ فِعْلِهِ وَمِنْ غَرَضِهِ. وَأَمَّا الْإِضْلَالُ فَقَدْ رُجِّحَ فِيهِ جَانِبُ التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ الْعِلَّةُ الْبَاعِثَةُ لَهُ عَلَى مَا يَفْعَلُ.
143
وَالْهُزْؤُ: مَصْدَرُ هَزَأَ بِهِ إِذَا سَخِرَ بِهِ كَقَوْلِه وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً [الْبَقَرَة: ٢٣١] وَلَمَّا كَانَ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ صَادِقًا عَلَى النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَالَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ إِلَى قِصَصِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ جِيءَ فِي وَعِيدِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.
واختبر اسْمُ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ إِنَّمَا اسْتَحَقَّهُ
لِأَجْلِ مَا سَبَقَ اسْمَ الْإِشَارَةِ مِنَ الْوَصْفِ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ جُمْلَةِ مَنْ يَشْتَرِي وَجُمْلَةِ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا فَهَذَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَشْتَرِي إِلَخْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي إِلَخْ وإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً فَالْمَوْصُولُ وَاحِدٌ وَلَهُ صِلَتَانِ: اشْتِرَاءُ لَهْوِ الْحَدِيثِ للضلال، والاستكبار عِنْد مَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ تُتْلى عَلَيْهِ أَنَّهُ يُوَاجَهُ بِتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ وَإِسْمَاعِهِ. وَقَوْلُهُ وَلَّى تَمْثِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى [النازعات: ٢٢].
ومُسْتَكْبِراً حَالٌ، أَيْ هُوَ إِعْرَاضُ اسْتِكْبَارٍ لَا إِعْرَاضُ تَفْرِيطٍ فِي الْخَيْرِ فَحَسْبُ.
وَشُبِّهَ فِي ذَلِكَ بِالَّذِي لَا يَسْمَعُ الْآيَاتِ الَّتِي تُتْلَى عَلَيْهِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ عَدَمُ التَّأَثُّرِ وَلَوْ تَأَثُّرًا يَعْقُبُهُ إِعْرَاضٌ كَتَأَثُّرِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وكَأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (كَأَنَّ) وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ مُسْتَكْبِراً. وَكَرَّرَ التَّشْبِيهَ لِتَقْوِيَتِهِ مَعَ اخْتِلَافِ الْكَيْفِيَّةِ فِي أَنَّ عَدَمَ السَّمْعِ مَرَّةً مَعَ تَمَكُّنِ آلَةِ السَّمْعَ وَمَرَّةً مَعَ انْعِدَامِ قُوَّةِ آلَتِهِ فَشُبِّهَ ثَانِيًا بِمَنْ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرٌ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَى كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها. وَمِثْلُ هَذَا التَّشْبِيهِ الثَّانِي قَوْلُ لَبِيَدٍ:
فَتَنَازَعَا سَبِطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يَشِبُّ ضِرَامُهَا
مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتِ عَرْفَجٍ كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا
وَالْوَقْرُ: أَصْلُهُ الثِّقَلُ، وَشَاعَ فِي الصَّمَمِ مَجَازًا مَشْهُورًا سَاوَى الْحَقِيقَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ
144
وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي أُذُنَيْهِ بِسُكُونِ الذَّالِ لِلتَّخْفِيفِ لِأَجْلِ ثِقَلِ الْمُثَنَّى، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الذَّالِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا أَنْ أَمْرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوعِدَهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. وَإِطْلَاقُ الْبِشَارَةِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ، كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومَ:
فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا وَقَدْ عُذِّبَ النَّضْرُ بِالسَّيْفِ إِذْ قُتِلَ صَبْرًا يَوْمَ بَدْرٍ، فَذَلِكَ عَذَابُ الدُّنْيَا، وَعَذَابُ الْآخِرَة أَشد.
[٨- ٩]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)
لَمَّا ذَكَرَ عَذَابَ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَتْبَعَ بِبِشَارَةِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ وَصِفُوا بِأَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ إِلَى قَوْلِهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [لُقْمَان: ٥].
وَانْتَصَبَ وَعْدَ اللَّهِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ النَّائِبِ عَنْ فِعْلِهِ، وَانْتَصَبَ حَقًّا عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَعْنَى عَامِلِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ سُورَةِ يُونُسَ. وَإِجْرَاءُ الِاسْمَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ عَلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِتَحْقِيقِ وَعْدِهِ لِأَنَّهُ لِعِزَّتِهِ لَا يُعْجِزُهُ الْوَفَاءُ بِمَا وَعَدَ، ولحكمته لَا يخطىء وَلَا يَذْهَلُ عَمَّا وَعَدَ، فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مَوْقِعُ التذييل بالأعم.
[١٠- ١١]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١١]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١)
اسْتِئْنَافٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الَّذِينَ دَأْبُهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أَنْ تُثْبَتَ لَهُ الْإِلَهِيَّةُ فَكَانَ ادِّعَاءُ الْإِلَهِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ
145
هُوَ الْعِلَّةُ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، فَهُمْ لَمَّا أَثْبَتُوا الْإِلَهِيَّةَ لِمَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا كَانُوا كَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْأَصْنَام مماثلة الله تَعَالَى فِي أَوْصَافه فَذَلِك يَقْتَضِي انْتِفَاءُ وَصْفِ الْحِكْمَةِ عَنْهُ كَمَا هُوَ مُنْتَفٍ عَنْهَا. وَلِذَا فَإِنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَاتِ مُوقِعُ دَلِيلِ الدَّلِيلِ، وَهُوَ الْمَقَامُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عِلْمِ الِاسْتِدْلَالِ بِالتَّدْقِيقِ، وَهُوَ ذِكْرُ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ وَدَلِيلِ دَلِيلِهِ، فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ تَرَوْنَها وبِكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢] قَوْلُهُ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ [١٥] قَوْلُهُ وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَالْمَعْنَى خَوَفَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أَوْ لِئَلَّا تُمِيدَكُمْ كَمَا بَيَّنَ هُنَالِكَ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] قَوْلُهُ: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ.
وَقَوْلُهُ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٧] أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ.
وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ وَأَنْزَلْنا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ دَوَرَانًا عِنْدَ النَّاسِ. وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ.
وَالزَّوْجُ: الصِّنْفُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فِي طه [٥٣] وَقَوْلِهِ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٥].
وَالْكَرِيمُ: النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩].
وَقَدْ أُدْمِجَ فِي أَثْنَاءِ دَلَائِلِ صِفَةِ الْحِكْمَةِ الِامْتِنَانُ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعٍ لِلْخَلْقِ بِقَوْلِهِ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ فَإِنَّ مِنَ الدَّوَابِّ الْمَبْثُوثَةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ مَنْ أَكْلِ لُحُومِ أَوَانِسِهَا وَوُحُوشِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَجُلُودِهَا وَقُرُونِهَا وَأَسْنَانِهَا وَالْحَمْلِ عَلَيْهَا وَالتَّجَمُّلِ بِهَا فِي مُرَابِطِهَا وَغُدُوِّهَا وَرَوَاحِهَا، ثُمَّ مِنْ نِعْمَةِ مَنَافِعِ النَّبَاتِ مِنَ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَالْكَلَأِ وَالْكَمْأَةِ. وَإِذْ كَانَتِ الْبِحَارُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِ فَقَدْ شَمِلَ الِانْتِفَاعُ بِدَوَابَّ الْبَحْرِ فَاللَّهُ كَمَا أَبْدَعَ الصُّنْعَ أَسْبَغَ النِّعْمَةَ فَأَرَانَا آثَارَ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ.
146
وَجُمْلَةُ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا نَتِيجَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالدَّوَابِّ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ خَلَقَ السَّماواتِ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. وَالْإِتْيَانُ بِهِ مُفْرَدًا بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. وَالِانْتِقَالُ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ خَلْقُ اللَّهِ الْتِفَاتًا لِزِيَادَةِ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْخِطَابَ وَارِدٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ وَكَذَلِكَ يَكُونُ الِانْتِقَالُ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ الْتِفَاتًا لِمُرَاعَاةِ الْعَوْدِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ خَلْقُ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ مِنْ قَوْلِهِ فَأَرُونِي عَلَمِيَّةً، أَيْ فَأَنْبِئُونِي، وَالْفِعْلُ مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ بِ مَاذَا.
فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ فَأَرُونِي تَهَكُّمًا لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يُكَافِحُوا اللَّهَ زِيَادَةً عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيزِ، لَكِنَّ التَّهَكُّمَ أَسْبَقُ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ مُكَافَحَةِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُقْطَعُوا بِعَجْزِهِمْ عَنْ تَعْيِينِ مَخْلُوقٍ خَلَقَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَطْعًا نَظَرِيًّا.
وَصَوْغُ أَمْرِ التَّعْجِيزِ مِنْ مَادَّةِ الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ أَشَدُّ فِي التَّعْجِيزِ لِاقْتِضَائِهَا الِاقْتِنَاعَ مِنْهُمْ بِأَنْ يُحْضِرُوا شَيْئًا يَدَّعُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ خَلَقَتْهُ. وَهَذَا كَقَوْلِ حُطَائِطِ بْنِ يَعْفُرَ النَّهْشَلِيِّ (١) وَقِيلِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ:
أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا (٢) لَعَلَّنِي أَرَى مَا تُزَيِّنُ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدًا
أَيْ: أَحْضِرْنِي جَوَادًا مَاتَ مِنَ الْهُزَالِ وَأَرِينِيهِ لَعَلِّي أَرَى مِثْلَ مَا رَأَيْتِيهِ.
وَالْعَرَبُ يَقْصِدُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ الرُّؤْيَةَ الْبَصَرِيَّةَ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ أَنْ يَقُولَ: مَا
رَأَتْ عَيْنِي، وَانْظُرْ هَلْ تَرَى. وَقَالَ امْرِؤُ الْقَيْسِ:
فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ تَفَرُّقٍ أَشَتَّ وَأَنْأَى مِنْ فِرَاقِ الْمُحَصَّبِ
وَإِجْرَاءُ اسْمِ مَوْصُولِ الْعُقَلَاءِ على الْأَصْنَام مجاراة للْمُشْرِكين إِذْ يعدّونهم عُقَلَاءَ.
_________
(١) حطائط بِضَم الْحَاء: الْقصير.
(٢) هزلا بِفَتْح الْهَاء: الهزال.
147
وَ (مِنْ دُونِهِ) صِلَةُ الْمَوْصُولِ. وَ (دُونَ) كِنَايَةٌ عَنِ الْغَيْرِ، ومِنْ جَارَّةٌ لِاسْمِ الْمَكَانِ عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ لِتَأْكِيدِ الِاتِّصَالِ بِالظَّرْفِ.
وبَلِ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ غَرَضِ الْمُجَادَلَةِ إِلَى غَرَضِ تَسْجِيلِ ضَلَالِهِمْ، أَيْ فِي اعْتِقَادِهِمْ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْمُنَاظَرَةِ: دَعْ عَنْكَ هَذَا وَانْتَقَلَ إِلَى كَذَا.
والظَّالِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ. وَالضَّلَالُ الْمُبِينُ: الْكُفْرُ الْفَظِيعُ، لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ لِلْحَقِّ، وَذَلِكَ ضَلَالٌ، وَأَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَذَلِكَ كُفْرٌ فَظِيعٌ. وَجِيءَ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ اكْتِنَافِ الضَّلَالِ بِهِمْ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ، أَيْ: شِدَّةِ ملابسته إيَّاهُم.
[١٢]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ١٢]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢)
الْوَاوُ عَاطِفَةٌ قِصَّةَ لُقْمَانَ عَلَى قِصَّةِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [لُقْمَان: ٦] بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا تَضَمَّنَتْ عَجِيبَ حَالِهِ فِي الضَّلَالَةِ مِنْ عِنَايَتِهِ بِلَهْوِ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَتَّخِذَ سَبِيلَ اللَّهِ هُزُؤًا، وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِ قِصَّةِ لُقْمَانَ مُتَضَمِّنَةً عَجِيبَ حَالِ لُقْمَانَ فِي الِاهْتِدَاءِ وَالْحِكْمَةِ، فَهُمَا حَالَانِ مُتَضَادَّانِ فَقُطِعَ النَّظَرُ عَنْ كَوْنِ قِصَّةِ النَّضْرِ سِيقَتْ مَسَاقَ الْمُقَدِّمَةِ وَالْمَدْخَلِ إِلَى الْمَقْصُودِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا طَالَ فِي الْمُقَدِّمَةِ خَرَجَتْ عَنْ سُنَنِ الْمُقْدِمَاتِ إِلَى الْمَقْصُودَاتِ بِالذَّاتِ فَلِذَلِكَ عُطِفَتْ عَطْفَ الْقَصَصِ وَلَمْ تُفْصَلْ فَصْلَ النَّتَائِجِ عَقِبَ مُقَدِّمَاتِهَا. وَقَدْ تَتَعَدَّدُ الِاعْتِبَارَاتُ لِلْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ فَيَتَخَيَّرُ الْبَلِيغُ فِي رَعْيِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٩]، وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٦].
وَافْتِتَاحُ الْقِصَّةِ بِحَرْفَيِ التَّوْكِيدِ: لَامِ الْقَسَمِ وَ (قَدْ) لِلْإِنْبَاءِ بِأَنَّهَا خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ مُهِمٍّ وَاقِعٍ.
ولُقْمانَ اسْمُ رَجُلٍ حَكِيمٍ صَالِحٍ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ فِي شَأْنِهِ الَّتِي يُعَضِّدُ
148
بَعْضُهَا وَإِنْ كَانَتْ أَسَانِيدُهَا ضَعِيفَةً تَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مِنَ السُّودِ، فَقِيلَ هُوَ مِنْ بِلَادِ النُّوبَةِ، وَقِيلَ مِنَ الْحَبَشَةِ.
وَلَيْسَ هُوَ لُقْمَان بِهِ عَادٍ الَّذِي قَالَ الْمَثَلَ الْمَشْهُورَ: إِحْدَى حَظِيَّاتِ لُقْمَانَ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْمُهَوَّشِ الْأَسَدِيُّ أَوْ يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ يُصْعَقُ فِي قَوْلِهِ:
تَرَاهُ يُطَوِّفُ الْآفَاقَ حِرْصًا لِيَأْكُلَ رَأْسَ لُقْمَانَ بْنِ عَادٍ
وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِلُقْمَانَ صَاحِبِ النُّسُورِ، وَهُوَ الَّذِي لَهُ ابْنٌ اسْمُهُ لُقَيْمٌ (١) وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ أَنَّ اسْمَ أَبِيهِ بَاعُورَاءُ، فَسَبَقَ إِلَى أَوْهَامِ بَعْضِ الْمُؤَلِّفِينَ (٢) أَنَّهُ الْمُسَمَّى فِي كُتُبِ الْيَهُودِ بَلْعَامُ بْنُ بَاعُورَاءَ الْمَذْكُورُ خَبَرُهُ فِي «الْإِصْحَاحَيْنِ» (٢٢ وَ٢٣) مِنْ «سِفْرِ الْعَدَدِ»، وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَهْمٌ لِأَنَّ بَلْعَامَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ كَانَ نَبِيئًا فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَعَلَّ التَّوَهُّمَ جَاءَ مِنَ اتِّحَادِ اسْمِ الْأَبِ، أَوْ مِنْ ظَنِّ أَنَّ بَلْعَامَ يُرَادِفُ مَعْنَى لُقْمَانَ لِأَنَّ بَلْعَامَ مِنَ الْبَلْعِ وَلُقْمَانَ مِنَ اللَّقْمِ فَيَكُونُ الْعَرَبُ سَمَّوْهُ بِمَا يُرَادِفُ اسْمَهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَنَّ لُقْمَانَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ كَانَ حَكِيمًا أَوْ نَبِيئًا. فَالْجُمْهُورُ قَالُوا: كَانَ حَكِيمًا صَالِحًا. وَاعْتَمَدَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَلَى الثَّانِي، فَذَكَرَهُ فِي «جَامِعِ الْمُوَطَّأِ» مَرَّتَيْنِ بِوَصْفِ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ اشْتُهِرَ بِذَلِكَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَمْ يَكُنْ لُقْمَانُ نَبِيئًا وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا كَثِيرَ التَّفَكُّرِ حَسَنَ الْيَقِينِ أَحَبَّ اللَّهَ تَعَالَى فَأَحَبَّهُ فَمَنَّ عَلَيْهِ بِالْحِكْمَةِ»
وَيَظْهَرُ مِنَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِصَّتِهِ هَذِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا لِأَنَّهُ لَمْ يُمْتَنَّ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ وَلَا بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى أَنَّهُ أُوتِيَ الْحِكْمَة يومىء إِلَى أَنَّهُ أُلْهِمَ الْحِكْمَةَ وَنَطَقَ بِهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ تَعْلِيمُهُ لِابْنِهِ قَالَ تَعَالَى وَهُوَ يَعِظُهُ [لُقْمَان: ١٣] وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ لَا تَبْلِيغَ تَشْرِيعٍ.
وَذَهَبَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ: أَنَّ لُقْمَانَ نَبِيءٌ وَلَفْظُ الْحِكْمَةِ يَسْمَحُ بِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ
_________
(١) وَهُوَ المعني فِي الْبَيْت الَّذِي أنْشدهُ ابْن بري:
لقيم بن لُقْمَان من أُخْته فَكَانَ ابْن أُخْت لَهُ وَابْنه.
(٢) هُوَ لاروس صَاحب دوائر المعارف الفرنسية.
149
الْحِكْمَةَ أُطْلِقَتْ عَلَى النُّبُوءَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ فِي دَاوُدَ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: ٢٠]. وَقَدْ فُسِّرَتِ الْحِكْمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَة: ٢٦٩] بِمَا يَشْمَلُ النُّبُوءَةَ. وَإِنَّ الْحِكْمَةَ «مَعْرِفَةُ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ» وَأَعْلَاهَا النُّبُوءَةُ لِأَنَّهَا عِلْمٌ بِالْحَقَائِقِ مَأْمُونٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا هِيَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِذِ النُّبُوءَةُ مُتَلَقَّاةٌ مِنَ اللَّهِ الَّذِي لَا يعزب عَن عمله شَيْءٌ. وَسَيَأْتِي أَنَّ إِيرَادَ قَوْلِهِ تَعَالَى
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ [لُقْمَان: ١٤] فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ لُقْمَانَ يُسَاعِدُ هَذَا الْقَوْلَ.
وَذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ دَاوُدَ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ ابْنَ أُخْتِ أَيُّوبَ أَوِ ابْنَ خَالَتِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ عَاشَ فِي بِلَادِ إِسْرَائِيلَ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ لُقْمَانَ كَانَ قَاضِيًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يُوجَدُ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ. قِيلَ كَانَ رَاعِيًا لِغَنَمٍ وَقِيلَ كَانَ نَجَّارًا وَقِيلَ خَيَّاطًا. وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ» عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ لُقْمَانَ كَانَ عَبْدًا لِبَنِي الْحِسْحَاسِ وَبَنُو الْحَسْحَاسِ مِنَ الْعَرَبِ وَكَانَ مِنْ عَبِيدِهِمْ سُحَيْمٌ الْعَبْدُ الشَّاعِرُ الْمُخَضْرَمُ الَّذِي قُتِلَ فِي مُدَّةِ عُثْمَانَ.
وَحِكْمَةُ لُقْمَانَ مَأْثُورَةٌ فِي أَقْوَالِهِ النَّاطِقَةِ عَنْ حَقَائِقِ الْأَحْوَالِ وَالْمُقَرِّبَةِ لِلْخَفِيَّاتِ بِأَحْسَنِ الْأَمْثَالِ. وَقَدْ عُنِيَ بِهَا أَهْلُ التَّرْبِيَةِ وَأَهْلُ الْخَيْرِ، وَذَكَرَ الْقُرْآنُ مِنْهَا مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَذَكَرَ مِنْهَا مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» بَلَاغَيْنِ فِي كِتَابِ «الْجَامِعِ» وَذَكَرَ حِكْمَةً لَهُ فِي كِتَابِ «جَامِعِ الْعَتَبِيَّةِ» وَذَكَرَ مِنْهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي «مُسْنَدِهِ» وَلَا نَعْرِفُ كِتَابًا جَمَعَ حِكْمَةَ لُقْمَانَ.
وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَرَأْتُ مِنْ حِكْمَةِ لُقْمَانَ أَرْجَحَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ بَابٍ. وَلَعَلَّ هَذَا إِنْ صَحَّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الْكَثْرَةِ.
وَكَانَ لُقْمَانُ مَعْرُوفًا عِنْدَ خَاصَّةِ الْعَرَبِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي «السِّيرَةِ» : قَدِمَ سُوَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَتَصَدَّى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ سُوَيْدٌ: فَلَعَلَّ الَّذِي مَعَكَ مِثْلَ الَّذِي مَعِي؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟ قَالَ: مَجَلَّةُ لُقْمَانَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْرِضْهَا عَلَيَّ، فَعَرَضَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ حَسَنٌ وَالَّذِي
150
مَعِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ
. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَتَلَتْهُ الْخَزْرَجُ وَكَانَ قَتله قبل يَوْمَ بُعَاثٍ. وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُونَ: إِنَّا لَنَرَاهُ قَدْ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَكَانَ قَوْمُهُ يَدْعُونَهُ الْكَامِلَ اهـ. وَفِي «الِاسْتِيعَابِ» لِابْنِ عَبْدِ الْبِرِّ: أَنَا شَاكٌّ فِي إِسْلَامِهِ كَمَا شَكَّ غَيْرِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ أَنْ قُرَيْشًا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُقْمَانَ وَابْنِهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا لِلْعَرَبِ. وَقَدِ انْتَهَى إِلَيَّ حِينَ كِتَابَةِ هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ حِكَمِ لُقْمَانَ الْمَأْثُورَةِ ثَمَانٌ وَثَلَاثُونَ حِكْمَةً غَيْرَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَسَنَذْكُرُهَا عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْإِلْهَامِ أَوِ الْوَحْيِ.
ولُقْمانَ: اسْمُ عَلَمٍ مَادَّتُهُ مَادَّةٌ عَرَبِيَّةٌ مُشْتَقٌّ مِنَ اللَّقْمِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْعَرَبَ عَرَّبُوهُ
بِلَفْظٍ قَرِيبٍ مِنْ أَلْفَاظِ لُغَتِهِمْ عَلَى عَادَتِهِمْ كَمَا عَرَّبُوا شَاوُلَ بِاسْمِ طَالُوتَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ لَا لِلْعُجْمَةِ.
وَتَقَدَّمُ تَعْرِيفُ الْحِكْمَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٩]، وَقَوْلِهِ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [١٢٥].
وأَنِ فِي قَوْلِهِ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ تَفْسِيرِيَّةٌ وَلَيْسَتْ تَفْسِيرًا لِفِعْلِ آتَيْنا لِأَنَّهُ نَصَبَ مَفْعُولَهُ وَهُوَ الْحِكْمَةُ، فَتَكُونُ أَنِ مُفَسِّرَةً لِلْحِكْمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحِكْمَةَ هُنَا أَقْوَالٌ أُوحِيَتْ إِلَيْهِ أَوْ أُلْهِمَهَا فَيَكُونُ فِي الْحِكْمَةِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَيَصْلُحُ أَنْ تُفَسِّرَ بِ أَنِ التَّفْسِيرِيَّةِ، كَمَا فُسِّرَتْ حَاجَةً فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ:
إِنْ تَحْمِلَا حَاجَةً لِي خَفَّ مَحْمَلُهَا تَسْتَوْجِبَا مِنَّةً عِنْدِي بِهَا ويدا
أَن تقرءان عَلَيْ أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا مِنِّي السَّلَامَ وَأَنْ لَا تُخْبِرَا أَحَدَا
وَالصُّوفِيَّةُ وَحُكَمَاءُ الْإِشْرَاقِ يَرَوْنَ خَوَاطِرَ الْأَصْفِيَاءِ حُجَّةً وَيُسَمُّونَهَا إِلْهَامًا. وَمَالَ إِلَيْهِ جَمٌّ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَدْ قَالَ قُطْبُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ فِي «دِيبَاجَةِ شَرْحِهِ عَلَى الْمِفْتَاحِ» : أَمَّا بَعْدُ إِنِّي قَدْ أُلْقِيَ إِلَيَّ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْذَارِ، مِنْ حَضْرَةِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ،
151
بِلِسَانِ الْإِلْهَامِ، إِلَّا كَوَهْمٍ مِنَ الْأَوْهَامِ، مَا أَوْرَثَنِي التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالْإِنَابَةَ إِلَى دَارِ السُّرُورِ، إِلَخْ.
وَكَانَ أَوَّلُ مَا لُقِّنَهُ لُقْمَانُ مِنَ الْحِكْمَةِ هُوَ الْحِكْمَةُ فِي نَفْسِهِ بِأَنْ أَمْرَهُ اللَّهُ بِشُكْرِهِ عَلَى مَا هُوَ مَحْفُوفٌ بِهِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي مِنْهَا نِعْمَةُ الِاصْطِفَاءِ لِإِعْطَائِهِ الْحِكْمَةَ وَإِعْدَادِهِ لِذَلِكَ بِقَابِلِيَّتِهِ لَهَا. وَهَذَا رَأْسُ الْحِكْمَةِ لِتَضَمُّنِهِ النَّظَرَ فِي دَلَائِلِ نَفْسِهِ وَحَقِيقَتِهِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَقَبْلَ التَّصَدِّيِ لِإِرْشَادِ غَيْرِهِ، وَأَنَّ أَهَمَّ النَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ هُوَ الشُّعُورُ بِوُجُودِهِ عَلَى حَالَةٍ كَامِلَةٍ وَالشُّعُورُ بِمُوجِدِهِ وَمَفِيضِ الْكَمَالِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُقْتَضٍ لِشُكْرِ مُوجِدِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ شُكْرَ اللَّهِ مِنَ الْحِكْمَةِ، إِذِ الْحِكْمَةُ تَدْعُو إِلَى مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لِقَصْدِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ، فَالْحَكِيمُ يَبُثُّ فِي النَّاسِ تِلْكَ الْحَقَائِقَ عَلَى حَسَبِ قَابِلِيَّاتِهِمْ بِطَرِيقَةِ التَّشْرِيعِ تَارَةً وَالْمَوْعِظَةِ أُخْرَى، وَالتَّعْلِيمُ لِقَابِلِيهِ مَعَ حَمْلِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا عَلِمُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ الْعَمَلُ مِنَ الشُّكْرِ إِذِ الشُّكْرُ قَدْ عُرِفَ بِأَنَّهُ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ مَوَاهِبَ وَنِعَمٍ فِيمَا خَلَقَ لِأَجْلِهِ فَكَانَ شُكْرُ اللَّهِ هُوَ الْأَهَمُّ فِي الْأَعْمَالِ الْمُسْتَقِيمَةِ فَلِذَلِكَ كَانَ رَأْسَ الْحِكْمَةِ لِأَنَّ مِنَ الْحِكْمَةِ تَقْدِيمَ الْعِلْمِ بِالْأَنْفَعِ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا هُوَ دُونَهُ فَالشُّكْرُ هُوَ مَبْدَأُ الْكَمَالَاتِ عِلْمًا، وَغَايَتُهَا عَمَلًا.
وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَعْقَبَ اللَّهُ الشُّكْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ بِبَيَانِ أَنَّ فَائِدَتَهُ لِنَفْسِ الشَّاكِرِ لَا لِلْمَشْكُورِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ آثَارَ شُكْرِ اللَّهِ كَمَالَاتٌ حَاصِلَةٌ لِلشَّاكِرِ وَلَا تَنْفَعُ الْمَشْكُورَ شَيْئًا لِغِنَاهُ سُبْحَانَهُ عَنْ شُكْرِ الشَّاكِرِينَ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِهِ فِي صُورَةِ الشَّرْطِ لِتَحْقِيقِ التَّعَلُّقِ بَيْنَ مَضْمُونِ الشَّرْطِ وَمَضْمُونِ الْجَزَاءِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ أَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْإِخْبَارِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ حَصْرِ نَفْعِ الشُّكْرِ فِي الثُّبُوتِ لِلشَّاكِرِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أَيْ مَا يَشْكُرُ إِلَّا لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ، وَلَامُ التَّعْلِيلِ مُؤْذِنَةٌ بِالْفَائِدَةِ. وَزِيدَ ذَلِكَ تَبَيُّنًا بِعَطْفِ ضِدِّهِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الشُّكْرِ بَعْدَ اسْتِشْعَارِهِ كُفْرٌ لِلنِّعْمَةِ وَأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِهِ بِخِلَافِ شَأْنِ الْمَخْلُوقَاتِ إِذْ يُكْسِبُهُمُ الشُّكْرُ فَوَائِدَ بَيْنَ بَنِي جِنْسِهِمْ تَجُرُّ إِلَيْهِمْ مَنَافِعَ الطَّاعَةِ أَوِ
152
الْإِعَانَةِ أَوِ الْإِغْنَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَوَائِدِ الشُّكْرِ لِلْمَشْكُورِينَ عَلَى تَفَاوُتِ مَقَامَاتِهِمْ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَهُوَ حَمِيدٌ، أَيْ: كَثِيرُ الْمَحْمُودِيَّةِ بِلِسَانِ حَالِ الْكَائِنَاتِ كُلِّهَا حَتَّى حَالِ الْكَافِرِ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً سُورَة الرَّعْد [١٥].
وَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَبَدِيعِ إِيجَازِهِ أَنْ كَانَ قَوْلُهُ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ جَامِعًا لِمَبْدَأِ الْحِكْمَةِ الَّتِي أُوتِيَهَا لُقْمَانُ، وَلِأَمْرِهِ بِالشُّكْرِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ الْإِرْشَادَ إِلَى الشُّكْرِ، مَعَ الشُّرُوعِ فِي الْأَمْرِ الْمَشْكُورِ عَلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالشُّكْرِ عِنْدَ حُصُولِ النِّعْمَةِ. وَإِنَّمَا قُوبِلَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الشُّكْرِ بِوَصْفِ اللَّهِ بِأَنَّهُ حَمِيدٌ لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ مُتَقَارِبَانِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْحَمْدُ رَأَسُ الشُّكْرِ»
، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى اسْمٌ مِنْ مَادَّةِ الشُّكْرِ إِلَّا اسْمَهُ الشَّكُورَ وَهُوَ بِمَعْنَى شَاكِرٍ، أَيْ: شَاكِرٌ لِعِبَادِهِ عِبَادَتَهَمْ إِيَّاهُ عُبِّرَ هُنَا بِاسْمِهِ حَمِيدٌ. وَجِيءَ فِي فِعْلِ يَشْكُرْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى جَدَارَةِ الشُّكْرِ بِالتَّجْدِيدِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ أَنِ اشْكُرْ لِي [لُقْمَان: ١٤] دَاخِلَةٌ عَلَى مَفْعُولِ الشُّكْرِ وَهِيَ لَامٌ مُلْتَزِمٌ زِيَادَتُهَا مَعَ مَادَّةِ الشُّكْرِ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْوِيَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَاشْكُرُوا لِي فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٥٢].
[١٣]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ١٣]
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لُقْمَان: ١٢] لِأَنَّ الْوَاوَ نَائِبَةٌ مَنَابَ الْفِعْلِ فَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُفَسِّرُ بَعْضَ الْحِكْمَةِ الَّتِي أُوتِيَهَا لُقْمَانُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ إِذْ
قَالَ لِابْنِهِ فَهُوَ فِي وَقْتِ قَوْلِهِ ذَلِكَ لِابْنِهِ قَدْ أُوتِيَ حِكْمَةً فَكَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنَ الْحِكْمَةِ لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ حَالَةٍ تَصْدُرُ عَنْهُ فِيهَا حِكْمَةٌ هُوَ فِيهَا قَدْ أُوتِيَ حِكْمَةً.
وإِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ وَاوُ الْعَطْفِ، أَيْ وَالتَّقْدِيرُ:
وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ إِذْ قَالَ لِابْنِهِ. وَهَذَا انْتِقَالٌ مَنْ وَصْفِهِ بِحِكْمَةِ الِاهْتِدَاءِ
153
إِلَى وَصْفِهِ بِحِكْمَةِ الْهُدَى وَالْإِرْشَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذْ قالَ ظَرْفًا مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفًا.
وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْحَالِ بِقَوْلِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا كَانَ لِتَلَبُّسِ ابْنِهِ بِالْإِشْرَاكِ، وَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ابْنَ لُقْمَانَ كَانَ مُشْرِكًا فَلَمْ يَزَلْ لُقْمَانُ يَعِظُهُ حَتَّى آمَنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الْوَعْظَ زَجْرٌ مُقْتَرِنٌ بِتَخْوِيفٍ قَالَ تَعَالَى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً [النِّسَاء: ٦٣] وَيُعْرَفُ الْمَزْجُورُ عَنْهُ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْمَوْعِظَةِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الزَّجْرَ هُنَا عَنِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ. وَلَعَلَّ ابْنَ لُقْمَانَ كَانَ يَدِينُ بِدِينِ قَوْمِهِ مِنَ السُّودَانِ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى لُقْمَانَ بِالْحِكْمَةِ وَالتَّوْحِيدِ أَبَى ابْنُهُ مُتَابَعَتَهُ فَأَخَذَ يَعِظُهُ حَتَّى دَانَ بِالتَّوْحِيدِ، وَلَيْسَ اسْتِيطَانُ لُقْمَانَ بِمَدِينَةِ دَاوُدَ مُقْتَضِيًا أَنْ تَكُونَ عَائِلَتُهُ تَدِينُ بِدِينِ الْيَهُودِيَّةِ.
وَأَصْلُ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ حِينَ التَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ عِنْدَ مُقَارَبَةِ التَّلَبُّسِ بِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ مُنْتَفٍ عَنِ الْمَنْهِيِّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ اخْتِلَافًا فِي اسْمِ ابْنِ لُقْمَانَ فَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ. وَقَدْ جَمَعَ لُقْمَانُ فِي هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ وَهِيَ:
الِاعْتِقَادَاتُ، وَالْأَعْمَالُ، وَأَدَبُ الْمُعَامَلَةِ، وَأَدَبُ النَّفْسِ.
وَافْتِتَاحُ الْمَوْعِظَةِ بِنِدَاءِ الْمُخَاطَبِ الْمَوْعُوظِ مَعَ أَنَّ تَوْجِيهَ الْخِطَابَ مُغْنٍ عَنْ نِدَائِهِ لِحُضُورِهِ بِالْخِطَابِ، فَالنِّدَاءُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي طَلَبِ حُضُورِ الذِّهْنِ لِوَعْيِ الْكَلَامِ وَذَلِكَ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً [يُوسُفَ: ٤] وَقَوله يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ فِي سُورَة يُوسُف [٥] وَقَوْلِهِ إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١١٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٤٢].
وبُنَيَّ تَصْغِيرُ (ابْنٍ) مُضَافًا إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فَلِذَلِكَ كُسِرَتِ الْيَاءُ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ يَاءِ بُنَيَّ مُشَدَّدَةً. وَأَصْلُهُ: يَا بنييي بِثَلَاث يَاءَاتٍ إِذْ أَصْلُهُ الْأَصِيلُ يَا بُنَيْوِي لِأَنَّ كَلِمَةَ ابْنٍ وَاوِيَّةُ اللَّامِ الْمُلْتَزِمَةِ حَذْفُهَا فَلَمَّا صُغِرَّ رُدَّ إِلَى
154
أَصْلِهِ، ثُمَّ لَمَّا الْتَقَتْ يَاءُ التَّصْغِيرِ سَاكِنَةً قَبْلَ وَاوِ الْكَلِمَةِ الْمُتَحَرِّكَةِ بِحَرَكَةِ الْإِعْرَابِ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِتَقَارُبِهِمَا وَأُدْغِمَتَا، وَلَمَّا
نُودِيَ وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ حُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ لِجَوَازِ حَذْفِهَا فِي النِّدَاءِ وَكَرَاهِيَةِ تَكَرُّرِ الْأَمْثَالِ، وَأُشِيرَ إِلَى الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ بِإِلْزَامِهِ الْكَسْرَ فِي أَحْوَالِ الْإِعْرَابِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الْكَسْرَةَ دَلِيلٌ عَلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَالتَّصْغِيرُ فِيهِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِ الْكَبِيرِ مَنْزِلَةَ الصَّغِيرِ كِنَايَةً عَنِ الشَّفَقَةِ بِهِ وَالتَّحَبُّبِ لَهُ، وَهُوَ فِي مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ وَالنَّصِيحَةِ إِيمَاءٌ وَكِنَايَةٌ عَنْ إِمْحَاضِ النُّصْحِ وَحُبِّ الْخَيْرِ، فَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الِامْتِثَالِ لِلْمَوْعِظَةِ.
ابْتَدَأَ لُقْمَانُ مَوْعِظَةَ ابْنِهِ بِطَلَبِ إِقْلَاعِهِ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ لِأَنَّ النَّفْسَ الْمُعَرَّضَةَ لِلتَّزْكِيَةِ وَالْكَمَالِ يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ تَخَلِّيَتُهَا عَنْ مَبَادِئِ الْفَسَادِ وَالضَّلَالِ، فَإِنَّ إِصْلَاحَ الِاعْتِقَادِ أَصْلٌ لِإِصْلَاحِ الْعَمَلِ. وَكَانَ أَصْلُ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ هُمَا الدَّهْرِيَّةُ وَالْإِشْرَاكُ، فَكَانَ قَوْلُهُ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ يُفِيدُ إِثْبَاتَ وُجُودِ إِلَهٍ وَإِبْطَالَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي إِلَهِيَّتِهِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يَا بُنَيَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ مُشَدَّدَةً عَلَى تَقْدِيرِ: يَا بُنَيَّا بِالْأَلِفِ وَهِيَ اللُّغَةُ الْخَامِسَةُ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ حُذِفَتِ الْأَلِفُ وَاكْتُفِيَ بِالْفَتْحَةِ عَنْهَا، وَهَذَا سَمَاعٌ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْهُ وَتَهْوِيلٌ لِأَمْرِهِ، فَإِنَّهُ ظُلْمٌ لِحُقُوقِ الْخَالِقِ، وَظُلْمُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ إِذْ يَضَعُ نَفْسَهُ فِي حَضِيضِ الْعُبُودِيَّةِ لِأَخَسِّ الْجَمَادَاتِ، وَظُلْمٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الْحَقِّ إِذْ يَبْعَثُ عَلَى اضْطِهَادِهِمْ وَأَذَاهُمْ، وَظُلْمٌ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ بِقَلْبِهَا وَإِفْسَادِ تَعَلُّقِهَا. وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ لُقْمَانَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ
فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَام: ٨٢] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
155
وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّة أَن تكون جُمْلَةُ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ كَلِمِ لُقْمَانَ. فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَانْظُرْ مَنْ رَوَى هَذَا وَمِقْدَار صِحَّته.
[١٤- ١٥]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٥]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥)
إِذَا دَرَجْنَا عَلَى أَنَّ لُقْمَانَ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا مُبَلِّغًا عَنِ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَانَ حَكِيمًا مُرْشِدًا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ كَلَامَيْ لُقْمَانَ لِأَنَّ صِيغَةَ هَذَا الْكَلَامِ مَصُوغَةٌ عَلَى أُسْلُوبِ الْإِبْلَاغِ وَالْحِكَايَةِ لِقَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ اللَّهِ. وَالضَّمَائِرُ ضَمَائِرُ الْعَظَمَةِ جَرَّتْهُ مُنَاسِبَةُ حِكَايَةِ نَهْيِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ عَنِ الْإِشْرَاكِ وتفظيعه بِأَنَّهُ ظلم عَظِيمٌ. فَذَكَرَ اللَّهُ هَذَا لِتَأْكِيدِ مَا فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ بِتَعْمِيمِ النَّهْيِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِابْنِ لُقْمَانَ أَوْ بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ فَحَكَى اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ أَوْصَى بِذَلِكَ كُلَّ إِنْسَانٍ وَأَنْ لَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَوْ فِي أَحْرَجِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ حَالُ مُجَاهَدَةِ الْوَالِدَيْنِ أَوْلَادَهُمْ عَلَى الْإِشْرَاكِ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَنْ تَجْعَلَ مُنَاسَبَةَ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَمَّا حَكَى وِصَايَةَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ بِمَا هُوَ شُكْرُ اللَّهِ بِتَنْزِيهِهِ عَنِ الشِّرْكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَسْبَقُ مِنَّةً عَلَى عِبَادِهِ إِذْ أَوْصَى الْأَبْنَاءَ بِبَرِّ الْآبَاءِ فَدَخَلَ فِي الْعُمُومِ الْمِنَّةُ عَلَى لُقْمَانَ جَزَاءً عَلَى رَعْيِهِ لِحَقِّ اللَّهِ فِي ابْتِدَاءِ مَوْعِظَةِ ابْنِهِ فَاللَّهُ أَسْبَقُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِرَعْيِ حَقِّهِ. وَيُقَوِّي هَذَا التَّفْسِيرَ اقْتِرَانُ شُكْرِ اللَّهِ وَشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ فِي الْأَمْرِ.
وَإِذَا دَرَجْنَا عَلَى أَنَّ لُقْمَانَ كَانَ نَبِيئًا فَهَذَا الْكَلَامُ مِمَّا أَبْلَغَهُ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ مِمَّا أُوتِيَهُ مِنَ الْوَحْيِ وَيَكُونَ قَدْ حُكِيَ بِالْأُسْلُوبِ الَّذِي أُوحِيَ بِهِ إِلَيْهِ عَلَى نَحْوِ أُسْلُوبِ قَوْلِهِ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [لُقْمَان: ١٢] وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ، وَيُرَجِّحُهُ اخْتِلَافُ
156
الْأُسْلُوبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آيَتَيْ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَسُورَةِ الْأَحْقَافِ لِأَنَّ مَا هُنَا حِكَايَةُ مَا سَبَقَ فِي أُمَّةٍ أُخْرَى وَالْأُخْرَيَيْنِ خِطَابٌ أَنِفَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ لُقْمَانَ لَمَّا أَبْلَغَ ابْنَهَ هَذَا قَالَ لَهُ: إِنِ اللَّهَ رَضِيَنِي لَكَ فَلَمْ يُوصِنِي بِكَ وَلَمْ يَرْضَكَ لِي فَأَوْصَاكَ بِي.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ قَوْلُهُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي إِلَى آخِرِهِ...
وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ وَتَقْرِيرٌ لِوَاجِبِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ لِيَكُونَ النَّهْيُ عَنْ طَاعَتِهِمَا إِذًا أَمَرًا بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ نَهْيًا عَنْهُ فِي أَوْلَى الْحَالَاتِ بِالطَّاعَةِ حَتَّى يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ مَفْهُومًا بِفَحْوَى الْخِطَابِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْإِدْمَاجِ الْمُنَاسِبِ لِحِكْمَةِ لُقْمَانَ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ أَوْ كَانَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَعَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ لَا يَحْسُنُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ إِسْلَامِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَامْتِعَاضِ أُمِّهِ، لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ السِّيَاقَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ نَزَلَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهَا الْمُنَاسِبَةُ لِسَبَبِ النُّزُولِ فَإِنَّهَا أُخْلِيَتْ عَنِ الْأَوْصَافِ الَّتِي فِيهَا تَرْقِيقٌ عَلَى الْأُمِّ بِخِلَافِ هَذِهِ، وَلَا وَجْهَ لِنُزُولِ آيَتَيْنِ فِي
غَرَضٍ وَاحِدٍ وَوَقْتٍ مُخْتَلِفٍ وَسَيَجِيءُ بَيَانُ الْمُوصَى بِهِ.
وَالْوَهْنُ- بِسُكُونِ الْهَاءِ- مَصْدَرُ وَهَنَ يَهِنُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ. وَيُقَالُ: وَهَنٌ- بِفَتْحِ الْهَاءِ- عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُ وَهَنَ يُوهِنُ كَوَجِلَ يَوْجَلُ. وَهُوَ الضَّعْفُ وَقِلَّةُ الطَّاقَةِ عَلَى تَحَمُّلِ شَيْءٍ.
وَانْتَصَبَ وَهْناً عَلَى الْحَالِ مِنْ أُمُّهُ مُبَالَغَةً فِي ضَعْفِهَا حَتَّى كَأَنَّهَا نَفْسُ الْوَهْنِ، أَيْ وَاهِنَةً فِي حَمْلِهِ، وعَلى وَهْنٍ صِفَةٌ لِ وَهْناً أَيْ وَهْنًا وَاقِعًا عَلَى وَهْنٍ، كَمَا يُقَالُ:
رَجَعَ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، إِذَا اسْتَأْنَفَ عَمَلًا فَرَغَ مِنْهُ فَرَجَعَ إِلَيْهِ، أَيْ: بَعْدَ بَدْءٍ، أَوْ عَلى بِمَعْنَى (مَعَ) كَمَا فِي قَوْلِ الْأَحْوَصِ:
إِنِّي عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ مُحَسَّدٌ أَنْمِي عَلَى الْبَغْضَاءِ وَالشَّنَآنِ
فَإِنَّ حَمْلَ الْمَرْأَةِ يُقَارِنُهُ التَّعَبُ مَنْ ثِقَلِ الْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ، وَالضُّعْفُ مِنِ انْعِكَاسِ
157
دَمِّهَا إِلَى تَغْذِيَةِ الْجَنِينِ، وَلَا يَزَالُ ذَلِكَ الضَّعْفُ يَتَزَايَدُ بِامْتِدَادِ زَمَنِ الْحَمْلِ فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ وَهْنٌ عَلَى وَهْنٍ.
وَجُمْلَةُ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلْوِصَايَةِ بِالْوَالِدَيْنِ قَصْدًا لِتَأْكِيدِ تِلْكَ الْوِصَايَةِ لِأَنَّ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ يُفِيدُهُ تَأْكِيدًا، وَلِأَنَّ فِي مَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا يُثِيرُ الْبَاعِثَ فِي نَفْسِ الْوَلَدِ عَلَى أَنْ يَبَرَّ بِأُمِّهِ وَيَسْتَتْبِعَ الْبِرَّ بِأَبِيهِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ تَعْلِيلُ الْوِصَايَةِ بِالْوَالِدَيْنِ بِذِكْرِ أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ بِأَحَدِهِمَا وَهِيَ الْأُمُّ اكْتِفَاءً بِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ تَقْتَضِي الْوِصَايَةَ بِالْأَبِ أَيْضًا لِلْقِيَاسِ فَإِنَّ الْأَبَ يُلَاقِي مَشَاقَّ وَتَعَبًا فِي الْقِيَامِ عَلَى الْأُمِّ لِتَتَمَكَّنَ مِنَ الشُّغْلِ بِالطِّفْلِ فِي مُدَّةِ حَضَانَتِهِ ثُمَّ هُوَ يَتَوَلَّى تَرْبِيَتَهُ وَالذَّبَّ عَنْهُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَيَسْتَغْنِيَ عَنِ الْإِسْعَافِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الْإِسْرَاء: ٢٤]، فَجَمَعَهُمَا فِي التَّرْبِيَةِ فِي حَالِ الصِّغَرِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى حِفْظِهِ وَإِكْمَالِ نَشْأَتِهِ، فَلَمَّا ذُكِرَتْ هُنَا الْحَالَةُ الَّتِي تَقْتَضِي الْبِرَّ بِالْأُمِّ مِنَ الْحَمْلِ وَالْإِرْضَاعِ كَانَتْ مُنَبِّهَةً إِلَى مَا لِلْأَبِ مِنْ حَالَةٍ تَقْتَضِي الْبِرَّ بِهِ عَلَى حِسَابِ مَا تَقْتَضِيهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ فِي كِلَيْهِمَا قُوَّةً وَضَعْفًا. وَلَا يَقْدَحُ فِي الْقِيَاسِ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِلْإِلْحَاقِ. وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ تَشْرِيكُهُمَا فِي التَّحَكُّمِ عَقِبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ
وَقَوْلِهِ وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً. وَحَصَلَ مِنْ هَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ قَضَاءُ حَقِّ الْإِيجَازِ.
وَأَمَّا رُجْحَانُ الْأُمِّ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ التَّعَارُضِ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْبُرُورِ تَعَارُضًا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْجَمْعُ فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» : شَرَكَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأُمَّ وَالْأَبَ فِي رُتْبَةِ الْوَصِيَّةِ بِهِمَا ثُمَّ خَصَّصَ الْأُمَّ بِذِكْرِ دَرَجَةِ الْحَمْلِ وَدَرَجَةِ الرَّضَاعِ فَتَحْصُلُ لِلْأُمِّ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ
وَلِلْأَبِ وَاحِدَةٌ، وَأَشْبَهَ ذَلِكَ
قَوْلَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ.
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبَاكَ.
فَجُعِلَ لَهُ الرُّبْعُ مِنَ الْمَبَرَّةِ. وَهَذَا كَلَامٌ مَنْسُوبٌ مِثْلُهُ لِابْنِ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ». وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَسَاقَ الْحَدِيثِ لِتَأْكِيدِ الْبِرِّ بِالْأُمِّ إِذْ قَدْ يَقَعُ التَّفْرِيطُ فِي الْوَفَاءِ بِالْوَاجِبِ لِلْأُمِّ مِنَ الِابْنِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنَ اللِّينِ مِنْهَا بِخِلَافِ جَانِبِ الْأَبِ فَإِنَّهُ قَوِيٌّ وَلِأَبْنَائِهِ تَوَقٍّ مِنْ شِدَّتِهِ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا
158
هُوَ مَسَاقُ الْحَدِيثِ وَلَا مَعْنَى لِأَخْذِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ حَتَّى نَذْهَبَ إِلَى تَجْزِئَةِ الْبِرِّ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْأَبِ أَثْلَاثًا أَوْ أَرْبَاعًا وَهُوَ مَا اسْتَشْكَلَهُ الْقَرَافِيُّ فِي «فَائِدَةٍ مِنَ الْفَرْقِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ»، وَحَسْبُنَا نَظْمُ هَذِهِ الْآيَةِ الْبَدِيعِ فِي هَذَا الشَّأْنِ. وَأَمَّا لَفْظُ الْحَدِيثِ فَهُوَ مَسُوقٌ لِتَأْكِيدِ الْبِرِّ بِالْأُمِّ خَشْيَةَ التَّفْرِيطِ فِيهِ. وَلَيْسَ مَعْنَى «ثُمَّ» فِيهِ إِلَّا مُحَاكَاةَ قَوْلِ السَّائِلِ «ثُمَّ مَنْ» بِقَرِينَةِ أَنَّهُ عَطَفَ بِهَا لَفْظَ الْأُمِّ فِي الْمَرَّتَيْنِ وَلَا مَعْنَى لِتَفْضِيلِ الْأُمِّ عَلَى نَفْسِهَا فِي الْبِرِّ. وَإِذْ كَانَ السِّيَاقُ مَسُوقًا لِلِاهْتِمَامِ تَعَيَّنَ أَنَّ عَطْفَ الْأَبِ عَلَى الْأُمِّ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ عَطْفٌ فِي الِاهْتِمَامِ فَلَا يُنْتَزَعُ مِنْهُ تَرْجِيحٌ عِنْدَ التَّعَارُضِ. وَلَعَلَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلِمَ مِنَ السَّائِلِ إِرَادَةَ التَّرْخِيصِ لَهُ فِي عَدَمِ الْبِرِّ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ: أَنَّ أَبَاهُ فِي بَلَدِ السُّودَانِ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ وَأَنَّ أُمَّهُ مَنَعَتْهُ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: أَطِعْ أَبَاكَ وَلَا تَعْصِ أُمَّكَ (١). وَهَذَا يَقْتَضِي إِعْرَاضَهُ عَنْ تَرْجِيحِ جَانِبِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ وَأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ فِي هَذَا التَّعَارُضِ لِيَحْمِلَ الِابْنَ عَلَى تَرْضِيَةِ كِلَيْهِمَا. وَقَالَ اللَّيْثُ: يُرَجَّحُ جَانِبُ الْأُمِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُرَجَّحُ جَانِبُ الْأَبِ.
وَجُمْلَةُ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ إِلَخْ، فَهِيَ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ أَيْضًا. وَفِي الْجُمْلَةِ تَقْدِيرُ ضَمِيرٍ رَابِطٍ إِيَّاهَا بِصَاحِبِهَا، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَفِصَالُهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا أُضِيفَ الْفِصَالُ إِلَى مَفْعُولِهِ عُلِمَ أَنَّ فَاعِلَهُ هُوَ الْأُمُّ.
وَالْفِصَالُ: اسْمٌ لِلْفِطَامِ، فَهُوَ فَصْلٌ عَنِ الرَّضَاعَةِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ أَرادا فِصالًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٣]. وَذُكِرَ الْفِصَالُ فِي معرض تَعْلِيل حقية الْأُمِّ بِالْبَرِّ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِرْضَاعَ مِنْ قَبْلِ الْفِصَالِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَتَحَمَّلُهُ الْأُمُّ مِنْ كَدَرِ الشَّفَقَةِ عَلَى الرَّضِيعِ حِينَ فِصَالِهِ، وَمَا تُشَاهِدُهُ مِنْ حُزْنِهِ وَأَلَمِهِ فِي مَبْدَأِ فِطَامِهِ. وَذُكِرَ لِمُدَّةِ فِطَامِهِ أَقْصَاهَا وَهُوَ عَامَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْسَبُ بِالتَّرْقِيقِ عَلَى الْأُمِّ، وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْفِطَامُ قَبْلَ الْعَامَيْنِ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ تَصْدُقُ مَعَ اسْتِيعَابِ الْمَظْرُوفِ جَمِيعَ الظَّرْفِ، وَلِذَلِكَ فَمُوقِعُ فِي
أَبْلَغُ مِنْ مَوْقِعِ (مِنْ) التَّبْعِيضِيَّةِ فِي قَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ:
_________
(١) نَقله الْقَرَافِيّ فِي الْمَسْأَلَة الأولى من الْفرق الثَّالِث وَالْعِشْرين عَن «مُخْتَصر» الْجَامِع.
159
وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ بِأَنْ يَسْتَغْرِقَ الشَّرَابُ وَالْمُقَامَرَةُ كَامِلَ أَثْمَانِ إِبِلِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥]. وَقَدْ حَمَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَوِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ.
وَجُمْلَةُ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ وَصَّيْنَا. وأَنِ تَفْسِيرِيَّةٌ، وَإِنَّمَا فُسِّرَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْوَالِدَيْنِ بِمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِشُكْرِ اللَّهِ مَعَ شُكْرِهِمَا عَلَى وَجْهِ الْإِدْمَاجِ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي إِلَخْ.
وَجُمْلَةُ إِلَيَّ الْمَصِيرُ اسْتِئْنَافٌ لِلْوَعْظِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ مُخَالَفَةِ مَا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ مِنَ الشُّكْرِ لَهُ. وَتَعْرِيفُ الْمَصِيرُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ، أَيْ مَصِيرُ النَّاسِ كُلُّهُمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ أَلْ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلْحَصْرِ، أَيْ لَيْسَ لِلْأَصْنَامِ مَصِيرٌ فِي شَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي إِلَى فَلا تُطِعْهُما فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٨]، سِوَى أَنَّهُ قَالَ هُنَا عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي وَقَالَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ لِتُشْرِكَ بِي فَأَمَّا حَرْفُ عَلى فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْمُجَاهَدَةِ، أَيْ مُجَاهَدَةٌ قَوِيَّةٌ لِلْإِشْرَاكِ، وَالْمُجَاهَدَةُ: شِدَّةُ السَّعْيِ وَالْإِلْحَاحِ. وَالْمَعْنَى: إِنْ أَلَحَّا وَبَالَغَا فِي دَعْوَتِكَ إِلَى الْإِشْرَاكِ بِي فَلَا تُطِعْهُمَا. وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِمَا إِذَا دَعَوْا إِلَى الْإِشْرَاكِ.
وَأَمَّا آيَةُ الْعَنْكَبُوتِ فَجِيءَ فِيهَا بِلَامِ الْعِلَّةِ لِظُهُورِ أَنَّ سَعْدًا كَانَ غَنِيًّا عَنْ تَأْكِيدِ النَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ أُمِّهِ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ امْرَأَةَ لُقْمَانَ وَابْنَهَ كَانَا مُشْرِكَيْنِ فَلَمْ يَزَلْ لُقْمَانُ يَعِظُهُمَا حَتَّى آمَنَا، وَبِهِ يَزِيدُ ذِكْرُ مُجَاهَدَةِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الشِّرْكِ اتِّضَاحًا.
وَالْمُصَاحَبَةُ: الْمُعَاشَرَةُ. وَمِنْهُ
حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ «أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أَمُّكَ»
إِلَخْ.
160
وَالْمَعْرُوفُ: الشَّيْءُ الْمُتَعَارَفُ الْمَأْلُوفُ الَّذِي لَا يُنْكَرُ فَهُوَ الشَّيْءُ الْحَسَنُ، أَيْ صَاحِبْ وَالِدَيْكَ صُحْبَةً حَسَنَةً، وَانْتَصَبَ مَعْرُوفاً عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ لِ صاحِبْهُما، أَيْ صِحَابًا مَعْرُوفًا لِأَمْثَالِهِمَا. وَفُهِمَ مِنْهُ اجْتِنَابُ مَا يُنْكَرُ فِي
مُصَاحَبَتِهِمَا، فَشَمَلَ ذَلِكَ مُعَامَلَةَ الِابْنِ أَبَوَيْهِ بِالْمُنْكَرِ، وَشَمَلَ ذَلِكَ أَنْ يَدْعُوَ الْوَالِدُ إِلَى مَا يُنْكِرُهُ اللَّهُ وَلَا يَرْضَى بِهِ وَلِذَلِكَ لَا يُطَاعَانِ إِذَا أَمَرَا بِمَعْصِيَةٍ. وَفُهِمَ مِنْ ذِكْرِ وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً أَثَرَ قَوْلِهِ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي إِلَخْ... أَنَّ الْأَمْرَ بِمُعَاشَرَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ شَامِلٌ لِحَالَةِ كَوْنِ الْأَبَوَيْنِ مُشْرِكَيْنِ فَإِنَّ عَلَى الِابْنِ مُعَاشَرَتَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ كَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَصِلَتِهِمَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ أُمِّي جَاءَتْ رَاغِبَةً أَفَأَصِلُهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ،
وَكَانَتْ مُشْرِكَةً وَهِيَ قُتَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى. وَشَمَلَ الْمَعْرُوفُ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لَهُمَا أَنْ يَفْعَلَاهُ فِي أَنْفُسِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مُنْكَرًا لِلْمُسْلِمِ فَلِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاؤُنَا: إِذَا أَنْفَقَ الْوَلَدُ عَلَى أَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ الْفَقِيرَيْنِ وَكَانَ عَادَتُهُمَا شُرْبَ الْخَمْرِ اشْتَرَى لَهُمَا الْخَمْرَ لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ لِلْكَافِرِ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُنْكَرًا فِي الدِّينَيْنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَايِعَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ عَلَيْهِ. وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ مَنْ أَنَابَ هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِسِيرَةِ الْمُنِيبِينَ لِلَّهِ، أَيِ الرَّاجِعِينَ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِنَابَةِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٣٣] عِنْدَ قَوْلِهِ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَفِي سُورَةِ هُودٍ [٨٨]. فَالْمُرَادُ بِمَنْ أَنَابَ: الْمُقْلِعُونَ عَنِ الشِّرْكِ وَعَنِ الْمَنْهِيَّاتِ الَّتِي مِنْهَا عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَهُمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَمَنِ اتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ الْمُفِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا بَعْدَهَا، أَيْ وَعِلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنْبِئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ لِلْإِنْسَانِ وَالْوَالِدَيْنِ، أَيْ مَرْجِعُ الْجَمِيعِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الرُّجُوعِ أَوْ هُوَ لِلتَّخْصِيصِ، أَيْ لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْءٌ مِمَّا تَأْمَلُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ. وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا فَأُنَبِّئُكُمْ إِلَخْ... وَالْإِنْبَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ بَيْنَ إِظْهَارِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ الْعِلْمِ بِهِ ظَاهِرَةٌ.
161
وَجُمْلَةُ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ. وَفِي هَذِهِ الضَّمَائِرِ تَغْلِيبُ الْخِطَابِ عَلَى الْغَيْبَةِ لِأَنَّ الْخِطَابَ أَهَمُّ لِأَنَّهُ أعرف.
[١٦]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ١٦]
يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)
تَكْرِيرُ النِّدَاءِ لِتَجْدِيدِ نَشَاطِ السَّامِعِ لِوَعْيِ الْكَلَامِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ إِنْ تَكُ مِثْقالَ بِرَفْعِ مِثْقالَ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ تَكُ مِنْ (كَانَ) التَّامَّةِ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِفِعْلِهِ بِتَاءِ الْمُضَارَعَةِ لِلْمُؤَنَّثَةِ، وَأُعِيدَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بِهَا مُؤَنَّثًا مَعَ أَنَّ مِثْقالَ لَفْظٌ غَيْرُ مُؤَنَّثٍ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى حَبَّةٍ فَاكْتَسَبَ التَّأْنِيثَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ إِذَا
كَانَ الْمُضَافُ لَوْ حُذِفَ لَمَا اخْتَلَّ الْكَلَامُ بِحَيْثُ يُسْتَغْنَى بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ عَنِ الْمُضَافِ، وَعَلَيْهِ فَضَمِيرُ إِنَّها لِلْقِصَّةِ وَالْحَادِثَةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِضَمِيرِ الشَّأْنِ، وَهُوَ يَقَعُ بِصُورَةِ ضَمِيرِ الْمُفْرَدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ بِتَأْوِيلِ الْقِصَّةِ، وَيُخْتَارُ تَأْنِيثُ هَذَا الضَّمِيرِ إِذَا كَانَ فِي الْقِصَّةِ لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الْحَج: ٤٦]، وَيَكْثُرُ وُقُوعُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ بَعْدَ (إِنَّ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [طه: ٧٤]، وَمِنْ ذَلِكَ تَقْدِيرُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ اسْمًا لِحَرْفِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْمُخَفَّفَةِ، وَهُوَ يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ بِإِقْبَالِ الْمُخَاطَبِ عَلَى مَا يَأْتِي بَعْدَهُ، فَاجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ مُؤَكِّدَاتٍ: النِّدَاءُ، وَإِنَّ، وَضَمِيرُ الْقِصَّةِ، لِعَظَمِ خَطَرِ مَا بعده الْمُفِيد تَقْرِيرِ وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْكَائِنَاتِ، وَوَصْفِهِ بِالْقُدْرَةِ الْمُحِيطَةِ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ.
وَقَدْ أُفِيدَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ الْفَحْوَى فَذُكِرَ أَدَقُّ الْكَائِنَاتِ حَالًا مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بِهِ، وَذَلِكَ أَدَقُّ الْأَجْسَامِ الْمُخْتَفِي فِي أَصْلَبِ مَكَانٍ أَوْ أَقْصَاهُ وَأَعَزِّهِ مَنَالًا، أَوْ أَوْسَعِهِ وَأَشَدِّهِ انْتِشَارًا، لِيُعْلَمَ أَنَّ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فِي الظُّهُورِ وَالدُّنُوِّ مِنَ التَّنَاوُلِ أَوْلَى بِأَنْ يُحِيطَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ.
162
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِنَصْبِ مِثْقالَ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِ تَكُ مِنْ (كَانَ) النَّاقِصَةِ، وَتَقْدِيرِ اسْمٍ لَهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ مَعَ كَوْنِ الْفِعْلِ مُسْنَدًا لِمُؤَنَّثٍ، أَيْ إِنْ تَكُ الْكَائِنَةُ، فَضَمِيرُ إِنَّها مُرَادٌ مِنْهُ الْخَصْلَةُ مِنْ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ أَخْذًا مِنَ الْمَقَامِ.
وَالْمِثْقَالُ بِكَسْرِ الْمِيمِ: مَا يُقَدَّرُ بِهِ الثِّقَلُ وَلِذَلِكَ صِيغَ عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْآلَةِ.
وَالْحَبَّةُ: وَاحِدَةُ الْحَبِّ وَهُوَ بِذْرُ النَّبَاتِ مِنْ سَنَابِلَ أَوْ قُطْنِيَّةٍ بِحَيْثُ تَكُونُ تِلْكَ الْوَاحِدَةُ زَرِيعَةً لِنَوْعِهَا مِنَ النَّبَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦١] قَوْلُهُ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ وَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٥].
وَالْخَرْدَلُ: نَبْتٌ لَهُ جِذْرٌ وَسَاقٌ قَائِمَةٌ مُتَفَرِّعَةٌ أُسْطُوَانِيَّةٌ أَوْرَاقُهَا كَبِيرَةٌ يُخْرِجُ أَزْهَارًا صَغِيرَةً صُفْرًا سُنْبُلِيَّةً تَتَحَوَّلُ إِلَى قُرُونٍ دَقِيقَةٍ مُرَبَّعَةِ الزَّوَايَا تُخْرِجُ بُزُورًا دَقِيقَةً تُسَمَّى الْخَرْدَلَ أَيْضًا، وَلُبُّ تِلْكَ الْبُزُورِ شَدِيدُ الْحَرَارَةِ يَلْدَغُ اللِّسَانَ وَالْجِلْدَ، وَهِيَ سَرِيعَةُ التَّفَتُّقِ يَنْفَتِقُ عَنْهَا قِشْرُهَا بِدَقٍّ أَوْ إِذَا بُلَّتْ بِمَائِعٍ، فَتُسْتَعْمَلُ فِي الْأَدْوِيَةِ ضِمَادَاتٍ عَلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا الْتِهَابٌ دَاخِلِيٌّ مِنْ نَزْلَةٍ أَوْ ذَاتِ جَنْبٍ وَهُوَ كَثِيرُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الطِّبِّ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَقَدْ أَخَذَ الْأَطِبَّاءُ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ بِعَقَاقِيرَ أُخْرَى. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٤٧] فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها.
وَقَوْلُهُ أَوْ فِي السَّماواتِ عَطْفٌ عَلَى فِي صَخْرَةٍ لِأَنَّ الصَّخْرَةَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَذَكَرَ بَعْدَهَا أَوْ فِي السَّماواتِ عَلَى مَعْنَى: أَوْ كَانَتْ فِي أَعَزِّ مَنَالًا مِنَ الصَّخْرَةِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ أَوْ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا الصَّخْرَةُ جُزْءٌ مِنَ الْأَرْضِ لِقَصْدِ تَعْمِيمِ الْأَمْكِنَةِ الْأَرْضِيَّةِ فَإِنَّ الظَّرْفِيَّةَ تَصْدُقُ بِهِمَا، أَيْ: ذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءٌ فِي جَانِبِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ حَيْثُ كَانَتْ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ
[يُونُس: ٦١].
وَالْإِتْيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنْهَا، وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَنِ الْعِلْمِ بِهَا لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِأَدَقِّ الْأَجْسَامِ مِنْ أَقْصَى الْأَمْكِنَةِ وَأَعْمَقِهَا وَأَصْلَبِهَا لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ عِلْمٍ بِكَوْنِهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَعِلْمٍ بِوَسَائِلِ اسْتِخْرَاجِهَا مِنْهُ.
163
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ:
- يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ فَهِيَ كَالْمَقْصِدِ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ أَوْ كَالنَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّ النَّتِيجَةَ كَبَدَلِ الِاشْتِمَالِ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْقِيَاسُ وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالنَّتِيجَةِ كُلِّيَّةً بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ بِجُزْئِيَّةٍ. وَإِنَّمَا لَمْ نَجْعَلْهَا تَعْلِيلًا لِأَنَّ مَقَامَ تَعْلِيمِ لُقْمَانَ ابْنَهُ يَقْتَضِي أَنَّ الِابْنَ جَاهِلٌ بِهَذِهِ الْحَقَائِقِ، وَشَرْطُ التَّعْلِيلِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا مَعْلُومًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْمُعَلَّلِ لِيَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ.
- وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ كَلَامِ لُقْمَانَ تَعْلِيمًا مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَاللَّطِيفُ: مَنْ يَعْلَمُ دَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ وَيَسْلُكُ فِي إِيصَالِهَا إِلَى مَنْ تَصْلُحُ بِهِ مَسْلَكَ الرِّفْقِ، فَهُوَ وَصْفٌ مُؤْذِنٌ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ الْكَامِلَيْنِ، أَيْ يَعْلَمُ وَيُقَدِّرُ وَيُنَفِّذُ قُدْرَتَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فِي سُورَة الْأَنْعَامِ [١٠٣]. فَفِي تَعْقِيبِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ بِوَصْفِهِ بِ (اللَّطِيفُ) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْهَا وَامْتِلَاكَهَا بِكَيْفِيَّةٍ دَقِيقَةٍ تُنَاسِبُ فَلْقَ الصَّخْرَةِ وَاسْتِخْرَاجَ الْخَرْدَلَةِ مِنْهَا مَعَ سلامتهما وَسَلَامَةِ مَا اتَّصَلَ بِهِمَا مِنِ اخْتِلَالِ نِظَامِ صُنْعِهِ. وَهُنَا قَدِ اسْتَوْفَى أُصُولَ الِاعْتِقَاد الصَّحِيح.
[١٧]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ١٧]
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧)
انْتَقَلَ مِنْ تَعْلِيمِهِ أُصُولَ الْعَقِيدَةِ إِلَى تَعْلِيمِهِ أُصُولَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَابْتَدَأَهَا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ التَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ بِالْخُضُوعِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَدِينُ بِهَا لُقْمَانُ، وَالصَّلَاةُ عِمَادُ الْأَعْمَالِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الِاعْتِرَافِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَلَبِ الِاهْتِدَاءِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ إِدَامَتُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَشَمِلَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ الْإِتْيَانَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كُلِّهَا عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ لِيَتَطَلَّبَ
164
بَيَانُهُ فِي تَضَاعِيفِ وَصَايَا أَبِيهِ كَمَا شَمِلَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ اجْتِنَابَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ كَذَلِكَ. وَالْأَمْرُ بِأَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنكر يَقْتَضِي إتْيَان الْأَمْرِ وَانْتِهَاءَهُ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ الَّذِي يَأْمُرُ بِفِعْلِ الْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَصَالِحَ وَمَفَاسِدَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَتَوَقَّاهَا فِي نَفْسِهِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ مِنْ أَمْرِهِ النَّاسَ وَنَهْيِهِ إِيَّاهُمْ.
فَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالتَّقْوَى، إِذْ جَمَعَ لِابْنِهِ الْإِرْشَادَ إِلَى فِعْلِهِ الْخَيْرَ وَبَثِّهِ فِي النَّاسِ وَكَفِّهِ عَنِ الشَّرِّ وَزَجْرِهِ النَّاسَ عَنِ ارْتِكَابِهِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُصِيبُهُ. وُوجْهُ تَعْقِيبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمُلَازَمَةِ الصَّبْرِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ قَدْ يَجُرَّانِ لِلْقَائِمِ بِهِمَا مُعَادَاةً مِنْ بَعْضِ النَّاسِ أَوْ أَذًى مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا لَمْ يَصْبِرْ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ جَرَّاءِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنكر أَو شكّ أَنْ يَتْرُكَهُمَا. وَلَمَّا كَانَتْ فَائِدَةُ الصَّبْرِ عَائِدَةً عَلَى الصَّابِرِ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ عُدَّ الصَّبْرُ هُنَا فِي عِدَادِ الْأَعْمَالِ الْقَاصِرَةِ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَا فِي تَحَمُّلِ أَذَى النَّاسِ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُمْ حَتَّى يَذْكُرَ الصَّبْرَ مَعَ قَوْله وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [لُقْمَان: ١٨] لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ.
وَالصَّبْرُ: هُوَ تَحَمُّلُ مَا يَحِلُّ بِالْمَرْءِ مِمَّا يُؤْلِمُ أَوْ يُحْزِنُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٥].
وَجُمْلَةُ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ مَوْقِعُهَا كَمُوقِعِ جُمْلَةِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣].
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ وَأَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
165
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا أَصَابَ. وَالتَّأْكِيدُ لِلِاهْتِمَامِ.
وَالْعَزْمُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى: الْجَزْمِ وَالْإِلْزَامِ. وَالْعَزِيمَةُ: الْإِرَادَةُ الَّتِي لَا تَرَدُّدَ فِيهَا.
وعَزْمِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مِنْ مَعْزُومِ الْأُمُورِ، أَيِ الَّتِي عَزَمَهَا الله وأوجبها.
[١٨]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ١٨]
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨)
انْتَقَلَ لُقْمَانُ بِابْنِهِ إِلَى الْآدَابِ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ فَنَهَاهُ عَنِ احْتِقَارِ النَّاسَ وَعَنِ التَّفَخُّرِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَمْرَهُ بِإِظْهَارِ مُسَاوَاتِهِ مَعَ النَّاسِ وَعَدِّ نَفْسِهِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَا تُصَاعِرْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَلا تُصَعِّرْ. يُقَالُ: صَاعَرَ وَصَعَّرَ، إِذَا أَمَالَ عُنُقَهُ إِلَى جَانِبٍ لِيُعْرِضَ عَنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّعَرِ بِالتَّحْرِيكِ لِدَاءٍ يُصِيبُ الْبَعِيرَ فَيَلْوِي مِنْهُ عُنُقَهُ فَكَأَنَّهُ صِيغَ لَهُ صِيغَةَ تَكَلُّفٍ بِمَعْنَى تَكَلُّفِ إِظْهَارِ الصَّعَرِ وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلِاحْتِقَارِ لِأَنَّ مُصَاعَرَةَ الْخَدِّ هَيْئَةُ الْمُحْتَقِرِ الْمُسْتَخِفِّ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ حُنَيٍّ التَّغْلِبِيُّ يُخَاطِبُ بَعْضَ مُلُوكِهِمْ:
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَ
وَالْمَعْنَى: لَا تَحْتَقِرِ النَّاسَ فَالنَّهْيُ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمُ احْتِقَارًا لَهُمْ لَا عَنْ خُصُوصِ مُصَاعَرَةِ الْخَدِّ فَيَشْمَلُ الِاحْتِقَارَ بِالْقَوْلِ وَالشَّتْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الْإِسْرَاء: ٢٣] إِلَّا أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ كَنَائِيٌّ وَالْآخَرُ كِنَايَةٌ لَا تَمْثِيلَ فِيهَا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً تَمْثِيلٌ كَنَائِيٌّ عَنِ النَّهْيِ عَنِ التَّكَبُّرِ
166
وَالتَّفَاخُرُ لَا عَنْ خُصُوصِ الْمَشْيِ فِي حَالِ الْمَرَحِ فَيَشْمَلُ الْفَخْرَ عَلَيْهِمْ بِالْكَلَامِ وَغَيْرِهِ.
وَالْمَرَحُ: فَرْطُ النَّشَاطِ مِنْ فَرَحٍ وَازْدِهَاءٍ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْمَشْيِ تَبَخْتُرًا وَاخْتِيَالًا فَلِذَلِكَ يُسَمَّى ذَلِكَ الْمَشْيُ مَرَحًا كَمَا فِي الْآيَةِ، فَانْتِصَابُهُ عَلَى الصِّفَةِ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، أَيْ مَشْيًا مَرَحًا، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣٧]. وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ لَا تَمْشِ مَعَ أَنَّ الْمَشْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ هُوَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَشْيَ فِي مَكَانٍ يَمْشِي فِيهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ قَوِيُّهُمْ وَضَعِيفُهُمْ، فَفِي ذَلِكَ مَوْعِظَةٌ لِلْمَاشِي مَرَحًا أَنَّهُ مُسَاوٍ لِسَائِرِ النَّاسِ.
وَمَوْقِعُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ مُوقِعُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لُقْمَان: ١٦] كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمُخْتَالُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اخْتَالَ بِوَزْنِ الِافْتِعَالِ مِنْ فِعْلِ خَالَ إِذَا كَانَ ذَا خُيَلَاءَ، فَهُوَ خَائِلٌ. وَالْخُيَلَاءُ: الْكِبْرُ وَالِازْدِهَاءُ، فَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ فَوَزْنُ الْمُخْتَالِ مُخْتِيلٌ فَلَمَّا تَحَرَّكَ حَرْفُ الْعِلَّةِ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهُ قُلِبَ أَلِفًا، فَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ مُقَابِلُ قَوْلِهِ وَلَا تُصَاعِرْ خَدَّكَ للنَّاس، وَقَوله فَخُورٍ مُقَابِلُ قَوْلِهِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً.
وَالْفَخُورُ: شَدِيدُ الْفَخْرِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٣٦].
وَمَعْنَى إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُخْتَالِينَ الْفَخُورِينَ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَهْلِ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يَكُونَ مُفَادُهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَجْمُوعَ الْمُخْتَالِينَ الْفَخُورِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ مِنْ أَنَّ كُلَّ إِذَا وَقَعَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ مُؤَخَّرًا عَنْ أَدَاتِهِ يَنْصَبُّ النَّفْيُ عَلَى الشُّمُولِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي كُلَّ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا تَأْكِيدُ الْإِحَاطَةِ لَا فِي كُلَّ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا الْأَفْرَادُ، وَالتَّعْوِيلُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَرَائِنِ. عَلَى أَنَّا نَرَى مَا ذكره الشَّيْخ أَمر أغلبي غَيْرَ مُطَّرِدٍ فِي اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَلِذَلِكَ نَرَى صِحَّةَ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فِي لَفْظِ (كُلَّ) فِي قَوْلِ أَبِي النَّجْمِ الْعِجْلِيِّ:
قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي عَلَيَّ ذَنْبًا كُلَّهُ لَمْ أَصْنَعِ
وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي تَعْلِيقَاتِي عَلَى دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ.
167
وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ يَجُوزُ فِيهِ مَا مَضَى فِي جُمْلَةِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣] وَجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لُقْمَان: ١٦]، وَجُمْلَةِ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لُقْمَان: ١٧].
[١٩]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ١٩]
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُ آدَابَ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ قَفَّاهَا بِحُسْنِ الْآدَابِ فِي حَالَتِهِ الْخَاصَّةِ، وَتِلْكَ حَالَتَا الْمَشْيِ وَالتَّكَلُّمِ، وَهَمَا أَظْهَرُ مَا يَلُوحُ عَلَى الْمَرْءِ مِنْ آدَابِهِ.
وَالْقَصْدُ: الْوَسَطُ الْعَدْلُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، فَالْقَصْدُ فِي الْمَشْيِ هُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ طَرَفِ التَّبَخْتُرِ وَطَرَفِ الدَّبِيبِ وَيُقَالُ: قَصَدَ فِي مَشْيِهِ. فَمَعْنَى اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ: ارْتَكِبِ الْقَصْدَ.
وَالْغَضُّ: نَقْصُ قُوَّةِ اسْتِعْمَالِ الشَّيْءِ. يُقَالُ: غَضَّ بَصَرَهُ، إِذَا خَفَضَ نَظَرَهُ فَلَمْ يُحَدِّقْ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ فِي سُورَةِ النُّورِ [٣٠].
فَغَضُّ الصَّوْتِ: جَعْلُهُ دُونَ الْجَهْرِ. وَجِيءَ بِ مِنْ الدَّالَّةِ عَلَى التَّبْعِيضِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ يَغُضُّ بَعْضَهُ، أَيْ بَعْضَ جَهْرِهِ، أَيْ يَنْقُصُ مِنْ جُهُوَرَتِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى التَّخَافُتِ وَالسِّرَارِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ تَعْلِيلٌ عَلَّلَ بِهِ الْأَمْرَ بِالْغَضِّ مِنْ صَوْتِهِ بِاعْتِبَارِهَا مُتَضَمِّنَةً تَشْبِيهًا بَلِيغًا، أَيْ لِأَنَّ صَوْتَ الْحَمِيرِ أَنْكَرُ الْأَصْوَاتِ. وَرَفْعُ الصَّوْتِ فِي
الْكَلَامِ يُشْبِهُ نَهِيقَ الْحَمِيرِ فَلَهُ حَظٌّ مِنَ النَّكَارَةِ.
وأَنْكَرَ: اسْمُ تَفْضِيلٍ فِي كَوْنِ الصَّوْتِ مَنْكُورًا، فَهُوَ تَفْضِيلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ وَمِثْلُهُ سَمَاعِيٌّ وَغَيْرُ شَاذٍّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: «أَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النَّحْيَيْنِ» أَيْ أَشَدُّ مَشْغُولِيَّةً مِنَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أُرِيدَتْ فِي هَذَا الْمَثَلِ.
وَإِنَّمَا جَمَعَ الْحَمِيرِ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ مَعَ أَن صَوت مُفردا وَلَمْ يَقُلِ الْحِمَارَ لِأَنَّ الْمُعَرَّفَ بِلَامِ الْجِنْسِ يَسْتَوِي مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ. وَلِذَلِكَ يُقَالُ: إِنَّ لَامَ الْجِنْسِ إِذَا دَخَلَتْ
168
عَلَى جَمْعٍ أَبْطَلَتْ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا أُوثِرَ لَفْظُ الْجَمْعِ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْحَمِيرِ أَسْعَدُ بِالْفَوَاصِلِ لِأَنَّ مِنْ مَحَاسِنِ الْفَوَاصِلِ وَالْأَسْجَاعِ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى أَحْكَامِ الْقَوَافِي، وَالْقَافِيَةُ الْمُؤَسَّسَةُ بِالْوَاوِ أَوِ الْيَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ مَعَهَا أَلِفُ تَأْسِيسٍ فَإِنَّ الْفَوَاصِلَ الْمُتَقَدِّمَةَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لُقْمَانَ: ١٢] هِيَ: حَمِيدٌ، عَظِيمٌ، الْمَصِيرُ، خَبِيرٌ، الْأُمُورِ، فَخُورٍ، الْحَمِيرِ. وَفَوَاصِلُ الْقُرْآنِ تَعْتَمِدُ كَثِيرًا عَلَى الْحَرَكَاتِ وَالْمُدُودِ وَالصِّيَغِ دُونَ تَمَاثُلِ الْحُرُوفِ وَبِذَلِكَ تُخَالِفُ قَوَافِيَ الْقَصَائِدِ. وَهَذَا وَفَاءٌ بِمَا وَعَدْتُ بِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ مِنْ ذِكْرِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ تَتَبُّعِي لِمَا أُثِرَ مِنْ حِكْمَةِ لُقْمَانَ غَيْرَ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَقَدْ ذَكَرَ الْآلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» مِنْهَا ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ حِكْمَةً وَهِيَ:
قَوْلُهُ لِابْنِهِ: أَيْ بُنَيَّ، إِنِ الدُّنْيَا بَحْرٌ عَمِيقٌ، وَقَدْ غَرِقَ فِيهَا أُنَاسٌ كَثِيرٌ فَاجْعَلْ سَفِينَتَكَ فِيهَا تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحَشَوْهَا الْإِيمَانُ، وَشِرَاعَهَا التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَعَلَّكَ أَنْ تَنْجُوَ وَلَا أَرَاكَ نَاجِيًا.
وَقَوْلُهُ: مَنْ كَانَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَاعِظٌ كَانَ لَهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَافِظٌ، وَمَنْ أَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عِزًّا، وَالذُّلُّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْرَبُ مِنَ التَّعَزُّزِ بِالْمَعْصِيَةِ.
وَقَوْلُهُ: ضَرْبُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ كَالسَّمَادِ لِلزَّرْعِ.
وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ إيَّاكَ وَالدَّيْنَ فَإِنَّهُ ذُلُّ النَّهَارِ وَهَمُّ اللَّيْلِ.
وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ ارْجُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَجَاء لَا يجرّئك عَلَى مَعْصِيَتِهِ تَعَالَى، وَخَفِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَوْفًا لَا يُؤَيِّسُكَ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى شَأْنُهُ.
وَقَوْلُهُ: مَنْ كَذَبَ ذَهَبَ مَاءُ وَجْهِهِ، وَمَنْ سَاءَ خُلُقُهُ كَثُرَ غَمُّهُ، وَنَقْلُ الصُّخُورِ مِنْ مَوَاضِعِهَا أَيْسَرُ مِنْ إِفْهَامِ مَنْ لَا يَفْهَمُ.
وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ حَمَلْتُ الْجَنْدَلَ وَالْحَدِيدَ وَكُلَّ شَيْءٍ ثَقِيلٍ فَلَمْ أَحْمِلْ شَيْئًا هُوَ أَثْقَلُ مِنْ جَارِ السُّوءِ، وَذُقْتُ الْمَرَارَ فَلَمْ أَذُقْ شَيْئًا هُوَ أَمَرُّ مِنَ الْفَقْرِ.
يَا بُنَيَّ لَا تُرْسِلْ رَسُولَكَ جَاهِلًا فَإِنْ لَمْ تَجِدْ حَكِيمًا فَكُنْ رَسُولَ نَفْسِكَ.
169
يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّهُ شَهِيٌّ كَلَحْمِ الْعُصْفُورِ عَمَّا قَلِيلٍ يُغْلَى صَاحِبُهُ.
يَا بُنَيَّ، احْضُرِ الْجَنَائِزَ وَلَا تَحْضُرِ الْعُرْسَ فَإِنَّ الْجَنَائِزَ تُذَكِّرُكَ الْآخِرَةَ وَالْعُرْسَ يُشَهِّيكَ الدُّنْيَا.
يَا بُنَيَّ، لَا تَأْكُلْ شِبَعًا عَلَى شِبَعٍ فَإِنَّ إِلْقَاءَكَ إِيَّاهُ لِلْكَلْبِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَأْكُلَهُ.
يَا بُنَيَّ، لَا تَكُنْ حُلْوًا فَتُبْلَعْ وَلَا تَكُنْ مُرًّا فَتُلْفَظْ.
وَقَوْلُهُ لِابْنِهِ: لَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا الْأَتْقِيَاءُ، وَشَاوِرْ فِي أَمْرِكَ الْعُلَمَاءَ.
وَقَوْلُهُ: لَا خَيْرَ لَكَ فِي أَنْ تَتَعَلَّمَ مَا لَمْ تَعْلَمْ وَلَمَّا تَعْمَلْ بِمَا قَدْ عَلِمْتَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ احْتَطَبَ حَطَبًا فَحَمَلَ حُزْمَةً وَذَهَبَ يَحْمِلُهَا فَعَجَزَ عَنْهَا فَضَمَّ إِلَيْهَا أُخْرَى.
وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ، إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُوَاخِيَ رَجُلًا فَأَغْضِبْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنْ أَنْصَفَكَ عِنْدَ غَضَبِهِ وَإِلَّا فَاحْذَرْهُ.
وَقَوْلُهُ: لِتَكُنْ كَلِمَتُكَ طَيِّبَةً، وَلْيَكُنْ وَجْهُكَ بَسْطًا تَكُنْ أَحَبَّ إِلَى النَّاسِ مِمَّنْ يُعْطِيهِمُ الْعَطَاءَ.
وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ، أَنْزِلْ نَفْسَكَ مِنْ صَاحِبِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ بِكَ وَلَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ.
يَا بُنَيَّ، كُنْ كَمَنْ لَا يَبْتَغِي مَحْمَدَةَ النَّاسِ وَلَا يَكْسِبُ ذَمَّهُمْ فَنَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ.
وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ، امْتَنِعْ بِمَا يَخْرُجُ مِنْ فِيكَ فَإِنَّكَ مَا سَكَتَّ سَالِمٌ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لَكَ مِنَ الْقَوْلِ مَا يَنْفَعُكَ.
وَأَنَا أُقَفِّي عَلَيْهَا مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآلُوسِيُّ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي «الْمُوَطَّأِ» فِيمَا جَاءَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ كِتَابِ «الْجَامِعِ» : مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ أَوْصَى ابْنَهُ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ بِنُورِ الْعِلْمِ كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ
بِوَابِلِ السَّمَاءِ.
170
وَفِيهِ فِيمَا جَاءَ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ من كتاب وَفِيه فِيمَا جَاءَ فِي الصدْق وَالْكذب مِنْ كِتَابِ «الْجَامِعِ» أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ قِيلَ لِلُقْمَانَ: مَا بَلَغَ بِكَ مَا نَرَى- يُرِيدُونَ الْفَضْلَ؟ فَقَالَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي.
وَفِي «جَامِعِ الْمُسْتَخْرَجَةِ» لِلْعُتْبِيِّ قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لِيَكُنْ أَوَّلُ مَا تُفِيدُ مِنَ الدُّنْيَا بَعْدَ خَلِيلٍ صَالِحٍ امْرَأَةً صَالِحَةً. وَفِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لِابْنِ الْعَرَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ:
أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّ النَّاسَ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ مَا يُوعَدُونَ وَهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ سِرَاعًا يَذْهَبُونَ، وَإِنَّكَ قَدِ اسْتَدْبَرْتَ الدُّنْيَا مُنْذُ كُنْتَ وَاسْتَقْبَلْتَ الْآخِرَةَ، وَإِنَّ دَارًا تَسِيرُ إِلَيْهَا أَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ دَارٍ تَخْرُجُ عَنْهَا. وَقَالَ: لَيْسَ غِنًي كَصِحَّةٍ، وَلَا نِعْمَةٌ كَطِيبِ نَفْسٍ. وَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَا تُجَالِسِ الْفُجَّارَ وَلَا تُمَاشِهِمْ اتَّقِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فَيُصِيبَكَ مَعَهُمْ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، جَالِسِ الْعُلَمَاءِ وَمَاشِهِمْ عَسَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ فَتُصِيبَكَ مَعَهُمْ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ: إِنْ كُنْتَ تَرَانِي غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا كَلَامٌ رَقِيقٌ، وَإِنْ كُنْتَ تَرَانِي أَسْوَدَ فَقَلْبِي أَبْيَضُ. وَأَنَّ مَوْلَاهُ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شَاةٍ وَأَنْ يَأْتِيَهُ بِأَطْيَبِ مُضْغَتَيْنِ فَأَتَاهُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ أُخْرَى وَأَنْ أَلْقِ مِنْهَا أَخْبَثَ مُضْغَتَيْنِ، فَأَلْقَى اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: هُمَا أَطْيَبُ مَا فِيهَا إِذَا طَابَا وَأَخْبَثُ مَا فِيهَا إِذَا خَبُثَا.
وَدَخَلَ عَلَى دَاوُدَ وَهُوَ يَسْرُدُ الدُّرُوعَ فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّاذَا يَصْنَعُ، فَأَدْرَكَتْهُ الْحِكْمَةُ فَسَكَتَ، فَلَمَّا أَتَمَّهَا دَاوُدُ لَبِسَهَا وَقَالَ: نِعْمَ لَبُوسُ الْحَرْبِ أَنْتِ. فَقَالَ لُقْمَانُ: الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ. وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّة» : قيل لُقْمَان: أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ فَقَالَ: الَّذِي لَا يُبَالِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ سَيِّئًا أَوْ مُسِيئًا.
وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» : كَانَ لُقْمَانُ يُفْتِي قَبْلَ مَبْعَثِ دَاوُدَ فَلَمَّا بُعِثَ دَاوُدُ قَطَعَ الْفَتْوَى.
فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: أَلَا أَكْتَفِي إِذَا كُفِيتُ. وَفِيهِ: إِنَّ الْحَاكِمَ بِأَشَدِّ الْمَنَازِلِ وَكَدَرِهَا يَغْشَاهُ الْمَظْلُومُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ إِنْ يُصِبْ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْجُوَ وَإِنْ أَخْطَأَ أَخْطَأَ
171
طَرِيقَ الْجَنَّةِ. وَمَنْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا ذَلِيلًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرِيفًا. وَمَنْ يَخْتَرِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ تَفُتْهُ الدُّنْيَا وَلَا يُصِبِ الْآخِرَةَ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ» : أَنَّ دَاوُدَ سَأَلَ لُقْمَانُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَقَالَ:
أَصْبَحْتُ فِي يَدِي غَيْرِي. وَفِي «دُرَّةِ التَّنْزِيلِ» الْمَنْسُوبِ لِفَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: إِنَّ اللَّهَ رَضِيَنِي لَكَ فَلَمْ يُوصِنِي بِكَ وَلَمْ يَرْضَكَ لِي فَأَوْصَاكَ بِي. وَفِي «الشِّفَاءِ» لِعِيَاضٍ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: إِذَا امْتَلَأَتِ الْمَعِدَةُ نَامَتِ الْفِكْرَةُ وَخَرِسَتِ الْحِكْمَةُ وَقَعَدَتِ الْأَعْضَاءُ عَنِ الْعِبَادَةِ.
وَفِي كِتَابِ «آدَابِ النِّكَاحِ» لِقَاسِمِ بْنِ يَأْمُونَ التَّلِيدِيِّ الْأَخْمَاسِيِّ (١) : أَنَّ مِنْ وَصِيَّةِ لُقْمَانَ: يَا بُنَيَّ إِنَّمَا مَثَلُ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ كَمَثَلِ الدُّهْنِ فِي الرَّأْسِ يُلِينُ الْعُرُوقَ وَيُحَسِّنُ الشَّعْرَ، وَمَثَلُهَا كَمَثَلِ التَّاجِ عَلَى رَأْسِ الْمَلِكِ، وَمَثَلُهَا كَمَثَلِ اللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا قِيمَتُهُ. وَمَثَلُ الْمَرْأَةِ السُّوءِ كَمَثَلِ السَّيْلِ لَا يَنْتَهِي حَتَّى يَبْلُغَ مُنْتَهَاهُ: إِذَا تَكَلَّمَتْ أَسْمَعَتْ، وَإِذَا مَشَتْ أَسْرَعَتْ، وَإِذَا قَعَدَتْ رَفَعَتْ، وَإِذَا غَضِبَتْ أَسْمَعَتْ. وَكُلُّ دَاءٍ يَبْرَأُ إِلَّا دَاءَ امْرَأَةِ السُّوءِ.
يَا بُنَيَّ، لَأَنْ تُسَاكِنَ الْأَسَدَ وَالْأُسُودَ (٢) خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُسَاكِنَهَا: تَبْكِي وَهِيَ الظَّالِمَةُ، وَتَحْكُمُ وَهِيَ الْجَائِرَةُ، وَتَنْطِقُ وَهِيَ الْجَاهِلَةُ وَهِيَ أَفْعَى بِلَدْغِهَا.
وَفِي «مَجْمَعِ الْبَيَانِ» لِلطَّبَرَسِيِّ: يَا بُنَيَّ، سَافِرْ بِسَيْفِكَ وَخُفِّكَ وَعِمَامَتِكَ وَخِبَائِكَ وَسِقَائِكَ وَخُيُوطِكَ وَمِخْرَزِكَ، وَتَزَوَّدْ مَعَكَ مِنَ الْأَدْوِيَةِ مَا تَنْتَفِعُ بِهِ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، وَكُنْ لِأَصْحَابِكَ مُوَافِقًا إِلَّا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. يَا بُنَيَّ، إِذَا سَافَرْتَ مَعَ قَوْمٍ فَأَكْثِرِ اسْتِشَارَتَهُمْ فِي أَمْرِكَ وَأُمُورِهِمْ، وَأَكْثِرِ التَّبَسُّمَ فِي وُجُوهِهِمْ، وَكُنْ كَرِيمًا عَلَى زَادِكَ بَيْنَهُمْ، فَإِذَا دَعَوْكَ فَأَجِبْهُمْ، وَإِذَا اسْتَعَانُوا بِكَ فَأَعْنِهِمْ، وَاسْتَعْمِلْ طُولَ الصَّمْتِ
_________
(١) بالمكتبة الأحمدية عدد ٢١٢٨ وطبع فِي فاس سنة ١٣١٧.
(٢) يُرِيد ذكر الحيّات.
172
وَكَثْرَةَ الصَّلَاةِ، وَسَخَاءَ النَّفْسِ بِمَا مَعَكَ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ زَادٍ، وَإِذَا اسْتَشْهَدُوكَ عَلَى الْحَقِّ فَاشْهَدْ لَهُمْ، وَاجْهَدْ رَأْيَكَ لَهُمْ إِذَا اسْتَشَارُوكَ، ثُمَّ لَا تَعْزِمْ حَتَّى تَثْبُتَ وَتَنْظُرَ، وَلَا تُجِبْ فِي مشورته حَتَّى تَقُومَ فِيهَا وَتَقْعُدَ وَتَنَامَ وَتَأْكُلَ وَتُصَلِّي وَأَنْتَ مُسْتَعْمِلٌ فِكْرَتَكَ وَحِكْمَتَكَ فِي مَشُورَتِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَمْحَضِ النَّصِيحَةَ مَنِ اسْتَشَارَهُ سَلَبَهُ اللَّهُ رَأْيَهُ، وَإِذَا رَأَيْتَ أَصْحَابَكَ يَمْشُونَ فَامْشِ مَعَهُمْ، فَإِذَا رَأَيْتَهُمْ يَعْمَلُونَ فَاعْمَلْ مَعَهُمْ، وَاسْمَعْ لِمَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْكَ سِنًّا. وَإِذَا أَمَرُوكَ بِأَمْرٍ وَسَأَلُوكَ شَيْئًا فَقُلْ نَعَمْ وَلَا تَقُلْ (لَا) فَإِنَّ (لَا) عِيٌّ وَلُؤْمٌ، وَإِذَا تَحَيَّرْتُمْ فِي الطَّرِيقِ فَانْزِلُوا، وَإِذَا شَكَكْتُمْ فِي الْقَصْدِ فَقِفُوا وَتَآمَرُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمْ شَخْصًا وَاحِدًا فَلَا تَسْأَلُوهُ عَنْ طَرِيقِكُمْ وَلَا تَسْتَرْشِدُوهُ فَإِنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ فِي الْفَلَاةِ مُرِيبٌ لَعَلَّهُ يَكُونُ عَيْنَ اللُّصُوصِ أَوْ يَكُونُ هُوَ الشَّيْطَانَ الَّذِي حَيَّرَكُمْ. وَاحْذَرُوا الشَّخْصَيْنِ أَيْضًا إِلَّا أَنْ تَرَوْا مَا لَا أَرَى لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا أَبْصَرَ بِعَيْنِهِ شَيْئًا عَرَفَ الْحَقَّ مِنْهُ وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ.
يَا بُنَيَّ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَلَا تُؤَخِّرْهَا لِشَيْءٍ، صَلِّهَا وَاسْتَرِحْ مِنْهَا فَإِنَّهَا دَيْنٌ، وَصَلِّ فِي جَمَاعَةٍ وَلَوْ عَلَى رَأْسِ زَجٍّ. وَإِذَا أَرَدْتُمُ النُّزُولَ فَعَلَيْكُمْ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ بِأَحْسَنِهَا
لَوْنًا وَأَلْيَنِهَا تُرْبَةً وَأَكْثَرِهَا عُشْبًا. وَإِذَا نَزَلْتَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ، وَإِذَا أَرَدْتَ قَضَاءَ حَاجَتِكَ فَأَبْعِدِ الْمَذْهَبَ فِي الْأَرْضِ. وَإِذَا ارْتَحَلْتَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ وَدِّعِ الْأَرْضَ الَّتِي حَلَلْتَ بِهَا وَسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهَا فَإِنَّ لِكُلِّ بُقْعَةٍ أَهْلًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَأْكُلَ طَعَامًا حَتَّى تَبْتَدِئَ فَتَتَصَدَّقَ مِنْهُ فَافْعَلْ. وَعَلَيْكَ بِقِرَاءَةِ كِتَابِ اللَّهِ- لَعَلَّهُ يَعْنِي الزَّبُورَ- مَا دُمْتَ رَاكِبًا، وَعَلَيْكَ بِالتَّسْبِيحِ مَا دُمْتَ عَامِلًا عَمَلًا، وَعَلَيْكَ بِالدُّعَاءِ مَا دُمْتَ خَالِيًا. وَإِيَّاكَ وَالسَّيْرَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ. وَإِيَّاكَ وَرَفْعَ الصَّوْتِ فِي مَسِيرِكَ. فَقَدَ اسْتَقْصَيْنَا مَا وَجَدْنَا مِنْ حِكْمَةِ لُقْمَانَ مِمَّا يُقَارِبُ سَبْعِينَ حِكْمَةً.
[٢٠]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : الْآيَات ٢٠ الى ٢١]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً.
رُجُوعٌ إِلَى تَعْدَادِ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَمَا صَحِبَ ذَلِكَ مِنْ مِنَّةٍ عَلَى الْخَلْقِ، فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَرُجُوعٌ إِلَى مَا سَلَفَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ
173
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ [لُقْمَان: ١٠] فَإِنَّهُ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْحَيَوَانِ وَالْأَمْطَارِ عَادَ هُنَا الِاسْتِدْلَالُ وَالِامْتِنَانُ بِأَنْ سَخَّرَ لَنَا مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّسْخِيرِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٣٢]، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٣].
وَمَعْنَى سَخَّرَ لَكُمْ لِأَجْلِكُمْ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ التَّسْخِيرِ مَا هُوَ مَنَافِعُ لَنَا مِنَ الْأَمْطَارِ وَالرِّيَاحِ وَنُورِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَوَاقِيتِ الْبُرُوجِ وَالْمَنَازِلِ وَالِاتِّجَاهِ بِهَا. وَالْخِطَابُ فِي أَلَمْ تَرَوْا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَمُشْرِكِهِمْ لِأَنَّهُ امْتِنَانٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِخُصُوصِ الْمُشْرِكِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَمْ تَرَوْا تَقْرِيرٌ أَوْ إِنْكَارٌ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَرَوْا آثَارَ ذَلِكَ التَّسْخِيرِ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا فِي إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ. وَرُؤْيَةُ التَّسْخِيرِ رُؤْيَةُ آثَارِهِ وَدَلَائِلِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةً كَذَلِكَ، وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها.
وَإِسْبَاغُ النِّعَمِ: إِكْثَارُهَا. وَأَصْلُ الْإِسْبَاغِ: جَعْلُ مَا يُلْبَسُ سَابِغًا، أَيْ وَافِيًا فِي السِّتْرِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: دِرْعٌ سَابِغَةٌ. ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْإِكْثَارِ لِأَنَّ الشَّيْءَ السَّابِغَ كَثِيرٌ فِيهِ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ مِنْ سَرْدٍ أَوْ شُقَقِ أَثْوَابٍ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَة فَقِيلَ: سَوَابِغُ النِّعَمِ.
وَالنِّعْمَةُ: الْمَنْفَعَةُ الَّتِي يَقْصِدُ بِهَا فَاعِلُهَا الْإِحْسَانَ إِلَى غَيْرِهِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ نِعَمَهُ بِصِيغَةِ جَمْعِ نِعْمَةٍ مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَنْوِيهٌ بِهَذِهِ النِّعَمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ نِعْمَةٌ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ الْجِنْسَ اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ.
وَالتَّنْكِيرُ فِيهَا لِلتَّعْظِيمِ فَاسْتَوَى الْقِرَاءَتَانِ فِي إِفَادَةِ التَّنْوِيهِ بِمَا أَسْبَغَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
174
وَانْتَصَبَ ظاهِرَةً وَباطِنَةً عَلَى الْحَالِ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَعَلَى الصِّفَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْبَقِيَّةِ.
وَالظَّاهِرَةُ: الْوَاضِحَةُ. وَالْبَاطِنَةُ: الْخَفِيَّةُ وَمَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِدَلِيلٍ أَوْ لَا يُعْلَمُ أَصْلًا.
وَأَصْلُ الْبَاطِنَةِ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي بَاطِنِ الشَّيْءِ أَيْ دَاخِلِهِ، قَالَ تَعَالَى: باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ [الْحَدِيد: ١٣] فَكَمْ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَأَحْوَالِهِ مِنْ نِعَمٍ يَعْلَمُهَا النَّاسُ أَوْ لَا يَعْلَمُهَا بَعْضُهُمْ، أَوْ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ، أَوْ لَا يَعْلَمُهَا أَهْلُ عَصْرٍ ثُمَّ تَنْكَشِفُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَكِلَا النَّوْعَيْنِ أَصْنَافٌ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١).
الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ وَاوُ الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: قَدْ رَأَيْتُمْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ نِعَمًا ضَافِيَةً فِي حَالِ أَنَّ بَعْضَكُمْ يُجَادِلُ فِي وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَيَتَعَامَى عَنْ دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّتِهِ. وَجُمْلَةُ الْحَالِ هُنَا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ هَذَا الْفَرِيقِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ اعْتِرَاضِيَّةً وَالْجُمْلَةَ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [لُقْمَان: ٢٥].
وَقَوْلُهُ وَمِنَ النَّاسِ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنْكُمْ، ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْفَرِيقِ: هُمُ الْمُتَصَدُّونَ لِمُحَاجَّةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّمْوِيهِ عَلَى قَوْمِهِمْ مِثْلُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى.
وَشَمِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ مَرَاتِبَ اكْتِسَابِ الْعِلْمِ وَهِيَ إِمَّا:
الِاجْتِهَادُ وَالِاكْتِسَابُ، أَوِ التَّلَقِّي مِنَ الْعَالِمِ، أَوْ مُطَالَعَةُ الْكُتُبِ الصَّائِبَةِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ
175
وَجُمْلَةُ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى صِلَةِ مِنَ، أَيْ: مِنْ حَالِهِمْ هَذَا وَذَاكَ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٠].
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ يَدْعُوهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْآبَاءِ، أَيْ أَيَتَّبِعُونَ آبَاءَهُمْ وَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُو الْآبَاءَ إِلَى الْعَذَابِ فَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ إِلَى الْعَذَابِ وَلَا يَهْتَدُونَ. ولَوْ وصلية، وَالْوَاو مَعهَا لِلْحَالِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبِيٌّ مِنْ فظاعة ضلالهم وَعَما هم بِحَيْثُ يَتَّبِعُونَ مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى النَّارِ، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ. وَهُوَ وَزَانُ قَوْلِهِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٠] : أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً. وَالدُّعَاءُ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ: الدُّعَاءُ إِلَى أَسْبَابِهِ. وَالسَّعِيرُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً فِي سُورَة الْإِسْرَاء [٩٧].
[٢٢]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٢]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢)
هَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لُقْمَان: ٢٠] إِلَى قَوْلِهِ:
يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [لُقْمَان: ٢١]، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا وجدوا ءاباءهم عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ فَوَقَعُوا فِي الْعَذَابِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِدِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَمُوا لِلَّهِ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَصُدَّهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ إِلْفٌ وَلَا تَقْدِيسُ آبَاءٍ فَأُولَئِكَ تَعَلَّقُوا بِالْأَوْهَامِ وَاسْتَمْسَكُوا بِهَا لِإِرْضَاءِ أَهْوَائِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ اسْتَمْسَكُوا بِالْحَقِّ إِرْضَاءً لِلدَّلِيلِ وَأُولَئِكَ أَرْضَوُا الشَّيْطَانَ وَهَؤُلَاءِ اتَّبَعُوا رِضَى اللَّهِ.
وَإِسْلَامُ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ تَمْثِيلٌ لِإِفْرَادِهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ كَأَنَّهُ لَا يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٢]، وَقَوْلِهِ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٠].
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يُسْلِمْ بِحَرْفٍ إِلَى هُنَا دُونَ اللَّامِ كَمَا فِي آيَتَيْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٢] وَسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٠] عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ مَجَازٌ فِي الْفِعْلِ بِتَشْبِيهِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ بِالْمَتَاعِ الَّذِي
يَدْفَعُهُ صَاحِبُهُ إِلَى آخَرَ وَيَكِلُهُ إِلَيْهِ. وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُعَدَّى بِاللَّامِ، أَيْ وَجْهَهُ وَهُوَ ذَاتُهُ سَالِمًا
لِلَّهِ، أَيْ خَالِصًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٠].
وَالْإِحْسَانُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالْإِخْلَاصُ فِي الْعِبَادَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
. وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يُسْلِمْ إِسْلَامًا لَا نِفَاقَ فِيهِ وَلَا شَكَّ فَقَدْ أَخَذَ بِمَا يَعْتَصِمُ بِهِ مِنَ الْهُوِيِّ أَوِ التَّزَلْزُلِ.
وَقَوْلُهُ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى مَضَى الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥]، وَهُوَ ثَنَاءٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَتَذْيِيلُ هَذَا بِقَوْلِهِ وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ إِيمَاءٌ إِلَى وَعْدِهِمْ بِلِقَاءِ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ فِي آخِرِ أَمْرِهِمْ وَهُوَ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأُمُورِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ تَعْمِيمٌ يُرَادُ بِهِ أَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي هِيَ مِنْ مَشْمُولَاتِ عُمُومِ الْأُمُورِ صَائِرَةٌ إِلَى اللَّهِ وَمَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ فَجَزَاؤُهُمْ بِالْخَيْرِ مُنَاسِبٌ لِعَظَمَةِ اللَّهِ.
وَالْعَاقِبَةُ: الْحَالَةُ الْخَاتِمَةُ وَالنِّهَايَةُ. والْأُمُورِ: جَمْعٌ أَمْرٍ وَهُوَ الشَّأْنُ.
وَتَقْدِيمُ إِلَى اللَّهِ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّنْبِيهِ إِلَى أَنَّ الرَّاجِعَ إِلَيْهِ يُلَاقِي جزاءه وافيا.
[٢٣]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٣]
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣)
لَمَّا خَلَا ذَمُّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَنِ الْوَعِيدِ وَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَدْحِ الْمُسْلِمِينَ وَوَعْدِهِمْ عَطَفَ عِنَانَ الْكَلَامِ إِلَى تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَهْوِينِ كُفْرِهِمْ عَلَيْهِ تَسْلِيَةً لَهُ وَتَعْرِيضًا بِقِلَّةِ الْعِبْءِ بِهِمْ لِأَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَيُرِيهِمُ الْجَزَاءَ الْمُنَاسِبَ لِكُفْرِهِمْ، فَهُوَ تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِالْوَعِيدِ.
وَأُسْنِدَ النَّهْيُ إِلَى كُفْرِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحْزِنًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَازًا عَقْلِيًّا فِي نَهْيِ
الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ مُدَاوَمَةِ الْفِكْرِ بِالْحُزْنِ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ لِأَنَّهُ إِذَا قَلَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ انْتَفَى إِحْزَانُ كُفْرِهِمْ إِيَّاهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ يَحْزُنْكَ- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الزَّايِ- مُضَارِعُ أَحْزَنَهُ إِذَا جَعَلَهُ حَزِينًا. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ يَحْزُنْكَ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الزَّايِ- مُضَارِعُ حَزَنَهُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَهُمَا لُغَتَانِ: الْأُولَى لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالثَّانِيَةُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَالْأُولَى أَقْيَسُ وَكِلْتَاهُمَا فُصْحَى وَلُغَةُ تَمِيمٍ مِنَ اللُّغَاتِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَهِيَ لُغَةُ عُلْيَا تَمِيمٍ وَهُمْ بَنُو دَارِمٍ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ. وَزَعَمَ أَبُو زَيْدٍ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّ الْمُسْتَفِيضَ أَحْزَنَ فِي الْمَاضِي وَيُحْزِنُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، يُرِيدَانِ الشَّائِعَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ، وَالْقِرَاءَةُ رِوَايَةٌ وَسُنَّةٌ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [١٣] إِنِّي لَيَحْزُنُنِي وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٣] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ.
وَجُمْلَةُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ، وَهِيَ أَيْضًا تَمْهِيدٌ لِوَعْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى الِانْتِقَامَ مِنْهُمُ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَنُنَبِّئُهُمْ مُفَرَّعًا عَلَى جُمْلَةِ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ كِنَايَةً عَنِ الْمُجَازَاةِ اسْتُعْمِلَ الْإِنْبَاءُ وَأُرِيدَ لَازِمُهُ وَهُوَ الْإِظْهَارُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، فَمَوْقِعُ حَرْفِ إِنَّ هُنَا مُغْنٍ عَنْ فَاءِ التَّسَبُّبِ كَمَا فِي قَوْلِ بَشَّارٍ:
إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحِ فِي التبكير وبِذاتِ الصُّدُورِ: هِيَ النَّوَايَا وَأَعْرَاضُ النَّفْسِ مِنْ نَحْوِ الْحِقْدِ وَتَدْبِيرِ الْمَكْرِ وَالْكُفْرِ.
وَمُنَاسَبَتُهُ هُنَا أَنَّ كُفْرَ الْمُشْرِكِينَ بَعْضُهُ إِعْلَانٌ وَبَعْضُهُ إِسْرَارٌ قَالَ تَعَالَى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الْملك: ١٣]، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فِي سُورَة الْأَنْفَال [٤٣].
[٢٤]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٤]
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [لُقْمَان: ٢٣] يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ سُؤَالًا عَنْ عَدَمِ تَعْجِيلِ الْجَزَاءِ إِلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ بِأَنَّ اللَّهَ يُمْهِلُهُمْ زَمَنًا ثُمَّ يُوقِعُهُمْ
فِي عَذَابٍ لَا يَجِدُونَ مِنْهُ مَنْجًى. وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ وَقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ.
وَالتَّمْتِيعُ: الْعَطَاءُ الْمُوَقَّتُ فَهُوَ إِعْطَاءُ الْمَتَاعِ، أَيِ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ. وقَلِيلًا صِفَةٌ لِمَصْدَرِ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، أَيْ تَمْتِيعًا قَلِيلًا، وَقِلَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِقِلَّةِ مُدَّتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُدَّةِ الْآخِرَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْد قَوْله تَعَالَى وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي الْأَعْرَافِ [٢٤].
وَالِاضْطِرَارُ: الْإِلْجَاءُ، وَهُوَ جَعْلُ الْغَيْرِ ذَا ضَرُورَةٍ، أَيْ: لُزُومٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٦].
وَالْغَلِيظُ: مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْخَشِنُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الشَّدِيدِ مِنَ الْأَحْوَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ بِجَامِعِ الشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ وَعَدَمِ الطَّاقَةِ عَلَى احْتِمَالِهِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فِي سُورَةِ هُودٍ [٥٨] كَمَا أُطْلِقَ الْكَثِيرُ على الْقوي.
[٢٥]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٥]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [لُقْمَان: ٢١] بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ هُوَ الْإِشْرَاكُ مَعَ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَإِنْ سَأَلَهُمْ سَائِلٌ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ يَقُولُوا خَلْقَهُنَّ اللَّهُ، وَذَلِكَ تَسْخِيفٌ لِعُقُولِهِمُ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالْخَلْقِ وَبَيْنَ اعْتِقَادِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: مَا يَشْمَلُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَمِنْ بَيْنِ ذَلِكَ حِجَارَةُ الْأَصْنَامِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ. وَعَبَّرَ هُنَا بِ لَا يَعْلَمُونَ وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٦٣] بِ لَا يَعْقِلُونَ تَفَنُّنًا فِي الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ مَعَ اتِّحَاد الْمَعْنى.

[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٦]

لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مُوقِعُ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لُقْمَان: ١٦] فَإِنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ إِقْرَارُهُمْ لِلَّهِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَزِمَهُمْ إِنْتَاجُ أَنَّ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لِلَّهِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَصْنَامُهُمْ. وَالتَّصْرِيحُ بِهَذِهِ النَّتِيجَةِ لِقَصْدِ التَّهَاوُنِ بِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَمْلِكُهُمْ وَيَمْلِكُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَتِهِمْ مَحْمُودٌ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ مُفَادُهُ اخْتِصَاصُ الْغِنَى وَالْحَمْدِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ لَيْسَ لِآلِهَتِهِمُ الْمَزْعُومَةِ غِنًى وَلَا تَسْتَحِقُّ حَمْدًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ عِنْدَ قَوْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ فِي أول السُّورَة لُقْمَان [١٢].
[٢٧]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٧]
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)
تَكَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرَةً وَخَفِيَّةً فَقَالَ فِيمَا حَكَى مِنْ وَصِيَّةِ لُقْمَانَ: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ إِلَى قَوْلِهِ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لُقْمَان: ١٦]، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [لُقْمَان: ٢٣] فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ أَنَّ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مَظَاهِرَ يُبَلِّغُ بَعْضَهَا إِلَى مَنِ اصْطَفَاهُ مِنْ رُسُلِهِ بِالْوَحْيِ مِمَّا تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ إِبْلَاغَهُ، وَأَنَّهُ يَسْتَأْثِرُ بِعِلْمِ مَا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ عَدَمَ إِبْلَاغِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يُبَلِّغَ مَا فِي عِلْمِهِ لَمَا وَفَتْ بِهِ مَخْلُوقَاتُهُ الصَّالِحَةُ لتسجيل كَلَامه بِالْكِتَابَةِ فَضْلًا عَلَى الْوَفَاءِ بِإِبْلَاغِ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْقَوْلِ. وَقَدْ سَلَكَ فِي هَذَا مَسْلَكَ التَّقْرِيبِ بِضَرْبِ هَذَا
180
الْمَثَلِ وَقَدْ كَانَ مَا قَصَّ مِنْ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ مُوَطِّئًا لِهَذَا فَقَدْ جَرَتْ قِصَّةُ لُقْمَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا جَرَتْ قِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [١٠٩] فَعُقِّبَتَا بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ السُّورَةِ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً وَهِيَ مُشَابِهَةٌ لِلْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ لُقْمَانَ. فَهَذَا وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ.
وَلِمَا فِي اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْخَفَاءِ أَخَذَ أَصْحَابُ التَّأْوِيلِ مِنَ السَّلَفِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيَانِ إِيقَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ. فَقِيلَ: سَبَبُ نُزُولِهَا مَا
ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَالْوَاحِدِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ بِرِوَايَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ: أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ أَغْرَوْا قُرَيْشًا بِسُؤَالِهِ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي شَأْنهمْ:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: ٨٥] فَقَالُوا: كَيْفَ وَأَنْتَ تَتْلُو فِيمَا جَاءَكَ أَنَّا قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَفِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلُوهُ: هِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
الْآيَتَيْنِ أَوِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ.
وَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أَكْثَرَ كَلَامَ مُحَمَّدٍ! فَنَزَلَتْ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ.
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: سَيَتِمُّ هَذَا الْكَلَامُ لِمُحَمَّدٍ وَيَنْحَسِرُ- أَيْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَقُولُ بَعْدَهُ كَلَامًا-. وَفِي رِوَايَةٍ: سَيَنْفَدُ هَذَا الْكَلَامُ. وَهَذِهِ يَرْجِعُ بَعْضُهَا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَضْعُهَا فِي هَذَا الْموضع من السُّورَةِ بِتَوْقِيفٍ نَبَوِيٍّ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ سُورَةِ لُقْمَانَ عَلَى أَنْ تُوضَعَ عَقِبَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَهَا.
وكَلِماتُ جَمْعُ كَلِمَةٍ بِمَعْنَى الْكَلَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠] أَيِ: الْكَلَامُ الْمُنْبِئُ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ مِمَّا يُخَاطِبُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْعَنَاصِرِ الْمَعْدُودَةِ لِلتَّكَوُّنِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: كُنْ فَتَكُونُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَنْزَلَهُ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ مِنْ أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا سَيُنْزِلُهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَوْ فَرَضَ إِرَادَةَ اللَّهِ أَنْ يَكْتُبَ كَلَامَهُ كُلَّهُ صُحُفًا
181
فَفُرِضَتِ الْأَشْجَارُ كُلُّهَا مُقَسَّمَةً أَقْلَامًا، وَفُرِضَ أَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ مِدَادًا فَكُتِبَ بِتِلْكَ الْأَقْلَامِ وَذَلِكَ الْمِدَادِ لَنَفِدَ الْبَحْرُ وَنَفِدَتِ الْأَقْلَامُ وَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الْأَنْعَام: ١١٥] فَالتَّمَامُ هُنَالِكَ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ وَالنُّفُوذِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٧]. وَقَدْ نُظِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِإِيجَازٍ بَدِيعٍ إِذِ ابْتُدِئَتْ بِحَرْفِ لَوْ فَعُلِمَ أَنَّ مَضْمُونَهَا أَمْرٌ مَفْرُوضٌ، وَأَنَّ لِ لَوْ اسْتِعْمَالَاتٍ كَمَا حَقَّقَهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» عَنْ عِبَارَةِ سِيبَوَيْهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٢٣].
ومِنْ شَجَرَةٍ بَيَان لما الْمَوْصُولَةِ وَهُوَ فِي مَعْنَى التَّمْيِيزِ فَحَقُّهُ الْإِفْرَادُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: مِنْ أَشْجَارٍ. وَالْأَقْلَامُ: جَمْعُ قَلَمٍ وَهُوَ الْعُودُ الْمَشْقُوقُ لِيَرْفَعَ بِهِ الْمِدَادَ وَيَكْتُبَ بِهِ، أَيْ: لَوْ تَصِيرُ كُلُّ شَجَرَةٍ أَقْلَامًا بِمِقْدَارِ مَا فِيهَا مِنْ أَغْصَانٍ صَالِحَةٍ لِذَلِكَ. وَالْأَقْلَامُ هُوَ الْجَمْعُ الشَّائِعُ لِقَلَمٍ فَيَرِدُ لِلْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ. ويَمُدُّهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْمِيمِ، أَيْ:
يَزِيدُهُ مِدَادًا. وَالْمِدَادُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- الْحِبْرُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ. يُقَالُ: مَدَّ الدَّوَاةَ يَمُدُّهَا. فَكَانَ قَوْلُهُ يَمُدُّهُ مُتَضَمِّنًا فَرْضَ أَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ مِدَادًا ثُمَّ يُزَادُ فِيهِ إِذَا نَشَفَ مِدَادُهُ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، وَلَوْ قِيلَ: يُمِدُّهُ، بِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ أَمَدَّ لَفَاتَ هَذَا الْإِيجَازُ.
وَالسَّبْعَةُ: تُسْتَعْمَلُ فِي الْكِنَايَةِ عَنِ الْكَثْرَةِ كَثِيرًا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»
فَلَيْسَ لِهَذَا الْعَدَدِ مَفْهُومٌ، أَيْ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ أَبْحُرٌ كَثِيرَةٌ.
وَمَعْنَى مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ مَا انْتَهَتْ، أَيْ: فَكَيْفَ تَحْسَبُ الْيَهُودُ مَا فِي التَّوْرَاةِ هُوَ مُنْتَهَى كَلِمَاتِ اللَّهِ، أَوْ كَيْفَ يَحْسَبُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ انْتِهَاءَ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الْمَثَلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْآخَرِ وَارِدًا مَوْرِدَ الْمُبَالَغَةِ فِي كَثْرَةِ مَا سَيَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ إِغَاظَةً لِلْمُشْرِكِينَ، فَتَكُونُ كَلِماتُ اللَّهِ هِيَ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْرِفُونَ كَلِمَاتِ اللَّهِ الَّتِي لَا يُحَاطُ بِهَا.
182
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ، فَهُوَ لِعِزَّتِهِ لَا يَغْلِبُهُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ عَدَمَ الْحَاجَةِ
إِلَى الْقُرْآنِ يَنْتَظِرُونَ انْفِحَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لِحِكْمَتِهِ لَا تَنْحَصِرُ كَلِمَاتُهُ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ الْحَقَّ لَا نِهَايَةَ لَهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ وَالْبَحْرُ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْوَاوَ وَاوُ الْحَالِ وَهِيَ حَال من مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ، أَيْ: تِلْكَ الْأَشْجَارُ كَائِنَةٌ فِي حَالِ كَوْنِ الْبَحْرِ مِدَادًا لَهَا، وَالْوَاوُ يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الرَّبْطِ وَالِاكْتِفَاءِ عَنِ الضَّمِيرِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْمُقَارَنَةِ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَالْبَحْرُ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى اسْم (إنّ).
[٢٨]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٨]
مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [لُقْمَان: ٢٣] لِأَنَّهُ كُلَّمَا ذَكَرَ أَمْرَ الْبَعْثِ هَجَسَ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ اسْتِحَالَةُ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ اضْمِحْلَالِهَا فَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ تَعْقِيبُ ذِكْرِ الْبَعْثِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى إِمْكَانِهِ وَتَقْرِيبِهِ. وَكَانُوا أَيْضًا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَنَا أَطْوَارًا نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ لَحْمًا وَعَظْمًا فَكَيْفَ يَبْعَثُنَا خَلْقًا جَدِيدًا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَيْفَ يُحْيِي جَمِيعَ الْأُمَمِ والأجيال الَّتِي تضمنتها الْأَرْضُ فِي الْقُرُونِ الْكَثِيرَةِ، وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَأَبُو الْأَسَدِ- أَوْ أَبُو الْأَسَدَيْنِ- وَنُبَيْهٌ، وَمُنَبِّهٌ، ابْنَا الْحَجَّاجِ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، يَقُولُونَ ذَلِكَ وَرُبَّمَا أَسَرَّ بِهِ بَعْضُهُمْ. وَضَمِيرَا الْمُخَاطَبِينَ مُرَادٌ بِهِمَا جَمِيعُ الْخَلْقِ فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ، أَيْ مَا خَلْقُ جَمِيعِ النَّاسِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَا بَعْثُهُمْ، أَيْ خَلْقُهُمْ ثَانِيَ مَرَّةٍ إِلَّا كَخَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ خَلْقَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ هَذَا الْخَلْقَ الْعَجِيبَ دَالٌّ عَلَى تَمَامِ قُدْرَةِ الْخَالِقِ تَعَالَى فَإِذَا كَانَ كَامِلُ الْقُدْرَةِ اسْتَوَى فِي جَانِبِ قُدْرَتِهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَالْبَدْءُ وَالْإِعَادَةُ.
وَفِي قَوْلِهِ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغِيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِقَصْدِ مُجَابَهَتِهِمْ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُفْحِمِ.
وَفِي قَوْلِهِ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ حَذْفُ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ.
وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا كَخَلْقِ وَبَعْثِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَذَلِكَ إِيجَازٌ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدَ مَخَافَتِي عَلَى وَعْلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ
التَّقْدِيرُ: عَلَى مَخَافَةِ وَعْلٍ. وَالْمَقْصُودُ: إِنَّ الْخَلْقَ الثَّانِيَ كَالْخَلْقِ الْأَوَّلِ فِي جَانِبِ الْقُدْرَةِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ: إِمَّا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ الْخَلْقِ الْعَجِيبِ اسْتِدْلَالًا بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ وَالْأَسْبَابِ وَتَفَاصِيلِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا وَمِنْ
شَأْنِ الْعَالِمِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَعْلُومَاتِ كَمَا يَشَاءُ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ إِيجَادِ بَعْضِ مَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْإِرَادَة إِنَّمَا يَتَأَتَّى مِنْ خَفَاءِ السَّبَبِ الْمُوصِلِ إِلَى إِيجَادِهِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَوْ عُقَلَاؤُهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ جَعَلَ تَسْلِيمَهُمْ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى إِقْنَاعِهِمْ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَإِمَّا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِمَا يَنْشَأُ عَنِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ بَعْثَهُمْ كَنَفْسٍ مِنْ تَعَجُّبِ فَرِيقٍ مِمَّنْ أَسَرُّوا إِنْكَارَ الْبَعْثِ فِي نُفُوسِهِمُ الَّذِينَ أَوْمَأَ إِلَيْهِمْ قَوْلُهُ آنِفًا:
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [لُقْمَان: ٢٣]، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يَقُلْ: إِنَّ اللَّهَ عليم قدير.
[٢٩]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٩]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩)
اسْتِدْلَالٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِ الْخَلْقِ الثَّانِي وَهُوَ الْبَعْثُ فِي مُتَنَاوَلِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَغْيِيرِ أَحْوَالِ مَا هُوَ أَعْظَمُ حَالًا مِنَ الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ بِتَغْيِيرِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ وَأُفُقِهَا بَيْنَ لَيْلٍ وَنَهَارٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَغْيِيرًا يُشْبِهُ طُرُوَّ الْمَوْتِ عَلَى الْحَيَاةِ فِي دُخُولِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ، وَطُرُوَّ الْحَيَاةِ عَلَى الْمَوْتِ فِي دُخُولِ النَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ، وَبِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا سَخَّرَهُ مِنْ سَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
فَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ بِإِمْكَانِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ من شؤون الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ أَنِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ الْكُلِّيِّ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ
184
سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لُقْمَان: ٢٨] مِنْ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِالْمَعْلُومَاتِ الْمُقْتَضِي إِحَاطَةَ قُدْرَتِهِ بِالْمُمْكِنَاتِ لِأَنَّهَا جُزْئِيَّاتُ الْمَعْلُومَاتِ وَفَرْعٌ عَنْهَا. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ بِقَرِينَةِ وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ بِتَنْزِيلِ الْعَالِمِينَ مَنْزِلَةَ غَيْرِ عَالِمِينَ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِعِلْمِهِمْ.
وَالْإِيلَاجُ: الْإِدْخَالُ. وَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِتَعَاقُبِ الظُّلْمَةِ وَالضِّيَاءِ بِوُلُوجِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ كَقَوْلِهِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧]. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أول سُورَة آلِ عِمْرَانَ [٢٧]، وَقَوْلِهِ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٦١] مَعَ اخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ.
وَالِابْتِدَاءُ بِاللَّيْلِ لِأَنَّ أَمْرَهُ أَعْجَبُ كَيْفَ تَغْشَى ظُلْمَتُهُ تِلْكَ الْأَنْوَارَ النَّهَارِيَّةَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ إِيلَاجِ اللَّيْلِ وَإِيلَاجِ النَّهَارِ لِتَشْخِيصِ تَمَامِ الْقُدْرَةِ بِحَيْثُ لَا تُلَازِمُ عَمَلًا مُتَمَاثِلًا. وَالْكَلَامُ عَلَى تَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَضَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَتَنْوِينُ كُلٌّ هُوَ الْمُسَمَّى تَنْوِينَ الْعِوَضِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلٌّ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ.
وَالْجَرْيُ: الْمَشْيُ السَّرِيعُ اسْتُعِيرَ لِانْتِقَالِ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهَا وَانْتِقَالِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ وَانْتِقَالِ الْقَمَرِ حَوْلَ الْأَرْضِ، تَشْبِيهًا بِالْمَشْيِ السَّرِيعِ لِأَجْلِ شُسُوعِ الْمَسَافَاتِ الَّتِي تُقْطَعُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ.
وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ لِهَذَا النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ أَمَدًا يَعْلَمُهُ اللَّهُ فَإِذَا انْتَهَى ذَلِكَ الْأَمَدُ بَطَلَ ذَلِكَ التَّحَرُّكُ وَالتَّنَقُّلُ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُؤْذِنُ بِانْقِرَاضِ الْعَالِمِ فَهَذَا تَذْكِيرٌ بِوَقْتِ الْبَعْثِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلى أَجَلٍ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ يَجْرِي، أَيْ: يَنْتَهِي جَرْيُهُ، أَيْ سَيْرُهُ عِنْدَ أَجَلٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَ اللَّهِ لِانْتِهَاءِ سَيْرِهِمَا.
185
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلى أَجَلٍ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ سَخَّرَ أَيْ: جَعَلَ نِظَامَ تَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مُنْتَهِيًا عِنْدَ أَجَلٍ مُقَدَّرٍ.
وَحَرْفُ إِلى عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لِلِانْتِهَاءِ. وَلَيْسَتْ إِلى بِمَعْنَى اللَّامِ عِنْدَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» هُنَا خِلَافًا لِابْنِ مَالِكٍ وَابْنِ هِشَامٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [١٣].
وأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عَطْفٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ بِتَنْزِيلِ الْعَالِمِ مَنْزِلَةَ غَيْرِهِ لِعَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى مُوجَبِ الْعِلْمِ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَلَا يَجْرُونَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْعِلْمُ فِي شَيْءٍ من أَحْوَالهم.
[٣٠]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٣٠]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠)
كَافُ الْخِطَابِ الْمُتَّصِلِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ بِتَاءِ الْخِطَابِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْمَذْكُورُ آنِفًا وَهُوَ الْإِيلَاجُ وَالتَّسْخِيرُ. وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ فَلَهَا حُكْمُ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ فَإِنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ فَاعِلُ ذَلِكَ فَلَزِمَهُمُ الدَّلِيلُ وَنَتِيجَتُهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِيلَاجَ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَعَكْسَهُ وَتَسْخِيرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مُسَبَّبٌ عَنِ انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ مُفِيدٌ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ: هُوَ الْحَقُّ لَا أَصْنَامُكُمْ وَلَا غَيْرُهَا مِمَّا يُدَّعَى إِلَهِيَّةً غَيْرَهُ تَعَالَى.
186
والْحَقُّ: هُنَا بِمَعْنَى الثَّابِتِ، وَيُفْهَمُ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِّيَّةُ ثُبُوتِ إِلَهِيَّتِهِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَلِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ، وَالْمَعْنَى: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الصُّنْعُ الْبَدِيعُ مُسَبَّبًا عَنِ انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلًا عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِلتَّلَازُمِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَقُّ والْباطِلُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْتَ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي الشِّقِّ الثَّانِي لِأَنَّ مَا يَدْعُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَصْنَامِهِمْ يَشْتَرِكُ مَعَهَا فِي أَنَّهُ بَاطِلٌ.
وَذُكِرَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ [٧٣] لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّا إِذَا جَعَلْنَا الْبَاءَ فِي بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ عَطْفًا عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ مَجْمُوعٌ بِأَنَّ اللَّهَ. فَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ أَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ. وَيُقَدَّرُ حَرْفُ جَرٍّ مُنَاسِبٌ لِلْمَعْنَى حُذِفَ قَبْلَ أَنَّ وَهُوَ حَرْفٌ (عَلَى) أَيِّ: ذَلِكَ دَالٌّ. وَهَذَا كَمَا قُدِّرَ حَرْفُ (عَنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النِّسَاء: ١٢٧] وَلَا يَكُونُ عَطْفًا عَلَى مَدْخُولِ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ إِذْ لَيْسَ لِبُطْلَانِ آلِهَتِهِمْ أَثَرٌ فِي إِيلَاجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَتَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَوْ تُقَدَّرُ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَا تَدْعُونَهُ بَاطِلٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَظٌّ فِي إِيلَاجِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِاعْتِرَافِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَوْلُهُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْفَذْلَكَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ دَلَالَةِ إِيلَاجِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَقَرَّ أَنَّ مَا ذُكِرَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَدَالٌّ عَلَى أَنَّ مَا يَدْعُونَهُ بَاطِلٌ، ثَبَتَ أَنَّهُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ دُونَ أَصْنَامِهِمْ.
وَقَدِ اجْتُلِبَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَسَلْبِ الْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ عَنْ أَصْنَامِهِمْ.
وَالْأَحْسَنُ أَنْ نَجْعَلَ الْبَاءَ لِلْمُلَابَسَةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَإِنَّ شَأْنَ الْبَاءِ الَّتِي لِلْمُلَابَسَةِ أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا بَلْ قَالَ الرَّضِيُّ: إِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ، أَيْ أَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِنَحْوِ الْخَبَرِ أَوِ الْحَالِ كَمَا قَالَ:
وَمَا لِي بِحَمْدِ اللَّهِ لَحْمٌ وَلَا دَمٌ
187
أَيْ: حَالَةَ كَوْنِي مُلَابِسًا حَمْدَ اللَّهِ، أَيْ: غَيْرَ سَاخِطٍ مِنْ قَضَائِهِ، وَيُقَالُ: أَنْتَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، أَيْ: مُسْتِقَرٌّ. فَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْإِيلَاجِ وَالتَّسْخِيرِ مُلَابِسٌ لِحَقِّيَّةِ إِلَهِيَّةِ
اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ الْمَعْطُوفَانِ مَعْطُوفَيْنِ على الْمَجْرُور بِالْبَاء، أَيْ مُلَابِسٌ لِكَوْنِ اللَّهِ إِلَهًا حَقًّا، وَلِكَوْنِ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ بَاطِلَ الْإِلَهِيَّةِ وَلِكَوْنِ اللَّهِ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. وَالْمُلَابَسَةُ الْمُفَادَةُ بِالْبَاءِ هِيَ مُلَابَسَةُ الدَّلِيلِ لِلْمَدْلُولِ وَبِذَلِكَ يَسْتَقِيمُ النَّظْمُ بِدُونِ تَكَلُّفٍ، وَيَزْدَادُ وُقُوعُ جُمْلَةِ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ إِلَى آخِرِهَا فِي مَوْقِعِ النَّتِيجَةِ وُضُوحًا.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ لِلِاخْتِصَاصِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [لُقْمَان: ٢٦].
والْعَلِيُّ: صِفَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ الْقُدْسِيَّةُ وَالشَّرَفُ.
والْكَبِيرُ: وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْكِبَرِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ عَظَمَةُ الشَّأْنِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٦٣] مَعَ زِيَادَةِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ.
[٣١- ٣٢]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : الْآيَات ٣١ إِلَى ٣٢]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)
اسْتِئْنَافٌ جَاءَ عَلَى سُنَنِ الِاسْتِئْنَافَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [لُقْمَان: ٢٠] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ [لُقْمَان: ٢٩]، وَجِيءَ بِهَا غَيْرَ مُتَعَاطِفَةٍ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى مَا تخَلّل بَينهَا، وَجَاءَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ الثَّالِثُ دَلِيلًا ثَالِثًا عَلَى عَظِيمِ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي نِظَامِ هَذَا الْعَالِمِ وَتَوْفِيقِ الْبَشَرِ لِلِانْتِفَاعِ بِمَا هَيَّأَهُ اللَّهُ لِانْتِفَاعِهِمْ بِهِ. فَلَمَّا أَتَى الِاسْتِئْنَافَانِ الْأَوَّلَانِ عَلَى دَلَائِلِ صُنْعِ اللَّهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاءَ فِي هَذَا الثَّالِثِ دَلِيلٌ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ بِخَلْقِ الْبَحْرِ وَتَيْسِيرِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي إِقَامَةِ نِظَامِ
188
الْمُجْتَمَعِ الْبَشَرِيِّ. وَتَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى اتِّخَاذِ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ مُوجِبَاتِ الشُّكْرِ دَوَاعِيَ كُفْرٍ.
فَكَانَ خَلْقُ الْبَحْرِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْعَظِيمَةِ مُيَسِّرًا لِلِانْتِفَاعِ بِالْأَسْفَارِ فِيهِ حِينَ لَا تُغْنِي طُرُقُ الْبَرِّ فِي التَّنَقُّلِ غَنَاءً فَجَعَلَهُ قَابِلًا لِحَمْلِ الْمَرَاكِبِ الْعَظِيمَةِ، وَأَلْهَمَ الْإِنْسَانَ لِصُنْعِ تِلْكَ الْمَرَاكِبِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ تَحْفَظُهَا مِنَ الْغَرَقِ فِي عُبَابِ الْبَحْرِ، وَعَصَمَهُمْ مِنْ تَوَالِي الرِّيَاحِ وَالْمَوْجِ فِي أَسْفَارِهِمْ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الْحِيلَةِ فِي مُصَانَعَتِهَا إِذَا طَرَأَتْ حَتَّى تَنْجَلِيَ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ هَذَا الْجَرْيَ بِمُلَابَسَةِ نِعْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّمَا مَخَرَتْ بِهِمُ الْفُلْكُ فِي الْبَحْرِ كَانُوا
مُلَابِسِينَ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالسَّلَامَةِ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ نَادِرَةٍ، وَقَدْ سُمِّيَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ أَمْرًا فِي قَوْلِهِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٦٥]، أَيْ: بِتَقْدِيرِهِ وَنِظَامِ خَلْقِهِ.
وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي قَوْلِهِ فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٦٥]، وَفِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ [٢٢] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٦٥].
وَيَتَعَلَّقُ لِيُرِيَكُمْ بِ تَجْرِي أَيْ: تَجْرِي فِي الْبَحْرِ جَرْيًا، عِلَّةُ خَلْقِهِ أَنْ يُرِيَكُمُ اللَّهُ بَعْضَ آيَاتِهِ، أَيْ: آيَاتِهِ لَكُمْ فَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الْآيَاتِ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ لِيُرِيَكُمْ وَجَرْيُ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُدْرَةِ فِي بَدِيعِ الصُّنْعِ أَنْ خَلَقَ مَاءَ الْبَحْرِ بِنِظَامٍ، وَخَلَقَ الْخَشَبَ بِنِظَامٍ، وَجَعَلَ لِعُقُولِ النَّاسِ نِظَامًا فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِمْكَانُ سَيْرِ الْفُلْكِ فَوْقَ عُبَابِ الْبَحْرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ جَرْيَ السُّفُنِ فِيهِ حِكَمٌ كَثِيرَةٌ مَقْصُودَةٌ مِنْ تَسْخِيرِهِ، مِنْهَا أَنْ يَكُونَ آيَةً لِلنَّاسِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ لَامِ التَّعْلِيلِ انْحِصَارُ الْغَرَضِ مِنَ الْمُعَلَّلِ فِي مَدْخُولِهَا لِأَنَّ الْعِلَلَ جُزْئِيَّةٌ لَا كُلِّيَّةٌ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ لَهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيل لجملة لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ. وَلَهَا مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ إِذْ يَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ: كَيْفَ لَمْ يَهْتَدِ الْمُشْرِكُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ؟ فَأُفِيدَ أَنَّ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِدَلَالَتِهَا عَلَى
189
مَدْلُولِهَا هُوَ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، ثَنَاءً عَلَى هَذَا الْفَرِيقِ صَرِيحًا، وَتَعْرِيضًا بِالَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِدَلَالَتِهَا. وَاقْتِرَانُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ أَنَّ لِأَنَّهُ يُفِيدُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ معنى التَّعْلِيل والتسبب. وَجَعَلَ ذَلِكَ عِدَّةَ آيَاتٍ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ دَلَائِلَ كَثِيرَةً، أَيِ: الَّذِينَ لَا يُفَارِقُهُمُ الْوَصْفَانِ.
وَالصَّبَّارُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمَوْصُوفِ بِالصَّبْرِ، وَالشَّكُورُ كَذَلِكَ، أَيِ: الَّذِينَ لَا يُفَارِقُهُمُ الْوَصْفَانِ. وَهَذَانِ وَصْفَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ فِي الصَّبْرِ لِلضَّرَّاءِ وَالشُّكْرِ لِلسَّرَّاءِ إِذْ يرجون بهما رِضَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَيْهِ فِي كَشْفِ الضُّرِّ وَالزِّيَادَةِ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَدْ تَخَلَّقُوا بِذَلِكَ بِمَا سَمِعُوا مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْوَصْفَيْنِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ ضِدَّيْهِمَا قَالَ: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [الْبَقَرَة: ١٧٧]، وَقَالَ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إِبْرَاهِيم: ٧] فَهُمْ بَيْنَ رَجَاءِ الثَّوَابِ وَخَوْفِ الْعِقَابِ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِالْحَيَاةِ الْخَالِدَةِ ذَاتِ الْجَزَاءِ وَعَلِمُوا أَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ وَنَهَى، فَصَارَا لَهُمْ خُلُقًا تَطَبَّعُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يُفَارِقَاهُمُ الْبَتَّةَ أَوْ إِلَّا نَادِرًا فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَنَظَرُهُمْ قَاصِرٌ عَلَى الْحَيَاةِ الْحَاضِرَةِ فَهُمْ أُسَرَاءُ الْعَالَمِ الْحِسِّيِّ فَإِذَا أَصَابَهُمْ ضُرٌّ ضَجِرُوا وَإِذَا أَصَابَهُمْ نَفْعٌ بَطَرُوا، فَهُمْ أَخْلِيَاءُ مِنَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، فَلِذَلِكَ كَانَ
قَوْلُهُ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ كِنَايَةً رَمْزِيَّةً عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيضًا رَمْزِيًّا بِالْمُشْرِكِينَ. وَوَجْهُ إِيثَارِ خُلُقَيِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ هُنَا لِلْكِنَايَةِ بِهِمَا، من بَين شُعَبِ الْإِيمَانِ، أَنَّهُمَا أَنْسَبُ بِمَقَامِ السَّيْرِ فِي الْبَحْرِ إِذْ رَاكِبُ الْبَحْرِ بَيْنَ خَطَرٍ وَسَلَامَةٍ وَهُمَا مَظْهَرُ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٢٢].
وَفِي قَوْلِهِ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ حُسْنُ التَّخَلُّصِ إِلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي عَقَّبَهُ فِي قَوْلِهِ وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ الْآيَةَ، فَعُطِفَ عَلَى آيَاتِ سَيْرِ الْفُلْكِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ النَّاسَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عِنْدَ تِلْكَ الْآيَاتِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، وَغَفْلَتِهِمْ عَنْهَا فِي حَالِ السَّلَامَةِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٦٥] : فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ
190
دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٢٢] : حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ الْآيَاتِ.
وَالْغِشْيَانُ: مستعار للمجيء المفاجئ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّغْطِيَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَالظُّلَلُ: بِضَمِّ الظَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ: جَمْعُ ظُلَّةٍ بِالضَّمِّ وَهِيَ: مَا أَظَلَّ مِنْ سَحَابٍ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ تَدُلُّ عَلَى مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمَّا نَجَّاهُمُ انْقَسَمُوا فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ غَيْرُهُ كَمَا سَيَأْتِي. وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ الْفَاءَ دَاخِلَةً عَلَى جَوَابِ لَمَّا أَيْ رَابِطَةً لِلْجَوَابِ وَمُخَالِفُوهُ يَمْنَعُونَ اقتران جَوَاب فَلَمَّا بِالْفَاءِ كَمَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ».
وَالْمُقْتَصِدُ: الْفَاعِلُ لِلْقَصْدِ وَهُوَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، وَالْمَقَامُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الِاقْتِصَادُ فِي الْكُفْرِ لِوُقُوعِ تَذْيِيلِهِ بِقَوْلِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ وَلِقَوْلِهِ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٦٥] فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْمُقْتَصِدُ عَلَى الَّذِي يَتَوَسَّطُ حَالُهُ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَضِدِّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ [الْمَائِدَة: ٦٦].
وَالْجَاحِدُ الْكَفُورُ: هُوَ الْمُفْرِطُ فِي الْكُفْرِ وَالْجَحْدُ. وَالْجُحُودُ: الْإِنْكَارُ وَالنَّفْيُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٣]. وَعُلِمَ أَنَّ هُنَالِكَ قِسْمًا ثَالِثًا وَهُوَ الْمُوقِنُ بِالْآيَاتِ الشَّاكِرُ لِلنِّعْمَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. قَالَ فِي سُورَةِ فَاطِرَ [٣٢] فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ، وَهَذَا الِاقْتِصَارُ
كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
كَانَتْ حَنِيفَةُ أَثْلَاثًا فَثُلْثُهُمُ مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا
أَيْ: وَالثُّلْثُ الْآخَرُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَالْخَتَّارُ: الشَّدِيدُ الْخَتْرِ، وَالْخَتْرُ: أَشَدُّ الْغَدْرِ.
وَجُمْلَةُ وَما يَجْحَدُ إِلَى آخِرِهَا تَذْيِيلٌ لِأَنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ جَاحِدٍ سَوَاءٌ مَنْ جَحَدَ آيَةَ
191
سَيْرِ الْفُلْكِ وَهَوْلِ الْبَحْرِ وَيَجْحَدُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالنَّجَاةِ وَمَنْ يَجْحَدُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَنِعَمِهِ. وَالْمَعْنَى: وَمِنْهُمْ جَاحِدٌ بِآيَاتِنَا. وَفِي الِانْتِقَالِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ بِآياتِنا الْتِفَاتٌ.
وَالْبَاءُ فِي بِآياتِنا لِتَأْكِيدِ تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ مِثْلَ قَوْله وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦]، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
لَكَ الْخَيْرُ إِنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الْإِسْرَاء: ٥٩].
[٣٣]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٣٣]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣)
إِنْ لَمْ يَكُنْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ خِطَابًا خَاصًّا بِالْمُشْرِكِينَ فَهُوَ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَيَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْمُشْرِكَ وَالْمُعَطِّلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ إِذِ الْجَمِيعُ مَأْمُورُونَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَأَنَّ الْخُطُوَاتِ الْمُوصِلَةَ إِلَى التَّقْوَى مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ بُعْدِ السَّائِرِينَ عَنْهَا، وَقَدْ كَانَ فِيمَا سَبَقَ مِنَ السُّورَةِ حُظُوظٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَحُظُوظٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُعَقَّبَ بِمَا يَصْلُحُ لِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ خَاصًّا بِالْمُشْرِكِينَ جَرْيًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، فَالْمُرَادُ بِالتَّقْوَى: الْإِقْلَاعُ عَنِ الشِّرْكِ.
وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْآيَاتِ مَوْقِعُ مَقْصِدِ الْخُطْبَةِ بَعْدَ مُقَدِّمَاتِهَا إِذْ كَانَتِ الْمُقَدِّمَاتُ الْمَاضِيَةُ قَدْ هَيَّأَتِ النُّفُوسَ إِلَى قَبُولِ الْهِدَايَةِ وَالتَّأَثُّرِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَإِنَّ لِاصْطِيَادِ الْحُكَمَاءِ فُرَصًا يَحْرِصُونَ عَلَى عَدَمِ إِضَاعَتِهَا، وَأَحْسَنُ مُثُلِهَا قَوْلُ الْحَرِيرِيِّ فِي
«الْمَقَامَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ» :«فَلَمَّا أَلْحَدُوا الْمَيْتَ، وَفَاتَ قَوْلُ لَيْتَ، أَشْرَفَ شَيْخٌ من رباوة، متحضر بِهَرَاوَةٍ، فَقَالَ:
192
وَلِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَوْقِعِ جُعِلَتِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ وَالنَّتِيجَةِ.
وَالتَّقْوَى تَبْتَدِئُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِ الْخَالِقِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْتَهِي إِلَى اجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢] وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٣٢].
وَخَشْيَةُ الْيَوْمِ: الْخَوْفُ مِنْ أَهْوَالِ مَا يَقَعُ فِيهِ إِذِ الزَّمَانُ لَا يُخْشَى لِذَاتِهِ، فَانْتَصَبَ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَالْأَمْرُ بِخَشْيَتِهِ تَتَضَمَّنُ وُقُوعَهُ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَذَلِكَ حَظُّ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى صَارَ سِمَةً عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا [الْفرْقَان: ٢١].
وَجُمْلَةُ لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ إِلَخْ صِفَةُ يَوْمٍ وَحُذِفَ مِنْهَا الْعَائِدُ الْمَجْرُورُ بِ (فِي) تَوَسُّعًا بِمُعَامَلَتِهِ مُعَامَلَةَ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ كَقَوْلِهِ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٨].
وَجَزَى إِذَا عُدِّيَ بِ عَنْ فَهُوَ بِمَعْنَى قَضَى عَنْهُ وَدَفَعَ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْمُتَقَاضِي:
الْمُتَجَازِي.
وَجُمْلَةُ وَلا مَوْلُودٌ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى الصِّفَةِ ومَوْلُودٌ مُبْتَدَأٌ. وهُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ. وجازٍ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ.
وَذِكْرُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ هُنَا لِأَنَّهُمَا أَشَدُّ مَحَبَّةً وحمية من غَيرهم فَيُعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُمَا أَوْلَى بِهَذَا النَّفْيِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ الْآيَة [عبس: ٣٤- ٣٥].
وابتدئ بالوالد لِأَنَّهُ أَشَدُّ شَفَقَةً عَلَى ابْنِهِ فَلَا يَجِدُ لَهُ مَخْلَصًا مِنْ سُوءٍ إِلَّا فِعْلَهُ.
وَوَجْهُ اخْتِيَارِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي إِفَادَةِ عُمُومِ النَّفْيِ هُنَا دُونَ طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٣]، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَأَهْلُهَا يَوْمَئِذٍ خَلِيطٌ مِنْ مُسْلِمِينَ وَكَافِرِينَ، وَرُبَّمَا كَانَ الْأَبُ مُسْلِمًا وَالْوَلَدُ كَافِرًا وَرُبَّمَا كَانَ
الْعَكْسُ، وَقَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ الْكَافِرِينَ حِينَ تُدَاخِلُهُمُ الظُّنُونُ فِي مَصِيرِهِمْ
193
بَعْدَ الْمَوْتِ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ صِدْقُ وَعِيدِ الْقُرْآنِ إِيَّاهُمْ فَإِنَّ مَنْ لَهُ أَبٌ مُسْلِمٌ أَوِ ابْنٌ مُسْلِمٌ يَدْفَعُ عَنْهُ هُنَالِكَ بِمَا يَدُلُّ بِهِ عَلَى رَبِّ هَذَا الدِّينِ، وَقَدْ كَانَ قَارًّا فِي نُفُوسِ الْعَرَبِ التَّعْوِيلُ عَلَى الْمَوْلَى وَالنَّصِيرِ تَعْوِيلًا عَلَى أَنَّ الْحَمِيَّةَ وَالْأَنَفَةَ تَدْفَعُهُمْ إِلَى الدِّفَاعِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ مُخْتَلِفِينَ لَهُمْ لِضِيقِ عَطَنِ أَفْهَامِهِمْ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ عَلَى مُعْتَادِهِمْ. وَهَذَا أَيْضًا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِ جَزَاءِ الْوَالِدِ عَنْ وَلَدِهِ وَبَيْنَ نفي جَزَاء الْوَالِد عَنْ وَالِدِهِ لِيَشْمَلَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْحَالَتَيْنِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ أَرْجَى فِي الْمَقْصُودِ.
ثُمَّ أُوثِرَتْ جُمْلَةُ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً بِطُرُقٍ مِنَ التَّوْكِيدِ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى مِثْلِهَا جُمْلَةُ لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ فَإِنَّهَا نُظِمَتْ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، وَوُسِّطَ فِيهَا ضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَجُعِلَ النَّفْيُ فِيهَا مُنْصَبًّا إِلَى الْجِنْسِ. وَنُكْتَةُ هَذَا الْإِيثَارِ مُبَالَغَةُ تَحْقِيقِ عَدَمِ جُزْءِ هَذَا الْفَرِيقِ عَنِ الْآخَرِ إِذْ كَانَ مُعْظَمُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَبْنَاءِ وَالشَّبَابِ، وَكَانَ آبَاؤُهُمْ وَأُمَّهَاتُهُمْ فِي الْغَالِبِ عَلَى الشِّرْكِ مِثْلُ أَبِي قُحَافَةَ وَالِدِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي طَالِبٍ وَالِدِ عَلِيٍّ، وَأُمِّ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُمِّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَأُرِيدَ حَسْمُ أَطْمَاعِ آبَائِهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَطْمَاعِهِمْ أَنْ يَنْفَعُوا آبَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِشَيْءٍ. وَعُبِّرَ فِيهَا بِ مَوْلُودٌ دُونَ (وَلَدٍ) لِإِشْعَارِ مَوْلُودٌ بِالْمَعْنَى الِاشْتِقَاقِيِّ دُونَ (وَلَدٍ) الَّذِي هُوَ اسْمٌ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَامِدِ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصِّلَةَ الرَّقِيقَةَ لَا تُخَوِّلُ صَاحِبَهَا التَّعَرُّضَ لِنَفْعِ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ فِي الْآخِرَةِ وَفَاءً لَهُ بِمَا تومىء إِلَيْهِ الْمَوْلُودِيَّةُ مِنْ تَجَشُّمِ الْمَشَقَّةِ مِنْ تَرْبِيَتِهِ، فَلَعَلَّهُ يَتَجَشَّمُ الْإِلْحَاحَ فِي الْجَزَاءِ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ حَسْمًا لِطَمَعِهِ فِي الْجَزَاءِ عَنْهُ، فَهَذَا تَعْكِيسٌ لِلتَّرْقِيقِ الدُّنْيَوِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الْإِسْرَاء: ٢٤] وَقَوْلِهِ: وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لُقْمَان: ١٥].
وَجُمْلَةُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ عِلَّةٌ لِجُمْلَتَيِ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً. وَوَعْدُ اللَّهِ: هُوَ الْبَعْثُ، قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: ٢٩- ٣٠].
وَأُكِّدَ الْخَبَرُ بِ إِنَّ مُرَاعَاةً لِمُنْكِرِي الْبَعْثِ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ شُبْهَتُهُمْ فِي إِنْكَارِهِ
194
مُشَاهَدَةَ النَّاسِ يَمُوتُونَ وَيَخْلُفُهُمْ أَجْيَالٌ آخَرُونَ وَلَمْ يَرْجِعْ أَحَدٌ مِمَّنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: ٢٤] وَقَالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الْأَنْعَام: ٢٩].
فُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّأْكِيدِ إِبْطَالُ شُبْهَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، أَيْ لَا تَغُرَّنَّكُمْ حَالَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِأَنْ تَتَوَهَّمُوا الْبَاطِلَ حَقًّا وَالضُّرَّ نَفْعًا، فَإِسْنَادُ التَّغْرِيرِ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الدُّنْيَا ظَرْفُ الْغَرُورِ أَوْ شُبْهَتُهُ، وَفَاعِلُ التَّغْرِيرِ حَقِيقَةً هُمُ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِالْأَقْيِسَةِ الْبَاطِلَةِ فَيُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ إِبْطَاءَ الشَّيْءِ بِاسْتِحَالَتِهِ فَذُكِرَتْ هُنَا وَسِيلَةُ التَّغْرِيرِ وَشُبْهَتُهُ ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُ الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ لِلتَّغْرِيرِ وَهُوَ الْغَرُورُ. والْغَرُورُ- بِفَتْحِ الْغَيْنِ-: مَنْ يَكْثُرُ مِنْهُ التَّغْرِيرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ بِوَسْوَسَتِهِ وَمَا يَلِيهِ فِي نُفُوسِ دُعَاةِ الضَّلَالَةِ مِنْ شُبَهِ التَّمْوِيهِ لِلْبَاطِلِ فِي صُورَةٍ وَمَا يُلْقِيهِ فِي نُفُوسِ أَتْبَاعِهِمْ مِنْ قَبُولِ تَغْرِيرِهِمْ.
وَعُطِفَ وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ لِأَنَّهُ أُدْخِلَ فِي تَحْذِيرِهِمْ مِمَّنْ يُلْقُونَ إِلَيْهِمُ الشُّبَهَ أَوْ مِنْ أَوْهَامِ أَنْفُسِهِمُ الَّتِي تُخَيِّلُ لَهُمُ الْبَاطِلَ حَقًّا لِيَهِمُوا آرَاءَهُمْ. وَإِذَا أُرِيدَ بِالْغُرُورِ الشَّيْطَانُ أَوْ مَا يَشْمَلُهُ فَذَلِكَ أَشَدُّ فِي التَّحْذِيرِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف: ٢٧] وَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: ٦]، فَفِي التَّحْذِيرِ شَوْبٌ مِنَ التَّنْفِيرِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ هِيَ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: ٦]. وَقَرَّرَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ مَعْنَى الْبَاءِ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَبِالضَّرُورَةِ يَكُونُ السَّبَبُ شَأْنًا من شؤون اللَّهِ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ لَا ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالَّذِي يُنَاسِبُ هُنَا أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الِاغْتِرَارِ بِمَا يُسَوِّلُهُ الْغَرُورُ لِلْمُشْرِكِينَ كَتَوَهُّمِ أَنَّ الْأَصْنَامَ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَاقْتِنَاعِهِمْ بِأَنَّهُ إِذَا ثَبت الْبَعْث على احْتِمَالٍ مَرْجُوحٍ عِنْدَهُمْ شَفَعَتْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَصْنَامُهُمْ، أَوْ يَغُرُّهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ أَرَادَ الْبَعْثَ كَمَا يَقُولُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَعَثَ آبَاءَهُمْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، أَوْ أَنْ يَغُرَّهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ أَرَادَ بَعْثَ النَّاسِ لَعَجَّلَ لَهُمْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: ٤٨] فَذَلِكَ كُلُّهُ غُرُورٌ لَهُم مسبب بشؤون اللَّهِ تَعَالَى. فَفِي
195
هَذَا مَا يُوَضِّحُ مَعْنَى الْبَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [١٤]. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْغَرُورِ بِالْبَاءِ قَرِيبٌ مِنْ تَعْدِيَتِهِ بِ (مِنَ) الِابْتِدَائِيَّةِ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي أَيْ: لَا يَغُرَّنَّكِ مِنْ مُعَامَلَتِي مَعَكِ أَنَّ حبك قاتلي.
[٣٤]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٣٤]
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
كَانَ مِنْ جُمْلَةِ غَرُورِهِمْ فِي نَفْيِ الْبَعْثِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ عَدَمَ إِعْلَامِ النَّاسِ بِتَعْيِينِ وَقْتِهِ أَمَارَةً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ. قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس:
٤٨] وَقَالَ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى:
١٧، ١٨]، فَلَمَّا جَرَى فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أُعْقِبَتْ بِأَنَّ وَقْتَ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
فَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِوُقُوعِهَا جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ فِي نُفُوسِ النَّاسِ. وَالْجُمَلُ الْأَرْبَعُ الَّتِي بَعْدَهَا إِدْمَاجٌ لِجَمْعِ نَظَائِرِهَا تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ وَالْبَغَوِيُّ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ مُحَارِبِ خَصَفَةَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ سَمَّاهُ فِي «الْكَشَّافِ» الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو وَوَقع فِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ تَسْمِيَتُهُ الْوَارِثُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَارِثَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ وَقَدْ أَجْدَبَتْ بِلَادُنَا فَمَتَى تُخْصِبُ؟ وَتَرَكْتُ امْرَأَتِي حُبْلَى فَمَا تَلِدُ؟ وَمَاذَا أَكْسِبُ غَدًا؟ وَبِأَيِّ أَرْضٍ أَمُوتُ؟، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا يُدْرَى سَنَدُ هَذَا. وَنُسِبَ إِلَى عِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا فَإِنَّهُ مُقْتَضَى السِّيَاقِ.
وَقَدْ أَفَادَ التَّأْكِيدُ بِحَرْفِ إِنَّ تَحْقِيقَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَقْتِ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ وُقُوعِهَا. وَفِي كَلِمَةٍ عِنْدَهُ إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِصَاصِهِ تَعَالَى بِذَلِكَ الْعِلْمِ لِأَنَّ
196
الْعِنْدِيَّةَ شَأْنُهَا الِاسْتِئْثَارُ. وَتَقْدِيمُ عِنْدَ وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْنَدٌ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ يُفِيدُ التَّخْصِيصَ بِالْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادٌ بِهِ مُجَرَّدَ التَّقْوَى.
وَجُمْلَةُ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ، فَيُفِيدُ التَّخْصِيصَ بِتَنْزِيلِ الْغَيْثِ. وَالْمَقْصُودُ أَيْضًا عِنْدَهُ عِلْمُ وَقْتِ نُزُولِ الْغَيْثِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدُ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يُنْكِرُونَهُ وَلَكِنْ نُظِمَتِ الْجُمْلَةُ بِأُسْلُوبِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِيَحْصُلَ مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِئْثَارِ بِالْعِلْمِ بِهِ الِامْتِنَانُ بِذَلِكَ الْمَعْلُومِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ.
وَفِي اخْتِيَارِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ إِفَادَةُ أَنَّهُ يُجَدِّدُ إِنْزَالَ الْغَيْثِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ عِنْدَ احْتِيَاجِ الْأَرْضِ. وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَنْ قَدَّرُوا: يُنَزِّلُ الْغَيْثَ، بِتَقْدِيرِ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ طَرَفَةَ:
أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى لِلْبَوْنِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ وَتَفَاوُتِ الدَّرَجَتَيْنِ فِي الْبَلَاغَةِ. وَإِذْ قَدْ جَاءَ هَذَا نَسَقًا فِي عِدَادِ الْحَصْرِ كَانَ الْإِتْيَانُ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا خَبَرًا عَنْ مُسْنَدٍ إِلَيْهِ مُقَدَّمٍ مُفِيدًا لِلِاخْتِصَاصِ بِالْقَرِينَةِ فَالْمَعْنَى: وَيَنْفَرِدُ بِعِلْمِ وَقْتِ نُزُولِ الْغَيْثِ مِنْ قُرْبٍ وَبُعْدٍ وَضَبْطِ وَقْتٍ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ أَيْ: يَنْفَرِدُ بِعِلْمِ جَمِيعِ أَطْوَارِهِ مِنْ نُطْفَةٍ وَعَلَقَةٍ وَمُضْغَةٍ ثُمَّ مِنْ كَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَإِبَّانَ وَضْعِهِ بِالتَّدْقِيقِ. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ الْعِلْمِ بِتَبَدُّلِ تِلْكَ الْأَطْوَارِ وَالْأَحْوَالِ. وَالْمَعْنَى: يَنْفَرِدُ بِعِلْمِ جَمِيعِ تِلْكَ الْأَطْوَارِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا النَّاسُ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَا قَصَدَ مِنْهُ الْحَصْرَ فَكَانَ الْمُسْنَدُ الْفِعْلِيُّ الْمُتَأَخِّرُ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مُفِيدًا لِلِاخْتِصَاصِ بِالْقَرِينَةِ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ فَقَدْ نُسِجَ عَلَى مِنْوَالٍ آخَرَ مِنَ النَّظْمِ فَجُعِلَ سُدَاهُ نَفْيَ عِلْمِ أَيَّةِ نَفْسٍ بِأَخَصِّ أَحْوَالِهَا وَهُوَ حَالُ اكْتِسَابِهَا الْقَرِيبُ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ الْمُوَالِي يَوْمَ تَأَمُّلِهَا وَنَظَرِهَا، وَكَذَلِكَ مَكَانُ انْقِضَاءِ حَيَاتِهَا لِلنِّدَاءِ عَلَيْهِمْ بِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ فَإِذَا كَانُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي
197
قِلَّةِ الْعِلْمِ فَكَيْفَ يَتَطَلَّعُونَ إِلَى عِلْمِ أَعْظَمِ حَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ وَهُوَ حَادِثُ فَنَائِهِ وَانْقِرَاضِهِ وَاعْتِيَاضِهِ بِعَالَمِ الْخُلُودِ. وَهَذَا النَّفْيُ لِلدِّرَايَةِ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ فِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ الْعِلْمِ بِمَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَالْعِلْمُ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ فِيهَا كُلُّ نَفْسٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَحَصَلَتْ إِفَادَةُ اخْتِصَاصِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ فَكَانَا فِي ضميمة مَا انْتَظَمَ مَعَهُمَا مِمَّا تَقَدَّمَهُمَا.
وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ نَفْيِ مَعْرِفَةِ النَّاسِ بِفِعْلِ الدِّرَايَةِ لِأَنَّ الدِّرَايَةَ عِلْمٌ فِيهِ مُعَالَجَةٌ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الْمَعْلُومِ وَلِذَلِكَ لَا يُعَبَّرُ بِالدِّرَايَةِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُقَالُ: اللَّهُ يَدْرِي كَذَا، فَيُفِيدُ:
انْتِفَاءَ عِلْمِ النَّاسِ بَعْدَ الْحِرْصِ عَلَى عِلْمِهِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِمَا بِقَوْلِهِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ. وَقَدْ عَلَّقَ فِعْلَ الدِّرَايَةِ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ بِوُقُوعِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ بَعْدَهُمَا، أَيْ مَا تَدْرِي هَذَا السُّؤَالَ، أَيْ جَوَابَهُ. وَقَدْ حَصَلَ إِفَادَةُ اخْتِصَاصِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِلْمِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ بِأَفَانِينَ بَدِيعَةٍ مِنْ أَفَانِينِ الْإِيجَازِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِعْجَازِ.
وَلُقِّبَتْ هَذِهِ الْخَمْسَةُ فِي كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَفَاتِحِ الْغَيْبِ وَفُسِّرَ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَام: ٥٩].
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ» ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
الْآيَةَ،
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «... فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عَلِمُ السَّاعَةِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ جِبْرِيلَ: مَتَى السَّاعَةُ؟... »
. وَمَعْنَى حَصْرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ: أَنَّهَا هِيَ الْأُمُورُ الْمُغَيَّبَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَحْوَالِ النَّاسِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَأَنَّ التَّعْبِيرَ عَنْهَا بِالْمَفَاتِحِ أَنَّهَا تَكُونُ مَجْهُولَةً لِلنَّاسِ فَإِذَا وَقَعَتْ فَكَأَنَّ وُقُوعَهَا فَتْحٌ لِمَا كَانَ مُغْلَقًا وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَحْوَالِ النَّاسِ فَخَفَاؤُهَا عَنْهُمْ مُتَفَاوِتٌ وَيُمْكِنُ لِبَعْضِهِمْ تَعْيِينُهَا مِثْلُ تَعْيِيِنِ يَوْمِ كَذَا لِلزِّفَافِ وَيَوْمِ كَذَا لِلْغَزْوِ وَهَكَذَا مَوَاقِيتُ الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْيَادِ، وَكَذَلِكَ مُقَارَنَاتُ الْأَزْمِنَةِ مِثْلَ: يَوْمِ كَذَا مَدْخَلُ الرَّبِيعِ فَلَا تَجِدُ مُغَيَّبَاتٍ لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِمَعْرِفَةِ وُقُوعِهَا مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي هَذَا الْعَالَمِ غَيْرَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ فَأَمَّا فِي الْعَوَالِمِ الْأُخْرَى وَفِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ فَالْمُغَيَّبَاتُ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ كَثِيرَةٌ وَلَيْسَتْ لَهَا مَفَاتِحُ عِلْمٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ.
198
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنْ إِبْطَالِ شُبْهَةِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [لُقْمَان: ٣٣] كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ [لُقْمَانَ: ١٦] : إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ عَقِبَ قَوْلِهِ:
إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ الْآيَة [لُقْمَان: ١٦].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَدَى وَعْدِهِ خَبِيرٌ بِأَحْوَالِكُمْ مِمَّا جَمَعَهُ قَوْلُهُ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً إِلَخْ وَلِذَا جَمَعَ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ: صِفَةِ عَلِيمٌ وَصِفَةِ خَبِيرٌ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ أَخَصُّ.
199

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣٢- سُورَةُ السَّجْدَةِ
أَشْهَرُ أَسْمَاءِ هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ سُورَةُ السَّجْدَةِ، وَهُوَ أَخْصَرُ أَسْمَائِهَا، وَهُوَ الْمَكْتُوبُ فِي السَّطْرِ الْمَجْعُولِ لِاسْمِ السُّورَةِ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْمُتَدَاوَلَةِ. وَبِهَذَا الِاسْمِ تَرْجَمَ لَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» وَذَلِكَ بِإِضَافَةِ كَلِمَةِ سُورَةٍ إِلَى كَلِمَةِ السَّجْدَةِ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ كَلِمَةِ الم مَحْذُوفَةً لِلِاخْتِصَارِ إِذْ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ إِضَافَةِ سُورَةٍ إِلَى السَّجْدَةِ فِي تَعْرِيفِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإِنَّهُ لَا تَكُونُ سَجْدَةٌ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي سُورَةٍ مِنَ السُّوَرِ.
وَتُسَمَّى أَيْضًا الم تَنْزِيلُ
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ
[السَّجْدَة: ١، ٢] وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الْمُلْكُ: ١].
وَتُسَمَّى الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ
[الْإِنْسَانِ: ١]. قَالَ شَارِحُو «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»
ضَبْطُ اللَّامِ مِنْ كَلِمَةِ تَنْزِيلُ بِضَمَّةٍ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَأَمَّا لَفْظُ السَّجْدَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ بِالنَّصْبِ. وَقَالَ الْعَيْنِيُّ وَالْقَسْطَلَانِيُّ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ- يَعْنِي أَنَّهُ بَيَانٌ لِلَفْظِ الم تَنْزِيلُ-، وَهَذَا بِعِيدٌ، لِأَنَّ لَفْظَ السَّجْدَةِ لَيْسَ اسْمًا لِهَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا بِإِضَافَةِ (سُورَةٍ) إِلَى (السَّجْدَةِ)، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ (السَّجْدَةِ) فِي كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَجْرُورًا بِإِضَافَةِ مَجْمُوعِ الم تَنْزِيلُ إِلَى لَفْظِ (السَّجْدَةِ)، وَسَأُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ.
وَعَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» :«سُورَةُ تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ». وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلُ مَضْمُومًا عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ، فَتَمَيَّزَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِوُقُوعِ سَجْدَةِ تِلَاوَةٍ فِيهَا مِنْ
201
بَيْنِ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِ الم، فَلِذَلِكَ فَمَنْ سَمَّاهَا سُورَةَ السَّجْدَةِ عَنَى تَقْدِيرَ مُضَافٍ أَيْ سُورَةُ الم السَّجْدَةِ. وَمَنْ سَمَّاهَا تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ «الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ» بِجَعْلِ
الم تَنْزِيلُ اسْمًا مُرَكَّبًا ثُمَّ إِضَافَتِهِ إِلَى السَّجْدَةِ، أَيْ ذَاتِ السَّجْدَةِ، لِزِيَادَةِ التَّمْيِيزِ وَالْإِيضَاحِ، وَإِلَّا فَإِنَّ ذِكْرَ كَلِمَةِ تَنْزِيلُ كَافٍ فِي تَمْيِيزِهَا عَمَّا عَدَاهَا مِنْ ذَوَاتِ الم ثُمَّ اخْتَصَرَ بِحَذْفِ الم وَإِبْقَاءِ تَنْزِيلُ، وَأُضِيفَ تَنْزِيلُ إِلَى السَّجْدَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي تَوْجِيهِ تَسْمِيَتِهَا الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ.
وَمَنْ سَمَّاهَا الم السَّجْدَةِ فَهُوَ عَلَى إِضَافَةِ الم إِلَى السَّجْدَةِ إِضَافَةً عَلَى مَعْنَى اللَّامِ وَجَعْلِ الم اسْمًا لِلسُّورَةِ. وَمَنْ سَمَّوْهَا الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِضَبْطِهَا فِي «شُرُوحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَلَا فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ مِنَ «الْجَامِعِ الصَّحِيحِ»، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الم مُضَافًا إِلَى تَنْزِيلُ عَلَى أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ اسْمٌ لِهَذِهِ السُّورَةِ مَحْكِيٌّ لَفْظُهُ، فَتَكُونُ كَلِمَةُ تَنْزِيلُ مَضْمُومَةً عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِهَا الْقُرْآنِيِّ، وَأَنْ يُعْتَبَرَ هَذَا الْمُرَكَّبُ الْإِضَافِيُّ اعْتِبَارَ الْعَلَمِ مِثْلُ: عَبْدِ اللَّهِ، وَيُعْتَبَرُ مَجْمُوعُ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ الْإِضَافِيِّ مُضَافًا إِلَى السَّجْدَةِ إِضَافَةَ الْمُفْرَدَاتِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَوْجُودٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا:
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ، فَاذْكُرُوا أَيُّهَا الْغَافِلُونَ، وَشَمِّرُوا أَيُّهَا الْمُقَصِّرُونَ» إِلَخْ فَأَمَّا الْقُلُوبُ الْقَاسِيَةُ، وَالنُّفُوسُ الْمُتَعَاصِيَةُ، فَلَنْ تَأْسُوَهَا آسِيَةٌ.
إِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شَمْسِ بْنِ مَالِكٍ
إِذْ أَضَافَ مَجْمُوعَ (ابْنِ عَمِّ) إِلَى (الصِّدْقِ)، وَلَمْ يُرِدْ إِضَافَةَ عَمِّ إِلَى الصِّدْقِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَحَدِ الطَّائِيِّينَ فِي «دِيوَانِ الْحَمَاسَةِ» :
دَاوِ ابْنَ عَمِّ السُّوءِ بِالنَّأْيِ وَالْغِنَى كَفَى بِالْغِنَى وَالنَّأْيِ عَنْهُ مُدَاوِيَا
فَإِنَّهُ مَا أَرَادَ وَصْفَ عَمِّهِ بِالسُّوءِ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ وَصْفَ ابْنِ عَمِّهِ بِالسُّوءِ. فَأَضَافَ مَجْمُوعَ ابْنِ عَمٍّ إِلَى السُّوءِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ رَجُلٍ مِنْ كَلْبٍ فِي «دِيوَانِ الْحَمَاسَةِ» :
هَنِيئًا لِابْنِ عَمِّ السُّوءِ أَنِّي مُجَاوِرَةٌ بَنِي ثُعَلٍ لَبُونِي
وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ فِي «الْحَمَاسَةِ» :
202
فَلَمَّا عَرَفْتُ الْيَأْسَ مِنْهُ وَقَدْ بَدَتْ أَيَادِي سَبَا الْحَاجَاتِ لِلْمُتَذَكِّرِ
فَأَضَافَ مَجْمُوعَ (أَيَادِي سَبَا) وَهُوَ كَالْمُفْرَدِ لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ إِلَى الْحَاجَاتِ.
وَقَالَ بَعْضُ رُجَّازِهِمْ:
أَنَا ابْنُ عَمِّ اللَّيْلِ وَابْنُ خَالِهِ إِذَا دُجًى دَخَلْتُ فِي سِرْبَالِهِ
فَأَضَافَ (ابْنُ عَمِّ) إِلَى لَفْظِ (اللَّيْلِ)، وَأَضَافَ (ابْنُ خَالٍ) إِلَى ضَمِيرِ (اللَّيْلِ) عَلَى مَعْنَى أَنَا مُخَالِطُ اللَّيْلِ، وَلَا يُرِيدُ إِضَافَةَ عَمٍّ وَلَا خَالٍ إِلَى اللَّيْلِ. وَمِنْ هَذَا اسْمُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ، فَالْمُضَافُ إِلَى (الرُّقَيَّاتِ) هُوَ مَجْمُوعُ الْمُرَكَّبِ إِمَّا (عَبْدُ اللَّهِ)، أَوِ (ابْنُ قَيْسٍ)
لَا أَحَدُ مُفْرَدَاتِهِ. وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ قَرِيبَةٌ مِنْ إِضَافَةِ الْعَدَدِ الْمُرَكَّبِ إِلَى مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْعَدَدِ عَلَى بِنَائِهِ كَمَا تَقُولُ: أَعْطِهِ خَمْسَةَ عَشْرَةَ.
وَتُسَمَّى هَذِهِ السُّورَةُ أَيْضًا سُورَةَ الْمَضَاجِعِ لِوُقُوعِ لَفْظِ الْمَضاجِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السَّجْدَة: ١٦].
وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ «مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ» أَنَّ خَالِدَ بْنَ مَعْدَانَ (١) سَمَّاهَا: الْمُنْجِيَةَ.
قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا يَقْرَؤُهَا مَا يَقْرَأُ شَيْئًا غَيْرَهَا، وَكَانَ كَثِيرَ الْخَطَايَا فَنَشَرَتْ جَنَاحَهَا وَقَالَتْ: رَبِّ اغْفِرْ لَهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ مِنْ قِرَاءَتِي فَشَفَّعَهَا الرَّبُّ فِيهِ وَقَالَ: اكْتُبُوا لَهُ بِكُلِّ خَطِيئَةٍ حَسَنَةً وَارْفَعُوا لَهُ دَرَجَةً اهـ. وَقَالَ الطَّبَرَسِيُّ: تُسَمَّى (سُورَةَ سَجْدَةِ لُقْمَانَ) لِوُقُوعِهَا بَعْدَ سُورَةِ لُقْمَانَ لِئَلَّا تَلْتَبِسَ بِسُورَةِ (حم السَّجْدَةِ)، أَيْ كَمَا سَمَّوْا سُورَةَ (حم السَّجْدَةِ) وَهِيَ سُورَةُ فُصِّلَتْ (سُورَةَ سَجْدَةِ الْمُؤْمِنِ) لِوُقُوعِهَا بَعْدَ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي إِطْلَاقِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ اسْتِثْنَاءُ ثَلَاثِ آيَاتٍ مَدَنِيَّةٍ وَهِيَ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ
_________
(١) خَالِد بن معدان الكلَاعِي الْحِمصِي أَبُو عبد الله من فُقَهَاء التَّابِعين. توفّي سنة ثَلَاث أَو أَربع أَو ثَمَان وَمِائَة، روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مُرْسلا.
203
فاسِقاً إِلَى لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السَّجْدَة: ١٨- ٢١]. قِيلَ نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَسَيَأْتِي إِبْطَالُهُ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ آيَتَيْنِ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ إِلَى بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السَّجْدَة: ١٦- ١٧] لِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالَّذِي نُعَوِّلُ عَلَيْهِ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَأَنَّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ إِنْ هُوَ إِلَّا تَأْوِيلٌ أَوْ إِلْحَاقُ خَاصٍّ بِعَامٍّ كَمَا أَصَّلْنَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النَّحْلِ وَقَبْلَ سُورَةِ نُوحٍ، وَقَدْ عُدَّتِ الثَّالِثَةَ وَالسَبْعِينَ فِي النُّزُولِ. وَعُدَّتْ آيَاتُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعَادِّينَ ثَلَاثِينَ، وَعَدَّهَا الْبَصْرِيُّونَ سَبْعًا وَعِشْرِينَ.
مِنْ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةُ
أَوَّلُهَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَتَوْبِيخُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُ مُفْتَرًى بِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمُ التَّشَرُّفُ بِنُزُولِ كِتَابٍ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ بِإِثْبَاتِ انْفِرَادِ اللَّهِ بِأَنَّهُ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمَا. وَذِكْرُ الْبَعْثِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى كَيْفِيَّةِ بَدْءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَنَسْلِهِ، وَتَنْظِيرِهِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ، وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ أَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ كَفَرُوا بِمُسْدِيهَا. وَالْإِنْحَاءُ عَلَى الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ وَوَعِيدُهُمْ. وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمُصَدِّقِينَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَوَعْدُهُمْ، وَمُقَابَلَةُ إِيمَانِهِمْ بِكُفْرِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِثْبَاتُ رِسَالَةِ رَسُولٍ عَظِيمٍ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدَى بِهِ أُمَّةً عَظِيمَةً. وَالتَّذْكِيرُ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ السَّابِقِينَ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِظَةً لِلْحَاضِرِينَ، وَتَهْدِيدُهُمْ بِالنَّصْرِ الْحَاصِلِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَخَتَمَ ذَلِكَ بِانْتِظَارِ النَّصْرِ. وَأَمَرَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُم تَحْقِيرًا لَهُمْ، وَوَعَدَهُ بِانْتِظَارِ نَصْرِهِ عَلَيْهِمْ.
204
Icon