تفسير سورة السجدة

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة السجدة
وهي مكية غير ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة: وهي قول الله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ إلى قوله تعالى: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ الآية ١٨: ٢٠، وعدد آياتها ثلاثون آية،
روى البخاري عن ابن عباس وأبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ السجدة، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ
وروى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا ينام حتى يقرأ سورتي (السجدة وتبارك).
وهي تهدف إلى تقرير توحيد الله بما تعرض من صفحة الكون وما فيه من عجائب ونشأة الإنسان، وما سيكون من مشاهد القيامة، وما لقيه السابقون، وكذلك تقرر صدق الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم الموحى إليه بهذا القرآن لهداية البشر. وكذلك تقرر البعث والحساب بما يقطع حجتهم ويزيل شكهم.
القرآن من عند الله الذي خلق ودبر وأحسن كل شيء صنعا [سورة السجده (٣٢) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩)
58
المفردات:
لا رَيْبَ: لا شك افْتَراهُ: اختلقه أَيَّامٍ: جمع يوم. والعرب تطلقه على جزء من اليوم، وقال النحاس: اليوم في اللغة بمعنى الوقت الْعَرْشِ: الملك وَاسْتَوى: بمعنى استولى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أى: أمر الدنيا ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ:
يرجع ويصعد نَسْلَهُ: ذريته، وسميت الذرية نسلا لأنها تنسل منه، أى: تنفصل مَهِينٍ أى: ضعيف، وهو النطفة ثُمَّ سَوَّاهُ أى: سوى خلقة وأتمه.
المعنى:
وهذا افتتاح لسورة السجدة وهي سورة مكية كما قدمنا، جاء افتتاحها على نسق السور المكية من الكلام على القرآن الكريم والرد على المشركين، وذكر الآيات الكونية دليلا على وحدانية الله، وعلى إمكان البعث، وفي القرآن الكريم إثبات لرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم ودليل على صدقه، وهذه السور المكية جاءت لفتح القلوب وتنوير البصائر وتكوين النفوس.
59
الم. تنزيل الكتاب الذي أنزل على محمد- حالة كونه لا ريب فيه ولا شك- من رب العالمين، وانظر إلى قوله: الكتاب وما فيه من معنى الكمال في كل شيء حيث جعل أساسا لنفى الشك عنه ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ بل أيقولون افتراه؟! واختلقه محمد من عنده؟! وهذا استفهام إنكارى، على معنى: لا يصح ولا يليق منهم هذا القول بعد قوله تعالى: تنزيل من رب العالمين وبعد ما ثبت عجزهم عن الإتيان بمثله مع التحدي السافر لهم (وبل هنا للإضراب والانتقال من عنصر في الكلام، وبل الثانية للإضراب وإبطال الكلام السابق قبلها).
لا بل هو- أى: القرآن الحق الثابت فيه- من ربك جل شأنه وهو الحق لما فيه من حق وصدق ولما فيه من تفسير للكون، وما فيه من ربط محكم بين الإنسان وهذا الكون وهو الحق لخلوه من ظلم في الدنيا أو في الآخرة، أنزله عليك لتنذر قوما- ما أتاهم من نذير من قبلك- رجاء الهداية لهم والتوفيق، وهل العرب لم يأتها نذير قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم أو أتاهم نذير كبقية الأمم؟ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [سورة فاطر آية ٢٤] والتاريخ يؤيد أنه لم يكن بين إسماعيل ومحمد نبي.
أنذرتهم رجاء الهداية والتوفيق لهم، وهذا أسلوب محكم دقيق حيث أثبت أن القرآن منزل من عند رب العالمين وأنه لا شك فيه، وهذا يستلزم صدق النبي فيما يدعيه ثم أضرب عن ذلك لينكر قولهم: إنه مفترى على الله حيث ثبت عجزهم بعد التحدي ثم أضرب عن إنكارهم هذا إلى إثبات أنه الحق الثابت من عند الله.
وما رب العالمين الذي أنزل القرآن على رسوله؟ هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، عرفهم الله كمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه، وليعلموا أنه صادر من حكيم قادر عليهم، بعباده خبير بصير، الله الذي خلق السموات والأرض، وأبدعهما، وفطرهما لا على مثال سابق في ستة أيام الله أعلم بمقدارها، أيام عند الله لا كأيام الدنيا المقدرة بدورة الأرض أمام الشمس، هذه إشارة إلى التدبير والإحكام في الخلق.
ثم استوى على العرش استواء يليق بعظمته وجلاله، وأنه لا يحده زمان ولا مكان ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وهذا رأى من يفوض أمثال
60
هذا لله وهم السلف، أما الخلف فيقولون: استوى على ملكه يدبر أمره، ويحكم سياسته، فالاستواء كناية عن الاستيلاء والتدبير.
ما لكم من دونه من ولى يلي أموركم، ويدفع عنكم عذابكم، وليس لكم شفيع من دونه ينصركم إن جاءكم بأسنا، فإن خذلكم الله الذي خلقكم لم يبق لكم ولى ولا نصير.
الله- سبحانه وتعالى- يدبر أمر الدنيا وينظم شئونها وأحوالها التي تقع فيها، كل ذلك موافق لقضائه السابق، وجار على وفق إرادته الأزلية التي قضت بهذا النظام الموجود على هذا الترتيب، وكان تدبير الأمر ونظامه مبتدئا من السماء ومنتهيا إلى الأرض، لأن التدبير يرجع إلى أمور سماوية، ومنوط بأسباب علوية، وهو ينتهى بآثاره إلى الأرض ويظهر عمليا على وجهها، كل ذلك إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الأمر ويصعد إليه ليحكم فيه بحكمه العدل يوم القيامة، يوم مقداره ألف سنة مما تعدون، وقد جاء في سورة «سأل» كان مقداره خمسين ألف سنة، والمخلص من هذا أن يوم القيام فيه أيام فمنها ما مقداره خمسون ألف سنة، ومنها ما مقداره ألف سنة، وقيل: إن الزمن الواحد تارة يكون طويلا جدا وطورا يكون قصيرا عند صاحبه.
ويوم كظل الرمح قصر طوله دم الزق عنا واصطكاك المزاهر
وقيل: إن الملك يعرج إلى مكانه المحدد له في يوم مقدر بالنسبة لنا ألف سنة، وهو عنده لحظة الله أعلم بها.
ذلكم الله خالق السماء والأرض ومدبر هذا الكون، هو عالم الغيب والشهادة فاحذروا عقابه، وانظروا في كتابه نظر تأمل وبحث لعلكم ترجعون وتثوبون إلى رشدكم، وهو العزيز لا يعجزه شيء، القاهر لا يقف دونه شيء، ومع هذا فهو الرحيم بخلقه الرحمن بهم، يدعوهم إلى الخير، ويرسل لهم رسلا تهديهم إلى الحق، وينزل عليهم كتبا فيها الشفاء والرحمة والنور والهداية للناس جميعا.
وهو الله لا إله إلا هو الذي أحسن كل شيء خلقه، إذ هو مرتب وجار على ما اقتضته الحكمة، وأوحته المصلحة، فكل شيء في الكون له مكانه ونظامه وترتيبه حتى الكلب العقور والثعبان والحية، فالله خلق هذا العالم كله، على نظام دقيق،
61
وترتيب محكم، وما يعقل هذا إلا العالمون، وإنك قد ترى نباتا أو حيوانا أو شيئا في هذا الكون وتخفى عليك حكمته، ويعمى عنك سر وجوده، تكشف لك الأيام عن أسرار وحكم لا يجليها لوقتها إلا خالقها العليم بها البصير بكنهها.
وهو الذي بدأ خلق الإنسان الأول من طين ثم سواه وأتمه، ونفخ فيه من روحه فكان الإنسان مكونا من مادة هي طين لازب ثم من روح هي من الحق تبارك وتعالى.
وجعل لكم أيها الناس سمعا وبصرا وقلوبا وأفئدة لعلكم تنظرون فتدركوا الأسرار، وتقفوا على الحكم والأخبار، ولا شك أن هذه طرق العلم الصحيح والمعرفة الصادقة، ولكن قليلا ما تعرفون فتشكرون، بل ران على قلوبهم، وختم على سمعهم وأبصارهم، فهم لا يهتدون، وقليلا ما يشكرون.
إنكارهم للبعث [سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٠ الى ١٤]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤)
62
المفردات:
ضَلَلْنا العرب تقول: ضل الماء في اللبن: إذا ذهب، وتقول للشيء غلب عليه غيره حتى خفى فيه أثره: ضل، وتقول لما غاب في الأرض: ضل، والمراد هلكنا وصرنا ترابا يَتَوَفَّاكُمْ توفى العدد والشيء: إذا استوفاه وقبضه جميعا، وقالوا:
توفاه الله، أى: قبض روحه، والتوفي والاستيفاء بمعنى واحد، والمراد: يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد منهم ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ مطأطئوها وخافضوها الْجِنَّةِ: الجن.
المعنى:
وقال المشركون: أإذا هلكنا وصرنا مختلطين بتراب الأرض لا نتميز منه كما يضل الماء في اللبن، أو غبنا في الأرض بالدفن فيها أنبعث؟ والمعنى: أنبعث إذا متنا وصرنا إلى هذا الحال؟ هم بلقاء ربهم للحساب والجزاء كافرون، فلم يكفروا بقدرة الله على الإعادة فقط بل هم كافرون بأصل الثواب والعقاب يوم القيامة، قل لهم: يتوفاكم ملك الموت وهو عزرائيل على الصحيح الذي وكل إليه قبض أرواحكم فلن يفلت منه منكم أحد، ولن يشغله شيء عن قبض أرواحكم إذ هو عمله المطلوب منه ثم إلى ربكم ترجعون، تراه خاطبهم بتوفى ملك الموت لهم ثم بالرجوع إلى ربهم بعد ذلك مبعوثين، وهذا معنى لقاء الله الذي كفروا به.
ذكر هذا المعنى في الأنعام بقوله: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وفي سورة الزمر: بقوله:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، ولا منافاة لأن الله- تعالى- هو المتوفى حقيقة بخلق الموت وأمر الملائكة بنزع الروح، ولملك الموت أعوان له ينزعون الروح من الأظافر إلى الحلقوم ثم يقبضها عزرائيل الذي هو ملك الموت فلا منافاة بين الآيات.
ولو ترى يا محمد إذ المجرمون ناكسو رءوسهم من الخزي والعار ساعة الحساب لرأيت أمرا فظيعا ولرأيتهم على أسوأ حال وأفظع وضع، وهذا من باب التمني، على معنى ليتك ترى يا محمد المجرمين وقت الحساب وهم في الغم والخزي والهم إلى الأذقان، ليتك تراهم لتشمت بهم حيث تجرعت منهم الغصص ونالك من عداوتهم ما نالك، يقول المجرمون ساعة الحساب: ربنا أبصرنا وسمعنا، أبصرنا بصدق وعدك وسمعنا بصدق
63
رسلك، فهم قد أبصروا حيث لا ينفعهم البصر أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا «١» يقولون ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا إلى الدنيا نعمل صالحا إنا موقنون، فوعدك حق ولقاؤك صدق، وقد علم الله أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، وكيف يكون من هؤلاء إيمان وتوفيقهم إلى الطاعة، ولو شئنا لآتينا كل نفس من النفوس هداها فتهتدى بالإيمان والطاعة باختيار منها وكسب لها ولكن لم نشأ توفيق الناس جميعا إلى ذلك، بل حق القول منى وثبت وحم القضاء ونزل وهو لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
«٢» وعند بعض العلماء في مثل هذه الآيات أن المعنى: ولو شئنا إلجاء الناس إلى الهدى لآتينا كل نفس هداها، ولكن قضت حكمتنا أن يكون للجنة والنار قوم فتركناهم واختيارهم وحق القول منى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، وتقول لهم الخزنة حين دخولهم النار: ذوقوا العذاب الأليم بسبب نسيانكم هذا اليوم وترككم الاستعداد له فذوقوا عذاب الخلد الدائم بما كنتم تعملون من الكفر والتكذيب.
وفي قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها «٣». وفي قوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً «٤». مع قوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ «٥». وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «٦» وقع خلاف بين العلماء هل العبد مجبور لا اختيار له نظرا إلى قوله: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «٧» وأمثالها في القرآن؟ أم هو مختار والاختيار مناط الثواب والعقاب نظرا إلى قوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا؟ والواقع أنه قد فرط أصحاب كل رأى.
والحق- والله أعلم- أن هناك فرقا بين فعل فعلته باختيارك الظاهري، وبين فعل فعلته مضطرا كارتعاش اليد مثلا، فالكل من الله، والله صاحب التصريف، ولكن في الأول يظهر الاختيار بصورة واضحة، وصح تعليق الثواب والعقاب حينئذ بصاحبه ضرورة أنه لا يعرف عند الفعل مشيئة الله له، وإن كان في الواقع هو مجبور على هذا الفعل الموافق للمشيئة فهو مجبور في صورة مختار.
(١) - سورة الكهف آية ٢٦.
(٢) - سورة هود آية ١١٩.
(٣) - سورة السجدة آية ١٣.
(٤) - سورة يونس آية ٩٩.
(٥) - سورة المزمل آية ١٩. [.....]
(٦) - سورة الإنسان آية ٣٠ سورة التكوير آية ٢٩.
(٧) - سورة الإنسان آية ٢٩.
64
وهؤلاء هم المؤمنون وهذا هو جزاؤهم [سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٥ الى ٢٢]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)
المفردات:
تَتَجافى التجافي: الابتعاد والارتفاع الْمَضاجِعِ: جمع مضجع، وهو الموضع الذي يضجع فيه بفرش النوم قُرَّةِ أَعْيُنٍ القرة: اسم لما يحصل به القرير، أى: الفرح والسرور فاسِقاً أى: كافرا.
65
المعنى:
لقد مضى ذكر الكفار الذين أجرموا وعملوا السيئات، وما كان من حالهم يوم القيامة، وهنا الكلام على المؤمنين الذين عملوا الصالحات:
إنما يؤمن بآياتنا القرآنية والكونية، ويصدق برسلنا الذين إذا ذكروا بها، وتليت عليهم بعض آياتها خروا ساجدين لله بأعضائهم، وسبحوا بحمد ربهم، أى: جمعوا بين التسبيح والحمد حيث قالوا: سبحان الله وبحمده، وسبحان ربي الأعلى، وهم لا يستكبرون عن عبادته بقلوبهم، فهي عامرة بالإيمان، ترى في العبادة قرة عينها وراحة ضميرها إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر ٦].
ترى أن الله- سبحانه- بين الدرجة العالية للمؤمن الذي إذا ذكر بالقرآن حصل منه سجود بالأعضاء، وحمد وتنزيه باللسان، وخضوع بالقلب والجنان، كل ذلك بمجرد التذكير لا خوفا من عقاب ولا طمعا في ثواب.
ثم ذكر صنفا أقل وهم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، ويبتعدون عن الفراش الوثير، ويهرعون إلى الصلاة يدعون ربهم خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه، وهم ينفقون بعض ما رزقناهم في سبيل الله.
القيام بالليل والتهجد فيه لون من العبادة عال، وتوفيق من الله كبير، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد ورد فيه مع هذه الآيات آيات وأحاديث كثيرة كلها تهدف إلى بيان فضله، وجزيل مثوبته.
ففي حديث معاذ بن جبل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: «ألا أدلّك على أبواب الخير؟
الصّوم جنّة، والصّدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النّار، وصلاة الرّجل في جوف اللّيل- قال: ثم تلا تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ يَعْمَلُونَ أخرجه أبو داود.
وغير هذا الحديث كثير، وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن هذه الآية المراد بها التنفل بين المغرب والعشاء، وقيل: هو صلاة الرجل العشاء والصبح في جماعة، فإن هذا يستدعى انتظار الجماعة وهو مشغول بالذكر والتسبيح وصلاة النفل، فقد وصل التجافي أول الليل وآخره، هؤلاء الناس الذين قاموا بالليل أو انتظروا الجماعة في صلاة العشاء والصبح والناس نيام، قد أخفوا أعمالهم، وطهروا نفوسهم من الرياء
66
والنفاق، لهم جزاء من جنس أعمالهم، فلا تعلم نفس عظمة ما أخفى لهم وأعد في الجنات من النعيم المقيم، والثواب الجزيل على سبيل التفصيل، لما أخفوا أعمالهم أخفى الله ثوابها جزاء وفاقا، قال الحسن البصري: أخفى قوم عملهم فأخفى الله لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر،
وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: قال الله تعالى: «أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»
قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ.
أولئك الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا، وهم الذين يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم وعد الله الصدق الذين كانوا يوعدون، ولا غرابة فالعبد يعمل سرا أسره إلى الله لم يعلم به الناس، فأسر الله له يوم القيامة قرة أعين، ولعل التقييد بقوله: «عن المضاجع» لمزيد مدحهم وبيان قوة إيمانهم، لأن المضجع إذا كان مفروشا كان النوم فيه ألذ، والنفس إليه أميل، فإذا هجره المؤمن، والحالة هذه لأجل الصلاة، ومناجاة ربه، كان ذلك أمدح له وأدل على كمال يقينه.
أفبعد ما بيناه من التفاوت بين المؤمن الذي ذكرت أوصافه، والفاسق الكافر الذي ذكرت أحواله يكون المؤمن كالفاسق؟ لا. إنهم لا يستوون أبدا في الدنيا والآخرة. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فأولئك لهم جنات المأوى التي فيها المساكن والدور والغرف العالية التي أعدت وهيئت لتكون نزلا، أى: للضيافة والكرم جزاء لهم بما كانوا يعملون، وأما الذين فسقوا وخرجوا عن الطاعة فالنار هي المأوى لهم، التي يأوون لها من شدة الموقف حتى إذا ما دخلوها وجدوها نارا تلظى، فيحاولون الخروج، وأنى لهم ذلك؟ إذ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وقيل لهم تأنيبا وتقريعا: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون.
ولا غرابة في هذا فالله يقول: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ
[الجاثية ٢١] أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [سورة ص آية ٢٨] أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ وليس من العدل في شيء أن يسوى بين المؤمن العامل والكافر الفاسق!!
67
ولنذيقنهم، أى: الكفار والعصاة بعض العذاب الأدنى من مصائب الدنيا وآفاتها لعلهم يرجعون ويتنبهون، لنذيقنهم بعض العذاب البسيط دون العذاب الكبير لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويؤمنون بربهم، وتلك سنة الله مع الأمم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ [سورة الأعراف آية ١٣٣].
ولا غرابة في ذلك فلا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها عتوا واستكبارا وحسدا من عند نفسه! وهذا الصنف من الناس جزاؤه واجب، وعقابه أمر محتم أوجبه العدل والحكم القسط، إن ربك من المجرمين منتقم جبار، سينتقم منهم أشد الانتقام.
مواعظ وعبر [سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢٣ الى ٣٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)
68
المفردات:
مِرْيَةٍ: شك أَئِمَّةً: جمع إمام، أى: زعماء وقادة في الدين أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ: أو لم يتبين لهم الْقُرُونِ: الأمم السابقة الْجُرُزِ: هي الأرض اليابسة التي جرز نباتها، أى: قطع لرعى أو لعدم الماء فيها مع صلاحيتها للإنبات، وقيل: رجل جروز إذا كان لا يبقى شيئا إلا أكله، وناقة جروز، أى: تأكل كل شيء تجده، وسيف جروز، أى: قاطع ماض مَتى هذَا الْفَتْحُ متى هذا الحكم؟ إذ الفتح القضاء، وقيل للحاكم: فاتح وفتاح لأن الأشياء تنفتح على يديه وتنفصل، وعليه قوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ.
وهذا رجوع إلى أحد الأصول الثلاثة، وهي الرسالة والتوحيد وإثبات البعث التي تعنى بها السور المكية، وإنما اختار موسى لكثرة الشبه بينه وبين النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ولكثرة أتباعه وقوة تأثيرهم في المجتمع العربي. وكل من المسيحيين واليهود يؤمنون به، ومع هذا كثير من المواعظ والعبر.
المعنى:
ولقد آتينا موسى أخاك الكتاب فأوذى وكذّب وناله ما ناله من ألوان العذاب والسخرية، فلا تكن في شك من أنه سيلقاك ما لقيه من التكذيب والأذى، إذ تلك سنة الكون ونظام الناس. لا بد من اصطراع أهل الحق مع أهل الباطل، وجعلنا الكتاب الذي أنزل على موسى هدى ونورا لبنى إسرائيل، وجعلنا منهم أئمة وقادة، وهم أنبياء بنى إسرائيل يهدون الناس بأمرنا، ويدعونهم ويعظونهم، وكانوا بآياتنا يوقنون، كل ذلك لما صبروا على أحكام الدين وتكاليفه، وصبروا على البلاء وعلى متاع الدنيا الزائل.
69
إن ربك هو يفصل بين المؤمنين والكافرين المنكرين للرسالة، ويقضى بحكمه العدل فيجازى كلا على عمله، ويعطيه ما يستحق من ثواب أو عقاب، وقيل: المعنى: إن ربك يقضى بين الأنبياء وأممهم بالحق.
أغفلوا ولم يتبين لكفار مكة إهلاكنا كثيرا من الأمم السابقة- حالة كونهم يمشون في مساكنهم- فيعبتروا ويتعظوا بما حل بغيرهم؟! إن في ذلك لآيات دالات على قدرة الله وحكمه العدل بين الكفار والمؤمنين، أفلا يسمعون سماع قبول وتدبر بقلوبهم؟
وأعموا ولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز التي لا نبات فيها بواسطة المطر أو الأنهار والسيول فنخرج بالماء زروعا وثمارا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون؟! ألم يروا إلى مثل مصر فإنها هبة النيل، ولولا أن الله ساقه إليها لبقيت مصر قطعة من الصحراء لا خير فيها ولا حياة، وإن ربك على كل شيء قدير أفلا يبصرون ذلك فيعتبرون ويتعظون؟.
وكان المسلمون يقولون: غدا سيفتح الله علينا، ويحكم بيننا بالحق وهو خير الفاصلين. فكان المشركون يقولون: متى هذا الفتح؟ استبعادا وإنكارا واستهزاء بالنبي وصحبه، قل لهم: يوم الفتح، والقضاء الفصل هو يوم القيامة، يومئذ لا ينفع الذين كفروا إيمانهم بأنهم على باطل، وأنهم تركوا الصراط المستقيم واتبعوا سبل الشيطان فضلوا عن سواء السبل، لا ينفعهم إيمانهم بأن النبي والقرآن حق، ولا هم ينظرون بل يأخذون جزاءهم فورا.
فأعرض عنهم، وانتظر ما يحل بهم من العذاب في الدنيا والآخرة، إنهم منتظرون بك حادث موت أو قتل فيستريحون منك، وما علموا أن الله عاصمك من الناس ومؤيدك، حتى تؤدى رسالتك كاملة غير منقوصة.
70
Icon