تفسير سورة الحديد

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة الحديد

بسم الله الرحمن الرّحيم

سُورَةُ الْحَدِيدِ
وَهِيَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)
وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّسْبِيحُ تَبْعِيدُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ السُّوءِ، وَكَذَا التَّقْدِيسُ مِنْ سَبَحَ فِي الْمَاءِ وَقَدَّسَ فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ فِيهَا وَأَبْعَدَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّسْبِيحَ عَنِ السُّوءِ يَدْخُلُ فِيهِ تَبْعِيدُ الذَّاتِ عَنِ السُّوءِ، وَتَبْعِيدُ الصِّفَاتِ وَتَبْعِيدُ الْأَفْعَالِ، وَتَبْعِيدُ الْأَسْمَاءِ وَتَبْعِيدُ الْأَحْكَامِ، أَمَّا فِي الذَّاتِ: فَأَنْ لَا تَكُونَ مَحَلًّا لِلْإِمْكَانِ، فَإِنَّ السُّوءَ هُوَ الْعَدَمُ وَإِمْكَانُهُ، ثُمَّ نَفْيُ الْإِمْكَانِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْكَثْرَةِ، وَنَفْيُهَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْجِسْمِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ، وَنَفْيَ الضِّدِّ وَالنِّدِّ وَحُصُولَ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ. وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ: فَأَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الْجَهْلِ بِأَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَيَكُونَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، وَتَكُونَ صِفَاتُهُ مُنَزَّهَةً عَنِ التَّغَيُّرَاتِ. وَأَمَّا فِي الْأَفْعَالِ: فَأَنْ تَكُونَ فَاعِلِيَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى مَادَّةٍ وَمِثَالٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَادَّةٍ وَمِثَالٍ فَهُوَ فِعْلُهُ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَهُوَ فِعْلُهُ، فَلَوِ افْتَقَرَتْ فَاعِلِيَّتُهُ إِلَى مَادَّةٍ وَمِثَالٍ، لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَغَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ، لِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مُنْقَضِيَةٍ، فَيَكُونُ مُمْكِنًا، كُلُّ مَكَانٍ فهو يعد ممكن مركب مِنْ أَفْرَادِ الْأَحْيَازِ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمْكِنًا وَمُحْدَثًا، فَلَوِ افْتَقَرَتْ فَاعِلِيَّتُهُ إِلَى زَمَانٍ وإلى مكان، لا فتقرت فَاعِلِيَّةُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ إِلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَغَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ، وَإِلَّا لَكَانَ مُسْتَكْمَلًا بِغَيْرِهِ نَاقِصًا فِي ذَاتِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ: فَكَمَا قَالَ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: ١٨]. وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ:
فَهُوَ أَنْ كُلَّ مَا شَرَعَهُ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ وَإِحْسَانٌ وَخَيْرٌ، وَأَنَّ كَوْنَهُ فَضْلًا وَخَيْرًا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ، وَبِالْجُمْلَةِ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ حُكْمَهُ وَتَكْلِيفَهُ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا تَكْلِيفٌ وَلَا يَجِبُ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَصْلًا، فَهَذَا هُوَ ضَبْطُ مَعَاقِدِ التَّسْبِيحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جَاءَ فِي بَعْضِ الْفَوَاتِحِ سَبَّحَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى لَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُسَبِّحَةً غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، بَلْ هِيَ كَانَتْ مُسَبِّحَةً أَبَدًا فِي الْمَاضِي، وَتَكُونُ مُسَبِّحَةً أَبَدًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهَا مُسَبِّحَةً صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِمَاهِيَّاتِهَا، فَيَسْتَحِيلُ انفكاك
441
تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ عَنْ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْمُسَبَّحِيَّةَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِمَاهِيَّاتِهَا، لِأَنَّ كل ما عدا الواجب ممكن، وكل ممكن فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْوَاجِبِ، وَكَوْنُ الْوَاجِبِ وَاجِبًا يَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ سُوءٍ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَسْمَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْمُسَبَّحِيَّةَ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الْمَاضِي، وَتَكُونُ حَاصِلَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا الْفِعْلُ تَارَةً عُدِّيَ بِاللَّامِ كَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأُخْرَى بِنَفْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفَتْحِ: ٩] وَأَصْلُهُ التَّعَدِّي بِنَفْسِهِ، لِأَنَّ مَعْنَى سَبَّحْتُهُ أَيْ بَعَّدْتُهُ عَنِ السُّوءِ، فَاللَّامُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ اللَّامِ فِي نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ يُسَبِّحُ للَّه أَحْدَثَ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّه وَخَالِصًا لِوَجْهِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: زَعَمَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا التَّسْبِيحِ، التَّسْبِيحُ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ، واحتج عليه بوجهين الأول: أنه تعالى قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤] فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ التَّسْبِيحِ، هُوَ دَلَالَةَ آثَارِ الصُّنْعِ عَلَى الصَّانِعِ لَكَانُوا يَفْقَهُونَهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٩] فَلَوْ كَانَ تَسْبِيحًا عِبَارَةً عَنْ دَلَالَةِ الصُّنْعِ عَلَى الصَّانِعِ لَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ تَخْصِيصٌ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ [لِحُجَّتَيْنِ] :
أَمَّا الْأُولَى: فَلِأَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْأَجْسَامِ عَلَى تَنْزِيهِ ذَاتِ اللَّه وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ مِنْ أَدَقِّ الْوُجُوهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَقَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ لَعَلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَقْوَامٍ جَهِلُوا بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: لَا تَفْقَهُونَ إِشَارَةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِشَارَةً إِلَى جَمْعٍ مُعَيَّنٍ، فَهُوَ خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ مَا فَقِهُوا ذَلِكَ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يَفْقَهَهُ بَعْضُهُمْ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فَضَعِيفَةٌ، لِأَنَّ هُنَاكَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ اللَّه خَلَقَ حَيَاةً فِي الْجَبَلِ حَتَّى نَطَقَ بِالتَّسْبِيحِ. أَمَّا هَذِهِ الْجَمَادَاتُ الَّتِي تَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا جَمَادَاتٌ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تُسَبِّحُ اللَّه عَلَى سَبِيلِ النُّطْقِ بِذَلِكَ التَّسْبِيحِ، إِذْ لَوْ جَوَّزْنَا صُدُورَ الْفِعْلِ الْمُحْكَمِ عَنِ الْجَمَادَاتِ لَمَا أَمْكَنَنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِأَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا حَيًّا، وَذَلِكَ كُفْرٌ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ التَّسْبِيحَ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْعَاقِلِ الْعَارِفِ باللَّه تَعَالَى، فَيَنْوِي بِذَلِكَ الْقَوْلِ تَنْزِيهَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْجَمَادَاتِ، فَإِذَا التَّسْبِيحُ الْعَامُّ الْحَاصِلُ مِنَ الْعَاقِلِ وَالْجَمَادِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تُسَبِّحُ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُمْكِنَاتِ بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ يُرِيدُ لَيْسَ لَهُ عَنْ فِعْلِهِ وَتَكْوِينِهِ مَانِعٌ وَلَا دَافِعٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ،.
فَنَقُولُ: إِنْ حَمَلْنَا/ التَّسْبِيحَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ عَلَى التَّسْبِيحِ بِالْقَوْلِ، كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ما فِي السَّماواتِ من في السموات وَمِنْهُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ [فُصِّلَتْ: ٣٨]. وَمِنْهُمُ الْمُقَرَّبُونَ: قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ [سبأ: ٤١] ومن سَائِرُ الْمَلَائِكَةِ: قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا [الفرقان: ١٨] وَأَمَّا الْمُسَبِّحُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي الْأَرْضِ فَمِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كَمَا قَالَ ذُو النُّونِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨٧] وَقَالَ مُوسَى: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: ١٤٣] وَالصَّحَابَةُ يُسَبِّحُونَ كَمَا قَالَ: سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩١] وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا هَذَا التَّسْبِيحَ عَلَى التَّسْبِيحِ الْمَعْنَوِيِّ:
فأجزاء السموات وَذَرَّاتُ الْأَرْضِ وَالْجِبَالُ وَالرِّمَالُ وَالْبِحَارُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ وَاللَّوْحُ وَالْقَلَمُ وَالنُّورُ وَالظُّلْمَةُ وَالذَّوَاتُ وَالصِّفَاتُ وَالْأَجْسَامُ وَالْأَعْرَاضُ كُلُّهَا مُسَبِّحَةٌ خَاشِعَةٌ خَاضِعَةٌ لِجَلَالِ اللَّه
442
مُنْقَادَةٌ لِتَصَرُّفِ اللَّه كَمَا قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤] وَهَذَا التَّسْبِيحُ هُوَ الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [النحل: ٤٩] أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُنَازِعُهُ شَيْءٌ، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَالْحَكِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَحْتَجِبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ أَوْ أَنَّهُ الَّذِي يَفْعَلُ أَفْعَالَهُ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا لَا جَرَمَ قَدَّمَ الْعَزِيزَ عَلَى الْحَكِيمِ فِي الذِّكْرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزِيزَ لَيْسَ إِلَّا هُوَ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُفِيدُ الْحَصْرَ، يُقَالُ: زَيْدٌ هُوَ الْعَالِمُ لَا غَيْرُهُ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الْوَاحِدُ، لِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِعَزِيزٍ وَلَا حَكِيمٍ وَمَا لَا يَكُونُ كذلك لا يكون إلها. ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢)
[في قوله تعالى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَلِكَ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي يَسْتَغْنِي فِي ذَاتِهِ، وَفِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، وَيَحْتَاجُ كُلُّ مَا عَدَاهُ إِلَيْهِ فِي ذَوَاتِهِمْ وَفِي صِفَاتِهِمْ، وَالْمَوْصُوفُ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَيْسَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ. أَمَّا أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ فِي ذَاتِهِ وَفِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ فَلِأَنَّهُ لَوِ افْتَقَرَ فِي ذَاتِهِ إِلَى الْغَيْرِ لَكَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ فَكَانَ مُحْدَثًا، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَأَمَّا أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، فَلِأَنَّ كُلَّ مَا يَفْرِضُ صِفَةٌ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هُوِيَّتَهُ سُبْحَانَهُ كَافِيَةً فِي تَحَقُّقِ تِلْكَ الصِّفَةِ سَوَاءٌ كَانَتِ الصِّفَةُ سَلْبًا أَوْ إِيجَابًا أَوْ لَا تَكُونُ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ هُوِيَّتَهُ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ مِنْ دَوَامِ تِلْكَ الْهُوِيَّةِ دَوَامَ تِلْكَ الصِّفَةِ سَلْبًا كَانَتِ الصِّفَةُ أَوْ إِيجَابًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ لَزِمَ الْهُوِيَّةَ كَافِيَةٌ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ تِلْكَ الْهُوِيَّةُ مُمْتَنِعَةَ الِانْفِكَاكِ عَنْ ثُبُوتِ تِلْكَ الصِّفَةِ وَعَنْ سَلْبِهَا، ثُمَّ ثُبُوتُ تِلْكَ الصِّفَةِ وَسَلْبُهَا، يَكُونُ مُتَوَقِّفًا عَلَى ثُبُوتِ أَمْرٍ آخَرَ وَسَلْبِهِ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَى الشَّيْءِ مَوْقُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَهُوِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ تَكُونُ مَوْقُوفَةَ التَّحَقُّقِ عَلَى تَحَقُّقِ عِلَّةِ/ ثُبُوتِ تِلْكَ الصِّفَةِ أَوْ عِلَّةِ سَلْبِهَا، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ فَوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَهَذَا خُلْفٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ وَلَا الثُّبُوتِيَّةِ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا أَنَّ كَلَّ مَا عَدَاهُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ فَلِأَنَّ كُلَّ مَا عداه ممكن، لأن الواجب الْوُجُودِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ، وَلَا وَاجِبَ إِلَّا هَذَا الْوَاحِدُ فَإِذَنْ كُلُّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ جَوْهَرًا أَوْ عَرَضًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْجَوْهَرُ رُوحَانِيًّا أَوْ جُسْمَانِيًّا، وَذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِلَى أَنَّ تَأْثِيرَ وَاجِبِ الْوُجُودِ فِي إِعْطَاءِ الْوُجُودِ لَا فِي الْمَاهِيَّاتِ فَوَاجِبُ الْوُجُودِ يَجْعَلُ السَّوَادَ مَوْجُودًا، أَمَّا أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَجْعَلَ السَّوَادَ سَوَادًا، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَوْنُ السَّوَادِ سَوَادًا بِالْفَاعِلِ، لَكَانَ يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ عَدَمِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ أَنْ لَا يَبْقَى السَّوَادُ سَوَادًا وَهَذَا مُحَالٌ، فَيُقَالُ لَهُمْ يَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ الْوُجُودُ أَيْضًا بِالْفَاعِلِ، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْ فَرْضِ عَدَمِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْوُجُودُ وُجُودًا، فَإِنْ قَالُوا: تَأْثِيرُ الْفَاعِلِ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ بَلْ فِي جَعْلِ الْمَاهِيَّةِ مَوْصُوفَةً بِالْوُجُودِ، قُلْنَا: هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَوْصُوفِيَّةَ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ لَيْسَ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، إِذْ لَوْ كَانَ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا لَكَانَتْ لَهُ مَاهِيَّةٌ وَوُجُودٌ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ مَوْصُوفِيَّةُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ زَائِدَةً عَلَيْهِ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ مَوْصُوفِيَّةُ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُوهِ لَيْسَ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، اسْتَحَالَ أَنْ يُقَالَ: لَا تَأْثِيرَ لِلْفَاعِلِ فِي الْمَاهِيَّةِ وَلَا فِي الْوُجُودِ بَلْ تَأْثِيرُهُ فِي مَوْصُوفِيَّةِ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ الثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَوْصُوفِيَّةُ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، اسْتَحَالَ أَيْضًا جَعَلُهَا أَثَرًا لِلْفَاعِلِ، وَإِلَّا لَزِمَ عند فرض
عَدَمِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ أَنْ تَبْقَى الْمَوْصُوفِيَّةُ مَوْصُوفِيَّةً، فَظَهَرَ أَنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَوْ تَمَّتْ وَاسْتَقَرَّتْ يَلْزَمُ نَفْيُ التَّأْثِيرِ وَالْمُؤَثِّرِ أَصْلًا، بَلْ كَمَا أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ إِنَّمَا صَارَتْ مَوْجُودَةً بِتَأْثِيرِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَكَذَا أَيْضًا الْمَاهِيَّاتُ إِنَّمَا صَارَتْ مَاهِيَّاتٍ بِتَأْثِيرِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَإِذَا لَاحَتْ هَذِهِ الْحَقَائِقُ ظَهَرَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ صِدْقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بل ملك السموات وَالْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ مُلْكِهِ أَقَلُّ مِنَ الذَّرَّةِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى كَمَالِ ملكه أصلا، لأن ملك السموات وَالْأَرْضِ مُلْكٌ مُتَنَاهٍ، وَكَمَالُ مُلْكِهِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَالْمُتَنَاهِي لَا نِسْبَةَ لَهُ الْبَتَّةَ إِلَى غَيْرِ المتناهي، لكنه سبحانه وتعالى ذكر ملك السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ عُقُولُهُمْ ضَعِيفَةٌ قَلَّمَا يُمْكِنُهُمُ التَّرَقِّيَ مِنَ الْمَحْسُوسِ إلى المعقول.
ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ دَلَائِلِ الآفاق ملك السموات وَالْأَرْضِ ذَكَرَ بَعْدَهُ دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ فَقَالَ: يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: يُحْيِي الْأَمْوَاتَ لِلْبَعْثِ، وَيُمِيتُ الْأَحْيَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: يُحْيِي النُّطَفَ فَيَجْعَلُهَا أشخاصا عقلاء نَاطِقِينَ وَيُمِيتُ/ وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ تَخْصِيصِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَبِأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: ٢] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِإِيجَادِ هَاتَيْنِ الْمَاهِيَّتَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَا يَمْنَعُهُ عَنْهُمَا مَانِعٌ وَلَا يَرُدُّهُ عَنْهُمَا رَادٌّ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِيهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُفَسِّرُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَوْضِعُ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَفْعٌ عَلَى مَعْنَى هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نصبا على معنى: له ملك السموات وَالْأَرْضِ حَالَ كَوْنِهِ مُحْيِيًا وَمُمِيتًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ أَوَّلًا: وَدَلَائِلَ الْأَنْفُسِ ثَانِيًا: ذَكَرَ لَفْظًا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَقَالَ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَفَوَائِدُ هَذِهِ الآية مذكورة في أول سورة الملك.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٣]
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: «إِنَّهُ الْأَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَالْآخِرُ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ»
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ مَقَامٌ مَهِيبٌ غَامِضٌ عَمِيقٌ وَالْبَحْثُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقَدُّمَ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ يُعْقَلُ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: التَّقَدُّمُ بِالتَّأْثِيرِ فَإِنَّا نَعْقِلُ أَنَّ لِحَرَكَةِ الْأُصْبُعِ تَقَدُّمًا عَلَى حَرَكَةِ الْخَاتَمِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّقَدُّمِ كَوْنُ الْمُتَقَدِّمِ مُؤَثِّرًا فِي الْمُتَأَخِّرِ وَثَانِيهَا: التَّقَدُّمُ بِالْحَاجَةِ لَا بِالتَّأْثِيرِ، لِأَنَّا نَعْقِلُ احْتِيَاجَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْوَاحِدِ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْوَاحِدَ لَيْسَ عِلَّةً لِلِاثْنَيْنِ وَثَالِثُهَا: التَّقَدُّمُ بِالشَّرَفِ كَتَقَدُّمِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ وَرَابِعُهَا: التَّقَدُّمُ بِالرُّتْبَةِ، وَهُوَ إِمَّا مِنْ مَبْدَأٍ مَحْسُوسٍ كَتَقَدُّمِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ، أَوْ مِنْ مَبْدَأٍ مَعْقُولٍ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا جَعَلْنَا الْمَبْدَأَ هُوَ الْجِنْسَ الْعَالِيَ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ النَّوْعُ أَشَدَّ تَسَفُّلًا كَانَ أَشَدَّ تَأَخُّرًا، وَلَوْ قَلَبْنَاهُ انْقَلَبَ الْأَمْرُ وَخَامِسُهَا: التَّقَدُّمُ بِالزَّمَانِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ، مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْمَوْجُودِ فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ، فَهَذَا مَا حَصَّلَهُ أَرْبَابُ الْعُقُولِ مِنْ أَقْسَامِ الْقَبْلِيَّةِ وَالتَّقَدُّمِ وَعِنْدِي أَنَّ هاهنا قِسْمًا سَادِسًا، وَهُوَ مِثْلُ تَقَدُّمِ بَعْضِ أَجْزَاءِ
444
الزَّمَانِ عَلَى الْبَعْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّقَدُّمَ لَيْسَ تَقَدُّمًا بِالزَّمَانِ، وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ مُحِيطًا بِزَمَانٍ آخَرَ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْمُحِيطِ كَالْكَلَامِ فِي الْمُحَاطِ بِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُحِيطَ بِكُلِّ زَمَانٍ زَمَانٌ آخَرُ لَا إِلَى نِهَايَةٍ بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّهَا حَاضِرَةً فِي هَذَا الْآنِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الْآنُ الْحَاضِرُ وَاحِدًا، بَلْ يَكُونُ كُلُّ حَاضِرٍ فِي حَاضِرٍ آخَرَ لَا إِلَى نِهَايَةٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الْآنَاتِ الْحَاضِرَةِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْآنَاتِ الْمَاضِيَةِ، فَلِمَجْمُوعِ الْأَزْمِنَةِ زَمَانٌ آخَرُ مُحِيطٌ بِهَا لَكِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ زَمَانًا كَانَ دَاخِلًا فِي مَجْمُوعِ الْأَزْمِنَةِ، فإذا ذلك لزمان دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ وَخَارِجٌ عَنْهُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَظَهَرَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الظَّاهِرِ أَنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ عَلَى الْبَعْضِ لَيْسَ بِالزَّمَانِ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِالْعِلَّةِ وَلَا بِالْحَاجَةِ، وَإِلَّا لوجدا معا، كما أن العلة والعلول/ يُوجِدَانِ مَعًا، وَالْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ يُوجِدَانِ مَعًا، وَلَيْسَ أَيْضًا بِالشَّرَفِ وَلَا بِالْمَكَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ عَلَى الْبَعْضِ قِسْمٌ سَادِسٌ غَيْرُ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَوَّلٌ لِكُلِّ مَا عَدَاهُ، وَالْبُرْهَانُ دَلَّ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّا نَقُولُ: كُلُّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ، فَكُلُّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَوَّلٌ لِكُلِّ مَا عَدَاهُ، إِنَّمَا قُلْنَا: أَنَّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ، لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ شَيْئَانِ وَاجِبَانِ لِذَاتِهِمَا لَاشْتَرَكَا فِي الْوَاجِبِ الذَّاتِيِّ، وَلَتَبَايَنَا بِالتَّعَيُّنِ وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا، ثُمَّ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيْهِ إِنْ كَانَ وَاجِبًا فَقَدِ اشْتَرَكَ الْجُزْآنِ فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا بِالْخُصُوصِيَّةِ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الْجُزْأَيْنِ أَيْضًا مُرَكَّبًا وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا وَاجِبًا، كَانَ الْكُلُّ الْمُتَقَوِّمُ بِهِ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَذَلِكَ الِافْتِقَارُ إِمَّا حَالَ الْوُجُودِ أَوْ حَالَ الْعَدَمِ، فَإِذَا كَانَ حَالَ الْوُجُودِ، فَإِمَّا حَالَ الْبَقَاءِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِيجَادَ الْمَوْجُودِ وَتَحْصِيلَ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَإِنَّ تِلْكَ الْحَاجَةَ إِمَّا حَالَ الْحُدُوثِ أَوْ حَالَ الْعَدَمِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثًا، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا ذَلِكَ الْوَاجِبَ فَهُوَ مُحْدَثٌ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ الْوَاجِبِ، فَإِذًا ذَلِكَ الْوَاجِبُ يَكُونُ قَبْلَ كُلِّ مَا عَدَاهُ، ثُمَّ طَلَبَ الْعَقْلُ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْقَبْلِيَّةِ فَقُلْنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقَبْلِيَّةُ بِالتَّأْثِيرِ، لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُؤَثِّرٌ مُضَافٌ إِلَى الْأَثَرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَثَرٌ وَالْمُضَافَانِ مَعًا، وَالْمَعُ لَا يَكُونُ قَبْلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْمُحْتَاجَ وَالْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوجِدَا مَعًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَعِيَّةَ هاهنا مُمْتَنِعَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِمَحْضِ الشَّرَفِ فإنه ليس المطلوب من هذه القبلية هاهنا مُجَرَّدَ أَنَّهُ تَعَالَى أَشْرَفُ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، وَأَمَّا الْقَبْلِيَّةُ الْمَكَانِيَّةُ فَبَاطِلَةٌ، وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا فَتَقَدُّمُ الْمُحْدِثِ عَلَى الْمُحْدَثِ أَمْرٌ زَائِدٌ آخَرُ وَرَاءَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا فَوْقَ الْآخَرِ بِالْجِهَةِ، وَأَمَّا التَّقَدُّمُ الزَّمَانِيُّ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الزَّمَانَ أَيْضًا مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَأَمَا ثَانِيًا فَلِأَنَّ أَمَارَةَ الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ فِيهِ أَظْهَرُ كَمَا فِي غَيْرِهِ لِأَنَّ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ مُتَعَاقِبَةٌ، وَكُلُّ مَا وُجِدَ بَعْدَ الْعَدَمِ وَعُدِمَ بَعْدَ الْوُجُودِ فَلَا شك أنه ممكن الحدث وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ مُمْكِنًا وَمُحْدَثًا وَالْكُلُّ مُتَقَوِّمٌ بِالْأَجْزَاءِ
فَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ، فَإِذَنِ الزَّمَانُ بِمَجْمُوعِهِ وَبِأَجْزَائِهِ مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ، فَتَقَدُّمُ مُوجِدِهِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ بِالزَّمَانِ، لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ لَا يَكُونُ بِالزَّمَانِ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مَجْمُوعِ الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّهُ زَمَانٌ، وَأَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهَا لِأَنَّهُ ظَرْفُهَا، وَالظَّرْفُ مُغَايِرٌ لِلْمَظْرُوفِ لَا مُحَالٌ، لَكِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ دَاخِلًا فِي شَيْءٍ وَخَارِجًا عَنْهُ مُحَالٌ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الزَّمَانَ مَاهِيَّتُهُ تَقْتَضِي السَّيَلَانَ وَالتَّجَدُّدَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ وَالْأَزَلُ يُنَافِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ،
445
فَثَبَتَ أَنَّ تَقَدُّمَ الصَّانِعِ عَلَى كُلِّ مَا عَدَاهُ لَيْسَ بِالزَّمَانِ الْبَتَّةَ، فَإِذَنِ الَّذِي عِنْدَ الْعَقْلِ أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى كُلِّ مَا عَدَاهُ، أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ التَّقَدُّمَ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ/ الْخَمْسَةِ، فَبَقِيَ أَنَّهُ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ التَّقَدُّمِ يُغَايِرُ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْخَمْسَةَ، فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ التَّقَدُّمِ فَلَيْسَ عِنْدَ الْعَقْلِ مِنْهَا خَبَرٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ حَالٌ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، فَإِذَنْ كَوْنُهُ تَعَالَى أَوَّلًا مَعْلُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، فَأَمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَالْإِحَاطَةِ بِحَقِيقَةِ تِلْكَ الْأَوَّلِيَّةِ، فَلَيْسَ عِنْدَ عُقُولِ الخلق منه أثر.
النوع الثاني: من هذا غوامض الموضع، وهو أن الأزل متقدم على اللايزال، وَلَيْسَ الْأَزَلُ شَيْئًا سِوَى الْحَقِّ، فَتَقَدُّمُ الْأَزَلِ على اللايزال، يستدعي الامتياز بين الأزل وبين اللايزال، فهذا يقتضي أن يكون اللايزال لَهُ مَبْدَأٌ وَطَرَفٌ، حَتَّى يَحْصُلَ هَذَا الِامْتِيَازُ، لَكِنَّ فَرْضَ هَذَا الطَّرَفِ مُحَالٌ، لِأَنَّ كُلَّ مبدأ فرضته، فإن اللايزال، كَانَ حَاصِلًا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْمَبْدَأَ الَّذِي يُفْرَضُ قَبْلَ ذَلِكَ الطَّرَفِ الْمَفْرُوضِ بِزِيَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ، يكون من جملة اللايزال، لَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَزَلِ، فَقَدْ كَانَ مَعْنَى اللايزال مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ كَانَ مَوْجُودًا وَذَلِكَ مُحَالٌ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ غَوَامِضِ هَذَا الْمَوْضُوعِ، أَنَّ امتياز الأزل عن اللايزال، يَسْتَدْعِي انْقِضَاءَ حَقِيقَةِ الْأَزَلِ، وَانْقِضَاءُ حَقِيقَةِ الْأَزَلِ محال، لأن مالا أَوَّلَ لَهُ يَمْتَنِعُ انْقِضَاؤُهُ، وَإِذَا امْتَنَعَ انْقِضَاؤُهُ امتنع أن يحصل عقيبه ماهية اللايزال، فإذن يمتنع امتياز الأزل عن اللايزال، وامتياز اللايزال عن الأزال، وَإِذَا امْتَنَعَ حُصُولُ هَذَا الِامْتِيَازِ امْتَنَعَ حُصُولُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، فَهَذِهِ أَبْحَاثٌ غَامِضَةٌ فِي حَقِيقَةِ التَّقَدُّمِ وَالْأَوَّلِيَّةِ وَالْأَزَلِيَّةِ، وَمَا هِيَ إِلَّا بِسَبَبِ حَيْرَةِ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ فِي نُورِ جَلَالِ مَاهِيَّةِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْأَوَّلِيَّةِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ إِنَّمَا يَعْرِفُ الشَّيْءَ إِذَا أَحَاطَ بِهِ، وَكُلُّ مَا اسْتَحْضَرَهُ الْعَقْلُ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ فَذَاكَ يَصِيرُ مُحَاطًا بِهِ، وَالْمُحَاطُ يَكُونُ مُتَنَاهِيًا، وَالْأَزَلِيَّةُ تَكُونُ خَارِجَةً عَنْهُ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ ظَاهِرٌ بَاطِنٌ فِي كَوْنِهِ أَوَّلًا، لِأَنَّ الْعُقُولَ شَاهِدَةٌ بِإِسْنَادِ الْمُحْدَثَاتِ إِلَى مُوجِدٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهَا فَكَوْنُهُ تَعَالَى أَوَّلًا أَظْهَرُ مِنْ كُلِّ ظَاهِرٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، ثُمَّ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ حَقِيقَةَ تِلْكَ الْأَوَّلِيَّةِ عَجَزْتَ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَحَاطَ بِهِ عَقْلُكَ وَعِلْمُكَ فَهُوَ مَحْدُودُ عَقْلِكَ وَمُحَاطُ عِلْمِكَ فَيَكُونُ مُتَنَاهِيًا، فَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ خَارِجَةً عَنَّا، فَكَوْنُهُ تَعَالَى أَوَّلًا إِذَا اعْتَبَرْتَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ كَانَ أَبْطَنَ مِنْ كُلِّ بَاطِنٍ، فَهَذَا هُوَ الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى أَوَّلًا.
أَمَّا الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِ آخِرًا، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّهُ تعالى إنما يكون آخر الكل مَا عَدَاهُ، لَوْ بَقِيَ هُوَ مَعَ عَدَمِ كُلِّ مَا عَدَاهُ لَكِنَّ عَدَمَ مَا عَدَاهُ إنما يكون بعده وُجُودِهِ، وَتِلْكَ الْبَعْدِيَّةُ، زَمَانِيَّةٌ، فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُ فرض عدم كل عَدَاهُ إِلَّا مَعَ وُجُودِ الزَّمَانِ الَّذِي بِهِ تَتَحَقَّقُ تِلْكَ الْبَعْدِيَّةُ، فَإِذَنْ حَالُ مَا فُرِضَ عَدَمُ كُلِّ مَا عَدَاهُ، أَنْ لَا يُعْدَمَ كُلُّ مَا عَدَاهُ، فَهَذَا خُلْفٌ، فَإِذَنْ فَرْضُ بَقَائِهِ مَعَ عَدَمِ كُلِّ مَا عَدَاهُ مُحَالٌ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ مَبْنِيَّةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ لَا يَتَقَرَّرَانِ إِلَّا بِالزَّمَانِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ، وَأَمَّا الَّذِينَ سَلَّمُوا إِمْكَانَ عَدَمِ كُلِّ مَا عَدَاهُ مَعَ بَقَائِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ حَتَّى يَتَقَرَّرَ كَوْنُهُ تَعَالَى آخِرًا لِلْكُلِّ، وَهَذَا مَذْهَبُ جَهْمٍ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ/ سُبْحَانَهُ يُوصِلُ الثَّوَابَ إِلَى أَهْلِ الثَّوَابِ، وَيُوصِلُ الْعِقَابَ إِلَى أَهْلِ الْعِقَابِ، ثُمَّ يُفْنِي الْجَنَّةَ وَأَهْلَهَا، وَالنَّارَ وَأَهْلَهَا، وَالْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ وَالْمَلَكَ وَالْفَلَكَ، وَلَا يَبْقَى مَعَ اللَّه شَيْءٌ أَصْلًا، فَكَمَا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ وَلَا شَيْءَ يَبْقَى مَوْجُودًا في اللايزال أَبَدَ الْآبَادِ وَلَا شَيْءَ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ هُوَ الْآخِرُ، يَكُونُ آخِرًا إِلَّا عِنْدَ فَنَاءِ الْكُلِّ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِعَدَدِ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِهَا، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا كَانَ عَالِمًا بِكَمِّيَّتِهَا، وَكُلُّ ماله عَدَدٌ مُعَيَّنٌ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، فَإِذَنْ حَرَكَاتُ أَهْلِ الجنة
446
مُتَنَاهِيَةٌ، فَإِذَنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ بَعْدَهَا عَدَمٌ أَبَدِيٌّ غَيْرُ مُنْقَضٍّ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا كَانَ جَاهِلًا بِهَا وَالْجَهْلُ عَلَى اللَّه مُحَالٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْحَوَادِثَ الْمُسْتَقْبَلَةَ قَابِلَةٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُتَنَاهٍ وَالْجَوَابُ: أَنَّ إِمْكَانَ اسْتِمْرَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَاصِلٌ إِلَى الْأَبَدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَاهِيَّاتِ لَوْ زَالَتْ إِمْكَانَاتُهَا، لَزِمَ أَنْ يَنْقَلِبَ الْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ، وَلَوِ انْقَلَبَتْ قُدْرَةُ اللَّه مِنْ صَلَاحِيَّةِ التَّأْثِيرِ إِلَى امْتِنَاعِ التَّأْثِيرِ، لَانْقَلَبَتِ الْمَاهِيَّاتُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى هَذَا الْإِمْكَانُ أَبَدًا، فَإِذَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ انْتِهَاءُ هَذِهِ الْمُحْدَثَاتِ إِلَى الْعَدَمِ الصِّرْفِ، أَمَّا التَّمَسُّكُ بِالْآيَةِ فَسَنَذْكُرُ الْجَوَابَ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: فَجَوَابُهَا أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، وَهَذَا لَا يَكُونُ جَهْلًا، إِنَّمَا الْجَهْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ وَلَا يَعْلَمُهُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ وَأَنْتَ تَعْلَمُهُ عَلَى الْوَجْهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ جَهْلًا بَلْ عِلْمًا وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: فَجَوَابُهَا أَنَّ الْخَارِجَ مِنْهُ إِلَى الْوُجُودِ أَبَدًا لَا يَكُونُ مُتَنَاهِيًا، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ لَمَّا أَثْبَتُوا إِمْكَانَ بَقَاءِ الْعَالَمِ أَبَدًا عَوَّلُوا فِي بَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَبَدًا، عَلَى إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَظَوَاهِرِ الْآيَاتِ، وَلَا يَخْفَى تَقْرِيرُهَا، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ سَلَّمُوا بَقَاءَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَبَدًا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى آخِرًا عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُفْنِي جَمِيعَ الْعَالَمِ وَالْمُمْكِنَاتِ فَيَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ آخِرًا، ثُمَّ إِنَّهُ يُوجِدُهَا وَيُبْقِيهَا أَبَدًا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَوْجُودَ الَّذِي يَصِحُّ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ آخِرًا لِكُلِّ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ إِلَّا هُوَ، فَلَمَّا كَانَتْ صِحَّةُ آخِرِيَّةِ كُلِّ الْأَشْيَاءِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ سُبْحَانَهُ، لَا جَرَمَ وُصِفَ بِكَوْنِهِ آخِرًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوُجُودَ مِنْهُ تَعَالَى يَبْتَدِئُ، وَلَا يَزَالُ يَنْزِلُ وَيَنْزِلُ حتى ينتهي إلى الموجود الأخير، الذي كون هُوَ مُسَبِّبًا لِكُلِّ مَا عَدَاهُ، وَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِشَيْءٍ آخَرَ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ إِذَا انْتَهَى أَخَذَ يَتَرَقَّى مِنْ هَذَا الْمَوْجُودِ الْأَخِيرِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى آخِرِ التَّرَقِّي، فَهُنَاكَ وُجُودُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ أَوَّلٌ فِي نُزُولِ الْوُجُودِ مِنْهُ إِلَى الْمُمْكِنَاتِ، آخِرٌ عِنْدَ الصُّعُودِ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ إِلَيْهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يُمِيتُ الْخَلْقَ وَيَبْقَى بَعْدَهُمْ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ آخِرٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ أَوَّلٌ فِي الْوُجُودِ وَآخِرٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الِاسْتِدْلَالَاتِ مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ، وَأَمَّا سَائِرُ الِاسْتِدْلَالَاتِ الَّتِي لَا يُرَادُ مِنْهَا مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ فَهِيَ حَقِيرَةٌ خَسِيسَةٌ، أَمَّا كَوْنُهُ تعالى ظاهرا وباطنا، فاعلم أنه ظاهر بحسيب الْوُجُودِ، فَإِنَّكَ لَا تَرَى شَيْئًا مِنَ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ إِلَّا وَيَكُونُ دَلِيلًا/ عَلَى وُجُودِهِ وَثُبُوتِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَبَرَاءَتِهِ عَنْ جِهَاتِ التَّغَيُّرِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَعَالَى بَاطِنًا فَمِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَمَالَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا سَبَبٌ لِكَوْنِهِ بَاطِنًا، فَإِنَّ هَذِهِ الشَّمْسَ لَوْ دَامَتْ عَلَى الْفَلَكِ لَمَا كُنَّا نَعْرِفُ أَنَّ هَذَا الضَّوْءَ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِهَا، بَلْ رُبَّمَا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ الْأَشْيَاءَ مُضِيئَةٌ لِذَوَاتِهَا إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ بِحَيْثُ تَغْرُبُ ثُمَّ
تَرَى أَنَّهَا مَتَى غَرَبَتْ أُبْطِلَتِ الْأَنْوَارُ وَزَالَتِ الْأَضْوَاءُ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ، عَلِمْنَا حِينَئِذٍ أَنَّ هَذِهِ الْأَضْوَاءَ مِنَ الشَّمْسِ، فَهَهُنَا لَوْ أَمْكَنَ انْقِطَاعُ وُجُودِ اللَّه عَنْ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ لَظَهَرَ حِينَئِذٍ أَنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ مِنْ وُجُودِ اللَّه تَعَالَى، لَكِنَّهُ لَمَّا دَامَ ذَلِكَ الْجُودُ وَلَمْ يَنْقَطِعْ صَارَ دَوَامُهُ وَكَمَالُهُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الشُّبْهَةِ، حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّ نُورَ الْوُجُودِ لَيْسَ مِنْهُ بَلْ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِتَارَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ كَمَالِ وَجُودِهِ، وَمِنْ دَوَامِ جُودِهِ، فَسُبْحَانَ مَنِ اخْتَفَى عَنِ الْعُقُولِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، وَاحْتَجَبَ عَنْهَا بِكَمَالِ نُورِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَاهِيَّتَهُ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ الْبَتَّةَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَصَوَّرُ مَاهِيَّةَ الشَّيْءِ إِلَّا إِذَا أَدْرَكَهُ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ الْوِجْدَانِ كَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ وَغَيْرِهِمَا أَوْ أَدْرَكَهُ بِحِسِّهِ كَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَسَائِرِ الْمَحْسُوسَاتِ، فَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَوَّرَ مَاهِيَّتَهُ الْبَتَّةَ، وَهُوِيَّتَهُ المخصوصة جل
447
جَلَالُهُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَا تَكُونُ مَعْقُولَةً لِلْبَشَرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْهُ عِنْدَ الْخَلْقِ، إِمَّا الْوُجُودُ وَإِمَّا السُّلُوبُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ، وَإِمَّا الْإِضَافَةُ، وَهُوَ أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا، وَالْحَقِيقَةُ الْمَخْصُوصَةُ مُغَايِرَةٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ فَهِيَ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَظْهَرَ الْأَشْيَاءِ مِنْهُ عِنْدَ الْعَقْلِ كَوْنُهُ خَالِقًا لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمُتَقَدِّمًا عَلَيْهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ حَيْرَةَ الْعَقْلِ وَدَهْشَتَهُ فِي مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةِ، فَقَدْ ظَهَرَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْآخِرُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْبَاطِنُ، وَسَمِعْتُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّه يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ يُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ نَحْوَ الْبَيْتِ وَسَجَدُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ بِقَوْلِهِ: هُوَ الْأَوَّلُ قَالُوا الْأَوَّلُ هُوَ الْفَرْدُ السَّابِقُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَوْ قَالَ: أَوَّلُ مَمْلُوكٍ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ، ثُمَّ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ لَمْ يُعْتَقَا، لِأَنَّ شَرْطَ كونه أولا حصول الفردية، وهاهنا لَمْ تَحْصُلْ، فَلَوِ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ عَبْدًا وَاحِدًا لَمْ يُعْتِقْ، لِأَنَّ شَرْطَ الْأَوَّلِيَّةِ كَوْنُهُ سابقا وهاهنا لَمْ يَحْصُلْ، فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي كَوْنِهِ أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ فَرْدًا، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ فَرَدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنَّهُ أَوَّلٌ لِأَنَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّهُ آخِرٌ لِأَنَّهُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّهُ ظَاهِرٌ بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ، وَإِنَّهُ بَاطِنٌ عَنِ الْحَوَاسِّ مُحْتَجِبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ، وَأَنَّ جَمَاعَةً لَمَّا عَجَزُوا عَنْ جَوَابِ جَهْمٍ قَالُوا:
مَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ هُوَ أَوَّلُ هَذَا الْأَمْرِ وَآخِرُهُ وَظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، أَيْ عَلَيْهِ يَدُورُ، وَبِهِ يَتِمُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَعَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِهَا اسْتِدْلَالُ جَهْمٍ/ لَمْ يَكُنْ بِنَا إِلَى حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَجَازِ حَاجَةٌ، وَذَكَرُوا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْغَالِبُ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصَّفِّ: ١٤] أَيْ غَالِبِينَ عَالِينَ، مِنْ قَوْلِكَ: ظَهَرْتُ عَلَى فُلَانٍ أَيْ عَلَوْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْها يَظْهَرُونَ [الزُّخْرُفِ: ٣٣] وَهَذَا مَعْنَى مَا
رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ»
وَأَمَّا الْبَاطِنُ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ الْعَالِمُ بِمَا بَطَنَ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ يَظُنُّ أَمْرَ فُلَانٍ، أَيْ يَعْلَمُ أَحْوَالَهُ الْبَاطِنَةَ قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ: أَنْتَ أَبْطَنُ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ فُلَانٍ، أَيْ أَخْبَرُ بِبَاطِنِهِ، فَمَعْنَى كَوْنِهِ بَاطِنًا، كَوْنُهُ عَالِمًا بِبَوَاطِنِ الْأُمُورِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَكُونُ تَكْرَارًا.
أَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَحْسُنُ مَوْقِعُهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ أَحَدًا لَا يُحِيطُ بِهِ وَلَا يَصِلُ إِلَى أَسْرَارِهِ، وَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ غَيْرِهِ وَنَظِيرُهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَةِ: ١١٦].
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٤]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَهُوَ مُفَسَّرٌ فِي الْأَعْرَافِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ دَلَائِلُ الْقُدْرَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مُفَسَّرٌ فِي سَبَأٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ كَمَالُ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ وَصْفَ الْقُدْرَةِ عَلَى وَصْفِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْعِلْمِ باللَّه، هُوَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا،
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْعِلْمِ باللَّه هُوَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مُؤَثِّرًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْوَاجِبِ الْحَقِّ فَهُوَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَوُجُودُهُ مِنَ الْوَاجِبِ، فَإِذَنْ وَصُولُ الْمَاهِيَّةِ الْمُمْكِنَةِ إِلَى وُجُودِهَا بِوَاسِطَةِ إِفَادَةِ الْوَاجِبِ الْحَقِّ ذَلِكَ الْوُجُودَ لِتِلْكَ الْمَاهِيَّةِ فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ كُلِّ مَاهِيَّةٍ وَبَيْنَ وُجُودِهَا، فَهُوَ إِلَى كُلِّ مَاهِيَّةٍ أَقْرَبُ مِنْ وُجُودِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، وَمِنْ هَذَا السِّرِّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّه قَبْلَهُ، وَقَالَ الْمُتَوَسِّطُونَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّه مَعَهُ، وَقَالَ الظَّاهِرِيُّونَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّه بَعْدَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّقَائِقَ الَّتِي أَظْهَرْنَاهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَهَا دَرَجَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَصِلَ الْإِنْسَانُ إِلَيْهَا بِمُقْتَضَى الْفِكْرَةِ وَالرَّوِيَّةِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَتَّفِقَ لِنَفْسِ الْإِنْسَانِ/ قُوَّةٌ ذَوْقِيَّةٌ وَحَالَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا، وَتَكُونُ نِسْبَةُ الْإِدْرَاكِ مَعَ الذَّوْقِ إِلَى الْإِدْرَاكِ لَا مَعَ الذَّوْقِ، كَنِسْبَةِ مَنْ يَأْكُلُ السُّكَّرَ إِلَى مَنْ يَصِفُ حَلَاوَتَهُ بِلِسَانِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: هَذِهِ الْمَعِيَّةُ إِمَّا بِالْعِلْمِ وَإِمَّا بِالْحِفْظِ وَالْحِرَاسَةِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ مَعَنَا بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ، فَإِذَنْ قَوْلُهُ: وَهُوَ مَعَكُمْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَإِذَا جَوَّزْنَا التَّأْوِيلَ فِي مَوْضِعٍ وَجَبَ تَجْوِيزُهُ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَرْتِيبًا عَجِيبًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ كَوْنَهُ إِلَهًا لِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْكَائِنَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ كونه إلها للعرش والسموات وَالْأَرَضِينَ. ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ معينه لَنَا بِسَبَبِ الْقُدْرَةِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَبِسَبَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ كَوْنُهُ عَالَمًا بِظَوَاهِرِنَا وَبَوَاطِنِنَا، فَتَأَمَّلْ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ فِي أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَإِنَّ فِيهَا أَسْرَارًا عَجِيبَةً وَتَنْبِيهَاتٍ على أمور عالية. ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٥]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥)
أَيْ إِلَى حَيْثُ لَا مَالِكَ سِوَاهُ، وَدَلَّ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَعَادِ. ثُمَّ قال تعالى:
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٦]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)
وَهَذِهِ الْآيَاتُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سَائِرِ السُّوَرِ، وَهِيَ جَامِعَةٌ بَيْنَ الدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَبَيْنَ إِظْهَارِ نِعَمِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِعَادَتِهَا الْبَعْثُ عَلَى النَّظَرِ والتأمل، ثم الاشتغال بالشكر.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٧]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، أَتْبَعَهَا بِالتَّكَالِيفِ، وَبَدَأَ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ باللَّه وَرَسُولِهِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: آمِنُوا خِطَابٌ مَعَ مَنْ عَرَفَ اللَّه، أَوْ
مَعَ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّه، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِأَنْ يَعْرِفَهُ مَنْ عَرَفَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، كَانَ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَمْرِهِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ مُتَوَجِّهًا عَلَى مَنْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَعْرِفَ كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الْأَمْرِ، وهذا تكليف مالا يُطَاقُ وَالْجَوَابُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: مَعْرِفَةُ وُجُودِ الصَّانِعِ حَاصِلَةٌ لِلْكُلِّ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَعْرِفَةُ الصِّفَاتِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ/ كَبِيرٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ أَمَرَ النَّاسَ أَوَّلًا بِأَنْ يَشْتَغِلُوا بِطَاعَةِ اللَّه، ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِتَرْكِ الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَإِنْفَاقِهَا فِي سَبِيلِ اللَّه، كَمَا قَالَ: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام: ٩١]، فقوله: قُلِ اللَّهُ هو المراد هاهنا مِنْ قَوْلِهِ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَوْلِهِ: ثُمَّ ذَرْهُمْ هو المراد هاهنا مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ إِنَّمَا هِيَ أَمْوَالُ اللَّه بِخَلْقِهِ وَإِنْشَائِهِ لَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا تَحْتَ يَدِ الْمُكَلَّفِ، وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ لِيَنْتَفِعَ بِهَا عَلَى وَفْقِ إِذَنِ الشَّرْعِ، فَالْمُكَلَّفُ فِي تَصَرُّفِهِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ وَالنَّائِبِ وَالْخَلِيفَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْهُلَ عَلَيْكُمُ الْإِنْفَاقُ مِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ، كَمَا يَسْهُلُ عَلَى الرَّجُلِ النَّفَقَةُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، لِأَجْلِ أَنَّهُ نَقَلَ أَمْوَالَهُمْ إِلَيْكُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْثِ، فَاعْتَبِرُوا بِحَالِهِمْ، فَإِنَّهَا كَمَا انْتَقَلَتْ مِنْهُمْ إليكم فستنقل مِنْكُمْ إِلَى غَيْرِكُمْ فَلَا تَبْخَلُوا بِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْإِنْفَاقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ التَّطَوُّعُ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْبِرِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ضَمِنَ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْرًا كَبِيرًا فَقَالَ:
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ لَا يَحْصُلُ بِالْإِيمَانِ الْمُنْفَرِدِ حَتَّى يَنْضَافَ هَذَا الْإِنْفَاقُ إِلَيْهِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِالْوَاجِبِ مِنْ زَكَاةٍ وَغَيْرِهَا فَلَا أَجْرَ لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ الْأَجْرُ الْكَبِيرُ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ أصلا. وقوله تعالى:
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٨]
وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَبَخَّ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْعُوَ الرَّسُولُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَتْلُو عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ، وَذَكَرُوا فِي أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: مَا نُصِبَ فِي الْعُقُولِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَائِلَ كَمَا اقْتَضَتْ وُجُوبَ الْقَبُولِ فَهِيَ أَوْكَدُ مِنَ الْحَلْفِ وَالْيَمِينِ، / فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ مِيثَاقًا، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُ تَطَابَقَتْ دَلَائِلُ النَّقْلِ
وَالْعَقْلِ، أَمَّا النَّقْلُ فَبِقَوْلِهِ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَبِقَوْلِهِ: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ وَمَتَّى اجْتَمَعَ هَذَانِ النَّوْعَانِ، فَقَدْ بَلَغَ الْأَمْرُ إِلَى حَيْثُ تَمْتَنِعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه تَعَالَى لَا تَجِبُ إِلَّا بِالسَّمْعِ، قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَمَّهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ يَدْعُوهُمْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الذَّمِّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ: قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالْمُقَاتِلَانِ: يُرِيدُ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ أَخْذَ الْمِيثَاقِ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَخْذُ الْمِيثَاقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْقَوْمِ إِلَّا بِقَوْلِ الرَّسُولِ، فَقَبْلَ مَعْرِفَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا فِي وُجُوبِ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ، أَمَّا نَصْبُ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ فَمَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، فَذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ جَائِزٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: وَما لَكُمْ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْفِعْلِ، كَمَا لَا يقال: مالك لَا تَطُولُ وَلَا تَبِيضُ، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَعَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ صَالِحَةٌ لِلضِّدَّيْنِ، وَعَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ حَصَلَ بِالْعَبْدِ لَا بِخَلْقِ اللَّه.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ لِأَجْلِ دَلِيلٍ، فَمَا لَكَمَ لَا تُؤْمِنُونَ الْآنَ، فَإِنَّهُ قَدْ تَطَابَقَتِ الدَّلَائِلُ النَّقْلِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، وبلغت مبلغا لا يمكن الزيادة عليها.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٩]
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩)
قَالَ الْقَاضِي: بَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مُرَادَهُ بِإِنْزَالِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي هِيَ الْقُرْآنُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَلَوْ كَانَ تَعَالَى يُرِيدُ مِنْ بَعْضِهِمُ الثَّبَاتَ عَلَى ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ، وَيَخْلُقُ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَيُقَدِّرُهُ لَهُمْ تَقْدِيرًا لَا يَقْبَلُ الزَّوَالَ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْقَوْلُ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ مِنْ فِعْلِهِ؟
قُلْنَا: لَوْ أَرَادَ بِهَذَا الْإِخْرَاجِ خَلْقَ الْإِيمَانِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مَعْنًى، لِأَنَّهُ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ، فَخَلَقَهُ لِمَا خَلَقَهُ لَا يَتَغَيَّرُ، فَالْمُرَادُ إِذَنْ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَلْطُفُ بِهِمْ فِي إِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى/ النُّورِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى خِسَّتِهِ وَرَوْغَتِهِ مَعَارَضٌ بِالْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ بِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ قَائِمٌ، وَعَالِمًا بِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ يُنَافِي وُجُودَ الْإِيمَانِ، فَإِذَا كَلَّفَهُمْ بِتَكْوِينِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ مَعَ عِلْمِهِ بِقِيَامِ الضِّدِّ الْآخَرِ فِي الْوُجُودِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ وَإِبْطَالُهُ، فَهَلْ يُعْقَلُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرِيدَ بِهِمْ ذَلِكَ الْخَيْرَ وَالْإِحْسَانَ، لَا شك أن مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَإِذَا تَوَجَّهَتِ الْمُعَارَضَةُ زَالَتْ تِلْكَ الْقُوَّةُ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطْ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ لَا وَجْهَ لَهُ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ ذَلِكَ مَعَ سَائِرِ مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ أداء التكاليف.

[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٠]

وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
لَمَّا أَمَرَ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ وَبِالْإِنْفَاقِ، ثُمَّ أَكَّدَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِيجَابَ الْإِيمَانِ أَتْبَعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَأْكِيدِ إِيجَابِ الْإِنْفَاقِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ سَتَمُوتُونَ فَتُورَثُونَ، فَهَلَّا قَدَّمْتُمُوهُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي طَاعَةِ اللَّه، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَالَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْيَدِ، إِمَّا بِالْمَوْتِ وَإِمَّا بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّه، فَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، كَانَ أَثَرُهُ اللَّعْنَ وَالْمَقْتَ وَالْعِقَابَ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، كَانَ أَثَرُهُ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ عَنِ الْيَدِ، فَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ خُرُوجَهُ عَنِ الْيَدِ بِحَيْثُ يَسْتَعْقِبُ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ أَوْلَى مِنْهُ بِحَيْثُ يَسْتَعْقِبُ اللَّعْنَ وَالْعِقَابَ.
ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ فَضِيلَةٌ بَيَّنَ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ فِي الْإِنْفَاقِ تَمَامُ الْفَضِيلَةِ فَقَالَ:
لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ، وَمَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ، كَمَا قَالَ:
لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْحَشْرِ: ٢٠] إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ لِوُضُوحِ الْحَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْفَتْحِ فَتْحُ مَكَّةَ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْفَتْحِ فِي الْمُتَعَارَفِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ»
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَيَدُلُّ الْقُرْآنُ عَلَى فَتْحٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الْفَتْحِ: ٢٧] وَأَيُّهُمَا كَانَ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّه عِظَمَ مَوْقِعِ الْإِنْفَاقِ قَبْلَ الْفَتْحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَنْفَقَ الْمَالَ عَلَى رَسُولِ اللَّه فِي سَبِيلِ اللَّه، قَالَ عُمَرُ: «كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّلَهَا فِي صَدْرِهِ بِخِلَالٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصلاة والسلام، فقال: مالي أَرَى أَبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ خَلَلَّهَا فِي صَدْرِهِ؟ فَقَالَ:
أَنْفَقَ مَالَهُ عَلَيَّ قَبْلَ الْفَتْحِ»
.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنِ صَدَرَ عَنْهُ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّه، وَالْقِتَالُ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّه قَبْلَ الْفَتْحِ يَكُونُ أَعْظَمَ حَالًا مِمَّنْ صَدَرَ عَنْهُ هَذَانِ الْأَمْرَانِ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَاحِبَ الْإِنْفَاقِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، وَصَاحِبُ الْقِتَالِ هُوَ عَلِيٌّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ صَاحِبَ الْإِنْفَاقِ فِي الذِّكْرِ عَلَى صَاحِبِ الْقِتَالِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ، وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْ بَابِ الرَّحْمَةِ، وَالْقِتَالَ مِنْ بَابِ الْغَضَبِ،
وَقَالَ تَعَالَى: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي»
فَكَانَ السَّبْقُ لِصَاحِبِ الْإِنْفَاقِ، فَإِنْ قِيلَ: بَلْ صَاحِبُ الْإِنْفَاقِ هُوَ عَلِيٌّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ [الْإِنْسَانِ: ٨] قُلْنَا: إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَنْفَقَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا أَنْفَقَ فِي الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ أَمْوَالًا عَظِيمَةً، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَاتَلَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ عَلِيًّا فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ كَانَ صَبِيًّا صَغِيرًا، وَلَمْ يَكُنْ صاحب القتال وأما أبا بَكْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا مُقَدَّمًا، وَكَانَ يَذُبُّ عَنِ الْإِسْلَامِ حَتَّى ضُرِبَ بِسَبَبِهِ ضَرْبًا أَشْرَفَ بِهِ عَلَى الْمَوْتِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: جَعَلَ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةً عَلَى فَضْلِ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْفَقَ وَجَاهَدَ مَعَ
452
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَبَيَّنُوا الْوَجْهَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ عِظَمُ مَوْقِعِ نُصْرَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالنَّفْسِ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَفِي عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ قِلَّةٌ، وَفِي الْكَافِرِينَ شَوْكَةٌ وَكَثْرَةُ عَدَدٍ، فَكَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى النُّصْرَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ أَشَدَّ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْفَتْحِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ صَارَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوِيًّا، وَالْكُفْرَ ضَعِيفًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التَّوْبَةِ: ١٠٠]
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بلغ مد أحدهم ولا نصيفه».
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَيْ وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَعَدَ اللَّه بالحسنى أَيِ الْمَثُوبَةَ الْحُسْنَى، وَهِيَ الْجَنَّةُ مَعَ تَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ وَكُلًّا بِالنَّصْبِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ: زَيْدًا وَعَدْتُ خَيْرًا، فَهُوَ مَفْعُولُ وَعَدَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (وَكُلٌّ) بِالرَّفْعِ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا تَأَخَّرَ عَنْ مَفْعُولِهِ لَمْ يَقَعْ عَمَلُهُ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا:
زَيْدٌ ضَرَبْتُ، وَكَقَوْلِهِ فِي الشِّعْرِ:
قَدْ أَصْبَحَتْ أَمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي عَلَيَّ ذَنْبًا كُلَّهُ لَمْ أَصْنَعِ
رُوِيَ (كُلُّهُ) بِالرَّفْعِ لِتَأَخُّرِ الْفِعْلِ عَنْهُ لِمُوجِبٍ آخَرَ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ فِي هَذَا الْبَابِ كَلَامًا حَسَنًا، قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى فِي هَذَا الْبَيْتِ يَتَفَاوَتُ بِسَبَبِ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصْبَ يُفِيدُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ كُلَّ الذُّنُوبِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ فَاعِلًا لِبَعْضِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: مَا فَعَلْتُ كُلَّ الذُّنُوبِ، أَفَادَ أَنَّهُ مَا فَعَلَ الْكُلَّ، وَيَبْقَى احْتِمَالُ أَنَّهُ فَعَلَ الْبَعْضَ، بَلْ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ حُجَّةٌ يَكُونُ ذَلِكَ اعْتِرَافًا بِأَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَ الذُّنُوبِ.
أَمَّا رِوَايَةُ الرَّفْعِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: كُلُّهُ لَمْ أصنع، فمعناه أن كل واحد وَاحِدٍ مِنَ الذُّنُوبِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَصْنُوعٍ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا أَتَى بِشَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ الْبَتَّةَ، وَغَرَضُ الشَّاعِرِ أَنْ يَدَّعِيَ الْبَرَاءَةَ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمَعْنَى يَتَفَاوَتُ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَمِمَّا يَتَفَاوَتُ فِيهِ الْمَعْنَى بِسَبَبِ تَفَاوُتِ الْإِعْرَابِ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: ٤٩] فَمَنْ قَرَأَ (كُلَّ) شَيْءٍ بِالنَّصْبِ، أَفَادَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْكُلَّ بِقَدَرٍ، وَمَنْ قَرَأَ (كَلُّ) بِالرَّفْعِ لَمْ يُفِدْ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْكُلَّ، بَلْ يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَخْلُوقًا لَهُ فَهُوَ إِنَّمَا خَلَقَهُ بِقَدَرٍ، وَقَدْ يَكُونُ تَفَاوُتُ الْإِعْرَابِ فِي هَذَا الْبَابِ بِحَيْثُ لَا يُوجِبُ تَفَاوُتَ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ [يس: ٣٩] فَإِنَّكَ سَوَاءٌ قَرَأْتَ وَالْقَمَرَ بِالرَّفْعِ أَوْ بِالنَّصْبِ فَإِنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَوَاءٌ قَرَأْتَ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أَوْ قَرَأْتَ وَكُلٌّ وَعَدَ اللَّه الْحُسْنَى فَإِنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَفَاوِتٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَكُلًّا وَعَدَهُ اللَّهُ الْحُسْنَى إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الضَّمِيرَ لِظُهُورِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الْفُرْقَانِ: ٤١] وَكَذَا قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَةِ: ٤٨] ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ السَّابِقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ بِالثَّوَابِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَبِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، حَتَّى يُمْكِنَهُ إِيصَالُ الثَّوَابِ إِلَى المستحقين، إذا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِمْ وَبِأَفْعَالِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، لَمَا أَمْكَنَ الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَعْدِ بِالتَّمَامِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَتْبَعَ ذَلِكَ الْوَعْدَ بقوله:
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
453

[سورة الحديد (٥٧) : آية ١١]

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا أَنَّ
رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ عِنْدَ نزول هذه الآية ما استقرض إليه مُحَمَّدٍ حَتَّى افْتَقَرَ، فَلَطَمَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَشَكَا الْيَهُودِيُّ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: مَا أَرَدْتَ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: مَا مَلَكْتُ نَفْسِي أَنْ لَطَمْتُهُ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٦]
قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الْيَهُودِيُّ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، لَا لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِلَهَ يَفْتَقِرُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قولهم: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ بِهَذِهِ الْآيَةِ تَرْغِيبَ النَّاسِ فِي أَنْ يُنْفِقُوا أَمْوَالَهُمْ فِي نُصْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقِتَالِ الْكَافِرِينَ وَمُوَاسَاةِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَمَّى ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ قَرْضًا مِنْ حَيْثُ وَعَدَ بِهِ الْجَنَّةَ تَشْبِيهًا بِالْقَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الْإِنْفَاقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ الْإِنْفَاقَاتُ الْوَاجِبَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ فِي التَّطَوُّعَاتِ، وَالْأَقْرَبُ دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرُوا فِي كَوْنِ الْقَرْضِ حَسَنًا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي طَيِّبَةٌ بِهَا نَفْسُهُ وَثَانِيهَا:
قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي يَتَصَدَّقُ بِهَا لِوَجْهِ اللَّه وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْقَرْضُ لَا يَكُونُ حَسَنًا حَتَّى يَجْمَعَ أَوْصَافًا عَشَرَةً الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَلَالِ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّه صَلَاةَ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ»
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَكْرَمِ مَا يَمْلِكُهُ دُونَ أَنْ يُنْفِقَ الرَّدِيءَ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [الْبَقَرَةِ: ٢٦٧]، الثَّالِثُ: أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهِ وَأَنْتَ تُحِبُّهُ وَتَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِأَنْ تَرْجُوَ الْحَيَاةَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: ١٧٧].
وبقول: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الْإِنْسَانِ: ٨] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّدَقَةُ أَنْ تُعْطِيَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْعَيْشَ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغْتَ التَّرَاقِيَ قَلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا»
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَصْرِفَ صَدَقَتَكَ إِلَى الْأَحْوَجِ الْأَوْلَى بِأَخْذِهَا، وَلِذَلِكَ خَصَّ اللَّه تَعَالَى أَقْوَامًا بِأَخْذِهَا وَهُمْ أَهْلُ السُّهْمَانِ الْخَامِسُ: أَنْ تَكْتُمَ الصَّدَقَةَ مَا أَمْكَنَكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٧١]، السَّادِسُ: أَنْ لَا تُتْبِعَهَا مَنًّا وَلَا أَذًى، قَالَ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَةِ:
٢٦٤]، السَّابِعُ: أَنْ تَقْصِدَ بِهَا وَجْهَ اللَّه وَلَا تُرَائِيَ، كَمَا قَالَ: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى [الليل: ٢٠، ٢١] وَلِأَنَّ الْمُرَائِيَ مَذْمُومٌ بِالِاتِّفَاقِ الثَّامِنُ: أَنْ تَسْتَحْقِرَ مَا تُعْطِي وَإِنْ كَثُرَ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَالدُّنْيَا كُلُّهَا قَلِيلَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [الْمُدَّثِّرِ: ٦] فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَبِّ أَمْوَالِكَ إِلَيْكَ، قَالَ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آلِ عِمْرَانَ:
٩٢] الْعَاشِرُ: أَنْ لَا تَرَى عِزَّ نَفْسِكَ وَذُلَّ الْفَقِيرِ، بَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فِي نَظَرِكَ، فَتَرَى الْفَقِيرَ كَأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَحَالَ عَلَيْكَ رِزْقَهُ الَّذِي قَبِلَهُ بِقَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودَ: ٦] وَتَرَى نَفْسَكَ تَحْتَ دَيْنِ الْفَقِيرِ، فَهَذِهِ أَوْصَافٌ عَشَرَةٌ إِذَا اجْتَمَعَتْ كَانَتِ الصَّدَقَةُ قَرْضًا حَسَنًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُفَسَّرَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى ضَمِنَ عَلَى هَذَا الْقَرْضِ الْحَسَنِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْمُضَاعَفَةُ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَعَ الْمُضَاعَفَةِ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَضُمُّ إِلَى قَدْرِ الثَّوَابِ مِثْلَهُ مِنَ التَّفْضِيلِ وَالْأَجْرُ الْكَرِيمُ/ عِبَارَةٌ عَنِ الثَّوَابِ، فَإِنْ قِيلَ: مَذْهَبُكُمْ أَنَّ الثَّوَابَ أَيْضًا تَفَضُّلٌ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الِامْتِيَازُ لَمْ يَتِمَّ هَذَا التَّفْسِيرُ الْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ الْفُلَانِيُّ، فَلَهُ قَدْرُ كَذَا مِنَ الثَّوَابِ، فَذَاكَ الْقَدْرُ هُوَ الثَّوَابُ، فَإِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ مِثْلُهُ فَذَلِكَ الْمِثْلُ هُوَ الضِّعْفُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْأَعْوَاضَ تُضَمُّ إِلَى الثَّوَابِ فَذَلِكَ هُوَ الْمُضَاعَفَةُ، وَإِنَّمَا وَصَفَ الْأَجْرَ بِكَوْنِهِ كَرِيمًا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَلَبَ ذَلِكَ الضِّعْفَ، وَبِسَبَبِهِ حَصَلَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ، فَكَانَ كَرِيمًا، مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: (فَيُضَعِّفَهُ) مُشَدَّدَةً بِغَيْرِ أَلِفٍ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَرَأَ بِضَمِّ الْفَاءِ وَابْنَ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ (فَيُضَاعِفَهُ) بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عمر وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: فَيُضَاعِفُهُ بِالْأَلِفِ وَضَمِّ الْفَاءِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يُضَاعَفُ وَيُضَعَّفُ بِمَعْنًى إِنَّمَا الشَّأْنُ فِي تَعْلِيلِ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، أَمَّا الرفع فوجه ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى يُقْرِضُ، أَوْ عَلَى الِانْقِطَاعِ مِنَ الْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَهُوَ يُضَاعَفُ، وأما قراء النَّصْبِ فَوَجْهُهَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَيُقْرِضُ اللَّه أَحَدٌ قَرْضًا حَسَنًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ:
فَيُضاعِفَهُ جَوَابًا عَنِ الاستفهام فحينئذ ينصب.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٢]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَوْمَ تَرَى ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: ١١] أو منصوب بأذكر تَعْظِيمًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ هُوَ يَوْمُ الْمُحَاسَبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا النُّورِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ نَفْسُ النُّورِ عَلَى مَا
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أن كُلَّ مُثَابٍ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ النُّورُ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ وَثَوَابِهِ فِي الْعِظَمِ وَالصِّغَرِ»
فَعَلَى هَذَا مَرَاتِبُ الْأَنْوَارِ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يُضِيءُ لَهُ نُورٌ كَمَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى صَنْعَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الْجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُضِيءُ لَهُ نُورٌ إِلَّا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ يَكُونُ نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِهِ يَنْطَفِئُ مَرَّةً وَيَتَّقِدُ أُخْرَى، وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَيُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا فُلَانُ هَا نُورُكَ، وَيَا فُلَانُ لَا نُورَ لَكَ، نُعُوذُ باللَّه مِنْهُ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي سُورَةِ النُّورِ، أَنَّ النُّورَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَأَنَّ نُورَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ نُورُ الْبَصِيرَةِ أَوْلَى بِكَوْنِهِ نُورًا مِنْ نُورِ الْبَصَرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه هِيَ النُّورُ فِي الْقِيَامَةِ فَمَقَادِيرُ الْأَنْوَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى حَسَبِ مَقَادِيرِ الْمَعَارِفِ فِي الدُّنْيَا الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النُّورِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلنَّجَاةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ لِأَنَّ السُّعَدَاءَ يُؤْتَوْنَ صَحَائِفَ أَعْمَالِهِمْ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْأَشْقِيَاءَ يُؤْتَوْنَهَا مِنْ شَمَائِلِهِمْ، وَوَرَاءِ ظُهُورِهِمْ الْقَوْلُ الثَّالِثُ:
الْمُرَادُ بِهَذَا النُّورِ الْهِدَايَةُ إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا يُقَالُ/ لَيْسَ لِهَذَا الْأَمْرِ نُورٌ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا، وَيُقَالُ: هَذَا
الْأَمْرُ لَهُ نُورٌ وَرَوْنَقٌ، إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ سَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ وَبِأَيْمانِهِمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْمَعْنَى يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِإِيمَانِهِمْ حَصَلَ ذَلِكَ السَّعْيُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الْحَجِّ: ١٠] أَيْ ذلك كائن بذلك.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حَقِيقَةُ الْبِشَارَةِ ذَكَرْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ: ٢٥] ثُمَّ قَالُوا:
تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ، كَمَا قَالَ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: ٢٣، ٢٤].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَنَالُهُمْ أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ صِفَتُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَقَالَ: لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا لَدَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الْبِشَارَةِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَطَعَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْفَاسِقَ قَاطِعٌ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ أَوْ إِنْ دَخَلَهَا لَكِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْهَا وَسَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَبْقَى فِيهَا أَبَدَ الْآبَادِ، فهو إذن قَاطِعٌ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَسَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ النُّورُ وَالْبُشْرَى بِالْجَنَّاتِ الْمُخَلَّدَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قُرِئَ: ذَلِكَ الْفَوْزُ، بِإِسْقَاطِ كَلِمَةِ: هُوَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بشرح حال المنافقين. فقال:
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٣]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣)
قوله: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَوْمَ يَقُولُ، بدل من يَوْمَ تَرَى [الحديد: ١٢]، أو هو أيضا منصوب با ذكر تَقْدِيرًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ (أَنْظِرُونَا) مَكْسُورَةَ الظَّاءِ، وَالْبَاقُونَ (انْظُرُوا)، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ/ الْفَارِسِيُّ لَفْظُ النَّظَرِ يُسْتَعْمَلُ عَلَى ضُرُوبٍ أَحَدُهَا: أَنْ تُرِيدَ بِهِ نَظَرْتُ إِلَى الشَّيْءِ، فَيُحْذَفُ الْجَارُّ وَيُوصَلُ الْفِعْلُ، كَمَا أَنْشَدَ أَبُو الْحَسَنِ:
ظَاهِرَاتُ الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ يَنْظُرْنَ كَمَا يَنْظُرُ الْأَرَاكَ الظِّبَاءُ
وَالْمَعْنَى يَنْظُرْنَ إِلَى الْأَرَاكِ وَثَانِيهَا: أَنْ تُرِيدَ بِهِ تَأَمَّلْتُ وَتَدَبَّرْتُ، وَمِنْهُ قَوْلُكَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ زَيْدًا أَيُؤْمِنُ، فَهَذَا يُرَادُ بِهِ التَّأَمُّلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ [الْإِسْرَاءِ: ٤٨]، انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ
456
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
[النِّسَاءِ: ٥٠]، انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْإِسْرَاءِ: ٢١] قَالَ: وَقَدْ يَتَعَدَّى هَذَا بِإِلَى كَقَوْلِهِ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الْغَاشِيَةِ: ١٧] وَهَذَا نَصٌّ عَلَى التَّأَمُّلِ، وبين وجه الحكمة فيه، وقد يتعدى بقي، كَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: ١٨٥]، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الروم: ٨] وَثَالِثُهَا: أَنْ يُرَادَ بِالنَّظَرِ الرُّؤْيَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
وَلَمَّا بَدَا حَوْرَانُ وَالْآلُ دُونَهُ نَظَرْتَ فَلَمْ تَنْظُرْ بِعَيْنِكَ مَنْظَرًا
وَالْمَعْنَى نَظَرْتَ، فَلَمْ تَرَ بِعَيْنِكَ مَنْظَرًا تَعْرِفُهُ فِي الْآلِ قَالَ: إِلَّا أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لِأَنَّهُ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقَلُّبِ الْحَدَقَةِ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ الْتِمَاسًا لِرُؤْيَتِهِ، فَلَمَّا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ مِنْ تَوَابِعِ النَّظَرِ وَلَوَازِمِهِ غَالِبًا أَجْرَى عَلَى الرُّؤْيَةِ لَفْظَ النَّظَرِ عَلَى سَبِيلِ إِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: نَظَرْتَ فَلَمْ تَنْظُرْ، كَمَا يُقَالُ: تَكَلَّمْتَ وَمَا تَكَلَّمْتَ، أَيْ مَا تَكَلَّمْتَ بِكَلَامٍ مُفِيدٍ، فَكَذَا هُنَا نَظَرْتَ وَمَا نَظَرْتَ نَظَرًا مُفِيدًا وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الْأَحْزَابِ:
٥٣] أَيْ غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ إِدْرَاكَهُ وَبُلُوغَهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ نَظَرْتُ مَعْنَاهُ انْتَظَرْتُ، وَمَجِيءُ فَعَلْتَ وَافْتَعَلْتَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِمْ: شَوَيْتُ وَاشْتَوَيْتُ، وَحَقَرْتُ وَاحْتَقَرْتُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: انْظُرُونا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: انْظُرُونَا، أَيِ انْتَظِرُونَا، لِأَنَّهُ يُسْرَعُ بِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ كَالْبُرُوقِ الْخَاطِفَةِ، وَالْمُنَافِقُونَ مُشَاةٌ وَالثَّانِي: انْظُرُونَا أَيِ انْظُرُوا إِلَيْنَا، لِأَنَّهُمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِمُ اسْتَقْبَلُوهُمْ بِوُجُوهِهِمْ، وَالنُّورُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَيَسْتَضِيئُونَ بِهِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ (أَنْظِرُونَا) مَكْسُورَةَ الظَّاءِ فَهِيَ مِنَ النَّظِرَةِ وَالْإِمْهَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر: ٣٦] وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ اتِّئَادَهُمْ فِي الْمَشْيِ إِلَى أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ إِنْظَارًا لَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشَ كَانَا يَطْعَنَانِ في حصة هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ الْآنَ وَجْهُ صِحَّتِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُعْطِي الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْأَنْوَارَ، وَالْمُنَافِقُونَ يَطْلُبُونَهَا مِنْهُمْ وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي الْأَنْوَارِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَكُونُونَ فِي الْجَنَّاتِ فَيَمُرُّونَ سَرِيعًا، وَالْمُنَافِقُونَ يَبْقَوْنَ وَرَاءَهُمْ فَيَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الِانْتِظَارَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ فِي النُّورِ وَالْمُنَافِقُونَ فِي الظُّلُمَاتِ، ثُمَّ الْمُنَافِقُونَ يَطْلُبُونَ النُّورَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ قَوْمٌ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ إِنَّمَا تَقَعُ/ عِنْدَ الْمَوْقِفِ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: انْظُرُونا انْظُرُوا إِلَيْنَا، لِأَنَّهُمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِمْ، فَقَدْ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ، وَمَتَى أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ وَكَانَتْ أَنْوَارُهُمْ مِنْ قُدَّامِهِمُ اسْتَضَاءُوا بِتِلْكَ الْأَنْوَارِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ إِنَّمَا تَقَعُ عِنْدَ مَسِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ، كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: انْظُرُونا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الِانْتِظَارَ وَأَنْ يَكُونَ النَّظَرَ إِلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقَبَسُ: الشُّعْلَةُ مِنَ النَّارِ أَوِ السِّرَاجِ، وَالْمُنَافِقُونَ طَمِعُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَنْوَارِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقْتَبِسُوهُ كَاقْتِبَاسِ نِيرَانِ الدُّنْيَا وَهُوَ مِنْهُمْ جَهْلٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَنْوَارَ نَتَائِجُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا، فَلَمَّا لَمْ تُوجَدْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ فِي الدُّنْيَا امْتَنَعَ حُصُولُ تِلْكَ الْأَنْوَارِ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ الْحَسَنُ: يُعْطَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلُّ أَحَدٍ نُورًا عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ وَمِمَّا فِيهِ مِنَ الْكَلَالِيبِ وَالْحَسَكِ وَيُلْقَى عَلَى الطَّرِيقِ، فَتَمْضِي زُمْرَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ تَمْضِي زُمْرَةٌ أُخْرَى كَأَضْوَاءِ الْكَوَاكِبِ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ عَلَى ذَلِكَ تَغْشَاهُمْ
457
ظُلْمَةٌ فَتُطْفِئُ نُورَ الْمُنَافِقِينَ، فَهُنَالِكَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ كَقَبَسِ النَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً وُجُوهًا أَحَدُهَا:
أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: ارْجِعُوا إِلَى دَارِ الدُّنْيَا فَالْتَمِسُوا هَذِهِ الْأَنْوَارَ هُنَالِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَنْوَارَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ مِنَ اكْتِسَابِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الْجَهْلِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ ضَرْبِ السُّورِ، هُوَ امْتِنَاعُ الْعَوْدِ إِلَى الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: النَّاسُ يَكُونُونَ فِي ظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ، ثُمَّ الْمُؤْمِنُونَ يُعْطَوْنَ الْأَنْوَارَ، فَإِذَا أَسْرَعَ الْمُؤْمِنُ فِي الذَّهَابِ قَالَ الْمُنَافِقُ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فَيُقَالُ لَهُمُ: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً قَالَ: وَهِيَ خُدْعَةٌ خُدِعَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ، كَمَا قَالَ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاءِ: ١٤٢] فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي قُسِّمَ فِيهِ النُّورُ فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا، فَيَنْصَرِفُونَ إِلَيْهِمْ فَيَجِدُونَ السُّورَ مَضْرُوبًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ: ارْجِعُوا مَنْعُ الْمُنَافِقِينَ عَنِ الِاسْتِضَاءَةِ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِمَنْ يُرِيدُ الْقُرْبَ مِنْهُ: وَرَاءَكَ أُوَسِّعُ لَكَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: ارْجِعُوا أَنْ يَقْطَعُوا بِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى وِجْدَانِ هَذَا الْمَطْلُوبِ الْبَتَّةَ، لَا أَنَّهُ أمر لهم بالرجوع.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي السُّورِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْحِجَابُ وَالْحَيْلُولَةُ أَيِ/ الْمُنَافِقُونَ مُنِعُوا عَنْ طَلَبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ حَائِطٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ حِجَابُ الْأَعْرَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِسُورٍ صِلَةٌ وَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْدِيرُ: ضُرِبَ بَيْنَهُمْ سُورٌ كَذَا، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، ثُمَّ قَالَ: لَهُ بابٌ أَيْ لِذَلِكَ السُّورِ بَابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أَيْ فِي بَاطِنِ ذَلِكَ السُّورِ الرَّحْمَةُ، وَالْمُرَادُ من الرحمة الجنة التي فيها المؤمنين وَظاهِرُهُ يَعْنِي وَخَارِجَ السُّورِ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ أَيْ مِنْ قِبَلِهِ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا يَلِي الْمُؤْمِنِينَ فَفِيهِ الرَّحْمَةُ، وَمَا يَلِي الْكَافِرِينَ يَأْتِيهِمْ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَائِطٌ وَهُوَ السُّورُ، وَلِذَلِكَ السُّورِ بَابٌ، فَالْمُؤْمِنُونَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ بَابِ ذَلِكَ السُّورِ، وَالْكَافِرُونَ يَبْقَوْنَ فِي الْعَذَابِ وَالنَّارِ. ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٤]
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤)
[في قوله تعالى يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ إلى قوله حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِي: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمَسَاجِدِ وَالصَّلَوَاتِ وَالْغَزَوَاتِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبُعْدُ بَيْنَ الْجَنَّةِ والنار كثير، لأن الجنة في أعلى السموات، وَالنَّارُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبُعْدَ الشَّدِيدَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِدْرَاكِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّه عَظَّمَ صَوْتَ الْكُفَّارِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ مِنْ أَسْفَلِ السَّافِلِينَ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الصَّوْتِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْأَشِدَّاءِ الْأَقْوِيَاءِ جِدًّا، وَالْكُفَّارُ مَوْصُوفُونَ بِالضَّعْفِ وَخَفَاءِ الصَّوْتِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْبُعْدَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِدْرَاكِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُنَا، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ
قَالُوا بَلَى كُنْتُمْ مَعَنَا إِلَّا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ أَشْيَاءَ بِسَبَبِهَا وَقَعْتُمْ فِي هَذَا الْعَذَابِ أَوَّلُهَا: وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أَيْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَكُلُّهَا فِتْنَةٌ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَتَرَبَّصْتُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَرَبَّصْتُمْ بِالتَّوْبَةِ وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: وَتَرَبَّصْتُمْ بِمُحَمَّدٍ الْمَوْتَ، قُلْتُمْ يُوشِكُ أَنْ يَمُوتَ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ وَثَالِثُهَا: كُنْتُمْ تَتَرَبَّصُونَ دَائِرَةَ السَّوْءِ لِتَلْتَحِقُوا بِالْكُفَّارِ، وَتَتَخَلَّصُوا مِنَ النِّفَاقِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَارْتَبْتُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: شَكَكْتُمْ فِي وَعِيدِ اللَّه وَثَانِيهَا: شَكَكْتُمْ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وَثَالِثُهَا: شَكَكْتُمْ فِي الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْبَاطِلَ وَهُوَ مَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مِنْ نُزُولِ الدَّوَائِرِ بِالْمُؤْمِنِينَ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ يَعْنِي الْمَوْتَ، وَالْمَعْنَى/ مَا زَالُوا فِي خُدَعِ الشَّيْطَانِ وَغُرُورِهِ حتى أماتهم اللَّه وألقاهم في النار.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ: الْغَرُورُ بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَالْمَعْنَى وَغَرَّكُمْ باللَّه الِاغْتِرَارُ وَتَقْدِيرُهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ غَرَّكُمْ باللَّه سَلَامَتُكُمْ مِنْهُ مَعَ الِاغْتِرَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْغَرُورُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ هُوَ الشَّيْطَانُ لِإِلْقَائِهِ إِلَيْكُمْ أَنْ لَا خوف عليكم من محاسبة ومجازاة.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٥]
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْفِدْيَةُ مَا يُفْتَدَى بِهِ وَهُوَ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ إِيمَانٌ وَلَا تَوْبَةٌ فَقَدْ زَالَ التَّكْلِيفُ وَحَصَلَ الْإِلْجَاءُ.
الثَّانِي: بَلِ الْمُرَادُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ تَدْفَعُونَ بِهَا الْعَذَابَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ [الْبَقَرَةِ: ١٢٣]، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفِدْيَةَ مَا يُفْتَدَى بِهِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْإِيمَانَ وَالتَّوْبَةَ وَالْمَالَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا عَلَى مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْفِدْيَةَ أَصْلًا وَالتَّوْبَةُ فِدْيَةٌ، فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنِ التَّوْبَةُ وَاجِبَةَ الْقَبُولِ عَقْلًا أَمَّا قَوْلُهُ:
وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَفِيهِ بَحْثٌ: وَهُوَ عَطْفُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُنَافِقِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمُنَافِقُ كَافِرًا لِوُجُوبِ حُصُولِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ وَإِلَّا فَالْمُنَافِقُ كَافِرٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وفي لفظ المولى هاهنا أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَوْلاكُمْ أَيْ مَصِيرُكُمْ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَوْلَى مَوْضِعُ الْوَلْيِ، وَهُوَ الْقُرْبُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ النَّارَ هِيَ مَوْضِعُكُمُ الَّذِي تَقْرُبُونَ مِنْهُ وَتَصِلُونَ إِلَيْهِ، وَالثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي أَوْلَى بِكُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَالْفِرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ معنى وليس بتفسير للفظ، لأن لَوْ كَانَ مَوْلًى وَأَوْلَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي اللُّغَةِ، لَصَحَّ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَكَانِ الْآخَرِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: هَذَا مَوْلَى مِنْ فُلَانٍ كَمَا يُقَالُ: هَذَا أَوْلَى مِنْ فُلَانٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هَذَا أَوْلَى فُلَانٍ كَمَا يُقَالُ: هَذَا مَوْلَى فُلَانٍ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ مَعْنًى وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ لِأَنَّ الشَّرِيفَ الْمُرْتَضَى لَمَّا تَمَسَّكَ بِإِمَامَةِ عَلِيٍّ،
بِقَوْلِهِ/ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ»
قَالَ: أَحَدُ مَعَانِي مَوْلَى أَنَّهُ أَوْلَى، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِأَقْوَالِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، بِأَنَّ مَوْلَى مَعْنَاهُ أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا عَدَاهُ إِمَّا بَيْنَ الثُّبُوتِ، كَكَوْنِهِ ابْنَ الْعَمِّ وَالنَّاصِرَ، أَوْ بَيْنَ الِانْتِفَاءِ،
كَالْمُعْتِقِ وَالْمُعْتَقِ، فَيَكُونُ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ عَبَثًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي كَذِبًا، وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدَ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنًى لَا تَفْسِيرٌ، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ:
هِيَ مَوْلاكُمْ أَيْ لَا مَوْلَى لَكُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ كَانَتِ النَّارُ مَوْلَاهُ فَلَا مَوْلَى لَهُ، كَمَا يُقَالُ: نَاصِرُهُ الْخِذْلَانُ وَمُعِينُهُ الْبُكَاءُ، أَيْ لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مُعِينَ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّدٍ: ١١] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الكهف: ٢٩]. ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٦]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦)
[في قوله تَعَالَى أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ: (أَلَمَّا يَأْنِ)، قَالَ ابْنُ جِنِّي: أَصْلُ لَمَّا لَمْ، ثم زيد عليها ما فلم نَفْيٌ لِقَوْلِهِ أَفْعَلُ، وَلَمَّا نَفْيٌ لِقَوْلِهِ قَدْ يَفْعَلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا زِيدَ فِي الْإِثْبَاتِ قَدْ لَا جَرَمَ زِيدَ فِي نَفْيِهِ مَا، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا رَكَّبُوا لَمْ مَعَ مَا حَدَثَ لَهَا مَعْنًى وَلَفْظٌ، أَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهَا صَارَتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ظَرْفًا، فَقَالُوا: لَمَّا قُمْتَ قَامَ زَيْدٌ، أَيْ وَقْتَ قِيَامِكَ قَامَ زَيْدٌ، وَأَمَّا اللَّفْظُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقِفَ عَلَيْهَا دُونَ مَجْزُومِهَا، فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: جِئْتُ ولما، أي ولما يجيء، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: جِئْتُ وَلَمْ.
وَأَمَّا الذين قرءوا: أَلَمْ يَأْنِ فَالْمَشْهُورُ أَلَمْ يَأْنِ مِنْ أَنَى الأمر يأني إذا جاء إناء أتاه أَيْ وَقْتُهُ. وَقُرِئَ:
(أَلَمْ يَئِنْ)، مِنْ أَنَّ يَئِينُ بِمَعْنَى أَنَى يَأْنِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَفِي قُلُوبِهِمُ النِّفَاقُ الْمُبَايِنُ لِلْخُشُوعِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ لَعَلَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا مَعَ خُشُوعِ الْقَلْبِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، / لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَكُونُ لَهُ خُشُوعٌ وَخَشْيَةٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَحْتَمِلُ الْآيَةُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: لَعَلَّ طَائِفَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ فِيهِمْ مَزِيدُ خُشُوعٍ وَلَا رِقَّةٍ، فَحُثُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: لَعَلَّ قَوْمًا كَانَ فِيهِمْ خُشُوعٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ زَالَ مِنْهُمْ شِدَّةُ ذَلِكَ الْخُشُوعِ فَحُثُّوا عَلَى الْمُعَاوَدَةِ إِلَيْهَا، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: إِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ أَصَابُوا لِينًا فِي الْعَيْشِ وَرَفَاهِيَةً، فَفَتَرُوا عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَعُوتِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قُرِئَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَبَكَوْا بُكَاءً شَدِيدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: هَكَذَا كُنَّا حَتَّى قَسَتِ الْقُلُوبُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِذِكْرِ اللَّهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ، أَمَا حَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَرِقَّ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه، أَيْ مَوَاعِظِ اللَّه الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَى هَذَا الذِّكْرُ مُصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الذِّكْرَ مُضَافٌ إِلَى المفعول، والمعنى لذكر هم اللَّه، أَيْ يَجِبُ أَنْ يُورِثَهُمُ الذِّكْرُ خُشُوعًا، وَلَا يَكُونُوا كَمَنْ ذِكْرُهُ بِالْغَفْلَةِ فَلَا يَخْشَعُ قَلْبُهُ لِلذِّكْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (مَا) فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِالْعَطْفِ عَلَى الذِّكْرِ وَهُوَ مَوْصُولٌ، وَالْعَائِدُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ يَعْنِي الْقُرْآنَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ، وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ خَفِيفَةً، وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَما نَزَلَ، مُشَدَّدَةً، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ مُرْتَفِعَةَ النُّونِ مَكْسُورَةَ الزَّايِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه وَلِمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، وَفِي الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ وَلِمَا نَزَّلَهُ اللَّه مِنَ الْحَقِّ، وَفِي الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ وَلِمَا نُزِّلَ مِنَ الْحَقِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ هُوَ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِلْوَصْفَيْنِ الذِّكْرِ وَالْمَوْعِظَةِ وَأَنَّهُ حَقٌّ نَازِلٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ هُوَ ذِكْرَ اللَّه مُطْلَقًا، وَالْمُرَادُ بِمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ هُوَ الْقُرْآنَ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْخُشُوعُ بِالذِّكْرِ عَلَى الْخُشُوعِ بِمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْخُشُوعَ وَالْخَوْفَ وَالْخَشْيَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ ذِكْرِ اللَّه، فَأَمَّا حُصُولُهَا عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَذَاكَ لِأَجْلِ اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى ذِكْرِ اللَّه، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَكُونُوا قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مَعْنَاهُ: أَلَمْ يَأْنِ أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ، وَأَنْ لَا يَكُونُوا، قَالَ: وَلَوْ كَانَ جَزْمًا عَلَى النَّهْيِ كَانَ صَوَابًا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، ثُمَّ قَالَ: كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يُرِيدُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ طُولِ الْأَمَدِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: طَالَتِ الْمُدَّةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِمْ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَالُوا إِلَى الدُّنْيَا وَأَعْرَضُوا عَنْ مَوَاعِظِ اللَّه وَثَالِثُهَا: طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ فِي الْغَفْلَةِ فَحَصَلَتِ الْقَسْوَةُ فِي قُلُوبِهِمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ وَرَابِعُهَا: قَالَ: / ابن حبان: الأمد هاهنا الْأَمَلُ الْبَعِيدُ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ بِطُولِ الْأَمَلِ، أَيْ لَمَّا طَالَتْ آمَالُهُمْ لَا جَرَمَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَخَامِسُهَا: قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: طَالَ عَلَيْهِمْ أَمَدُ خُرُوجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَادِسُهَا: طَالَ عَهْدُهُمْ بِسَمَاعِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَزَالَ وَقْعُهُمَا عَنْ قُلُوبِهِمْ فَلَا جَرَمَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، قَالَهُ الْقُرَظِيُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ (الْأَمَدُّ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيِ الْوَقْتُ الْأَطْوَلُ، ثُمَّ قَالَ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أَيْ خَارِجُونَ عَنْ دِينِهِمْ رَافِضُونَ لِمَا فِي الْكِتَابَيْنِ، وَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَدَمَ الْخُشُوعِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يفضي إلى الفسق في آخر الأمر. ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٧]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧)
وفيه ووجهان الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَمْثِيلٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُلُوبَ الَّتِي مَاتَتْ بِسَبَبِ الْقَسَاوَةِ، فَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى الذِّكْرِ سَبَبٌ لِعَوْدِ حَيَاةِ الْخُشُوعِ إِلَيْهَا كَمَا يُحْيِي اللَّه الْأَرْضَ بِالْغَيْثِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها بَعَثَ الْأَمْوَاتَ فَذَكَرَ ذَلِكَ تَرْغِيبًا فِي الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَزَجْرًا عَنِ الْقَسَاوَةِ. ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٨]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ فِيهِمَا، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ مَعْنَى الْمُصَدِّقِ الْمُؤْمِنَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات لِأَنَّ إِقْرَاضَ اللَّه مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، ثُمَّ قَالُوا: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ للَّه وَأَقْرَضَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْوَعْدِ، فَيَصِيرُ ظَاهِرُ الْآيَةِ مَتْرُوكًا عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ، وَلَا يَصِيرُ
مَتْرُوكًا عَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ هُوَ الَّذِي يُقْرِضُ اللَّه، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَقَوْلُهُ: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ شَيْئًا وَاحِدًا وَهُوَ تَكْرَارٌ، أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ، وَحَجَّةُ مَنْ نَقَلَ وَجْهَانِ أحدهما: أن في قراءة أبي: إن المتصدقين وَالْمُتَصَدِّقَاتِ بِالتَّاءِ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ:
وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَالِاعْتِرَاضُ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ، فَهُوَ لِلصَّدَقَةِ أَشَدُّ مُلَازَمَةً/ مِنْهُ لِلتَّصْدِيقِ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ: بِأَنَّا لَا نَحْمِلُ قَوْلَهُ: وَأَقْرَضُوا عَلَى الِاعْتِرَاضِ، وَلَكِنَّا نَعْطِفُهُ عَلَى الْمَعْنَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ مَعْنَاهُ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا وَأَقْرَضُوا اللَّه.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ عَطْفَ الْفِعْلِ عَلَى الاسم قبيح فما الفائدة في التزامه هاهنا؟ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ قَوْلُهُ: وَأَقْرَضُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْنَى الْفِعْلِ فِي الْمُصَّدِّقِينَ، لِأَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى الَّذِينَ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى صَدَّقُوا، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا وَأَقْرَضُوا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لِمَ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ إِلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَالَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ لِلْمَعْهُودِ، فَكَأَنَّهُ ذَكَرَ جَمَاعَةً مُعَيَّنِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ ثُمَّ قَبْلَ ذِكْرِ الْخَبَرِ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِأَحْسَنِ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْقَرْضِ الْحَسَنِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْخَبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: يُضاعَفُ لَهُمْ فَقَوْلُهُ: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ هُوَ الْمُسَمَّى بِحَشْوِ اللَّوْزِنْجِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
إِنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا [قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلَى تَرْجُمَانْ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ قَرَأَ: الْمُصَّدِّقِينَ بِالتَّشْدِيدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْوَاجِبُ أَوِ التَّطَوُّعُ أَوْ هُمَا جَمِيعًا، أَوِ الْمُرَادُ بِالتَّصَدُّقِ الْوَاجِبُ وَبِالْإِقْرَاضِ التَّطَوُّعُ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ بِالْقَرْضِ كَالدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ فَكُلُّ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ مَذْكُورَةٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ فقد تقدم القول فيه.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١٩]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَذَكَرَ الْآنَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالَ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الصديق نعت لمن كثر منه الصدق، وجمع صِدْقًا إِلَى صِدْقٍ فِي الْإِيمَانِ باللَّه تَعَالَى وَرُسُلِهِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ آمَنَ باللَّه وَرُسُلِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُلُّ مَنْ آمَنَ باللَّه وَرُسُلِهِ فَهُوَ صِدِّيقٌ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هُمُ الصِّدِّيقُونَ أَيِ الْمُوَحِّدُونَ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُقَاتِلِينَ: أَنَّ الصِّدِّيقِينَ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرُّسُلِ حِينَ أَتَوْهُمْ وَلَمْ يُكَذِّبُوا سَاعَةً قَطُّ مِثْلَ آلِ يَاسِينَ، وَمِثْلَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأَمَّا فِي دِينِنَا فَهُمْ ثَمَانِيَةٌ سَبَقُوا أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَحَمْزَةُ وَتَاسِعُهُمْ عُمَرُ أَلْحَقَهُ اللَّه بِهِمْ لِمَا عَرَفَ مِنْ صِدْقِ نِيَّتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَالشُّهَداءُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى وَالتَّقْدِيرُ: إن الذين
آمَنُوا باللَّه وَرُسُلِهِ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَهُمُ الشُّهَدَاءُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ مُؤْمِنٍ فَهُوَ صِدِّيقٌ وَشَهِيدٌ وتلا هذه الآية، جذا الْقَوْلُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَ كُلُّ مؤمن شهيد؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ عَلَى الْعِبَادِ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ عدول الآخرة الذي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: السَّبَبُ فِي هَذَا الِاسْمِ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ كَرَامَةَ رَبِّهِ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: كُلُّ مُؤْمِنٍ شَهِيدٌ لِأَنَّهُ قَائِمٌ للَّه تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ فِيمَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ مِنْ وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَوُجُوبِ الطَّاعَاتِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصديق نعت لمن كثر منه الصدق وجمع صِدْقًا إِلَى صِدْقٍ فِي الْإِيمَانِ باللَّه تَعَالَى وَرُسُلِهِ فَصَارُوا بِذَلِكَ شُهَدَاءَ عَلَى غَيْرِهِمْ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالشُّهَداءُ لَيْسَ عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَلْ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ صِفَةً وَخَبَرُهُ هُوَ قَوْلُهُ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنَ الشُّهَدَاءِ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: ٤١] وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: الشُّهَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّه،
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا تَعُدُّونَ الشُّهَدَاءَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: الْمَقْتُولُ، فَقَالَ: إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمَقْتُولَ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونَ شَهِيدٌ، وَالْمَطْعُونَ شَهِيدٌ» الْحَدِيثَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ حَالِ الْكَافِرِينَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ ذَكَرَ بَعْدَهُ ما يدل على حقارة الدنيا وكما حال الآخرة فقال:
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٠]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْآيَةِ تَحْقِيرُ حَالِ الدُّنْيَا وَتَعْظِيمُ حَالِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: / الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أُمُورٌ مُحَقَّرَةٌ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَهِيَ عَذَابٌ شَدِيدٌ دَائِمٌ أَوْ رِضْوَانُ اللَّه عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ عَظِيمٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً... قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: ٣٠] وَلَوْلَا أَنَّهَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ لَمَا قَالَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحَيَاةَ خَلْقُهُ، كَمَا قَالَ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: ٢] وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الْعَبَثَ عَلَى مَا قَالَ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنين: ١١٥] وَقَالَ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا وَلِأَنَّ الْحَيَاةَ نِعْمَةٌ بَلْ هِيَ أَصْلٌ لِجَمِيعِ النِّعَمِ، وَحَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ لَا تَخْتَلِفُ بِأَنْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ الْمِنَّةَ بِخَلْقِ الْحَيَاةِ فَقَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨] فَأَوَّلُ مَا ذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ نِعَمِهِ هُوَ الْحَيَاةُ، فَدَلَّ مَجْمُوعُ مَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا غَيْرُ مَذْمُومَةٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ صَرَفَ هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَا إِلَى طَاعَةِ اللَّه بَلْ إِلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَمُتَابَعَةِ الْهَوَى، فَذَاكَ هُوَ الْمَذْمُومُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهَا بِأُمُورٍ:
أَوَّلُهَا: أَنَّهَا لَعِبٌ وَهُوَ فِعْلُ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ يُتْعِبُونَ أَنْفُسَهُمْ جِدًّا، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْمَتَاعِبَ تنقضي من غير فائدة وثانيها: أنها لَهْوٌ وَهُوَ فِعْلُ الشُّبَّانِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ بَعْدَ انْقِضَائِهِ لَا يَبْقَى إِلَّا الْحَسْرَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ بَعْدَ انْقِضَائِهِ يَرَى الْمَالَ ذَاهِبًا وَالْعُمُرَ ذَاهِبًا، وَاللَّذَّةَ مُنْقَضِيَةً، وَالنَّفْسَ ازْدَادَتْ شَوْقًا وَتَعَطُّشًا إِلَيْهِ مَعَ فِقْدَانِهَا، فَتَكُونُ الْمَضَارُّ مُجْتَمِعَةً مُتَوَالِيَةً وَثَالِثُهَا: أنها زِينَةٌ وَهَذَا دَأْبُ النِّسَاءِ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الزِّينَةِ تَحْسِينُ الْقَبِيحِ، وَعِمَارَةُ الْبِنَاءِ الْمُشْرِفِ عَلَى أَنْ يَصِيرَ خَرَابًا، وَالِاجْتِهَادُ فِي تَكْمِيلِ النَّاقِصِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَرَضِيَّ لَا يُقَاوِمُ الذَّاتِيَّ، فَإِذَا كَانَتِ الدُّنْيَا مُنْقَضِيَةً لِذَاتِهَا، فَاسِدَةً لِذَاتِهَا، فَكَيْفَ يَتَّمَكَّنُ الْعَاقِلُ مِنْ إِزَالَةِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ عَنْهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى أَنَّ الْكَافِرَ يَشْتَغِلُ طُولَ حَيَاتِهِ بِطَلَبِ زِينَةِ الدُّنْيَا دُونَ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ، وَهَذَا كَمَا قِيلَ:
«حَيَاتُكَ يَا مَغْرُورُ سهو وغفلة» ورابعها: تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ بِالصِّفَاتِ الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ، وَهُوَ إِمَّا التَّفَاخُرُ بِالنَّسَبِ، أَوِ التَّفَاخُرُ بِالْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْعَسَاكِرِ وَكُلُّهَا ذَاهِبَةٌ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَجْمَعُ الْمَالَ فِي سَخَطِ اللَّه، وَيَتَبَاهَى بِهِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّه وَيَصْرِفُهُ فِي مَسَاخِطِ اللَّه، فَهُوَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَأَنَّهُ لَا وَجْهَ بِتَبَعِيَّةِ أَصْحَابِ الدُّنْيَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَبَيَّنَ أَنَّ حَالَ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ يَخْلُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَيَجِبُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى عِمَارَةِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى لِهَذِهِ الْحَيَاةِ مَثَلًا، فَقَالَ: كَمَثَلِ غَيْثٍ يَعْنِي الْمَطَرَ، ونظير قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ [الْكَهْفِ: ٤٥] وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ غَيْثٍ مَوْضِعُهُ رَفْعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقَوْلُهُ: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْمُرَادُ مِنَ الْكُفَّارِ الزُّرَّاعُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلزَّارِعِ: كَافِرٌ، لِأَنَّهُ يَكْفُرُ الْبَذْرَ الَّذِي يَبْذُرُهُ بِتُرَابِ الأرض، وإذا أعجب الزراع نَبَاتُهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَفَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكُفَّارُ باللَّه وَهُمْ أَشَدُّ إِعْجَابًا بِزِينَةِ الدُّنْيَا وَحَرْثِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ سَعَادَةً سِوَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: نَباتُهُ أَيْ مَا نَبَتَ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْثِ، وَبَاقِي الْآيَةِ مُفَسَّرٌ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَهُ حَالَ الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أَيْ لِمَنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّه وَرِضْوَانٌ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ الدُّنْيَا بِالْحَقَارَةِ وَسُرْعَةِ الِانْقِضَاءِ، بَيَّنَ أَنَّ الْآخِرَةَ إِمَّا عَذَابٌ شَدِيدٌ دَائِمٌ، وَإِمَّا رِضْوَانٌ، وَهُوَ أَعْظَمُ دَرَجَاتِ الثَّوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ يَعْنِي لِمَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا، وَأَعْرَضَ بها من طَلَبِ الْآخِرَةِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الدُّنْيَا مَتَاعُ الْغُرُورِ إِذَا أَلْهَتْكَ عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ، فَأَمَّا إِذَا دَعَتْكَ إِلَى طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّه وطلب الآخرة فنعم الوسيلة.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢١]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِتَكُنْ مُفَاخَرَتُكُمْ وَمُكَاثَرَتُكُمْ فِي غَيْرِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، بَلِ احْرِصُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ مُسَابَقَتُكُمْ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ.
وَاعْلَمْ أنه تعالى أمر بالمسارعة في قوله: سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ثم شرح هاهنا كيفية تلك
464
المسارعة، فقال: سارِعُوا مُسَارَعَةَ الْمُسَابِقِينَ لِأَقْرَانِهِمْ فِي الْمِضْمَارِ، وَقَوْلُهُ: إِلى مَغْفِرَةٍ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُسَارَعَةُ إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ، فَقَالَ قَوْمٌ الْمُرَادُ سَابِقُوا إِلَى التَّوْبَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ سَابِقُوا إِلَى سَائِرِ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ فَدَخَلَ فِيهِ التَّوْبَةُ، وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ لَا يُنَالَانِ إِلَّا بِالِانْتِهَاءِ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَالِاشْتِغَالِ بِكُلِّ الطَّاعَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْفَوْرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْمُسَارَعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرَاخِي مَحْظُورًا، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَقَالَ: فِي آلِ عِمْرَانَ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: ١٣٣]، فذكروا فيه وجوها أحدها: أن السموات السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ جُعِلَتْ صَفَائِحَ وَأُلْزِقَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ لَكَانَتِ الْجَنَّةُ فِي عَرْضِهَا، هَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَثَانِيهَا: قَالَ عَطَاءٌ [عَنِ] ابْنِ عَبَّاسٍ يُرِيدُ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُطِيعِينَ جَنَّةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَثَالِثُهَا: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ اللَّه تعالى شبه عرض الجنة بعرض السموات السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ طُولَهَا أَزْيَدُ مِنْ عَرْضِهَا، فَذَكَرَ الْعَرْضَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ طُولَهَا أَضْعَافُ ذَلِكَ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِلْعِبَادَةِ بِمَا يَعْقِلُونَهُ وَيَقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ مِقْدَارُ السموات وَالْأَرْضِ وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ، وَخَامِسُهَا: / وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْجِنَانَ أَرْبَعَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: ٤٦] وَقَالَ: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرحمن: ٦٢] فالمراد هاهنا تَشْبِيهُ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجِنَانِ فِي الْعَرْضِ بالسموات السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ: لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُكُلُها دائِمٌ [الرَّعْدِ: ٣٥] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ صِفَتِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا أَنْ لَا تَفْنَى، لَكِنَّهَا لَوْ كَانَتِ الْآنَ مَوْجُودَةً لَفَنِيَتْ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: ٨٨] الثَّانِي: أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ وَهِيَ الْآنَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَرْضُهَا كعرض كل السموات، قَالُوا: فَثَبَتَ بِهَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ قَادِرًا لَا يَصِحُّ الْمَنْعُ عَلَيْهِ، وَكَانَ حَكِيمًا لَا يَصِحُّ الْخُلْفُ فِي وعده، ثم إنه تعالى وعده عَلَى الطَّاعَةِ بِالْجَنَّةِ فَكَانَتِ الْجَنَّةُ كَالْمَعِدَةِ الْمُهَيَّأَةِ لَهُمْ تَشْبِيهًا لِمَا سَيَقَعُ قَطْعًا بِالْوَاقِعِ، وَقَدْ يقول المرء لصاحبه: (أعدت لَكَ الْمُكَافَأَةَ) إِذَا عَزَمَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يُوجِدْهَا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ إِذَا كَانَتِ الْآخِرَةُ أَعَدَّهَا اللَّه تَعَالَى لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: ٥٠] أَيْ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى الْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ عَامٌّ، وَقَوْلَهُ: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ مَعَ قَوْلِهِ: أُكُلُها دائِمٌ خَاصٌّ، وَالْخَاصٌّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا: الْجَنَّةُ مَخْلُوقَةٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ قُلْنَا: إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى مَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ: «سَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ»
وَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ فَوْقَ الشَّيْءِ أَعْظَمَ مِنْهُ، أَلَيْسَ أَنَّ الْعَرْشَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ، مَعَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَوْقَ السَّمَاءِ السابعة.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فيه أعظم رجاء وأقوى أمل، إذا ذَكَرَ أَنَّ الْجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِمَنْ آمَنَ باللَّه وَرُسُلِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَ الْإِيمَانِ شَيْئًا آخَرَ، وَالْمُعْتَزِلَةُ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ يُفِيدُ جملة
465
الطَّاعَاتِ بِحُكْمِ تَصَرُّفِ الشَّرْعِ، لَكِنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ إِذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ الْبَاءِ، فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى مَفْهُومِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ التَّصْدِيقُ، فَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَمِمَّا يَتَأَكَّدُ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يَعْنِي أَنَّ الْجَنَّةَ فَضْلٌ لَا مُعَامَلَةٌ، فَهُوَ يُؤْتِيهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ سَوَاءٌ أَطَاعَ أَوْ عَصَى، فَإِنْ قِيلَ:
فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَقْطَعُوا بِحُصُولِ الْجَنَّةِ لِجَمِيعِ الْعُصَاةِ، وَأَنْ تَقْطَعُوا بِأَنَّهُ لَا عِقَابَ لَهُمْ؟ قُلْنَا: نَقْطَعُ بِحُصُولِ الْجَنَّةِ لَهُمْ، وَلَا نَقْطَعُ بِنَفْيِ الْعِقَابِ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عُذِّبُوا مُدَّةً ثُمَّ نُقِلُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَبَقُوا فِيهَا أَبَدَ الْآبَادِ، فَقَدْ كَانَتِ الْجَنَّةُ مُعَدَّةً لَهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُرْتَدُّ قَدْ آمَنُ باللَّه، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ الْآيَةِ قُلْتُ: خُصَّ مِنَ الْعُمُومِ، فَيَبْقَى العموم حجة فيما عداه.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ زَعَمَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ تَفَضُّلٌ مَحْضٌ لَا أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَمَلِ، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الْكَعْبِيِّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ فَقَالَ: هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوِ امْتَنَعَ بَيْنَ كَوْنِ الْجَنَّةِ مُسْتَحَقَّةً وَبَيْنَ كَوْنِهَا فَضْلًا مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَأَمَّا إِذَا صَحَّ اجْتِمَاعُ الصِّفَتَيْنِ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِالْأُمُورِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ الْمُكَلَّفُ مَعَهَا مِنْ كَسْبِ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَمَّا كَانَ تَعَالَى مُتَفَضِّلًا بِمَا يُكْسِبُ أَسْبَابَ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ مُتَفَضِّلًا بِهَا، قَالَ: وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا، ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ لا بد وأن يكون مشروطا بمن يَسْتَحِقُّهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ مَعْنًى.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مُتَفَضِّلًا بِأَسْبَابِ ذَلِكَ الْكَسْبِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعَالَى مُتَفَضِّلًا بِنَفْسِ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ مَنْ وُهِبَ مِنْ إِنْسَانٍ كَاغِدًا وَدَوَاةً وَقَلَمًا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ كَتَبَ بِذَلِكَ الْمِدَادِ عَلَى ذَلِكَ الْكَاغِدِ مُصْحَفًا وَبَاعَهُ مِنَ الْوَاهِبِ، لَا يُقَالُ: إِنَّ أَدَاءَ ذَلِكَ الثَّمَنِ تَفْضِيلٌ، بَلْ يُقَالُ: إنه مستحق، فكذا هاهنا، وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوَّلًا إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مَعْنًى، فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا استدلال عَجِيبٌ، لِأَنَّ لِلْمُتَفَضِّلِ أَنْ يَشْرُطَ فِي تَفَضُّلِهِ أَيَّ شَرْطٍ شَاءَ، وَيَقُولُ: لَا أَتَفَضَّلُ إِلَّا مَعَ هَذَا الشَّرْطِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ حَالِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ إِذَا أَعْطَى عَطَاءً مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ وَأَثْنَى بِسَبَبِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وأن يكون ذلك العطاء عظيما.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٢]
مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ] قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ [الحديد: ٢١] بَيَّنَ أَنَّ الْمُؤَدِّيَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ، فَقَالَ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ وَالْمَعْنَى لَا تُوجَدُ مُصِيبَةٌ مِنْ هَذِهِ الْمَصَائِبِ إِلَّا وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ اللَّه، وَالْمُصِيبَةُ فِي الْأَرْضِ هِيَ قَحْطُ الْمَطَرِ، وَقِلَّةُ النَّبَاتِ، وَنَقْصُ الثِّمَارِ، وَغَلَاءُ الْأَسْعَارِ، وَتَتَابُعُ الْجُوعِ، وَالْمُصِيبَةُ فِي الْأَنْفُسِ فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا هِيَ: الْأَمْرَاضُ، وَالْفَقْرُ، وَذَهَابُ الْأَوْلَادِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْخَيْرَ/ وَالشَّرَّ أَجْمَعَ لقوله بعد ذلك: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الْحَدِيدِ: ٢٣] ثُمَّ قَالَ: إِلَّا فِي كِتابٍ يَعْنِي مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّه فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وفيه مسائل:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الْوُجُودِ مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: وَإِنَّمَا كَتَبَ كُلَّ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: تَسْتَدِلُّ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ الْمَكْتُوبِ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَثَانِيهَا: لِيَعْرِفُوا حِكْمَةَ اللَّه فَإِنَّهُ تَعَالَى مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى تِلْكَ الْمَعَاصِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ وَثَالِثُهَا: لِيَحْذَرُوا من أمثال تلك المعاصي ورابعها: ليشركوا اللَّه تَعَالَى عَلَى تَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعِصْمَتِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي. وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُدَبِّرَاتُ أَمْرًا، وَهُمُ الْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا، إِنَّمَا هِيَ الْمَبَادِئُ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِوَاسِطَةِ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالِاتِّصَالَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ، فَتَصَوُّرَاتُهَا لِانْسِيَاقِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا فِي كِتابٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ جُمْهُورُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا خِلَافًا لِهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَتَبَهَا فِي الْكِتَابِ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَجَاءَتْ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ الْكِتَابِ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا بِأَسْرِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَصَائِبِ الْأَنْفُسِ فَيَدْخُلُ فِيهَا كُفْرُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ، فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَعْمَالِهِمْ بِتَفَاصِيلِهَا مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمُثْبَتَةٌ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مُحَالًا، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّه بِوُجُودِهَا مُنَافٍ لِعَدَمِهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ مُحَالٌ، فَلَمَّا حَصَلَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهَا، وَهَذَا الْعِلْمُ مُمْتَنِعُ الزَّوَالِ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ عَدَمِهَا وَبَيْنَ عِلْمِ اللَّه بِوُجُودِهَا مُحَالًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: إِنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ مَكْتُوبَةٌ فِي الْكِتَابِ، لِأَنَّ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَإِثْبَاتُهَا فِي الْكِتَابِ مُحَالٌ، وَأَيْضًا خَصَّصَ ذَلِكَ بِالْأَرْضِ والأنفس وما أدخل فيها أحوال السموات، وَأَيْضًا خَصَّصَ ذَلِكَ بِمَصَائِبِ الْأَرْضِ وَالْأَنْفُسِ لَا بِسَعَادَاتِ الْأَرْضِ وَالْأَنْفُسِ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ الرُّمُوزِ إِشَارَاتٌ وَأَسْرَارٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَخْلُقَ هَذِهِ الْمَصَائِبَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ الْأَنْفُسُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ نَفْسُ الْأَرْضِ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْكُلِّ قَدْ تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ نَفْسَ الْمُصِيبَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْمَخْلُوقَاتُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهَا إِلَّا أَنَّهَا لِظُهُورِهَا يَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [يوسف: ٢].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ حِفْظَ ذَلِكَ عَلَى اللَّه هَيِّنٌ، وَالثَّانِي: إِنَّ إِثْبَاتَ ذَلِكَ عَلَى كَثْرَتِهِ فِي الْكِتَابِ يَسِيرٌ عَلَى اللَّه وَإِنْ كَانَ عَسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر: ١١]. / ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٣]
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ اللَّامُ تُفِيدُ جَعْلَ أَوَّلِ الْكَلَامِ سَبَبًا لِآخِرِهِ، كَمَا تَقُولُ: قُمْتُ لِأَضْرِبَكَ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْقِيَامَ سَبَبٌ للضرب، وهاهنا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ إِخْبَارَ اللَّه عَنْ كَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَاقِعَةً بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَمُثْبَتَةً فِي الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ يُوجِبُ أَنْ لَا يَشْتَدَّ فَرَحُ الْإِنْسَانِ بِمَا وَقَعَ، وَأَنْ لَا يَشْتَدَّ حُزْنُهُ بِمَا لَمْ يَقَعْ، وهذا
467
هُوَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ سِرَّ اللَّه فِي الْقَدَرِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ»
وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ وُقُوعَ كُلِّ مَا وَقَعَ وَاجِبٌ، وَعَدَمُ كُلِّ مَا لَمْ يَقَعْ وَاجِبٌ أَيْضًا لِأَسْبَابٍ أَرْبَعَةٍ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلِمَ وُقُوعَهُ، فَلَوْ لَمْ يَقَعِ انْقَلَبَ الْعِلْمُ جَهْلًا ثَانِيهَا: أَنَّ اللَّه أَرَادَ وُقُوعَهُ، فَلَوْ لَمْ يَقَعِ انْقَلَبَتِ الْإِرَادَةُ تَمَنِّيًا ثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَلَّقَتْ قُدْرَةُ اللَّه تَعَالَى بِإِيقَاعِهِ، فَلَوْ لَمْ يَقَعْ لَانْقَلَبَتْ تِلْكَ الْقُدْرَةُ عَجْزًا، رَابِعُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَمَ بِوُقُوعِهِ بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ صِدْقٌ فَلَوْ لَمْ يَقَعْ لَانْقَلَبَ ذَلِكَ الْخَبَرُ الصِّدْقُ كذبا، فإن هَذَا الَّذِي وَقَعَ لَوْ لَمْ يَقَعْ لَتَغَيَّرَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ كَمَالِهَا إِلَى النَّقْصِ، وَمِنْ قِدَمِهَا إِلَى الْحُدُوثِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا دَافِعَ لِذَلِكَ الْوُقُوعِ، وَحِينَئِذٍ يَزُولُ الْغَمُّ وَالْحُزْنُ، عِنْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ وَهَانَتْ عَلَيْهِ الْمِحَنُ وَالْمَصَائِبُ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهَبْ أَنَّهُمْ يُنَازِعُونَ فِي الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يُوَافِقُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَإِذَا كَانَ الْجَبْرُ لَازِمًا فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَلْزَمَ الْجَبْرُ بِسَبَبِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَلْزَمَ بِسَبَبِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ، وَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ فَالْجَبْرُ مَذْهَبُهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَبَطُوا حُدُوثَ الْأَفْعَالِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِالتَّصَوُّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ وَالتَّخَيُّلَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، ثُمَّ رَبَطُوا تِلْكَ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّخَيُّلَاتِ بِالْأَدْوَارِ الْفَلَكِيَّةِ الَّتِي لَهَا مَنَاهِجُ مُقَدَّرَةٌ، وَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ مَا يُخَالِفُهَا، وَأَمَّا الدَّهْرِيَّةُ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ شَيْئًا مِنَ الْمُؤَثِّرَاتِ فَهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولُوا بِأَنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ اتِّفَاقِيٌّ، وَإِذَا كَانَ اتِّفَاقِيًّا لَمْ يَكُنِ اخْتِيَارِيًّا، فَيَكُونُ الْجَبْرُ لَازِمًا، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْ هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ فِرَقِ الْعُقَلَاءِ، سَوَاءٌ أَقَرُّوا بِهِ أَوْ أَنْكَرُوهُ، فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ اسْتِدْلَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا فِي كون العيد مُتَمَكِّنًا مُخْتَارًا، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ بِكَوْنِ تِلْكَ الْمَصَائِبِ مُثْبَتَةً فِي الْكِتَابِ لِأَجْلِ أَنْ يَحْتَرِزُوا عَنِ الْحُزْنِ وَالْفَرَحِ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ لَمَا بَقِيَ لِهَذِهِ اللَّامِ فَائِدَةٌ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تعالى لا يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمُ الْحُزْنُ وَالْفَرَحُ وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى/ أَرَادَ كُلَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْإِرَادَةَ سَوَاءٌ، فَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ: إِنَّ كُلَّ وَاقِعٍ فَهُوَ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى أدخل لام التعليل على فعله بقوله:
لِكَيْلا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّه تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْغَرَضِ، وَأَقُولُ: الْعَاقِلُ يَتَعَجَّبُ جِدًّا مِنْ كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَتَعَلُّقِ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ بِأَكْثَرِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ: بِمَا أَتَاكُمْ قَصْرًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: آتاكُمْ مَمْدُودًا، حُجَّةُ أَبِي عَمْرٍو أَنَّ: أَتَاكُمْ مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ: فاتَكُمْ فَكَمَا أَنَّ الْفِعْلَ لِلْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: فاتَكُمْ كذلك يكون الفعل للآني فِي قَوْلِهِ: بِما آتاكُمْ وَالْعَائِدُ إِلَى الْمَوْصُولِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ الذِّكْرُ الْمَرْفُوعُ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ، وَحُجَّةُ الْبَاقِينَ أَنَّهُ إِذَا مُدَّ كَانَ ذَلِكَ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّه تَعَالَى وَهُوَ الْمُعْطِي لِذَلِكَ، وَيَكُونُ فَاعِلُ الْفِعْلِ فِي: آتاكُمْ ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى اسْمِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْهَاءُ مَحْذُوفَةٌ مِنَ الصِّلَةِ تَقْدِيرُهُ بِمَا آتَاكُمُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ المبرد: ليس المراد من قوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ نَفْيَ الْأَسَى وَالْفَرَحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ مَعْنَاهُ لَا تَحْزَنُوا حُزْنًا يُخْرِجُكُمْ إِلَى أَنْ تُهْلِكُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَعْتَدُّوا بِثَوَابٍ عَلَى فَوَاتِ ما سلب منكم، ولا تفرحوا فرحا شديد يُطْغِيكُمْ حَتَّى تَأْشَرُوا فِيهِ وَتَبْطُرُوا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ ذَمَّ الْفَرَحَ الَّذِي يَخْتَالُ فِيهِ صَاحِبُهُ وَيَبْطُرُ، وَأَمَّا الْفَرَحُ بِنِعْمَةِ اللَّه
468
وَالشُّكْرُ عَلَيْهَا فَغَيْرُ مَذْمُومٍ، وَهَذَا كُلُّهُ مَعْنَى مَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَفْرَحُ وَيَحْزَنُ وَلَكِنِ اجْعَلُوا لِلْمُصِيبَةِ صَبْرًا وَلِلْخَيْرِ شُكْرًا. وَاحْتَجَّ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ فَقَالَ: الْمَحَبَّةُ إِرَادَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهِيَ إِرَادَةُ الثَّوَابِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ هَذِهِ الْإِرَادَةِ نَفْيُ مطلق الإرادة. ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٤]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد: ٢٣] كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُحِبُّ الْمُخْتَالَ وَلَا يُحِبُّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ الْفَرَحَ الْمُطْغِي فَإِذَا رُزِقُوا مَالًا وَحَظًّا مِنَ الدُّنْيَا فَلِحُبِّهِمْ لَهُ وَعِزَّتِهِ عِنْدَهُمْ يَبْخَلُونَ بِهِ وَلَا يَكْفِيهِمْ أَنَّهُمْ بَخِلُوا بِهِ بَلْ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ نَتِيجَةُ فَرَحِهِمْ عِنْدَ إِصَابَتِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَمَنْ يَتَوَلَّ عَنْ أَوَامِرِ اللَّه وَنَوَاهِيهِ وَلَمْ يَنْتَهِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ مِنَ الْأَسَى عَلَى الْفَائِتِ وَالْفَرِحِ بِالْآتِي فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنْهُ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: / الَّذِينَ يَبْخَلُونَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَا تَعَلُّقَ له بما قبله، وهو في صفة اليهود الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم ويخلوا بِبَيَانِ نَعْتِهِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَحَذْفُ الْخَبَرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: ٣١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فَإِنَّ اللَّه الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَحَذَفُوا لَفْظَ هُوَ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَنْبَغِي أَنَّ هُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَصْلًا لَا مُبْتَدَأً، لِأَنَّ الْفَصْلَ حَذْفُهُ أَسْهَلُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا مَوْضِعَ لِلْفَصْلِ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَقَدْ يُحْذَفُ فلا يخل بالمعنى كقوله: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً [الْكَهْفِ: ٣٩].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّه غَنِيٌّ فَلَا يَعُودُ ضَرَرٌ عَلَيْهِ بِبُخْلِ ذَلِكَ الْبَخِيلِ، وَقَوْلُهُ: الْحَمِيدُ كَأَنَّهُ جواب عن السؤال يذكر هاهنا، فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَمَّا كَانَ تَعَالَى عَالِمًا بِأَنَّهُ يَبْخَلُ بِذَلِكَ الْمَالِ وَلَا يَصْرِفُهُ إِلَى وُجُوهِ الطَّاعَاتِ، فَلِمَ أَعْطَاهُ ذَلِكَ الْمَالَ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ تَعَالَى حَمِيدٌ فِي ذَلِكَ الْإِعْطَاءِ، وَمُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ حَيْثُ فَتَحَ عَلَيْهِ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ، فَإِنْ قَصَّرَ الْعَبْدُ فِي الطَّاعَةِ فَإِنَّ وَبَالَهُ عَائِدٌ إليه.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٥]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَفِي تَفْسِيرِ الْبَيِّنَاتِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ مقاتل بن سليمان إنها هي المعجزات الظَّاهِرَةُ وَالدَّلَائِلُ الْقَاهِرَةُ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ: أَيْ أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّه وَإِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِ اللَّه، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ لِأَنَّ نُبُوَّتَهُمْ إِنَّمَا ثَبَتَتْ بِتِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ.
469
وَاعْلَمْ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ [الشُّورَى: ١٧] وَقَالَ:
وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ [الرحمن: ٧] وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَدِيدِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: وَهُوَ الَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ مَدَارَ التَّكْلِيفِ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِعْلُ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَالثَّانِي: تَرْكُ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ لَوْ كَانَ هُوَ التَّرْكُ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُخْلَقَ أَحَدٌ، لَأَنَّ التَّرْكَ كَانَ حَاصِلًا فِي الْأَزَلِ، وَأَمَّا فِعْلُ مَا يَنْبَغِي فعله، فإما أن يكون متعلقا بالنفس، وَهُوَ الْمَعَارِفُ، أَوْ بِالْبَدَنِ وَهُوَ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ، فَالْكِتَابُ هُوَ الَّذِي يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى فِعْلِ مَا يَنْبَغِي مِنَ/ الْأَفْعَالِ النَّفْسَانِيَّةِ، لِأَنْ يَتَمَيَّزَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْحُجَّةُ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَالْمِيزَانُ هُوَ الَّذِي يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى فِعْلِ مَا يَنْبَغِي مِنَ الْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ فِي الْأَعْمَالِ هُوَ مَا يَرْجِعُ إِلَى مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ، وَالْمِيزَانُ هُوَ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ العدل عن الظلم والزائد عن الناقض، وأما الجديد فَفِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَهُوَ زَاجِرٌ لِلْخَلْقِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكِتَابَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَالْمِيزَانَ إِلَى الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَالْحَدِيدَ إلى دفع مالا يَنْبَغِي، وَلَمَّا كَانَ أَشْرَفُ الْأَقْسَامِ رِعَايَةَ الْمَصَالِحِ الرُّوحَانِيَّةِ، ثُمَّ رِعَايَةَ الْمَصَالِحِ الْجُسْمَانِيَّةِ، ثُمَّ الزَّجْرَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، رُوعِيَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: الْمُعَامَلَةُ إِمَّا مَعَ الْخَالِقِ وَطَرِيقُهَا الْكِتَابُ أَوْ مَعَ الْخَلْقِ وَهُمْ: إِمَّا الْأَحْبَابُ وَالْمُعَامَلَةُ مَعَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَهِيَ بِالْمِيزَانِ، أَوْ مَعَ الْأَعْدَاءِ وَالْمُعَامَلَةُ مَعَهُمْ بِالسَّيْفِ وَالْحَدِيدِ وَثَالِثُهَا: الْأَقْوَامُ ثَلَاثَةٌ: إِمَّا السَّابِقُونَ وَهُمْ يُعَامِلُونَ الْخَلْقَ بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ، فَيُنْصِفُونَ وَلَا يَنْتَصِفُونَ، وَيَحْتَرِزُونَ عَنْ مَوَاقِعِ الشُّبُهَاتِ، وَإِمَّا مُقْتَصِدُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يُنْصِفُونَ وَيَنْتَصِفُونَ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْمِيزَانِ، وَإِمَّا ظَالِمُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يَنْتَصِفُونَ وَلَا يُنْصِفُونَ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْحَدِيدِ وَالزَّجْرِ وَرَابِعُهَا: الْإِنْسَانُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَقَامِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ مَقَامُ النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ وَمَقَامُ الْمُقَرَّبِينَ، فَهَهُنَا لَا يَسْكُنُ إِلَّا إِلَى اللَّه، وَلَا يَعْمَلُ إِلَّا بِكِتَابِ اللَّه، كَمَا قَالَ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: ٢٨] وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَقَامِ الطَّرِيقَةِ وَهُوَ مَقَامُ النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، وَمَقَامُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمِيزَانِ فِي مَعْرِفَةِ الْأَخْلَاقِ حَتَّى يَحْتَرِزَ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَيَبْقَى عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَقَامِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ مَقَامُ النفس الأمارة، وهاهنا لا بد له من هاهنا لا بد له من حديد المجاهدة والرياضيات الشَّاقَّةِ وَخَامِسُهَا: الْإِنْسَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْمُكَاشَفَةِ وَالْوُصُولِ فَلَا أُنْسَ لَهُ إِلَّا بِالْكِتَابِ، أَوْ صَاحِبَ الطَّلَبِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مِيزَانِ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ أَوْ صَاحِبَ الْعِنَادِ وَاللِّجَاجِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ بِالْحَدِيدِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ الدِّينَ هُوَ إِمَّا الْأُصُولُ وَإِمَّا الْفُرُوعُ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: إِمَّا الْمَعَارِفُ وَإِمَّا الْأَعْمَالُ، فَالْأُصُولُ مِنَ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْفُرُوعُ: فَالْمَقْصُودُ الْأَفْعَالُ الَّتِي فِيهَا عَدْلُهُمْ وَمَصْلَحَتُهُمْ وَذَلِكَ بِالْمِيزَانِ فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى رِعَايَةِ الْعَدْلِ، وَالْحَدِيدُ لِتَأْدِيبِ مَنْ تَرَكَ ذَيْنِكَ الطَّرِيقَيْنِ وَسَابِعُهَا:
الْكِتَابُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَ اللَّه فِي كِتَابِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَالْمِيزَانُ إِشَارَةٌ إِلَى حَمْلِ النَّاسِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَهُوَ شَأْنُ الْمُلُوكِ، وَالْحَدِيدُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَوْ تَمَرَّدُوا لَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلُوا عَلَيْهِمَا بِالسَّيْفِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ الْعُلَمَاءِ وَهُمْ أَرْبَابُ الْكِتَابِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَرْتَبَةِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ هُمْ أَرْبَابُ السَّيْفِ، وَوُجُوهُ الْمُنَاسَبَاتِ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَنْبِيهٌ عَلَى الْبَاقِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي: إِنْزَالِ الْمِيزَانِ وَإِنْزَالِ الْحَدِيدِ، قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَهُمَا مِنَ السَّمَاءِ،
رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ بالميزان فدفعه إلى نوح، وقال: مرقومك يَزِنُوا بِهِ،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
470
نَزَلَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنَ الْحَدِيدِ السَّنَدَانُ وَالْكَلْبَتَانُ/ وَالْمِقْمَعَةُ وَالْمِطْرَقَةُ وَالْإِبْرَةُ، والمعمقة مَا يُحَدَّدُ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا
رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ أَرْبَعَ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ: أَنْزَلَ الْحَدِيدَ وَالنَّارَ وَالْمَاءَ وَالْمِلْحَ».
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْإِنْزَالِ الْإِنْشَاءُ وَالتَّهْيِئَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزُّمَرِ: ٦] قَالَ قطرب: أَنْزَلْناها [النور: ١] أَيْ هَيَّأْنَاهَا مِنَ النُّزُلِ، يُقَالُ: أُنْزِلَ الْأَمِيرُ عَلَى فُلَانٍ نُزُلًا حَسَنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا، وَأَكَلْتُ خُبْزًا وَلَبَنًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذُكِرَ فِي مَنَافِعِ الْمِيزَانِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَالْقِسْطُ وَالْإِقْسَاطُ هُوَ الْإِنْصَافُ وَهُوَ أَنْ تُعْطِيَ قِسْطَ غَيْرِكَ كَمَا تَأْخُذُ قِسْطَ نَفْسِكَ، وَالْعَادِلُ مُقْسِطٌ قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: ٩] والقاسط الجائر قال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن: ١٥] وَأَمَّا الْحَدِيدُ فَفِيهِ الْبَأْسُ الشَّدِيدُ فَإِنَّ آلَاتِ الْحُرُوبِ مُتَّخَذَةٌ مِنْهُ، وَفِيهِ أَيْضًا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨٠] وَمِنْهَا أَنَّ مَصَالِحَ الْعَالَمِ، إِمَّا أُصُولٌ، وَإِمَّا فُرُوعٌ، أَمَّا الْأُصُولُ فَأَرْبَعَةٌ: الزِّرَاعَةُ وَالْحِيَاكَةُ وَبِنَاءُ الْبُيُوتِ وَالسَّلْطَنَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُضْطَرٌّ إِلَى طَعَامٍ يَأْكُلُهُ وَثَوْبٍ يَلْبَسُهُ وَبِنَاءٍ يَجْلِسُ فِيهِ، وَالْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ فَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُ إِلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ جَمْعٍ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ يَشْتَغِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمُهِمٍّ خَاصٍّ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ مِنَ الْكُلِّ مَصَالِحُ الْكُلِّ، وَذَلِكَ الِانْتِظَامُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُفْضِيَ إِلَى الْمُزَاحَمَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ شَخْصٍ يَدْفَعُ ضَرَرَ الْبَعْضِ عَنِ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ هُوَ السُّلْطَانُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا تَنْتَظِمُ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ إِلَّا بِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْأَرْبَعَةِ، أَمَّا الزِّرَاعَةُ فَمُحْتَاجَةٌ إِلَى الْحَدِيدِ، وَذَلِكَ فِي كُرَبِ الْأَرَاضِي وَحَفْرِهَا، ثُمَّ عِنْدَ تَكَوُّنِ هَذِهِ الْحُبُوبِ وَتَوَلُّدِهَا لَا بُدَّ مِنْ خَبْزِهَا وَتَنْقِيَتِهَا، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، ثُمَّ الْحُبُوبُ لَا بُدَّ مِنْ طَحْنِهَا وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ خَبْزِهَا وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِالنَّارِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْمِقْدَحَةِ الْحَدِيدِيَّةِ، وَأَمَّا الْفَوَاكِهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْظِيفِهَا عَنْ قُشُورِهَا، وَقَطْعِهَا عَلَى الْوُجُوهِ الْمُوَافِقَةِ لِلْأَكْلِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، وَأَمَّا الْحِيَاكَةُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي آلَاتِ الْحِيَاكَةِ إِلَى الْحَدِيدِ ثُمَّ يَحْتَاجُ فِي قَطْعِ الثِّيَابِ وَخِيَاطَتِهَا إِلَى الْحَدِيدِ، وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَمَعْلُومٌ أَنَّ كَمَالَ الْحَالِ فِيهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، وَأَمَّا أَسْبَابُ السَّلْطَنَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَتِمُّ وَلَا تَكْمُلُ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ أَكْثَرَ مَصَالِحِ الْعَالَمِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، وَيَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ الذَّهَبَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْحَدِيدِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَصَالِحِ فَلَوْ لَمْ يُوجَدِ الذَّهَبُ فِي الدُّنْيَا مَا كَانَ يَخْتَلُّ شَيْءٌ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَلَوْ لَمْ يُوجَدِ الْحَدِيدُ لَاخْتَلَّ جَمِيعُ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيدَ لَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ شَدِيدَةً، جَعَلَهُ سَهْلَ الْوِجْدَانِ، كَثِيرَ الْوُجُودِ، وَالذَّهَبُ لَمَّا قَلَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ جَعَلَهُ عَزِيزَ الْوُجُودِ، وعند هذا يظهر أثر وجود اللَّه تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ عَلَى عَبِيدِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا كَانَتْ حَاجَتُهُمْ إِلَيْهِ أَكْثَرَ، جَعَلَ وِجْدَانَهُ أَسْهَلَ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ إِنَّ أَعْظَمَ الْأُمُورِ حَاجَةً إِلَيْهِ هُوَ الْهَوَاءُ، فَإِنَّهُ لَوِ انْقَطَعَ وُصُولُهُ إِلَى الْقَلْبِ لَحْظَةً لَمَاتَ الْإِنْسَانُ فِي الْحَالِ، فَلَا جَرَمَ جَعَلَهُ اللَّه أَسْهَلَ الْأَشْيَاءِ وِجْدَانًا، وَهَيَّأَ أَسْبَابَ التَّنَفُّسِ وَآلَاتِهِ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَنَفَّسُ دَائِمًا بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ مِنْ غَيْرِ/ حَاجَةٍ فِيهِ إِلَى تَكَلُّفِ عَمَلٍ، وَبَعْدَ الْهَوَاءِ الْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ أَقَلَّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْهَوَاءِ جَعَلَ تَحْصِيلَ الْمَاءِ أَشَقَّ قَلِيلًا مِنْ تَحْصِيلِ الْهَوَاءِ، وَبَعْدَ الْمَاءِ الطَّعَامُ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الطَّعَامِ أَقَلَّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَاءِ، جَعَلَ تَحْصِيلَ الطَّعَامِ أَشَقَّ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَاءِ، ثُمَّ تَتَفَاوَتُ الْأَطْعِمَةُ فِي دَرَجَاتِ الْحَاجَةِ وَالْعِزَّةِ فَكُلُّ مَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَشَدَّ، كَانَ وِجْدَانُهُ أَسْهَلَ، وَكُلُّ مَا كَانَ
471
وِجْدَانُهُ أَعْسَرَ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَقَلَّ، وَالْجَوَاهِرُ لَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا قَلِيلَةً جِدًّا، لَا جَرَمَ كَانَتْ عَزِيزَةً جِدًّا، فَعَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ كَانَ وِجْدَانُهُ أَسْهَلَ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَشَدَّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ فَنَرْجُو مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَجْعَلَهَا أَسْهَلَ الْأَشْيَاءِ وِجْدَانًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
سُبْحَانَ مَنْ خَصَّ الْعَزِيزَ بِعِزِّهِ وَالنَّاسُ مُسْتَغْنُونَ عَنْ أَجْنَاسِهِ
وَأَذَلَّ أَنْفَاسَ الْهَوَاءِ وَكُلُّ ذِي نَفْسٍ فَمُحْتَاجٌ إِلَى أَنْفَاسِهِ
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى وَلِيَعْلَمَ اللَّه مَنْ يَنْصُرُهُ، أَيْ يَنْصُرُ دِينَهُ، وَيَنْصُرُ رُسُلَهُ بِاسْتِعْمَالِ السُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَسَائِرِ السِّلَاحِ فِي مُجَاهَدَةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ بِالْغَيْبِ أَيْ غَائِبًا عَنْهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْصُرُونَهُ وَلَا يُبْصِرُونَهُ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّدٍ: ٧].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِحُدُوثِ عِلْمِ اللَّه بِقَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِتَقَعَ نُصْرَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّنْ يَنْصُرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْمِيزَانَ وَالْحَدِيدَ، وَمُرَادُهُ مِنَ الْعِبَادِ أَنْ يَقُومُوا بِالْقِسْطِ وَأَنْ يَنْصُرُوا الرَّسُولَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُرَادُهُ مِنَ الْكُلِّ فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُ الْمُجْبِرَةِ أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ بَعْضِهِمْ خِلَافَ ذَلِكَ جَوَابُهُ: أَنَّهُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ مِنَ الْكُلِّ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ ضِدَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ مُحَالٌ، وَأَنَّ الْمُحَالَ غَيْرُ مُرَادٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا كَانَتِ النُّصْرَةُ قَدْ تَكُونُ ظَاهِرَةً، كَمَا يَقَعُ مِنْ مُنَافِقٍ أَوْ مِمَّنْ مُرَادُهُ الْمَنَافِعُ فِي الدُّنْيَا، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي أَرَادَهُ النُّصْرَةُ بِالْغَيْبِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ تَقَعَ عَنْ إِخْلَاصٍ بِالْقَلْبِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ قَوِيٌّ عَلَى الْأُمُورِ عَزِيزٌ لَا يمانع.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، وَأَنَّهُ أَنْزَلَ الْمِيزَانَ وَالْحَدِيدَ، وَأَمَرَ الْخَلْقَ بِأَنْ/ يَقُومُوا بِنُصْرَتِهِمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَّفَ نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ، ثُمَّ جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمَا جَاءَ بَعْدَهُمَا أَحَدٌ بِالنُّبُوَّةِ إِلَّا وَكَانَ مِنْ أَوْلَادِهِمَا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ النُّبُوَّةَ عَلَى الْكِتَابِ، لِأَنَّ كَمَالَ حَالِ النَّبِيِّ أَنْ يَصِيرَ صَاحِبَ الْكِتَابِ وَالشَّرْعِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ أَيْ فَمِنَ الذُّرِّيَّةِ أَوْ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ الْإِرْسَالِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَمِنْهُمْ فَاسِقٌ، وَالْغَلَبَةُ لِلْفُسَّاقِ، وفي الفاسق هاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الَّذِي ارْتَكَبَ الْكَبِيرَةَ سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْكَافِرِ وَعَلَى مَنْ لَا يَكُونُ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَ
مرتكبا للكبيرة، والثاني: أن المراد بالفاسق هاهنا الْكَافِرُ، لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْفُسَّاقَ بِالضِّدِّ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ قَبِلَ الدِّينَ وَاهْتَدَى، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَهْتَدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كَافِرًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي عَصَى قَدْ يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى وَجْهِ رُشْدِهِ وَدِينِهِ.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٧]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ.
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى قَفَّاهُ أَتْبَعَهُ بَعْدَ أَنْ مَضَى، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ بَعْضَهُمْ بَعْدَ بَعْضٍ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى أَيَّامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَرْسَلَهُ اللَّه تَعَالَى بَعْدَهُمْ وَآتَاهُ الْإِنْجِيلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ جِنِّي قَرَأَ الْحَسَنُ: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مِثَالٌ لَا نَظِيرَ لَهُ، لِأَنَّ أَفْعِيلَ وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ نَجَلْتُ الشَّيْءَ إِذَا اسْتَخْرَجْتَهُ، لِأَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَالتَّوْرَاةُ فَوْعَلَةٌ مِنْ وَرَى الزَّنْدُ يَرَى إِذَا أَخْرَجَ النَّارَ، وَمِثْلُهُ الْفُرْقَانُ وَهُوَ فُعْلَانٌ مِنْ فَرَّقْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ فَتْحُ الْهَمْزَةِ لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ، وَغَالِبُ الظَّنِّ أَنَّهُ مَا قَرَأَهُ إِلَّا عَنْ سَمَاعٍ وَلَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَاذٌّ كَمَا حَكَى بَعْضُهُمْ فِي الْبَرْطِيلِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ ظَنَّ الْإِنْجِيلَ أَعْجَمِيًّا فَحَرَّفَ مِثَالَهُ تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقٌ للَّه تَعَالَى وَكَسْبٌ لِلْعَبْدِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَجْعُولَةٌ للَّه تَعَالَى، وَحَكَمَ بِأَنَّهُمُ ابْتَدَعُوا تِلْكَ الرَّهْبَانِيَّةَ، قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَطَفَ بِهِمْ حَتَّى قَوِيَتْ دَوَاعِيهِمْ إِلَى الرَّهْبَانِيَّةِ، الَّتِي هِيَ تَحَمُّلُ الْكُلْفَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا يَجِبُ مِنَ الْخَلْوَةِ وَاللِّبَاسِ الْخَشِنِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، عَلَى أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَهُوَ يُحَصِّلُ مَقْصُودَنَا أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَالَ الِاسْتِوَاءِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الرُّجْحَانِ وَإِلَّا فَقَدَ حَصَلَ الرُّجْحَانُ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاقِضٌ، وَإِذَا كَانَ الْحُصُولُ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ مُمْتَنِعًا، كَانَ عِنْدَ الْمَرْجُوحِيَّةِ أَوْلَى أَنْ يَصِيرَ مُمْتَنِعًا، وَإِذَا امْتَنَعَ الْمَرْجُوحُ وَجَبَ الرَّاجِحُ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النَّقِيضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَوَادِّينَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، كَمَا وَصَفَ اللَّه أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْحِ: ٢٩].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: قُرِئَ (رَآفَةً) عَلَى فَعَالَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الرَّهْبَانِيَّةُ مَعْنَاهَا الْفِعْلَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى الرُّهْبَانِ وَهُوَ الْخَائِفُ فَعْلَانٌ مِنْ رَهَبَ، كَخَشْيَانَ مِنْ خَشِيَ، وَقُرِئَ: (وَرُهْبَانِيَّةً) بِالضَّمِّ كَأَنَّهَا نِسْبَةٌ إِلَى الرُّهْبَانِ، وَهُوَ جَمْعُ رَاهِبٍ كَرَاكِبٍ وَرُكْبَانٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ تَرْهُّبُهُمْ فِي الْجِبَالِ فَارِّينَ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، مُخْلِصِينَ أَنْفُسَهُمْ لِلْعِبَادَةِ وَمُتَحَمِّلِينَ كُلَفًا زَائِدَةً عَلَى
473
الْعِبَادَاتِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَلْوَةِ وَاللِّبَاسِ الْخَشِنِ، وَالِاعْتِزَالِ عَنِ النِّسَاءِ وَالتَّعَبُّدِ فِي الْغِيرَانِ وَالْكُهُوفِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ فِي أَيَّامِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ غَيَّرَ الْمُلُوكُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، فَسَاحَ قَوْمٌ فِي الْأَرْضِ وَلَبِسُوا الصُّوفَ،
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: «يَا ابْنَ مَسْعُودٍ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقُوا سَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فِرْقَةٌ آمَنَتْ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَاتَلُوا أَعْدَاءَ اللَّه فِي نُصْرَتِهِ حَتَّى قُتِلُوا، وَفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَاقَةٌ بِالْقِتَالِ، فَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَاقَةٌ بِالْأَمْرَيْنِ، فلبس الْعَبَاءَ، وَخَرَجُوا إِلَى الْقِفَارِ وَالْفَيَافِي وَهُوَ قَوْلُهُ: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً إِلَى آخِرِ الْآيَةِ».
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَمْ يَعْنِ اللَّه تَعَالَى بِابْتَدَعُوهَا طَرِيقَةَ الذَّمِّ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَحْدَثُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَنَذَرُوهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: رَهْبانِيَّةً مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ، تَقْدِيرُهُ: ابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرَّهْبَانِيَّةُ لَا يَسْتَقِيمُ حَمْلُهَا عَلَى جَعَلْنا، لِأَنَّ مَا يَبْتَدِعُونَهُ هُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْعُولًا للَّه تَعَالَى، وَأَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ ثَبَتَ امْتِنَاعُ مَقْدُورٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ، وَمِنْ أَيْنَ يَلِيقُ بِأَبِي عَلِيٍّ أَنْ يَخُوضَ فِي أمثال هذه الأشياء.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أَيْ لَمْ نَفْرِضْهَا نَحْنُ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. أَيْ وَلَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّه الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّا مَا تَعَبَّدْنَاهُمْ بِهَا إِلَّا عَلَى وَجْهِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبِ، دَفْعُ الْعِقَابِ وَتَحْصِيلُ رِضَا اللَّه، أَمَّا الْمَنْدُوبُ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ فِعْلِهِ دَفْعُ الْعِقَابِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَيْسَ إِلَّا تَحْصِيلَ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ فَفِيهِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةَ مَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، بَلْ ضَمُّوا إِلَيْهَا التَّثْلِيثَ وَالِاتِّحَادَ، وَأَقَامَ أُنَاسٌ مِنْهُمْ عَلَى دِينِ عِيسَى حَتَّى أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَآمَنُوا بِهِ فَهُوَ قَوْلُهُ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ، وَثَانِيهَا: أَنَّا مَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ تِلْكَ الرَّهْبَانِيَّةَ إِلَّا لِيَتَوَسَّلُوا بِهَا إِلَى مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَتَوْا بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ لَكِنْ لَا لِهَذَا الْوَجْهِ، بَلْ لِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ طَلَبُ الدُّنْيَا وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّا لَمَّا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ تَرَكُوهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ ذَمًّا لَهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ تَرَكُوا الْوَاجِبَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا هُمُ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَقَوْلُهُ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ يَعْنِي الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي وَاتَّبَعَنِي فَقَدْ رَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي فَأُولَئِكَ هُمُ الْهَالِكُونَ»
وَخَامِسُهَا: أَنَّ الصَّالِحِينَ مِنْ قَوْمِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ وَانْقَرَضُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ اقْتَدَوْا بِهِمْ فِي اللِّسَانِ، وَمَا كَانُوا مُقْتَدِينَ بِهِمْ فِي الْعَمَلِ، فَهُمُ الَّذِينَ مَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، قَالَ عَطَاءٌ: لَمْ يَرْعَوْهَا كَمَا رَعَاهَا الْحَوَارِيُّونَ، ثُمَّ قَالَ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَامَ بِرِعَايَتِهَا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أَظْهَرَ الْفِسْقَ وَتَرَكَ تِلْكَ الطريقة ظاهرا وباطنا.
474

[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٨]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَيْ مِنْ قوم عيسى: أَجْرَهُمْ [الحديد:
٢٧] قال في هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَالْمُرَادُ بِهِ أُولَئِكَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّقُوا اللَّه وَيُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ قَالَ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ أَيْ نَصِيبَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ لِإِيمَانِكُمْ أَوَّلًا بِعِيسَى، وَثَانِيًا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ [الْقَصَصِ: ٥٤] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ جَاءُوا مِنَ الْيَمَنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الرَّسُولِ وَأَسْلَمُوا فَجَعَلَ اللَّه لهم أجرين، وهاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْكِفْلُ فِي اللُّغَةِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الْمُؤَرِّجُ: الْكِفْلُ النَّصِيبُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ وَقَالَ غَيْرُهُ بَلْ هَذِهِ لُغَةُ الْحَبَشَةِ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ مَسْلَمَةَ: الْكِفْلُ كِسَاءٌ يُدِيرُهُ الرَّاكِبُ حول السنام حتى يتمكن من العقود عَلَى الْبَعِيرِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا آتَاهُمْ كِفْلَيْنِ وَأَعْطَى الْمُؤْمِنِينَ كِفْلًا وَاحِدًا كَانَ حَالُهُمْ أَعْظَمَ وَالْجَوَابُ:
رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا بِهَذَا السَّبَبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ النَّصِيبُ الْوَاحِدُ أَزْيَدَ قَدْرًا مِنَ النَّصِيبَيْنِ، فَإِنَّ الْمَالَ إِذَا قُسِّمَ بِنِصْفَيْنِ كَانَ الْكِفْلُ الْوَاحِدُ نِصْفًا، وَإِذَا قسم بمائة قسم كان الكفل الواحد جزء مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ، فَالنَّصِيبُ الْوَاحِدُ مِنَ الْقِسْمَةِ الْأُولَى أَزْيَدُ مِنْ عِشْرِينَ نَصِيبًا مِنَ الْقِسْمَةِ الثانية، فكذا هاهنا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَهُوَ النُّورُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ يَسْعى نُورُهُمْ [الْحَدِيدِ: ١٢] وَيَغْفِرْ لَكُمْ مَا أَسْلَفْتُمْ مِنَ الْمَعَاصِي وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٩]
لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ هذه الآية مُشْكِلَةٌ وَلَيْسَ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا كَلَامٌ وَاضِحٌ فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا.
وَاعْلَمْ أن أكثر المفسرين على أن (لا) هاهنا صِلَةٌ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ وَجَمْعٌ آخَرُونَ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ ليس بِزَائِدَةٍ، وَنَحْنُ نُفَسِّرُ الْآيَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ بِعَوْنِ اللَّه تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ.
أَمَّا الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ زَائِدَةٌ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بد هاهنا مِنْ تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَقُولُونَ: الْوَحْيُ وَالرِّسَالَةُ فِينَا، وَالْكِتَابُ وَالشَّرْعُ لَيْسَ إِلَّا لَنَا، واللَّه تَعَالَى خَصَّنَا بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام وعدهم/ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ أَتْبَعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا أَنْ يُزِيلَ عَنْ قَلْبِهِمُ اعْتِقَادَهُمْ بِأَنَّ النُّبُوَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ وَغَيْرُ حَاصِلَةٍ إِلَّا فِي قَوْمِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّمَا بَالَغْنَا فِي هَذَا الْبَيَانِ، وَأَطْنَبْنَا فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَخْصِيصِ فَضْلِ اللَّه بِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ حَصْرُ الرسالة
475
وَالنُّبُوَّةِ فِي قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَصْلًا أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ (لَا) غَيْرُ زَائِدَةٍ، فَاعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا يَقْدِرُونَ عَائِدٌ إِلَى الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّه، وَأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أَيْ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّه، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: إِنَّا فَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا لِئَلَّا يَعْتَقِدَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى حَصْرِ فَضْلِ اللَّه وَإِحْسَانِهِ فِي أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ، وَلِيَعْتَقِدُوا أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّه، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّا أَضْمَرْنَا فِيهِ زِيَادَةً، فَقُلْنَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ تَقْدِيرُ وَلِيَعْتَقِدُوا أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ وَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَقَدِ افْتَقَرْنَا فِيهِ إِلَى حَذْفِ شَيْءٍ مُوجَدٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِضْمَارَ أَوْلَى مِنَ الْحَذْفِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا افْتَقَرَ إِلَى الْإِضْمَارِ لَمْ يُوهِمْ ظَاهِرُهُ بَاطِلًا أَصْلًا، أَمَّا إِذَا افْتَقَرَ إِلَى الْحَذْفِ كَانَ ظَاهِرُهُ مُوهِمًا لِلْبَاطِلِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ قُرِئَ: (لِكَيْ يَعْلَمَ)، وَ (لِكَيْلَا يَعْلَمَ)، وَ (لِيَعْلَمَ)، وَ (لِأَنْ يَعْلَمَ)، بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي الْيَاءِ، وَحَكَى ابْنُ جِنِّي فِي «الْمُحْتَسَبِ» عَنْ قُطْرُبٍ: أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: (لِيلَا)، بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَحَكَى ابْنُ مُجَاهِدٍ عَنْهُ لَيْلَا بِفَتْحِ اللَّامِ وَجَزْمِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَمَا ذَكَرَ قُطْرُبٌ أَقْرَبُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ إِذَا حُذِفَتْ بَقِيَ لنلا فيجب إدغام النون فِي اللَّامِ فَيَصِيرُ لِلَّا فَتَجْتَمِعُ اللَّامَاتُ فَتَجْعَلُ الْوُسْطَى لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا يَاءً فَيَصِيرُ لِيلَا، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ، فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ لَامَ الْجَرِّ إِذَا أَضَفْتَهُ إِلَى الْمُضْمَرِ فَتَحْتَهُ تَقُولُ لَهُ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَاسَ الْمُظْهَرَ عَلَيْهِ، حَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٦].
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أَيْ فِي مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَالْيَدُ مِثْلُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ مُخْتَارٌ يَفْعَلُ بِحَسَبِ الِاخْتِيَارِ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَالْعَظِيمُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِحْسَانُهُ عَظِيمًا، وَالْمُرَادُ تَعْظِيمُ حَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُبُوَّتِهِ وَشَرْعِهِ وَكِتَابِهِ، واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.
476
Icon