تفسير سورة الطلاق

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة الطلاق وهي مكية حروفها ألف وسبعون كلمها مائة وسبع وأربعون آياتها اثنتا عشرة آية ).

(سورة الطلاق)
(وهي مكية حروفها ألف وسبعون كلمها مائة وسبع وأربعون آياتها اثنتا عشرة آية)
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ١ الى ١٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤)
ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)
القراآت
بالغ أمره بالإضافة: حفص. الآخرون: بالتنوين والنصب وجدكم
311
بكسر الواو: روح. ندخله بالنون: أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل.
الوقوف
الْعِدَّةَ ج تعظيما لأمر الاتقاء رَبَّكُمْ ط لاتصال المعنى مع عدم العاطف مُبَيِّنَةٍ ج وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ط نَفْسَهُ ط أَمْراً هـ لِلَّهِ ط الْآخِرِ ط مَخْرَجاً لا لا يَحْتَسِبُ ط حَسْبُهُ ط أَمْرِهِ ط قَدْراً هـ أَشْهُرٍ لا للعطف أي واللائي لم يحضن كذلك لَمْ يَحِضْنَ ط حَمْلَهُنَّ ط يُسْراً هـ ط إِلَيْكُمْ ط أَجْراً هـ عَلَيْهِنَّ ط حَمْلَهُنَّ ط أُجُورَهُنَّ ك بِمَعْرُوفٍ ك أُخْرى هـ ط مِنْ سَعَتِهِ ط آتاهُ اللَّهُ ط يُسْراً هـ نُكْراً هـ خُسْراً هـ الْأَلْبابِ هـ ز والوصل هاهنا والوقف على آمَنُوا أجوز من العكس ذِكْراً هـ لأن ما بعده بدل أو غيره كما يجيء إِلَى النُّورِ ط أَبَداً ط رِزْقاً هـ مِثْلَهُنَّ ط عِلْماً هـ.
التفسير:
لما نبه في آخر السورة المتقدمة على معاداة بعض الأزواج والمعاداة كثيرا ما تقضي إلى الفراق بالطلاق أرشد في هذه السورة إلى الطلاق السني الذي لا يحرم إيقاعه وإلى أحكام أخر معتبرة في فراق الزوجين. وقبل الخوض في تقرير أقسام الطلاق نقول: إنه يورد هاهنا سؤال وهو أنه كيف نادى نبيه ﷺ وحده ثم قال إِذا طَلَّقْتُمُ على الجمع؟
والجواب أنه كما يقال لرئيس القوم يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهارا لتقدمه وأن من سواه من قومه تبع له في الخطاب. وقيل: الجمع للتعظيم والمراد بالخطاب النبيّ أيضا. وقيل:
أراد يا أيها النبي والمؤمنون فحذف للدلالة. وقيل: يا أيها النبي قل للمؤمنين. ومعنى إِذا طَلَّقْتُمُ إذا أردتم تطليقهن كقوله فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: ٩٨] واللام في قوله لِعِدَّتِهِنَّ بمعنى الوقت أي للوقت الذي يمكنهنّ الشروع في العدّة وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه. وقال جار الله: فطلقوهن مستقبلات لعدّتهن كقولك «أتيته لليلة بقيت من شهر كذا» أي مستقبلا لها. قال الفقهاء: السنيّ طلاق المدخول بها التي ليست بحامل ولا صغيرة ولا آيسة في غير حالة البدعة، والبدعيّ طلاق المدخول بها في حيض أو نفاس أو طهر جامعها فيه ولم يظهر حملها. فلتحريم الطلاق سببان: أحدهما وقوعه في حال الحيض إذا كانت المرأة ممسوسة وكانت ممن تعتدّ بالإقراء لقوله تعالى فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ
وطلق ابن عمر امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي ﷺ عن ذلك فقال: مره ليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم يطلقها إن شاء. فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلق لها النساء.
والمعنى فيه أن بقية الحيضة لا تحسب من العدة فتطول عليها مدة التربص. وثانيهما إذا جامع امرأته في طهرها وهي ممن تحبل ولم يظهر حملها حرم عليه أن يطلقها في ذلك الطهر
كقوله ﷺ في قصة ابن عمر «ثم إن شاء طلقها قبل أن يمسها»
ولأنه ربما يندم على الطلاق لظهور الحمل.
312
هذا تقرير السنة والبدعة من جهة الوقت. أما السنة والبدعة من جهة العدد فقال مالك: لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموعة أو مفرقة على الأطهار. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يكره ما زاد على الواحدة في طهر واحد، فأما متفرقا في الأطهار فلا لما روي في قصة ابن عمر: إنما السنة أن يستقبل الطهر استقبالا، ويطلق لكل قرء تطليقة.
وقال الشافعي: لا بأس بإرسال الثلاث وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة. وقد يستدل بما
روي في حديث اللعان أن اللاعن قال: هي طالق ثلاثا. ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقالت الشيعة: إذا طلقها ثلاثا يقع واحدة. ومنهم من قال: لا يقع شيء وهو قول سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين. والأصح عند أكثر المجتهدين أن الطلاق البدعي واقع وإن كان صاحبه آثما وعاصيا وهذا مبنيّ على أن النهي لا يوجب فساد المنهي عنه.
وفي قصة ابن عمر أنه قال: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا؟ فقال له: إذن عصيت وبانت منك امرأتك.
قالت العلماء: المحرم هو الطلاق بغير عوض فأما إذا خلع الحائض أو طلقها على مال فلا لإطلاق قوله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة: ٢٢٩] ولأن المنع كان رعاية لجانبها وبذل المال دليل على شدة الحاجة إلى الخلاص بالمفارقة. قال جار الله:
اللام في قوله النِّساءَ للجنس وقد علم بقوله فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أنه مطلق على البعض وهنّ ذوات الأقراء المدخول بهن فلا عموم ولا خصوص. قلت: ما ضره لو جعله عاما لأنه إذا روعي الشرط المذكور في هذا البعض لزم أن يكون طلاق كل النساء من الصغيرة والآيسة والحامل وغير المدخول بها والمدخول بها والمدخول بها بحيث يمكنهن أن يشرعن الطلاق في العدة.
قوله وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي اضبطوها واحفظوا عدد أيامها ثلاثة أقراء كوامل لا أزيد ولا أنقص لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ يعني من مساكن الفراق وهي بيوت الأزواج أضيفت إليهن لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى إلى انقضاء العدة، وكما أن البعولة لا ينبغي أن يخرجوهنّ غضبا عليهنّ أو لحاجة لهم إلى المساكن كذلك لا ينبغي لهنّ أن يخرجن بأنفسهنّ. وقوله إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ استثناء من الجملة الأولى أي إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهنّ، أو إلا أن يطلقهن على النشوز فإن النشوز يسقط حقهنّ في السكنى، أو إلا أن يبذون فيحل إخراجهنّ لبذائهن ويؤيده قراءة أبيّ إلا أن يفحشن عليكم وقيل: خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه. والمعنى إن خرجت فقد أتت بفاحشة مبينة وعلى هذا يكون الاستثناء من الجملة الثانية. قوله لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أي أحصوا العدة وألزموهن مساكنكم فلعلكم تندمون بقلب الله البغضة محبة والمقت مقة والطلاق رجعة.
والخطاب في لا تَدْرِي للنبي ﷺ على نسق أول السورة أو لكل مكلف فَإِذا بَلَغْنَ
313
أَجَلَهُنَ
أي شارفن انقضاء عدتهن فأنتم بالخيار إن شئتم فالإمساك بالرجعة لا على وجه الضرار بل بالشرع والعرف، وإن شئتم فالفراق بالمعروف كما مر في «البقرة» وَأَشْهِدُوا على الرجعة أو الفرقة وذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أي من جنسكم من المسلمين قاله الحسن.
وعن قتادة: من أحراركم. وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة، وعند الشافعي واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة. وفائدة الإشهاد أن لا يقع التجاحد وأن لا يتهم في إمساكها أو يموت أحدهما فيدعي الآخر ثبوت الزوجية لأجل الميراث.
ثم حث الشهود على أن لا يشهدوا إلا لوجه الله من غير شائبة غرض أخروي أو عرض دنيوي ذلِكُمْ الحث على أداء الشهادة لله يُوعَظُ بِهِ مَنْ هو من أهل الإيمان بالله والمعاد لأن غيره لا ينتفع به، ويجوز أن تكون الإشارة بذلكم إلى ما مر من الإمساك أو الفراق بالمعروف لا على وجه الضرار فيكون موافقا لما مر في «البقرة» إلا أنه وحد كاف الخطاب هنالك لأنه أكد الكلام بزيادة منكم، وهاهنا جمع فلم يحتج إلى لفظ منكم والله تعالى أعلم بأسرار كلامه. ثم حض على التقوى في كل باب ولا سيما فيما سبق من أمر الطلاق وكأنه قال وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ومخلصا من غموم الدنيا والآخرة ومن جملة ذلك تأيم الأزواج وَيَرْزُقْهُ من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه بدل ما أدى وبذل من المهر والحقوق.
عن النبي ﷺ «إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم»
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فما زال يقرؤها ويعيدها.
وروي أن عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنا له يسمى سالما، فأتى رسول الله ﷺ فقال: أسر ابني وشكا إليه الفاقة. فقال: ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله. ففعل، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدوّ فاستاقها فنزلت هذه الآية.
قلت: قد جربت الآية في محن ومهالك فوجدت مفرجة منفسة. ومن أسرار القرآن ولطائفه أنه سبحانه حث على التقوى في هذه السورة ثلاث مرات: بقوله وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ وذلك على عدد الطلقات الثلاث، ووعد في كل مرة نوعا من الجزاء: الأول أنه يخرجه مما دخل فيه وهو كاره ويتيح له خيرا ممن طلقها. الثاني اليسر في الأمور والموالاة في المقاصد ما دام حيا. الثالث أفضل الجزاء وهو ما يكون في الآخرة من النعماء. ثم حث في التوكل بثلاث جمل متقاربة الخطى: الأولى وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ لأن المعبود الحقيقي القادر على كل شيء الغنيّ عن كل شيء الجواد بكل شيء إذا فوض عبده الضعيف أمره إليه لا يهمله البتة.
الثانية إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ أي يبلغ كل أمر يريده ولا يفوته المطلوب. الثالثة قَدْ جَعَلَ اللَّهُ
314
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
أي وقتا ومقدارا. وهاتان الجملتان كل منهما بيان لوجوب التوكل عليه لأنه إذا علم كونه قادرا على كل شيء وعلم أنه قد بيّن وعيّن لكل شيء حدا ومقدارا لم يبق إلا التسليم والتفويض. قال جار الله: قال المفسرون: إن ناسا قالوا: قد عرفنا عدة ذوات الأقراء فما عدة اللواتي لم يحضن فنزلت وَاللَّائِي يَئِسْنَ فمعنى إن ارتبتم إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهن. قلت: في صحة هذه الرواية نظر فإن السورة ليس فيها بيان عدة ذوات الأقراء وإحالتها على ما في «البقرة»، والمطلقات يتربصن لا يجوز لأن هذه مكية وتلك مدنية. نعم لو ثبت أن هذه متأخرة النزول كان له وجه كما روي عن عبد الله بن مسعود: من شاء باهلته إن سورة النساء القصرى نزلت بعد التي في البقرة.
والجمهور أن المراد أن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أو استحاضت فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب أولى. وسن اليأس مقدر بخمس وخمسين وبستين. والمشهور عند أكثر أصحاب الشافعي النطر إلى نساء عشيرتها من الأبوين، فإذا بلغت السن التي ينقطع فيها حيضهن فقد بلغت سن اليأس.
وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ هن الصغائر والتقدير فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر حذف لدلالة ما قبله عليه. قوله وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أي النساء الحوامل أَجَلُهُنَّ بعد الطلاق أو بعد وفاة الزوج أي انقضاء عدتهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ هذا قول أكثر الأئمة والصحابة وإنما تنقضي العدة بوضع الحمل بتمامه. فلو كانت حاملا بتوأمين لم تنقض العدة حتى ينفصل الثاني بتمامه، وإنما يكون الولدان توأمين إذا ولدا على التعاقب وبينهما دون ستة أشهر وإلا فالثاني حمل آخر.
وعن علي وابن عباس أن عدة الحامل المتوفي عنها زوجها أبعد الأجلين من بقية الحمل ومن أربعة أشهر وعشر،
ووضع الحمل لا يتفاوت بكونه حيا أو ميتا أو سقطا أو مضغة لا صورة فيها، وصدقت المرأة بيمينها لأنهنّ مؤتمنات على أرحامهنّ. وحين كرر شرط التقوى كان لسائل أن يسأل: كيف يعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي بعض مكان سكناكم الذي تطيقونه. والوجد الوسع والطاقة. قال قتادة: فإن لم يكن إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه. قال أبو حنيفة: السكنى والنفقة واجبتان لكل مطلقة. وعند الشافعي ومالك: ليس للمبتوتة إلا السكنى.
وعن الحسن وحماد: لا نفقة لها ولا سكنى لما في حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا سكنى لك ولا نفقة.
وضعف بقول عمر: لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا لقول امرأة نسيت أو شبه لها
سمعت النبي ﷺ يقول لها السكنى والنفقة
وَلا تُضآرُّوهُنَّ بإنزال مسكن لا يوافقهن أو بغير ذلك من أنواع المضار حتى تضطروهن إلى الخروج وقيل: هو أن يراجعها كلما قرب انقضاء عدتها ليضيق عليها أمرها وقد يلجئها إلى
315
أن تفتدي منه. قوله وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ تخصيص للحامل بالنفقة لأجل الحمل وإن كانت بائنة. هذا عند الشافعي، وأما عند أبي حنيفة ففائدته أن مدة الحمل ربما تطول فيظن ظان أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحامل فنفى ذلك الوهم، وأما الحامل المتوفى عنها فالأكثرون على أنه لا نفقة لها لوقوع الإجماع على من أجبر الرجل على إنفاقه من امرأة أو ولد صغير لا يجب أن ينفق عليه من ماله بعد موته فكذلك الحامل.
وعن علي وعبد الله وجماعة ومنهم الشافعي أنهم أوجبوا نفقتها.
ثم بين أمر الطفل قائلا فَإِنْ أَرْضَعْنَ أي هؤلاء المطلقات لَكُمْ أي لأجلكم ولدا منهن أو من غيرهن بعد انفصام عرى الزوجية. وهذه الإجارة لا تجوز عند أبي حنيفة وأصحابه إذا كان الولد منهن ما لم تحصل البينونة. وجوز الشافعي مطلقا كلما صار. ثم خاطب الآباء والأمهات جميعا بقوله وَأْتَمِرُوا قال أهل اللغة: الائتمار بمعنى التآمر كالاشتوار بمعنى التشاور أي ليأمر بعضكم بعضا بالجميل وهو المسامحة وأن لا يماكس الأب ولا تعاسر الأم لأنه ولدهما معا وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أي أظهرتم من أنفسكم العسر والشدة في أمر مؤنة الإرضاع فَسَتُرْضِعُ أي الطفل لَهُ أي للأب مرضعة أُخْرى وفيه طرف من معاتبة الأم على التعاسر كما تقول لمن تطلب منه حاجة وهو يتأنى في قضائها: سيقضيها قاض. يريد لا تبقى غير مقضية وأنت ملوم. ثم بين أن ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات هو بمقدار الوسع والطاقة كما في «البقرة» على الموسر قدره وعلى المقتر قدره إلى أن يفتح الله أبواب الرزق عليهم. ثم هدد من خالف الأحكام المذكورة بأحوال الأمم السابقة. والحساب الشديد أي بالاستقصاء والمناقشة، والعذاب النكر أي المنكر الفظيع.
يحتمل أن يراد بهما حساب الدنيا وعذابها وهو إحصاء صغائرهم وكبائرهم في ديوان الحفظة وما أصاب كل قوم من الصيحة ونحوها عاجلا، وأن يراد عذاب الآخرة وحسابها. ولفظ الماضي لتحقق الوقوع مثل وَسِيقَ [الزمر: ٧٢] وَنادى [الأعراف: ٣٨] وعلى هذا يكون قوله أَعَدَّ اللَّهُ تكريرا للوعيد وبيانا لكونه مترقبا كأنه قال: أعد الله لهم هذا العذاب فاحذروا مثله يا أُولِي الْأَلْبابِ وجوز جار الله أن يكون عَتَتْ وما عطف عليه صفة للقرية وأَعَدَّ اللَّهُ عاملا في كَأَيِّنْ. قوله رَسُولًا قال جار الله: هو جبرائيل أبدل من ذِكْراً لأنه وصف بتلاوة آيات الله وكان إنزاله في معنى إنزال الذكر فصح إبداله منه، أو أريد بالذكر الشرف كقوله وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: ٤٤] فأبدل منه كأنه في نفسه شرف إما لأنه شرف للمنزل عليه وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله، أو جعل لكثرة ذكره الله وعبادته كأنه ذكر، أو أريد ذا ذكر أي ملكا مذكورا في السموات وفي الأمم كلها،
316
أو دل قوله قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ على أرسل فكأنه قيل: أرسل رسولا أو أعمل ذِكْراً في رَسُولًا إعمال المصدر في المفاعيل أي أنزل الله أن ذكر رسولا أو ذكره رسولا. قلت:
لم يبعد على هذه الوجوه أن يكون المراد بالرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر غاية الإنزال أو التلاوة بقوله لِيُخْرِجَ والمعنى ليخرج الله أو الرسول الَّذِينَ عرف منهم أنهم سيؤمنون من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، أو ليوفقهم بعد الإيمان والعمل الصالح لمزيد البيان والعيان الذي ينجلي به ظلم الشكوك والحسبان. قوله قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً فيه معنى التعجب والتعظيم. ثم ختم السورة بالتوحيد الذي هو أجل المطالب وتفسيره ظاهر مما سلف مرارا إلا أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الأرض متعددة وأنها سبع كالسموات فذهب بعضهم إلى أن قوله مِثْلَهُنَّ أي في الخلق لا في العدد. وقيل: هن الأقاليم السبعة، والدعوة شاملة لجميعها. وقيل: إنها سبع أرضين متصل بعضها ببعض وقد حال بينهن بحار لا يمكن قطعها والدعوة لا تصل إليهم. وقيل: إنها سبع طبقات بعضها فوق بعض لا فرجة بينها وهذا يشبه قول الحكماء: منها طبقة هي أرض صرفة تجاور المركز، ومنها طبقة طينية تخالط سطح الماء من جانب التقعير، ومنها طبقة معدنية يتولد منها المعادن، ومنها طبقة تركبت بغيرها وقد انكشف بعضها، ومنها طبقة الأدخنة والأبخرة على اختلاف أحوالها أي طبقة الزمهرير، وقد تعدّ هذه الطبقة من الهواء. وقيل: إنها سبع أرضين بين كل واحدة منها إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام كما جاء في ذكر السماء وفي كل أرض منها خلق حتى قالوا: في كل منها آدم وحواء ونوح وإبراهيم وهم يشاهدون السماء من جانب أرضهم ويستمدون الضياء منها أو جعل لهم نورا يستضيئون به. وذكر النقاش في تفسيره فصلا في خلائق السموات والأرضين وأشكالهم وأسمائهم أضربنا عن إيرادها لعدم الوثوق بمثل تلك الروايات. ومعنى يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أن حكم الله وأمره يجري فيما بين السموات والأرضين أو فيما يتركب منهما ولا يعلم تلك الأجرام ولا تلك الأحكام ولا كيفية تنفيذها فيهن إلا علام الغيوب تعالى وتقدس.
317
Icon