ﰡ
وهي أربعون آية مكية
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥)
قوله تعالى: لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ أجمع أهل التفسير أن معناه أقسم، واختلفوا في تفسير لا. قال بعضهم: والكلام زيادة للزينة، ويجري في كلام العرب زيادة لا، كما في آية أخرى. قال: قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: ١٢] يعني: أن تسجد. وقال بعضهم: لا رد لكلامهم، حيث أنكروا البعث. فقال: ليس الأمر كما ذكر. ثم قال: أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ويقال: معناه أقسم برب يوم القيامة إنها كائنة. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ يعني: أقسم بخالق النفس اللوامة، وهي نفس ابن آدم، يلوم نفسه. كما روي عن ابن عباس، وعن عمر- رضي الله عنهم-: ما من نفس برة وفاجرة، إلا تلوم نفسها، إن كانت محسنة تقول: يا ليتني زدت إحساناً، وإن كانت سيئة تقول: يا ليتني تركت. ولم يذكر جواب القسم، لأن في الكلام دليلاً عليه، وهو قوله بَلى قادِرِينَ ومعناه: ولا أقسم بالنفس اللوامة، لتبعثن بعد الموت.
ثم قال عز وجل: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ يعني: أيظن الكافر أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ يعني:
أن لن يبعث الله بعد الموت. نزلت في أبي بن خلف، ويقال: في عدي بن الربيعة، لإنكار البعث بعد الموت. يقول الله تعالى: بَلى قادِرِينَ يعني: أن الله تعالى قادر عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ يعني: يجعل أصابعه ملتزقة، وألحق الراحة بالأنامل. وهذا قول ابن عباس. وقال القتبي: فكأنه يقول: أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه في الآخرة، بلى قادرين على أن نسوي بنانه، يعني: أن نجمع ما صغر منه، ونؤلف بينه. أي: نعيد السلاميات على صغرها، ومن قدر على جمع هذا، فهو على جمع كبار العظام أقدر. وقال مجاهد: على أن نسوي خفه كخف البعير، لا يعمل به شيئاً. وقال سعيد بن جبير يعني: كنف البعير، أو كحافر الدابة والحمر، لأنه ليس من دابة، إلا وهي تأكل بفمها غير الإنسان.
سوف أتوب، ولا يترك الذنوب، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه. وقال عكرمة: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ يعني: يريد الذنوب في المستقبل. وقال القتبي: بل يريد الإنسان ليفجر أمامه، فقد كثرت فيه التفاسير. وقال سعيد بن جبير سوف أتوب، وقال الكلبي: يكثر الذنوب، ويؤخر التوبة. وقال آخرون: يتمنى الخطيئة، وفيه قول آخر على طريق الإنكار، بأن يكون الفجور بمعنى: التكذيب بيوم القيامة، ومن كذب بالحق، فقد فجر، وأصل الفجور: الميل. فقيل:
للكاذب والمكذب والفاسق فاجر، لأنه مال عن الحق.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٦ الى ٣٠]
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠)
كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)
لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠)
قوله تعالى: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ يعني: يسأل متى يوم القيامة، تكذيباً بالبعث.
فكأنه قال: بل يريد الإنسان أن يكذب بيوم القيامة، وهو أمامه، وهو يسأل متى يكون. فبين الله تعالى في أي يوم يكون فقال: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ يعني: شخص البصر، وتحير. قرأ نافع فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ بنصب الراء، والباقون بالكسر. فمن قرأ بالنصب، فهو من برق يبرق بريقاً، ومعناه: شخص فلا يطرق من شدة الفزع. ومن قرأ بالكسر، يعني: فزع وتحير. وأصله: أن الرجل إذا رأى البرق تحير، وإذا رأى من أعاجيب يوم القيامة، تحير ودهش.
وَخَسَفَ الْقَمَرُ يعني: ذهب ضوؤه وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يعني: كالثورين المقرنين. ويقال: برق البصر، وخسف القمر. قال كوكب العين ذهب ضوؤه. وروى علي بن أبي طالب، - رضي الله عنه- أنه قال: يجعلان في نور الحجاب. ويقال: جمع الشمس والقمر، يعني: سوى بينهما في ذهاب نورهما، وإنما قال: وجمع الشمس والقمر، ولم يقل وجمعت، لأن المؤنث والمذكر إذا اجتمعا، فالغلبة للمذكر. يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ
ثم قال: كَلَّا لاَ وَزَرَ يعني: حقاً لا جبل يلجئون إليه، فيمنعهم من النار، ولا شجر يواريهم. والوزر في كلام العرب، الجبل الذي يلتجئ إليه، والوزر والستر هنا، الشيء الذي يستترون به. وقال عكرمة: ولا وزر. يعني: منعه. وقال الضحاك: يعني: لا حصن لهم يوم القيامة. ثم قال عز وجل: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
يعني: المرجع يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
يعني: يسأل ويبين له، ويجازى بما قدم من الأعمال وأخر، من سنة صالحة أو سيئة.
قوله عز وجل: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
يعني: جوارح العبد شاهدة عليه.
ومعناه على الإنسان من نفسه شاهد، يشهد عليه كل عضو بما فعل. ويقال يعني: جوارح، العبد شاهدة عليه، ومعناه رقيب بعضها على بعض. والبصيرة أدخلت فيها الهاء للمبالغة، كما يقال: رجل علامة. وقال الحسن: على نفسه بصيرة، يعني: بعيوب غيره، الجاهل بعيوب نفسه وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
يعني: ولو تكلم بعذر لم يقبل منه. ويقال: ولو أرخى ستوره، يعني: أنه شاهد على نفسه، وإن أذنب في الستور.
قوله تعالى: لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
يعني: لا تعجل بقراءة القرآن، من قبل أن يفرغ جبريل- عليه السلام- من قراءته وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، - رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذا نزل عليه القرآن، تعجل به للحفظ فنزل: لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
لِتَعْجَلَ
بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
يعني: حفظه في قلبك وَقُرْآنَهُ
يعني: يقرأ عليك جبريل، حتى تحفظه فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
يعني: إذا قرأ عليك جبريل فاقرأ أنت بعد قراءته وفراغه وقال محمد بن كعب: فاتبع قراءته، يعني: فاتبع حلاله وحرامه. وقال الأخفش: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
يعني: تأليفه فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
يعني: تأليفه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ يعني: بيان أحكامه وحدوده. ويقال: علينا بيانه، يعني: شرحه. ويقال: بيان فرائضه، كما بين على لسان النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
ثم نزل بعد هذه الأحكام، قوله تعالى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ يعني: تحبون العمل للدنيا وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ يعني: تتركون العمل للآخرة. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو بل يحبون بالياء، على معنى الخبر عنهم. والباقون بالتاء، على معنى المخاطبة. ثم بين حال ذلك اليوم فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أي: حسنة مشرقة مضيئة، كما قال في آية أخرى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) [المطففين: ٢٤] إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ يعني: ناظرين يومئذ إلى الله تبارك وتعالى. وقال مجاهد: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ يعني: تنتظر الثواب من ربها. وهذا القول لا يصح، لأنه مقيد بالوجوه، موصول بإلى، ومثل هذا، لا يستعمل في الانتظار.
يعني: يقول من حضر عند الموت، هل من طبيب حاذق يداويه؟
ويقال: من راق، يعني: من يشفي من هذا الحال. ويقال: من راق، يعني: من يقدر أن يرقي من الموت. يعني: لا يقدر أحد أن يرقي من الموت. والعرب تقول: من الرقية، رقى يرقي رقيةً، ومن الرقيّ وهو الصعود، رقي يرقى رقياً، فهو راق منهما.
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ يعني: استيقن أنه ميت، وأنه يفارق الروح من الجسد. ويقال: وقيل من راق، أن الملائكة الذين حضروا لقبض روحه يقول: بعضهم لبعض، من راق يعني من يصعد منا بروحه إلى السماء، فأيقن عند ذلك أنه الفراق وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ قال ابن عباس: يعني: التفت شدتان أخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من الآخرة.
وروى وكيع، عن بشير بن المهاجر قال: سمعت الحسن يقول: والتفت الساق بالساق، قال:
هما ساقان إذا التفتا في الكفن، إلى ربك يومئذٍ المساق يعني: يساق العبد إلى ربه.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٣١ الى ٤٠]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)
ثم قال عز وجل: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وهو أبو جهل بن هشام، يعني: لم يصدق بتوحيد الله تعالى، وبمحمد صلّى الله عليه وسلم، ولم يصل لله تعالى. ويقال: وَلا صَلَّى يعني: ولا أسلم. فسمي المسلم مصلياً وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى يعني: كذب بالتوحيد، وتولى يعني:
أعرض عن الإيمان ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى قال القتبي: يعني: وأصله في اللغة يتمطط فقلبت الطاء ياء فصار يتمطى يعني: ذهب إلى أهله يتمطى يعني: ويتبختر في مشيته أَوْلى لَكَ فَأَوْلى وعيد على أثر وعيد، يعني: احذر يا أبا جهل. ومعنى أَوْلى لَكَ أي: قرب لك يا أبا جهل. وقال سعيد بن جبير: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم لأبي جهل: أولى لك فأولى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثم نزل به القرآن. وقال الزجاج: معناه أولى لك يعني: يوجب لك المكروه يا أبا جهل، والعرب تقول أولى بفلان، إذا وعد له مكروهاً. وقال القتبي: أولى لك تهديد ووعيد
ثم قال: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً يعني: أن يترك مهملاً، لا يؤمر ولا ينهى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى يعني: أليس قد خلق من ماء مهين. قرأ ابن عامر وحفص، عن عاصم، من منى يمنى بالهاء، والباقون بالتاء على معنى التأنيث، لأن النطفة مؤنثة. ومن قرأ بالياء، انصرف إلى المعنى وهو الماء ثُمَّ كانَ عَلَقَةً يعني: صارت بعد النطفة علقة فَخَلَقَ فَسَوَّى يعني: جمع خلقه في بطن أمه مستوياً، معتدل القامة فَجَعَلَ مِنْهُ يعني: خلق من المني الزَّوْجَيْنِ يعني: لونين من الخلق الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به التقرير، يعني: إن هذا الذي يفعل مثل هذا، هو قادر. على أن يحيي الموتى. وذكر عن ابن عباس، أنه كان إذا قرأ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قال: سبحانك اللهم بلى قادر، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.