تفسير سورة التكوير

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة التكوير
هذه السورة مكية. ومناسبتها لما قبلها في غاية الظهور.

سورة التّكوير
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ١ الى ٢٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (١٤)
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)
انْكَدَرَتِ النُّجُومُ: انْتَثَرَتْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: انْصَبَّتْ كَمَا تَنْصَبُّ الْقِعَابُ إِذَا كُسِرَتْ.
قَالَ الْعَجَّاجُ يَصِفُ صَقْرًا:
أَبْصَرَ حُرُمَاتِ فَلَاةٍ فَانْكَدَرْ تَقَصِّيَ الْبَازِيُّ إِذَا الْبَازِيُّ كَسَرْ
الْعِشَارُ جَمْعُ عُشَرَاءَ، وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي مَرَّ لِحَمْلِهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ هُوَ اسْمُهَا إِلَى أَنْ تَضَعَ فِي تَمَامِ السَّنَةِ. التَّعْطِيلُ: التَّفْرِيغُ وَالْإِهْمَالُ. الْوَحْشُ: حَيَوَانُ الْبَرِّ الَّذِي لَيْسَ فِي
412
طَبْعِهِ التَّآنُسُ بِبَنِي آدَمَ. الْمَوْءُودَةُ: الْبِنْتُ الَّتِي تُدْفَنُ حَيَّةً، وَأَصْلُهُ مِنَ النَّقْلِ، كَأَنَّهَا تُنْقَلُ مِنَ التُّرَابِ حَتَّى تَمُوتَ، وَمِنْهُ اتَّئِدْ: أَيْ تَوَقَّرْ وَأَثْقِلْ وَلَا تَخَفْ. الْكَشْطُ: التَّقْشِيرُ، كَشَطْتُ جِلْدَ الشَّاةِ: سَلَخْتُهُ عَنْهَا. الْخُنَّسُ جَمْعُ خَانِسٍ، وَالْخُنُوسُ: الِانْقِبَاضُ وَالِاسْتِخْفَاءُ. تَقُولُ خَنَسَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَانْخَنَسَ. الْكُنَّسُ جَمْعُ كَانِسٍ وَكَانِسَةٍ، يُقَالُ: كَنَسَ إِذَا دَخَلَ الْكِنَاسَ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي تَأْوِي إِلَيْهِ الظِّبَاءُ. وَالْخَنْسُ: تَأَخُّرُ الْأَنْفِ عَنِ الشَّفَةِ مَعَ ارْتِفَاعٍ قَلِيلٍ مِنَ الْأَرْنَبَةِ. عَسْعَسَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ وَعَسَسَ، إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ: أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ قُرْطٍ:
حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وَعَسْعَسَا
وَقَالَ رُؤْبَةُ:
يَا هِنْدُ مَا أَسْرَعَ مَا تعسعسا من بعد ما كان فتى ترعرعا
التَّنَفُّسُ: خُرُوجُ النَّسِيمِ مِنَ الْجَوْفِ، وَاسْتُعِيرَ لِلصُّبْحِ وَمَعْنَاهُ: امْتِدَادُهُ حَتَّى يَصِيرَ نَهَارًا وَاضِحًا. الظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، ظَنَنْتُ الرَّجُلَ: اتَّهَمْتُهُ، وَالظَّنِينُ:
الْبَخِيلُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَجُودُ بِمَكْنُونِ الْحَدِيثِ وَإِنَّنِي بِسِرِّكَ عَنْ مَا سَأَلْتَنِي لَضَنِينُ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ، فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ، وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ. وَتَكْوِيرُ الشَّمْسِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِدْخَالُهَا فِي الْعَرْشِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: ذَهَابُ ضَوْئِهَا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ: رَمَى بِهَا، وَمِنْهُ: كَوَّرْتُهُ فَتَكَوَّرَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: نَكَسَتْ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا:
أَظْلَمَتْ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: اضْمَحَلَّتْ. وَقِيلَ: غَوَّرَتْ وَقِيلَ: يَلُفُّ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَيَرْمِي بِهَا
413
فِي الْبَحْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُوِّرَتْ مِثْلَ تَكْوِيرِ الْعِمَامَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مِنْ كَارَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ يُكَوِّرُهَا، أَيْ لَاثَهَا وَجَمَعَهَا، فَهِيَ تُكَوَّرُ، ثُمَّ يَمْحِي ضَوْءَهَا، ثُمَّ يَرْمِي بِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوِ الْفَاعِلِيَّةِ؟ قُلْتُ: بَلْ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، رَافِعُهَا فِعْلٌ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ كُوِّرَتْ، لِأَنَّ إِذَا يَطْلُبُ الْفِعْلَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ.
انْتَهَى. وَمِنْ طَرِيقَتِهِ أَنَّهُ يُسَمِّي الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَاعِلًا، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ. وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ مِنِ الْإِعْرَابِ مُجْمَعًا عَلَى تَحَتُّمِهِ عِنْدَ النُّحَاةِ، بَلْ يَجُوزُ رَفْعُ الشَّمْسِ عَلَى الِابْتِدَاءِ عِنْدَ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ أَنْ تَجِيءَ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ بَعْدَ إِذَا، نَحْوُ: إِذَا زَيْدٌ يُكْرِمُكَ فَأَكْرِمْهُ.
انْكَدَرَتْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَسَاقَطَتْ وَعَنْهُ أَيْضًا: تَغَيَّرَتْ فَلَمْ يَبْقَ لَهَا ضَوْءٌ لِزَوَالِهَا عَنْ أَمَاكِنِهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَاءٌ كَدِرٌ: أَيْ مُتَغَيِّرٌ. وَتَسْيِيرُ الْجِبَالِ: أَيْ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، أَوْ سُيِّرَتْ فِي الْجَوِّ تَسْيِيرَ السَّحَابِ، كَقَوْلِهِ: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «١»، وَهَذَا قَبْلُ نَسْفِهَا، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالْعِشَارُ: أَنْفَسُ مَا عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ الْمَالِ، وَتَعْطِيلُهَا: تَرْكُهَا مُسَيَّبَةً مُهْمَلَةً، أَوْ عَنِ الْحَلْبِ لِاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ عَنْ أَنْ يُحْمَلَ عَنْهَا الْفُحُولُ وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا عِشَارًا بِاعْتِبَارِ مَا سَبَقَ لَهَا ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الْمَثَلِ، لِأَنَّهُ فِي الْقِيَامَةِ لَا يَكُونُ عُشَرَاءُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عُشَرَاءُ لَعَطَّلَهَا أَهْلُهَا وَاشْتَغَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: إِذَا قَامُوا مِنَ الْقُبُورِ شَاهَدُوا الْوُحُوشَ وَالدَّوَابَّ مَحْشُورَةً وَعِشَارُهُمْ فِيهَا الَّتِي كَانَتْ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، لم يعبأوا بِهَا لِشُغْلِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: الْعِشَارُ: السَّحَابُ، وَتَعْطِيلُهَا مِنَ الْمَاءِ فَلَا تُمْطِرُ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّحَابَ بِالْحَامِلِ. وَقِيلَ: الْعِشَارُ: الدِّيَارُ تُعَطَّلُ فَلَا تُسْكَنُ. وَقِيلَ: الْعِشَارُ: الْأَرْضُ الَّتِي يُعَشَّرُ زَرْعُهَا، تُعَطَّلُ فَلَا تُزْرَعُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عُطِّلَتْ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَمُضَرُ عَنِ الْيَزِيدِيِّ: بِتَخْفِيفِهَا، كَذَا فِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ، وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، قَالَ فِي اللَّوَامِحِ، وَقِيلَ: هُوَ وَهْمٌ إِنَّمَا هُوَ عَطَلَتْ بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى تَعَطَّلَتْ، لِأَنَّ التَّشْدِيدَ فِيهِ التَّعَدِّي، يُقَالُ: مِنْهُ عَطَّلْتُ الشَّيْءَ وَأَعْطَلْتُهُ فَعَطِلَ بِنَفْسِهِ، وَعَطِلَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ عَاطِلٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا الْحُلِيُّ، فَلَعَلَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ لُغَةٌ اسْتَوَى فِيهَا فَعِلَتْ وَأَفْعَلَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلَا بمعطل
(١) سورة النمل: ٢٧/ ٨٨.
414
حُشِرَتْ: أَيْ جُمِعَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جُمِعَتْ بِالْمَوْتِ، فَلَا تُبْعَثُ وَلَا يَحْضُرُ فِي الْقِيَامَةِ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ. وَعَنْهُ وَعَنْ قَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ: يُحْشَرُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الذُّبَابُ. وَعَنْهُ: تُحْشَرُ الْوُحُوشُ حَتَّى يُقْتَصَّ مِنْ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، ثُمَّ يَقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهَا مُوتِي فَتَمُوتُ. وَقِيلَ: إِذَا قُضِيَ بَيْنَهَا رُدَّتْ تُرَابًا فَلَا يَبْقَى مِنْهَا إِلَّا مَا فِيهِ سُرُورٌ لِبَنِي آدَمَ وَإِعْجَابٌ بِصُورَتِهِ، كَالطَّاوُوسِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ أُبَيٌّ: فِي الدُّنْيَا فِي أَوَّلِ الْهَوْلِ تَفِرُّ فِي الْأَرْضِ وَتَجْتَمِعُ إِلَى بَنِي آدَمَ تَآنُسًا بِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُشِرَتْ بِخَفِّ الشِّينِ وَالْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: بِشَدِّهَا. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ: تَقَدَّمَ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي سَجْرِ الْبَحْرِ فِي الطُّورِ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، وَفِي كِتَابِ لُغَاتِ الْقِرَاءَاتِ، سُجِّرَتْ: جُمِعَتْ، بِلُغَةِ خَثْعَمَ. وَقَالَ هُنَا ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مُلِكَتْ وَقُيِّدَ اضْطِرَابُهَا حَتَّى لَا تَخْرُجَ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْهَوْلِ، فَتَكُونَ اللَّفْظَةُ مَأْخُوذَةً مِنْ سَاجُورِ الْكَلْبِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: بِخَفِّ الْجِيمِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِشَدِّهَا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ اسْتِعَارَاتٌ فِي كُلِّ ابْنِ آدَمَ وَأَحْوَالِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ. فَالشَّمْسُ نَفْسُهُ، وَالنُّجُومُ عَيْنَاهُ وَحَوَاسُّهُ، وَهَذَا قَوْلٌ ذَاهِبٌ إِلَى إِثْبَاتِ الرُّمُوزِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الْبَاطِنِيَّةِ، وَمَذَاهِبُ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِمْ فِي خُطْبَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ زَنَادِقَةٌ تَسَتَّرُوا بِالِانْتِمَاءِ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ. وَكِتَابُ اللَّهِ جَاءَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، لَا رَمْزَ فِيهِ وَلَا لُغْزَ وَلَا بَاطِنَ، وَلَا إِيمَاءَ لِشَيْءٍ مِمَّا تَنْتَحِلُهُ الْفَلَاسِفَةُ وَلَا أَهْلُ الطَّبَائِعِ. وَلَقَدْ ضَمَّنَ تَفْسِيرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ خَطِيبِ الرَّيِّ أَشْيَاءَ مِمَّا قَالَهُ الْحُكَمَاءُ عِنْدَهُ وَأَصْحَابُ النُّجُومِ وَأَصْحَابُ الْهَيْئَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ فِي آخِرِ مَا يُفَسِّرُهُ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ كَلَامِ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الصُّوفِ وَيُسَمِّيهَا الْحَقَائِقَ، وَفِيهَا مَا لَا يَحِلُّ كِتَابَتُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْتَقَدَ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ فِي دِينِنَا وَعَقَائِدِنَا وَمَا بِهِ قِوَامُ دِينِنَا وَدُنْيَانَا.
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ: أَيِ الْمُؤْمِنُ مَعَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرُ مَعَ الْكَافِرِ، كَقَوْلِهِ:
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً «١»، قاله عمرو ابن عَبَّاسٍ أَوْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَزْوَاجِهِمْ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَغَيْرِهِنَّ، قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَوِ الْأَزْوَاجُ الْأَجْسَادُ، قاله عكرمة والضحاك
(١) سورة الواقعة: ٥٦/ ٧.
415
وَالشَّعْبِيُّ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ: زُووِجَتْ عَلَى فُوعِلَتْ، وَالْمُفَاعَلَةُ تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ.
وَالْجُمْهُورُ: بِوَاوٍ مُشَدَّدَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَدَ يَئِدُ، مَقْلُوبٌ مِنْ آدَ يَؤُدُ إِذَا أَثْقَلَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما «١»، لِأَنَّهُ إِثْقَالٌ بِالتُّرَابِ. انْتَهَى. وَلَا يُدَّعَى فِي وَأَدَ أَنَّهُ مَقْلُوبٌ مِنْ آدَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَامِلُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَاضِي وَالْأَمْرِ وَالْمُضَارِعِ وَالْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْفَاعِلِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مُسَوِّغَاتِ ادِّعَاءِ الْقَلْبِ. وَالَّذِي يُعْلَمُ بِهِ الْأَصَالَةُ مِنَ الْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ النَّظْمَيْنِ فِيهِ حُكْمٌ يَشْهَدُ لَهُ بِالْأَصَالَةِ وَالْآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَوْ كَوْنُهُ مُجَرَّدًا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ وَالْآخَرُ فِيهِ مَزِيدًا وَكَوْنُهُ أَكْثَرَ تَصَرُّفًا وَالْآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَوْ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا مِنَ الْآخَرِ، وَهَذَا عَلَى مَا قَرَّرُوا أَحْكَمُ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. فَالْأَوَّلُ كَيَئِسَ وَأَيِسَ، وَالثَّانِي كَطَأْمَنَ وَاطْمَأَنَّ، وَالثَّالِثُ كَشَوَايِعَ وَشَوَاعٍ، وَالرَّابِعُ كَلَعَمْرِي وَرَعَمْلِي.
وقرأ الجمهور: الْمَوْؤُدَةُ، بِهَمْزَةٍ بَيْنَ الْوَاوَيْنِ، اسْمُ مَفْعُولٍ. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ فِي رواية: الموؤدة، بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ عَلَى الْوَاوِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الموؤدة كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، ثُمَّ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى الْوَاوِ بَعْدَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ، ثُمَّ همز الْوَاوُ الْمَنْقُولُ إِلَيْهَا الْحَرَكَةُ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَفْعُولٍ مِنْ آدَ فَالْأَصْلُ مَأْوُودَةٌ، فَحُذِفَ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِيهِ الْمَحْذُوفُ وَاوُ الْمَدِّ أَوِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ، نَحْوُ: مَقْوُولٌ، حَيْثُ قَالُوا: مقول. وقرىء الْمَوُودَةُ، بِضَمِّ الْوَاوِ الْأُولَى وَتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ، أَعْنِي التَّسْهِيلَ بِالْحَذْفِ، وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الْوَاوِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: الْمُودَةُ، بِسُكُونِ الْوَاوِ عَلَى وَزْنِ الْفُعْلَةِ، وَكَذَا وَقَفَ لِحَمْزَةَ بن مُجَاهِدٍ. وَنَقَلَ الْقُرَّاءُ أَنَّ حَمْزَةَ يَقِفُ عَلَيْهَا كَالْمَوُودَةِ لِأَجْلِ الْخَطِّ لِأَنَّهَا رُسِمَتْ كَذَلِكَ، وَالرَّسْمُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سُئِلَتْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ: كَذَلِكَ وَخَفِّ الْيَاءِ وَبِتَاءِ التَّأْنِيثِ فِيهِمَا، وَهَذَا السُّؤَالُ هُوَ لِتَوْبِيخِ الْفَاعِلِينَ لِلْوَأْدِ، لأن سؤالها يؤول إِلَى سُؤَالِ الْفَاعِلِينَ. وَجَاءَ قُتِلَتْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ إِخْبَارٌ عَنْهَا، وَلَوْ حُكِيَ مَا خُوطِبَتْ بِهِ حِينَ سُئِلَتْ لَقِيلَ: قُتِلَتْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ: سِئِلَتْ، بِكَسْرِ السِّينِ، وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: سَالَ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِشَدِّ الْيَاءِ، لِأَنَّ الموؤدة اسْمُ جِنْسٍ، فَنَاسَبَ التَّكْثِيرَ بِاعْتِبَارِ الْأَشْخَاصِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو الضحى ومجاهد: سَأَلَتْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، قُتِلْتُ بِسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ التَّاءِ، حِكَايَةً لِكَلَامِهَا حِينَ سُئِلَتْ. وَعَنْ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ وَابْنِ يَعْمُرَ: سَأَلَتْ مَبْنِيًّا
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٥.
416
لِلْفَاعِلِ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ فِيهِمَا إِخْبَارًا عَنْهُمَا، وَلَوْ حُكِيَ كَلَامُهَا لَكَانَ قُتِلْتُ بِضَمِّ التَّاءِ.
وَكَانَ الْعَرَبُ إِذَا وُلِدَ لِأَحَدِهِمْ بِنْتٌ وَاسْتَحْيَاهَا، أَلْبَسَهَا جُبَّةً مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ وَتَرَكَهَا تَرْعَى الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، وَإِذَا أَرَادَ قَتْلَهَا تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ سُدَاسِيَّةً قَالَ لِأُمِّهَا: طَيِّبِيهَا وَلَيِّنِيهَا حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى أَحْمَائِهَا، وَقَدْ حَفَرَ حُفْرَةً أَوْ بِئْرًا فِي الصَّحْرَاءِ، فَيَذْهَبُ بِهَا إِلَيْهَا وَيَقُولُ لَهَا انْظُرِي فِيهَا ثُمَّ يَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا وَيُهِيلُ عَلَيْهَا التُّرَابَ حَتَّى يَسْتَوِيَ بِالْأَرْضِ. وَقِيلَ:
كَانَتِ الْحَامِلُ إِذَا قَرُبَ وَضْعُهَا حَفَرَتْ حُفْرَةً فَتَمَخَّضَتْ عَلَى رَأْسِهَا، فَإِذَا وَلَدَتْ بِنْتًا رَمَتْ بِهَا فِي الْحُفْرَةِ، وَإِنْ وَلَدَتِ ابْنًا حَبَسَتْهُ. وَقَدِ افْتَخَرَ الْفَرَزْدَقُ، وَهُوَ أَبُو فِرَاسٍ هَمَّامُ بْنُ غَالِبِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ نَاجِيَةَ، بِجَدِّهِ صَعْصَعَةَ، إِذْ كَانَ مَنَعَ وَأْدَ الْبَنَاتِ فَقَالَ:
وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ فَأَحْيَا الْوَئِيدَ وَلَمْ يَوْئِدْ
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ: صُحُفُ الْأَعْمَالِ كَانَتْ مَطْوِيَّةً عَلَى الْأَعْمَالِ، فَنُشِرَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَقْرَأَ كُلُّ إِنْسَانٍ كِتَابَهُ. وَقِيلَ: الصُّحُفُ الَّتِي تَتَطَايَرُ بِالْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ بِالْجَزَاءِ، وَهِيَ صُحُفٌ غَيْرُ صُحُفِ الْأَعْمَالِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وعاصم: نُشِرَتْ بِخَفِّ الشِّينِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِشَدِّهَا. وَكَشْطُ السَّمَاءِ: طَيُّهَا كَطَيِّ السِّجِلِّ. وَقِيلَ: أُزِيلَتْ كَمَا يُكْشَطُ الْجِلْدُ عَنِ الذَّبِيحَةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: قُشِطَتْ بِالْقَافِ، وَهُمَا كَثِيرًا مَا يَتَعَاقَبَانِ، كَقَوْلِهِمْ: عَرَبِيٌّ قُحٌّ وَكُحٌّ، وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَتُهُ قَافُورًا، أَيْ كَافُورًا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: سُعِّرَتْ بِشَدِّ الْعَيْنِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِخَفِّهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ. قَالَ قَتَادَةُ: سَعَّرَهَا غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى وَذُنُوبُ بَنِي آدَمَ، وَجَوَابُ إِذَا وَمَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ: وَنَفْسٌ تَعُمُّ فِي الْإِثْبَاتِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، مَا أَحْضَرَتْ مِنْ خَيْرٍ تَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، أَوْ مِنْ شَرٍّ تَدْخُلُ بِهِ النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَقَعَ الْإِفْرَادُ لِيُنَبِّهَ الذِّهْنَ عَلَى حَقَارَةِ الْمَرْءِ الْوَاحِدِ وَقِلَّةِ دِفَاعِهِ عَنْ نَفْسِهِ. انْتَهَى.
وَقُرِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْقَارِئُ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «وا انقطاع ظَهْرَاهُ». بِالْخُنَّسِ، قَالَ الْجُمْهُورُ: الدَّرَارِيُّ السَّبْعَةُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَزُحَلُ، وَعُطَارِدٌ، وَالْمِرِّيخُ، وَالزُّهَرَةُ، وَالْمُشْتَرِي. وَقَالَ: عَلِيٌّ الْخَمْسَةُ دُونَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، تَجْرِي الْخَمْسَةُ مَعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَتَرْجِعُ حَتَّى تَخْفَى مَعَ ضَوْءِ الشَّمْسِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَخْنِسُ فِي جَرْيِهَا الَّتِي يُتَعَهَّدُ فِيهَا تَرَى الْعَيْنُ،
417
وَهِيَ جَوَارٍ فِي السَّمَاءِ، وَهِيَ تَكْنِسُ فِي أَبْرَاجِهَا، أَيْ تَسْتَتِرُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ كُلُّهَا لِأَنَّهَا تَخْنِسُ وَتَكْنِسُ بِالنَّهَارِ حِينَ تَخْتَفِي.
وقال الزمخشري: أي تخنس بِالنَّهَارِ وَتَكْنِسُ بِاللَّيْلِ، أَيْ تَطْلُعُ فِي أَمَاكِنِهَا كَالْوَحْشِ فِي كُنُسِهَا. انْتَهَى. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَالنَّخَعِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ: بَقَرُ الْوَحْشِ، لِأَنَّهَا تَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي كَنَائِسِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: هِيَ الظِّبَاءُ، وَالْخُنَّسُ مِنْ صِفَةِ الْأَنَوُقِ لِأَنَّهَا يَلْزَمُهَا الْخَنْسُ، وَكَذَا بَقَرُ الْوَحْشِ.
عَسْعَسَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَقْبَلَ ظَلَامُهُ، وَيُرَجِّحُهُ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ:
وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ، فَهُمَا حَالَتَانِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَقْسَمَ بِإِقْبَالِهِ وَإِدْبَارِهِ وَتَنَفُّسُهُ كَوْنُهُ يَجِيءُ مَعَهُ رَوْحٌ وَنَسِيمٌ، فَكَأَنَّهُ نَفَسٌ لَهُ عَلَى الْمَجَازِ. إِنَّهُ: أَيْ إِنَّ هَذَا الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ، أَيْ إِنَّ الْقُرْآنَ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ الْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ:
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَرِيمٌ صِفَةٌ تَقْتَضِي نَفْيَ الْمَذَامِّ كُلِّهَا وَإِثْبَاتَ صِفَاتِ الْمَدْحِ اللَّائِقَةِ بِهِ. ذِي قُوَّةٍ: كَقَوْلِهِ: شَدِيدُ الْقُوى «١». عِنْدَ ذِي: الْكَيْنُونَةُ اللَّائِقَةُ مِنْ شَرَفِ الْمَنْزِلَةِ وَعِظَمِ الْمَكَانَةِ. وَقِيلَ: الْعَرْشُ مُتَعَلِّقٌ بِمَكِينٍ مُطَاعٍ. ثُمَّ إِشَارَةٌ إِلَى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ: أَيْ إِنَّهُ مُطَاعٌ فِي مَلَائِكَةِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ يَصْدُرُونَ عَنْ أَمْرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو الْبَرَهْسَمِ وَابْنُ مِقْسَمٍ: ثُمَّ، بضم الثاء: حرف عطف، وَالْجُمْهُورُ: ثَمَّ بِفَتْحِهَا، ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْبَعِيدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرىء ثَمَّ تَعْظِيمًا لِلْأَمَانَةِ وَبَيَانًا لِأَنَّهَا أَفْضَلُ صِفَاتِهِ الْمَعْدُودَةِ.
انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: بِمَعْنَى مُطَاعٍ وَأَمِينٍ، وَإِنَّمَا صَارَتْ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ بَعْدَ أَنَّ مُوَاضَعَتَهَا لِلْمُهْلَةِ وَالتَّرَاخِي عَطْفًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بِالصِّفَتَيْنِ مَعًا فَي حَالٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ فِي هَذَا الْعَطْفِ بِمَعْنَى مُطَاعٍ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، ثَمَّ أَمِينٍ عِنْدَ انْفِصَالِهِ عَنْهُمْ، حَالَ وَحْيِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَجَازَ أَنْ لَوْ وَرَدَ بِهِ أَثَرٌ انْتَهَى. أَمِينٍ: مَقْبُولِ القول يصدق فِيمَا يَقُولُهُ، مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا يُرْسَلُ بِهِ مِنْ وَحْيٍ وَامْتِثَالِ أَمْرٍ. وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ: نَفَى عَنْهُ مَا كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ وَيَبْهَتُونَهُ بِهِ مِنَ الْجُنُونِ.
وَلَقَدْ رَآهُ: أَيْ رَأَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ بَعْدَ أَمْرِ غَارِ حِرَاءَ حِينَ رَآهُ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ. وَقِيلَ: هِيَ الرُّؤْيَةُ الَّتِي رَآهُ فِيهَا عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ أُفُقًا مَجَازًا. وَقَدْ كَانَتْ له
(١) سورة النجم: ٥٣/ ٥.
418
عَلَيْهِ السَّلَامُ، رُؤْيَةٌ ثَانِيَةٌ بِالْمَدِينَةِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ. وَوُصِفَ الْأُفُقُ بِالْمُبِينِ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ تَطْلُعُ الشَّمْسُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَسُفْيَانُ. وَأَيْضًا فَكُلُّ أُفُقٍ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ.
وَقِيلَ: فِي أُفُقِ السَّمَاءِ الْغَرْبِيِّ، حَكَاهُ ابْنُ شَجَرَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَآهُ نَحْوَ جِيَادٍ، وَهُوَ مَشْرِقُ مَكَّةَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزبير وَعَائِشَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعُرْوَةُ وَهِشَامُ بْنُ جندب ومجاهد وَغَيْرُهُمْ، وَمِنَ السَّبْعَةِ النَّحْوِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: بِظَنِينٍ بِالظَّاءِ، أَيْ بِمُتَّهَمٍ، وَهَذَا نَظِيرُ الْوَصْفِ السَّابِقِ بِأَمِينٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِضَعِيفِ الْقُوَّةِ عَلَى التَّبْلِيغِ مِنْ قَوْلِهِمْ: بِئْرٌ ظَنُونٌ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةَ الْمَاءِ، وَكَذَا هُوَ بِالظَّاءِ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ عُثْمَانُ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالضَّادِ، أَيْ بِبَخِيلٍ يَشِحُّ بِهِ لَا يُبَلِّغُ مَا قِيلَ لَهُ وَيَبْخَلُ، كَمَا يَفْعَلُ الْكَاهِنُ حَتَّى يُعْطَى حُلْوَانَهُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَبِالضَّادِ خُطُوطُ الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا.
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ: أَيِ الَّذِي يَتَرَاءَى لَهُ إِنَّمَا هُوَ مَلَكٌ لَا مِثْلَ الَّذِي يَتَرَاءَى لِلْكُهَّانِ. فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ: اسْتِضْلَالٌ لَهُمْ، حَيْثُ نَسَبُوهُ مَرَّةً إِلَى الْجُنُونِ، وَمَرَّةً إِلَى الْكَهَانَةِ، وَمَرَّةً إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا يُقَالُ لِتَارِكِ الْجَادَّةِ اعْتِسَافًا أَوْ ذَهَابًا فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ: أي تَذْهَبُ؟ مُثِّلَتْ حَالُهُمْ بِحَالِهِ فِي تَرْكِهِمُ الْحَقَّ وَعُدُولِهِمْ عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ. انْتَهَى. ذِكْرٌ: تَذْكِرَةٌ وَعِظَةٌ، لِمَنْ شاءَ: بَدَلٌ مِنْ لِلْعالَمِينَ، ثم عذق مَشِيئَةَ الْعَبِيدِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ خَصَّصَ تَعَالَى مَنْ شَاءَ الِاسْتِقَامَةَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا وَتَنْبِيهًا وَذِكْرًا لِتَلَبُّسِهِمْ بِأَفْعَالِ الِاسْتِقَامَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تَكَسُّبَ الْعَبْدِ عَلَى الْعُمُومِ فِي اسْتِقَامَةٍ وَغَيْرِهَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِرَاعِهِ الْإِيمَانَ فِي صَدْرِ الْمَرْءِ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا أَبْدَلُوا مِنْهُمْ لِأَنَّ الَّذِينَ شَاءُوا الِاسْتِقَامَةَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالذِّكْرِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوعَظْ بِهِ غَيْرُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مَوْعُوظِينَ جَمِيعًا. وَما تَشاؤُنَ الِاسْتِقَامَةَ يَا مَنْ يَشَاؤُهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى ولطفه، أو مَا تَشَاءُونَهَا أَنْتُمْ يَا مَنْ لَا يَشَاؤُهَا إِلَّا بِقَسْرِ اللَّهِ وَإِلْجَائِهِ. انْتَهَى. فَفَسَّرَ كُلٌّ مِنِ ابْنِ عطية والزمخشري الْمَشِيئَةَ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا شَاءَتِ الْعَرَبُ الْإِسْلَامَ حَتَّى شَاءَ اللَّهُ لها.
419
Icon