تفسير سورة الغاشية

التفسير الوسيط لطنطاوي
تفسير سورة سورة الغاشية من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي .
لمؤلفه محمد سيد طنطاوي . المتوفي سنة 1431 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الغاشية
مقدمة وتمهيد
١- سورة " الغاشية "، وتسمى سورة " هل أتاك حديث الغاشية " من السور المكية الخالصة، وعدد آياتها ست وعشرون آية، وهي السورة الثامنة والثمانون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول، فهي السورة السابعة والستون من بين السور المكية، وكان نزولها بعد سورة " الذاريات " وقبل سورة " الكهف ".
٢- وهي من السور التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها كثيرا، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن النعمان بن بشير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ " سبح اسم ربك الأعلى " " والغاشية " في صلاة الجمعة والعيدين.
وفي رواية –أيضا- عن النعمان بن بشير أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه السورة مع سورة الجمعة، في صلاة الجمعة.
وقد اشتملت السورة الكريمة على بيان أحوال الكافرين والمؤمنين يوم القيامة، كما لفتت أنظار الناس إلى مظاهر قدرة الله في خلقه، لكي يتفكروا ويتدبروا أن الخالق لهذه الأشياء بتلك الصورة البديعة، هو المستحق للعبادة والطاعة، وأنهم سيعودون إليه للحساب والجزاء [ إن إلينا إيابهم. ثم إن علينا حسابهم ].

التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١ الى ٢٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤)
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦)
والاستفهام في قوله- تعالى-: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ للتحقيق والتقرير، أو المقصود به التعجيب من حديث القيامة، والتشويق إلى الاستماع إليه.
والغاشية: لفظ مشتق من الغشيان، وهو تغطية الشيء لغيره، يقال: غشيه الأمر، إذا
372
غطاه، والمقصود بالغاشية يوم القيامة، ووصف يوم القيامة بذلك، لأنه يغشى الناس بأهواله وشدائده، ويغطى عقولهم عن التفكير في أى شيء سواه.
والمعنى: هل بلغك- أيها الرسول الكريم أو أيها المخاطب- حديث يوم القيامة، الذي يغشى الناس بأحواله المفزعة، ويعمهم بشدائده.. إن كان لم يأتك فهذا خبره، وتلك هي أقسام الناس فيه.
وافتتاح السورة بهذا الافتتاح- بجانب ما فيه من تشويق- يدل على أهمية هذا الخبر، وأنه من الأخبار التي ينبغي الاستعداد لما اشتملت عليه من معاني لا يصح التغافل عنها.
ثم فصل- سبحانه- أحوال الناس في هذا اليوم فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ.
قال الشوكانى: الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ما هو؟ أو مستأنفة استئنافا نحويا، لبيان ما تضمنته من كون ثمّ وجوه في ذلك اليوم متصفة بهذه الصفة المذكورة، و «وجوه» مرتفع على الابتداء- وإن كانت نكرة- لوقوعه في مقام التفصيل..
والتنوين في «يومئذ» عوض عن المضاف إليه. أى: يوم غشيان الغاشية.
والخاشعة: الذليلة الخاضعة، وكل متضائل ساكن يقال له خاشع.. «١».
والمراد بالوجوه: أصحابها، من باب التعبير عن الكل بالبعض، وخصت الوجوه بالذكر، لأنها أشرف أعضاء الإنسان، ولأنها هي التي تظهر عليها الآثار المختلفة من حزن أو فرح. أى: وجوه في يوم قيام الساعة، تكون خاشعة ذليلة، تبدو عليها آثار الهوان والانتكاس والخزي، كما قال- تعالى-: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ...
وهذه الوجوه- أيضا- من صفاتها أنها عامِلَةٌ ناصِبَةٌ أى: مكلفة بالعمل الشاق المرهق الذي تنصب له الوجوه في هذا اليوم، وتتعب تعبا ما عليه من مزيد، كجر السلاسل، وحمل الأغلال، والخوض في النار.
فقوله: عامِلَةٌ اسم فاعل من العمل، والمراد به هنا: العمل الشاق المهين.
وقوله: ناصِبَةٌ من النّصب، بمعنى: التعب والإعياء يقال: نصب فلان بكسر الصاد- كفرح- ينصب نصبا، إذا تعب في عمله تعبا شديدا.
وفي هذه الصفات زيادة توبيخ لأهل النار، لأنهم لما تركوا في الدنيا الخشوع لله- تعالى-
(١) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٤٢٨ للشوكانى.
373
والعمل لصالح، وآثروا متع الدنيا على ثواب الآخرة.. كان جزاؤهم يوم القيامة، الإذلال، والعمل الشاق المهين الذي لا تعقبه راحة.
ثم أخبر- سبحانه- عن هذه الوجوه الشقية بأخبار أخرى فقال: تَصْلى ناراً حامِيَةً أى: أن هذه الوجوه تشوى بالنار الحامية يوم القيامة. يقال: صلى فلان النار فهو يصلاها، إذا لفحته بحرها لفحا شديدا.
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أى: هذه الوجوه يسقى أصحابها من عين قد بلغت النهاية في الحرارة والغليان، إذ الشيء الآتي، هو الذي بلغ النهاية في الحرارة، يقال: أتى الماء يأتى- كرمى يرمى-، إذا بلغ الغاية في الغليان، ومنه قوله- تعالى- يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ.
قال الإمام ابن جرير: قوله: تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أى: تسقى أصحاب هذه الوجوه من شراب عين قد أنى حرها، فبلغ غايته في شدة الحر، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.. فعن ابن عباس: هي التي قد طال أنيها- أى: حرها-.
وقال بعضهم: عنى بقوله: مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أى: من عين حاضرة- أى: حاضرة لعذابهم.. «١».
وقوله- تعالى-: يْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ.
والضريع: هو شجر في النار يشبه الشوك، فيه ما فيه من المرارة والحرارة وقبح الرائحة.
وقوله: يُسْمِنُ من السّمن- بكسر السين وفتح الميم- وهو وفرة اللحم والشحم في الحيوان وغيره. يقال: فلان أسمنه الطعام، إذا عاد عليه بالسمن.
وقوله يُغْنِي من الإغناء ودفع الحاجة. يقال: أغنانى هذا الشيء عن غيره، إذا كفاه واستغنى به عن سواه. أى: أن أصحاب هذه الوجوه التعيسة بجانب شرابهم من الماء البالغ النهاية في الحرارة، لهم- أيضا- طعام من أقبح الطعام وأردئه وأشنعه وأشده مرارة.. هذا الطعام لا يأتى بسمن، ولا يغنى من جوع، بل إن آكله ليزدرده رغما عنه.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد أخبر عن أصحاب هذه الوجوه الشقية بجملة من الأخبار المحزنة المؤلمة، التي منها ما يتعلق بهيئاتهم، ومنها ما يتعلق بأحوالهم، ومنها ما يتعلق بشرابهم، ومنها ما يتعلق بطعامهم.
(١) تفسير ابن جرير ج ٣٠ ص ١٠٢.
374
ووصف- سبحانه- طعامهم بأنه لا يسمن ولا يغنى من جوع، لزيادة تقبيح هذا الطعام، وأنه شر محض، لا مكان لأية فائدة معه.
قال صاحب الكشاف: الضريع: اليابس من نبات الشبرق، وهو جنس من الشوك، ترعاه الإبل مادام رطبا. فإذا يبس تحامته الإبل وهو سم قاتل..
فإن قلت: كيف قيل: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وفي الحاقة وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ؟. قلت: العذاب ألوان، والمعذبون طبقات، فمنهم: أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع.
والضريع: منفعتا الغذاء منفيتان عنه: وهما إماطة الجوع، وإفادة القوة والسمن في البدن. أو أريد: أن لا طعام لهم أصلا، لأن الضريع ليس بطعام للبهائم، فضلا عن الإنس، لأن الطعام ما أشبع أو أسمن، وهما منه بمعزل، كما تقول: ليس لفلان ظل إلا الشمس.
تريد: نفى الظل على التوكيد.. «١».
وبعد هذا الحديث المؤثر عن الكافرين وسوء عاقبتهم.. جاء الحديث عن المؤمنين ونعيمهم، فقال- تعالى-: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ. لِسَعْيِها راضِيَةٌ. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ.
قال الآلوسى: قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ شروع في رواية حديث أهل الجنة، وتقديم حكاية أهل النار، لأنه أدخل في تهويل الغاشية، وتفخيم حديثها، ولأن حكاية حسن حال أهل الجنة، بعد حكاية سوء أهل النار، مما يزيد المحكي حسنا وبهجة.. وإنما لم تعطف هذه الجملة على تلك الجملة، إيذانا بكمال التباين بين مضمونهما.. «٢».
أى: وجوه كثيرة تكون يوم القيامة، ذات بهجة وحسن، وتكون متنعمة في الجنة بما أعطاها- سبحانه- من خير عميم، جزاء عملها الصالح في الدنيا.
لِسَعْيِها راضِيَةٌ أى: لعملها الذي عملته في الدنيا راضية، لأنها قد وجدت من الثواب عليه في الآخرة، أكثر مما كانت تتوقع وترجو.
فالمراد بالسعي: العمل الذي كان يعمله الإنسان في الدنيا، ويسعى به من أجل الحصول على رضا خالقه، وهو متعلق بقوله راضِيَةٌ. وقدم عليه للاعتناء بشأن هذا السعى.
وقوله- تعالى-: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ بيان لسمو مكانتهم. أى: هم كائنون في جنة
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٤٢.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ١١٤.
375
عالية، مرتفعة المكان والمكانة. فقد وصفت الجنة بالعلو، للمبالغة في حسنها وفي علو منزلتها، فقد جرت العادة أن تكون أحسن الجنات، ما كانت مرتفعة على غيرها.
ثم وصف- سبحانه- هذه الجنة بجملة من الصفات الكريمة فقال: لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً. أى: لا تسمع في هذه الجنة كلمة ذات لغو. واللغو: هو الكلام الساقط الذي لا فائدة فيه. أى: أنك- أيها المخاطب- لا تسمع في الجنة إلا الكلام الذي تسر له نفسك، وتقرّ به عينك، فلفظ اللاغية هنا: مصدر بمعنى اللغو، مثل الكاذبة للكذب، وهو صفة لموصوف محذوف.
فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ أى: في هذه الجنة عيون تجرى بالماء العذب الزلال المتدفق.
قال صاحب الكشاف: قوله: فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ يريد عيونا في غاية الكثرة، كقوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ.
فالمراد بالعين هنا: جنس العيون، وبالجارية: التي لا ينقطع ماؤها.. فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ أى: في الجنة أماكن يجلس عليها أهلها جلوسا مرتفعا عن الأرض.
وينامون فوقها نوما هادئا لذيذا.. والسرر: جمع سرير، وهو الشيء ذو القوائم المرتفعة الذي يتخذ للجلوس والاضطجاع.
ووصف- سبحانه- هذه السرر بالارتفاع، لزيادة تصوير حسنها.
وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ والأكواب جمع كوب. وهو عبارة عن الإناء الذي تشرب فيه الخمر. أى: وفي الجنة أكواب كثيرة قد وضعت بين أيدى أهلها، بحيث يشربون من الخمر التي وضعت فيها، دون أن يجدوا أى عناء في الحصول عليها.
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ والنمارق: جمع نمرقة- بضم النون وسكون الميم وضم الراء-، وهي الوسادة الصغيرة التي يتكئ عليها الجالس والمضجع. أى: وفي الجنة وسائد كثيرة، قد صف بعضها إلى جانب بعض صفا جميلا، بحيث يجدها الجالس قريبة منه في كل وقت.
وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ والزرابي جمع زربية- بتثليث الزاى- وهي البساط الواسع الفاخر، أو ما يشبهه من الأشياء الثمينة التي تتخذ للجلوس عليها. والمبثوثة: أى: المنتشرة على الأرض، من البث بمعنى النشر، كما في قوله- تعالى-: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ.
أى: وفيها بسط فاخرة جميلة.. مبسوطة في كل مكان، ومتفرقة في كل مجلس.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصف الجنة التي أعدها- سبحانه- لعباده المتقين، بعدد من الصفات الكريمة المتنوعة.
376
وصفها بأنها عالية في ذاتها، وبأنها خالية من الكلام الساقط، وبأن مياهها لا تنقطع، وبأن أثاثها في غاية الفخامة، حيث اجتمع فيها كل ما هو مريح ولذيذ.
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا جميعا من أهلها.
ثم ساق- سبحانه- أنواعا من الأدلة المشاهدة، التي لا يستطيع أحد إنكارها، ليلفت أنظار الناس إلى مظاهر قدرته ووحدانيته. فقال- تعالى-: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ.
والاستفهام للتقريع والتوبيخ، والتحريض على التأمل والتفكر، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، والمراد بالنظر: التدبر في تلك المخلوقات، فإن من شأن هذا التدبر، أنه يؤدى إلى الاعتبار والانتفاع.. والخطاب لأولئك الكافرين الجاهلين، الذين أمامهم الشواهد الواضحة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته، ومع ذلك لم ينتبهوا لها.
والمعنى: أيستمر هؤلاء الكافرون في جهلهم وضلالهم، وفي إنكارهم لأمر البعث والحساب والجزاء.. فلا ينظرون نظر اعتبار وتأمل، إلى الإبل- وهي أمام أعينهم- كيف خلقها الله- تعالى- بهذه الصورة العجيبة، وأوجد فيها من الأعضاء المتناسقة، ومن التكوين الخلقي، ما يجعلها تؤدى وظيفتها النافعة لبنى آدم، على أكمل وجه، فمن لبنها يشربون، ومن لحمها يأكلون، وعلى ظهرها يسافرون، وأثقالهم عليها يحملون.
وخص- سبحانه- الإبل بالذكر من بين سائر الحيوانات، لأنها أعز الأموال عند العرب، وأقربها إلى مألوفهم وحاجتهم، وأبدعها خلقا وهيئة وتكوينا.
قال صاحب الكشاف: قوله- تعالى-: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ نظر اعتبار كَيْفَ خُلِقَتْ خلقا عجيبا، دالا على تقدير مقدر، شاهدا بتدبير مدبر، حيث خلقها للنهوض بالأثقال، وجرها إلى البلاد الشاحطة. أى البعيدة، فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت، وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها، لا تعارض ضعيفا، ولا تمانع صغيرا.
فإن قلت: كيف حسن ذكر الإبل، مع السماء والجبال والأرض، ولا مناسبة؟..
قلت: قد انتظم هذه الأشياء، نظر العرب في أوديتهم وبواديهم، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم.. «١».
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٤٥.
377
وقوله- تعالى-: وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ أى: وهلا نظروا إلى السماء نظر اعتبار واتعاظ، فعرفوا أن الذي خلقها هذا الخلق البديع، بأن رفعها بدون أعمدة.. هو الله- عز وجل-.
وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ أى: كيف وجدت بهذا الوضع الباهر بأن نصبت على وجه الأرض نصبا ثابتا راسخا. يحمى الأرض من الاضطراب والتزلزل.
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ أى: كيف سويت وفرشت وبسطت بطريقة تجعل الناس يتمكنون من الانتفاع بخيرها، ومن الاستقرار عليها، وهذا لا ينافي كونها كروية، لأن الكرة إذا اشتد عظمها.. كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الانتفاع بها.
وبعد هذا التوبيخ لأولئك المشركين الذين عموا وصموا عن الحق، ولم ينتبهوا لآيات الله- تعالى- الدالة على قدرته ووحدانيته.. أمر الله- تعالى- نبيه ﷺ أن يداوم على التذكير بدعوة الحق، فقال: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ.
والفاء في قوله فَذَكِّرْ للتفريع، وترتيب ما بعدها على ما قبلها. والأمر مستعمل في طلب الاستمرار والدوام في دعوته الناس إلى الحق، ومفعول: «فذكر» محذوف للعلم به.
وجملة «إنما أنت مذكر» تعليل للأمر بالمواظبة على تبليغ الناس ما أمره بتبليغه.
والمصيطر: هو المتسلط، المتجبر، الذي يجبر الناس على الانقياد لما يأمرهم به.
وقد قرأ الجمهور هذا اللفظ بالصاد، وقرأ ابن عامر بالسين.
أى: إذا كان الأمر كما بينا لك- أيها الرسول الكريم- من أحوال الناس يوم الغاشية، ومن أننا نحن الذين أوجدنا هذا الكون بقدرتنا.. فداوم- أيها الرسول الكريم- على دعوة الناس إلى الدين الحق، فهذه وظيفتك التي لا وظيفة لك سواها، وكل أمرهم بعد ذلك إلينا، فأنت لست بمجبر لهم أو مكره إياهم على اتباعك، وإنما أنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب.
وقوله- سبحانه-: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ كلام معترض بين قوله: فَذَكِّرْ... وبين قوله- تعالى- بعد ذلك: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ والاستثناء فيه استثناء منقطع، و «إلا» بمعنى لكن، و «من» موصولة مبتدأ.. والخبر. «فيعذبه الله العذاب الأكبر»..
أى: داوم- أيها الرسول الكريم- على التذكير.. لكن من تولى وأعرض عن تذكيرك وإرشادك، وأصر على كفره، فنحن الذين سنتولى تعذيبهم تعذيبا شديدا.
378
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بقوله: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ.
وهاتان الآيتان تعليل لقوله- تعالى- قبل ذلك لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ.
والإياب مأخوذ من الأوب بمعنى الرجوع إلى المكان الذي كان فيه قبل ذلك. والمراد به هنا: الرجوع إلى الله- تعالى- يوم القيامة للحساب والجزاء.
أى: داوم- أيها الرسول الكريم- على تذكير الناس بدعوة الحق، بدون إجبار لهم، أو تسلط عليهم، واتركهم بعد ذلك وشأنهم.. فإن إلينا وحدنا رجوعهم بعد الموت لا إلى أحد سوانا، ثم إن علينا وحدنا- أيضا- حسابهم على أعمالهم، ومجازاتهم عليها بالجزاء الذي نراه مناسبا لهم.
وصدر- سبحانه- الآيتين بحرف التأكيد «إن» وعطف الثانية على الأولى بحرف «ثم» المفيد للتراخي في الرتبة، وقدم خبر «إن» في الجملتين على اسمها.. لإفادة التهديد والوعيد، وتأكيد أن رجوعهم إليه- تعالى- أمر لا شك فيه. وأن حسابهم يوم القيامة سيكون حسابا عسيرا، لأنه صادر عمن لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا من عباده الصالحين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
379

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير سورة الفجر
مقدمة وتمهيد
١- سورة «الفجر» من السور المكية الخالصة، بل هي من أوائل ما نزل على النبي ﷺ من سور قرآنية، فهي السورة العاشرة في ترتيب النزول، وكان نزولها بعد سورة «والليل إذا يغشى»، وقبل سورة «الضحى»، أما ترتيبها في المصحف فهي السورة التاسعة والثمانون.
وعدد آياتها: ثلاثون آية في المصحف الكوفي، واثنتان وثلاثون في الحجازي، وتسع وعشرون في البصري.
٢- ومن أهم مقاصد هذه السورة الكريمة: تذكير المشركين بما حل بالمكذبين من قبلهم، كقوم عاد وثمود وفرعون، وبيان أحوال الإنسان في حال غناه وفي حال فقره، وردعه عن الانقياد لهوى نفسه، ولفت نظره إلى أهوال يوم القيامة، وأنه في هذا اليوم لن ينفعه ندمه أو تحسره على ما فات، وتبشير أصحاب النفوس المؤمنة المطمئنة، برضا ربها عنها، وبظفرها بجنة عرضها السموات والأرض.
381
Icon