تفسير سورة الشمس

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الشمس من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (٦) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (١٢) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (١٥)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿وَالشَّمْسِ﴾؛ أي: أقسم لك يا محمد بالشمس ﴿وَضُحَاهَا﴾؛ أي: وبضحاها وهو قسم ثان؛ أي: وبضوئها إذا طلعت وقام سلطانها، وانبسط نورها، وهي كوكب نهاري ينسخ ظهوره كواكب الليل، وجواب القسم في هذا وما بعده قوله الآتي: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩)﴾ كما سيأتي بيانه.
وأقسم سبحانه بهذه الأمور المذكورة (١): لأن له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وقال قوم: إن القسم بهذه الأمور ونحوها مما تقدم ومما سيأتي هو على حذف مضاف؛ أي: ﴿و﴾ رب ﴿الشمس﴾ ورب القمر، وهكذا سائرها، ولا مُلجِىء إلى هذا ولا موجب له.
واعلم: أنه سبحانه أقسم (٢) أولًا بالشمس نفسها غابت أو ظهرت؛ لأنها خلق عظيم يدل على قدرة مبدعها، وأقسم ثانيًا بضوئها؛ لأنه مبعث الحياة في كل حي، فلولاها ما أبصرت حيًا ولا رأيت ناميًا، ولولاها ما وُجد الضياء ولا انتشر النور، وإذا أرسلت خيوطها الذهبية على مكان.. فر منه السقم، وولت جيوش الأمراض هاربة؛ لأنها تفتك بها فتكًا ذربعًا، وقال مجاهد (٣): ﴿وَضُحَاهَا﴾؛ أي: ضوئها وإشراقها، وأضاف الضحى إلى الشمس؛ لأنه إنما يكون عند ارتفاعها، وكذا قال الكلبي، وقال قتادة: ﴿وَضُحَاهَا﴾ نهارها كله، وقال الفراء: الضحى هو النهار، وقال
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
المبرد: أصل الضحى الصبح، وهو نور الشمس، قال أبو الهيثم: الضحى نقيض الظل، وهو نور الشمس على وجه الأرض، وأصله: الضحي فاستثقلوا الياء فقلبوها ألفًا، قيل: والمعروف عند العرب أن الضحى إذا طلعت الشمس، وبعيد ذلك قليلًا، فإذا زاد فهو الضحاء بالمد، قال المبرد: الضحى والضحوة مشتقان من الضح، فأبدلت الواو والألف من الحاء، والضح هو نور الشمس المنبسط على وجه الأرض المضاد للظل، وقيل: الضحى هو حر (١) الشمس؛ لأن حرها ونورها متلازمان، فإذا اشتد نورها.. قوي حرها، وهذا أضعف الأقوال، واختُلف (٢) في جواب القسم ماذا هو؟ فقيل: هو قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩)﴾، قاله الزجاج وغيره، قال الزجاج: حُذفت اللام؛ لأن الكلام قد طال، فصار طوله عوضًا، وقيل: الجواب محذوف؛ أي: أقسمت بالشمس وما بعدها لتبعثن، وقيل تقديره: لَيُدَمْدِمَنَّ الله على أهل مكة؛ لتكذيبهم رسول الله - ﷺ -، كما دمدم على ثمود؛ لأنهم كذبوا صالحًا، وأما ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩)﴾ فكلام تابع لقوله: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨)﴾ على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، وقيل: هو على التقديم والتأخير بغير حذف، والمعنى: قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، والشمس وضحاها إلخ، والأول أولى.
٢ - ﴿و﴾ أقسمت بـ ﴿الْقَمَرِ﴾ وهو كوكب ليلي لهو سلطنة في الليل على سائر الكواكبـ ﴿إِذَا تَلَاهَا﴾؛ أي: إذا تلا القمر الشمس وتبعها في الإضاءة والنور بأن طلع بعد غروبها آخذًا من نورها، وذلك (٣) في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة، وخلفها في النور، وقيل: تلاها في الاستدارة، وذلك حين يكمل ضوءه ويستدير جرمه، وذلك في الليالي البيض، وقيل: ﴿تَلَاهَا﴾ تبعها في الطلوع، وذلك في أول ليلة من الشهر إذا غربت الشمس ظهر الهلال، فكأنه تبعها.
والمعنى (٤): أي وأقسمت بالقمر إذا تلا الشمس وتبعها في الليالي البيض من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة وقت امتلائه، أو قربه من الامتلاء حين يضيء الليل كله من غروب الشمس إلى الفجر، وهذا قسم بالضوء في طور
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
(٣) الخازن.
(٤) المراغي.
آخر وهو ظهوره، وانتشاره الليل كله، وقد يكون المراد بـ ﴿تَلَاهَا﴾؛ أي: تبعها في كل وقت؛ لأن نوره مستمد من نور الشمس، فهو لذلك يتبعها، فهو لها بمنزلة الخليفة، وقد قال بهذا الفراء قديمًا، وأثبته علماء الفلك حديثًا.
٣ - ﴿و﴾ أقسمت بـ ﴿النَّهَارِ﴾ وهو نور الشمس الذي ينسخ ظل الأرض يمحو ظلمة الليل ﴿إِذَا جَلَّاهَا﴾؛ أي: إذا جلى النهار الشمس، وذلك أن الشمس عند انبساط النهار تتجلى تمام الانجلاء، فكأنه جلاها مع أنها التي تبسطه.
يعني (١): لما كان انتشار الأثر، وهو زمان ارتفاع النهار زمانًا لانجلاء الشمس، وكان الجلاء واقعًا فيه.. أسند فعل التجلية إليه إسنادًا مجازيًا مثل نهاره صائم، وقيل: الضمير عائد إلى الظلمة وإن لم يجر لها ذكر؛ لأن المعنى معروف؛ أي: إذا جلى ظلمة الليل وأزالها وكشفها بضوئه، قال الفراء كما تقول: أصبحت باردة؛ أي: أصبحت غداتنا باردة، وقيل: جلّى ما في الأرض من الحيوانات وغيرها بعد أن كانت مستترة في الليل، وقيل: جلى الدنيا، وقيل: جلى الأرض، والأول أولى.
والمعنى: أي وأقسمت بالنهار إذا جلى الشمس وأظهرها، وأتم وضوحها؛ إذ كلما كان النهار أجلى ظهورًا.. كانت الشمس أكمل وضوحًا. وأقسم سبحانه بهذه المخلوقات للإشارة إلى تعظيم أمر الضوء، وإعظام أمر النعمة فيه، وفيه لفت لأذهاننا إلى أنه آية من ايات ربنا الكبرى ونعمة من نعمه العظمى، وفي قوله: ﴿جَلَّاهَا﴾ بيان للحال التي يكشف فيها النهار تلك الحكمة البالغة والآية الباهرة،
٤ - وبعد أن أقسم بالضياء في أطوار مختلفة أقسم بالليل في حال واحدة، فقال: ﴿و﴾ أقسمت بـ ﴿اللَّيْلِ﴾ وهو ظل الأرض الحائلة بين الشمس وبين ما وقع عليه ظلمة الليل ﴿إِذَا يَغْشَاهَا﴾؛ أي: يغشى الليل الشمس، فيغطي ضوءها فتغيب، وتُظلم الآفاق، ولما كان احتجاب الشمس بحيلولة الأرض بيننا وبينها واقعًا في الليل.. صار الليل كأنه حجبها وغطاها، فاسند التغطية والتغشية إلى الليل لذلك، وقيل المعنى: إذا يغشى الليل الآفاق، وقيل: يغشى الأرض وإن لم يجر لهما ذكر؛ لأن ذلك معروف، والأول أولى، ولعل (٢) اختيار صيغة المضارع هنا على الماضي؛
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
للدلالة على أنه لا يجري عليه تعالى زمان، فالمستقبل عنده كالماضي مع مراعاة الفواصل، ولم يجىء غشاها من التغشية؛ لأنه يتعدى إلى المفعولين، وقال الشيخ الطنطاوي: وفي قوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤)﴾ مجاز عقلي؛ لأن الذي يغشى إنما هي الأرض، فأسند ذلك لليل الذي هو من آثار ذلك، ففي هذا بيانان: بيان أن ضوء القمر من الشمس، وأن الليل لم يحدث من الشمس؛ لأنها دائمًا مشرقة، وإنما حدث من دوران الأرض، فانظر كيف جعل القمر تاليًا والأرض سائرة حتى حدث الليل. انتهى. وحيث كانت الواوات العاطفة نواب الواو الأولى القسمية القائمة مقام الفعل، والباء سادَّة مسدَّها معًا في قولك: أقسم بالله، حق أن يعملن عمل الفعل، والجار جميعًا، كما ضرب زيد عمرًا وبكر خالدًا، فترفع بالواو وتنصب بها، لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما، فاندفع ما يورد هاهنا من تلك الواو، إن كانت عاطفة يلزم العطف على معمولي عاملين مختلفين، وإن كانت قسمية يلزم تعدد القسم مع وحدة الجواب، وحاصل الدفع اختيار الشق الأول، ومنع لزوم المحذور.
والمعنى (١): أي وأقسم بالليل إذا يغشى الشمس، فيزيل ضوءها في الليالي الحالكة التي لا أثر لضوء الشمس فيها، لا مباشرة كما في النهار، ولا بالواسطة كضوء القمر المستفاد منها، وهي قليلة، فإنها ليلة أو ليلتان أو بعض ليال في الشهر.
وفي هذا: إيماء إلى أن الليل يطرأ على هذا الكوكب العظيم، فيُذهب ضوءها، ويحيل نور العالم ظلامًا، فهو؛ أي: هذا الكوكب على جليل نفعه، وعظيم فائدته لا يُتخذ إلهًا؛ لأن الإله لا يحول ولا يزول، ولا يعتريه تغير ولا أُفول، وفيه ردع وتأنيب للمشركين على تأليهه وعبادته،
٥ - وبعد أن ذكر الأوصاف الدالة على عظمة هذه الأجرام.. أردفه بذكر صفات تدل على حدوثها، فقال: ﴿و﴾ أقسمت بـ ﴿السَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ أي: ومن بناها وخلقها على غاية العظم والعلو، وهو الله سبحانه وتعالى، فـ ﴿ما﴾ موصول اسمي، ورجح (٢) هذا القول ابن جرير، وإيثار ﴿ما﴾ على مَن لإِرادة الوصفية تعجبًا؛ لأن ما يسأل بها عن صفة من
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
يعقل، كأنه قيل: وبالقادر العظيم الشأن الذي بناها، ويجوز أن تكون ﴿ما﴾ مصدرية؛ أي: والسماء وبنيانها، ورجح هذا القول الفراء والزجاج، ولا وجه لقول من قال: إن جعلها مصدرية مخل بالنظم، وكذا الكلام في ﴿ما﴾ في قوله: ﴿وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (٦)﴾، والمعنى؛ أي: وأقسمت (١) بالسماء ومن قدرها على النحو الذي اقتضته مشيئته وحكمته، وفي ذكر البنيان إشارة إلى ما انطوى عليه رفعها وتسويتها من بارع الحكمة وتمام القدرة، وأن لها صانعًا حكيمًا، وقد أحكم وضعها وأجاد تقديرها، فإنه شد هذه الكواكب بعضها إلى بعض برباط الجاذبية العامة، كما تُربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع حتى يتماسك.
ولما كان الخطاب موجهًا إلى قوم لا يعرفون الله بجليل صفاته، وكان القصد منه أن ينظروا في هذا الكون نظرة من يطلب للأثر مؤثرًا، فينتقلوا من ذلك إلى معرفته تعالى.. عبر عن نفسه بلفظ ﴿ما﴾ التي هي الغاية في الإبهام.
٦ - ﴿و﴾ أقسمت بـ ﴿الْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾؛ أي: ومن بسطها من كل جانب على الماء كي يعيش أهلها فيها ومهدها للسكنى، وجعل الناس ينتفعون بما على ظهرها من نبات وحيوان، وبما في باطنها من مختلف المعادن، ونحو الآية قوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ والطحو كالدحو بمعنى البسط، وإبدال الطاء من الدال جائز، وليس في ذلك دليل على أن الأرض غير كروية، كما يزعم بعض الجاهلين، وإفراد بعض (٢) المخلوقات بالذكر وعطف الخالق عليه والإقسام بهما ليس لاستوائهما في استحقاق التعظيم، بل النكتة في الترتيب أن يبين وجود الصانع العالم، وكمال قدرته، ويظفر العقل بإدراك جلال الله وعظمة شأنه حسبما أمكن، فإنه تعالى لما أقسم بالشمس التي هي أعظم المحسوسات شرفًا ونفعًا، ووصفها بأوصافها الأربعة وهي ضوءها، وكونها متبوعة للقمر، ومتجلية عند ارتفاع النهار، ومختفية متغطية بالليل.. أقسم بالسماء التي هي مسير الشمس وأعظم منها، فقد نبه على عظمة شأنها، لما عُلم أن الإقسام بالشيء تعظيم له، ومن المعلوم أنهما لحركاتهما الوضعية وتغير أحوالهما من الأجسام الممكنة المحتاجة إلى صانع مدبر كامل القدرة بالغ الحكمة، فيتوسل العقل بمعرفة أحوالهما وأوصافهما إلى كبرياء
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
39
صانعهما، فكان الترتيب المذكور كالطريق إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى بقاع عالم الربوبية وبيداء كبريائه الصمدية.
وقصارى ما سلف (١): أنه تعالى بعد أن أقسم بالضياء والظلمة.. أقسم بالسماء وما فيها من الكواكب وبالذي بناها وجعلها مصدرًا للضياء، وبالأرض والذي جعلها لنا فراشًا، ومصدرًا للظلمة، فإنها هي التي يحجب بعض أجزائها ضوء الشمس عن بعضها الآخر، فيظهر فيه الظلام.
قال المفسر الشهيد سيد قطب - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥)﴾ ولفظ (٢) السماء حين يُذكر يسبق إلى الذهن: هذا الذي نراه فوقنا، كالقبة حيثما اتجهنا تتناثر فيه النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها ومداراتها، فأما حقيقة السماء فلا ندريها، وهذا الذي نراه فوقنا متماسكًا لا يختل ولا يضطرب تتحقق فيه صفة البناء بثباته وتماسكه، أما كيف هو مبني، وما الذي يمسك أجزاءه فلا تتناثر وهو سابح في الفضاء الذي لا نعرف له أو، ولا آخرًا، فذلك ما لا ندريه، وكل ما قيل عنه مجرد نظريات قابلة للنقض والتعديل والإقرار لها والإثبات، إنما نوقن من وراء كل شيء أن يد الله سبحانه هي تمسك هذا البناء ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ وهذا هو العلم المتيقن الوحيد، اهـ. وقال الطنطاوي في "تفسيره" عند قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥)﴾؛ أي (٣): ومن بناها، وأَيُّ بانٍ هو، إنه لا يضاهيه بَنَّاء فيما يعلم الناس، فأي بَنَّاء يستطيع أن يبني قبة زرقاء مرصعة بمصابيح، تلك المصابيح تجري وهي لا تتصادم إلا في أوقات نادرة، وإذا تصادمت.. أصلحت، وهي في نفس السقف، وعادت جديدة، ثم كيف يتسنى له جمع أجسام عظيمة في بنائه ما بين نارية، وأخرى صلبة، وأخرى لطيفة لطفًا أرق من الهواء، ومن الضياء وهو الأثير.
وكيف يراها الإنسان والحيوان سقفًا ساكنًا هادئًا لا حركة فيه، فالشمس ساكنة والقمر ساكن، والنجوم ساكنة لا حركة فيها، وترى هذه العوالم كلها في الليالي المظلمة كأنها تتغنى، وكأنها عروس حُلِّيَت في حِبَر، والكون كله سكون في سكون، مع أنه لا شيء مما يراه ساكن، فالهواء متحرك، والأثير متحرك،
(١) المراغي.
(٢) ظلال القرآن.
(٣) جواهر الطنطاوي.
40
والكواكب كلها متحركات، والشمس والقمر والنجوم السيارة كلها في حركات، لو اطلع عليها.. لخر صعقًا ولدهش منها، هذا فضلًا عما في تلك العوالم من المزعجات والمهلكات التي تكون فيها على الدوام، فيا ليت شعري أيُّ بانٍ يقدر على ذلك، فيرى الإنسان أن المتحركات سواكن، وأن المخاوف أمان، وأن هذا كله إنما هو ليكون له سقفًا يحميه ونعمًا عليه ترضيه، وكأنها ليست مقصودة إلا له ولا هي مبنية إلا لأجله، فيا عجبًا لمتحرك ساكن، وعظيم صغير، وقريب بعيد، إن العجب سيأخذنا كل مأخذ، ويدهشنا أن نكون في عالم بديع الإتقان عجيب البنيان حسن الهندام، والحق أحق أن هذه الدنيا بديعة الحسن، ظريفة الصنع، بهيجة المنظر، سارة للمفكرين، كما أنها سجن الغافلين.
كيف نجعل الكواكب التي عدت بمئات الملايين، كأنها درر مرصعة في سقفنا، أليس من العجب أن تكون تلك الكواكب لمآرب في تلك السباسب، ولبديع الصنع وحسن الإتقان، وجمال الوضع، تتراءى لنا أنها صُنعت لأجلنا، وليزين بها سقفنا، وكيف دُبرت هذه الحكمة، فسبحانه من حكيم عليم، قدير على كل شيء، وإليه تُرجعون. انتهى.
٧ - ثم أقسم سبحانه بعدما ذكر بالنفس الإنسانية تنبيهًا على ما لها من شرف ومكانة في هذا الوجود، وفي هذه النفس الإنسانية من الأسرار والعجائب والغرائب ما يندهش له ذوو العقول النيرة الكبيرة، وهي سر من أسرار الخلق العظيمة، فقال: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧)﴾؛ أي: وأقسمت بنفس إنسانية ومن سواها وأنشأها وأبدعها، وركب فيها قواها الباطنة والظاهرة، لتكون مستعدة لكمالاتها، وحدد لكل منها وظيفة تؤديها، وألف بها الجسم الذي تستخدمه من أعضاء قابلة لاستعمال تلك القوى، والتنكير (١) فيها؛ للتفخيم على أن المراد نفس ادم عليه السلام، أو للتكثير وهو الأنسب للجواب، وقال عطاء: يريد جميع ما خُلق من الجن والإنس، والكلام في ﴿ما﴾ هذه كما تقدم، ومعنى ﴿سَوَّاهَا﴾ خلقها وأنشأها وسوى أعضاءها.
وذكر سبحانه في تعريف ذات الله تعالى السماء والأرض والنفس (٢)؛ لأن الاستدلال على الغائب لا يمكن إلا بالشاهد، والشاهد ليس إلا العالم الجسماني،
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
وهو إما علوي بسيط كالسماء، وإما سفلي كالأرض، وإما مركب، وهو أقسام: أشرفها ذوات الأنفس، وقد استدل بعطف ما بعدها على ما قبله على عدم جواز تقدير المضاف فيه مثل ورب الشمس، وكذا في غيره إذ المقدر في المعطوف عليه يقدر في المعطوف، فيكون التقدير: ورب ما بناها ورب ما طحاها ورب ما سواها، وبطلانه ظاهر، فإن الظاهر أن تكون في مواضعها موصولة فاعرف.
٨ - ثم بيّن أثر هذه التسوية، فقال: ﴿فَأَلْهَمَهَا﴾؛ أي: فألهم كل نفس وعرفها ﴿فُجُورَهَا﴾؛ أي: طريق فجورها وشرها؛ لتجتنبها ولا تعمل به، والفجور: شق ستر الديانة، وقدَّمه على التقوى؛ لمراعاة الفواصل، أو لشدة الاهتمام بنفسه؛ لأنه إذا انتفى الفجور.. وجدت التقوى، فقدم ما هُمْ بشأنه أَعْنَى: ﴿وَتَقْوَاهَا﴾؛ أي: وأعلم كل نفس طريق تقواها؛ لتعمل به. و ﴿الفاء﴾ في قوله: ﴿فَأَلْهَمَهَا﴾ إن كانت لسببية التسوية، فالأمر ظاهر، وإن كانت لتعقيبها، فلعل المراد منها إتمام ما يتوقف عليه الإلهام من القوى الظاهرة والباطنة، والإلهام: إلقاء الشيء في الروع، إما من جهة الله تعالى، أو من جهة الملأ الأعلى، وأصل إلهام الشيء: ابتلاعه.
والمعنى: أفهم النفس الفجور والتقوى، وعرّفها حالهما من الحسن والقبح، وما يؤدي إليه كل منهما، ومكَّنها من اختيار أيهما شاءت، قال بعضهم: الإلهام لا يكون إلا في الخير، فلا يقال في الشر: ألهمني الله كذا، وأما قوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨)﴾ فالمراد فجورها؛ لتجتنبه لا لتعمل به، وتقواها لتعمل به؛ إذ ليس في كلام الله تناقض أبدًا، فالإلهام في قسم الفجور إلهام إعلام، لا إلهام عمل، فإن الله سبحانه لا يأمر بالفحشاء، وكما لا يأمر بالفحشاء لا يلهم بها، فإنه لو ألهم بها ما قامت الحجة لله على العبد، وهذه الآية مثل قوله: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)﴾ أي: بينا له الطريقين وقال بعضهم: لم ينسب سبحانه إلى النفس خاطر المباح ولا إلهامه فيها، وسبب ذلك أن المباح لها ذاتي، فبنفس ما خلق عينها ظهر المباح فهو من صفاتها النفسية التي لا تُعقل النفس إلا بها، فخاطر المباح نعت خاص كالضحك للإنسان.
وفي "التأويلات النجمية": تدل الآية على كون النفوس كلها حقيقة واحدة متحدة تختلف باختلاف توارد الأحوال والأسماء، فإن حقيقة النفس المطلقة من غير اعتبار حكم معها إذا توجهت إلى الله تعالى توجهًا كليًا.. سميت مطمئنة، وإذا
توجهت إلى الطبيعة توجهًا كليًا.. سميت أَمَّارة، وإذا توجهت تارة إلى الحق بالتقوى وتارة أخرى إلى الطبيعة البشرية بالفجور.. سميت لوامة. انتهى.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان رسول الله - ﷺ - يقول عند هذه الآية: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها". قال محمد بن كعب: إذا أراد الله بعبده خيرًا.. ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به الشر.. ألهمه الشر فعمل به، وقال ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور، واختار هذا القول الزجاج، وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان.
قال الواحدي: وهذا هو الوجه لتفسير الإلهام، فإن التبيين والتعليم والتعريف دون الإلهام، والإلهام: أن يوقع في قلبه ويجعل فيه، وإذا أوقع الله سبحانه في قلب عبده شيئًا.. ألزمه ذلك الشيء، قال: وهذا صريح في أن الله خلق في المؤمن تقواه، وفي الكافر خذلانه.
وخلاصة ذلك (١): أي فألهم كل نفس الفجور والتقوى، وعرّفها حالهما بحيث يتميز الرشد من الغي، ويتبين لها الهدى من الضلال، وجعل ذلك معروفًا، فالأولى البصائر،
٩ - وبعد أن ذكر أنه ألهم النفوس معرفة الخير والشر.. ذكر ما تلقاه جزاءً على كل منهما، فقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾؛ أي: ربح وفاز وظفر ﴿مَنْ زَكَّاهَا﴾؛ أي: من زكى نفسه ونماها، وطهرها حتى بلغت غاية ما هي مستعدة له من الكمال العقلي والعملي حتى تثمر بذلك الثمر الطيب لها ولمن حولها، وهذا جواب القسم، وحذف (٢) اللام لطول الكلام، وقال الزجاج: طول الكلام صار عوضًا عن اللام كما مر، وإنما تركه في "الكشاف" وغيره؛ لأنه يوجب الحذف، والحذف لا يجب مع الطول، ولم يجعل ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾ جوابًا؛ لأن إقسام الله إنما يؤكد به الوعد أو الظفر، وإدراك البغية، وهو إما دنيوي كالظفر بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا من الغنى والعز والبقاء مع الصحة ونحوها، أو أخروي وهو بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل، ولذلك قيل: لا عيش إلا عيش الآخرة، وأصل الزكاة: الزيادة والنمو، كما سيأتي بسطه في مبحث اللغة،
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
والمعنى: أقسمت بهذه الأمور العظام المذكورة على أنه قد فاز بكل مطلوب، ونجا من كل مكروه، من أنمى النفس وأعلاها بالتقوى؛ أي: رفعها وأظهرها وشهرها بها، فأهل الصلاح يظهرودن أنفسهم ويشهرونها بما سطع من أنوار تقواهم إلى الملأ الأعلى، وبملازمتهم مواضع الطاعات ومحافل الخيرات، بخلاف أهل الفسق، فإنهم يخفون أنفسهم ويدسونها في المواضع الخفية، لا يلوح عليهم سيما سعادة يشتهرودن به بين عباد الله المقربين.
وأصل هذا: أن أجواد العرب كانوا ينزلون في أرفع المواضع، ويوقدون النار للطارقين، لتكون أشهر، واللئام ينزلون الأطراف والهضاب؛ لتخفى أماكنهم عن الطالبين، فأخفوا أنفسهم، فالبار أيضًا أظهر نفسه بأعمال البر والفاجر دسها، وتُستعمل التزكية بمعنى التطهير أيضًا، كما قال في "القاموس": الزكاة: صفوة الشيء، وما أخرجته من مالك؛ لتطهره به، فالمعنى عليه: قد أفلح من طهر نفسه من المخالفات الشرعية عقدًا وخلقًا وعملًا وقولًا، فقد أقسم تعالى بسبعة أشياء على فلاح من زكى نفسه ترغيبًا في تزكيتها.
وكون أفعال العبد بتقدير الله تعالى (١)، وخلقه لا ينافي إسناد الفعل إلى العبد، فإنه يقال: ضرب زيد عمرًا، ولا يقال: ضرب الله عمرًا، مع أن الضرب بخلقه، وتقديره، وذلك لأن وضع الفعل بالنسبة إلى الكاسب، قال الراغب: وزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره، وذلك ينسب تارة إلى العبد؛ لاكتسابه ذلك نحو: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩)﴾، وتارة إلى الله؛ لكونه فاعلًا خالقًا لذلك في الحقيقة نحو: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ وتارة إلى الشيء؛ لكونه واسطة في وصول ذلك إليهم نحو: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾، وتارة إلى العبادة التي هي آلة في ذلك نحو: ﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً﴾ انتهى.
١٠ - وقوله: ﴿وَقَدْ خَابَ﴾ وخسر معطوف على ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ ﴿مَنْ دَسَّاهَا﴾؛ أي: أضلها وأغواها، قال أهل اللغة: دساها أصله: دسسها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فمعنى ﴿دَسَّاهَا﴾ في الآية: أخفاها وأخملها، ولم يشهرها
(١) روح البيان.
بالطاعة والعمل الصالح، وقال ابن الأعرابي: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)﴾؛ أي: دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم، وفي "القاموس" كما سيأتي: خاب يخيب خيبة: حُرِم وخسر، ولم ينل ما طلب، وأصل دس: دسس، كتقضى البازي وتقضض من التدسيس، وهو الإخفاء مبالغة الدس، واجتماع الأمثال لَمَّا أوجب الثقل قلبت السين الآخيرة ياء، وقال الراغب: الدس: إدخال الشيء في الشيء بضرب من الإكراه، ودساها؛ أي: دسسها في المعاصي. انتهى.
والمعنى (١): أي وقد خسر نفسه وأوقعها في التهلكة، من نقصها حقها بفعل المعاصي، وأخفاها بالفجور ومجانبة البر والقربات، وبإرسالها في المشتهيات الطبيعية، فإن من سلك سبيل الشر وطاوع داعى الشهوة.. فقد فعل ما تفعل البهائم، وبذلك يكون قد أخفى عمل القوة العاقلة التي اختص بها الإنسان، واندرج في عداد الحيوان، ولا شك أنه لا خيبة أعظم ولا خسران أكبر من هذا المسخ الذي يجلبه الشخص لنفسه بسوء أعماله.
١١ - وقوله: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾ المراد به القبيلة، ولذا قال: ﴿بِطَغْوَاهَا﴾ بضمير المؤنثة الغائبة، ولم يقل: بطغواهم كلام (٢) مستأنف وارد لتقرير مضمون. قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)﴾ فإن الطغيان أعظم أنواع التدسية، والطغوى - بالفتح - مصدر بمعنى الطغيان إلا أنه لما كان أشبه برؤوس الآيات.. اختير على لفظ الطغيان وإن كان الطغيان أشهر، وفي "الكشف": الطغوى من الطغيان، فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واوًا في الاسم، وتركوا القلب في الصفة. والباء فيه للسببية، أي: فعلت التكذيب بسبب طغيانها، كما تقول: ظلمني بجراءته على الله تعالى، فالفعل منزل منزلة اللازم، فلا يقدر له مفعول وهو المشهور، أو كذبت ثمود نبيها صالحًا عليه السلام، فحُذف المفعول للعلم به، ويجوز أن يكون صلة للتكذيب؛ أي: كذبت بما أوعدت به من العذاب ذي الطغوى والتجاوز عن الحد، وهو الصيحة، كقوله تعالى: ﴿فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾؛ أي: بصيحة ذات طغيان.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿بِطَغْوَاهَا﴾ بفتح الطاء، وقرأ الحسن والجحدري ومحمد بن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
كعب وحماد بن سلمة بضم الطاء، فعلى القراءة الأولى هو مصدر بمعنى الطغيان، وإنما قُلبت الياء واوًا للفرق بين الاسم والصفة؛ لأنهم يقلبون الياء في الأسماء كثيرًا نحو: تقوى وسروى، وعلى القراءة الثانية هو مصدر كالرجعى والحسنى ونحوهما، وكان قياسها الطغيا بالياء كالسقيا، لكنهم شذوا فيه، وقيل: هما لغتان، والمعنى؛ أي: كذبت ثمود نبيَّها صالحًا عليه السلام بسبب طغيانها وبغيها،
١٢ - ثم بيّن أمارة ذلك التكذيب، فقال: ﴿إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (١٢)﴾: منصوب بـ ﴿كذبت﴾ أو ﴿بالطغوى﴾؛ أي: حين قام أشقى ثمود، وهو قُدار بن سالف امتثالًا لأمر من بعثه إليه، فإن ﴿انْبَعَثَ﴾ مطاوع لبعث، يقال: بعثت فلانًا على أمرٍ فانبعث له وامتثل.
قال في "كشف الأسرار": الانبعاث: الإسراع في الطاعة للباعث، أو حين قام قدار، ومن تصدى معه لعقر الناقة من الأشقياء، فإن أفعل التفضيل إذا أضيف يصلح للواحد والمتعدد، والمذكر والمؤنث، ويدل على (١) الأول قوله تعالى، في سورة القمر: ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (٢٩)﴾، فإنه يدل على أن المباشر واحد معين، وفضل شقاوتهم على من عداهم مباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضى به.
١٣ - ﴿فَقَالَ لَهُمْ﴾؛ أي: لثمود ﴿رَسُولُ اللَّهِ﴾ حين علم ما عزموا عليه من العقر، وهو صالح عليه السلام بن عبيد بن جابر بن ثمود بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، فالإضافة فيه للعهد، عبر عنه بعنوان الرسالة إيذانًا بوجوب طاعته وبيانًا لغاية عتوهم وتماديهم في الطغيان ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ منصوب (٢) على التحذير وإن لم يكن من الصور التي يجب فيها حذف العامل، وأضيفت إليه تعالى للتشريف، كبيت الله؛ أي: ذروا ناقة الله الدالة على وحدانيته، وكمال قدرته، وعلى نبوتي، واحذروا عقرها ﴿وَسُقْيَاهَا﴾؛ أي: شربها، وهو نصيبها من الماء، ولا تطردوها عنه في نوبتها، فإنها كان لها شرب يوم معلوم، ولهم ولمواشيهم شرب يوم آخر، وكانوا يستضرون بذلك في مواشيهم، فهموا بعقرها، قال أبو حيان (٣): وقرأ الجمهور: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ بنصب التاء، وهو منصوب على التحذير مما يجب إضمار عامله؛ لأنه قد عُطف عليه، فصار حكمه بالعطف حكم المكرر، كقولك: الأسد الأسد؛ لأن العامل في التحذير يضمر وجوبًا في ثلاثة مواضع:
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
أحدها: أن يكون المحذر به نفس إياك وبابه.
الثاني: أن يكون عطف.
الثالث: أن يكون هناك تكرار، كقولك: الأسد الأسد اهـ. من "السمين" بتصرف، وما ذكرناه آنفًا نقلًا عن صاحب "الروح" فغير سديد.
والمعنى (١): أي فقال لهم صالح عليه السلام: احذروا ناقة الله التي جعلها آية نبوتي، واحذروا شربها الذي اختصت به في يومها، فلا تؤذوها ولا تتعدَّوْا عليها في شربها ولا في يوم شربها، وكان صالح عليه السلام قد اتفق معهم على أن للناقة شرب يوم، ولهم ولمواشيهم شرب يوم، فكانوا يجدون في أنفسهم حرجًا لذلك ويتضررون منه، فهموا بقتلها، فحذرهم أن يفعلوا ذلك، وخوفهم عذاب الله تعالى وعقابه الذي ينزله بهم إن هم أقدموا على هذا الفعل،
١٤ - لكنهم كذبوه ولم يستمعوا النصيحة، كما أشار إلى ذلك بقوله: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾؛ أي: فكذبوا رسول الله صالحًا عليه السلام في وعيده لهم بقوله: ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ قال أبو حيان: والجمهور على أنهم كانوا كافرين، وروي أنهم كانوا قد أسلموا قبل ذلك، وتابعوا صالحًا بمدة، ثم كذبوا وعقروا، كما قال: ﴿فَعَقَرُوهَا﴾؛ أي: فعقر الناقة أشقاهم قدار بن سالف، وأسند العاقر إلى الجماعة؛ لكونهم راضين به ومتمالئين عليه، قال قتادة: إنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم، قال الفراء: عقرها اثنان، والعرب تقول: هذان أفضل الناس وهذان خير الناس، فلهذا لم يقل أشقَياها؛ أي: عقرها قدار ومن ساعده في رجليها، فأسقطوها، ثم ذبحوها، فتقاسموا لحمها. قال السهيلي (٢): العاقر قدار بن سالف، وأمه قديرة، وصاحبه الذي شاركه في عقر الناقة اسمه مصدع بن وهر أو ابن جهم، والعقر: النحر، وقدم التكذيب على العقر؛ لأنه كان سبب العقر، وفي الحديث أنه - ﷺ - قال لعلي: "يا علي أتدري من أشقى الأولين؟ " قال: الله ورسوله أعلم. قال: "عاقر الناقة، قال: أتدري من أشقى الآخِرين؟ " قال: الله ورسوله أعلم. قال: "قاتلك" رواه أحمد وابن أبي حاتم والحاكم وأبو نعيم وغيرهم عن عمار بن ياسر.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أنهم لم يتورعوا عن تكذيبه، ولم يحجموا عن عقر الناقة، ولم يبالوا بما أنذرهم به من العذاب وأليم العقاب، ثم بيّن عاقبة عملهم، وذكر ما يستحقونه من الجزاء، فقال: ﴿فَدَمْدَمَ﴾؛ أي: أطبق ﴿عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ﴾ أليم العذاب وشديد العقاب ﴿بـ﴾ سبب ﴿ذنبهم﴾ الشنيع؛ وهو الصيحة الهائلة، وأهلكهم هلاك استئصال، ولم يُبق منهم ديارًا ولا نافخ نار.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَدَمْدَمَ﴾ بميم بعد دالين، وقرأ ابن الزبير: ﴿فدهدم﴾ بهاء بينهما، قال القرطبي: وهما لغتان، كما يقال: امتقع لونه واهتقع لونه؛ أي: أطبق عليهم العذاب مكررًا ذلك عليهم، وهو من تكرير قولهم: ناقة مدمومة إذا طُليت بالشحم وأحيطت به، بحيث لم يبق منها شيء لم يمسه الشحم، ودم الشيء سدّه بالقبر، ودممت على القبر وغيره إذا أطبقت عليه، ثم كررت الدال؛ للمبالغة في الإحاطة، فالدمدمة من الدم كالكبكبة من الكب. وقوله: ﴿بِذَنْبِهِمْ﴾؛ أي: بسبب (٣) ذنبهم المحكي والتصريح بذلك مع دلالة الفاء عليه للإنذار بعاقبة الذنب؛ ليعتبر به كل مذنب ﴿فَسَوَّاهَا﴾؛ أي: فسوى القبيلة في العقوبة، ولم يفلت منها أحد، بل أخذ بها كبيرهم وصغيرهم ذكرهم وأنثاهم ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ فأعاد عليها الضمير بالتأنيث، كما أعاد عليها في قوله: ﴿بِطَغْوَاهَا﴾ أو سوى الدمدمة والإهلاك بينهم، فعمهم بها، واستوت على صغيرهم وكبيرهم، وقيل: سوى الأرض عليهم، فجعلهم تحت التراب؛ أي: جعل الأرض فوقهم مستوية كان لم تُثر ودمر مساكنها على ساكنيها. روي أنهم لما رأوا علامات العذاب.. طلبوا صالحًا عليه السلام أن يقتلوه، فأنجاه الله تعالى، كما قال في سورة هود: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا﴾.
١٥ - ﴿وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (١٥)﴾ ﴿الواو﴾ (٤) للاستئناف، أو للحال من الضمير المستتر في ﴿فَسَوَّاهَا﴾ الراجع إلى الله تعالى؛ لأنه أقرب مذكور، والضمير في ﴿عُقْبَاهَا﴾؛ للدمدمة؛ أي: سوى الله سبحانه وتعالى الدمدمة عليهم حال كونه تعالى غير خائف عاقبة الدمدمة عليهم ولا تبعتها، أو عاقبة هلاك ثمود، كما يخاف سائر المعاقبين
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
48
من الملوك والولاة، فيترحم بعض الترحم، وذلك أن الله تعالى لا يفعل إلا بحق، وكل من فعل بحق فإنه لا يخاف عاقبة ما فعل، ولا يبالي بعاقبة ما صنع وإن كان من شأنه الخوف، وقيل: الضمير في ﴿يَخَافُ﴾ إلى العاقر؛ أي: ولا يخاف قدار ولا هم ما يعقب عقرها ويتبعه وما يترتب عليه من أنواع البلاء والمصيبة والعقاب، مع أن صالحًا عليه السلام قد أخبرهم بها، وقال السدي والضحاك والكلبي: إن الضمير يرجع إلى العاقر؛ لأن الكلام فيه لا إلى الله؛ أي: لم يخف الذي عقرها عاقبة ما صنع، وقيل الضمير إلى صالح عليه السلام؛ أي: ولا يخاف رسول الله عليه السلام عاقبة إهلاك قومه ولا يخشى ضررًا يعود عليه من عذابهم؛ لأنه قد أنذرهم، والأول أولى، وقرأ الجمهور (١): ﴿وَلَا يَخَافُ﴾ بالواو، وقرأ نافع وابن عامر وأبىٌّ والأعرج: ﴿فلا تخاف﴾ بالتاء، وقرىء: ﴿ولم يخف﴾ وهو مروي عن النبي - ﷺ -، ذكره في "المراح".
والمعنى: أن الله أهلكهم ولا يخاف عاقبة إهلاكهم (٢)؛ لأنه لم يظلمهم فيخيفه الحق، وليس هو بالضعيف حتى يناله منهم مكروه تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
والمراد أنه بالغ في عذابهم إلى غاية ليس فوقها غاية، فإن من يخاف العاقبة لا يبالغ في الفعل، أما الذي لا يخاف العاقبة ولا تبعة العمل، فإنه يبالغ فيه؛ ليصل إلى ما يريد، وقد علمت أن القصص مسوق لتسلية رسوله - ﷺ - بأنه سينزل بالمكذبين من قومه مثل ما أنزل بثمود، ولقد صدق الله وعده، فأهلك من أهلك من أهل مكة في وقعة بدر بأيدي المؤمنين، ثم لم يزل يحل بهم الخزي والعذاب بالقتل تارة وبالإبعاد أخرى، حتى لم يبق في جزيرة العرب مكذب، ولو سارت الدعوة سيرتها في عهد الصحابة.. لما بقي في الأرض مكذب، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الإعراب
﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤)﴾.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
49
﴿وَالشَّمْسِ﴾ ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم. ﴿الشمس﴾: مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا؛ لكونه مع الواو تقديره: أقسم بالشمس، والجملة القسمية مستأنفة استئنافًا نحويًا. ﴿وَضُحَاهَا﴾: معطوف على ﴿وَالشَّمْسِ﴾. ﴿وَالْقَمَرِ﴾: معطوف على ﴿وَالشَّمْسِ﴾ أيضًا. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بفعل القسم المحذوف. ﴿تَلَاهَا﴾: فعل ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على ﴿القمر﴾، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾؛ أي: وأقسم بالقمر وقت تلوه وتبعه للشمس فإن قلت: إن فعل القسم إنشاء وزمانه للحال، فلا يعمل في ﴿إِذَا﴾؛ لأنها للاستقبال.
قلت: إنما يكون فعل القسم للحال إذا لم يكن متعلقًا على شرط، فيجوز أن يقال: أقسم بالله إذا طلعت الشمس، فالقسم في الحال والطلوع في المستقبل، ﴿وَالنَّهَارِ﴾: معطوف على ﴿وَالشَّمْسِ﴾ أيضًا ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بفعل القسم المحذوف، وجملة ﴿جَلَّاهَا﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾. ﴿وَاللَّيْلِ﴾ معطوف على ﴿وَالشَّمْسِ﴾. ﴿إِذَا﴾: ظرف مجرد متعلق بفعل القسم المحذوف، وجملة ﴿يَغْشَاهَا﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾.
﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (٦) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)﴾.
﴿وَالسَّمَاءِ﴾ معطوف على ﴿وَالشَّمْسِ﴾. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: اسم موصول بمعنى مَن في محل الجر معطوف على ﴿السماء﴾. ﴿بَنَاهَا﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿ما﴾، ومفعول به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ويجوز أن تكون ﴿ما﴾ مصدرية، والمصدر المنسبك منها ومن الفعل معطوف على ﴿السماء﴾؛ أي: وأقسمت بالسماء وبنائها، فالمصدر بمعنى اسم الفاعل؛ أي: أقسمت بالسماء وبانيها، وهو الرب سبحانه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿وَالشَّمْسِ﴾، ﴿وَمَا﴾: اسم موصول بمعنى مَن معطوف على ﴿الْأَرْضِ﴾، وجملة ﴿طَحَاهَا﴾ صلة الموصول، ويجوز أن تكون مصدرية أيضًا وإن منعه الزمخشري. ﴿وَنَفْسٍ﴾: معطوف على ﴿وَالشَّمْسِ﴾. ﴿وَمَا﴾: معطوف على ﴿نفس﴾، وجملة ﴿سَوَّاهَا﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ موصولة كانت أو مصدرية؛ أي: أقسمت بنفس ومن سواها. ﴿فَأَلْهَمَهَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ألهمها﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول معطوف على ﴿سَوَّاهَا﴾. ﴿فُجُورَهَا﴾:
50
مفعول ثان. ﴿وَتَقْوَاهَا﴾: معطوف على ﴿فُجُورَهَا﴾. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿أَفْلَحَ﴾: فعل ماض. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل، وجملة ﴿زَكَّاهَا﴾: صلة الموصول، وجملة ﴿أَفْلَحَ﴾: جواب القسم، وحذفت اللام لطول الكلام، وقيل: الجواب محذوف تقديره: لتبعثن كما مر بسطه. ﴿زَكَّاهَا﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَن﴾ و ﴿الهاء﴾: مفعول به، وقيل: الفاعل ضمير يعود على الله، و ﴿الهاء﴾: يعود على ﴿مَن﴾ بمعنى النفس؛ أي: من زكاها الله تعالى بالطاعة، وتكون الصلة سببية. ﴿وَقَدْ خَابَ﴾: فعل ماض، ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ على كونها جواب القسم، وجملة ﴿دَسَّاهَا﴾ صفة لـ ﴿من﴾ الموصولة.
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (١٢) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (١٣)﴾.
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾: فعل وفاعل؛ ﴿بِطَغْوَاهَا﴾: متعلق بـ ﴿كذبت﴾، و ﴿الباء﴾: فيه سببية، والجملة الفعلية مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها. ﴿إِذِ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿كذبت﴾ أو بـ ﴿طغواها﴾. ﴿انْبَعَثَ﴾: فعل ماض. ﴿أَشْقَاهَا﴾: فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾، ﴿فَقَالَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿قال﴾: فعل ماض ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿قال﴾. ﴿رَسُولُ اللَّهِ﴾: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿انْبَعَثَ﴾. ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾: منصوب على التحذير بفعل محذوف وجوبًا تقديره: ذروا ناقة الله. ﴿وَسُقْيَاهَا﴾: معطوف على ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قال﴾؛ أي: قال لهم: اتركوا عقرها واحذروا سقياها؛ أي: شربها.
﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (١٥)﴾.
﴿فَكَذَّبُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿قال﴾. ﴿فَعَقَرُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على كذبوه؛ أي: عقرها قدار ومن ساعده في رجليها، فأوقعوها فذبحوها، وتقاسموا لحمها. ﴿فَدَمْدَمَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿دمدم﴾: فعل ماض. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿رَبُّهُمْ﴾: فاعل. ﴿بِذَنْبِهِمْ﴾: متعلق
51
بـ ﴿دمدم﴾؛ والجملة معطوفة على ﴿عَقَرُوهَا﴾. ﴿فَسَوَّاهَا﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الرب، ومفعول به معطوف على ﴿دمدم﴾، ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، أو حالية، ﴿لا﴾: نافية، ﴿يَخَافُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الرب، ﴿عُقْبَاهَا﴾: مفعول به، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل ﴿سواها﴾، ويجوز أن تكون الواو عاطفة، فتكون الجملة معطوفة على جملة ﴿سواها﴾، وكونها عاطفة يلائم قراءة الفاء، وهي سبعية أيضًا، وممن قال بأنها عاطفة، ابن خالويه.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالشَّمْسِ﴾: وهو كوكب نهاري ينسخ وجوده ظلمة الليل. ﴿وَضُحَاهَا﴾ قال القرطبي: الضحى: مؤنثة، يقال: ارتفعت الضحى فوق الضحو، وقد تذكر، فمن أنَّث ذهب إلى أنها جمع ضحوة، ومن ذكَّر إلى أنها اسم على فعل، نحو: صرد، وقال ابن خالويه: الضحى: مقصور مثل: هدى، والضحى مؤنثة، تصغيره: ضحية، والأجود أن يقال في تصغيرها: ضعيف بغير هاء؛ لئلا يشبه تصغيرها تصغير ضحوة، والضحى: وجه النهار.
وفي "القاموس": والضحو والضحوة والضحية كعشية: ارتفاع النهار، والضحى: فويقه، ويذكر ويصغر ضحيًا بلا هاء، والضَّحَاء بالمد: إذا قرب انتصاف النهار، وبالضم والقصر، وأتيتك ضحوة وضحى، وأضحى: صار فيها، وأضحى الشيء: أظهره، وضاحاه: أتاه فيها. انتهى.
ومعنى ﴿وَضُحَاهَا﴾؛ أي: وضوئها ونورها المشرق المنبسط على وجه الأرض المضاد للظل، وفيه إعلال بالقلب، أصله: ضحوها، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، وإنما رسمت ياءً جريًا على قانون العرب من رسمهم ما كان من ذوات الواو مكسور الأول، أو مضمومه بالياء، وقيل: لأنها ترجع في بعض التصاريف إلى الياء، كقولك في تصغير ضحى: ضحيٌ.
﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢)﴾؛ أي: تبعها من التلو بمعنى التبع. قال الراغب: يقال: تلاه: إذا تبعه متابعة ليس بينهما ما ليس منهما، وذلك يكون تارةً بالجسم، وتارةً بالاقتداء في الحكم، ومصدره: تِلو وتُلو، وتارة بالقرآن وتدبر المعنى، ومصدره:
52
تلاوة، ثم قال قوله: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢)﴾ فإنما يراد به ما هنا الإتباع على سبيل الابتداء والمرتبة، وذلك أنه فيما قيل: إنه القمر يقتبس النور من الشمس، وهو لها بمنزلة الخليفة، وأصله: تلوها واوي اللام، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (٣)﴾؛ أي: كشف الشمس، وأتم وضوحها، وأصله: جَلَّيَها بوزن فعّل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ﴿يَغْشَاهَا﴾ أصله: يَغْشَيَها، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥)﴾ فيه إعلال بالقلب أيضًا، أصله: بَنَيَها قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
والسماء: كل ما ارتفع فوق رأسك، والمراد به: هذا الكون الذي فوقك، وفيه الشمس والقمر وسائر الكواكب التي تجري في مجاريها.
﴿وَمَا بَنَاهَا﴾؛ أي: ومن بناها ورفعها، وجعل كل كوكب من الكواكب بمنزلة لبنة من بناء سقف، أوقبة تحيط بك.
﴿وَالْأَرْضِ﴾: وهي كل ما أسفل تحت رجلك، والمراد بها: هذا الكون الذي تحتك، وفيها: البحار والأنهار والأشجار والأحجار.
﴿وَمَا طَحَاهَا﴾؛ أي: ومن بسطها وجعلها فراشًا ومهادًا لنا؛ لأن ما يظهر للرائي فيها يكون كالبساط، فلا ينافي كرويتها، والطحو كالدحو بمعنى البسط، وإبدال الطاء من الدال جائز، وأصله؛ طَحَوَها بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، وفي "المختار": طحاه: بسطه، مثل دحاه، وبابه: عدا، وفي "القاموس": وطحا يطحو: بعد وهلك، وألقى إنسانًا على وجهه.
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧)﴾؛ أي: ومن سواها؛ أي: ركب فيها القوى الظاهرة والباطنة، وجعل لكل منها وظيفة تؤديها، وأصله: سَوَّيَها بوزن: فعَّل المضعف، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿فَأَلْهَمَهَا﴾؛ أي: عرفها ومكنها ﴿فُجُورَهَا﴾ والفجور ما يكون سببًا في الخسران والهلكة.
﴿وَتَقْوَاهَا﴾ والتقوى: إتيان ما يحفظ النفس من سوء العاقبة، والألف في
53
التقوى ألف التأنيث، وقد مر ما فيه من التصريف غير ما مرة.
﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾؛ أي: أصاب الفلاح، وهو إدراك المطلوبـ ﴿مَنْ زَكَّاهَا﴾؛ أي: طهرها من أدناس الذنوب، وأصله: زَكَّيَها بوزن: فعل، وأصل هذه الياء واو، فقلبت ياء لوقوعها رابعة، ثم تحركت بعد فتح، فقلبت ألفًا.
﴿وَقَدْ خَابَ﴾؛ أي: خسر ﴿مَنْ دَسَّاهَا﴾؛ أي: أنقصها وأخفاها بالذنوب والمعاصي، قال الشاعر:
وَدَسَّسْتُ عَمْرًا فِيْ التُّرَابِ فَأصْبَحَتْ حَلَائِلُهُ مِنْهُ أَرَامِلَ ضُيَّعَا
وأصله: دسسها، قلبت السين الثالثة ياءً لتوالي الأمثال، ثم قلبت ألفًا لتحركها بعد فتح. وفي "القاموس": خاب يخيب خيبة: حُرِم وخسر وكفر، ولم ينل ما طلب، وأصل دس: دسس، كتقضَّى البازي، وتقضض من التدسيس، وهو الإخفاء مبالغة الدس، واجتماع الأمثال، لَمَّا أوجب الثقل.. قلبت السين الأخيرة ياءً، وقال الراغب: الدسُّ: إدخال الشيء في الشيء بضرب من الإكراه، ودساها؛ أي: دسسها في المعاصي. انتهى.
﴿بِطَغْوَاهَا﴾ الطغوى والطغيان: مجاوزة الحد المعتاد، وكلاهما مصدر لطغى، وفي "الكشف": الطغوى من الطغيان، فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء، بأن قلبوا الياء واوًا في الاسم، وتركوا القلب في الصفة، فقالوا: امرأة خزيا وصديا من الخزى بالفتح والقصر بمعنى: الاستحياء، ومن الصدى بمعنى: العطش ﴿إِذِ انْبَعَثَ﴾ قام ونهض لعقر الناقة.
﴿أَشْقَاهَا﴾؛ أي: أشقى ثمود، وهو قُدار بن سالف بوزن غراب، وكان هذا الرجل أشقر أزرق قصيرًا، وهو أمير ثمود، وكان فيهم عزيزًا شريفًا نسيبًا مطاعًا، ومعنى قدار في الأصل الجزار، كما في "البيضاوي"، ويضرب به المثل، فيقال: أشام من قدار، وأصل أشقى أشْقَيَ صيغة التفضيل، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح.
﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ﴾ صالح عليه السلام: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ احذروا التعرض لناقة الله ﴿وَسُقْيَاهَا﴾؛ أي: شربها الذي خصها به في يومها، والألف في ﴿سقياها﴾ منقلبة عن ياء، والأصل: سُقْيَيَها أعلت الياء الثانية بالقلب؛ لتحركها بعد فتح.
54
﴿فَعَقَرُوهَا﴾؛ أي: فنحروها ﴿فَدَمْدَمَ﴾؛ أي: فأطبق عليهم العذاب، يقال: دمدم عليه القبر أطبقه، ويقال: دم الشيء سدّه بالقبر، ودممت على القبر وغيره إذا أطبقت عليه، ثم كررت الدال؛ للمبالغة في الإحاطة، فالدمدمة من الدم كالكبكبة من الكب، تقول العرب: دممت على فلان بالتخفيف، ثم تقول من المبالغة: دممت بالتشديد، ثم تقول من تشديد المبالغة دمدمت، والتركيب يدل على غشيان الشيء بالشيء.
﴿فَسَوَّاهَا﴾؛ أي: فسوى القبيلة في العقوبة، فلم يفلت منها أحد، وأصله سَوَّيَها، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح.
﴿وَلَا يَخَافُ﴾ أصله يَخْوَف بوزن يفعل مضارع خَوِف بكسر العين، نقلت حركة الواو إلى الخاء، ثم قلبت ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن.
﴿عُقْبَاهَا﴾؛ أي: عاقبة الدمدمة وتبعتها. وفي "القاموس": وأعقبه الله بطاعته جازاه، والعقبى: جزاء الأمر، وألفه للتأنيث كالرجعى والذكرى.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق بين ﴿الشمس﴾ و ﴿القمر﴾ في قوله: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢)﴾ وبين ﴿الليل﴾ و ﴿النهار﴾ في قوله: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤)﴾.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (٣)﴾؛ لأنه لما كان جلاء الشمس واقعًا في النهار.. أسند فعل التجلية إليه إسنادًا مجازيًا مثل نهاره صائم.
ومنها: اختيار صيغة المضارع على الماضي؛ للدلالة على أنه لا يجري عليه تعالى زمان، فالمستقبل عنده تعالى، كالماضي في التحقيق، وفيه أيضًا مراعاة الفواصل؛ إذ لو أتى به ماضيًا.. لكان التركيب إذا غشيها، فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع. اهـ "خطيب".
ومنها: تنكير نفس في قوله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧)﴾؛ للتفخيم على أن المراد
55
به آدم عليه السلام، أو للتكثير وهو الأنسب للجواب.
ومنها: تقديم الفجور على التقوى مع كونه أخس لمراعاة الفواصل، أو لشدة الاهتمام بنفيه؛ لأنه إذا انتفى الفجور.. وجدت التقوى، فقدم ما هم بشأنه أعنى.
ومنها: الطباق بين الفجور والتقوى في هذه الآية.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩)﴾ وقوله: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)﴾.
ومنها: الإضافة للعهد في قوله: ﴿رَسُولُ اللَّهِ﴾ وهو صالح بن عبيد عليه السلام.
ومنها: التعبير فيه بعنوان الرسالة إيذانًا بوجوب طاعته، وبيانًا لغاية عتوهم وتماديهم في الطغيان.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ كبيت الله، أضيفت إليه سبحانه تشريفًا لها؛ لأنها خرجت من حجر أصم معجزة لصالح عليه السلام.
ومنها: التعبير بصيغة التكرير في قوله: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ﴾ إفادة للتهويل والتفظيع؛ لأن التعبير بالدمدمة يدل على هول العذاب الواقع بهم وإطباقه عليهم.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (١٥)﴾ على اعتبار أن الضمير في ﴿يَخَافُ﴾ عائد إلى الله عَزَّ وَجَلَّ وهو الظاهر؛ أي: أنه تعالى لا يخاف عاقبتها، كما تخاف الملوك عاقبة أفعالها، والمقصود من الاستعارة إهانتهم وإذلالهم.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب إليه المرجع والمآب
* * *
56
خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد
اشتملت هذه السورة على مقصدين:
١ - الإقسام بالمخلوقات العظيمة على أن من طهر نفسه بالأخلاق الفاضلة.. فقد أفلح وفاز، وأن من أغواها ونقصها حقها بجهالته وفسوقه.. فقد خاب.
٢ - ذكر ثمود مثلًا لمن دس نفسه، فاستحق عذاب الله الذي هو له أهل (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) تمت سورة الشمس فيما بين العشاءين من ليلة الثلاثاء، ليلة الثلاثين من شهر شوال، من شهور سنة: ١٤١٦ هـ ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.. آمين.
57
سورة الليل
سورة الليل مكية عند الجمهور (١)، نزلت بعد سورة الأعلى، وقيل: مدنية، وأخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١)﴾ بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وآياتها: إحدى وعشرون آية. وكلماتها: إحدى وسبعون كلمة. وحروفها: ثلاث مئة وعشرون حرفًا.
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (٢): أنه سبحانه ذكر هناك فلاح المطهرين لأنفسهم، وخيبة المدسين لها، وهنا ذكر ما يحصل به الفلاح، وما تحصل به الخيبة، ثم حذر النار، وذَكَر مَن يصلاها ومن يجتنبها، فهذه السورة كالتفصيل لسابقتها.
ومن فضائلها: ما أخرجه البيهقي في "سننه" عن جابر بن سمرة قال: كان النبي - ﷺ - يقرأ في الظهر والعصر: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١)﴾، ونحوها.
وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن أنس أن رسول الله - ﷺ - صلى بهم الهاجرة، فرفع صوته فقرأ: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١)﴾ ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١)﴾، فقال له أبي بن كعب: يا رسول الله أمرت في هذه الصلاة بشيء؟ قال: "لا ولكن أردت أن أوقِّت لكم" وقد تقدم حديث "فهلا صليت بـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾ ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١)﴾ ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١)﴾ " وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: إني لأقول: إن هذه السورة نزلت في السماحة والبخل ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١)﴾، وسميت سورة الليل؛ لبدايتها بلفظ الليل.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم رحمه الله تعالى سورة ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١)﴾ كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
والله أعلم
* * *
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
58

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٢) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (١٢) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (١٤) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (٢١)﴾.
المناسبة
قد تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها، وأما قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (١٢)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين (١) أن سعي الناس مختلف في نفسه وعاقبته، وأرشد إلى أن المحسن في عمله يوفقه الله تعالى إلى أعمال البر، وأن المسيء فيه يسهل له الخذلان.. أردفه بأنه قد أعذر إلى عباده تقديم البيان الذي تتكشف معه أعمال الخير والشر جميعًا، ووضح السبيل أمام كل سالك، فإن شاء.. سلك الخير فسلم وسعد، وإن أراد.. ذهب في طريق الشر فتردى في الهاوية.
أسباب النزول
سبب نزول هذه السورة من أولها إلى آخرها: ما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلًا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار، فصعد إلى النخلة ليأخذ منها التمر.. ربما سقطت التمرة، فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من نخلته حتى يأخذ التمرة من أيديهم، وإن وجدها في فم أحدهم.. أدخل أصبعه حتى يخرج التمرة من فمه، فشكا ذلك الرجل إلى النبي - ﷺ -، فأخبره بما يلقى من
(١) المراغي.
59
صاحب النخلة، فقال له النبي - ﷺ -: "اذهب" ولقي النبي - ﷺ - صاحب النخلة، فقال له النبي - ﷺ -: "أعطني نخلتك التي فرعها في دار فلان، ولك بها نخلة في الجنة" فقال له الرجل: يعجبني ثمرها وإن لي لنخلًا كثيرًا، وما فيها نخلة أعجب إلى ثمرة منها، فذهب الرجل، ثم جاء النبيَّ - ﷺ - رجل كان سمع كلام رسول الله - ﷺ - مع صاحب النخلة، فقال: يا رسول الله: أتعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنة إن أنا أخذتها؟ قال: "نعم" فذهب الرجل فلقي صاحب النخلة فساومها منه، فقال له: أشعرت أن محمدًا أعطاني بها نخلة في الجنة، فقلت له: يعجبني ثمرها، فقال له الرجل: أتريد بيعها؟ فقال: لا إلا أن أُعطى بها ما أريد، ولا أظن أن أُعطى، فقال له: فما مناك فيها؟ قال: أربعون نخلة. قال: لقد جئت بأمر عظيم، ثم سكت عنه، فقال له: أنا أعطيك أربعين نخلة، فقال له: أشهد لي إن كنت صادقًا، فمر ناس فدعاهم، فأشهدهم له على أربعين نخلة، ثم ذهب إلى النبي - ﷺ -، فقال: يا رسول الله: إن النخلة صارت في ملكي فهي لك، فذهب رسول الله - ﷺ - إلى صاحب الدار، فقال: إن النخلة لك ولعيالك، فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٢) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧)...﴾ الآيات، وصاحب النخلة رجل خزرجي وكان منافقًا، ومات على نفاقه، والذي اشترى النخلة هو الصحابي الجليل أبو الدحداح - رضي الله عنه - قال ابن كثير هذا حديث غريب جدًّا.
قوله تعالى: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨)...﴾ الآيات، روي أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - وقد كان من أمره أن بلال بن رباح - رضي الله عنه - وكان مولى لعبد الله بن جدعان جاء إلى الأصنام وسلح عليها، فشكا كفار مكة إلى مولاه فوهبه لهم، ووهب لهم مئة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فجعلوا يعذبونه ويخرجونه إلى الرمضاء، وكان يقول وهم يعذبونه: أحد أحد، وكان رسول الله - ﷺ - يمر به وهو يعذب فيقول له: "ينجيك أحد"، ثم أخبر رسول الله - ﷺ - أبا بكر - رضي الله عنه - بما يلقى بلال في الله، فحمل أبو بكر رطلًا من ذهب وابتاعه من المشركين، وأعتقه، فقال المشركون: ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده، فنزل قوله تعالى: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧)...﴾ الآيات.
60
Icon