اتفق المفسرون : على أن هذه السورة نزلت بعد انقطاع الوحي مدة.
ثم اختلفوا في سبب انقطاعه على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، وعن أصحاب الكهف، وعن الروح، فقال : سأخبركم غدا، ولم يقل : إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي.
والثاني : لقلة النظافة في بعض أصحابه. وقد ذكرنا هذين القولين في سورة [ مريم : ٦٥ ].
والثالث : لأجل جرو كان في بيته، قاله زيد بن أسلم.
وفي مدة احتباسه عنه أقوال قد ذكرناها في [ مريم : ٦٦ ].
وروى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث جندب قال : قالت امرأة من قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أرى شيطانك إلا قد ودعك، فنزلت ﴿ وَالضُّحَى وَالَّليْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ جندب : هو ابن سفيان والمرأة : يقال لها : أم جميل امرأة أبي لهب.
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الضحى (٩٣) : الآيات ١ الى ١١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤)وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)
وفي المراد «بالضحى» أربعة أقوال: أحدها: ضوء النهار، قاله مجاهد. والثاني: صدر النهار، قاله قتادة. والثالث: أول ساعة من النهار إذا ترحّلت الشمس، قاله السدي، ومقاتل. والرابع: النهار كلُّه، قاله الفراء.
وفي معنى «سجى» خمسة أقوال «١» : أحدها: أظلم. والثاني: ذهب، رويا عن ابن عباس.
والثالث: أقبل، قاله سعيد بن جبير. والرابع: سكن، قاله عطاء، وعكرمة، وابن زيد. فعلى هذا: في معنى «سكن» قولان: أحدهما: استقرّ ظلامه، قال الفرّاء: «سجى» يعني أظلم وركد في طوله. كما يقال: بَحْرٌ سَاجٍ، ولَيْل سَاجٍ: إذا ركد وأظلم. ومعنى: ركد: سكن. قال أبو عبيدة، يقال: ليلة ساجية، وساكنة، وشاكرة. قال الحادي:
يَا حَبَّذا القَمْرَاءُ والليلُ الساجْ | وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النِّساجْ |
والثاني: سكن الخلق فيه، ذكره الماوردي.
والخامس: امتد ظلامه، قاله ابن الأعرابي.
قوله عزّ وجلّ: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وقرأ عمر بن الخطاب، وأنس، وعروة، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وأبو حاتم عن يعقوب «مَا وَدَعَكَ» بتخفيف الدال. وهذا جواب القسم. قال أبو عبيدة: «ما وَدَّعك» من التوديع كما يودع المفارق، و «مَا وَدَعَكَ» مخففة من ودعه يدعه وَما قَلى أي:
أبغض.
قوله عزّ وجلّ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى قال عطاء، أي خير لك من الدنيا. وقال غيره:
الذي لك في الآخرة أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا.
قوله عزّ وجلّ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ في الآخرة من الخير فَتَرْضى بما تعطى. قال عليّ
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ٦٢٢: وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك قول من قال معناه:
والليل إذا سكن بأهله، وثبت بظلامه، كما يقال: بحر ساج أي ساكنا.
(١٥٤٠) قال ابن عباس: عُرِض على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يُفْتَح على أُمته من بعده كَفْرَاً كفرا، فسرّ بذلك، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى.
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فيه قولان: أحدهما: جعل لك مأوى إذ ضَمَّك إلى عمك أبي طالب، فكفاك المؤونة، قاله مقاتل. والثاني: جعل لك مأوى لنفسك أغناك به عن كفالة أبي طالب، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فيه ستة أقوال: أحدها: ضالاً عن معالم النبوة، وأحكام الشريعة، فهداك إليها، قاله الجمهور منهم الحسن، والضحاك. والثاني: أنه ضَلَّ وهو صبي صغير في شعاب مكة، فردَّه الله إلى جده عبد المطلب، رواه أبو الضحى عن ابن عباس. والثالث: أنه لما خرج مع ميسرة غلام خديجة أخذ إبليس بزمام ناقته، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريل، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة، ورده إلى القافلة، فمنَّ الله عليه بذلك قاله سعيد بن المسيب. والرابع: أن المعنى: ووجدك في قوم ضُلاَّل، فهداك للتوحيد والنبوة، قاله ابن السائب. والخامس: ووجدك نِسْيَاً، فهداك إلى الذِّكْر. ومثله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى «١» قاله ثعلب. والسادس:
ووجدك خاملاً لا تُذْكَر ولا تُعْرَف، فهدى الناس إليك حتى عرفوك، قاله عبد العزيز بن يحيى، ومحمد بن عليّ التّرمذيّ.
قوله عزّ وجلّ: وَوَجَدَكَ عائِلًا قال أبو عبيدة: أي: ذا فقر. وأنشد:
وَمَا يَدري الفقيرُ مَتى غِناه | وما يَدْرِي الغَنِيُّ مَتى يَعِيلُ «٢» |
وفي قوله: فَأَغْنى قولان: أحدهما: أرضاك بما أعطاك من الرزق، قاله ابن السائب، واختاره الفرّاء فقال: لم يكن غناه عن كثرة المال، ولكن الله رضَّاه بما آتاه. والثاني: فأغناك بمال خديجة عن أبي طالب، قاله جماعة من المفسّرين.
قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ فيه قولان: أحدهما: لا تحقر، قاله مجاهد. والثاني: لا تقهره على ماله، قاله الزّجّاج.
وأخرجه الطبراني في «الأوسط» ٥٧٦ عن ابن عباس مرفوعا، وإسناده ضعيف فيه معاوية بن أبي العباس مجهول، والموقوف أصح من المرفوع، فالخبر لا يصح مرفوعا ولا موقوفا. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٧٤٦ بتخريجنا.
__________
(١) البقرة: ٢٨٢.
(٢) البيت لأحيحة بن الجلاح الأوسي، وهو في «جمهرة أشعار العرب» ١٢٥ و «اللسان» - عيل-.
قوله عزّ وجلّ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ في النعمة ثلاثة أقوال: أحدها: النُبُوَّة. والثاني: القرآن، رويا عن مجاهد. والثالث: أنها عامة في جميع الخيرات، وهذا قول مقاتل.
(١٥٤١) وقد روي عن مجاهد قال: قرأت على ابن عباس. فلما بلغت «والضحى» قال: كبِّر إذا ختمت كل سورة حتى تختم. وقرأت على أُبيِّ بن كعب فأمرني بذلك.
(١٥٤٢) قال علي بن أحمد النيسابوري: ويقال: إن الأصل في ذلك أن الوحي لما فتر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال المشركون: قد هجره شيطانه وَوَدَعَه، اغتمَّ لذلك، فلما نزل «والضحى» كبَّر عند ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرحا بنزول الوحي، فاتّخذه الناس سنّة.
قلت: وعكرمة بن سليمان مجهول كما تقدم، لم يوثقه أحمد، ولا روى عنه سوى البزي، وهو ضعيف، فيزيد هذا من جهالته. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله ٤/ ٦٢٠: أحمد البزي ضعفه أبو حاتم، لكن ورد عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال: أحسنت، وأصبت السنة حكاه أبو شامة المقدسي، في «شرح الشاطبية»، وهذا يقتضي صحة هذا الحديث. كذا قال رحمه الله؟!! ولعل هذا لا يصح عن الشافعي، فإن خبرا واهيا، لا يصلح للاحتجاج به، وبخاصة إدخال شيء في الصلاة، ليس منها، والدليل على عدم صحته عن الشافعي، أنه ليس في مذهب الشافعية تكبير في الصلاة عند الانتقال من سورة إلى سورة بعد الضحى، والأشبه أن هذه السنة هي سنة عكرمة بن سليمان ذاك الشيخ المجهول، فحملها عنه البزي، ثم حملها عنه آخرون. ولو ثبت هذا عند الشافعي لرواه في المسند أو السنن أو الأم، بل لو صح هذا لرواه الأئمة الستة وغيرهم لاشتهاره، والصواب أن هذا سنة شيخ مجهول، والله أعلم.
والخلاصة: الإسناد ضعيف، والمتن منكر كما قال أبو حاتم وغيره، وهذا مما ينبغي أن يشتهر لو صح، فلما لم يرو إلا بهذا الطريق علم أنه شبه موضوع.
تقدم أن هذا الحديث صحيح دون ذكر التكبير، انظر الحديث رقم ١٥٣٩ ولا أصل له بهذا اللفظ- قال ابن كثير رحمه الله ٤/ ٦٢١: لم يرو ذلك بإسناد وقد مضى في الذي قبله، الكلام على التكبير مما يغني عن الإعادة هنا.