تفسير سورة لقمان

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

السورة التي يذكر فيها لقمان
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من سمعها أقرّ أنّه لا يسمع مثلها، ومن عرفها أنف أن يسمع غيرها. كلمة من سمعها طابت قصّته، وزالت بكل وجه غصّته، وتمّت من النّعم في الدنيا والعقبى حصّته، وزهد في دنياه من غير رغبة في عقباه لأنّها- وإن جلّت- غير مولاه «١» كلمة من سمعها لم يرغب في عمارة فنائه، ولم يتحشم «٢» سرعة وفائه.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢)
الألف تشير إلى آلائه، واللام تشير إلى لطفه وعطائه، والميم تشير إلى مجده وسنائه فبآلائه يرفع الجحد عن قلوب أوليائه، وبلطفه وعطائه يثبت المحبة في أسرار أصفيائه، وبمجده وسنائه مستغن عن جميع خلقه بوصف كبريائه.
«تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» : المحروس عن التغيير والتبديل.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٣ الى ٤]
هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
هو هدى وبيان، ورحمة وبرهان للمحسنين العارفين بالله، والمقيمين عبادة الله كأنهم
(١) فالحب الخالص منتف عن الغيرية.
(٢) لم يتحشم أي: لم يتجنب
ينظرون إلى الله. وشرط المحسن أن يكون محسنا إلى عباد الله: دانيهم وقاصيهم، ومطيعهم وعاصيهم.
«الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» : يأتون بشرائطها في الظاهر من ستر العورة، وتقديم الطهارة، واستقبال القبلة، والعلم بدخول الوقت، والوقوف في مكان طاهر.
وفي الباطن يأتون بشرائطها من طهارة السّرّ عن العلائق، وستر عورة الباطن بتنقيته عن العيوب، لأنها مهما تكن فالله يراها فإذا أردت ألا يرى الله عيوبك فاحذرها حتى لا تكون. والوقوف في مكان طاهر، وهو وقوف القلب على الحدّ الذي أذنت في الوقوف فيه مما لا تكون دعوى بلا تحقيق، ورحم الله من وقف عند حدّه. والمعرفة بدخول الوقت فتعلم وقت التذلّل والاستكانة، وتميز بينه وبين وقت السرور والبسط، وتستقبل القبلة بنفسك، وتعلّق قلبك بالله من غير تخصيص بقطر أو مكان.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ٥]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
الذين يقومون بشرط صلاتهم وحقّ آداب عبادتهم هم الذين اهتدوا فى الدنيا والعقبى فسلموا ونجوا.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ٦]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦)
«لَهْوَ الْحَدِيثِ» : ما يشغل عن ذكر الله «١»، ويحجب عن الله سماعه. ويقال: هو لغو الظاهر الموجب سهو الضمائر، وهو ما يكون خوضا في الباطل، وأخذا بما لا يعنيك.
(١) اعتاد كثير من المفسرين أن يفسروا اللهو هنا (بالغناء)، لأجل هذا نلفت النظر إلى عدم صرف القشيري المعنى في هذا الاتجاه، لأننا نعلم من مذهبه أنه لا يرى بأسا في سماع الغناء ولكن بشرط أن يحرك الوجدان نحو غاية سامية في السماع، وألا يبعث فيها الهوى والمجون، وألا يكون مصحوبا بشىء محرّم. (أنظر كتابنا: الإمام القشيري ونزعته في التصوف) ط مؤسسة الحلبي. [.....]
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ٧]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧)
المفترق بهمّه، والمتشتّت بقلبه لا تزيده كثرة الوعظ إلا نفورا ونبوّا فسماعه كلا سماع، ووعظه هباء وضياع، كما قيل:
إذا أنا عاتبت الملول فإنما أخطّ بأقلامى على الماء أحرفا
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٨ الى ٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)
«آمَنُوا» : صدّقوا «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : تحقّقوا فاتصاف تحقيقهم راجع إلى تصديقهم، فنجوا وسلموا فهم في راحاتهم مقيمون، دائمون لا يبرحون.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ١٠]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠)
أمسك السماوات بقدرته بغير عماد، وحفظها لا إلى سناد أو مشدودة إلى أوتاد، بل بحكم الله وبتقديره، ومشيئته وتدبيره.
«وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ..» فى الظاهر الجبال، وفي الحقيقة الأبدال والأوتاد الذين هم غياث الخلق، بهم يقيهم، وبهم يصرف البلاء عن قريبهم وقاصيهم.
«وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً..» المطر من سماء الظاهر في رياض الخضرة ومن سماء الباطن فى رياض أهل الدنوّ والحضرة.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ١١]
هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١)
هذا خلق الله العزيز في كبريائه، فأرونى ماذا خلق الذين عبدتم من دونه في أرضه وسمائه؟
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ١٢]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢)
«الْحِكْمَةَ» الإصابة في العقل والعقد والنطق. ويقال «الْحِكْمَةَ» متابعة الطريق من حيث توفيق الحق لا من حيث همة النفس. ويقال «الْحِكْمَةَ» ألا تكون تحت سلطان الهوى.
ويقال «الْحِكْمَةَ» الكون بحكم من له الحكم. ويقال «الْحِكْمَةَ» معرفة قدر نفسك حتى لا تمدّ رجليك خارجا عن كسائك. ويقال «الْحِكْمَةَ» ألا تستعصى على من تعلم أنك لا تقاومه.
«أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» : حقيقة الشكر انفراج عين القلب بشهود ملاطفات الرّبّ. فهو مقلوب قولهم: كشرت عن أنيابها الداية فيقال شكر وكشر مثل جذب وجبذ.
ويقال الشكر تحققك بعجزك عن شكره. ويقال الشكر ما به يحصل كمال استلذاذ النعمة.
ويقال الشكر فضلة تظهر على اللسان من امتلاء القلب بالسرور فينطلق بمدح المشكور.
ويقال الشكر نعت كلّ غنىّ كما أن الكفران وصف كلّ لئيم. ويقال الشكر قرع باب الزيادة «١». ويقال الشكر قيد الإنعام. ويقال الشكر قصة يميلها صميم الفؤاد بنشر صحيفة الأفضال.
«وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ» «٢» : لأنه في صلاحها ونصيبها يسعى.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ١٣]
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣).
(١) إشارة إلى قوله تعالى «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» آية ٧ سورة ابراهيم.
(٢) آية ٤٠ سورة النمل.
الشّرك على ضربين: جلىّ وخفيّ فالجلىّ عبادة الأصنام، والخفىّ حسبان شىء من الحدثان من الأنام. ويقال الشّرك إثبات غير مع شهود الغيب. ويقال الشرك ظلم على القلب، والمعاصي ظلم على النفس، وظلم النفوس معرّض للغفران، ولكنّ ظلم القلوب لا سبيل إليه للغفران.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ١٤]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤)
أوجب الله شكر نفسه وشكر الوالدين. ولما حصل الإجماع على أن شكر الوالدين بدوام طاعتهما، وألا يكتفى فيه بمجرد النطق بالثناء عليهما علم أنّ شكر الحقّ لا يكفى فيه مجرّد القول ما لم تكن فيه موافقه العقل وذلك بالتزام الطاعة، واستعمال النعمة في وجه الطاعة دون صرفها في الزّلّة فشكر الحقّ بالتعظيم والتكبير، وشكر الوالدين بالإنفاق والتوفير.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ١٥]
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥)
إن جاهداك على أن تشرك بالله، أو تسعى بما هو زلة في أمر الله- فلا تطعهما، ولكن عاشرهما بالجميل تخشين في تليين، فاجعل لهما ظاهرك فيما ليس فيه حرج، وانفرد بسرّك لله، «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» : وهو المنيب إليه حقا من غير أن تبقى بقية في النفس.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ١٦]
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)
إذا كانت ذرة أو أقل من ذلك وسبقت بها القسمة فلا محالة تصل إلى المقسوم له بغير مرية.. «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» : عالم بدقائق الأمور وخفاياها.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ١٧]
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧)
الأمر بالمعروف يكون بالقول، وأبلغه أن يكون بامتناعك بنفسك عما تنهى عنه، واشتغالك واتصافك بنفسك بما تأمر به غيرك، ومن لا حكم له على نفسه لا ينفذ حكمه على غيره.
والمعروف الذي يجب الأمر به هو ما يوصّل العبد إلى الله، والمنكر الذي يجب النهى عنه هو ما يشغل العبد عن الله.
«وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ» تنبيه على أنّ من قام لله بحقّ امتحن في الله فسبيله أن يصبر لله- فإنّ من صبر لله لا يخسر على الله.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ١٨]
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨)
يعنى لا تتكبر على الناس، وطالعهم من حيث النسبة والتحقق بأنك بمشهد من مولاك.
ومن علم أنّ مولاه ينظر إليه لا يتكبر ولا يتطاول بل يتخاضع ويتضاءل.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ١٩]
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)
كن فانيا عن شواهدك، مصطلما عن صولتك، مأخوذا عن حولك وقوتك، منتشقا «١» مما استولى عليك من كشوفات سرّك.
(١) (انتشق) الماء وغيره: جذب منه بالنّفس في أنفه، ورجل نشق إذا دخل في أمر لا يكاد يخلص منه (الوسيط).
وانظر من الذي يسمع صوتك حتى تستفيق من خمار غفلتك «إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» : فى الإشارة هو الذي يتكلم في لسان المعرفة من غير إذن من الحقّ. وقالوا:
إنه الصوفيّ يتكلم قبل أوانه.
ويقال إنما ينهق الحمار عند رؤية الشيطان فلذلك كان صوته أنكر الأصوات.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ٢٠]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠)
أثبت في كل شىء منها نفعا لكم، فالسماء لتكون لكم سقفا، والأرض لتكون لكم فراشا، والشمس لتكون لكم سراجا، والقمر لتعلموا به عدد السنين والحساب، والنجوم لتهتدوا بها.
«وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً» : الإسباغ ما يفضل عن قدرة الحاجة ولا تحتاج معه إلى الزيادة.
قوله: «نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً» : تكلموا فيه فأكثروا. فالظاهرة وجود النعمة، والباطنة شهود المنعم. والظاهرة الدنيوية، والباطنة الدينية. والظاهرة حسن الخلق، والباطنة حسن الخلق. الظاهرة نفس بلا زلّة، والباطنة قلب بلا غفلة. الظاهرة العطاء، والباطنة الرضاء. الظاهرة في الأموال ونمائها، والباطنة في الأحوال وصفائها. الظاهرة النعمة، والباطنة العصمة. الظاهرة توفيق الطاعات، والباطنة قبولها. الظاهرة تسوية الخلق، والباطنة تصفية الخلق. الظاهرة صحبة الصالحين، والباطنة حفظ حرمتهم. الظاهرة الزهد في الدنيا، والباطنة الاكتفاء بالمولى من الدنيا والعقبى «١». الظاهرة الزهد، والباطنة الوجد. الظاهرة توفيق
(١) هذه أعلى درجات الزهد، وهي تهمنا ونحن نؤرخ للتطور التأريخي الذي حدث عند ما تطور الزهد إلى تصوف (أنظر كتابنا نشأة التصوف الإسلامى (ط دار المعارف).
المجاهدة والباطنة تحقيق المشاهدة. الظاهرة وظائف النّفس، والباطنة لطائف القلب. الظاهرة اشتغالك بنفسك عن الخلق، والباطنة اشتغالك بربّك عن نفسك. الظاهرة طلبه، الباطنة وجوده «١». الظاهرة أن تصل إليه، الباطنة أن تبقى معه.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣)
لم يتخطوا منهم ولا من أمثالهم، ولم يهتدوا إلى محوّل أحوالهم. فأمّا من سمت نفسه، وخلص في الله قصده فقد استمسك بالعروة الوثقى، وسلك المحجّة المثلى: - «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» وعلى العكس: - «وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ».
إلينا إيابهم، ومنّا عذابهم، وعلينا حسابهم. ولئن سألتهم عن خالقهم لأقرّوا، ولكن إذا عادوا إلى غيّهم نقضوا وأصروا.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ٢٦]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦)
لله ما في السماوات والأرض ملكا، ويحرى فيهم حكمه حقّا، وإليه مرجعهم حتما.
(١) الوجود مرحلة تأتى بعد التواجد والوجد.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ٢٧]
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)
لو أنّ ما في الأرض من الأشجار أقلام والبحار كانت مدادا، وبمقدار ما يقابله تنفق القراطيس، ويتكلّف الكتّاب حتى تتكسر الأقلام، وتفنى البحار، وتستوفى القراطيس، وتفنى أعمار الكتّاب.. ما نفدت معانى مالنا معك من الكلام، والذي نسمعك فيما نخاطبك به لأنك معنا أبد الأبد، والأبديّ من الوصف لا يتناهى.
ويقال إن كان لك معكم كلام كثير فما عندكم ينفذ وما عند الله باق:
صحائف عندى للعتاب طويتها ستنشر يوما والعتاب يطول قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ٢٨]
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨)
إيجاد القليل أو الكثير عليه وعنده سيّان فلا من الكثير مشقة وعسر، ولا من القليل راحة ويسر، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: «كُنْ فَيَكُونُ» «١» يقوله بكلمته ولكنه يكوّنه بقدرته، لا بمزاولة جهد، ولا باستفراغ وسع، ولا بدعاء خاطر، ولا بطروء غرض.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ٣٠]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠)
«اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» : الكائن الموجود، محقّ الحقّ «٢»، وما يدعون من دونه الباطل:
من العدم ظهر ومعه جواز العدم «٣».
(١) آية ٨٢ سورة يس.
(٢) فى ص جاء بعدها (وما يدعونه هو التلاوة) ويقول مجاهد، إنه الشيطان. ويقال: ما أشركوا به الله تعالى من الأصنام والأوثان..
(٣) شغلت قضية (الحق والباطل) أصحاب وحدة الوجود. ورأى القشيري هنا يصلح عند المقارنة بين أرباب وحدة الشهود وأرباب وحدة الوجود في شأن هذين الاصطلاحين.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ٣١]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١)
فى الظاهر سلامتهم في السفينة، وفي الباطن سلامتهم من حدثان الكون، ونجاتهم في سفائن العصمة في بحار القدرة.
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ» وقوف لا ينهزم من البلايا، شكور على ما يصيبه من تصاريف التقدير من جنسى البلايا والعطايا.
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ٣٢]
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)
إذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم تلك البحار إلى سواحل السلامة، فإذا جاد الحقّ بتحقيق مناهم عادوا إلى رأس خطاياهم:
وكم قد جهلتم ثم عدنا بحلمنا... أحباءنا: كم تجهلون ونحلم!
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ٣٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣)
يخوّفهم مرة بأفعاله فيقول: «اتَّقُوا يَوْماً»، ومرة بصفاته فيقول: «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى» ومرة بذاته فيقول: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ».
قوله جل ذكره:
[سورة لقمان (٣١) : آية ٣٤]
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
يتفرّد بعلم القيامة، ويعلم ما في الأرحام ذكورها وإناثها، شقيها وسعيدها، وحسنها وقبيحها ويعلم متى ينزّل الغيث، وكم قطرة ينزلها، وبأى بقعة يمطرها.
«وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» «١».
ما تدرى نفس ماذا تكسب غدا من خير وشر، ووفاق وشقاق، وما تدرى نفس بأى أرض تموت أتدرك مرادها أم يفوت؟.
(١) قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبى مرسل.
Icon