ﰡ
[ ١ ] الظهار وكفارته في الإسلام
التحليل اللفظي
﴿ سَمِعَ الله ﴾ : السمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة، والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متصفاً بهما.
ومعنى السميع : المدرك الأصوات من غير أن يكون له أذن لأنها لا تخفى عليه.
قال أبو السعود : ومعنى سمعه تعالى لقولها : إجابة دعائها، لا مجرد علمه تعالى بذلك : كما هو المعنيُّ بقوله تعالى :﴿ والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ ﴾ أي يعلم تراجعكما الكلام.
﴿ تجادلك ﴾ : أي تراجعك في شأن زوجها، والمجادلة : المناظرة والمخاصمة وفي الحديث :« ما أوتي قوم الجدل إلاّ ضلّوا » والمراد بالحديث الجدل على الباطل، وطلب المغالبة به، لا إظهار الحق فإنّ ذلك محمود لقوله تعالى :﴿ وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] والمراد هنا : المراجعة في الكلام.
﴿ وتشتكي ﴾ : الشكوى إظهار البث وما انطوت عليه النفس من الهمّ والغم، وفي التنزيل :﴿ قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله ﴾ [ يوسف : ٨٦ ] وشكا واشتكى بمعنى واحد.
﴿ تَحَاوُرَكُمآ ﴾ : المحاورة المراجعة في الكلام، من حار الشيء يحور حوراً أي رجع يرجع رجوعاً، ومنه حديث :« نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر » ومنه فما أحار بكلمة أي فما أجاب. قال عنترة :
لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى | ولكان لو علم الكلام مكلّمي |
﴿ يظاهرون ﴾ : الظهار مشتق من الظهر، وهو قول الرجل لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي. ومعناه الأصلي : مقابلة الظهر بالظهر يقال : ظاهر فلان فلاناً أي قابل ظهره بظهره، ثم استعمل في تحريم الزوجة بجعلها كظهر أمه.
قال الألوسي : الظهار لغة مصدر ظاهر، وهو ( مفاعلة ) من الظهر، ويراد به معانٍ مختلفة، راجعة إلى الظهر معنى ولفظاً باختلاف الأغراض.
فيقال : ظاهر زيد عمراً أي قابل ظهره بظهره حقيقة.
وظاهره إذا غايظه وإن لم يقابل حقيقة، باعتبار أن المغايظة تقتضي ذلك.
وظاهره إذا ناصره، باعتبار أنه يقال : قوّى ظهره إذا نصره.
وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر.
وظاهر من امرأته إذا قال لها : أنتِ عليّ كظهر أمي.
وهذا الأخير هو المعنى الذي نزلت فيه الآيات.
قال في « الفتح » :« وإنما خصّ الظهر بذلك دون سائر الأعضاء، لأنه محل الركوب غالباً، ولذلك سُمّي المركوب ظهراً، فشبهت المرأة بذلك لأنها مركوب الرجل ».
﴿ اللائي ﴾ : جمع التي، فيقال : اللاتي، واللائي قال تعالى :﴿ والاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ﴾ [ النساء : ٣٤ ].
﴿ مُنكَراً ﴾ : المنكر من الأمر خلاف المعروف، وكلّ ما قبّحه الشرع وحرّمه وكرهه فهو منكر.
﴿ وَزُوراً ﴾ : الزور : الكذب، والباطل الواضح، ومنه شهادة الزور.
﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ : حرّرته أي جعلته حراً لوجه الله. والرقبة في الأصل : العُنُق ثم اطلقت على ذات الإنسان تسمية للشيء ببعضه، والمراد بها المملوك عبداً أو أمة.
﴿ يَتَمَآسَّا ﴾ : المسّ : مسكُ الشيء باليد، ثم استعير للجماع لأنه لمس والتصاق، لأن فيه التصاقَ الجسم بالجسم، والتماس هنا : كناية عن الجماع.
﴿ مِسْكِيناً ﴾ : المسكين الذي لا شيء له، وقيل الذي لا شيء له يكفي عياله، وأصل المسكين في اللغة الخاضع...
والمراد به هنا ما يعم الفقير، والمسكينُ أحسن حالاً من الفقير. وقد قالوا : المسكينُ والفقيرُ إذا اجتمعا يعني ( في اللفظ ) افترقا ( في المعنى ) وإذا افترقا اجتمعا.
﴿ حُدُودُ ﴾ : الحد : الفصل بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر وجمعه حدود.
وحدود الله : الأشياء التي بيّن تحريمها وتحليلها، وأمرَ أن لا يتعدى شيء منها فيتجاوز إلى غير ما أمر فيها أو نهى عنه منها ومنع من مخالفتها.
وهنا قوله ﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ الله ﴾ يعني الحدود بين معصيته وطاعته، فمعصيتُه الظهارُ، وطاعتهُ الكفارة.
المعنى الإجمالي
إن الله تعالى سميع قريب، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وهذه امرأة جاءت رسول الله ﷺ تشكو ظلم زوجها لها، حيث حرّمها على نفسه بلفظٍ كانت الجاهلية تستعمله، أفيبقى هذا اللفظ محرماً في الإسلام؟!
جادلت رسول الله ﷺ وتوجّهت بالدعاء إلى المولى جلّ وعلا، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، تشكو إليه وحدتها، فلا أهل لها، ولا معيل ولا نصير، وقد كبر سنّها، وأولادُها صغارٌ، إن أبقتهم عنده ضاعوا، وإن ضمّتهم إليها جاعوا...
ورسولُ الله صلوات الله عليه لا يشرّع من قبل نفسه، وإنما يتّبع الوحي الذي يأتيه من ربه، ولم يوح إليه في الظهار بشيء، ولذلك ما كان يجزم بالتحريم، وإنما كان يقول :« ما أُرَاك إلا قد حَرُمتِ عليه » فكانت تجادله.
استجاب الله دعاء هذه المرأة الضعيفة الوحيدة، ونزل الوحي ليقول للزوج : زوجُكَ التي ظاهرت منها ليست بأمك، فأمك هي التي ولدتك حقيقة، وحرّمت عليك بذلك، فكيف تصف ما أباحه الله لك بما حرَّمه عليك؟ إنك تقول قولاً يمقته الشرع فضلاً عن كونه كذباً وزوراً، ومع ذلك فإن الله عفوّ عمن أخطأ ثمّ تاب، غفور لمن وقف عند حدود الشرع، واتَّبع أمر الله الذي أنزله على نبيّه.
فمن ظاهر من زوجه وقال لها : أنتِ عليّ كظهر أمي، ثمّ أراد أن ينقض قوله، ويعود إلى ما أحلّه الله له من زوجه، فالواجب عليه أن يحرّر عبداً مملوكاً قبل أن يمسّ زوجه، هذا حكمُ مَنْ ظاهر ليتعظ به المؤمنون، ويعلموا أن الله جلّ وعلا خبير بكل ما يعملونه، فعليهم أن ينتهوا عما نهاهم عنه.
فمن لم يجد الرقبة بأن كان لا يملك ثمنها، أو لا يجد عبداً يشتريه ويعتقه فليصم شهرين متتابعين من قبل أن يقرب زوجه، فإذا كان ضعيفاً لا يقوى على الصوم، أو مريضاً يُضعفه الصوم، فعليه أن يطعم ستين مسكيناً ما يشبعهم، ذلك هو حكم الله في الظهار، لتؤمنوا بأن هذا منزّل من عند الله تعالى وتتبعوه، وتقفوا عند حدود ما شرع لكم فلا تتعدوها.
أولاً : عن عائشة رضي الله عنها قالت :
« تبارك الذي وسمع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة، فكلَّمت رسول الله ﷺ وأنا في جانب البيت أسمع كلامها، ويخفى عليَّ بعضه، وهي تشتكي زوجها وتقول : يا رسول الله : أَبْلى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سنِّي، وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك.
قالت : فما برحتْ حتى نزل جبريل بهذه الآيات ».
ثانياً : وقال ابن عباس رضي الله عنهما :
« كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية : أنتِ علي كظهر أمي، حرمت عليه فكان أول من ظاهر في الإسلام ( أوس ) ثمّ ندم، وقال لامرأته : انطلقي إلى رسول الله ﷺ فسليه، فأتته، فنزلت هذه الآيات ».
ثالثاً : وعن خولة بن مالك بن ثعلبة قالت :
ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله ﷺ أشكو إليه وهو يجادلني فيه ويقول : اتقي الله فإنه ابن عمك.
فما برحتُ حتى نزل القرآن ﴿ قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تجادلك فِي زَوْجِهَا... ﴾ إلى الفرض قال : يعتق رقبة، قلت لا يجد، قال : فليطعم ستين مسكيناً.
قلت : ما عنده شيء يتصدق به، قال : فإني سأعينه بعَرَقَ من تمر.
قلت : يا رسول الله وإني أعينه بعَرَق آخر. قال : قد أحسنتِ اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً وارجعي إلى ابن عمك.
قال : والعَرَق ستون صاعاً.
وجوه القراءات
أولاً : قوله تعالى :﴿ قَدْ سَمِعَ الله ﴾ بإظهار الدال.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الدال في السين.
قال الكسائي : من قرأ ﴿ قَدْ سَمِعَ ﴾ فبيَّنَ الدَّال فلسانه أعجمي ليس بعربي.
قال الألوسي :« ولا يلتفت إلى هذا فكلا الأمرين فصيح متواتر، بل الجمهور على البيان ».
ثانياً : قوله تعالى :﴿ تجادلك فِي زَوْجِهَا ﴾ قراءة الجمهور تجادلك من المجادلة وهي المراجعة في الكلام.
وقرئ ﴿ تحاروك ﴾ أي تراجعك الكلام.
ثالثاً : قوله تعالى :﴿ والذين يظاهرون مِن نِّسَآئِهِمْ ﴾ قرأ حفص وعاصم ﴿ يُظَاهِرون ﴾ بضم الياء وكسر الهاء.
وقرأ نافع وابن كثير وعمر ﴿ يَظَّهَّرون ﴾ بتشديد الظاء والهاء وحذف الألف وفتح الياء.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف ﴿ يَظّاهرون ﴾ بفتح الياء وتشديد الظاء وألف.
وقرأ الحسن وقتادة ﴿ يَظَهّرون ﴾ بفتح الياء وفتح الظاء مخففة مكسورة الهاء مشددة، والمعنى ( يقولون لهنَّ أنتُنَّ كظهور أمهاتنا ).
رابعاً : قوله تعالى :﴿ مَّا هُنَّ أمهاتهم ﴾ الجمهور بكسر التاء وهي لغة أهل الحجاز.
وقرأ المفضل عن عاصم ﴿ أمهاتُهم ﴾ بالرفع على لغة تميم.
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى :﴿ وتشتكي إِلَى الله ﴾ عطف على ﴿ تجادلك ﴾ فهو من عطف الجمل لا محل لها من الإعراب لكونها صلة للتي.
وجوّز بعضهم أن تكون حالاً، أي تجادلك شاكية حالها إلى الله ويقدر مبتدأ أي وهي تشتكي؛ لأن المضارعية لا تقترن بالواو في الفصيح فيقدر معها المبتدأ لتكون اسمية.
ثانياً : قوله تعالى :﴿ الذين يظاهرون مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ ﴾ اسم الموصول ﴿ الذين ﴾ مبتدأ خبره محذوف أي مخطئون، وأقيم دليله هو قوله تعالى :﴿ مَّا هُنَّ أمهاتهم ﴾ مقامه.
وقال ابن الأنباري : خبره ( ما هن أمهاتهم ) أي ما نساؤهم أمهاتهم.
ثالثاً : قوله تعالى :﴿ مَّا هُنَّ أمهاتهم إِنْ أمهاتهم ﴾.
قال الفراء : وانتصابُ الأمهات هاهنا بإلقاء الباء، وهي قراءة عبد الله ﴿ ما هن بإمهاتهم ﴾ ومثله ﴿ ما هذا بشراً ﴾ أي ما هذا ببشر، فلما ألقيت الباء أبقى أثرها، وهو النصب، وعلى هذا كلام أهل الحجاز، فأما أهل نجد فإنهم إذا ألقوا رفعوا وقالوا :( ما هنّ أمهاتُهم ) و ( ما هذا بشرٌ ).
وقال أبو حيان : أجرى ( ما ) مُجْرَى ( ليس ) في رفع الاسم ونصب الخبر كما في قوله تعالى :﴿ مَا هذا بَشَراً ﴾ [ يوسف : ٣١ ] وقوله :﴿ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [ الحاقة : ٤٧ ].
أقول : هذا هو الصحيح لأن ( ما ) بمعنى ليس فهي نافية حجازية وهي لغة القرآن.
رابعاً : قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً ﴾ انتصب ( منكراً وزوراً ) على الوصف لمصدر محذوف، وتقديره وإنهم ليقولون قولاً منكراً، وقولاً زوراً.
خامساً : قوله تعالى :﴿ والذين يظاهرون مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ اسم الموصول ( الذين ) مبتدأ، وقوله تعالى :﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ مبتدأ آخر خبره مقدر أي فعليهم تحرير رقبة، أو فكفارتهم تحرير رقبة.
والجملة من المبتدأ وخبره خبر الموصول، ودخلته الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط.
سادساً : قوله تعالى :﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ﴾.
قال ابن الأنباري : الجار والمجرور في موضع نصب لأنه يتعلق ب ( يعودون ) و ( ما ) مصدرية، وتقديره ( يعودون لقولهم ). والمصدر في موضع المفعول كقولك ( هذا الثوب نسج اليمن )، أي منسوجه، ومعناه يعودون للإمساك المقول فيه الظهار ولا يطلِّق.
وقيل : اللامُ في ﴿ لِمَا قَالُواْ ﴾ بمعنى ( إلى ) أي يعودون إلى قول الكلمة التي قالوها أولاً من قولهم : أنت علي كظهر أمي وهذا من مذهب أهل الظاهر.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : يقول علماء اللغة :( قَدْ ) حرف يُوجَب به الشيء وهي إذا دخلت على الماضي تفيد ( التحقيق ) وإذا دخلت على المضارع تفيد ( التقليل ) لأنها تميل إلى الشك تقول : قد ينزل المطر، وقد يجود البخيل، وأمّا في كلام الله فهي للتحقيق سواءً دخلت على الماضي أو المضارع كقوله تعالى :﴿ قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ ﴾ [ الأحزاب : ١٨ ].
قال الجوهري :( قد ) حرف لا يدخل إلاّ على الأفعال.
قال الزمخشري :« معنى ( قد ) التوقع لأنه ﷺ والمجادِلة كانا متوقعين أن ينزل الله في شكواها ما يفرّج عنها ».
اللطيفة الثانية : قوله تعالى :﴿ والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ قال الإمام الفخر : هذه الواقعة تدل على أنّ من انقطع رجاؤه عن الخلق، ولم يبق له فيما أهمّه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك الأمر.
وصيغةُ المضارع ( يسمع ) تفيد التجدّد، للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدّده، وذكْرُهَا مع الرسول في سلك الخطاب ( تحاوكما ) تشريف لها بهذا الخطاب الكريم، وإظهارُ الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة والروعة في قلوب المؤمنين.
اللطيفة الثالثة : قال ابن منظور : كانت العرب تطلّق النساء في الجاهلية بهذه الكلمة ( أنت عليّ كظهر أمي ) وإنما خصّوا ( الظَّهر ) دون البطن، والفخذ، والفرج - وهذه أولى بالتحريم - لأنّ الظهر موضع الركوب، والمرأة مركوبة إذا غشيت، فكأنه أراد أنْ يقول : ركوُبك للنكاح عليّ حرام كركوب أمّي للنكاح، فأقام الظهر مقام الركوب، وهذا من لطيف الاستعارات للكناية.
وقال الفخر الرازي : ليس الظهار مأخوذاً من الظهر الذي هو عضو من الجسد، لأنه ليس الظهر أولى بالذكر في هذا الموضع من سائر الأعضاء، التي هي مواضع المباضعة والتلذذ، بل الظهر هاهنا مأخوذ من العلو ومنه قوله تعالى :﴿ فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ ﴾ [ الكهف : ٩٧ ] أي يعلوه، وكلّ من علا شيئاً فقد ظهره، ومنه سُمّي المركوب ظهراً لأنَّ راكبَه يعلوه، وكذا امرأة الرجل ظهره لأنه يعلوها بملك البضع، فكأن امرأة الرجل مركوب للرجل وظهر له.
ويدل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق : نزلت عن امرأتي أي طلَّقتُها، وفي قولهم : أنتِ عليّ كظهر أمي ( حذف وإضمار ) لأن تأويله : ظهرك عليّ أيملكي إيّاك، وعلوّي عليك حرام، كما أنّ علوّي على أمي وملكها حرام عليّ.
اللطيفة الرابعة : المظاهِر شبّه الزوجة بالأم، ولم يقل هي أم، فكيف كان ذلك منكراً وزوراً؟
قال الإمام الفخر في الجواب عن ذلك : إن الكذب إنما لزم لأن قوله :( أنتِ عليّ كظهر أمي ) إمّ أن يكون إخباراً، أو إنشاءً.
فعلى الأولى : إنه كذب لأن الزوجة محلّلة، والأم محرمة، وتشبيه المحلّلة بالمحرمة في وصف الحل والحرمة كذب.
وعلى الإنشاء : كان ذلك أيضاً كذباً، لأن معناه أن الشرع جعله سبباً في حصول الحرمة، فلمّا لم يرد الشرع بهذا التشبيه كان جعله إنشاءً في وقوع هذا الحكم كذباً وزوراً.
اللطيفة الخامسة : روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ في خلافته على امرأة، وكان راكباً على حمار والناس معه، فاستوفقته تلك المرأة طويلاً، ووعظته وقالت له : عهدي بك يا عمر وأنت صغير تدعى عميراً، ثمّ قيل لك : يا عمر، ثمّ قيل لك : يا أمير المؤمنين، فاتّق الله يا عمر في الرعيّة، واعلم أن من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب.
فقال : والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره، لا زِلتُ إلاّ للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟! هذه ( خولة بنت ثعلبة ) التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمح ربّ العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟!.
أقول : رضي الله عنك يا عمر فهذه أخلاق الصدّيقين.
اللطيفة السادسة : قوله تعالى :﴿ الذين يظاهرون مِنكُمْ ﴾ الخطاب بلفظ ( منكم ) فيه مزيد توبيخ للعرب، وتهجين لعادتهم في الظهار، لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة، دون سائر الأمم.
اللطيفة السابعة : روى الإمام الترمذي عن ( سلمة بن صخر البياضي ) أنه قال :« كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل رمضان خفت أن أصيب امرأتي شيئاً يتابع بي حتى أصبح، فظاهرات منها حتى ينسلخ رمضان، فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء، فما لبثتُ أن نزوتُ عليها، فلما أصبحتُ أخبرتُ قومي، فقلت : امشوا معي إلى النبي ﷺ فقالوا : لا والله.
فانطلقت فأخبرته ﷺ فقال :» أنتَ بذاك يا سلمة! قلت : أنا بذاك يا رسول الله مرتين، وأنا صابر لأمر الله، فاحكم فيما أراك الله؟
قال :« حرّر رقبة »، قلت : والذي بعثك بالحق ما أملك رقبةً غيرها وضربت صفحة رقبتي.
قال :« فصم شهرين متتابعين ».
قالت : وهل أصبتُ الذي أصبتُ إلاّ من الصيام؟
قال :« فأطعم وسقاً من تمر بين ستين مسكيناً ».
قلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا وَحْشين ما لنا طعام!!
قال :« فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر، وكُلْ أنت وعيالك بقيتها ».
فرجعت إلى قومي فقلتُ : وجدت عندكم الضيق، وسوء الرأي، ووجدت عن النبي ﷺ السعة وحسن الرأي، وقد أمر لي بصدقتكم «.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل لاظهار مشروع كالطلاق أم هو محرَّم؟
كان الظهار في الجاهلية طلاقاً، بل هو أشد أنواع الطلاق عندهم، لما فيه من تشبيه الزوجة بالأم التيّ تحرم حرمة على التأبيد، بل لا تجوز بحالٍ من الأحوال، وجاء الإسلام فأبطل هذا الحكم، وجعل الظهّار محرّماً قربان المرأة حتى يكفّر زوجها، ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يعتبرونه في الجاهلية.
فلو ظاهر الرجل يريد الطلاق كان ظهاراً، ولو طلّق يريد به الظهار كان طلاقاً، العبرةُ باللفظ لا بالنيّة، فلا يقوم أحدهما مقام الآخر.
قال ابن القيم :» وهذا لأنّ الظهار كان طلاقاً في الجاهلية فنسخ، فلم يجز أن يُعاد إلى الحكم المنسوخ، وأيضاً فإنّ ( أوس بن الصامت ) إنما نوى به الطلاق على ما كان عليه، وأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق، وأيضاً فإنه صريح في حكمه، فلم يجز جعله كناية في الحكم الذي أبطله الله بشرعه، وقضاءُ الله أحقُّ، وحكمُ الله أوجب «.
وقد اتفق العلماء على حرمته فلا يجوز الإقدام عليه، لأنه كذب وزور وبهتان، وهو يختلف عن الطلاق، فالطلاقُ مشروع، وهذا ممنوع، ولو أقدم الإنسان عليه يكون قد ارتكب محرماً ويجب عليه الكفارة.
الحكم الثاني : ماذا يترتب على الظهار من أحكام؟
إذا ظاهر الرجل من امرأته ترتّب عليه أمران :
الأول : حرمة إتيان الزوجة حتى يكفّر كفارة الظهار لقوله تعالى :﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ﴾.
والثاني : وجوب الكفارة بالعود لقوله تعالى :﴿ والذين يظاهرون مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ... ﴾ الآية وسنتحدث عن معنى العود في الحكم الثالث إن شاء الله.
وكما يحرم المسيس فإنه يحرم كذلك مقدماته، من التقبيل، والمعانقة وغيرها من وجوه الاستمتاع، وهذا مذهب جمهور الفقهاء ( الحنفية والمالكية، والحنابلة ).
وقال الثوري والشافعي ( في أحد قوليه ) : إن المحرّم هو الوطء فقط، لأن المسيس كناية عن الجماع.
حجة الجمهور :
أ- العموم الوارد في الآية ( من قبل أن يتماسّا ) فإنه يشمل جميع وجوه الاستمتاع.
ب- مقتضى التشبيه الذي هو سبب الحرمة ( كظهر أمي ) فكما يحرم مباشرة الأم والاستمتاع بها بجميع الوجوه، فكذلك يحرم الاستمتاع بالزوجة المظاهر منها بجميع الوجوه عملاً بالتشبيه.
ج - أمر الرسول ﷺ للرجل الذي ظاهر من زوجته بالاعتزال حتى يكفّر.
حجة الشافعي والثوري :
أ- الآية ذكرت المسيس وهو كناية عن الجماع فيقتصر عليه.
ب- الحرمة ليست لمعنى يُخلُّ بالنكاح فأشبه الحيض، الذي يحرم الاستمتاع فيه فيما بين السرة والركبة.
أقول : رأي الجمهور أحوط لأنّ من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، سيّما وقد نقل الإمام الفخر أنّ للشافعي فيه قولين :( أحدهما ) أنه يحرم الجماع فقط. ( والثاني ) أنه يحرم جميع جهات الاستمتاعات، قال : وهو الأظهر. وكفى الله المؤمنين القتال.
الحكم الثالث : ما المراد بالعود في الآية الكريمة؟
اختلف الفقهاء في المراد من العود في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ﴾ على عدة أقوال.
أ- قال أبو حنيفة : العود : هو عبارة عن العزم على استباحة الوطء والملامسة.
ب- وقال الشافعي : العود : هو أن يمسكها بعد الظهار مع القدر على الطّلاق.
ج - وقال مالك وأحمد : العود : هو العزم على الوطء، أو على الوطء والإمساك.
والآراء الثلاثة الأولى متقاربة في المعنى لأن العود إلى الإمساك، أو الوطء، أو إبقاءها بعد الظهار بدون طلاق، كلّها تدل على معنى الندم وإرادة المعاشرة لزوجه التي ظاهر منها فاللام في ( لما ) بمعنى ( إلى ).
والمعنى : يرجعون إلى تحليل ما حرّموا على أنفسهم بالعزم على الوطء، وقد عدّد ( القرطبي ) فيها سبعة أقوال.
قال الفراء : معنى الآية يرجعون عمّا قالوا، وفي نقض ما قالوا.
دليل الظاهرية :
قال أهل الظاهر : إن العود معناه تكرار لفظ الظهار وإعادته، فلا تلزم الكفارة إلاّ إذا أعاد اللفظ - يعني ظاهر مرة ثانية - وقالوا : الذي يعقل من قولهم : عاد إلى الشيء أي أنه فعله مرة ثانية كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ] فإذا لم يتكرر الظهار لا يقع التحريم.
قال الزجّاج : وهذا قول من لا يدري اللغة.
وقال أبو علي الفارسي : ليس هو كما ادّعوا، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن عليه الإنسان قبل، وسميت الآخرة معاداً ولم يكن فيها أحد ثم عاد الناس إليها، قال الهُذلي :
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائلٍ | سوى الحقّ شيئاً واستراح العواذل |
أقول : ما قاله جمهور الفقهاء أن المراد بالعود ليس تكرار اللفظ، إنما هو العود إلى معاشرتها والعزم على وطئها هو الصحيح المعقول لغة وشرعاً لأن المظاهر قد حرّم على نفسه قربان الزوجة، فهو يريد أن ينقض ذلك ويعيدها إلى نفسه فيلزمه التكفير بهذا العزم.
وأما ما قاله أهل الظاهر فباطل لا يقوم عليه دليل، بل هو من آثار الفهم السقيم الذي تخبّط فيه هؤلاء في كثير من الأحكام الشرعية ويكفي لبطلانه حديث ( أوس بن الصامت ) فإنه لم يكرّر الظهار وقد ألزمه ﷺ الكفارة؛ وحديث ( سلمة بن صخر ) فقد أمره ﷺ بالكفارة مع أنه لم يكرّر اللفظ وقد تقدّما، وكفى بذلك حجة قاطعة، لا رأي لأحدٍ أمام قول المعصوم ﷺ.
الحكم الرابع : هل يصح ظهار غير المسلم كالذمي والكتابي؟
ذهب الجمهور ( الحنفية والمالكية والحنابلة ) إلى أن ظهار الذمي لا يقع لأن الله تعالى يقول :( الذين يظاهرون منكم ) وظاهرُ قوله :( منكم ) أنَّ غير المسلم لا يتناوله الحكم.
وقالوا أيضاً : إن الذميّ ليس من أهل الكفارة، لأن فيها إعتاق رقبة، والصوم، ولما كان ( الصوم ) عبادة لا يصحّ من غير المسلم إذن فلا يصح ظهاره.
مذهب الشافعي : قال الشافعية : كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه، كذلك يقع ظهاره.
وقالوا : يكفّر بالإعتاق، والإطعام، ولا يكفّر بالصوم لأنه عبادة لا تصح إلاّ من المسلم.
قال الألوسي : والعجب من الإمام الشافعي عليه الرحمة أن يقول بصحته مع أنه يشترط النيّة في الكفارة، والإيمان في الرقبة، والكافر لا يملك المؤمن؟
أقول : الراجح رأي الجمهور، واستدلالهم بالكفارة في ( العتق والصيام ) قوي، وأمّا استدلالهم بمفهوم الصفة في الآية الكريمة ( منكم ) فليس بذاك لأن الآية وردت مورد ( التهجين والشنيع ) لما مرّ أن الظهار لم يعرف إلاّ عند العرب فليس فيها ما يدل لهم والله أعلم.
الحكم الخامس : هل يصح الظهار من الأمة؟.
أ- ذهب ( الحنفية والحنبلية والشافعية ) إلى أن الرجل لو ظاهر من أمته لا يصح، ولا يترتب عليه أحكام الظهار، لقوله تعالى :﴿ مِّن نِّسَآئِهِمْ ﴾ لأن حقيقة إطلاق النساء على ( الزوجات ) دون ( الإماء ) بدليل قوله تعالى :﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ [ النور : ٣١ ] فقد غاير بينهنّ، فالمراد بالنساء في الآية الحرائر.
ب- وذهب مالك : إلى صحة الظهار في الأمة مطلقاً لأنها مثل الحرّة.
ج - وروي عن الإمام أحمد : أنه لا يكون مظاهراً، ولكن تلزمه كفارة الظهار.
الحكم السادس : هل يقع ظهار المرأة؟
اتفق الفقهاء على أنه ليس للنساء ظهار، فلو ظاهرت امرأة من زوجها بقولها :( أنت عليّ كظهر أمي فلا كفارة عليها ولا يلزمها شيء ) وكلامها لغو.
قال ابن العربي : وهو صحيح في المعنى، لأن الحَلَّ والعقد، والتحليل التحريم في النكاح من الرجال ليس بيد النساء منه شيء.
وروي عن الإمام أحمد ( في أحد قوليه ) أنه يجب عليها الكفارة إذا وطئها وهي التي اختارها الخرقي.
الحكم السابع : هل الظهار مختص بالأم؟
أ- ذهب الجمهور إلى أن الظهار يختص بالأم، كما ورد في القرآن الكريم، وكما جاء في السنة المطهّرة، فلو قال لزوجته : أنتِ عليّ كظهر أمي كان مظاهراً، ولو قال لها : أنت عليّ كظهر أختي أو بنّتي لم يكن ذلك ظهاراً.
ب- وذهب أبو حنيفة ( والشافعي في أحد قوليه ) : إلى أنه يقاس على الأم جميع المحارم.
فالظهار عندهم هو تشبيه الرجل زوجته في التحريم، بإحدى المحرمات عليه على وجه التأبيد بالنسب، أو المصاهرة، أو الرضاع، إذ العلة هي التحريم المؤبد.
وأمّا من قال لامرأته : يا أختي أو يا أمي على سبيل الكرامة والتوقير فإنه لا يكون مظاهراً، ولكن يكره له ذلك لما رواه أبو داود عن ( أبي تميمة الهجيمي ) أنّ رسول الله ﷺ سمع رجلاً يقول لامرأته : يا أُخَيّة، فكرة ذلك ونهى عنه.
الكفارة هي : عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً كما دلت عليه الآية.
أ- الإعتاق : وقد أطلقت الرقبة في الآية فهل تجزئ أي رقبة ولو كانت كافرة؟
ذهب الحنفية : إلى أنه يجزئ في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة والمؤمنة، والذكر والأنثى، والكبير والصغير، ولو رضيعاً لأن الاسم ينطلق على كل ذلك.
وذهب الشافعية والمالكية : إلى اشتراط الإيمان في الرقبة، فلا يصح عتق غير المؤمن حملا للمطلق على المقيد في آية القتل لقوله تعالى :﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ﴾ [ النساء : ٩٢ ] بجامع عدم الإذن في السبب في كل منهما.
وقال الحنفية : لا يحمل المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة، لأنه حينئذٍ يلزم ذلك لزوماً عقلياً إذ الشيء لا يكون نفسه مطلوباً إدخاله في الوجود مطلقاً ومقيداً، كالصوم في كفارة اليمين، ورد مطلقاً ومقيداً بالتتابع في القراءة المشهورة التي تجوز القراءة بمثلها.
والمناقشة : بين القولين تنظر في كتب الأصول والفروع.
وأما الإمام أحمد : ففي المسألة عنه روايتان.
ب- صيام شهرين متتابعين : من عجز عن إعتاق الرقبة فعليه صوم شهرين متتابعين.
ويعتبر الشهر بالهلال فلا فرق بين التام والناقص، وإن صام بغير الأهلة فلا بد من ستين يوماً عند الحنفية.
وعند الشافعية والمالكية : يصوم إلى الهلال ثم شهراً بالهلال ثم يتم الأول بالعدد.
ج - إطعام ستين مسكيناً : من لم يستطع صيام شهرين متتابعين بأن لم يستطع أصل الصيام، أو بأن لم يستطع تتابعه لسبب من كبر أو مرض لا يرجى زواله عادة أو بقول طبيب فعليه إطعام ستين مسكيناً.
واختلف الفقهاء في قدر الإطعام لكل مسكين.
قال أبو حيان : والظاهر مطلق الإطعام وتخصّصه ما كانت العادة في الإطعام وقت النزول وهو ما يشبع من غير تحديدٍ بمد.
ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكيناً.
وقال أبو حنيفة وأصحابه لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه.
الحكم التاسع : هل تتغلّظ الكفارة بالمسيس قبل التكفير؟
أ- ذهب أبو حنيفة : إلى أن المظاهر إذا جامع زوجته قبل أن يكفر أثم وعصى الله، وتسقط عنه الكفارة لفوات وقتها.
ب- وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه أثم وعصى ويستغفر ويتوب ويمسك عن زوجه حتى يكفِّر كفارة واحدة.
قال أبو بكر الرازي :« إن الظهار لا يوجب كفارة، وإنما يوجب تحريم الوطء، ولا يرتفع إلا بالكفارة، فإذا لم يرد وطأها فلا كفارة عليه، وإن ماتت أو عاشت فلا شيء عليه إذ كان حكم الظهار إيجاب التحريم فقط مؤقتاً بأداء الكفارة، وأنه متى لم يكفر فالوطء محظور عليه، فإن وطئ سقط الظهار والكفارة، وذلك لأنه علَّق حكم الظهار وما أوجب به من الكفارة بأدائها قبل الوطء لقوله :﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ﴾ فمتى وقع المسيس فقد فات الشرط فلا تجب الكفارة بالآية، لأن كل فرض محصور بوقت أو معلق على شرط، فإنه متى فات الوقت، وعُدِم الشرط، لم يجب باللفظ الأول واحتيج إلى دلالة أخرى في إيجاب مثله في الوقت الثاني، فهذا حكم الظهار إذا وقع المسيس قبل التكفير إلا أنه قد ثبت عن النبي ﷺ أن رجلاً ظاهر من امرأته فوطئها قبل التكفير ثم سأل النبي ﷺ فقال له : استغفر الله ولا تعد حتى تكفِّر، فصار التحريم الذي بعد الوطء واجباً بالسنة ».
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : استجابة الله دعاء الشاكي الصادق إذا أخلص الدعاء.
ثانياً : عدم جواز تشبيه الزوجة بمحرم من المحرمات على التأبيد.
ثالثاً : عدم جواز مس المرأة قبل أداء كفارة الظهار.
رابعاً : خصال الكفارة مرتبة لا يصار إلى التالية قبل العجز عن التي قبلها.
خامساً : حدود الله يجب التزامها، ولا يجوز تعديها.
حكمة التشريع
لقد شرع الإسلام الزواج عقداً دائماً غير مؤقت، لا يقطعه إلا هاذم اللذات، أو أبغض الحلال إلى الله، وبالزواج يَحِلُّ للرجل كلُّ شيء من زوجه، في حدود ما أباحه الله تعالى له، فإذا جاء الإنسان يريد أن يغيَّر ما أباحه الله له فيجعل الحلال حراماً، فقد ارتكب كبيرة لا محالة، وتجاوز بذلك الحدود التي شرعها الله له، فلهذا كان عقابه كبيراً، وكانت أولى خصال الكفارة ما فيه فائدة للمجتمع، ألا وهي تحرير رقاب العبيد، وهذه إحدى سبل تحريرهم، فإذا لم يستطع شراء العبد وعتقه، فليصم شهرين متتابعين، والصوم مدرسة تهذب خلقه، وتربيَّ نفسه، وتقوّم ما أعوج من تربيته.
هذا إن كان صحيح الجسم، موفور الصحة، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فالمريض الذي لا يستطيع الصوم، ينتقل الواجب في حقه إلى المجتمع أيضاً فيطعم ستين مسكيناً، وهكذا تنتقل خصال الكفارة بين فائدة المجتمع، وفائدة الرجل نفسه.
هذا جزاء من حرَّم حلالاً، فليتعظ المؤمنون بهذا الجزاء الزاجر.
التحليل اللفظي
﴿ تَفَسَّحُواْ ﴾ : توسّعوا في المجلس وليفسح بعضكم عن بعض، من قولهم : إفسح عني أي تنحّ، يقال : بلدة فسيحة، ومفازه فسيحة، ولك فيه فسحة أي سعة.
قال القرطبي : وفَسَح يَفْسَح مث مَنَع يَمْنَع، أي وسّع في المجلس، وفَسُح يَفْسُح مثل كَرُم يكْرُم، أي صار واسعاً، ومنه مكان فسيح.
﴿ انشزوا ﴾ : انهضوا وارتفعوا، وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض، قال في « اللسان » : النّشْز : المرتفع من الأرض، ونشز الشيء : ارتفع، وتلّ ناشز : مرتفع، وفي التنزيل :﴿ وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ ﴾ قرأها الناس بكسر الشين، وأهلُ الحجاز يرفعونها، وهي لغتان ومعناه : إذا قيل انهضوا وقوموا.
﴿ درجات ﴾ : أي منازل رفيعة، جمع درجة وهي الرفعة في المنزلة، مأخوذ من الدّرج الذي يُرقى به إلى السطح.
قال في اللسان : والدّرجة : الرفعة في المنزلة، والدّرجة واحدة الدرجات، وهي الطبقات من المراتب، ودرجات الجنة : منازل أرفع من منازل.
﴿ نَجْوَاكُمْ ﴾ : النجوى مصدر بمعنى التناجي وهو المسارّة مأخوذة من ( النّجوة ) وهي ما ارتفع من الأرض، فالمتناجيان يخلوان بسرّهما كخلوّ المرتفع من الأرض عما يتصل به.
وقيل : النجوى من المناجاة وهي الخلاص، وكأنّ المتناجيَيْن يتعاونان على أن يخلّص أحدهما الآخر.
ومعنى الآية : إذا أردتم مناجاة الرسول ﷺ لأمرٍ من الأمور فتصدقوا قبلها.
﴿ وَأَطْهَرُ ﴾ : أي أزكى لأنفسكم وأطيب عند الله.
﴿ ءَأَشْفَقْتُمْ ﴾ : الإشفاق : الخوف من المكروه، والمعنى : أخفتم وبخلتم بالصدقة، وشقّ ذلك عليكم؟
قال ابن عباس :« أأشفقْتُم » أي أبخلتم بالصدقة. وهو استفهام معناه التقرير.
المعنى الإجمالي
يقول الله جلّ ثناؤه ما معناه : يا أيها المؤمنون إذا قيل لكم توسعوا في المجلس لإخوانكم القادمين فتوسّعوا لهم، وافسحوا لهم، حتى يأخذ القادم مكانه في المجلس، فإن ذلك سبب المودة والمحبة بينكم، ومدعاة للألفة وصفاء النفوس، وإذا فسحتم لهم فإنّ الله تعالى يفسح لكم في رحمته، وينوّر قلوبكم، ويوسّع عليكم في الدنيا والآخرة.
وإذا قيل لكم - أيها المؤمنون - انهضوا إلى الصلاة، والجهاد، وعمل الخير فانهضوا، أو قيل لكم قوموا من مقاعدكم للتوسعة على غيركم فأطيعوا فإنّ الله تعالى يحبّ من عباده الطاعة، ويرفع درجات المؤمنين، والعلماء العاملين، الذين يبتغون بعلمهم وجه الله، فالعلماء ورثة الأنبياء، ومن يرد الله به خيراً يفقِّهه في الدين، وليست الرفعة عند الله تعالى بالسبق إلى صدور المجالس، وإنما هي بالعلم والإيمان.
ثم أمر تعالى عباده المؤمنين إذا أرادوا مناجاته عليه السلام لأمر من الأمور، أن يتصدقوا قبل هذه المناجاة، تعظيماً لشأن الرسول ﷺ ونفعاً للفقراء، وتمييزاً بين المؤمن المخلص، والمنافق المراوغ، فإنّ ذلك أزكى للنفوس، وأطهر للقلوب، وأكرم عند الله تعالى، فإذا لم يتيسر للمؤمن الصدقة فلا بأس عليه ولا حرج.
سبب النزول
أ- روي أنّ النبي ﷺ كان يوم جمعة في الصفّة، وفي المكان ضيق، وكان ﷺ يكرم أهل بدر من ( المهاجرين والأنصار ) فجاء ناس من أهل بدر، منهم ( ثابت بن قيس بن شمّاس ) وقد سُبقوا إلى المجلس، فقاموا حيال النبي ﷺ فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فردّ النبي ﷺ ثم سلّموا على القوم فردّوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم، فلم يفسحوا لهم، فشقّ ذلك على رسول الله ﷺ فقال لبعض من حوله : قم يا فلان، ويا فلان، فأقام نفراً مقدار من قدم، فشقّ ذلك على رسول الله ﷺ فقال لبعض من حوله : قم يا فلان، ويا فلانن فأقام نفراً مقدار من قدم، فشقّ ذلك عليهم، وعرفت كراهيته في وجوههم، وقال المنافقون : ما عدل بإقامة من أخذ مجلسه، وأحبّ قربه لمن تأخر عن الحضور، فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ... ﴾.
ب- وروي عن ابن عباس وقتادة :« أنّ قوماً من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول ﷺ، في غير حاجة إلاّ لتظهر منزلتهم وكان ﷺ سمحاً لا يردّ أحداً فنزلت هذه الآية ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول... ﴾ الآية.
ج - وروي عن مقاتل : أنّ الأغنياء كانوا يأتون النبي ﷺ فيكثرون مناجاته، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره ﷺ طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت الآية :﴿ إِذَا ناجيتم الرسول ﴾.
وجوه القراءات
١- قوله تعالى :﴿ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس ﴾ قرأ الجمهور ﴿ تفسّحوا ) بتشديد السين، وقرأ قتادة والحسن { تفاسحوا ﴾.
٢- قرأ الجمهور ( في المجلس ) بالإفراد على إرادة معنى الجمع، وقرأ عاصم وقتادة ( المجالس ) بالجمع.
٣- قوله تعالى :﴿ انشزوا فَانشُزُواْ ﴾ : قرأ الجمهور بضم الشين فيهما، وقرأ حمزة والكسائي ﴿ انشِزُوا فانشِزُوا ﴾ بكسر الشين فيهما، قال الفراء : وهما لغتان مثل يعكفُون ويعرِشُون.
٤- قرأ الجمهور ( فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة ) بالإفراد، وقرئ ( صدقات ) بالجمع لجمع المخاطبين.
وجوه الإعراب
١- قوله تعالى :﴿ يَفْسَحِ الله لَكُمْ ﴾ يفسحْ مضارع لأنه جواب الطلب، وحرّك بالكسر للتخلُّص من التقاء الساكنيْن، ومثله ﴿ يَرْفَعِ الله ﴾ مجزوم لأنه جواب الأمر كأنه قيل : إن تنشُزوا يرفع الله تعالىّ المؤمنين جزاء امتثالهم درجات.
والمعنى : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات، فالوصفات لذاتٍ واحدة.
واختار الطيبي : أن يكون في اللفظ تقدير يناسب المقام نحو أن يقال : يرفع الله الذين آمنوا في الدنيا بالنصر وحسن الذكر، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيماً لهم.
٣- قوله تعالى :﴿ ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ ﴾ أنْ وما بعدها في تأويل مصدر مفعول ل ﴿ ءَأَشْفَقْتُمْ ﴾ والله أعلم.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : لما نهى سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عمَّا يكون سبباً للتباعض والتنافر، أمرهم في هذه الآيات بما يكون سبباً لزيادة المحبة والمودّة، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم شديدي الحرص على القر من رسول الله ﷺ والجلوس بين يديه حرصاً على استماع كلامه، فأمروا بالتوسعة على إخوانهم في المجلس تطييباً لقلوبهم، وهذا هو السرّ في مجيء الآيات عقب آيات النهي عن التناجي بالإثم والعدوان.
اللطيفة الثانية : ذكر تعالى في أول الآية مكانة المؤمنين، ثمّ عطف عليها بذكر مكانة العلماء، والعطفُ في مثل هذا الموطن هو من باب ( عطف الخاص على العام ) تعظيماً لشأن العلماء، والعطفُ في مثل هذا الموطن هو من باب ( عطف الخاص على العام ) تعظيماً لشأن العلماء كأنهم جنس آخر، ولذا أعيد اسم لموصول في النظم الكريم في قوله تعالى :﴿ والذين أُوتُواْ العلم درجات ﴾.
اللطيفة الثالثة : الأمر للمؤمنين بالصدقة عند مناجاة الرسول ﷺ فيه فوائد عديدة :
أولها : تعظيم الرسول ﷺ وتعظيم مناجاته.
ثانيها : نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة.
ثالثها : الزجر عن الإفراط في الأسئلة لرسول الله ﷺ.
رابعها : التمييز بين المخلص والمنافق، ومحب الدنيا ومحب الآخرة.
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾ : في هذا اللفظ استعارة يسميها علماء البلاغة ( استعارة تمثيلية ) وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان كالإنسان فقد استعار اليدين للنجوى، وقيل إنها ( استعارة مكنية ) حيث شبّه النجوى بإنسان، وحذف المشبّه به وهو الإنسان، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو اليدان على سبيل الاستعارة المكنية ومثله قوله تعالى :﴿ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [ سبأ : ٤٦ ] وذكر اليدين تخييل.
اللطيفة الخامسة : أشاد القرآن بمنزلة العلماء الرفيعة، ومكانتهم السامية عند الله تعالى، ويكفيهم هذا الشرف والفخر وقد قال ﷺ :« من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليُحيي به الإسلام، فبَيْنه وبين النبيّين درجة » وقد ذكر بعض الظرفاء مناظرة رمزية بين ( العقل والعلم ) نذكرها لطرافتها قال بعض الأدباء :
علمُ العليم وعقلُ العاقل اختلفا... من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا؟
فالعلم قال : أنا أدركتُ غايته... والعقل قال : أنا الرحمن بي عُرفا
فأفصح العلمُ إفصاحاً وقال له :... بأيّنا الله في فرقانه اتصفا؟
فبان للعقل أنَّ ( العلمَ ) سيّدُه... فقبّلَ ( العقلُ ) رأسَ العلم وانصرفا
الحكم الأول : ما المراد ب ( المجالس ) في الآية الكريمة؟
اختلف المفسّرون في المراد بالمجلس على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المراد به مجلس الرسول ﷺ خاصة، وهو قول مجاهد.
والثاني : أنّ المراد به مجلس الحرب، ومقاعد القتال، حيث كانوا لحرصهم على الشهادة يأبون التوسع، وهو قول ابن عباس، والحسن.
والثالث : أن المراد به مجالس الذكر كلّها، وهو قول قتادة وهو الأرجح.
قال الطبري :« والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنّ الله تعالى ذكرهُ أمر المؤمنين، أن يتفسّحوا في المجلس، ولم يخصّص بذلك مجلس النبي ﷺ دون مجلس القتال، وكلا الموضعين يقال له : مجلس، فذلك على جميع المجالس، من مجالس رسول الله ﷺ ومجالس القتال ».
وقال القرطبي :« والصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب، أو ذكر، أو مجلس يوم الجمعة، فإنّ كل واحد أحقّ بمكانه الذي سبق إليه ».
الحكم الثاني : هل يباح الجلوس مكان الشخص بدون إذنه؟
دلّت الآية الكريمة على وجوب التوسع في المجلس للقادم، وهذا من مكارم الأخلاق التي أرشد إليها الإسلام، ولكن لا يباح للإنسان أن يأمر غيره بالقيام ليجلس مجلسه لقوله ﷺ :« لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثمّ يجلس فيه، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا ».
وقد جرى الحكم أنّ من سبق إلى مباح فهو أولى به، والمجلسُ من هذا المباح، وعلى القادم أن يجلس حيث انتهى به المجلس، إلاّ أن الآداب الاجتماعية تقضي على الناس بتقديم أولي ( الفضل والعلم ) وبذلك جرى عرف الناس وعوائدهم في القديم والحديث.
ولقد كان هذا الأدب السامي شأن الصحابة في مجلس الرسول ﷺ فكانوا يُقدّمون بالهجرة، وبالعلم، وبالسنِّ، وما فعله النبي عليه السلام في جماعة ( ثابت بن قيس ) من أهل بدر، فإنما كان لتعليم الناس مكارم الأخلاق، وخاصة من أهل الفضل والعلم، من المهاجرين والأنصار.
أ- روى ابن العربي بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال :« بينا رسول الله ﷺ في المسجد وقد طاف به أصحابه، إذ أقبل علي بن أبي طالب فوقف وسلّم، ثمّ نظر مجلساً يشبهه، فنظر رسول الله ﷺ في وجوه أصحابه أيّهم يوسّع له، وكان أبو بكر جالساً على يمين النبي ﷺ فتزحزح له عن محله، وقال : ها هنا يا أبا الحسن!
فجلس بين النبي ﷺ وبين أبي بكر، فقال يا أبا بكر : إنما يعرف الفضل، لأهل الفضل، ذوو الفضل ».
وإذا قام الإنسان من مجلسه لحاجة ثمّ رجع إليه فهو أحقّ بالمجلس لقوله ﷺ :« من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به ».
الحكم الثالث : هل يجوز القيام للقادم إذا كان من أهل الفضل والصلاح؟
ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز القيام للقادم إذا كان مسلماً من أهل الفضل والصلاح على وجه التكريم لأن احترام المسلم واجب، وتكريمه لدينه وصلاحه ممّا يدعو إليه الإسلام، لأنه سبيل المحبّة والمودة، وقد قال عليه السلام :« لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تُكلّم أخاك وأنت منبسط إليه بوجهك ».
فالقيام للقادم جائز على وجه التكرمة، إن لم يكن فاسقاً، ولم يكن سبيلاً للكبرياء والخيلاء، وما لم يصبح ديدناً للإنسان عند كل دخول أو خروج، وفي كل حين وآن فعند ذلك يكره.
قال العلامة ابن كثير :« وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال، فمنهم من رخّص في ذلك محتجاً بحديث ( قوموا إلي سيّدكم ). ومنهم من منع من ذلك محتجاً بحديث :» من أحبّ أن يتمثّل له الرجال قياماً فليتبَوّأ مقعده من النار « ومنهم من فصّل فقال : يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دلّ عليه قصة ( سعد بن معاذ ) فإنه لما استقدمه النبي ﷺ حاكماً في بني قريظة فرآه مقبلاً قال للمسلمين : قوموا إلى سيّدكم، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه والله أعلم.
أقول : جمهور العلماء على جواز القيام للقادم، إلا إذا كان فاسقاً، أو عاصياً، أو مرتكباً لكبيرة، أو مشهوراً بالكبر، وحب الظهور، وأمّا ما استدل به بعضهم من منع القيام بحديث :» من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياماً... « الحديث فليس فيه دليل لهم، لأن الرسول عليه السلام لم يُطْلق اللفظ وإنما قيّده بوصفٍ يدلّ على الكبرياء وحب الظهور » من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياماً « ولم يقل صلوات الله » من قام له الناس فليتبوأ مقعده من النار « ولا شكّ أنّ هذا الوصف لا ينطبق إلا على المتكبر المغرور، والفرق دقيق بين اللفظين فلا ينبغي أن يغفل عنه.
كيف والصلاة تشتمل على أركان كثيرة كالقعود، وقراءة القرآن، والتشهد، والصلاة على النبي ﷺ في بعض الأقوال - كما هو مذهب الإمام الشافعي - فهل يقول أحد : إن الجلوس بين يدي العالم حرام لأنه ركن من أركان الصلاة؟ وإن تلاوة القرآن لا تجوز أمام أحد لأنها ركن من أركان الصلاة؟ وإن الصلاة على النبي عليه السلام حرام في حضرة الناس لأنها ركن من أركان الصلاة؟!!
وقياسُ القيام على الركوع والسجود في الحرمة، قياسٌ مع الفارق، وهو قياس باطل، لأن الركوع والسجود لا يجوز لغير الله كما قال عليه السلام :« لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » وقد ورد في تحريمه النص القاطع، أمّا القيام، والقعود، والاضطجاع، فليس من هذا القبيل، وكفانا الله شرّ الجهل، وحماقة المتطفلين على العلم والعلماء!!
الحكم الرابع : هل الصدقة عند مناجاة الرسول ﷺ واجبة؟
اختلف العلماء في قوله تعالى :﴿ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾ هل الأمر للوجوب أو الندب؟
فقال بعضهم : إنَّ الأمر للوجوب، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية :﴿ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ومثل هذا لا يُقال إلا في الواجبات التي لا يصح تركها.
وقال آخرون : إن الأمر للندب والاستحباب، وذلك لأنّ الله تعالى قال في الآية :﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ﴾ ومِثلُ هذا قرينة تصرف الأمر عن ظاهره، وهو إنما يستعمل في التطوع دون الفرض.
ومن جهة أخرى : فإنّ الله تعالى قال في الآية التي بعد هذه مباشرة ﴿ ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صدقات ﴾ ؟ وهذا يزيل ما في الأمر الأول من احتمال الوجوب، ويبقى الأمر للندب.
واتفق العلماء على أن الآية منسوخة، نسختها الآية التي بعدها ﴿ ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ ﴾ وقد اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ، فقيل : بقي التكليف عشرة أيام ثم نسخ، وقيل : ما بقي إلاّ ساعة من النهار ثم نسخ.
وقد روي عن علي كرّم الله وجهه أنه قال :( إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم، فكلّما ناجيت الرسول ﷺ قدّمت بين يدي نجواي درهماً، ثمّ نُسختْ فلم يعمل بها أحد ).
قال القرطبي :( وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن عليّ رضي الله عنه ضعيف، لأن الله تعالى قال :﴿ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ ﴾ وهذا يدلّ على أنّ أحداً لم يتصدّق بشيء، والله أعلم ).
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : وجوب التوسعة في المجلس للقادم لأنها من مكارم الأخلاق.
ثانياً : التوسعة للمؤمن في المجلس سببٌ لرحمة الله تعالىّ وطريقٌ لرضوانه.
ثالثاً : الرفعة عند الله والعزة والكرامة إنما تكون بالعلم والإيمان.
رابعاً : وجوب تعظيم الرسول ﷺ وعدم الإثقال عليه في المناجاة.
خامساً : تقديم الصدقة قبل المناجاة مظهر من مظاهر تكريم الرسول ﷺ.
سادساً : نسخ الأحكام الشرعية لمصلحة البشر تخفيف من الله تعالى على عباده.
سابعاً : الصلاة والزكاة أعظم أركان الإسلام ولهذا قرن القرآن الكريم بينهما في كثير من الآيات.