تفسير سورة التغابن

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مدنية وآياتها ثماني عشرة آية. وقد تضمنت جملة من الحقائق والأفكار في الحياة والكون، أولها الإخبار بأن كل شيء في السموات والأرض عاكف على التسبيح لله، وذلك بذكره والإقرار له بالإلهية والربوبية وبتنزيهه عما لايليق به من الصفات.
وفي السورة بيان من الله بأنه خلق العباد متفاوتين في فطرهم وفي طبائعهم، وبذلك فإن فيهم المؤمنين والكافرين. والله جل وعلا عليم بما في الكون من علوم وأخبار وهو سبحانه عليم بالسر والعلن، وبما تخفيه الصدور من القصود والنوايا.
وفي السورة تنديد بالكافرين الذين يكذبون بيوم القيامة، وهي قائمة لا محالة، وآتية لا ريب فيها ﴿ قل بلى وربيّ لتبعثنّ ﴾ وفي السورة تحذير من التلهي بالأزواج والأولاد والانشغال بهم عن عبادة الله وطاعته.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يسبح لله ما في السموات والأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ١ هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير ٢ خلق السماوات والأرض بالحق وصوّركم أحسن صوركم وإليه المصير ٣ يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ﴾.
كل شيء في هذا الوجود دائم الذكر لله فيعظمه ويقدسه وينزهه عن غير أوصاف الكمال ﴿ له الملك وله الحمد ﴾ الله جل جلاله بيده ملكوت كل شيء وهو سبحانه مختص بالحمد وبالغ الثناء، لأنه المتفضل على الخلق بنعمه وآلائه ﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾ الله الخالق المقتدر، لا يعز عليه فعل ما يشاء.
قوله :﴿ هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ﴾ الله ذو علم في الأزل بكل ما يجري وكل ما هو آت. فما من شيء واقع في هذا الكون إلا يحيط به علم الله في الأزل، حتى إيمان المؤمن وكفر الكافر واقع بعلم الله. قال القرطبي في تأويل ذلك : والذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة : إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر. وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان. والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه، لأن الله تعالى قدّر ذلك عليه وعلمه منه. ولا يجوز أن يوجد من كل واحد منهما غير الذي قدّر عليه وعلمه منه، لأن وجود خلاف المقدور عجز، ووجود المعلوم جهل، ولا يليقان بالله تعالى، وفي هذا سلامة من الجبر والقدر.
قوله :﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ الله عليم بأعمالكم لا يخفى عليه منها شيء.
قوله :﴿ خلق السماوات والأرض بالحق ﴾ خلق الله ذلك كله بالعدل والحكمة البالغة ﴿ وصوّركم فأحسن صوركم ﴾ أي أحسن خلقكم وهيئاتكم وجعلكم على أحسن صورة من تكامل الأعضاء وانسجام الأجزاء وجمال الخلقة والمنظر ﴿ وإليه المصير ﴾ إلى الله المرجع والمآب وحينئذ يجزي كل إنسان بما عمل.
قوله :﴿ يعلم ما في السماوات والأرض ﴾ الله عليم بما في السماوات والأرض من أشياء وأحداث وأخبار ﴿ ويعلم ما تسرّون وما تعلنون ﴾ الله عليم بما تخفونه وما تظهرونه ويعلم فيكم السر والجهر، لا يخفى عليه من ذلك شيء ﴿ والله عليم بذات الصدور ﴾ الله ذو علم بما يستكن في الصدور من أسرار وخفايا١.
١ الكشاف جـ ٤ ص ١١٣ وتفسير الطبري جـ ٢٨ ص ٧٨ وتفسير القرطبي جـ ١٨ ص ١٣٣..
قوله تعالى :﴿ ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ٥ ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد ﴾.
يحذر الله عباده من عاقبة التكذيب والعصيان فتحل بهم نقم الله كما حل بالأمم الظالمة السابقة، أولئك الذين عصوا رسلهم وعتوا عن أمر ربهم فأخذهم الله بعقابه وانتقامه، وهو قوله :﴿ ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ﴾ يخاطب الله مشركي العرب فيذكرهم بما حل بالأمم الظالمة من قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط ﴿ فذاقوا وبال أمرهم ﴾ الوبال، معناه العذاب الثقيل الوخيم. أي مسّهم العقاب الشديد الوخيم من الله بسبب كفرهم وعصيانهم ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ توعدهم الله بعذاب النار يصلونها يوم القيامة.
قوله :﴿ ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا ﴾ الإشارة عائدة إلى ما ذكر من العذاب في الدنيا والآخرة. فذلك من أجل أنه كانت تأتيهم رسلهم بالدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة ﴿ فقالوا أبشر يهدوننا ﴾ قالوا لرسلهم مكذبين معرضين : أبشر مثلنا، أو من جنسنا يهدوننا. قالوا ذلك مستنكرين أن يبعث الله إليهم رسلا من جنسهم من البشر ﴿ فكفروا وتولّوا ﴾ أي جحدوا رسالة ربهم وتولوا معرضين مدبرين عن دين الله ﴿ واستغنى الله ﴾ والله غني عن هؤلاء وعن إيمانهم. فإنه ليس لله حاجة بهم ﴿ والله غني حميد ﴾ الله مستغن عن العالمين وعن عبادتهم وطاعتهم وهو سبحانه محمود من خلقه بعظيم أياديه وآلائه وكريم صنعه وفعاله١.
١ تفسير الطبري جـ ٢٨ ص ٧٨ وفتح القدير جـ ٥ ص ٢٣٥..
قوله تعالى :﴿ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربيّ لتبعثن ثم لتنبّؤن بما عملتم وذلك على الله يسير ٧ فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير ٨ يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفّر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ٩ والذين كفروا وكذبوا بآيتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ﴾.
يخبر الله عن عتوّ الكافرين، إذ جحدوا القيامة وكذّبوا بالبعث والحساب وأنكروا إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم بعد أن كانوا رفاتا. وهو قوله :﴿ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا ﴾ الزعم، ادعاء العلم. وقيل : كنية الكذب قولهم : زعموا. فقد زعم الكافرون - من غير حجة ولا برهان إلا الظن والتخريص والهذيان - أن لن يبعثهم الله ليوم القيامة وأن الساعة غير قائمة ﴿ قل بلى وربيّ لتبعثن ﴾ بلى، لإيجاب النفي. أو هي إثبات لما بعد، لن وهو البعث. أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالبعث : بلى تبعثون - مقسما على ذلك بربه. يعني : بلى وربي لتخرجن من قبوركم أحياء ﴿ ثم لتنبّؤن بما عملتم ﴾ أي لتخبرن بأعمالكم التي قدمتموها في الدنيا ﴿ وذلك على الله يسير ﴾ أي إحياؤكم وبعثكم من قبوركم للحساب والجزاء، أمر يسير على الله، فإن الله لا يعز عليه أن يفعل في الخلق ما يشاء.
قوله :﴿ فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ﴾ الفاء دالة على شرط مقدر. فبعد أن أكد لهم قيام الساعة وأنهم مبعوثون من قبورهم، أمرهم أن يؤمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ والنور الذي أنزلنا ﴾ وهو القرآن فإنه النور الذي تستضيء به الأجيال لتهتدي وتستقيم، فلا تضل أو تتيه أو تتعثر.
قوله :﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ الله محيط بأعمالكم، لا يخفى عليه منها شيء.
قوله :﴿ يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ﴾ يوم منصوب على أنه ظرف وهو متعلق بقوله :﴿ لتبعثن ﴾ أو ﴿ لتنبّؤن ﴾ وقيل : بإضمار فعل وتقديره : واذكر يوم١ يعني واذكر يوم يجمعكم الله ليوم الجمع وهو يوم القيامة، إذ يجمع الله فيه الأولين والآخرين أجمعين في المحشر للحساب والجزاء ﴿ ذلك يوم التغابن ﴾ والتغابن من الغبن وهو النقص، غبنه في البيع أي نقصه فهو مغبون، أي منقوص في الثمن أو غيره٢.
قال الزمخشري في الكشاف : التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغبن بعضهم بعضا، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء. وفيه تهكم بالأشقياء، لأن نزولهم ليس بغبن. وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا. وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة ".
قوله :﴿ ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفّر عنه سيئاته ﴾ وهذا وعد من الله لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ويؤدون الطاعات بأن يمحو عنهم الذنوب ﴿ ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ﴾ الإشارة إلى محو الخطايا وستر الذنوب ودخول الجنات حيث النعيم الخالد المقيم، فإن ذلكم لهو الفوز العظيم الذي لا يضاهيه فوز.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٤٤٣..
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ٩٤ ومختار الصحاح ص ٤٦٨..
قوله :﴿ والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ﴾ ذلك وعيد من الله للكافرين المكذبين بقرآنه الحكيم وبدلائله وحججه الظاهرة بأنهم صائرون إلى النار يصلونها ما كثين لابثين لا يبرحون ﴿ وبئس المصير ﴾ يعني ساء المصير الذي يصيرون إليه وهو جهنم١.
١ الكشاف جـ ٤ ص ١١٥ وتفسير القرطبي جـ ١٨ ص ١٣٦- ١٣٩ وفتح القدير جـ ٥ ص ٢٣٧..
قوله تعالى :﴿ ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم ١١ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين ١٢ الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾.
ذلك إعلان من الله للناس بأنه لا يصيب أحدا من الخلق بلاء أو مصيبة إلا كان ذلك بأمر الله، أو بقضائه وقدره ومشيئته.
قوله :﴿ ومن يؤمن بالله يهد قلبه ﴾ أي من يصدق ويستيقن أنه لا يصيبه شيء إلا بأمر الله وتقديره فإن الله يهدي قلبه لليقين فيوفّقه بالتسليم لأمره والرضا بقضائه.
قوله :﴿ والله بكل شيء عليم ﴾ الله يعلم ما تخفيه القلوب من رضى وتسليم بقدر الله أو تخفي خلاف ذلك من التبرم والتسخط.
قوله :﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين ﴾ أطيعوا الله باتباع ما أنزله إليكم في قرآنه المجيد من الآيات والأحكام فأتمروا بأوامره وانتهوا عن زواجره، وأطيعوا رسوله الأمين فهو الهادي إلى سواء السبيل. فإن نكلتم عن طاعة الله ورسوله وأبيتم إلا الجنوح للهوى والباطل فإنما عليكم ما حمّلتم من الآثام وسوء العواقب، وما على رسولنا بعد ذلك إلا وجيبة التبليغ وليس عليه من آثامكم وأوزاركم من شيء.
قوله :﴿ الله لا إله إلا هو ﴾ الله خالق كل شيء، ليس من أحد معبود سواه، فهو له الإلهية المطلقة، وبيده ملكوت كل شيء، وهو القاهر القادر الذي شرع لعباده من الدين ما يصلحون عليه تمام الصلاح.
قوله :﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ إذا أيقن المؤمنون بوحدانية الله وعظيم سلطانه وقدرته وأنه لا يندّ عن إحاطته ومشيئته شيء فإن عليهم بعد ذلك أن يعتمدوا على الله أيما اعتماد وأن يتكلوا عليه بالغ التكلان١.
١ الكشاف جـ ٤ ص ١١٥ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٣٧٥..
قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ١٤ إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ١٥ فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ١٦ إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم ١٧ عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ﴾.
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : كان الرجل يسلم فإذا أراد أن يهاجر منعه أهله وولده وقالوا : ننشدك الله أن تذهب فتدع أهلك وعشيرتك وتصير إلى المدينة بلا أهل ولا مال، فمنهم من يرقّ لهم ويقيم ولا يهاجر. فأنزل الله هذه الآية.
وذكر عن ابن عباس أيضا قوله : هؤلاء الذين منعهم أهلهم عن الهجرة لما هاجروا ورأوا الناس قد فقهوا في الدين، همّوا أن يعاقبوا أهليهم الذين منعوهم فأنزل الله ﴿ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ﴾ ١ فإن الله جل جلاله يحذر عباده المؤمنين الافتتان بالأزواج والأولاد والأهل والعشيرة. فإذا ما اعتزم المؤمنون الأوفياء أن يمضوا لأمر الله في هجرة أو جهاد أو غير ذلك من وجوه التضحية وقف في وجوههم الأزواج والأولاد والأهل والعشيرة ليصدوهم عن ذلك أو يثنوهم ويثبطوهم عما هم ماضون فيه من طاعة الله. وما ينبغي للمسلم الوفي الصادق الذي سلك سبيل الرحمان والتزم منهج الحق أن تثنيه نداءات الأهل والعشيرة أو الأصدقاء والخلان. إنما ينبغي للمسلم الصادق الذي يدعو إلى الله على بصيرة، أن يمضي لأمر الله غير مضطرب ولا متزعزع ولا متحرّج.
وهو قوله سبحانه :﴿ ياأيها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ﴾ عدواة الأزواج والأولاد للرجال والآباء بصدهم عن سبيل الله وبفتنهم عن دينه وتثبيطهم عن طاعته. وبذلك يحذر الله المؤمنين أن يفتنهم الأزواج والأولاد أو يضلوهم عن صراط الله المستقيم وعن منهجه القويم الحكيم، إنه لا ينبغي لمؤمن وفيّ صادق أن يغتر بنداء الأهل وأولي القربى إذا ما أرادوا له أن يثني عن عبادة الله وطاعته. وكذلك عداوة الأزواج والأولاد للزوجات والآباء بإغوائهم أو صدهم عن دين الله أو تثبيطهم عن القيام بطاعة الله. فما ينبغي لامرأة مسلمة صادقة تخشى الله أن تعبأ بإغواء زوجها أو تثبيطه لها إذا ما أراد أن يفتنها أو يضلها عن سبيل الله المستقيم. وما ينبغي للأب كذلك أن يحمله الحنين للولد على الجنوح والانثناء عن دين الله وعن منهجه الكريم.
قوله :﴿ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ﴾ كان الرجل إذا ثبّطه أزواجه وأولاده عن الهجرة ورأى الناس قد سبقوه إليها وتفقهوا في دينهم سخط منهم لتثبيطهم إياه، فهمّ أن يعاقبهم أو يوبخهم، فأرشده الله إلى أن يعفو عما اقترفوه من صدّه عن الطاعة. فيصفح عن معاقبتهم ويستر عليهم إساءتهم فلا يعنفهم أو يبكّتهم ﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾ الله يستر على ذنوب عباده وهو بهم رحيم فلا يعاقبهم عقب توبتهم.
١ أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٨٨..
قوله :﴿ إنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾ يعني ما أموالكم وأولادكم إلا بلاء عليكم ومنحة، في الدنيا إذ يحملونكم على فعل الإثم، والتفريط في حق الله وطاعته فالأموال تجنح بها القلوب نحو الدنيا وزينتها للاستزادة والاستكثار. أما الأولاد فإنهم يرققون القلوب أيما ترقيق ليعطفوها عن الاستقامة والعدل. فما تلبث هاتيك القلوب أن تجنح للحيف أو التفريط في حق الله. وفي ذلك روى الترمذي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب. فجاء الحسن والحسين ( عليهما السلام ) وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال : " صدق الله عز وجل ﴿ إنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾. نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما " ثم أخذ في خطبته.
قوله :﴿ والله عنده أجر عظيم ﴾ المراد بالأجر العظيم الجنة. فإن الله يؤتيها المؤمنين من عباده الذي آثروا طاعة ربهم على الجنوح للمعصية والافتتان بالأموال والأولاد.
قوله :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ أي اخشوا ربكم باتباع أوامره واجتناب نواهيه قدر طاقتكم وجهدكم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " وقيل : هذه الآية ناسخة لقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ﴾.
قوله :﴿ واسمعوا وأطيعوا ﴾ أي اسمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظكم به، وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه ﴿ وأنفقوا خيرا لأنفسكم ﴾ خيرا، منصوب من أربعة وجوه :
الوجه الأول : أن يكون منصوبا بالفعل ﴿ أنفقوا ﴾. والوجه الثاني : أن يكون منصوبا بفعل مقدر دل عليه قوله :﴿ أنفقوا ﴾ وتقديره : وآتوا خيرا.
والوجه الثالث : أن يكون وصفا لمصدر محذوف وتقديره : وأنفقوا إنفاقا خيرا. والوجه الرابع : أن يكون خبر كان١ والمراد بالخير، المال. والمعنى : أنفقوا من أموالكم على الفقراء والمساكين والمحاويج فإن ذلك خير لكم، إذ تستنقذون أنفسكم من النار.
قوله :﴿ ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون ﴾ يعني من يقه الله شحّ نفسه وهو هواها الذي يفضي إلى المعاصي ﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾ أي الفائزون بخير الجزاء، الناجون من سوء العذاب.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٤٤٣..
قوله :﴿ إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم ﴾ المراد بالإقراض ههنا، بذل المال في وجوهه من أفعال الخير. أي إن تنفقوا أموالكم في سبيل الله تريدون بذلك وجهه ومرضاته فإن الله يضاعف لكم الأجر والمثوبة، إذ يجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ﴿ ويغفر لكم ﴾ أي يكفّر عنكم سيئاتكم فيمحها ويسترها عليكم.
قوله :﴿ والله شكور حليم ﴾ الله يشكر للمؤمنين المنفقين الذين استبرأت نفوسهم من خسيسة الشح - بذلهم وإنفاقهم. وهو سبحانه حليم بعباده المؤمنين فلا يعاجلهم العقاب.
قوله :﴿ عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ﴾ الله عليم بالظاهر والباطن، ويستوي في علمه وإحاطته السر والعلن. وهو سبحانه القوي الذي لا يغلب، الحكيم في تدبيره وتقديره وتصرفه في خلقه١.
١ فتح القدير جـ ٥ ص ٢٣٨، ٢٣٩ والكشاف جـ ٤ ص ١١٦..
Icon