ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (١- ١٥) [سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١ الى ١٥]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)
التفسير:
قوله تعالى:
«لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ».
قلنا فى تفسير هذه الأقسام المنفيّة، إن المراد بها هو التلويح بالقسم، دون إمضائه، إذا كان الأمر المقسم عليه أوضح من أن يدل عليه، وأن يؤكد فى الدلالة عليه بقسم.. إنه ينزل منزلة البديهيات، وتوكيد البديهيات لا يزيدها عند الذين لا يؤمنون بها إلا إنكارا، واستبعادا..
والتلويح بالقسم، إشارة إلى أنه لو كان الأمر يحتاج إلى قسم لمضى القسم إلى غايته، ولما سلط عليه النفي الذي حال بينه وبين أن يقع على المقسم عليه..
قوله تعالى:
«وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» معطوف على يوم القيامة..
والنفس اللوامة، هى النفس التي ترجع على صاحبها باللائمة لما يقع منه من إثم، وما يقترف من ذنب.. وهذا التلويم من شأنه أن يغيّر من وضع الإنسان القائم على الإثم، والمتجه إلى المنكر.. إنه قوة معارضة لهذا التيار الذي يدفع به إلى المنكر، وقد يتحول هذا التيار إلى الجهة المضادة لطريق الغواية المتجه إليه..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» (٦٠- ٦١:
المؤمنون) فمع وجل القلوب، يقع فى النفس ما يقع من لوم على ما فرط منها.
وقرنت النفس اللوامة بيوم القيامة، لأن ثمرة هذا التلويم، إنما تظهر آثاره يوم القيامة.. فالنفس اللوامة إنما يحملها على التلوم، الخوف من الآخرة، ومن لقاء الله، والوقوف بين يديه.. ولولا الإيمان بيوم القيامة لما راجع المرء نفسه فيما أحدث من آثام، ولما قامت فى كيانه تلك النفس اللوامة، التي تقف منه موقف المحاسب قبل يوم الحساب!
«أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ» ؟
أي أيظن الإنسان أننا لن نجمع عظامه؟ أيستكثر على قدرتنا أن نقيم من هذا التراب بشرا سويا؟ «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟» (٨١: يس).. «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» (٧٨- ٧٩: يس) قوله تعالى:
«بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» أي بلى إننا نجمع عظامه، مع قدرتنا على تسوية بنانه.. فليس جمع هذه العظام التي أكلها التراب، وأبلاها البلى، هو الذي تقف عنده قدرتنا، بل إن هذه القدرة ستعيد هذه العظام إلى وضعها الأول، وستسوى أدقّ ما فى الإنسان من عظام، وهى عظام البنان، أي الأصابع..
وقوله تعالى «قادرين» حال من فاعل فعل محذوف، تقديره: بلى نجمعها، ونحن قادرون على تسوية بنانه، التي هى أدق هذه العظام، وأصغرها..
قوله تعالى:
«بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ» هو إضراب على هذا الخطاب الموجه إلى الإنسان الذي ينكر البعث، ويأبى أن يصدق به.. فإن نصب الأدلة له، وإقامة الحجج بين يديه- كل ذلك لا يكشف عمى بصيرته، ولا يوقع فى نفسه إيمانا بالبعث، وإعدادا اليوم الآخر..
وقوله تعالى: «لِيَفْجُرَ أَمامَهُ» أي ليقيم حفرة بينه وبين الحياة الآخرة التي يقال له عنها.. إنه يضع أمام نفسه العقبات التي تصرفه عن الحياة الآخرة، بما يقيم على طريق هذه الحياة من معوقات، هى تعلّات وتصورات مريضة، توقع عنده الشك فى البعث، وما وراء البعث، حتى يحلّ نفسه من ملاقاة هذا اليوم، وما يحدّث به إليه، عن هذا اليوم وأهواله.. إن ذلك اليوم يقطعه عن الحياة البهيمية التي رضى بها واطمأن إليها، فهو إذا سمع حديثا عن يوم القيامة، حاول جاهدا أن يفسد هذا الحديث، وأن يخرج به من مجال العقل والجد، إلى حيث المهاترة والهزل..
وأصل الفجر، والفجور، من فوران الشيء، وتفجره فى قوة وعنف، ومنه قوله تعالى: «وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً» ومنه الفجور، وهو التهتك والتبذل، وخلع قناع الحياء..
وفى تعديه الفعل «يريد» باللام التي تفيد التعليل- مع أن الفعل يتعدى إلى مفعوله بغير حرف- فى هذا إشارة إلى أن هذه الإرادة إرادة عاملة، وأنها ليست مجرد أمنية، أو رغبة، أو خاطرة، تطرق الإنسان، ثم لا تلبث أن تذهب غير مخلفة أثرا..
فالإرادة هنا إرادة مشدودة إلى عزم، وتصميم، على التنفيذ.. وفى طريق التنفيذ تقوم عقبات، فيعمل صاحب هذه الإرادة على تذليلها، ويحتال لإمضائها.. ولهذا ضمّن الفعل «يريد» معنى الفعل «يحتال».. وهذا يعنى
أريد لأنسى ذكرها فكأنما | تمثّل لى ليلى بكل سبيل |
«يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ» هو أثر من آثار إرادة هذا الإنسان، الذي يقيم العلل، والمعاذير، بينه وبين اليوم الآخر.. فهو يسأل سؤال المنكر، المستهزئ: أيان يوم القيامة؟ أي متى يكون يوم القيامة هذا؟ وهو سؤال اتهام لهذا اليوم، وتكذيب لمن يتحدث به، أو عنه.
قوله تعالى:
«فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ» هو الجواب على هذا السؤال المستهزئ، الذي سأله هذا الشقي، منكرا ليوم البعث، مستهزئا به! وقد جاء الرد عليه بيوم القيامة كله، وبما يطلع به على الناس، من شدائد وأهوال.. إن الجواب لم يحدد الوقت الذي يجىء فى هذا اليوم.. إذ ليس المهم متى يجىء؟ وإنما المهم هو ماذا أعد الإنسان له يوم مجيئه؟ وماذا يلقى المكذبون والمضلون فيه من هذه الأهوال التي تطلع عليهم في هذا اليوم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ» أي جمد فلم يطرف، للهول الذي يراه من أحداث هذا اليوم..
وهذا يعنى أن الإنسان سيخرج يوم القيامة من عالمه الأرضى، إلى عالم آخر، تتبدل فيه أحواله، وتتغير فى نظره حقائق الأشياء على هذه الأرض، فيرى الشمس والقمر معلقين فى هذا الفضاء، كل على هيئته، فلا غروب للشمس، ولا نقصان للقمر..
قوله تعالى:
«يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟» أي فى هذا اليوم، يقول الإنسان- كل إنسان- أين المفر؟ أي أين الملجأ الذي يلجأ إليه الإنسان، فرارا من لقاء هذا اليوم العظيم؟
قوله تعالى:
«كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ» الوزر: الملجأ، والحمى الذي يحتمى فيه الإنسان.. ومنه الإزار الذي يأتزر به الإنسان، ويستر جسده.
إنه لا ملجأ فى هذا اليوم.. فالكلّ مسوق إلى الله تعالى، حيث المستقر هناك فى المحشر، فى موقف الحساب والجزاء.. فلا ملجأ من الله إلا إليه سبحانه وتعالى.
«يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ»
أي فى هذا اليوم يخبر الإنسان، بكل ما عمل، فى حياته كلها، من أولها إلى آخرها.. ما تقدم منها وما تأخر.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:
«لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» (٢: الفتح) قوله تعالى:
«بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ»
هو إضراب على ما سبق، وأن الإنسان ليس فى حاجة إلى من ينبئه بما قدّم وأخر، بل إن كل إنسان يقوم عليه شاهد من نفسه ومن جوارحه، فهو- والحال كذلك- إنما ينبأ بأعماله من ذات نفسه، كما يقول سبحانه:
«كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً».
وأنت لفظ بصيرة، على تقدير مضاف أي، ذو بصيرة، وذلك حين ينكشف له يوم القيامة كل شىء، فيرى الأمور على حقائقها، ويبصر كل ما قدمته يداه، كما يقول سبحانه: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (٢٢: ق) قوله تعالى:
«وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ»
أي أن هذه البصيرة التي تكون للإنسان يوم القيامة، والتي يقوم منها شاهد عليه من ذاته- هذه البصيرة، لا تلتفت إلى معاذيره التي يوردها، عليها كما يقول سبحانه. «وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ» (٢١: فصلت) فلا يقبل من الإنسان عذر فى هذا
الآيات: (١٦- ٣٣) [سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١٦ الى ٣٣]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣)
التفسير:
[وحي القرآن ووحي السنة.. هذا غير ذاك] قوله تعالى:
«لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ».
تبدو مناسبة هذه الآيات، للآيات التي قبلها، ثم للآيات التي بعدها- تبدو المناسبة بعيدة فى ظاهر الأمر، حيث أن هذه الآيات حديث خاص إلى النبىّ، فى شأن من شئون تلقّيه الوحى.. وما بعد هذه الآيات وما قبلها، هو عرض
نقول والله أعلم: إن هذا الترتيب الذي جاء عليه نظم هذه الآيات، يشير إلى أكثر من دلالة، ويومىء إلى أكثر من مقصد:
فأولا: هذا القطع لنسق النظم، فى صورة فجائية، وبلا مقدمات- هو إلفات قاهر، لا إرادى، لأولئك المشركين الذين يكذبون بيوم الدين، ويكذبون بما تلا عليهم رسول الله من آيات الله، وما تحمل إليهم هذه الآيات، من أخبار هذا اليوم، وأحداثه.. وفى هذه اللفتة القاهرة يرون النبي فى مقام التلقّى عن ربه، وفى مجلس التلقين، والتعليم منه، سبحانه، وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- يتعلم مما علمه الله، وأن هذا العلم لا يستأثر به وحده، وإنما هو مأمور بحمله وعرضه على الناس جميعا، ليأخذوا حظهم كاملا منه..
ولا شك أن هذا من شأنه أن يخفف كثيرا مما فى قلوب المشركين من مشاعر الحسد للنبى، والغيرة منه، كما أن هذا الموقف يفتح عيون كثير من المكذبين والمعاندين على وجه الحق الذي غاب عنهم فى دخان الحسد المنبعث من صدورهم، حيث يرون النبي- صلوات الله وسلامه عليه- يتلقى هذا التحذير والتأديب فى مقام التعلّم، وأنه ليس هناك أمام عظمة الله عظيم.. إن الله سبحانه هو رب العالمين، وكلهم مربوبون له، منقادون لأمره، وأن ما جاءهم به النبي قد احتمل فى سبيله جهدا أو مشقة، وهم يتلقونه منه دون أن يسألهم عليه أجرا..
وثانيا: الطبيعة البشرية يغلب عليها حب التملك، ومن أجل هذا كان شأن الناس إيثار العاجل على الآجل، والحاضر على الغائب، وكان من هذا
وفى عرض النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فى هذا الموقف الذي يستعجل فيه النطق بكلمات الآية وحفظها، قبل أن تفلت منه- فى هذا ما يكشف المشركين عن أن حب العاجل طبيعة مركوزة فى الناس، كما يقول سبحانه وتعالى: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» (٣٧: الأنبياء) وأن العجلة غير محمودة حتى فى مقام الإحسان، وفى طلب الخير.. بل إن الرفق، والتوسط فى الأمور هو المحمود، وهو الذي يتيح للإنسان فرضه التروي والتعقل، ووزن الأمور بميزان الروية والعقل.. فكيف بالمشركين وهم يخوضون خوضا فى متاع الحياة الدنيا؟ أفلا يكون منهم تمهل فى هذا الجري اللاهث وراء هذا الحطام الزائل؟ ثم ألا يكون منهم وقفة مع هذا الذي يدعوهم النبي إليه؟
وثالثا: إذا كان على النبي أن يصغى إلى الوحى، ولا يحرك لسانه قبل أن ينتهى رسول الوحى من إلقاء بإلقاء ما يوحى به إليه، وذلك لتكتمل صورة المعاني المراد إلقاؤها على النبي، ولتقع من نفسه موقعا واضحا متمكنا- إذا كان على النبي أن يفعل هذا، مع كلمات الله- أفما كان على الذين يستمعون من النبي لآيات الله، أن يصغوا إليها، وألا يفتحوا أفواههم بكلمة وهم بين يديها، حتى ينتهى عرضها، ليكون لهم سبيل إلى فهم معانيها، وإدراك بعض أسرارها؟..
قيل إن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- كان وهو يتلقى سورة القيامة من الوحى، وذلك فى أوائل اتصال النبي بالوحى- كان يخشى أن تفلت منه بعض الكلمات، أو يختلف عليه نظامها، فيبادر- حرصا منه- بتلقف
«بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ»
- نزل عليه قوله تعالى:
«لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ»
..
ولا شك أن هذا شاهد من شهود القرآن التي لا تحصى، على أن هذا القرآن من عند الله، وأن ليس لمحمد إلا تلقيه من الوحى، وحمله إلى الناس..
وإلا لو كان هذا القرآن من كلام محمد- أكان محمد يلبس هذه الشخصيات جميعها، فيكون مخاطبا وغائبا، وناهيا ومنهيّا، كل ذلك فى حال واحدة، وموقف واحد؟.
أيعقل فى هذا الموقف الذي يواجه فيه المشركين بهذه النذر المطلة عليهم من يوم القيامة- أيعقل فى هذا الموقف، أن يقطع محمد هذا العرض، ثم يتحول إلى نفسه، محاسبا، وناصحا وموجها؟ وما شأن الناس بهذا، لو كان محمد هو صاحب هذا الموقف، والمصور له بكلماته؟..
إن صاحب الموقف- وهو الله سبحانه وتعالى- هو الذي يملك أن يقطع هذا العرض، وأن يلقى على المتلقى عنه، ما يشاء من توجيه، وإرشاد، حتى يجىء العرض واضحا، كاملا.. إن الذي يملك الموقف كله، قوة قائمة على محمد، وعلى من يلقاهم محمد بهذا الحديث.. وتلك القوة هى التي تدير الخطاب، وتوجهه كيف تشاء إلى أىّ من المخاطبين، أفرادا، أو جماعات..
وقوله تعالى: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ»
نهى يراد به النصح والتوجيه إلى ما ينبغى أن يكون عليه النبي مع الوحى، وهو ألا يحرك لسانه بكلمات القرآن، قبل أن ينتهى جبريل من الوحى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» (١١٤: طه)..
وقوله تعالى: «لِتَعْجَلَ بِهِ»
بيان للسبب الذي من أجله كان يسرع النبي بترديد الكلمات التي يسمعها من جبريل.. إنه- لشدة شوقه، إلى كلمات ربه- لا يكاد يسمع الكلمة تقع فى قلبه من جبريل، حتى يسرع بالنطق بها، ليذوق حلاوتها على لسانه، كما ذاق حلاوتها فى قلبه..
وقوله تعالى:
«إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ»
..
هو تطمين النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من أنه لن يفوته حفظ شىء مما يوحى إليه من آيات ربه، فإن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يتولى جمع هذا القرآن كله فى صدره- صلوات الله وسلامه عليه- كما سيتولى سبحانه، حفظه على الزمن، قرآنا تعمر به قلوب المؤمنين، وترتله ألسنة الحافظين، كما يقول سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» (٩: الحجر)..
قوله تعالى:
«فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ».
وفى إسناد القراءة إلى الله سبحانه وتعالى، تشريف، وتكريم النبي، الذي يسمع آيات الله متلوة عليه من ربه، وإن كان جبريل عليه السلام، هو الذي ينقلها إلى النبي..
ونقول- والله أعلم- إن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- حين كان يوحى إليه بآيات الله، يسمع ما يوحى إليه لفظا من جبريل، ومعنى من الله سبحانه وتعالى.. وعلى هذا المعنى يكون الضمير «نا» فى قوله تعالى:
«قرأناه» عائدا إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى جبريل، أي أن الحق سبحانه وتعالى يقول للنبى: إذا قرأت القرآن عليك بمعناه، وقرأه جبريل عليك بألفاظه، فلا تعجل بتحريك لسانك. بترجمة هذه المعاني إلى ألفاظ، بل تمهل وخذ الألفاظ التي يلقيها عليك جبريل، حتى تتحقق الصورة الكاملة، للمطابقة بين اللفظ والمعنى!!.
وعلى هذا المعنى يكون قوله تعالى: «فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ»
أي اتبع قراءة رسول الوحى جبريل، وقف عند حدود الألفاظ التي يلقيها إليك، ولا تتازعه بما يسبق إليه خاطرك من كلمات تريد أن تمسك بها من هذه المعاني التي قذفها الله سبحانه وتعالى فى قلبك، قبل أن تفلت منك..
وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، هو معنى لا نظن أحدا من المفسرين قد التفت إليه، على كثرة ما توارد على هذه الآية من مختلف الآراء..
فنرجو أن يكون هذا الرأى أقرب إلى الحق، وأدنى إلى الصواب..
ولعل هذا يفسر لنا تلك الحال التي كانت تعرو النبي فى أثناء الوحى، وما كان يغشاه من شدة، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا فى اليوم الشديد البرد كما تقول السيدة عائشة رضى الله عنها!!
ونقول إن تلك المعاناة التي كان يعانيها النبي من الوحى، هى خاصة به وحده، دون ما نعرف من الوحى الذي يوحى إلى الأنبياء، والرسل، لأن الذي يقصه القرآن علينا من أمر الرسل، وصلتهم بالوحى، هو أن- رسول الوحى، أو رسل الوحى، كانو يجيئون إليهم فى صورة بشرية كاملة، يلتقون بهم فيها كما يلتقى الناس بالناس، ويتحدثون إليهم كما يتحدث الناس إلى الناس.. فلم يكن الرسول من هؤلاء الرسل الكرام، يشعر بأن قوة خفية دخلت عليه، أو خالطت وجدانه، ومدركانه، وذلك على غير ما كان فى حال الوحى مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وما كان يلقى فى تلقّى الوحى من شدّة.
فقد جاء الوحى إلى إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل فى صورة رؤيا رآها فى المنام.. كما يقول سبحانه على لسانه: «يا بُنَيَّ.. إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ.. فَانْظُرْ ماذا تَرى» (١٠٢: الصافات).. كذلك جاء الوحى إليه فى صورة جماعة من الضيوف، نزلوا عليه: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ، قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ» (٢٤- ٣٠: الذاريات)
وإذا كان من الرسل من تلقّى الوحى على صورة أشبه بالصورة التي تلقى عليها النبي كلمات ربه- فهو موسى عليه السلام..
ونقول أشبه بالصورة التي تلقّى عليها النبىّ كلمات ربّه، ولا نقول مثلها، لأن موسى- عليه السلام- كان يسمع من ربّه حقائق المعاني التي يلقيها إليه، ثم يصوغها هو فى الألفاظ التي يراها مناسبة لها.. ولهذا، فإنّ موسى- وإن أخذه جلال التجلي لكلمات الله عليه.. فإن ذلك كان أخفّ عليه وطئا مما كان يأخذ النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، لأنّ النبىّ مع وقوعه تحت سلطان هذا التجلّى، كان واقعا من جهة أخرى تحت غشيان الرّوح السماوىّ له، وتلبسه به، ونقل كلمات الله إليه.. فالنبىّ هنا واقع تحت سلطان التجلّى من الله سبحانه وتعالى عليه، وتحت تلبّس الملك السماوىّ- جبريل- به.. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام، يعانى من شدّة الوحى أكثر مما كان يعانى موسى عليه السلام.. أما الشريعة الموسوية، فقد تلقاها موسى عليه السلام مكتوبة فى الألواح..
وما كنّا نريد أن نذهب إلى هذا الذي ذهبنا إليه فى مفهومنا لتلك الآيات مخالفين بذلك أكثر المفسرين، فى فهمها على غير هذا الفهم.
ثم ما كنا نريد أن نذهب إلى أبعد من هذا الذي ذهبنا إليه.. ولكن الأمر ليس إلينا، ونحن بين يدى آيات الله.. إنها هى التي تشدنا إليها،
فنحن سنمضى معها على هذا الطريق إلى غايته، نرجو مزيدا من العطاء ونلتمس مزيدا من النور..
ويلقانا هنا سؤال:
لماذا لم يجىء الوحى إلى النبىّ فى صورة بشرية، على نحو ما كان يأتيه عليه فى بعض الأحيان.. فيكون ذلك أخفّ وطئا عليه، من الصورة الملكية التي كان يأتيه عليها فى معظم الحالات، والتي كان يعانى منها ما يعانى من شدّة؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن الأحوال التي كان يأتى عليها الموحى به قرآنا، كان الوحى صورة خاصة، لا تتبدّل، ولا تختلف، وإن كان الموحى به حديثا قدسيا، جاء الوحى على صورة خاصة أيضا، وإن كان الموحى به حكمة، وهى السنة القولية أو الفعلية، كما يشير إليه قوله تعالى: «ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ» (٣٩: الإسراء) - نقول إذا كان الموحى به حكمة، جاء الوحى على صورة خاصة كذلك..
وهكذا..
روى أن الحارث بن هشام سأل النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: كيف يأتيك الوحى؟ قال: «أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس..
فالحال التي كان يأتى فيها الوحى مثل صلصلة الجرس، هى الوحى الذي ينزل بالقرآن، حيث لا يستطيع رسول الوحى، جبريل عليه السلام، أن يبلّغ كلمات القرآن إلا وهو فى حال الملكية، وهنا يجذب النبىّ إلى الخروج من حالة البشرية إلى حال هو أقرب فيها إلى عالم الملائكة، وهذا لا يكون إلا عن مجاهدة عظيمة، وإلا بعد معاناة، يجد منها النبىّ كربا، ويعانى منها شدة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ دَنا، فَتَدَلَّى، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» (٨- ٩: النجم).
أمّا فى حال تمثّل الملك رجلا، فإن الملك هو الذي يحاول الخروج من صورته الملكية إلى صورة بشرية، فيلتقى بالنبيّ، كما يلتقى الإنسان بالإنسان.. وهذه الكيفية من الوحى، تكون فيما يوحى به إلى النبىّ من الأحاديث والسنن القولية أو الفعلية، أو التقريرية، التي أثرت عن النبىّ..
من قول أو فعل أو تقرير.. فى حال التشريع، وهو وحي من عند الله كذلك، وهذا مما يشير إليه قوله تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» (٣: النجم).
وقد ثبت من تاريخ نزول القرآن، أن النبىّ صلى الله عليه وسلم، كثيرا ما كان ينزل عليه الوحى وهو بين أصحابه، فيغشاه ما يغشاه من شدّة، حتى إذا قتّى الوحى، كان أول ما يتحدث به الرسول إلى أصحابه وكتّاب وحيه، هو ما نزل به الوحى عليه من آيات ربّه.. وهكذا، فى جميع ما يروى من الأخبار الثابتة.. كل حال كان يأتى فيها الوحى إلى النبىّ مثل صلصلة الجرس، كان الموحى به إليه فى تلك الحال، قرآنا كريما، لا حديثا قدسيا، ولا سنة قولية أو فعلية..
فقد ثبت أنه حيث فرضت الصلاة، جاء جبريل إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، وأخذ بيده، ثم همز الأرض بقدمه، فتفجر الماء، فتوضأ، وتوضا النبىّ معه.. ثم صلى به الصبح.. وفعل كذلك مع النبىّ عند صلاة الظهر والعصر، والمغرب، والعشاء.. وبيّن له أوقاتها، وعدد ركعاتها.. وكما فعل جبريل مع النبىّ، فعل النبىّ مع المؤمنين، وصلّى بهم الصلوات المفروضة، ثم قال: «صلّوا كما رأيتمونى أصلّى».
يروى عن ابن عباس قال: «لما افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل، فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى به العصر حين كان ظلّه مثله، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق، ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر، ثم جاءه فصلى به الظهر من غده، حين كان ظله مثله، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها فى الأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلاث الليل الأول، ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق.. ثم قال: «يا محمد، الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس»..
وعن أبى هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه: «سلونى، فهابوا أن يسألوه، فجاء رجل فجلس عند ركبته، فقال:
«يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال: لا تشرك بالله شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان» قال: صدقت! قال: «يا رسول الله: ما الإيمان؟
ولا يعترض على هذا بما كان من أول لقاء لجبريل مع النبىّ فى غار حراء، وأنه جاءه- كما يقال- فى صورة بشرية، وأنه أقرأه قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» - فكيف إذن يتفق هذا مع القول بأن الوحى القرآنىّ إنما كان ينزل به جبريل على النبي فى صورته الملكية، دائما، وفى جميع الأحوال؟
وردّنا على هذا، أن جبريل إذا كان فى أول لقاء له مع النبىّ، قد جاء فى صورة بشرية- فإنه لم يلقه بالقرآن من أول الأمر، وإنما الذي حدث- كما هو ثابت فى تاريخ القرآن- أن جبريل دعا النبي إلى أن يقرأ، فقال له: «اقرأ»..
هكذا قراءة مطلقة، وأن النبي أجابه الجواب الذي تقتضيه داعية الحال، فقال:
«ما أنا بقارئ».. وهكذا تردد الأمر بين جبريل والنبي، ثلاث مرات، فلما
«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ..» الآيات.
فهذا هو القرآن الذي أوحى به جبريل إلى النبي، وقد أوحاه إليه فى صورة خرج بها عن حاله التي تمثل فيها له بشرا.. فإن هذه الغطة غيّرت الموقف تغيرا تاما، فجمعت بين جبريل، وبين النبي فى كيان ملكى بشرى.. فكان النبي بشرا يقترب من الملك، وكان جبريل ملكا يقترب من البشر! وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الوحى القرآنى، كان دائما على تلك الصورة التي لا يتمثل فيها جبريل رجلا، يخا؟؟؟ ب النبىّ بلسان بشرىّ، وإنما كان يأتيه مثل صلصلة الجرس..
والذي نريد أن نصل إليه من حديثتا هذا، هو أن القرآن الكريم، كان يتلقاه النبي من الوحى على صورة خاصة ملازمة دائما، وهى أن جبريل كان فيها لا يخرج عن صورته الملكية إلا بالقدر الذي يستطيع فيه أن يلتقى مع النبي وهو ساع إلى لقائه فى صورة ملائكية، بشرية، كما كان النبي يرتفع إلى أعلى أفق نحو الملائكية، ولا ينسلخ انسلاخا كاملا من ثوب البشرية، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» (٨- ٩: النجم) على ما ذهبنا إليه فى تفسير هذه الآيات فى سورة النجم، وعلى أن الضمير فيها عائد إلى جبريل عليه السلام.
وهذا يعنى أن جبريل عليه السلام، كان فى تلك الحال التي ينزل فيها بالقرآن واقعا تحت تجلّى الله سبحانه وتعالى عليه بكلماته التي يوحيها إلى النبي.
فجبريل إذ يتصل بالنبي، فى مقام تنزل آيات الله عليه- يكون فى حال أشبه بحال النبي.. كلاهما يتلقى تجليات آيات الله عليه، وإن كان جبريل هو الذي يتلقى صدمة الصعقة أولا، حتى يخّف على النبي وقعها.. وهذا يعنى أن النبي-
ولهذا كان يسمع النبي- الوحى- فى تلك الحال- كصلصلة الجرس، أي أنه يأت يه من جميع الجهات، لأن المتكلم به هو الله سبحانه، ولو كان جبريل هو المتكلم بالقرآن لسمع النبي كلامه من جهة واحدة، كما كان يحدث فيما يوحى به جبريل من أحاديث قدسية، أو أحاديث نبوية.. والله أعلم.
هذا، وبعد أن فرغت من تقرير هذا الرأى، اطلعت على رأى لعالم جليل من علماء سلفنا الصالحين، هو الدباغ، فى كتابه «الإبريز» الذي تلقاه عن ابن المبارك.. وفى هذا الرأى يذكر الدباغ فروقا دقيقة بين القرآن الكريم، والحديث القدسي، والحديث النبوي، ومن هذه الفروق تتبين الأحوال التي كان عليها النبي، وهو يتحدث بالقرآن، أو بالحديث القدسي، أو الحديث النبوي.
وقد رأينا أن ننقل كلمات الدباغ «١»، لأنها تلقى أضواء كاشفة على موضوعنا هذا، الذي قررنا فيه أسلوب الوحى القرآنى، وكيف كان يوحى به إلى النبي..
سئل الدباغ عن الفرق بين القرآن، والحديث القدسي، والحديث النبوي.. فقال:
«الفرق بينها، وإن كانت كلها خرجت من بين شفتيه صلى الله عليه وسلم، وكلها معها أنوار من أنواره صلى الله عليه وسلم- أن النور الذي فى
والنور الذي فى الحديث الذي ليس بقدسى من (ذاته) صلى الله عليه وسلم.. فهى أنوار ثلاثة، اختلفت بالإضافة.. فنور القرآن من ذات الحق، ونور الحديث القدسي من روحه صلى الله عليه وسلم، ونور ما ليس بقدسى، من ذاته صلى الله عليه وسلم..
فلما سئل الدباغ: ما الفرق بين نور الروح، ونور الذات؟ أجاب:
الذات خلقت من تراب، ومن التراب خلق سائر العباد، والروح من الملأ الأعلى، وهم- أي الملأ الأعلى- أعرف الخلق بالحق سبحانه.. وكل واحد- أي من الذات والروح- يحنّ إلى أصله، فكان نور الروح متعلقا بالحق سبحانه، ونور الذات متعلقا بالخلق، فلذا ترى الأحاديث القدسية تتعلق بالحق سبحانه، بتبيين عظمته أو إظهار رحمته، أو بالتنبيه على سعة ملكه، وكثرة عطائه، فمن الأول، حديث: «يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم..»
ومن الثاني، حديث: «أعددت لعبادى الصالحين..» ومن الثالث حديث:
«يد الله ملأى... » وهذه من علوم الروح فى الحق سبحانه.. أما الأحاديث التي ليست بقدسية، فتتكلم على ما يصلح البلاد والعباد، بذكر الحلال والحرام، والحث على الامتثال بذكر الوعد والوعيد..
ثم يمضى الدباغ فى حديثه عن الفرق بين القرآن والحديث القدسي، والحديث النبوي يقول:
إن الأنوار من الحق سبحانه، تهّبّ على ذات النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تحصل له مشاهدة خاصة، وإن كان دائما فى المشاهدة..
وإن لم يسمع كلاما، ولا نزل عليه ملك، فذلك وقت الحديث القدسىّ، فيتكلم عليه الصلاة والسلام، ولا يتكلم حينئذ إلا فى شأن الربوبية بتعظيمها، وذكر حقوقها..
وأما الحديث الذي ليس بقدسى، فإنه يخرج من النور الساكن فى ذاته عليه السلام، الذي لا يغيب عنه أبدا، وذلك أنه عز وجل أمدّ ذاته عليه السلام بأنوار الحق، كما أمد جرم الشمس بالأنوار المحسوسة.. فالنور لازم الذات النبوية الشريفة، لزوم نور الشمس لها.
ثم يزيد الدباغ الأمر وضوحا فيقول:
«إذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الكلام بغير اختياره فهو القرآن.. وإن كان باختياره، فإن سطعت حينئذ أنوار عارضة، فهو الحديث القدسي، وإن كانت الأنوار الدائمة، فهو الحديث الذي ليس بقدسى، ولأن كلامه ﷺ لا بد أن يكون معه أنوار الحق سبحانه، كان جميع ما يتكلم به وحيا يوحى.. وباختلاف أحوال الأنوار افترق إلى الأقسام الثلاثة».
وهذه الأنوار القدسية التي يشير إليها «الدباغ» والتي يستمد منها النبي- صلوات الله وسلامه عليه- القرآن والحكمة- هى أنوار النبوة المفاضة عليه من ربه، فكان صلوات الله وسلامه عليه نورا من نور الحق، كما كانت كلماته من كلمات الله سبحانه.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ
(٤٥- ٤٦: الأحزاب).. فهو- صلوات الله وسلامه عليه سراج منير، وهو نور هذا السراج كما يشير إليه قوله تعالى: «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ» (١٥: المائد) قوله تعالى:
«ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ»..
هو تطمين للنبى- صلى الله عليه وسلم- بأنه لن يفوته شىء مما تجلّى عليه من آيات الله، وما قذف الله سبحانه وتعالى فى قلبه من معانيها، التي كان يريد النبي أن ينطق بها، ويصورها كما وقعت له.. فليقف النبىّ إذن عند حدود الألفاظ التي يلقيها عليه جبريل، وإن كانت هذه الألفاظ لا تكشف كل ما وقع فى قلبه من معنى، فإنه مازال الوحى يتنزل، وما زالت آيات الله تجىء بتفصيل ما أجمل من أحكام، وأحداث، وقصص.. ولعل هذا هو السر فى العطف بالحرف «ثمّ» التي تفيد التراخي، حيث إن البيان إنما تمّ فى زمن متباعد، ينتظم فترة الوحى كلها، من مبدأ أول آية نزلت إلى أن تم نزول القرآن كله.
فمثلا قصة موسى مع فرعون.. جاءت أولا فى كلمات معدودة، وفى صورة مصغرة جدا، مثل قوله تعالى: «وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ» (١٠- ١٣: الفجر).
ومثل قوله سبحانه: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» (١٥- ٢٥: النازعات)
«لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ.. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ»
قوله تعالى:
«كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ» هو بيان للطبيعة البشرية التي يغلب عليها حب العاجل من الأمور، والتطلع إلى الثمرة قبل الغرس.. وترى هذه الطبيعة واضحة فى موقف آدم من الشجرة التي نهاه الله سبحانه وتعالى عن الأكل منها، مع إطلاق يديه جميعا للأكل من كل فواكه الجنة.. ولكنه زهد فى هذه الفواكه كلها، ومدّ يده إلى تلك الفاكهة المحرمة، فأكل منها، وعصى أمر ربه، وتعرض لما يتعرض له العصاة، من اللوم والعقاب..
ولم تكن هذه الشجرة، بأكرم أشجار الجنة، ولا أطيبها فاكهة، ولكنه حبّ الاستطلاع، والرغبة فى الحصول على كل شىء فى اليوم الحاضر، دون نظر إلى الغد..
وحب العاجل كما يكون فى المذموم، يكون فى المحمود.. كالسبق إلى الخير، والمبادرة بالأعمال الصالحة.. فهذا من مطالب النفوس الطيبة، ومن شهواتها، إن صح هذا التعبير.. إنها تشتهى الخير، والإحسان، وتستكثر منه فى يومها، كما تستكثر النفوس الخبيثة من الخبيث فى حاضرها، غير مبقية
وقد حسنت مواجهة المنكرين للبعث، الذين يؤثرون العاجلة، ويذرون الآخرة- حسنت مواجهتهم فى هذا المقام، الذي يكشف عن أنفسهم، وهم فى مواجهة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وحبه لعاجل الأمور فى مقام تفصيل الخير، والاستزادة من العلم.. فهذا مقام، وذاك مقام، وإن اشتركا معا فى أن حبّ العاجلة قسمة بينهما..
وفى هذه المفارقة البعيدة، يرى المشركون مدى استغراقهم فى الضلال، وأنهم إنما ينهون عن الاستزادة من المنكر، والضلال، على حين ينهى غيرهم عن الاستزادة من الخير والإحسان، حتى لا يشق على نفسه، ولا يكلفها فوق ما تطبق.. فالرسول يدعو إلى شريعة قائمة على السماحة ورفع الحرج، وإنه لأولى عباد الله بالأخذ لنفسه من سماحتها ويسرها..
قوله تعالى:
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ».
هو عرض لأحوال الذين يؤمنون بالآخرة، ويعملون لها..
فها هى ذى الآخرة، وهذه هى أحوال أهلها، وما يقع للناس فيها..
والمنازل هناك منزلان: الجنة.. والنار فالمؤمنون منزلهم الجنة، والكافرون مأواهم النار..
وفى عرض أصحاب الجنة يومئذ بما يكشف عن وجوههم وحدها، هو عرض لحالهم جميعها، ظاهرها، وباطنها، حيث تبدو على الوجه أحوال الإنسان، وما يكون عليه من نعيم أو شقاء، ومن طمأنينة أو جزع..
ونضارة الوجوه، تحدّث عن النعمة التي يعيش فيها أصحابها، وعن الخصب والخير الذي يحفّ بهم، حتى لقد فاضت الوجوه نضارة وبشرا، وحتى لكأنها الزهر المتفتح على أنسام الربيع فى روض أريض.
وقوله تعالى: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» أكثر المفسرون من المقولات التي تقال فى تأويل الوجوه الناظرة إلى ربها، وهل فى الإمكان رؤية الله؟ إن الرؤية معناها تحديد المرئىّ وتجسيده، والله سبحانه منزه عن التحديد والتجسيد.. فكيف يمكن رؤيته؟
وهذه قضية استنفدت كثيرا من جهد العلماء، من المتكلمين وأهل السنة، ولو أنصف هؤلاء وهؤلاء عقولهم، لأمسكوا بها عن الخوض فى لجج هذا البحر الذي لا ساحل له، فإن عقولنا تلك، إنما خلقت لهذا العالم الأرضى، ولكشف ما فيه من حقائق، أما عالم الآخرة، فعقولنا بمعزل عنه، فكيف بذات الله سبحانه وتعالى؟ وكيف بعقولنا المحدودة القاصرة يراد لها أن تحتوى هذا الجلال الذي لا حدود له، والذي وسع كرسيه السموات والأرض؟
ولهذا، فإن خير ما يحمل عليه قوله تعالى: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» هو ما ذهب إليه السلف من أن المراد بالنظر إلى الله، هو النظر إلى رحمة الله،
«وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ».
هو معطوف على قوله تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ..» وهو عطف حال على حال، ومقام على مقام.. فهناك وجوه ناضرة إلى ربها ناظرة، تقابلها فى الجانب الآخر، وجوه باسرة، أي كالحة مغبرّة، تتوقع أن يفعل بها الفواقر، وهى الدواهي والمهلكات.. والوجوه الناضرة، الطامعة فى رحمة ربها، هى وجوه المؤمنين، والوجوه الكالحة المتوقعة الهلاك، هى وجوه المشركين، والضالين..
وقوله تعالى:
«كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ.».
هو إعراض عن حديث يوم القيامة، الذي لا يصدّق به المشركون، وعرض لهذا المشهد الذي يراه الناس بأعينهم فى الحياة الدنيا، وهو مشهد الموت، الذي ينهى حياة الإنسان من هذا العالم الدنيوي..
وقد جاء التعبير هنا عن بلوغ الروح الحلقوم، ببلوغها التراقى- وهى جمع ترقوة، والترقوتان من الإنسان هما عظمتان تمتدان يمينا وشمالا من ثغرة النحر إلى العنق- وفى ذلك ما يدل على أن الروح تتحرك أثناء النزع والاحتضار، فتنتقل من التراقى أي النحر، إلى الحلقوم، فإذا بلغت الحلقوم لفظ الإنسان أنفاسه الأخيرة، إذ كان ذلك آخر حدود الروح مع الجسد وقوله تعالى: «وَقِيلَ مَنْ راقٍ»
أي التمس أهل المحتضر، الاساة والرقاة لدفع يد الموت الممتدة إليه، وهو ينازع سكراته..
والراقي، هو من يسترقى للمريض بالرّقى والتعاويذ ونحوها، رجاء أن يشفيه من دائه، أو يخفف ما به والرّقى، أسلوب من أساليب التطبب والاستشفاء عند الجاهليين، وقد ذكره القرآن هنا على لسان المتعاملين به، فهو من واقع الحال، الذي يقتضى الصدق نقله كما هو..
وقوله تعالى: «وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ».. بيان لمرحلة ثالثة من مراحل الاحتضار.. حيث كانت المرحلة الأولى، هى بلوغ الروح التراقى، ثم كانت المرحلة الثانية استدعاء الرقاة والمتطببين.. ثم كانت المرحلة الثالثة، وهى
وقوله تعالى: «وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ» بيان لمرحلة رابعة، فى مسيرة هذا المحتضر.. إنه لا يموت، ويتحول إلى عدم، كما يظن ذلك الذين يكذبون بالحياة الآخرة، بل إنه سيحيا فى عالم آخر.. فبعد خروج الروح من هذا الجسد، تنطلق إلى عالم الحق، وتساق سوقا عنيفا إلى ربها، فيلتف الساق بالساق من شدة الكرب، وثقل البلاء، لأن هذه الروح، روح إنسان لم يكن يؤمن بربه، ولم يكن ممن يصدق بآيات الله وبرسل الله، ولم يكن من المصلّين، الذين استجابوا لله، كما يقول سبحانه: «فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى».. أي كذب بآيات الله معرضا عنها: «ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى» أي حين أعطى ظهره معرضا عن آيات الله، أقبل على أهله، ومجتمع ناديه، يمشى معجبا بنفسه، نافحا صدره، مادّا عنقه، فاردا جناحيه، كأنه القائد المظفر، وقد عاد من الميدان يسوق بين يديه الغنائم والأسرى! والتفاف الساق بالساق، كناية عن الشدة والكرب، حيث لا يقوى المرء على التحكم فى أوصاله، أو أن يضبط حركات رجليه، فهو يمشى متخالجا متماوجا، كما يمشى المصروع..
الآيات: (٣٤- ٤٠) [سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٣٤ الى ٤٠]
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)
قوله تعالى:
«أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» - هو دعوة إلى هذا المشرك، الكافر باليوم الآخر، المكذب بالبعث، والحساب، والجزاء- دعوة له إلى ما هو أولى به، وأحسن عاقبة له..
ولم تصرح الآية الكريمة بهذا الأولى، الذي يدعى إليه هذا الضال، بل جعلته مطلقا من غير تحديد..
وفى هذا ما يشير إلى أمور:
فأولا: أن ما فيه هذا الضال من ضلال، هو أمر واضح لا يحتاج بيان ما فيه من نكر، إلى عرض الوجه المقابل له، لأنه مستغن بذاته عن أن يدل على شناعته.
وثانيا: أن أي مذهب يذهبه هذا الضال، هو أهدى سبيلا من طريقه الذي يسير فيه، والذي سيلقى به فى التهلكة، إن هو تابع مسيرته عليه..
وثالثا: أن إطلاق هذه الدعوة، التي لا تحمل غير الإشارة إلى أن هناك حالا أولى من تلك الحال التي هو فيها، دون الإشارة إلى الحال التي يراد منه الاتجاه إليها- فى هذا ما يوقظ مشاعر هذا الإنسان الغارق فى
وقد كررت الدعوة فى قوله تعالى: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» للتوكيد.. ثم كررت هذه الدعوة مؤكدة أيضا فى قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» مبالغة فى التنبيه والتحذير..
ويرى أكثر المفسرين أن قوله تعالى: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» - هو تهديد ووعيد، وأن المراد بما هو أولى له، هو النار المعدّة له، وأن ذلك العذاب هو ما يدعى إليه.. هذا المكذب بآيات الله والرأى- والله أعلم- هو ما ذهبنا إليه، من أن هذا إلفات وتنبيه وإغراء بالرجوع إلى الله، وأخذ طريق غير طريق الضلال الذي يركبه هؤلاء الضالون.. والآيات التي جاءت عقب هذا الإلفات تؤيد الرأى الذي ذهبنا إليه، لأنها تحاجّ الإنسان وتفتح له طاقات من نور يمكن أن يرى على ضوئها طريق الحق فيسلكه..
قوله تعالى:
«أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً»..
هو تعقيب على هذه الدعوة الموجّهة إلى منكرى البعث والحساب والجزاء..
وفى الاستفهام إنكار لموقف هذا المنكر ليوم القيامة، لأنه يظن أن أن يترك سدى، أي هملا، بلا حساب، أو جزاء.. وهذا ظن خاطئ من وجوه:
فأولا: أن العاقل لا يرضى لنفسه أن ينزل إلى مرتبة الحيوان، وأن ينظر إليه نظرة من يعفى من تبعة أعماله، فتلك حال لا يصير إليها الإنسان إلا إذا كان ناقص الأهلية، أو فاقدها..
وثانيا: الإنسان فى هذه الحياة، إذا أحسن عملا انتظر جزاء إحسانه، وتوقع الخير من ورائه، وأنه إذا لم يجد هذا الجزاء، استشعر مرارة الغبن وخفت فى نفسه موازين الإحسان، كما أنه إذا أسىء إليه، توقع أن يؤخذ له بحقه ممن أساء إليه، وإلا تحول إلى حيوان يستعمل مخالبه وأنيابه، مهاجما ومدافعا، فكان لا بدّ من حساب يسوّى عليه ما بين الناس من مظالم..
وثالثا: هذا الاختلاف بين مذاهب الناس فى الحياة، من محسنين ومسيئين، وعاملين، ومقصرين، وأخيار وأشرار، ومظلومين وظالمين- إلى غير ذلك مما يجعل كل إنسان منهم عالما قائما بذاته- هذا الاختلاف الحاد بينهم فى هذه الحياة، لا بد له أن يسوى، فيكون الأخيار فى جانب، والأشرار فى جانب، بعد أن كشفت تجربة اجتماعهم معا فى الحياة عن هذه المتناقضات.. وهذا لا يكون إلا فى عالم غير هذا العالم، وفى حياة غير هذه الحياة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (٣٥- ٣٦: القلم)..
وعلى هذا، فإنه أولى فأولى، ثم أولى فأولى لأهل الضلال أن ينزعوا عن
قوله تعالى:
«أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى»..
هو دليل من الأدلة الكاشفة عن قدرة الله، وأن من متعلقات هذه القدرة بعث الموتى من القبور..
فهؤلاء الموتى، قد كانوا عدما قبل أن تخرجهم القدرة القادرة إلى الحياة، كما يقول سبحانه: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (٢٨: البقرة).
وهذا الإنسان الذي ينكر البعث، ويستبعده على قدرة الله- ألا ينظر إلى أثر هذه القدرة فيه؟ ثم ألا يدرس مسيرة حياته، ليعلم من أين بدأ؟
وكيف صار؟ وإلى أين انتهى؟.
إنه لم يك شيئا أبدا: «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» (٦٧: مريم)..
ثم إنه كان نطفة من منىّ.. لا تعدو أن تكون أشبه بالمخاط، تستقذره النفوس وتمتهنه، كما يقول سبحانه: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» (٢٠:
المرسلات).. وهو مهين لأنه لا ينتفع به فى أي وجه من وجوه النفع، إلا إذا امتدت إليه يد القدرة، فنفخت فيه من روح الحق جل وعلا..
وفى وصف المنى بأنه «يُمْنى» - إشارة إلى أنه لا يكون قابلا للإخصاب
قوله تعالى:
«ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى»..
أي ثم أصبحت هذه النطفة علقة، وهى النطفة بعد أن تأخذ شكلا جديدا فى مسيرتها نحو الحياة، فتكون قطعة من الدم الغليظ المتجمد، لا حياة، فيها، ولا صورة محددة لها..
وقوله تعالى: «فَخَلَقَ فَسَوَّى».. فاعل خلق هو الله سبحانه وتعالى، أي فخلق الله سبحانه وتعالى من تلك النطفة، علقة، ثم خلق من تلك العلقة صورا، وأشكالا، فسوّاها حالا بعد حال، وخلقا بعد خلق، حتى كان منها هذا الإنسان السوىّ، الذي يسمع، ويبصر، ويعقل، ويملأ هذه الدنيا خيرا، وشرّا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» (٦: الزمر)..
ولم يذكر فاعل «خلق» لأنه أوضح من أن يذكر، إذ لا خالق غير الله سبحانه وتعالى، لا يشاركه أحد فى هذا الفعل، فحيث ذكر الخلق كان فاعله هو الله سبحانه: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (٥٤: الأعراف) وقوله تعالى:
«فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى».
أي فجعل الله سبحانه من هذا الخلق السوىّ، الذكر والأنثى، اللذين بهما يتناسل الإنسان وتتكاثر مواليده،..
أما ما جاء فى قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» فإن هذا فى مقام إلفات النظر إلى عالم المخلوقات الحية، حيث تبدو هذه المخلوقات فى أجناسها، وكأن كل جنس منها صنف واحد، حيث لا تمايز بين أفراده، مع أنه فى الحقيقة صنفان، ذكور وإناث.. فهذا مقام، وذاك مقام.
قوله تعالى:
«أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟»..
هذه هى القضية التي نصبت لها تلك الأدلة، التي تحدّث عن قدرة الله سبحانه وتعالى، والتي كانت السورة كلها معارض لتلك القدرة.
أي: أليس ذلك الإله الذي خلق الإنسان من نطفة، بقادر على أن يحيى الموتى؟
والجواب على هذا السؤال، هو بالإيجاب الملزم لكلّ ذى عقل أن يجيب
وبهذه الآية تختم السورة، التي كان عنوانها «القيامة».. فإنه لا قيامة إذا لم يتقرر إمكان بعث الموتى من القبور، فإذا تقرر ذلك، لم يكن الإخبار عن أن هناك بعثا، وقيامة، وحسابا، وجزاء- لم يكن هذا الإخبار بالأمر الذي يمارى فيه، أو يقع موقع الشك أو الإنكار..
نزولها: مدنية نزلت بعد سورة الرّحمن..
عدد آياتها: إحدى وثلاثون آية..
عدد كلماتها: مائتان وأربعون.. كلمة.
عدد حروفها: ألف وخمسون.. حرفا..
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة «القيامة» معرضا للأدلة، الدالة على قدرة الله سبحانه، وعلى إمكان البعث، ووقوع القيامة..
و «الإنسان» هو موضوع «القيامة» وهو الذي يساق إلى موقف الحساب والجزاء فيها..
فكان جعله عنوانا لسورة خاصة به، ثم كان جعله فى مواجهة يوم القيامة، بعد عرضها عليه- كان ذلك مما يقيم له مرآة ينظر فيها إلى نفسه، وإلى مكانه فى هذا الوجود، وإلى مسيرته فى الحياة، وكيف بدأ، وإلى أين ينتهى.