مقصودها إثبات الحكمة للكتاب اللازم منه حكمة منزله سبحانه في أقواله وأفعاله، وقصة لقمان المسمى به٢ السورة دليل واضح على ذلك كأنه٣ سبحانه لما أكمل ما أراد من أول القرآن إلى آخر براءة التي هي سورة غزو الروم، وكان سبحانه قد ابتدأ القرآن [ بعد أم القرآن ٤ ] بنفي الريب عن هذا الكتاب، وأنه هدى للمتقين، واستدل على ذلك فيما تبعها من السور، ثم ابتدأ سورة٥ يونس بعد سورة غزو٦ الروم بإثبات حكمته، وأتبع ذلك دليله إلى ختم سورة الروم، ابتدأ دورا جديدا على وجه أضخم من الأول، فوصفه في أول هذه التالية للروم بما وصفه به في يونس التالية لغزو الروم، وذلك الوصف هو الحكمة وزاد أنه هدى وهداية للمحسنين، فهؤلاء أصحاب النهايات، والمتقون أصحاب البدايات.
ولما أثبت في آل عمران أنه أنزل بالحق، أثبتت في السجدة تنزيله ونفي الريب عن أنه من عنده، وأثبت أنه الحق، واستمر فيما بعد هذا من السور مناظراً في الأغلب لما مضى كما يعرف ذلك بالإمعان في التذكر والتأمل والتدبر :﴿ بسم الله ﴾ الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً ﴿ الرحمن ﴾ الذي بث٧ بعموم حكمته٨ شامل نعمته في سائر بريته ﴿ الرحيم * ﴾ الذي أنار لخاصته طريق جنته، فداموا ٩وهاموا١٠ في محبته.
٢ في مد: بها..
٣ سقط من ظ..
٤ زيد من ظ وم ومد..
٥ سقط من ظ وم ومد..
٦ من ظ وم ومد، وفي الأصل: غزوة..
٧ في ظ: ثبت..
٨ زيدت الواو في الأصل، ولم تكن في ظ وم ومد فحذفناها..
٩ في ظ وم ومد: فهاموا..
١٠ في ظ وم ومد: فهاموا..
ﰡ
لما ختمت الروم بالحث على العلم، وهو ما تضمنه هذا الكتاب العظيم، والأمر بالصبر والتمسك بما فيه من وعد، والنهي عن الإطماع لأهل الاستخفاف في المقاربة لهم في شيء من الأوصاف، وكان ذلك هو الحكمة، قال أول هذه: ﴿آلم﴾ مشيراً بها إلى أن الله الملك الأعلى القيوم أرسل - لأنه ظاهر مع أن الباطن - جبرائيل عليه السلام إلا محمد عليه الصلاة والسلام بوحي ناطق من الحكم والأحكام بما لم ينطق به من قبله إمام، ولا يلحقه في ذلك شيء مدى الأيام، فهو المبدأ وهو الختام، وإلى ذلك أو ما تعبيره بإداة البعد في قوله: ﴿تلك﴾ أي الآيات التي هي من العلو والعظمة بمكان لا يناله إلا من جاهد نفسه حتى هذبها بالتخلي عن جميع الرذائل، والتحلي بسائر الفضائل ﴿آيات الكتاب﴾ الجامع لجميع أنواع الخير ﴿الحكيم﴾ بوضع الأشياء في حواق مراتبها فلا يستطاع نقض شيء من إبرامه، ولا معارضة شيء ومن كلامه، الدال ذلك على تمام علم منزله وخبرته، وشمول عظمته وقدرته، ودقيق صنائعه
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما تكرر الأمر بالاعتبار والحض عليه والتنبيه بعجائب المخلوقات في سورة الروم كقوله سبحانه: ﴿أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق﴾ [الروم: ٨] وقوله: ﴿أو لم يسيروا في الأرض﴾ [الروم: ٩] وقوله: ﴿الله يبدؤا الخلق ثم يعيده﴾ [الروم: ١١] وقوله: ﴿يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي﴾ [الروم: ١٩] إلى قوله: ﴿كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون﴾ [الروم: ٢٨] وهي عشر آيات تحملت من جليل الاعتبار والتنبيه ما لا يبقى معه شبهة ولا توقف لمن وفق إلى ما بعد هذا من آيات التنبيه وبسط الدلائل وذكر ما فطر عليه العباد وضرب الأمثال الموضحة سواء السبيل لمن عقل معانيها وتدبر حكمها إلى قوله: ﴿ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل﴾ [الروم: ٥٨] وهي إشارة إلى ما أودع الله كتابه المبين من مختلف الأمثال وشتى العظات وما تحملت هذه السورة من ذلك، أتبع سبحانه ذلك بقوله الحق: ﴿الم تلك آيات الكتاب الحكيم﴾ أي دلائله وبراهينه لمن وفق وسبقت له الحسنى وهو المحسنون الذين ذكرهم بعد، ووصف الكتاب بالحكيم يشهد لما مهدناه، ثم أشار سبحانه إلى من حرم منفعته والاعتبار به، واستبدل الضلالة بالهدى، وتنكب عن سنن
ولما كان الإحسان ما دعت إليه سورة الروم من الإيمان بلقاء الله، منزهاً عن شوائب النقص، موصوفاً بأوصاف الكمال، معبوداً بما شرعه على وجه الإخلاص، والانقياد مع الدليل كيفما توجه، والدوران معه كيفما دار، وكان ذلك هو عين الحكمة، قال تعالى: ﴿هدى﴾ أي حال كونها أو كونه بياناً متقناً ﴿ورحمة﴾ أي حاملاً على القيام بكل ما دعا إليه، والتقدير على قراءة حمزة بالرفع: هي أو
ولما كان الإيمان أساس هذه الأركان، وكان الإيمان بالبعث جامعاً لجميع أنواعه، وحاملاً على سائر وجوه الإحسان، وكان قد ختم الروم بالإعراض أصلاً عمن ليس فيه أهلية الإيقان، قال: ﴿وهم﴾ أي خاصة
ولما كان فطم النفس عن الشهوات. أعظم هدى قائد إلى حصول المرادات، وكان اتباعها الشهوات أعظم قاطع عن الكمالات، وكان في ختام الروم أن من وقف مع الموهومات عن طلب
ولما كان التقدير: من يسير بغير هذا السير، فيقطع نفسه عن كل خير، عبر عنه بقوله: ﴿من يشتري﴾ أي غير مهتد بالكتاب ولا مرحوم به ﴿لهو الحديث﴾ أي ما يلهي من الأشياء المتجددة التي تستلذ فيقطع بها الزمان من الغناء والمضحكات وكل شيء لا اعتبار فيه، فيوصل النفس بما أوصلها إليه من اللذة إلى مجرد الطبع
ولما كان من المعلوم أن عاقبة هذه الملاهي الضلال، بانهماك النفس في ذلك، لما طبعت عليه من الشهوة لمطلق البطالة، فكيف مع ما يثير ذلك ويدعو إليه من اللذاذة، فتصير أسيرة الغفلة عن الذكر، وقبيلة الإعراض عن الفكر، وكان المخاطب بهذا الكتاب قوماً يدعون العقول الفائقة، والأذهان الصافية الرائقة قال تعالى: ﴿ليضل﴾ من الضلال والإضلال على القراءتين، ضد ما كان عليه المحسنون من الهدى
ولما كان المراد: من قصد الضلال عن الشيء، ترك ذلك الشيء، وكان العاقل لا يقدم على ترك شيء إلا وهو عالم بأنه لا خير فيه قال: ﴿بغير علم﴾ ونكره ليفيد السلب العام لكل نوع من أنواع العلم، أي لأنهم لا علم لهم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها، علماً يستحق إطلاق العلم عليه بكونه يفيد ربحاً أو يبقى على رأس مال من دين أو دنيا، فإن هذا حال من استبدل الباطل بالحق والضلال بالهدى.
ولما كان المستهزئ بالشيء المحتقر له لا يتمكن من ذلك إلا بعد الخبرة التامة بحال ذلك الشيء وأنه لا يصلح لصالحه ولا يروج له حال بحال قال معجباً تعجيباً آخر أشد من الأول بالنصب عطفاً على «يضل»
ولما أنتج له هذا الفعل الشقاء الدائم. بينه بقوله، جامعاً حملاً على معنى «من» بعد أن أفرد حملاً على لفظها، لأن الجمع في مقام الجزاء أهول، والتعجيب من الواحد أبلغ ﴿أولئك﴾ أي الأغبياء البعيدون عن رتبة الإنسان، وتهكم بهم التعبير باللام الموضوعة لما يلائم فقال: ﴿لهم عذاب مهين *﴾ أي يثبت لهم الخزي الدائم ضد ما كان للمحسنين من الرحمة.
ولما كان الإنسان قد يكون غافلاً، فإذا نبه انتبه، دل سبحانه على أن هذا الإنسان المنهمك في أسباب الخسران لا يزداد على مر الزمان إلا مفاجأة لكل ما يرد عليه من البيان بالبغي والطغيان، فقال مفرداً للضمير حملاً على اللفظ أيضاً لئلا يتعلق متمحل بأن المذموم إنما هو الجمع صارفاً الكلام إلى مظهر العظمة لما اقتضاه الحال من الترهيب:
ولما كان السامع لآياته سبحانه جديراً بأن تكسبه رقة وتواضعاً، قال تعالى دالاً على أن هذا الشقي كان حاله عند سماعه وبعده كما كان قبل: ﴿كأن﴾ أي كأنه، أي مشبهاً حالة بعد السماع حاله حين ﴿لم يسمعها﴾ فدل ذلك على أنه لم يزل على حالة الكبر لآنه شبه حاله مع السماع بحاله مع عدم السماع، وقد بين أن حاله مع السماع الاستكبار فكان حاله قبل السماع كذلك.
ولما كان من لم يسمع الشيء قد يكون قابلاً للسمع، فإذا كلم من قد جرت العادة بأن يسمع منه سمع، بين أن حال هذا كما كان مساوياً لما قبل التلاوة فهو مساو لما بعدها، لأن سمعه مشابه لمن به صم، فالمضارع في «يتلى» مفهم لأن الحال في الاستقبال كهي في الحال فقال تعالى: ﴿كأن في أذنيه وقراً﴾ أي صمماً يستوي معه تكليم غيره له وسكوته.
ولما كانت معرفة ما لأحد الجزءين باعثة على السؤال عما للحزب الآخر، وكانت إجابة السؤال عن ذلك من أتم الحكمة، استأنف تعالى قوله مؤكداً لأجل إنكار الكفرة: ﴿إن الذين آمنوا﴾ أو اوجدوا الإيمان ﴿وعملوا﴾ أي تصديقاً له ﴿الصالحات﴾ وضعاً للشيء في محله عملاً بالحكمة ﴿لهم جنات﴾ أي بساتين ﴿النعيم﴾ فأفاد سبحانه بإضافتها إليه أنه لا كدر فيها أصلاً ولا شيء غير النعيم. ولما كان ذلك قد لا يكون دائماً. وكان لا سرور بشيء منقطع قال: ﴿خالدين فيها﴾ أي دائماً.
ولما كانت الثقة بالوعد على قدر الثقة بالواعد، وكان إنجاز الوعد
ولما كان النفس الغريب جديراً بالتأكيد، أتى بصفتين مما أفهمه الإتيان بالجلالة تصريحاً بهما تأكيداً لأن هذا لا بد منه فقال: ﴿وهو﴾ أي وعد بذلك والحال أنه ﴿العزيز﴾ فلا يغلبه شيء ﴿الحكيم*﴾ أي المحكم لما يقوله ويفعله، فلا يستطاع نقضه ولا نقصه.
ولما ختم بصفتي العزة - وهي غاية القدرة - والحكمة - وهي ثمرة العلم - دل عليها باتقان أفعاله وإحكامها فقال: ﴿خلق السماوات﴾ أي على علوها وكبرها وضخامتها ﴿بغير عمد﴾ وقوله: ﴿ترونها﴾ دال على الحكمة، إن قلنا إنه صفة لعمد أو استئناف، إما أن قلنا بالثاني فلكون مثل هذا الخلق الكبير الواسع يحمل بمحض القدرة، وإن قلنا بالأول فتركيب مثله على عمد تكون في العادة حاملة له وهي مع ذلك بحيث لا ترى أدخل في الحكمة وأدق في اللطافة والعظمة، لأنه
ولما ذكر العمد المقلة، اتبعه الأوتاد المقرة فقال: ﴿وألقى في الأرض﴾ أي التي أنتم عليها، جبالاً ﴿رواسي﴾ والعجب من فوقها وجميع الرواسي التي تعرفونها تكون من تحت، تثبتها عن ﴿أن تميد﴾ أي تتمايل مضطربة ﴿بكم﴾ كما هو شأن ما على ظهر الماء.
ولا ذكر إيجادها وإصلاحها للاستقرار. ذكر ما خلقت له من الحيوان فقال: ﴿وبث فيها﴾ أي فرق ﴿من كل دابة﴾ ولما ذكر ذلك ذكر ما يعيش به، فقال منبهاً لمظهر العظمة على أن ذلك وإن كان لهم في بعضه تسبب لا يقدر عليه إلا هو سبحانه: ﴿وأنزلنا﴾ أي بما لنا من العزة اللازمة للقدرة، وقدم ما لا قدرة لمخلوق عليه بوجه فقال: ﴿من السماء ماء﴾ ولما تسبب عن ذلك تدبير الأقوات، وكان من آثار الحكمة التابعة للعمل، دل عليه بقوله: ﴿فأنبتنا﴾ أي بما لنا من العلو في الحكمة ﴿فيها﴾ أي الأرض بخلط الماء بترابها ﴿من كل زوج﴾ أي صنف من النبات متشابه ﴿كريم*﴾ بما له من البهجة والنضرة الجالبة للسرور والمنفعة والكثرة الحافظة لتلك الدواب.
ولما كان العاقل بل وغيره لا ينقاد لشيء إلا أن رأى له فعلاً يوجب الانقياد له، نبه على ذلك بقوله جواباً لما تقديره: فإن ادعيتم لما دونه مما عبدتموه من دونه خلقاً عبدتموه لأجله: ﴿فأروني ماذا خلق الذين﴾ زاد اسم الإشارة زيادة في التقريع بتأكيد النفي المقصود من الكلام، ونبه على سفول رتبتهم بقوله مضمراً لأنه ليس فيما أسند إلى الاسم الأعظم حيثية يخشى من التقييد بها نقص: ﴿من دونه﴾ فسأله في رؤية ما خلقوا غبنه أحد أصلاً بأن انقدتم لما لا ينقاد له حيوان فضلاً عن إنسان بكونه لا فعل له أصلاً، فكان من حقكم - إن كانت لكم عقول - أن تبحثوا اولاً هل لهم أفعال أم لا؟ ثم إذا ثبت فهل هي محكمة أم لا، ثم إذا ثبت فهل شاركهم غيرهم أم لا، وإذا
ولما ثبتت حكمته سبحانه وأنه أبعدهم عنها بما قضى عليهم من الجهل وغباوة العقل وآتاها من تاب، واعتصم بآيات الكتاب، توقع السامع الإخبار عن بعض من آتاه الحكمة من المتقدمين الذين كانوا من المحسنين، فوضعوا الأشياء في مواضعها بأن آمنوا على قوله: «وهو العزيز الحكيم» أو على مقدر تقديره: لأنا أضللناهم بحكمتنا وآتينا الحكمة الذين قبلوا آياتنا وأحسنوا التعبد لنا فما عبدوا صمناً ولا مالوا إلى لهو، لأن ذلك عين الحكمة لكونه وضعاً للشيء في محله، فهو
بالرسالة: ﴿ولقد آتينا﴾ بما لنا من العظمة والحكمة ﴿لقمان﴾ وهو عبد من عبيدنا ﴿الحكمة﴾ وهو العلم المؤيد بالعمل والعمل المحكم بالعلم، وقال الحرالي: هي العلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم، والحكم الحمل على جميع أنواع الصبر والمصابرة ظاهراً بالإيالة العالية، ولا يتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم، وقال ابن ميلق: إن مدارها على إصابة الحق والصواب في القول والعمل، ولهذا قال ابن قتيبة: لا يقال لشخص حكيماً حتى تجتمع له الحكمة في القول والفعل، قال: ولا يسمى المتكلم بالحكمة حكيماً حتى يكون عاملاً بها - انتهى.
ومن بليغ حكمته ما أسنده صاحب الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «حقاً أقول! لم يكن لقمان نبياً، ولكن كان عبداً ضمضامة كثير التفكر حسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمنّ عليه بالحكمة، كان نائماً نصف النهار إذ جاءه نداء، قيل: يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق، فأجاب: إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة، فإني أعلم أنه أن فعل ذلك ربي عصمني وأعانني، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم:
ولما كانت الحكمة قاضية بذلك، أجرى الله سبحانه آثار عدله على ظواهر أصفيائه دون بواطنهم، ثم عقبت ذلك بإيراد آثار فضله على بواطنهم وظواهرهم حتى صار من قاعدة الحكمة الإلهية تفويض ممالك الأرض للمستضعفين فيها كالنجاشي حيث بيع في صغره، وذلك كثير موجود بالاستقراء، فمن كمال تربية الحكيم لمن يريد إعلاء شأنه أن يجري على ظاهره من أثر العدل ما فيه تكميل لهم وتنوير لمداركهم وتطهير لوجودهم وتهذيب وتأديب - إلى غير ذلك من فؤائد التربية، ومن تتبع أحوال الأكابر من آدم عليه السلام وهلم جراً رأى من حسن
ولما كانت الحكمة هي الإقبال على الله قال: ﴿أن اشكر﴾ وهو وإن كان تقديره: قلنا له كذا، يؤول إلى «آتيناه الشكر» وصرف الكلام إلى الاسم الأعظم الذي لم يتسم به غيره سبحانه دفعاً للتعنت، ونقلاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منها فقال: ﴿لله﴾ بأن وفقناه له بما سببناه له من الأمر به لأن الحكمة في الحقيقة هي القيام بالشكر لا الإيصاء به، ويمكن أن تكون «أن» مصدرية، ويكون التقدير: آتيناه إياها بسبب الشكر، وعبر بفعل الأمر إعلاماً بأن شكره كان لامتثال الأمر ليكون أعلى.
ولما كان التقدير: فبادر وشكر، فما نفع إلا نفسه، كما أنه لو كفر ما ضر إلا نفسه، عطف عليه معرفاً أنه غني عن شكر الشاكرين قوله معبراً بالمضارع الدال على أن من أقبل عليه - في أيّ زمان كان - يلقاه ويكون معروفه له دائماً بدوام العمل: ﴿ومن يشكر﴾ أي يجدد الشكر ويتعاهد به نفسه كائناً من كان ﴿فإنما يشكر﴾ أي يفعل ذلك ﴿لنفسه﴾ أي فإنما ينفع نفسه، فإن الله يزيده من فضله فإن الله
ولما كان أصل توفية حق الحق تصحيح الاعتقاد وإصلاح العمل، وكان الأول أهم، قدمه فقال: ﴿يا بني﴾ فخاطبه بأحب ما يخاطب به، مع إظهار الترحم والتحنن والشفقة، ليكون ذلك أدعى لقبول النصح ﴿لا تشرك﴾ أي لا توقع الشرك لا جليا ولا خفياً، ولما كان في تصغيره الإشفاق عليه، زاد ذلك بإبراز الاسم الأعظم الموجب لاستحضار جميع الجلال، تحقيقاً لمزيد الإشفاق. فقال: ﴿بالله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له، ثم علل هذا النهي بقوله: ﴿إن الشرك﴾ اي بنوعيه ﴿لظلم عظيم*﴾ أي فهو ضد الحكمة، لأنه وضع الشيء في غير محله، فظلمه ظاهر من جهات عديدة جداً، أظهرها أنه تسوية المملوك الذي ليس له من ذاته إلا العدم نعمة منه أصلاً بالمالك الذي له وجوب
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أوصى به ولده من شكر المنعم الأول الذي لم يشركه في إيجاده أحد، وذكر ما عليه الشرك من الفظاعة والشناعة والبشاعة، أتبعه سبحانه وصيته للولد بالوالد لكونه المنعم الثاني المتفرد سبحانه بكونه جعله سبب وجود الولد اعترافاً بالحق
«لو أن العبد لقي الله بكمال ما افترض عليه ما خلا بر الوالدين ما دخل الجنة، وإن بر الوالدين لنظام التوحيد والصلاة والذكر» ولذلك لفت الكلام إلى مظهر العظمة ترهيباً من العقوق ورفعاً لما لعله يتوهم من أن الانفصال عن الشرك لا يكون إلا بالإعراض عن جميع الخلق.
ولما قد يخيله الشيطان من أن التقيد بطاعة الوالد شرك، مضمناً تلك الوصية إجادة لقمان عليه السلام في تحسين الشرك وتقبيح الشرك لموافقته لأمر رب العالمين، وإيجاب امتثال ابنه لأمره، فقال مبيناً حقه وحق كل والد غيره، ومعرفاً قباحة من أمر ابنه بالشرك لكونه منافياً للحكمة التي أبانها لقمان عليه السلام، وتحريم امتثال الابن لذلك ووجوب مخالفته لأبيه فيه تقديماً لأعظم الحقين، وارتكاباً لأخف الضررين: ﴿ووصينا﴾ أي قال لقمان ذلك لولده نصحاً له والحال
ولما كانت الأم في مقام الاحتقار لما للأب من العظمة بالقوة والعقل والكد عليها وعلى ولدها، نوه بها ونبه على ما يختص به من أسباب وجود الولد وبقائه عن الأب مما حصل لها من المشقة بسببه وما لها إليه من التربية. فقال معللاً أو مستأنفاً: ﴿حملته أمه وهناً﴾ أي حال كونها ذات وهن تحمله في أحشائها، وبالغ بجعلها نفس الفعل دلالة على شدة ذلك الضعف بتضاعفه كلما أثقلت ﴿على وهن﴾ أي هو قائم بها من نفس خلقها وتركيبها إلى ما يزيدها التمادي بالحمل، ثم أشار إلى ما لها عليه من المنة بالشفقة وحسن الكفالة وهو لا يملك
ولما كان الوالدان يعدان وجدان الولد من أعظم أسباب الخير والسرور، عبر في أمره بالعام الذي تدور مادته على السعة لذلك وترجية لهما بالعول عليه وتعظيماً لحقهما بالتعبير بما يشير إلى صعوبة ما قاسيا فيه باتساع زمنه فقال: ﴿في عامين﴾ تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا لله تعالى، وفي التعبير بالعام أيضاً إشارة إلى تعظيم منتهاه بكونها تعد أيام رضاعه - مع كونها أضعف ما يكون في تربيته - أيام سعة وسرور، والتعبير ب «في» مشيراً إلى أن الوالدين لهما أن يفطماه قبل تمامهما على حسب ما يحتمله حاله، وتدعو إليه المصلحة من أمره.
ولما ذكر الوصية وأشار إلى أمهات أسبابها، ذكر الموصى به فقال مفسراً ل «وصينا» :﴿أن اشكر﴾ ولما كان الشكر منظوراً إليه أتم نظر، قصر فعله، أي أوجد هذه الحقيقة ولتكن من همك. ولما كان لا بد له من متعلق، كان كأنه قال: لمن؟ فقال مقدماً ما هو أساس الموصى به في الوالدين ليكون معتداً به، لافتاً القول إلى ضمير الواحد من غير تعظيم
ولما ذكر سبحانه وصيته بهما وأكد حقهما، أتبعه الدليل على ما ذكر لقمان عليه السلام من قباحة الشرك فقال: ﴿وإن جاهداك﴾ أي مع ما أمرتك به من طاعتهما، وأشار بصيغة المفاعلة إلى مخالفتهما وإن بالغا في الحمل على ذلك ﴿على أن تشرك بي﴾ وأشار بأداة
فلما قرر ذلك على هذا المنوال البديع، قال مسبباً عنه: ﴿فلا تطعهما﴾ أي في ذلك ولو اجتمعا على المجاهدة لك عليه، بل خالفهما، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به، لأن أمرهما بذلك مناف للحكمة حامل على محض الجور والسفه، ففيه تنبيه لقريش على محض الغلط في التقليد لآبائهم في ذلك.
ولما كان هذا قد يفهم الإعراض عنهما رأساً في كل أمر إذا خالفا في الدين، أشار إلى أنه ليس مطلقاً فقال: ﴿وصاحبهما في الدنيا﴾ أي في أمورها التي لا تتعلق بالدين ما دامت حياتهما.
ولما كان المبنى على النقصان عاجزاً عن الوفاء بجميع الحقوق، خفف عليه بالتنكير في قوله: ﴿معروفاً﴾ أي ببرهما إن كانا على دين يقران عليه ومعاملتهما بالحلم والاحتمال وما يقتضيه مكارم الأخلاق ومعالي الشيم، قال ابن ميلق: ويلوح من هذه المشكاة تعظيم الأشياخ الذين كانوا في العادة سبباً لإيجاد القلوب في دوائر التوحيد العلمية والعملية -
ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة، نفى ذلك بقوله: ﴿واتبع﴾ أي بالغ في أن تتبع ﴿سبيل﴾ أي دين وطريق ﴿من أناب﴾ أي أقبل خاضعاً ﴿إليّ﴾ لم يلتفت إلى عبادة غيري، وهم المخلصون من أبويك وغيرهما، فإن ذلك لا يخرجك عن برهما ولا عن توحيد الله والإخلاص له، وفي هذا حث على معرفة الرجال بالحق، وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة، فمن
ولما كان التقدير: فإن مرجع أموركم كلها في الدنيا إليّ، عطف عليه قوله: ﴿ثم إليّ﴾ أي في الآخرة، لا إلى غيري مرجعك - هكذا كان الأصل، ولكنه جميع لإرادة التعميم فقال معبراً بالمصدر الميمي الدال على الحدث وزمانه ومكانه: ﴿مرجعكم﴾ حساً ومعنى، فأكشف الحجاب ﴿فأنبئكم﴾ أي أفعل فعل من يبالغ في التنقيب والإخبار عقب ذلك وبسببه، لأن ذلك أنسب شيء للحكمة وإن كان تعقيب كل شيء بحسب ما يليق به ﴿بما كنتم﴾ بما هو لكم كالجبلة ﴿تعملون*﴾ أي تجددون عمله من صغير وكبير، وجليل وحقير، وما كان في جبلاتكم مما لم يبرز إلى الخارج، فأجازي من أريد وأغفر لمن أريد، فأعد لذلك عدته، ولا تعمل عمل من ليس له مرجع يحاسب فيه ويجازي على مثاقيل الذر من أعماله، ولعله عبر عن الحساب بالتنبئة لأن العلم بالعمل سبب للمجازاة عليه أو لأنه جمع القسمين، ومحاسبة السعيد العرض فقط بدلالة التضمن ومحاسبة الشقي بالمطابقية.
ولما كان قد عرف أن السياق لماذا أثبت النون في قوله مسبباً عن صغرها: ﴿فتكن﴾ إشارة إلى ثباتها في مكانها. وليزداد تشوف النفس إلى محط الفائدة ويذهب الوهم كل مذهب لما علم من
ولما أخفى وضيق، أظهر ووسع، ورفع وخفض، ليكون أعظم لضياعها لحقارتها فقال: ﴿أو في السماوات﴾ أي في أيّ مكان كان منها على سعة أرجائها وتباعد أنحائها، وأعاد «أو» نصاً على إرادة كل منهما على حدته، والجار تأكيداً للمعنى فقال: ﴿أو في الأرض﴾ أي كذلك، وهذا كما ترى لا ينفي أن تكون الصخرة فيهما أو في إحداهما، وعبر له بالاسم الأعظم لعلو المقام فقال: ﴿يأتِ بها الله﴾ بعظم جلاله، وباهر كبريائه وكماله، بعينها لا يخفى عليه ولا يذهب شيء منها، فيحاسب عليها، ثم علل ذلك من علمه وقدرته بقوله مؤكداً إشارة إلى أن إنكار ذلك لما له من باهر العظمة من دأب النفوس إن لم يصحبها التوفيق: ﴿إنّ الله﴾ فأعاد الاسم الأعظم تنبيهاً على استحضار العظمة وتعميماً للحكم ﴿لطيف﴾ أي عظيم المتّ
ولما نبهه على إحاطة علمه سبحانه وإقامته للحساب، أمره مما يدخره لذلك توسلاً إليه، وتخضعاً لديه، وهو رأس ما يصلح به العمل ويصحح التوحيد ويصدقه، فقال: ﴿يا بني﴾ مكرراً للمناداة على هذا الوجه تنبيهاً على فرط النصيحة لفرط الشفقة ﴿أقم الصلاة﴾ أي بجميع حدودها وشروطها ولا تغفل عنها، سعياً في نجاة نفسك وتصفية سرك، فإن إقامتها - وهي الإيتان بها على النحو المرضي - مانعة من الخلل في العمل ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ لأنها الإقبال على من وحدته فاعتقدت أنه الفاعل وحده وأعرضت عن كل ما سواه لأنه في التحقيق عدم، ولهذا الإقبال والإعراض كانت ثانية التوحيد، وترك ذكر الزكاة تنبيهاً على أن من حكمته تخليه وتخلي ولده من الدنيا حتى مما يكفيهم لقوتهم.
ولما أمر بتكميله في نفسه بتكميل نفسه توفية لحق الحق، عطف على ذلك تكميله لنفسه بتكميل غيره توفية لحق الخلق، وذلك أنه لما
ولما كانت هذه الدار سفينة لسفر من فيها إلى ربهم، وكانت المعاصي مفسدة لها، وكان فساد السفينة مغرقاً لكل من فيها: من أفسدها ومن أهمل المفسد ولم يأخذ على يده، وكان الأمر بالمعروف نهياً عن المنكر، صرح به فقال: ﴿وانه﴾ أي كل من قدرت على نهيه ﴿عن المنكر﴾ حباً لأخيك ما تحب لنفسك، تحقيقاً لنصيحتك، وتكميلاً لعبادتك، لأنه ما عبد الله أحد ترك غيره يتعبد لغيره، ومن هذا الطراز قول أبي الأسود رحمه الله تعالى:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها | فإذا انتهت عنه فأنت حكيم |
ولما كان القابض على دينه في غالب الأزمان كالقابض على الجمر، لأنه يخالف المعظم فيرمونه عن قوس واحدة لا سيما أن أمرهم ونهاهم، قال تعالى: ﴿واصبر﴾ صبراً عظيماً بحيث يكون مستعلياً ﴿على ما﴾ أي الذي، وحقق بالماضي أنه لا بد من المصيبة ليكون الإنسان على بصيرة، فقال: ﴿أصابك﴾ أي في عبادتك من الأمر بالمعروف وغيره سواء كان بواسطة العباد أو لا كالمرض ونحوه، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر لأنها ملاك الاستعانة
﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾ [البقرة: ٤٥] واختلاف المخاطب في الموضعين أوجب اختلاف الترتيبين، المخاطب هنا مؤمن متقلل، وهناك كافر متكثر.
ولما كان ما أحكمه له عظيم الجدوى، وجعل ختامه الصبر الذي هو ملاك الأعمال والتروك كلها، نبهه على ذلك بقوله على سبيل التعليل والاستئناف إيماء إلى التبجيل: ﴿إن ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي أوصيتك به لا سيما الصبر على المصائب: ﴿من عزم الأمور﴾ أي
ولما كان من آفات العبادة لا سيما الأمر والنهي - لتصورهما بصورة الاستعلاء - الإعجاب إلى الكبر، قال محذراً من ذلك معبراً عن الكبر بلازمه، لأن النفي الأعم نفي للأخص، منبهاً على أن المطلوب في الأمر والنهي اللين لا الفظاظة والغلظة الحاملان على النفور: ﴿ولا تصعر خدك﴾ أي لا تمله معتمداً إمالته بإمالة العنق متكلفاً لها صرفاً عن الحالة القاصدة، وأصل الصعر داء يصيب البعير يلوي منه عنقه، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: تصاعر، والمراد بالمفاعلة والتفعيل تعمد فعل ذلك لأجل الكبر حتى يصير خلقاً، والمراد النهي عما يفعله المصعر من الكبر - والله أعلم.
ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تذم، أشار إلى المقصود بقوله تعالى: ﴿للناس﴾ بلام العلة، أي لا تفعل ذلك
ولما كانت غاية ذلك الرياء للناس والفخر عليهم المثمر لبغضتهم الناشئة عن بغضة الله تعالى، علله بقوله مؤكداً لأن كثيراً من الناس يظن أن أسباغ النعم الدنيوية من محبة الله: ﴿إن الله﴾ أي الذي لا ينبغي الكبر إلا له لما له من العظمة المطلقة. ولما كان حب الله الذي يلزمه حب الناس محبوباً للنفوس، وكان فوات المحبوب أشق على النفوس من وقوع المحذور، وكانت «لا» لا تدخل إلا على المضارع المستقبل قال: ﴿لا يحب﴾ أي فيما يستقبل من الزمان، ولو قال «يبغض» لاحتمال التقييد بالحال، ولما كان النشر المشوش أفصح لقرب الرجوع
ولما كان رفع الصوت فوق العادة منكراً كما كان خفضه دونها تماوتاً أو دلالاً وتكبراً، وكان قد أشار إلى النهي عن هذا ب «من» فأفهم أن الطرفين مذمومان، علل النهي عن الأول دالاً بصيغة «أفعل» على اشتراك الرفع كله في النكارة ذاكراً أعلاها تصويراً له بأقبح صورة تنفيراً عنه فقال: ﴿إن أنكر﴾ أي أفظع وأبشع وأوحش ﴿الأصوات﴾ أي كلها المشتركة في النكارة برفعها فوق الحاجة، وأخلى الكلام عن لفظ التشبيه فأخرجه مخرج الاستعارة تصويراً لصوت الرافع صوته فوق الحاجة بصورة النهاق وجعل المصوت كذلك حماراً، مبالغة في التهجين، وتنبيهاً على أنه من كراهة الله له بمكان فقال: ﴿لصوت الحمير﴾ أي هذا الجنس، لما له من الغلو
﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً﴾ [البقرة: ٢٦٩] وإفراطها الجربزة، وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي كالمتشابهات، وعلى وجه لا ينبغي، كمخالفة الشرائع - نعوذ بالله من علم لا ينفع قلت: وهي بجيم ثم مهملة ثم موحدة ثم زاي مأخوذة من الجربز - بالضم، وهو الخب، أي الخداع الخبيث -
ولما انقضت هذه الجمل، رافعة أعناقها على المشتري وزحل، قابلة لمن يريد عملها مع الكسل، والضجر في الفكر والملل، وأين الثريا من يد المتناول، وكان قد أخبر سبحانه وتعالى في أول السورة أن الآيات المسموعة هدى لقوم وضلال لآخرين، وكان من الغرائب أن شيئاً واحداً يؤثر شيئين متضادين، وأتبع ذلك ما دل على أنه من بالغ الحكمة بوجوه مرضية مشرقة مضيئة، لكنها بمسالك دقيقة وإشارات خفية، إلى أن ختم بالنهي عن التكبر، ورفع الصوت فوق الحاجة، إشارة إلى أن فاعل ما لا حاجة إليه غير حكيم، وكان التكبر على الناس والتعالي عليهم من آثار الفضل في النعمة، وكانت العادة جارية بأن اللك يخضع له تارة لمجرد عظمته، وتارة خوفاً من سطوته، وتارة رجاء لنعمته، أبرز سبحانه وتعالى غيب ما وصف به الآيات المسموعة من تأثير الضدين في حالة واحدة في شاهد الآيات المرئية على وجه يدل على استحقاقه، لما أمر به لقمان عليه السلام من العبادة والتذلل، وأن إليه المرجع، وهو عالم على استحقاقه، لما أمر به لقمان شيء، وأن كل ما ترى خلقه مذكراً بأن النعمة إنما هي منه، فلا ينبغي لأحد أن يفخر بما آتاه غيره، ولو كل فيه إلى نفسه لم يقدر على شيء منه، محذراً من سلبها
ولما كان التقدير: ومع كون كل منكم أيها الخلق يعرف أن ذلك نعمة منه سبحانه تعالى وحده فمن الناس من أذعن وأناب وسلم لكل ما دعا إليه كتابه الحكيم على لسان رسوله النبي الكريم فكان من الحكماء الحسنين فاهتدى عطف عليه قوله مظهراً موضع ضمير المخاطبين مما يشير إليه النوس: ﴿ومن الناس﴾ أي الذين هم أهل للاضطراب، ويمكن أن يكون حالاً من ﴿ألم تروا﴾ ويكون
ولما كان سبحانه في ظهور وجوده وأوصافه بحيث لا يخفى بوجه، وكان المجادل قد يكون فهماً، قال: ﴿بغير﴾ أي بكلام متصف بأنه غير ﴿علم﴾ أي بل بألفاظ هي في ركاكة معانيها لعدم استنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العحم، فكان بذلك حماراً تابعاً للهوى.
ولما كان المعنى قد يظهر لبعض القاصرين، لوروده على لسان من لا يعتبر، فإذا أضيف إلى كبير، تؤمل ولم يبادر إلى رده لاستعظامه، فظهر على طول حسه، قال معبراً بأداة النفي الحقيقة به، لأن الموضع لها، وعدل عنها اولاً لئلا يظن أن المذموم إنما هو المجادل إذا كان غير متصف بالعلم
ولما كان القول قد يكون مقبولاً لاستناده إلى الله تعالى وإن لم يكن اصلاً معقولاً، قال: ﴿ولا كتاب﴾ أي من الله؛ ووصفه بما هو لازمه لا ينفك عنه فقال: ﴿منير*﴾ أي بين غاية البيان، مبين لغيره على عادة بيان الله سبحانه وتعالى، أو يكون أريد بالوصف الإعجاز لإظهاره قطعاً أنه من الله، فإنه ليس كل كتاب الله كذلك.
ولما كانوا لا يسلكون طريقاً حسياً بغير دليل، كان التقدير: أتتبعونهم لو كان الهوى يدعوهم فيما وجدتموهم عليه إلى ما يظن فيه الهلاك، لكونه بغير دليل، فعطف عليه قوله: ﴿أو لو كان الشيطان﴾ أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة، وهو أعدى اعدائهم، دليللهم فهو ﴿يدعوهم﴾ إلى الضلال فيوقعهم فيما يسخط الرحمن فيؤديهم ذلك ﴿إلى عذاب السعير*﴾ وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم في ضلالهم وأنه مستمر، وأطلق العذاب على سببه.
ولما كان التقدير: فمن جادل في الله فلا متمسك له، عطف عليه قوله في شرح حال أضدادهم: ﴿ومن يسلم﴾ أي في الحال أو الاستقبال ﴿وجهه﴾ أي قصده وتوجهه وذاته كلها. ولما كان مقصود السورة إثبات الحكمة، عدى الفعل ب «إلى» تنبيهاً على إتقان الطريق بالوسائط من النبي أو الشيخ وحسن الاسترشاد في ذلك، فقال معلقاً بما تقديره: ساتراً وواصلاً ﴿إلى الله﴾ الذي له صفات الكمال،
ولما كان الكل صائرين إليه، رافدين عليه: من استمسك بالأوثق، ومن استمسك بالأوهى، ومن لم يتمسك بشيء، إلا أن الأول صائر مع السلامة، وغيره مع العطب، قال مظهراً تعظيماً للأمر ولئلا يقيد بحيثية عاطفاً على ما تقديره: فيصير إلى الله سالماً، فإلى الله عاقبته لا محال: ﴿وإلى الله﴾ أي الملك الأعظم وحده تصير ﴿عاقبة الأمور *﴾ أي كما أنه كانت منه بادئتها، وإنما خص العاقبة لأنهم مقرون بالبادئة.
ولما كان الحزن بمعنى الهم، حسن التعليل بقوله التفاتاً إلى مظهر العظمة التي هذا من أخفى مواضعها، وجمع لأن الإحاطة بالجمع أدل على العظمة: ﴿إلينا﴾ أي خاصة بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال
ولما كان معنى التضعيف: نفعل معهم فعل منقب عن الأمور مفتش على جليها وخفيها، جليلها ودقيقها، فلا نذر شيئاً منها، علله بقوله معبراً بالاسم الأعظم المفهم للعظمة وغيرها من صفات الكمال التي من أعظمها العلم، لفتاً للكلام عن العظمة التي لا تدل على غيرها إلا باللزوم، مؤكداً لإنكارهم شمول علمه ﴿إن الله عليم﴾ أي محيط العلم بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿بذات الصدور*﴾ أي بالأعمال التي هي صاحبتها، ومضمرة ومودعة فيها، فناشئة عنها ومن قبل أن تبرز إلى الوجود، فكيف بذلك بعد عملها.
ولما كان إلجاء المتجبرين إلى العذاب امراً مستبعداً، أشار بأداة البعد إلى ما يحصل عنده من صفات الجلال، التي تذل الرجال، وتدك الجبال، وفيه أيضاً إشارة إلى استطالة المحسنين من تمتيعهم وإن كان قليلاً في الواقع، أو عند الله فقال: ﴿ثم نضطرهم﴾ أي نأخذهم اخذاً لا يقدرون على الانفكاك عنه بنوع حيلة، وأشار إلى طول إذلالهم في مدة السوق بحرف الغاية، فكان المعنى: فنصيرّهم بذلك الأخذ ﴿إلى عذاب غليظ *﴾ أي شديد ثقيل، لا ينقطع عنهم أصلاً ولا يجدون لهم منه مخلصاً من جهة من جهاته، فكأنه في شدته وثقله جرم غليظ جداً إذا برك على شيء لا يقدر على الخلاص منه.
ولما كان من أعجب العجب مجادلتهم مع إقرارهم بما يلزمهم به
ولما كانوا يعتقدون أن شركائهم تفعل لهم بعض الأفعال، فلذلك كانوا يرجونهم ويخافونهم، كما أن ذلك واضح في قصة عم أنس الصم وغيرها، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يعلمهم أنه لا خلق لغيره ولا أمر، بل هو مبدع كل شيء في السماوات والأرض كما أبدعهما، وأن من
ولما كانوا يظنون أن أصنامهم تصنع شيئاً كما قالت امرأة ذي النور الدوسي رضي الله عنه: هل يخشى على الصبية من ذي الشرى، وكما قال قوم ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه لما سب آلهتهم: اتق الجذام اتق البرص، وكما قال سادن العزى، وكما قالت ثقيف في طاغيتهم، حتى أنهم قالوا عندما سويت بالأرض، والله ليغضبن الأساس، حتى حمل ذلك المغيرة بن شعبة رضي الله عنه على أن حفر الأساس، وكانوا إذا مستهم الضراء لا سيما في البحر تبرؤوا منها، وأسندوا الأمر إلى من هو له كما هو مضمون التوحيد، فكان ربما قال قائل استناداً إلى ذلك:
ولما ثبت ذلك أنتج قطعاً قوله: ﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿هو﴾ أو وحده، وأكد لأن ادعائهم الشريك يتضمن إنكار غناه،
ولما كان الغني قد يكون ماله محصوراً كما في السماوات والأرض الذي قدم أنه له، والمحمود قد يكون ما يحمد عليه مضبوطاً مقصوراً أثبتت أنه على غير ذلك، بل لا حد لغناه، ولا ضبط لمعلوماته ومقدوراته الموجبة لحمده ولا تناه، فقال: ﴿ولو﴾ أي له الصفتان المذكورتان والحال أنه لو ﴿أنّ ما في الأرض﴾ أي كلها، ودل على الاستغراق وتقصى كل فرد فرد من الجنس بقوله: ﴿من شجرة﴾ حيث وحدها ﴿أقلام﴾ أي والشجرة يمدها من بعدها على سبيل المبالغة سبع شجرات، وأن ما في الأرض من بحر مداد لتلك الأقلام ﴿والبحر﴾ أي والحال أن البحر، وعلى قراءة البصريين بالنصب التقدير: ولو أن البحر ﴿يمده﴾ أي يكون مدداً وزيادة فيه ﴿من بعده﴾ أي
﴿إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ [يس: ٨٢] وعلم من ذلك نفاد الأبحر كلها لأنها محصورة، فهي لا تفي بما ليس بمحصور، فيا لها من عظمة لا تتناهى! ومن كبرياء لا تجارى، ولا تضاهى، لا جرم كان نتيجة ذلك قوله مؤكداً لأن ادعاءهم الشريك إنكار للعزة، وعدم البعث إنكار للحكمة: ﴿إن الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من غير قيد أصلاً ﴿عزيز﴾ أي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء ﴿حكيم *﴾ يحكم ما أراده، فلا يقدر أحد على نقضه، ولا علم لأحد من خلقه إلا ما علمه، ولا حكمة لأحد منهم إلا بمقدار ما أورثه، وقد علم أن الآية من الاحتباك: ذكر الأقلام دليلاً على
ولما قرر هذه الآية الخارقة، دل عليها بأمر محسوس يشاهد كل يوم مرتين، مع دلالته على تسخير ما في السماوات والأرض، وإبطال قولهم: ﴿ما يهلكنا إلا الدهر﴾ [الجاثية: ٢٤] بأنه، هو الذي أوجد الزمان بتحريك الأفلاك، خاصاً بالخطاب من لا يفهم ذلك حق فهمه غيره، أو عاماً كل عاقل، إشارة إلى أنه في دلالته على البعث في غاية الوضوح فقال: ﴿ألم تر﴾ أي يا من يصلح لمثل هذا الخطاب، ويمكن أن يكون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه لا يعلم ذلك من المخلوقين حق علمه غيره.
ولما كان كان البعث مثل إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه، فكان إنكاره إنكارً لهذا، نبه على ذلك بالتأكيد فقال: ﴿أن الله﴾ أي
ولما كان النيران جرمين عظيمين قد صرفنا على طريق معلوم بقدر لا يختلف، عبر فيهما بالماضي عقب ما هما آيتاه فقال: ﴿وسخر الشمس﴾ آية للنهار بدخول الليل فيه ﴿والقمر﴾ آية لليل كذلك! ثم استأنف ما سخرا فيه فقال: ﴿كل﴾ أي منهما ﴿يجري﴾ أي في فلكه سائراً متمادياً وبالغاً ومنتهياً.
ولما كان محط مقصود السورة الحكمة، وكانت هذه الدار مرتبطة بحكمة الأسباب والتطوير، والمد في الإبداع والتسيير، كان الموضع لحرف الغاية فقال: ﴿إلى أجل مسمى﴾ لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك لا يزيد ولا ينقص، هذا يقطعها في الشهر مرة وتلك
ولما بان بهذا التدبير المحكم، في هذا الأعظم، شمول علمه وتمام قدرته، عطف على «أن الله» قوله مؤكداً لأجل أن أفعالهم أفعال من ينكر علمه بها: ﴿وأن الله﴾ أي بما له من صفات الكمال المذكورة وغيرها، وقدم الجار إشارة إلى تمام علمه بالأعمال كما مضت الإشارة إليه غير مرة، وعم الخطاب بياناً لما قبله وترغيباً وترهيباً فقال: ﴿بما تعملون﴾ أي في كل وقت على سبيل التجدد ﴿خبير *﴾ لا يعجزه شيء منه ولا يخفى عنه، لأنه الخالق له كله دقه وجله، وليس للعبد في إيجاده غير الكسب لأنه لا يعلم مقدار الحركات والسكنات في شيء منه، ولو كان هو الموجد له لعلم ذلك لأنه لا يقدر على الإيجاد ناقص العلم أصلاً، وكم أخبر سبحانه في كتبه وعلى لسان أنبيائه بأشياء مستقبلية من أمور العباد، فكان ما قاله كما قاله، لم يقدر أحد منهم أن يخالف في شيء مما قاله، فتمت كلماته، وصدقت إشاراته وعباراته، وهذا دليل آخر على تمام القدرة على البعث وغيره باعتبار أن الخلائق في جميع الأرض يفوتون الحصر، وكل منهم
ولما ثبت بهذه الأوصاف الحسنى والأفعال العلى أنه لا موجد بالحقيقة إلا الله قال: ﴿ذلك﴾ أي ذكره لما من الأفعال الهائلة والأوصاف الباهرة ﴿بأن﴾ أي بسبب أن ﴿الله﴾ أي الذي لا عظيم سواه ﴿هو﴾ وحده ﴿الحق﴾ أي الثابت بالحقيقة وثبوت غيره في الواقع عدم، لأنه مستفاد من الغير، وليس له الثبوت من ذاته، ومنه ما أشركوا به، ولذلك أفرده بالنص، فقال صارفاً للخطاب
ولما تقدمت الأدلة الكثيرة على بطلان آلهتهم بما لا مزيد عليه، كقوله ﴿هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه﴾ وأكثر هنا من إظهار الجلالة موضع الإضمار تنبيهاً على عظيم المقام لم تدع حاجة إلى التأكيد بضمير الفصل فقال: ﴿الباطل﴾ أي العدم حقاً، لا يستحق أن تضاف إليه الإلهية بوجه من الوجوه، وإلا لمنع من شيء من هذه الأفعال مرة من المرات، فلما وجدت على هذا النظام علم أنه الواحد الذي لا مكافئ له.
ولما كانوا يعلونها عن مراتبها ويكبرونها بغير حق، قال: ﴿وأن الله﴾ أي الملك الأعظم وحده، ولما كان النيران مما عبد من دون الله، وكانا قد جمعاً علواً وكبراً، وكان ليس لهما من ذاتهما إلا العدم فضلاً عن السفول والصغر، ختم بقوله: ﴿هو العلي الكبير﴾ أي عن أن يداينه في عليائه ضد، أو يباريه في كبريائه ند.
ولما كان هذا أمراً إذا جرد النظر فيه عن كونه قد صار مألوفاً بهر العقول وحير الفهوم، أشار إليه بقوله مؤكداً تنبيهاً مما هم فيه من الغفلة عنه، لافتاً الخطاب بعد الجمع إلى الإفراد تنبيهاً على دقة الأمر وأنه - وإن كان يظن أنه ظاهر - لا يفهمه حق فهمه غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر الهائل البديع الرفيع ﴿لآيات﴾ أي دلالات واضحات على ما له من صفات الكمال في عدم غرقه وفي سيرة إلى البلاد الشاسعة، والأقطار البعيدة، وفي كون سيره ذهاباً وإياباً تارة بريحين، وأخرى بريح واحدة، وفي إنجاء أبيكم نوح عليه السلام ومن أراد الله من خلقه به وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض، وفي غير ذلك من شؤونه، وأموره وفنونه، ونعمه وفتونه وإن كان أكثر ذلك قد صار مألوفاً لكم فجهلتم أنه من خوارق العادات، ونواقض المطردات، وعلم من ختام التي قبلها أن
ولما كانوا يسارعون إلى الكفر بعد انفصالهم من هذه الآية العظمية، وإلباسهم ههذ النعمة الجسيمة، التي عرفتهم ما تضمنته الآية السالفة من حقيته وحده وعلوه وكبره وبطلان شركائهم، أعرض عنهم
ولما كان القتل بالسيف أسهل عندهم من أن يقال عنهم: إنهم
ولما كانت وحدة الأله الملك توجب الخوف منه، لأنه لا مكافئ له، وكان أن عهد منه أنه لا يستعرض عبادة لمجازاتهم على
ولما كان المجرم إذا علم أن له عند الملك من يدفع عنه فتر ذلك من خوفه، وكان ما بين الوالد والولد من الحنو والشفقة والعطف والرحمة الداعية إلى المحاماة والنصرة والفداء بالنفس والمال أعظم مما بين غيرهما، فإذا انتفى إغناء أحدهما عن الآخر انتفى غيرهما بطريق الأولى قال: ﴿لا يجزي﴾ أي يغني فيه، ولعله حذف الصلة إشارة إلى أن هذا الحال لهم دائماً إلا أنه سبحانه أقام في هذه الدار أسباباً ستر قدرته بها، فصار الجاهل يحيل الأمر ويسنده إليها، وأما هناك فتزول الأسباب، وينجلي غمام الارتياب، ويظهر اختصاص العظمة برب الأرباب.
ولما كانت شفقة الوالد - مع شمولها لجميع أيام حياته - أعظم فهو يؤثر حياة ولده على حياته ويؤثر أن يحمل بنفسه الآلام والأموال بدأ به فقال: ﴿والد﴾ كائناً من كان ﴿عن ولده﴾ أي لا يوجد منه ولا يتجدد في وقت من الأوقات نوع من أنواع الجزاء
ولما كان الولد لا يتوقع منه الإغناء عن والده في الهزاهز إلا بعد بلوغه، أخره في عبارة دالة على ثبات السلب العام فقال: ﴿ولا مولود﴾ أي مولود كان ﴿هو جاز عن والده﴾ وإن علم أنه بعضه ﴿شيئاً﴾ من الجزاء، وفي التعبير ب «هو» إشعار بأن المنفي نفعه بنفسه، ففيه ترجية بأن الله قد يأذن له في نفعه إذا وجد الشرط، وعبر هنا بالاسم الفاعل لأن الولد من شأنه أن يكون ذلك له ديدناً لما لأبيه عليه من الحقوق، والفعل يطلق على من ليس من شأنه الاتصاف بمأخذ اشتقاقه، فعبر به في الأب لأنه لاحق للولد عليه يوجب عليه ملازمة الدفع عنه، ويكون ذلك من شأنه ومما يتصف به فلا ينفك عنه، وذلك كما أن الملك لو خاط صح أن يقول في تلك الحال: أنه يخيط، ولا يصح «خياط» لأن ذلك ليس من صنعته، ولا من شأنه.
ولما كان من المعلوم أن لسان حالهم يقول: هل هذا اليوم كائن
ولما كان من الأمر الواضح أن لسان حالهم بعد السؤال عن تحقق ذلك اليوم يسأل عن وقته كما مضى في غير آية، ويأتي في آخر التي بعدها، إنا تعنتاً واستهزاء وإما حقيقة، أجاب عن ذلك ضاماً إليه أخواته من مفاتيح الغيب المذكورة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي، لما في ذلك من الحكمة التي سقيت لها السورة، مرتباً لها على الأبعد فالأبعد عن علم الخلق، فقال مؤكداً لما يعتقدون في كهانهم مظهراً الاسم الأعظم غير مضمر لشدة اقتضاء المقام له: ﴿إن الله﴾ أي بما له من العظمة وجميع أوصاف الكمال ﴿عنده﴾ أي خاصة، ولو قيل له مثلاً ما أفاد الحضور، ولو قيل «لديه» لأوهم التعبير بلدي
ولما كان سبحانه قد نصب عليها أمارات توجب ظنوناً في قربها، وكشف بعض أمرها، عبر تعالى بالعلم، ولما كانوا قد ألحوا في السؤال عن وقتها، وكانت أبعد الخمس عن علم الخلق، وكانت شيئاً واحداً لا يتجزى ﴿فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة﴾ [النازعات: ١٣] أبرزها سبحانه في جملة اسمية دالة على الدوام والثبوت على طريق الحصر، وهذا هو المفتاح الأول من مفاتيح الغيب ينفتح به من العلوم ما يجل عن الحصر عن قيام الأنفس بأبدانها، ماثلة على مذاقها بجميع أركانها، وأشكالها وألوانها، وسائر شأنها، وطيران الأرواح بالنفخ إليها واحتوائها عليها على اختلاف أنواعهم، وتغاير صورهم وأطوالهم، وتباين ألسنتهم وأعمالهم، إلى غير ذلك من الأمور، وعجائب المقدور، ثم سعيهم إلى الموقف ثم وقوفهم، ثم حسابهم إلى استقرار الفريقين في الدارين، هذا إلى موجهم
﴿المفتاح الثاني﴾ : آية الله في خلقه على قيام الساعة، وأدل الأدلة عليه وهو إنزال المطر الذي يكشف عن الاختلاط في أعماق الأراضي بالتراب الذي كان نباتاً ثم إعادته نبتاً كما كان من قبل على اختلاف ألوانه، ومقاديره وأشكاله، وأغصانه وأفنانه، وروائحه وطعومه، ومنافعه وطبائعه - إلى غير ذلك من شؤونه، وأحواله وفنونه، التي لا يحيط بها علماً إلا خالقها ومبدعها وصانعها.
ولما كانوا ينسبون الغيث إلى الأنواء أسند الإنزال إليه سبحانه ليفيد الامتنان، وعبر بالجملة الفعلية للدلالة على التجدد فقال: ﴿وينزل الغيث﴾ بلام الاستغراق القائمة مقام التسوير ب «كل»
﴿المفتاح الثالث﴾ : علم الأجنة وهو الرتبة الثانية في الدلالة على البعث الكاشف عن تخطيطها وتصويرها، وتشكيلها وتقديرها، على وصفي الذكورة والأنوثة، مع الوضوح أو الإشكال، والوحدة أو الكثرة، والتمام أو النقص - إلى ما هناك من اختلاف المقادير والطبائع، والأخلاق والشمائل، والأكساب والصنائع، والتقلبات في مقدار العمر والرزق في الأوقات والأماكن - وغير ذلك من الأحوال التي لا يحصيها إلا بارئ النسم، ومحيي الرمم. ولما كانت للخلق في ذلك لكثرة الملابسات والمعالجات ظنون في وجود الحمل أولاً، ثم في كونه ذكراً أو أنثى ثانياً، ونحو ذلك بما ضرب عليه من الأمارات الناشئة عن طول التجارب، وكثرة الممارسة، عبر العلم فقال: ﴿ويعلم ما في الأرحام﴾ من ذكر أو أنثى حي أو ميت وغير ذلك، وصيغة المضارع لتجدد الأجنحة شيئاً فشيئاً وقتاً بعد وقت، والكلام في اللام والاختصاص
﴿المفتاح الرابع﴾ : الكسب الناشئ عما في الأرحام الفاتح لكنوز السعادة وآفات الشقاوة والمسفر عن حقائق الضمائر في صدقها عند البلاء وكذبها، وعن مقادير العزائم ورتب الغرائز، وعن أحوال الناس عند ذلك في الصداقة والعداوة والذكاء والغباوة والصفاء والكدر والسلامة والحيل، وغير ذلك من الصحة والعلل، في اختلاف الأمور، وعجائب المقدور، في الخيور والشرور، مما لا يحيط به إلا مبدعه، وغارزه في عباده وودعه، ولكون الإنسان - مع أنه ألصق الأشياء وألزمه له - لا يعلمه مع إيساعه الحيلة في معرفته، عبر فيه بالدراية لأنها تدل على الحيلة بتصريف الفكر وإجالة الرأي - كما تقدم في سورة يوسف عليه السلام - أن مادة «درى» تدور على الدوران، ومن لوازمه إعمال الحيلة وإمعان النظر، فهي أخص من مطلق العلم فقال: ﴿وما تدري نفس﴾ أي من الأنفس البشرية وغيرها ﴿ما﴾ وأكد المعنى ب «ذا» وتجريد الفعل فقال: ﴿ذا تكسب غداً﴾ أي في المستقبل من خير أو شر بوجه من الوجوه، وفي نفي علم ذلك من العبد مع كونه ألصق الأشياء به دليل ظاهر على نفي علم ما قبله عنه لأنه أخفى منه، وقد تقدم إثبات علمه له سبحانه وتعالى، فصار على طريق الحصر،
﴿المفتاح الخامس﴾ : مكان الموت الذي هو ختام الأمر الدنيوي وطي سجل الأثر الشهودي، وابتداء الأمر الأخروي الظهر لأحوال البرزخ في النزول مع المنتظرين لبقية السفر إلى دائرة البعث وحالة الحشر إلى ما هنالك من ربح وخسران، وعز وهوان، وما للروح من الاتصال بالجسد والرتبة في العلو والسفول، والصعود والنزول، إلى ما وراء ذلك إلى ما لا آخر مما لا يعلم تفاصيله وجمله وكلياته وجزئياته إلا مخترعه وبارئه ومصطنعه.
ولما كان لا يعلمه الإنسان بنوع حيلة من شدة حذره منه وحبه لو أنفق جميع ما يمكله لكي يعلمه، عبر عنه عن الذي قبله فقال مؤكداً بإعادة النافي والمسند: ﴿وما تدري﴾ وأظهر لأنه أوضح وأليق بالتعميم فقال: ﴿نفس﴾ أي من البشر وغيره ﴿بأيّ أرض تموت﴾ ولم يقل: بأي وقت، لعدم القدرة على الانفكاك عن الوقت مع القدرة على الانفكاك عن مكان معين، وإحاطة العلم بكراهة كل أحد للموت، فكان ذلك أدل دليل على جهله بموضوع
ولما كان قد أثبت سبحانه لنفسه اختصاص العلم عن الخلق بهذه الأشياء، أثبت بعدها ما هو أعلم لتدخل فيه ضمناً فيصير مخبراً
ولما أثبت العلم على هذا الوجه، أكده لأجل ما سيقت له السورة بقوله: ﴿خبير﴾ أي يعلم خبايا الأمور، وخفايا الصدور، كما يعلم ظواهرها وجلاياها، كل عنده على حد سواء، فهو الحكيم في ذاته وصفاته، ولذلك أخفى هذه المفاتيح عن عباده، لأنه لو أطلعهم عليها لفات كثير من الحكم، باختلاف هذا النظام، على ما فيه من الإحكام، فقد انطبق آخر السورة - بإثباته الحكمة بإثبات العلم والخبر مع تقرير أمر الساعة التي هي مفتاح الدار الآخرة - على أولها المخبر بحكمة صفته التي من علمها حق علمها، وتخلق بما دعت إليه وحضت عليه لا سيما الإيقان بالآخرة، كان حكيماً خبيراً عليماً مهذباً مهدياً مقرباً علياً، فسبحانه من هذا كلامه، وتعالى كبرياؤه وعز مرامه، ولا إله غيره وهو اللطيف.
ولما كانت المقصود في التي قبلها إثبات الحكمة لمنزل هذا الكتاب الذي هو بيان كل شيء الملزوم لتمام العلم وكمال الخبرة الذي ختمت به بعد أن أخبر أنه سبحانه مختص بعلم المفاتيح بعد أن أنذر بأمر الساعة، فثبت بذلك وما قبله أنه ما أثبت شيئا فقدر غيره من أهل الكتاب ولاغيرهم على نفيه، ولا نفي شيئا فقدر غيره على إثباته ولا إثبات شيء منه، كانت نتيجة ذلك أنه لا يكون شيء من الأشياء دقيقها وجليلها إلا يعلمه سبحانه وتعالى، وأجل ذلك إنزالا هذا الذكر الحكيم الذي فيه إثبات هذه العلوم مع شهادة العجز عن معارضته له بأنه من عند الله، فلذلك قال) تنزيل الكتاب (أيالجامع لكل هدى على ما ترون من التدريج من السماء) ولا ريب فيه) أي يفي كونه من السماء لأن نافي الريب وممطيه وهو الإعجاز معه لا ينفك عنه، فكل ما يقولونه مما يخالف ذلك تعنت أو جهل من غير ريب، حال كونه) من رب العالمين) أي الخالق لهم اللمدبر لمصالحهم، فلا يجوز في عقل ولا يخطر يفي بال ولا يقع يفي وهم ولا يتصور يفي خيال أنه يترك خلقه - وهو المدبر الحكيم -
ولما أقره على ذلك المدد المتطاولات، ولا سيما إعجاز، كل ما ينسبه إليه بالمعجزات، ويدعيه عليه، ما في آل عمران كمات كان أول لقمان غاية أول القرآن المطلق. وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما انطوت سورة الروم على ما قد أشير إليه من التنبيه بعجائب ما أودعه سبحانه وتعالى في عالم السماوات والأرض، وعلى ذكر الفطرة، ثم اتبعت بسورة لقمان تعريفا بأن مجموع تلك الشواهد من آيات الكتاب وشواهده ودلائله، وأنه قد هدى من شاء إلى سبيل الفطرة وإن لم يمتحنه بما امتحن به كثيرا ممن ذكر، فلم يغن عنه ودعى فلم يجب، وتكررت عليه الإنذارات فلم يصغ لها، لأن كل ذلك من الهدى والضلال واقع بمشيئته وسابق إرادته، واتبع سبحانه