تفسير سورة لقمان

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآيتها أربع وثلاثون

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ الكتاب الحكيم ﴾ أي ذي الحكمة. أو الحكيم منزله.
﴿ يقيمون الصلاة... ﴾ [ آية ٣ البقرة ص ١٥ ].
﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ﴾ نزلت في النضر بن الحارث ؛ اشترى قينة فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه. ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد [ صلى الله عليه وسلم ] من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه ! وقيل : كان يخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيرو بها ويحدث بها قريشا ويقول لهم : إن محمدا يحدثكم بأحاديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار والأكاسرة ؛ فيستملحون حديثه ويتركون سماع القرآن.
وكان قصده بذلك صد الناس عن الإسلام، جهلا منه بالحق، أو بما يرتكب من الوزر. أي ومن الناس من يقصد الإغواء والصد عن سبيل الله والهزء بها ؛ فيتوسل إلى ذلك بما يستهوى عقول الناس ويجذب قلوبهم، ويلهيهم عن الحق والهدى حتى يضلوا السبيل. ولكل قوم وزمان ألهيات يعرفها الغواة المضلون. والاشتراء على حقيقته، أو بمعنى الاختيار والإيثار على القرآن. وإضافة " لهو " إلى
" الحديث " بمعنى من.
﴿ وقرا ﴾ صمما مانعا من السماع.
﴿ وعد الله حقا ﴾ أي وعدهم الله ذلك وعدا، وحقه حقا ؛ فهما مصدران مؤكدان.
﴿ خلق السموات ﴾ استشهاد على عزته سبحانه التي هي كمال قدرته وتمهيد لقاعدة التوحيد وتقريره، وإبطال لأمر الشرك وتقريع لأهله. ﴿ بغير عمد ﴾ بغير دعائم [ آية ٢ الرعد ص ٣٩٨ ].
﴿ رواسي ﴾ جبالا ثوابت راسخات. ﴿ أن تميد بكم ﴾ أي لئلا تتحرك وتضطرب بكم [ آية ١٥ النحل ص ٣٤١ ]. ﴿ وبث فيها ﴾ نشر وفرق. يقال : بثه – من باب رد – وأبثه بمعنى ؛ أي نشره. وبثّ الريح التراب : فرّقه وأثاره. ﴿ زوج كريم ﴾ صنف حسن كثير المنافع.
﴿ آتينا لقمان الحكمة ﴾ أي العقل والفهم. أو الإصابة في القول والعمل. أو نورا في القلب يدرك به الحقائق ؛ كنور البصر الذي تدرك به المبصرات. وكان رجلا صالحا حكيما ولم يكن نبيا. قيل : إنه من بلاد النوبة، أو من السودان، أو من الحبشة ؛ وكان نجّارا. والله أعلم بحقيقة أمره.
﴿ وهو يعظه ﴾ الوعظ : زجر مقترن بتخويف. وقال الخليل : هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب. وقد وعظ ابنه بعشر مواعظ.
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه ﴾ كلام مستأنف، اعترض به على
نهج الاستطراد في أثناء وصية لقمان لابنه، مؤكد لما اشتملت عليه من النهى عن الشرك ؛ أي أمرناه أن يبرّهما ويحسن إليهما، ويطيع أمرهما في المعروف.
﴿ حملته أمه وهنا على وهن ﴾ أي ضعفا متزايدا بازدياد ثقل الحمل إلى مدة الطلق. أو ضعفا متتابعا، وهو ضعف الحمل، وضعف الوضع، وضعف النّفاس. مفعول مطلق لفعل محذوف، أي تهن وهنا. وفعله كوعد وورث وكرم. وقرئ " وهنا " بالتحريك. ﴿ أن اشكر لي ولوالديك ﴾ أي وصيناه بشكرنا وشكر والديه. و " أن " تفسيرية.
﴿ وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾ أي في أمور الدنيا التي لا تتعلق بالدين ما دمت حيا، صحابا معروفا يرتضيه الشرع، ويقتضيه الكرم والمروءة. ﴿ من أناب إلي ﴾ أي رجع إلي بالتوحيد والإخلاص مطيعا.
﴿ يا بني إنها ﴾ أي الخصلة من الإساءة والإحسان.
﴿ ولا تصعر خدك للناس ﴾ لا تمل صفحة عن الناس، ولا تعرض عنهم كما يفعل أهل الكبر. يقال : صعر خده وصاعره، أماله عن النظر إلى الناس تهاونا وتكبرا. والصّعر في الأصل ؛ داء يصيب البعير فيلوى منه عنقه ؛ كنّى به عن التكبر واحتقار الناس. ﴿ ولا تمش في الأرض مرحا ﴾ فرحا وبطرا واختيالا. مصدر مرح – كفرح – فهو مرح ومرّيح ؛ وقع حالا مبالغة. أو تمرح مرحا ؛ على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، والجملة في موضع الحال. وقرئ " مرحا " بكسر الراء.
﴿ إن الله لا يحب كل مختال ﴾ متكبر يختال في مشيته ؛ منه الخيلاء والمخيلة والخال بمعنى الكبر. ﴿ فخور ﴾ كثير المباهاة بنحو المال والجاه. يقال : فخر – كمنع – فهو فاخر وفخور، إذا تمدح بالخصال تطاولا على الناس
﴿ واقصد في مشيك ﴾ اعتدل فيه، وتوسّط بين البطء والإسراع ؛ من القصد وهو العدل واستقامة الطريق، وضد الإفراط ؛ كالاقتصاد. ﴿ واغضض من صوتك ﴾ انقص فيه وأقصر، ولا ترفعه فوق الحاجة. يقال : غض فلان من فلان، نقصه ووضع من قدره. وغض من طرفه غضا وغضاضا وغضاضة : خفضه واحتمل المكروه.
﴿ ألم تروا... ﴾ خطاب للمشركين، وتوبيخ لهم على الإصرار على الشرك مع مشاهدتهم دلائل التوحيد. ﴿ سخر لكم ما في السموات وما في الأرض ﴾ جعل ما فيهما مسخرا لكم بحيث تنتفعون به.
﴿ وأسبغ عليكم نعمه ﴾ أوسعها وأتمها. يقال : سبغت النعمة سبوغا – من باب قعد – اتسعت. وأسبغها الله : أفاضها وأتمها. والنّعمة : ما ينتفع به ويستلذ وتحمد عاقبته. أو هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير. ﴿ ومن الناس من يجادل... ﴾ [ آية ٣ الحج ص ٤٦ ] نزلت في النضر ابن الحارث، وأبيّ بن خلف، وكانا يجادلان النبي صلى الله عليه وسلم في التوحيد والصفات.
﴿ ومن يسلم وجهه إلى الله ﴾ يفوّض جميع أموره إليه تعال ويقبل عليه بكلّيّته. ﴿ وهو محسن ﴾ في أعماله﴿ فقد استمسك بالعروة الوثقى ﴾ أي تعلق أقوى تعلق بأوثق الأسباب. شبه المتوكل على الله في جميع أموره، المحسن في أعماله – بمن ترقى في جبل شاهق، أو تدلى منه فاستمسك بأوثق عروة من حبل متين
مأمون انقطاعه. والعروة من الثوب : مدخل زره. والوثقى : تأنيث الأوثق ؛ من وثق – ككرم – أخذ بالوثيقة في أمره ؛ أي بالثقة. ومنه الوثيق أي المحكم.
﴿ ولو أنما في الأرض... ﴾ أي ولو أن أشجار الأرض كلها أقلام، والبحر المحيط يمده –بعد نفاذه – سبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلماته تعالى ما نفدت كلماته ؛ ونفدت الأقلام والمداد. ﴿ يمده ﴾ يزيده﴿ سبعة أبحر ﴾ أي أبحر كثيرة ؛ لا خصوص العدد المذكور. وكلماته : كلمات علمه وحكمته تعالى، أو مقدوراته وعجائبه تعالى.
﴿ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ﴾ يدخل كل واحد منهما في الآخر [ آية ٢٧ آل عمران ص ١٠٢ ]. وفي الآية من الدلالة على القدرة الباهرة على البعث ما يوجب الإيمان به ؛ كما في الآية التالية.
﴿ العلي الكبير ﴾ العالي على جميع خلقه بالقهر، الكبير عن أن يكون له شريك، أو عن أن يتصف بما لا يليق بجلاله وكماله.
﴿ غشيهم موج ﴾ علاهم وغطاهم موج﴿ كالظلل ﴾ جمع ظلة – كغرفة وغرف – وهي ما أظل من سحاب أو جبل أو غيرهما. وقيل : هي السحابة تظل. وأكثر ما تقال فيما يستوخم ويكره.
﴿ مقتصد ﴾ سالك القصد ؛ أي الطريق المستقيم لا يعدل عنه إلى غيره، وهو الوفاء في البر بما عاهد الله عليه في البحر ؛ وهو التوحيد والطاعة. وأصله استقامة الطريق، ثم أطلق ما ذكر مبالغة. ﴿ ختّار ﴾ غدّار لنقضه العهد الفطري ؛ من الختر وهو الغدر والخديعة، أو أشدهما ؛ كالختور. وفعله كضرب ونصر.
﴿ لا يجزي ﴾ لا يقضي والد عن ولده شيئا ؛ من جزى بمعنى قضى. ﴿ الغرور ﴾ هو كل ما يغر الإنسان ويخدعه من نحو مال وجاه، وشهوة وشيطان وهو أخبث الغارين ؛ نعوذ بالله منه ! ؟
﴿ إن الله عنده علم الساعة... ﴾ هذه الأمور الخمسة من المغيبات، قد استأثر الله تعالى بعلمها اليقيني على وجه الإحاطة والشمول، لأحوال كل منها وتفصيله على الوجه الأثم المطابق للواقع ؛ فلم يطلع عليها ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا على هذا النحو من العلم. فلا ينافى أن يطلع بعض أصفيائه وخواصه على أحدها لا على هذا النحو ؛ ففي الصحيح عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله تعالى وكّل بالرحم ملكا يقول يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقه قال : أذكر أن أنثى شقي أم سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب في بطن أمه ) فحينئذ يعلم بذلك الملك ومن شاء الله تعالى من خلقه. وليست المغيبات محصورة في الخمسة، بل كل غيب لا يعلمه إلا الله على النحو المذكور. وما يخبر به المنجم والطبيب وعلماء المراصد من الأمور التي لم تنكشف بعد ؛ فمبناه ظن لا يقين ببعض الأحوال الجزئية – ينبني على أمارات أو حساب قد يصيب وقد يخطئ. والله أعلم.
Icon