تفسير سورة لقمان

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿الم﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة).
﴿أُوْلَئِكَ﴾ المقيمون الصلاة، المؤتون الزكاة، الموقنون بلقاء الله ﴿عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ فتحوا آذانهم لكلامه؛ فحفهم بإنعامه، وأطاعوا رسله؛ فهداهم سبله؛ ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الفائزون في الآخرة بالنعيم الأكبر، والخير الأوفر
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ أي ما يلهي من الحديث ﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ طريق الإسلام
﴿كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً﴾ صمماً
﴿رَوَاسِيَ﴾ جبالاً شوامخ ﴿أَن تَمِيدَ﴾ لئلا تميل الأرض ﴿بِكُمْ﴾ وتضطرب ﴿وَبَثَّ﴾ فرق ونشر ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ﴾ صنف ﴿كَرِيمٍ﴾ حسن، عظيم، بهيج
﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ﴾ خلق الجنان ومن أهَّلهم لسكناها، والجحيم ومن أعدهم للظاها، وخلق السموات وما فيها ومن فيها، والأرض وما فوقها وما تحتها، والجبال لتقيها وتحفظها، والإنسان، والدواب لتسكنها وتنعم بخيراتها وبركاتها، وأنزل من السماء ماءاً ليصلحها ويخصبها، وأمتع من فيها؛ امتحاناً لهم، واختباراً لإيمانهم «هذا» جميعه «خلقالله» ﴿فَأَرُونِي﴾ أيها المكذبون الضالون ﴿مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ﴾ تعبدونهم ﴿مِن دُونِهِ﴾ غيره تعالى ﴿بَلِ الظَّالِمُونَ﴾ الكافرون الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعقاب، وحرمانها من الثواب
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ وهي العلم، والإصابة في الرأي، وتحري الحق، و «لقمان» قيل: إنه كان عبداً حبشياً. وقيل: إنه من أولاد آزر. وقيل: إنه عاش ألف سنة: وأدركه نبي الله داود، وأخذ عنه العلم. وقد كان يقضي ويفتي قبل مبعثه؛ فلما بعث قطع القضاء والفتيا؛ فسئل في ذلك. فقال: ألا أكتفي إذ كفيت. وقال بعضهم بنبوته. والجمهور على أنه كان حكيماً ولياً، ولم يكن نبياً؛ ولقد أحب لقمان ربه فأحبه؛ وآتاه «الحكمة» وعلمه ما لم يكن يعلم ﴿أَنِ اشْكُرْ للَّهِ﴾ وشكر الله تعالى: أساس الإيمان، ورأس الحكمة ﴿وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ لأن ثواب شكره عائد عليها ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ فلم يشكر أنعم الله تعالى عليه ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ﴾ عن عبادته، وعن شكره ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ ﴿حَمِيدٌ﴾ محمود في صنعه، مستوجب الحمد والشكر؛ فما من نعمة إلا هو - جل شأنه - مسديها. وما من خير إلا هو - عز سلطانه - باعثه. وما من مخلوق إلا تحوطه من الله تعالى أنعم لا يدرك مداها، ولا تعلم خوافيها:
فكم لله من لطف خفي
يدق خفاه عن فهم الذكي
وقد أبان الله تعالى لنا حكمة لقمان، وأن جماعها شكر العزيز المنان: «أن أشكرلله» وأن أفحش الظلم وأعظمه: الشرك ب الله
﴿يبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ وأن خير ما يرضيه تعالى: طاعة الوالدين وبرهما، والحدب عليهما، وشكرهما ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾
﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ والوصية: أرقى مرتبة من الأمر؛ ألا ترى إلى قول الرحيم الرحمن - بعد أن أمر ونهى في محكم القرآن - ﴿ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ﴿ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (انظر آيتي ١٥صلى الله عليه وسلّم وصلى الله عليه وسلّم٥٢ من سورة الأنعام} ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ﴾ أي ضعفاً على ضعف ﴿وَفِصَالُهُ﴾ فطامه ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ الشكر لله تعالى
-[٥٠١]- على أنعمه؛ وأجلها وأفضلها: نعمة الإيمان ﴿الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ والشكر للوالدين: على حبهما، وتضحيتهما، وتربيتهما، ونصحهما وقد قرن تعالى شكر الوالدين بشكره: ليشعرنا بمزيد الاهتمام لهما، والعناية بهما (انظر آية ٢٣ من سورة الإسراء)
﴿وَإِن جَاهَدَاكَ﴾ قاتلاك ﴿عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي على أن تعبد ما يعبدان من آلهة لا أصل لها ولا حقيقة لأمرها ﴿فَلاَ تُطِعْهُمَا﴾ على الشرك. وهو الأمر الوحيد الذي يستوجب عصيانهما ومخالفتهما؛ ولكنه لا يستوجب نبذهما، أو محاربتهما؛ كسائر الكفار والمشركين؛ فقد قال تعالى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً﴾ أي بالمعروف الواجب لهما: من بر، وصلة، ومعونة. وقد أفتى الأكثرون على وجوب معاونتهما في الذهاب إلى الكنيسة متى طلبا ذلك ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ﴾ رجع ﴿إِلَى﴾
في دينه، وأمره، واستعانته، وتوكله ﴿فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا من عمل؛ فأجازيكم عليه: ثواباً، أو عقاباً
﴿يبُنَيَّ إِنَّهَآ﴾ أي الخصلة السيئة، والفعلة الذميمة ﴿إِن تَكُ مِثْقَالَ﴾ وزن ﴿حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ﴾ التمثيل بحبة الخردل: مبالغة في الصغر؛ لأن حبة الخردل؛ من أصغر الحبوب ﴿فَتَكُنْ﴾ هذه الحبة من الخردل مستكنة ﴿فِي صَخْرَةٍ﴾ فلا ترى لذي عينين ﴿أَوْ﴾ تكن ضائعة ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾ على سعتها ﴿أَوْ فِي الأَرْضِ﴾ على رحبها؛ فإنها لا تخفى على ربها؛ بل ﴿يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ الذي ﴿يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ﴾ بعباده ﴿خَبِيرٌ﴾ بأحوالهم
﴿يبُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ﴾ في أوقاتها.
والصلاة لله تعالى: فرضت في سائر الشرائع المتقدمة؛ مع اختلاف بسيط في طرق أدائها؛ مع اتحادها جميعاً في الخضوع له تعالى، والالتجاء إليه، والإقرار بوحدانيته ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وهو كل ما يقره الشرع ويرتضيه، ويأمر به ﴿وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ وهو كل ما ينكره الشرع، وتأباه المروءَة، وتنبو عنه الأذواق السليمة ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ﴾ أي ما يصيبك في هذه الحياة من شدائد وبلايا، وما تلقاه من أذى عند الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يصيبك عند كبح الجماح، عن غير المباح ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ الصبر ﴿مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ أي معزوماتها؛ التي يجب التمسك بها. أو «إن ذلك» الذي وصيتك به جميعاً: من إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على المكاره
﴿وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ أي لا تعرض عنهم تكبراً. والصعر - بفتح العين - ميل الوجه
﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ القصد: التوسط. أي لا تسرع في المشي؛ فيذهب بهاؤك، ولا تتباطأ؛ فتبدو خيلاؤك ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ﴾
-[٥٠٢]- أتمها ووسعها
﴿ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ الظاهرة: حسن الخلق واستواء الأعضاء. والباطنة: حسن الخلق، والذكاء، والعلم، والمعرفة. أو الظاهرة لك: كالغنى، والعافية، والإيمان. والباطنة عنك: كالإنجاء من المكاره، ودفع الأرزاء والأسواء؛ من حيث لا تدري ولا تحتسب. ونعم الله تعالى الخفية: أكثر من أن تحصى، وأعظم من أن تستقصى فلو علمت أيها الإنسان، أن الحنان المنان: يسلك من بين يديك ومن خلفك من يكلؤك بإرادته، ويحفظك بمشيئته؛ لما وسعك إلا التمسك بطاعته، والتزلف إليه واذكر قوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ وقوله العزيز الجليل: «ف الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين»
﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾ أي يقبل على طاعته، وينقاد لأوامره ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ في عمله بالحبل المتين الوثيق؛ الذي لا انقطاع له؛ وهو دين الله المستقيم: الذي من تمسك به فاز ونجا، ونال الدرجات العلا
﴿إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ هؤلاء الكفار ﴿فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ﴾ ونجزيهم عليه: جحيماً، وعذاباً أليماً ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بمكنوناتها
﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً﴾ في الدنيا؛ لأن زمنها قصير وإن طال ﴿ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ﴾ نلجئهم ﴿إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ قاس، شديد
﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ عن خلقه ﴿الْحَمِيدُ﴾ مستوجب الحمد: المحمود في صنعه
﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ﴾ أي لو أن سائر شجر الأرض؛ تحولت فروعه وأغصانه إلى أقلام يكتب بها ﴿وَالْبَحْرُ﴾ الذي لا يحد حده، ولا يبلغ أمده ﴿يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾ تماثله في العمق، والسعة، والعظم؛ وصارت مياه هذه البحار مجتمعة مداداً؛ تستمد منه هذه الأقلام، وتكتب كلمات الله تعالى: لنفدت هذه الأبحر، ونضب ماؤها؛ و ﴿مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ وليس المراد بالكلمات في هذا المقام: الكلام المكون بالنطق، المؤلف بالحروف؛ وإنما أريد بها نتائجها؛ وهي النعم الجزيلة، والمنن العظيمة، والصفات الباهرة، والآيات الظاهرة؛ فإن كلا من هذه لو وقف عليه إنسان صافي الذهن، صحيح الفكرة، طلق اللسان، واضح البيان؛ لما وسعته أشجار الأرض أقلاماً، وبحورها مداداً ولو تضاعفت هذه الأشجار، وتلكم البحار؛ أضعافاً مضاعفة (انظر آية ١٠٩ من سورة الكهف) ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ في ملكه؛ غالب لا يغلب ﴿حَكِيمٌ﴾ لا يخرج شيء عن علمه وحكمته
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ﴾ أي يدخل الليل في النهار، والنهار في الليل؛ وذلك بزيادة الليل شتاءاً ونقصه صيفاً
-[٥٠٣]- ﴿كُلُّ﴾ من الشمس والقمر ﴿يَجْرِي﴾ في فلكه بأمر ربه تعالى ﴿إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ هو انتهاء الدنيا، وقيام الساعة
﴿ذَلِكَ﴾ النظام الدقيق المحكم ﴿بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ﴾ الإله ﴿الْحَقُّ﴾ القادر؛ واجب الوجود، والموجد لكل موجود ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ﴾ ما يعبدون ﴿مِن دُونِهِ﴾ غيره ﴿الْبَاطِلُ﴾ الزائل؛ الذي لا أصل له، ولا برهان عليه ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ﴾ المتعالي عن صفات المخلوقين؛ بالبقاء، والقدرة؛ المتعالي عليهم بالغلبة والقهر ﴿الْكَبِيرُ﴾ العظيم؛ الذي لا يماثله شيء
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾ بالأرزاق والتجارات ﴿لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ﴾ دلائل قدرته؛ من حمل الماء للفلك، والحفظ من مهالك البحر، والهداية إلى مسالكه، والتوفيق إلى أسباب الكسب؛ فقد يقوم تاجران - في وقت واحد - بتجارة متجانسة؛ فيعود أحدهما بالمال الكثير، والربح الوفير، ويعود الآخر بالخسارة والحرمان. وقد يربح الغبي، ويخسر الذكي ﴿لِّكُلِّ صَبَّارٍ﴾ كثير الصبر ﴿شَكُورٍ﴾ كثير الشكر
﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ﴾ غطاهم ﴿مَّوْجٌ﴾ شديد ﴿كَالظُّلَلِ﴾ الظلل: جمع ظلة؛ وهي كل ما أظلك من جبل، أو سحاب ﴿دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أي متوجهين بقلوبهم إليه مؤمنين حق الإيمان به ﴿فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ﴾ أي باق على الإيمان، أو هو بين بين: بين الكفر والإيمان، وقيل: مظهر للإيمان، مبطن للكفر؛ والأول أولى. والمعنى: فمنهم باق على إيمانه وإخلاصه الذي بدا منه وقت شدته، ومنهم من رجع إلى أصله، وعاد إلى كفره ﴿خَتَّارٍ﴾ غدار ﴿كَفُورٍ﴾ شديد الكفر
﴿وَاخْشَوْاْ يَوْماً﴾ هو يوم القيامة ﴿لاَّ يَجْزِي﴾ لا يغني ﴿وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ أي لا يتحمل والد العقوبة عن ولده، ولا مولود العقوبة عن والده؛ بل يجزي كل منهما بما فعل واكتسب
﴿كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ﴾ وذكر تعالى الوالد والولد: لأن الوالد محط الحب والفداء، والمولود محط الرحمة والرجاء؛ فإذا كانا لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً؛ فبالنسبة للأباعد يعز الغناء ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ بالبعث والجزاء ﴿حَقٌّ﴾ ليس فيه مراء ﴿وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الشيطان
﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ كيف تقوم، ومتى تقوم؟ ﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ المطر؛ وسمي المطر غيثاً: لأنه يغيث الناس من الجوع والفقر؛ ولذا سمي الكلأ غيثاً: لأنه يغيث الماشية ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ﴾ من الأجنة: ذكراً أو أنثى؟ حياً أو ميتاً؟ شقياً أو سعيداً؟ ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً﴾ من خير أو شر ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ فقد يسافر مسافر إلى الصين بلا سبب: فتعاجله المنية وقد يحين حينه وهو في ذروة قوته، ووافر صحته وقد يسافر ليبرأ من علته: فيأتيه الموت لساعته
-[٥٠٤]- وهذه الأمور الخمسة اختص بمعرفتها العليم الخبير وقد يقال: إن علماء الفلك، والأرصاد الجوية؛ قد أصبحوا - بواسطة علمهم وآلاتهم - يعلمون متى تهب الرياح؟ ومتى تنزل الأمطار؟ وهو قول لا يعتد به، ولا يلتفت إليه؛ فكم من مرة وعدوا بالخصب: فحل الجذب، وأوعدوا بالبلاء: فعم الرخاء. وكم من مرة حذروا من البرد: فجاء الحر، ومن الحر: فجاء القر وقولهم لا يعدو التخمين والظن ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ أما اليقين: فلا يعلمه سوى رب العالمين.
503
سورة السجدة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

504
Icon