آياتها ثلاث أو أربع وثلاثون آية
وهي مكية إلا ثلاث آيات. وهي قوله تعالى : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، إلى تمام الآيات الثلاث. قاله ابن عباس. وعنه أنها مكية، ولم يستثن. وعن قتادة أنها مكية إلا آيتين فمدنيتان. وأخرج النسائي. وابن ماجة عن البراء قال : كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم الظهر نسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات.
ﰡ
_________
(١) تقدم ذكره.
(لهو الحديث) وهو كل باطل يلهي، ويشغل عن الخير، من الغناء والملاهي، والأحاديث المكذوبة، والأضاحيك، والسمر بالأساطير التي لا أصل لها، والخرافات، والقصص المختلفة، والمعازف والمزامير، وكل ما هو منكر والإضافة بيانية، أي: اللهو من الحديث، لأن اللهو يكون حديثاً وغيره؛ فهو كثوب خز، وهذا أبلغ من حذف المضاف. وقيل: المراد شراء القينات المغنيات، والمغنين. فيكون التقدير من يشتري أهل لهو الحديث، قال الحسن: لهو الحديث: المعازف والغناء. وروي عنه أنه قال: هو الكفر والشرك. وفيه بعد، والمراد بالحديث: الحديث المنكر، والمعنى: يختارون حديث الباطل على حديث الحق.
" قال القرطبي: إن أولى ما قيل في هذا الباب هو تفسير لهو الحديث بالغناء قال: وهو قول الصحابة والتابعين. قال ابن عباس: لهو الحديث باطله، وهو في النضر بن الحرث بن علقمة: اشترى أحاديث الأعاجم، وأخبار الأكاسرة، وصنيعهم في دهرهم، وكان يكتب الكتب من الحيرة إلى الشام، ويحدث بها قريشاً، ويكذب القرآن. وعنه قال: هو الغناء وأشباهه. أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وعنه قال: الجواري الضاربات، وعن ابن مسعود قال: هو والله الغناء، وفي لفظ قال: هو الغناء، والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات، وعن ابن عباس والحسن وعكرمة، وسعيد بن جبير: قالوا لهو الحديث هو الغناء، والآية نزلت فيه. وقيل: هو كل لهو ولعب؛ والمعنى: يستبدل ويختار الغناء، والمزامير؛ والمعازف على القرآن.
وأخرج أحمد والترمذي، وابن ماجة، والطبراني، والبيهقي، وغيرهم عن أبي أمامة عن رسول الله - ﷺ - قال: " لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن، ولا
وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، وابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله - ﷺ - " إن الله حرم القينة وبيعها، وثمنها، وتعليمها، والاستماع إليها ثم قرأ: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ".
وأخرج البيهقي في السنن، وابن أبي الدنيا، وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - ﷺ -: " الغناء ينبت النفاق، كما ينبت الماء البقل ". وروياه عنه موقوفاً. وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن مردويه، عن أبي أمامة: إن رسول الله - ﷺ - قال: " ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله إليه شيطانين يجلسان على منكبيه، يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك ".
وأخرج الترمذي عنه مرفوعاً نحو؛ وفي الباب أحاديث في كل حديث منها منال.
وقال ابن مسعود: لهو الحديث، الرجل يشتري جارية تغنيه ليلاً ونهاراً وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله - ﷺ - يقول في لهو الحديث: " إنما ذلك
_________
(١) عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد، والأعمش وكأنه مات شاباً، وروى عنه الكبار: يحيى ابن سعيد الأنصاري، ويحيى بن أيوب المصري قال محمد بن يزيد المستعلي: سألت أبا مسهر عنه فقال: صاحب كل معضلة، وإن ذلك على حديثه لبين. وروى عثمان بن سعيد عن يحيى قال: حديثه عندي ضعيف. وروى عباس عن يحيى: ليس بشيء. وقال ابن المديني. منكر الحديث، وقال الدارقطني. ليس بالقوي، وشيخه علي متروك. وقال ابن حبان يروي الموضوعات عن الإثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد يأتي بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله، وعلي بن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن - لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم أهـ.
قلت: وهذا الخبر اجتمع فيه الثلاثة، وإن كان قد روي عن أبي زرعة الرازي أنه صدوق. المطيعي.
وعن نافع قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر في طريق فسمع زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه، ثم عدل عن الطريق، فلم يزل يقول: يا نافع أتسمع؟ قلت: لا، فأخرج أصبعيه من أذنيه. وقال: هكذا رأيت رسول الله - ﷺ - صنع. وعن ابن عوف أن رسول الله - ﷺ - قال: " إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة، لهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان ".
(ليضل عن سبيل الله) اللام للتعليل، قرئ بضم الباء، أي: ليضل غيره عن طريق الهدى، ومنهج الحق. وقرئ بفتح الياء، أي: ليضل هو في نفسه ويدوم، ويستمر، ويثبت على الضلال، وهما سبعيتان. قال الزجاج: من قرأ بضم الياء فمعناه ليضل غيره، فإذا أضل غيره فقد ضل هو، ومن قرأ بالفتح فمعناه ليصير أمره إلى الضلال، وهو إن لم يكن يشتري الضلالة، فإن أمره إلى ذلك، فأفاد هذا التعليل أنه إنما يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد، ويؤيد هذا سبب النزول، قال ابن عباس: سبيل الله: قراءة القرآن، وذكر الله، نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية. قال الطبري: قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء، والمنع منه، وإنما فارق الجماعة إبراهيم ابن سعد، وعبد الله العنبري. قال القاضي أبو بكر بن العربي: يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته، إذ ليس شيء منها عليه حراماً لا من ظاهرها ولا من باطنها، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها؟
وقال في نيل الأوطار بعد ذكر الاختلاف فيه مع الأدلة: لا يخفى على الناظر أن محل النزاع إذا خرج عن دائرة الحرام، لم يخرج عن دائرة الاشتباه والمؤمنون وقافون عند الشبهات، كما صرح به الحديث الصحيح، ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ولا سيما إذا كان مشتملاً على ذكر القدود، والخدود، والجمال، والدلال،
قلت: وقد جمع الشوكاني رسالة مشتملة على أقوال أهل العلم في الغناء، وما استدل المحللون له والمحرمون له، وحقق هذا المقام بما لا يحتاج من نظر فيها، وتدبر معانيها، إلى النظر في غيرها، وسماها إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع. ولنا أيضاًً بحمد الله عز وجل جواب بسيط في جواز الغناء، وعدم جوازه بالفارسية، ذكرناه في كتابنا هداية السائل، فمن أحب تحقيق المقام كما ينبغي فليرجع إلى ذلك.
(بغير علم) أي حال كونه غير عالم بحال ما يشتريه، أو بحال ما ينفع من التجارة وما يضر، فلهذا استبدل بالخير ما هو شر محض، أو يفعله عن جهل، أو جهلاً منه بما عليه من الوزر، ونحوه قوله تعالى: (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) أي: لصواب التجارة.
(ويتخذها) قرأ حمزة والكسائي والأعمش بالنصب، عطفاً على يضل، والضمير المنصوب راجع إلى السبيل، فيكون المعنى على هذه القراءة من جملة التعليل للتحريم؛ والمعنى: أنه يشتري لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله، واتخاذ السبيل (هزوا) أي: مهزواً به. والسبيل يذكر ويؤنث. وقرأ الجمهور بالرفع عطفاً على يشتري، فهو من جملة الصلة؛ وقيل: الرفع على الاستئناف، والضمير المنصوب يعود إلى الآيات المتقدم ذكرها، والأول أولى (أولئك) إشارة إلى (من) والجمع باعتبار معناها، كما أن الإفراد في الفعلين باعتبار لفظها كما تقدم (لهم عذاب مهين) هو الشديد الذي يصير به من وقع عليه مهيناً.
(وعد الله حقاً) هما مصدران الأول مؤكد لنفسه أي: وعد الله وعداً،
(ترونها) أي ليس لها شيء يمنعها الزوال من موضعها، وهي ثابتة لا تزول، وليس ذلك إلا بقدرة الله تعالى، وفيه وجهان: أحدهما أنه راجع إلى السماوات، أي ليست هي بعمد، وأنتم ترونها كذلك بغير عمد، الوجه الثاني: أنه راجع إلى العمد، ومعناه بغير عمد مرئية، فيمكن أن تكون ثم عمد ولكن لا ترى، وقيل: ولا عمد البتة، قال علي بن سليمان: الأولى أن يكون مستأنفاً، أي: ولا عمد، ثم:
(وألقى في الأرض رواسي) أي: جبالاً مرتفعة ثوابت شوامخ من أوتاد الأرض، وهي سبعة عشر جبلاً منها قاف، وأبو قبيس (١) والجودي ولبنان،
_________
(١) أين هذه الجبال القميئة من جبال هملايا القريبة من بلاد المصنف أو من جبال الألب في أوربا أو جبال البرانس في شمال أفريقيا؟ وأين هو جبل قاف الذي يحكيه الوضاعون والقصاصون والمهرجون بأساطير ألف ليلة وليلة؟ بصر الله أهل العلم بمناهج العلم. المطيعي.
(وبث) أي نشر وفرق (فيها) أي: في الأرض (من كل دابة) أي: كل نوع من أنواع الدواب، ومن زائدة (وأنزلنا) فيه التفات عن الغيبة (من السماء ماء) مطهراً وهو من إنعام الله على عباده وفضله (فأنبتنا فيها) أي: في الأرض بسبب إنزال الماء.
(من كل زوج كريم) أي من كل صنف حسن، ووصفه بكونه كريماً لحسن لونه، وكثرة منافعه، وقيل: إن المراد بذلك الناس، فالكريم منهم من يصير إلى الجنة، واللئيم من يصير إلى النار، قاله الشعبي، وغيره؛ والأول أولى.
وقيل: هو لقمان بن عنقا، بن مرون، وكان نوبياً من أهل أيلة ذكره السهيلي.
قال وهب: هو ابن أخت أيوب وقال مقاتل: هو ابن خالته، عاش ألف سنة وأخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث داود قطع الفتوى فقيل له، فقال: ألا أكتفي إذ كفيت. وقيل: كان خياطاً، وقيل نجاراً، وقيل: راعياً؛ وقال الواقدي: كان قاضياً في بني إسرائيل.
_________
(١) جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي أحد علماء الشيعة وليس فيه ضعف شديد كما قال المصنف فقد قال سفيان كان جابر الجعفي ورعاً في الحديث ما رأيت أورع منه وقال شعبة: صدوق وقال يحيى ابن أبي بكير عن شعبة: كان جابر إذا قال: أخبرنا وحدثنا، وسمعت فهو من أوثق الناس.
وقال وكيع: ما شككتم في شيء فلا تشكوا أن جابراً الجعفي ثقة وقال ابن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول، قال سفيان الثوري لشعبة لئن تكلمت في جابر الجعفي لأتكلمن فيك. المطيعي.
وعن ابن عباس قال: كان عبداً حبشياً نجاراً.
وعنه قال: قال رسول الله - ﷺ - " اتخذوا السودان، فإن ثلاثة منهم سادات أهل الجنة، لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن " أخرجه الطبراني، وابن حيان في الضعفاء، قال الطبراني أراد الحبشة، والحكمة التي آتاه الله هي الفقه، والعقل، والإصابة في القول وفسر الحكمة من قال بنبوته بالنبوة، قال ابن عباس: يعني العقل والفهم، والفطنة في غير نبوة.
وعن ابن عمر عن النبي - ﷺ - قال: " إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئاًً حفظه " وقد ذكر جماعة من أهل الحديث روايات عن جماعة من الصحابة والتابعين تتضمن كلمات من مواعظ لقمان وحكمه.
ولم يصح عن رسول الله - ﷺ - من ذلك شيء، ولا يثبت إسناد صحيح إلى لقمان بشيء منها حتى نقبله، وقد حكى الله سبحانه من مواعظه لابنه ما حكاه في هذا الموضع، وفيه كفاية وما عدا ذلك مما لم يصح فليس في ذكره إلا شغلة للحيز؛ وقطيعة للوقت، ولم يكن نبياً، حتى يكون ما نقل عنه من شرع من قبلنا، ولا صح إسناد ما روي عنه من الكلمات، حتى يكون ذكر ذلك من تدوين كلام الحكمة التي هي ضالة المؤمن.
(أن أشكر لله) أن هي المفسرة، لأن في الإيتاء معنى القول، لأنه تعليم أو وحي، وقيل: التقدير: قلنا له هذا القول، وقال الزجاج: التقدير لأن أشكر، وقيل: بأن أشكر فشكر، فكان حكيماً بشكره، والشكر لله الثناء عليه في مقابلة النعمة، وطاعته فيما أمر به وقيل: الشكر أن لا تعصي الله بنعمه وقيل: إن لا ترى معه شريكاً له في نعمه. وقيل: هو الإقرار بالعجز، ورؤية العجز في الكل دليل قبول الكل، ثم بين سبحانه أن الشكر لا ينتفع به إلا الشاكر فقال:
(ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه) لأن نفع ذلك وثوابه راجع إليه
(وهو يعظه) أي: والحال أنه يخاطبه بالموعظة التي ترغبه في التوحيد، وتصده عن الشرك، وذلك لأن أعلى مراتب الإنسان أن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره، وبدأ بالأقرب إليه وهو ابنه فقال:
(يا بني) تصغير إشفاق ومحبة (لا تشرك بالله) وهذا يدل على أنه كان كافراً كما تقدم. قال الخطيب، والخازن: فرجع إليه وأسلم. وقيل: كان مسلماً ونهاه أن يقع منه إشراك في المستقبل.
(إن الشرك لظلم عظيم) لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا وهي منه، وبين من لا نعمة له أصلاً. وبدأ في وعظه بنهية عن الشرك، لأنه أهم من غيره وقد اختلف في هذه الجملة، فقيل: هي في كلام لقمان، فتكون تعليلاً لما قبلها، وقيل: هي من كلام الله، فتكون منقطعة عما قبلها، ويؤيد هذا ما ثبت في الحديث الصحيح، أنها لما نزلت: (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على الصحابة وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله إن الشرك لظلم عظيم، فطابت أنفسهم.
(حملته أمه وهناً على وهن) قرئ بسكون الهاء وبفتحها في الموضعين، وهما لغتان، أي: أنها حملته في بطنها، وهي تزداد كل يوم ضعف على ضعف، فإنها لا يزال يتضاعف ضعفها، والوهن الضعف والمشقة، وقد وهن من باب وعد، ووهنه غيره توهيناً، والوهن والموهن نحو من نصف الليل. وقال ابن عباس: شدة بعد شدة، وخلقاً بعد خلق، وقيل: المعنى أن المرأة ضعيفة الخلقة، ثم يضعفها الحمل، وقيل: أي: حملته بضعف على ضعف: وقال الزجاج المعنى لزمها بحملها إياه أن تضعف مرة بعد مرة: أي: وهناً كائناً على وهن، لأن الحمل وهن، والطلق وهن، والوضع وهن، والرضاعة وهن، وانتصاب وهناً على المصدر أو الحال.
(وفصاله في عامين) الفصال: الفطام عن الرضاع، وهو أن يفصل الولد عن الأم، وقرئ وفصله وهما لغتان، يقال: انفصل عن كذا أي: تميز، وبه
(أن أشكر لي ولوالديك) أي: وصيناه بشكرنا وشكر والديه، قال سفيان ابن عيينه: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله؛ ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر للوالدين. و (أن) مفسرة أو مصدرية، وهو قول الزجاج (إلى المصير) تعليل لوجوب امتثال الأمر، أي الرجوع إليّ لا إلى غيري، وقيل: الجزاء عليَّ وقت المصير إليّ.
(وصاحبهما في الدنيا) أي: في أمورها التي لا تتعلق بالدين، ما دمت حياً صحاباً (معروفاً) ببرهما إن كانا على دين يقران عليه وقيل: صاحبهما بمعروف وهو البر والصلة، والعشرة الجميلة، والخلق الجميل، والحلم والاحتمال، وما يقتضيه مكارم الأخلاق، ومعالي الشيم.
(واتبع سبيل من أناب) أي: رجع (إليّ) والخطاب لسائر المكلفين، أي: اتبع أيها المكلف دين من أقبل إلى طاعتي من عبادي الصالحين، بالتوبة والإخلاص، وهو النبي - ﷺ - وأصحابه، قيل: يعني أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، قال: ابن عباس وذلك حين أسلم أتاه عثمان وطلحة والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وقالوا له: قد صدقت هذا الرجل، وآمنت به؟ قال: نعم إنه صادق، فآمنوا به ثم حملهم إلى النبي - ﷺ - حتى أسلموا، فهؤلاء لهم سابقه الإسلام أسلموا بإرشاد أبي بكر.
(فتكن في صخرة) فإنها عند كونها في الصخرة قد صارت في أخفى مكان وأحرزه، قرئ فتكن بضم الكاف، ومن الكن الذي هو الشيء المغطى قال السدي: هذه الصخرة هي صخرة ليست في السماوات والأرض، وقال ابن عباس: صخرة تحت الأرضين السبع، وهي التي تكتب فيها أعمال الفجار، وهي السجين. وخضرة السماء منها، وقيل: غير ذلك.
(أو في السماوات أو في الأرض) أي حيث كانت من بقاع السماوات أو بقاع الأرض، أي: في أخفى مكان من ذلك، فالأخفى من الصخرة كأن تكون في صخرة تحت الأرضين السبع، والأخفى من السماوات كأن تكون في أعلاها، والأخفى من الأرض كأن تكون في أسفلها.
(يأت بها الله) أي: يحضرها يوم القيامة، ويحاسب فاعلها عليها (إن الله لطيف) باستخراجها لا تخفى عليه خافية، بل يصل علمه إلى كل خفي (خبير) بمكانها، وبكل شيء لا يغيب عنه شيء، ومعنى الآية الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها.
(إن ذلك) الطاعات المذكورة التي وصاه بها (من عزم الأمور) أي: مما جعله الله عزيمة، وأوجبه على عباده، وحتمه على المكلفين، ولم يرخص في تركه وقيل: المعنى من حق الأمور التي أمر الله بها، والعزم يجوز أن يكون بمعنى المعزوم أي: من معزومات الأمور، أو بمعنى العازم كقوله فإذا عزم الأمر.
قال المبرد: إن العين تبدل حاء فيقال: عزم وحزم وقال ابن جريج: ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم أهل الأخلاق، وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة، وصوب هذا القرطبي، وهذا دليل على أن هذه الطاعات كانت مأموراً بها في سائر الأمم.
وعن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله - ﷺ - سئل عن قوله: ولا تصعر خدك، فقال لي: " الشدق " أخرجه الطبراني. وابن عدي وابن مردويه وقال ابن عباس: لا تتكبر فتحتقر عباد الله، وتعرض عنهم إذا كلموك وعنه قال: هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه كالمستكبر، والمعنى: أقبل على الناس بوجهك تواضعاً، ولا تولهم شق وجهك وصفحته كما يفعله المستكبرون، بل يكون الفقير والغني عندك سواء.
(ولا تمش في الأرض مرحاً) أي: خيلاء وفرحاً، والمراد: النهي عن التكبر والتجبر، والمختال يمرح في مشيه، وقد تقدم تحقيقه (إن الله لا يحب كل مختال فخور) تعليل للنهي المذكور، لأن الاختيال هو المرح، والفَخور هو الذي يفتخر على الناس بماله من المال والشرف، أو القوة أو يعدد مناقبه تطاولاً، أو غير ذلك ويظن أن إسباغ النعم الدنيوية عليه من محبة الله له وذلك من جهله، فإن الله أسبغ نعمه على الكافر الجاحد، فينبغي للعارف أن لا يتكبر على عباده، وليس منه التحديث بنعم الله، فإن الله يقول: (وأما بنعمة ربك فحدث).
(واغضض من صوتك) أي: أنقص منه واخفضه، ولا تتكلف رفعه فإن الجهر بأكثر من الحاجة يؤذي السامع، و (من) تبعيضية، وعند الأخفش مزيدة، ويؤيده قوله: (إن الذين يغضون أصواتهم)، والمعنى: شيئاًً من صوتك وكانت الجاهلية يتمدحون برفع الصوت.
(إن أنكر الأصوات) أي: أوحشها وأقبحها (لصوت الحمير) تعليل للأمر بالغض من الصوت على أبلغ وجه وآكده، قال قتادة: أقبح الأصوات صوت الحمير، أوله زفير، أي: صوت قوي وآخره شهيق، أي: صوت ضعيف، وهما صوتا أهل النار، وأنكر، قيل: مبني من الفعل المبني للمفعول، نحو أشغل من ذات النحبيين، وهو مختلف فيه، قال المبرد: تأويله إن الجهر بالصوت ليس بمحمود، وأنه داخل في باب الصوت المنكر، واللام للتأكيد، ووحد الصوت مع كونه مضافاً إلى الجمع لأنه مصدر، وهو يدل على الكثرة، وهو مصدر: صات يصوت صوتاً فهو صائت.
وقيل: إنما وحده ولم يجمع لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، بل المراد أن كل جنس من الحيوان له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده. وعن الثوري في الآية قال: صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار. وقيل: معنى الآية هو: العطسة القبيحة المنكرة، والأول أولى، وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، تنبيه على أن رفع الصوت في غاية الكراهة، ولما فرغ سبحانه من قصة لقمان رجع إلى توبيخ المشركين وتبكيتهم، وإقامة الحجج عليهم، فقال:
(وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) أي: أتم وأكمل عليكم نعمه، يقال: سبغت النعمة إذا تمت وكملت، وقرئ أصبغ بإبدال السين صاداً وهي لغة كلب، يفعلون ذلك في كل سين اجتمع مع الغين، والخاء والقاف، كصلخ وصقر، والنعم جمع نعمة، وقرئ نعمة على الإِفراد والتنوين، اسم جنس يراد به الجمع، ويدل به على الكثرة، كقوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، والنعمة: كل نفع قصد به الإِحسان.
والمراد بالنعم الظاهرة: ما يدرك بالعقل أو الحس، ويعرفه من
وقيل: الظاهرة: نعم الدنيا، والباطنة: نعم الآخرة، وقيل: الظاهرة: الإسلام والقرآن والجمال، والباطنة: ما ستره الله عن العبد من الأعمال السيئة، وقيل: الظاهرة: تسوية الأعضاء، وحسن الصورة، والباطنة: الاعتقاد بالقلب. وقيل: الظاهرة: الرزق، والباطنة: حسن الخلق. وقيل: الظاهرة: تخفيف الشرائع، والباطنة: الشفاعة. وقيل الظاهرة: ظهور الإسلام والنصر على الأعداء. والباطنة الإمداد بالملائكة. وقيل: الظاهرة: اتباع الرسول - ﷺ -.
والباطنة: محبته. واللفظ أعم من ذلك.
وعن عطاء قال: سألت ابن عباس عن هذا، فقال هذه من كنوز علمي، سألت عنها رسول الله - ﷺ - فقال: " أما الظاهرة فما سوى من خلقك، وأما الباطنة فما ستر من عورتك، ولو أبداها لقلاك أهلك، فمن سواهم ". أخرجه البيهقي.
وعنه قال: سألت رسول الله - ﷺ - عن قوله وأسبغ عليكم نعمه الخ، فقال: " أما الظاهرة فالإسلام، وما سوى من خَلقِك وما أسبغ عليك من رزقه، وأما الباطنة فما ستر من مساوي عملك " أخرجه ابن النجار والديلمي والبيهقي وعنه قال: النعمة الظاهرة: الإسلام. والنعمة الباطنة: كل ما ستر عليكم من الذنوب والعيوب والحدود، أخرجه ابن مردويه وعنه أنه قال في تفسير الآية: هي لا إله إلا الله.
(ولا كتاب منير) نير واضح أنزله الله؛ بل مجرد تعنت ومحض عناد وتقليد، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة. قيل: نزلت في النضر بن الحرث، وأبي بن خلف، وأمية بن خلف، وأشباههم، كانوا يجادلون النبي - ﷺ - في الله، وفي صفاته بغير علم.
قال ابن القيم: قد احتج العلماء بهذه الآية وأمثالها في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين المقلدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجلاً فكفر، وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة فأخطأ، وجهها كان كل واحد ملوماً على التقليد بغير حجة، لأن كل تقليد يشبه بعضه بعضاً، وإن اختلفت الآثام فيه، والتقليد أنواع:
أحدها: الإِعراض عما أنزل الله، وعدم الالتفات إليه، اكتفاء بتقليد الآباء.
الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله.
وكان طريقة الأئمة اتباع الحجة، والنهي عن تقليدهم فمن ترك الحجة وارتكب ما نهوا عنه، ونهى الله ورسوله عنه قبلهم فليس على طريقهم، بل هو من المخالفين لهم، وإنما يكون على طريقتهم من اتبع الحجة، وانقاد للدليل، ولم يتخذ رجلاً بعينه سوى الرسول - ﷺ - يجعله مختاراً على الكتاب والسنة، يعرضهما على قوله، وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد اتباعاً، وقد فرق الله ورسوله وأهل العلم بينهما، كما فرقت الحقائق بينهما، فإن الاتباع سلوك المتبع، والإتيان بمثل ما أتى به، والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله، وبيان زلة العالم، ليبينوا بذلك فساد التقليد، وأن العالم قد يزل ولا بد إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله، وينزل قوله منزلة المعصوم، فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض، وحرموه وذموا أهله وهو أصلاً بلاء المقلدين وفتنتهم، فإنهم يقلدون العالم فيما يزل فيه وفيما لم يزل، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد، فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، ويشرعون ما لم يشرع ولا بد لهم من ذلك، إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه فالخطأ واقع منه ولا بد. انتهى، بتصرف في العبارة ثم قال على طريق الاستفهام للاستبعاد والتبكيت:
(إلى عذاب السعير) لأنه زين لهم اتباع آبائهم: والتدين بدينهم، والأول أولى. لأن مدار إنكار الأتباع واستبعاده كون المتبوعين تابعين للشيطان لا كون أنفسهم كذلك، ويجوز أن يراد أنه يدعو جميع التابعين والمتبوعين إلى العذاب، فدعاؤه المتبوعين بتزيينه لهم الشرك، ودعاؤه للتابعين بتزيينه لهم دين آبائهم، وجواب (لو) محذوف، أي: يدعوهم فيتبعونه، وما أقبح التقليد وأكثر ضرره على صاحبه، وأوخم عاقبته وأشأم عائدته على من وقع فيه، فإن الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحرق، فتأبى ذلك وتتهافت في نار الحريق، وعذاب السعير.
(وهو محسن) في أعماله، لأن العبادة من غير إحسان فيها ولا معرفة بما يحتاج إليه فيها لا تقع بالموقع الذي تقع به عبادة المحسنين، وقد صح عن الصادق المصدوق لما سأله جبريل عن الإحسان أنه قال له: إن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
(فقد استمسك بالعروة الوثقى) أي: اعتصم بالعهد الأوثق، وتعلق به وهو تمثيل لحال من أسلم وجهه إلى الله بحال من أراد أن يرتقي إلى شاهق جبل فيمسك بأوثق عرى حبل متدل منه (وإلى الله عاقبة الأمور) أي: مصيرها له لا إلى غيره فيجازي عليها.
(قل) يا محمد (الحمد لله) على اعترافكم، فكيف تعبدون غيره
(والبحر) أي المحيط لأنه المتبادر من التعريف، إذ هو الفرد الكامل قرئ البحر بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره يمده، وبالنصب عطفاً على اسم أن، أو بفعل مضمر يفسره (يمده من بعده) أي: بعد نفاده (سبعة أبحر) أي: والحال أن البحر المحيط مع سعته يمده السبعة الأبحر مداً لا ينقطع، كذا قال سيبويه. وقال المبرد: إن البحر مرتفع بفعل مقدر،
(ما نفدت كلمات الله) التي هي عبارة عن معلوماته، لأنها لا نهاية لها، قال أبو علي الفارسي: المراد بالكلمات -والله أعلم- ما في المقدور والإمكان، دون ما خرج منه إلى الوجود والزمان، ووافقه القفال، فقال: المعنى: إن الأشجار لو كانت أقلاما، والبحار مداداً، فكتب بها عجائب صنع الله تعالى، الدالة على قدرته ووحدانيته، لم تنفد تلك العجائب. قال القشيري: رد القفال معنى الكلمات إلى المقدورات، وحمل الآية على الكلام القديم أولى، والمخلوق لا بد له من نهاية، وإذا نفيت النهاية فهي نفي للنهاية عما يقدر في المستقبل على إيجاده، فأما ما حصره الوجود وعده فلا بد من تناهيه، والقديم لا نهاية له على التحقيق.
قال النحاس: قد تبين أن الكلمات هاهنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء، لأنه جل وعلا علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السماوات والأرض من شيء، وعلم ما فيه من مثاقيل الذر، وعلم الأجناس كلها، وما فيها من شعرة وعضو، وما في الشجرة من ورق، وما فيها من ضروب الخلق. وقيل: إن قريشاً قالت: ما أكثر كلام محمد؟ فنزلت قاله السدي.
وعن ابن مسعود قال: إن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة: " يا محمد أرأيت قولك: وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، إيانا تريد؟ أم قومك؟ " فقال: كلا، فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة، وفيها تبيان كل شيء؟ فقال: " إنها في علم الله قليل، وأنزل الله ولو أن ما في الأرض الآية " أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم. قال أبو عبيدة: المراد بالبحر هنا: الماء العذب الذي ينبت الأقلام، وأما المالح فلا ينبتها، قال الشوكاني: ما أسقط هذا الكلام وأقل جدواه (إن الله عزيز حكيم) أي: غالب لا يعجزه شىء ولا يخرج عن حكمته وعلمه فرد من أفراد مخلوقاته.
(وأن الله بما تعملون خبير) لا تخفى عليه خافية، لأن من قدر على مثل هذه الأمور العظيمة فقدرته على العلم بما يعملونه بالأولى، وهو عطف على أن الله يولج الخ، داخل معه في حيز الرؤية
(وأن الله هو العلي الكبير) أي: إن ذلك الصنع البديع الذي وصفه في الآيات المتقدمة، للاستدلال به على حقية الله، وبطلان ما سواه، وعلوه وكبريائه على الخلق، له الصفات العليا، والأسماء الحسنى، وهو علي الذات، سمي الصفات، كبير الشأن، جليل القدر، رفيع الذكر، مطاع الأمر جلي البرهان، ثم ذكر من عجيب صنعه، وبديع قدرته، وغاية حكمته، وشمول إنعامه نوعاً آخر فقال:
(إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) هذه الجملة تعليل لما قبلها أي: فيما ذكر لآيات عظيمة، وعبراً فخيمة لكل من له صبر بليغ، وشكر كثير، يصبر عن معاصي الله، ويشكر نعمه، وهما صفتا المؤمن. فالإيمان نصفان نصفه شكر، ونصفه صبر، فكأنه قال: إن في ذلك لآيات لكل مؤمن حيث يبعث في نفسه التفكر في عدم غرقه، وفي سيره إلى البلاد الشاسعة، والأقطار البعيدة، وفي كون سيره ذهاباً وإياباً بريحيين. وتارة بريح واحدة، وفي إنجاء أبيه نوح عليه السلام، ومن أراد الله تعالى من خلقه، وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض، وفي غير ذلك من شؤونه، وأموره، وصنائعه، وأفعاله.
(دعوا الله) وحده (مخلصين له الدين) أي: لا يعولون على غيره في خلاصهم، لأنهم يعلمون أنه لا يضر ولا ينفع سواه، ولكنه يغلب على
(فلما نجاهم إلى البر) صاروا قسمين (فمنهم مقتصد) أي: فقسم مقتصد، أي: عدل موف في البر، بما عاهد عليه الله في البحر من إخلاص الدين له، باق على ذلك بعد أن نجاه الله من هول البحر، وأخرجه إلى البر سالماً. قال الحسن: معنى مقتصد مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة. وقال مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر. وقال الرازي: المقتصد المتوسط بين السابق بالخيرات، والظالم لنفسه، وهو الذي تساوت سيئاته وحسناته، وقيل: متوسط بين الكفر والإيمان، لأنه انزجر بعض الانزجار، ومنهم باق على كفره لأن بعضهم كان أشد قولاً، وأعلى افتراء من بعض، والأولى ما ذكرناه.
قيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل، وذلك أنه هرب عام الفتح إلى البحر، فجاءهم ريح عاصف، فقال عكرمة: لئن نجانا الله من هذا لأرجعن إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولأضعن يده في يدي، فسكنت الريح، ورجع عكرمة إلى مكة، وحسن إسلامه، وفي الكلام حذف، والتقدير: فمنهم مقتصد، ومنهم كافر لم يوف بما عاهد، ويدل على هذا المحذوف قوله:
(وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور) لأنه نقض العهد الفطري، ورفض ما كان عليه في البحر، ؤهذا في مقابلة صبار، كما أن (كفور) في مقابلة (شكور) والختر: أسوأ الغدر وأقبحه. قال الجوهوي: الختر: الغدر، يقال: ختره فهو ختار، أي: غدارء قال الماوردي: وهذا قول الجمهور، وقال ابن عطية: إنه الجاحد، وجحد الآيات إنكارها، والكفور عظيم الكفر بنعم الله سبحانه. قال ابن عباس: ختار: جحاد.
وبالجملة فقد ذكر سبحانه هنا فردين من القرابات، وهما الوالد والولد، وهما الغاية في الحنو والمحبة والشفقة على بعضهم البعض، فما عداهما من القرابات لا يجزي بالأولى، فكيف بالأجانب، ونبه أيضاً بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، فالوالد يجزي عن ولده في الدنيا لكمال شفقته عليه، والولد يجزي عن والده لما له عليه من حق التربية وغيرها، فإذا كان يوم القيامة فكل إنسان يقول: نفسي نفسي، ولا يهتم بقريب ولا بعيد.
(إن وعد الله) بالبعث (حق) لا يتخلف، فما وعد به من الخير، وأوعد به من الشر، فهو كائن لا محالة (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) وزخارفها عن الإسلام فإنها زائلة ذاهبة فانية.
(ولا يغرنكم بالله) في حلمه وإمهاله (الغرور) بفتح الغين أي: الدنيا، أو الأمل بأن يرجيكم التوبة والمغفرة فيجسركم على المعاصي، وقال ابن عباس: الغرور: هو الشيطان، وكذا قال مجاهد، وعكرمة وقتادة لأن من شأنه أن يغر الخلق، ويمنيهم بالأماني الباطلة، ويلهيهم عن الآخرة، ويصدهم عن طريق الحق. وقال سعيد بن جبير: يعمل بالمعاصي، ويتمنى المغفرة. وقرئ بضم الغين، مصدر غر يغر غروراً، ويجوز أن يكون مصدراً واقعاً وصفاً للشيطان على المبالغة.
أخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: مفاتيح الغيب خمس، لا يعلمهن إلا الله، لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا متى تقوم الساعة إلا الله، ولا ما في الأرحام إلا الله. وفي الصحيحين، وغيرهما، من حديث أبي هريرة -في حديث سؤاله عن الساعة، وجوابه بأشراطها- ثم قال: في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا هذه الآية، أي: لا يدري أحد متى تقوم الساعة في أي سنة، وأي شهر وأي يوم، وأي ساعة ليلاً أو نهاراً.
(وينزل الغيث) في الأوقات والأمكنة التي جعلها معينة لإنزاله، ولا يعلم ذلك غيره، قرئ من التنزيل والإنزال (ويعلم ما في الأرحام) من الذكور والإناث، والصلاح والفساد (وما تدري نفس) من النفوس كائنة ما كانت، من غير فرق بين الملائكة والأنبياء، والجن والإنس (ماذا تكسب غداً) من كسب دين، أوكسب دنيا، خير أو شر.
(وما تدري نفس بأي أرض تموت) وقرئ بأية أرض، وجوز ذلك الفراء، وهي لغة ضعيفة، قال الأخفش: يجوز أن يقال مررت بجارية أي جارية، والمعنى: ولا تعلم نفس بأي مكان يقضى الله عليها بالموت من الأرض في بر أو بحر، في سهل، أو جبل، وربما أقامت بأرض، وضربت أوتادها، وقالت: لا أبرحها فترمي بها مرامي القدر حتى تموت مكان لم يخطر ببالها.
روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه فقال الرجل: من هذا؟ قال ملك الموت، قال: كأنه يريدني، وسأل سليمان عليه السلام أن يحمله على الريح، ويلقيه ببلاد الهند. ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجباً منه، لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك، ذكره النسفي في المدارك، ورأى المنصور في منامه صورة ملك الموت، وسأله عن مدة عمره فأشار بأصابعه الخمس، فعبرها المعبرون بخمس سنوات، وبخمسة أشهر، وبخمسة أيام، فقال أبو حنيفة: هو إشارة إلى هذه الآية.
(إن الله عليم) بهذه الأشياء، وبغيرها من الغيوب (خبير) بما كان وبما يكون وببواطن الأشياء كلها، ليس علمه محيطاً بالظاهر فقط. قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فمن ادعى أنه يعلم شيئاًً من هذه فإنه كفر بالقرآن. وعن الزهري: أكثروا قراءة سورة لقمان فإن فيها أعاجيب، والله أعلم، وفيه رد على المنجم والكاهن، اللذين يخبران بوقت الغيث والموت وغيرهما.
تم بعون الله الجزء العاشر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء الحادي عشر وأوله سورة السجدة.
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الحادي عشر
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS
صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
بسم الله الرحمن الرحيم
ويشتمل على- سورة السجدة
- سورة الأحزاب
- سورة سبأ
- سورة يس
- سورة الصافات
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة السجدة(آياتها تسع وعشرون آية وقيل ثلاثون آية)
بناء على الاختلاف في أن آخر الآية: (لفي خلق جديد). أو هو (كافرون) فعلى الاول: تكون ثلاثين. وعلى الثاني: تكون تسعا وعشرين. وهي مكية. قاله: ابن عباس وابن الزبير.
وأخرج البخاري عنه: هي مكية سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة (أفمن كان مؤمنا) إلى تمام الآيات الثلاث. وكذا قال الكلبي ومقاتل، وقيل إلا خمس آيات من قوله: (تتجافى جنوبهم) إلى قوله: (الذي كنتم به تكذبون). وقد ثبت عند مسلم؛ وأهل السنن من حديث أبي هريرة أن النبي - ﷺ - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بألم تنزيل السجدة. وهل أتى على الإنسان.
وأخرج أحمد والدارمي والترمذي والنسائي والحاكم وصححه وغيرهم: عن جابر قال كان النبي - ﷺ -: " لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة. وتبارك الذي بيده الملك ". وقد وردت في فضائل هذه السورة أحاديث.
بسم الله الرحمن الرحيم
(ألم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)