تفسير سورة الصف

القطان
تفسير سورة سورة الصف من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

كبر مقتاً: ما أعظمه من بغض. المقت أشد البغض، ويقال رجل مقيت وممقوت اذا كان مبغضا للناس. بنيان مرصوص: بنيان محكم كأنه قطعة واحدة. زاغوا: انحرفوا عن الحق. أزاغ الله قلوبهم: صرفها عن قبول الحق.
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ..﴾
قدّس اللهَ ونزّهه كلُّ شيء في هذا الكون: بعضُها بلسان الحال، وبعضها بلسان المقال. وقد تقدم ان كل شيء في هذا الوجود يسبّح الله، ويشهد له بالربوبية والوحدانية والقدرة وغيرها من صفات الكمال، وهو الغالبُ على كل شيء، الحكيم في تدبير خلقه.
وبعد ان وصف نفسَه بصفات الكمال، وجّه المؤمنين الى الاخلاق الفاضلة، والصدق في القول والعمل، فخاطبهم بقوله:
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ ّ.
قال ابن عباس: كان اناس من المؤمنين يقولون: لَوَدِدْنا ان الله دلّنا على أحبِّ الاعمال اليه فنعمل به، فأخبر الله نبيّه ان احب الاعمال اليه ايمانٌ بالله لا شكّ فيه، وجهادٌ في سبيله. فلما فُرضَ الجهادُ كره ذلك ناسٌ من المؤمنين وشقّ عليهم أمرُه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم بيّن الله شدة قبحِ مخالفة القول للعمل وأنه بلغ الغاية في بُغض الله له فقال:
﴿كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾
إن أبغضَ شيء عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون. فتحَلُّوا بالصدق، والوفاء بالوعد، وجميل الخصال تنتصروا.
ثم مدح الذين صدقوا وقاتلوا في سبيله بعزم واخلاص فقال:
﴿إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾.
ان الله تعالى يحب النظامَ في كل شيء، وهو يحبُّ الذين يقاتلون في سبيله منتظمين في أماكنهم كأنهم بنيانٌ متلاحمُ الأجزاء، كأنه قطعة واحدة، فالنظام أساسُ بنيان الأمة، وان وعدَ الله حقّ، وقد وعد المجاهدين بالنصر إذا أخلصوا وصدَقوا وحافظوا على النظام. وقد سبقتنا الأممُ المتحضّرة بالنظام ودقة المحافظة عليه، في جميع أعمالها.
والجهادُ يبدأ في البيت بالتربية الاسلامية الصحيحة البعيدة عن التزمُّت والتعصب،
وفي المدرسة وفي المزارع والحقول، والتجارة، وفي المصانع، وباكتساب العلوم وإجادتها واتقان استعمالها كما اتقنها أسلافُنا الأولون. فالصناعة والعلم والزراعة من الامور الضرورية في حياتنا، فاذا أتقنّاها باتَ يمكننا ان نجاهدَ جهادا حقيقيا، فلا جهادَ إلا بعلمٍ وعمل وتصنيع.
وبعد ان هذّب المؤمنين وعلّمهم ان يكونوا صادقين في أقوالهم وافعالهم، وحضّهم على اتّباع النظام في الجهاد - ذَكَرَ أن حالهم يشبه حالَ موسى مع قومه حين ندبَهم للقتال فلم يطيعوه، بل آذوه أشدَّ الايذاء، فوبّخهم الله على ذلك بقوله تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِي....﴾.
اذكر يا محمد لقومك حين قال موسى لقومه: يا قومي، لمَ تُؤذونني وتخالِفون أَمري، وانتم تعلمون أنّي رسولُ الله اليكم؟
فأصرّوا على المخالفة والعصيان.
328
فلما أصروا على الانحراف، صرف الله قلوبهم عن الهدى ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ الذين خرجوا عن طاعته.
وأتى بمثلٍ آخر يشبه حالَهم، وهو بنو اسرائيل حين قال لهم عيسى: إني رسولُ الله وإني مصدّقٌ بالتوراة، وجاءهم بالبينات والمعجزات الدالة على صدقه، واني مبشِّر برسولٍ سيأتي من بعدي اسمه أحمد، وقد جاء هذا التبشير صريحا في التوراة والانجيل.
﴿فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾.
فلمّا جاء الرسولُ الكريم احمدُ، عليه صلوات الله وسلامه، بالأدلة الواضحة والمعجزات الباهرة، كذّبوه وقالوا: هذا الذي جئتنا به سحرٌ مبين.
ومثلُ هذه الآية قوله تعالى: ﴿الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل﴾ [الأعراف: ١٥٧].
وفي هذا تسلية لرسوله الكريم على ما أصابه من قومه ومن غيرهم من الجاحدين، وأن الانبياء مِن قبله نالهم الأذى وكذّبهم أقوامهم. وفيه ايضا تهذيبٌ وتربية للمؤمنين بان لا يؤذوا النبي بل يُخلِصوا في ايمانهم.
329
الاسلام: معناه هنا الاستسلام والانقياد لأمر الله. نور الله: دينه الذي يدعو اليه الرسول الكريم. بأفواههم: يعني بأكاذيبهم واباطيلهم. والله متم نوره: والله مظهرٌ دينَه، وقد صدق. بالهدى: بالقرآن. ودين الحق: الدين الصحيح. نصر من الله وفتح قريب: فتح مكة. الحواريون: الأصفياء والخلاّن. انصار الله: الناصرون لدينه. ظاهرين: غالبين.
من أشدُّ ظلماً وعدواناً ممن اختلقَ على الله الكذب، وهو يدعو الى الاسلام! لقد دعاهم الرسولُ الكريم الى نبذ الشِرك، ودعاهم الى الايمان بالله وحده فلم يؤمنوا، وأثاروا حوله الشكوك والافتراءات، ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ الّذين يفترون على الله الكذب.
ثم بين الله تعالى أنهم حاولوا إبطالَ الدِين وردَّ المؤمنين عنه، لكنّهم لم يستطيعوا وخابوا في سعيهم فقال: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ﴾.
ان هؤلاء الجاحدين من قريشٍ، وبني اسرائيل في المدينة، والمنافقين معهم - حاولوا القضاءَ على الإسلام بالدسائس والأكاذيب فخذلَهم الله تعالى، وأظهر دِينه فهو الدينُ القيم الذي انار الكون، وخاب سعيهم.
﴿والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾.
ثم بين الله تعالى أنه ارسل رسولَه محمداً ﷺ بالقرآن الذي هدى الناس وأنار الون، وبدينِ الاسلام الحق ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾. وقد وردت هاتان الآيتان في سورة التوبة، مع تغيي ربسيط في الالفاظ في الآية الأولى.
وبعد ان حث على الجهاد في سبيله، ونهى المسلمين ان يكونوا مثلَ قوم موسى او قوم عيسى - بيّن هنا ان الايمان بالله والجهادَ في سبيله بالمال والنفس تجارةً رابحة، لأن المجاهدين ينالون الفوز بالدنيا، فيظفر واحدهم بالنصر والغنائم وكرائمِ الاموال والثوابَ العظيم في الآخرة اذ يحظى بالغفران، ورضوان الله، والخلود في جنات عدن.
فهذه هي التجارة الرابحة، الثبات على الايمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله بأموالكم وانفسكم، وذلك هو الخير العظيم، ثم يتبعه الغفران، والخلود في ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفوز العظيم﴾ وأيّ فوز اعظم من هذا!!
ثم أتبع ذلك كله ببشرى عظيمة يحبها المؤمنون وينتظرونها وهي:
﴿وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾
نعمة كبرى تحبونها: النصر من الله، وفتح مكة. وهو آت قريب. وقد أنجز الله وعده.
﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾ يا محمد بهذه النعم، وان الله تعالى نصَرَهم لأنهم آمنوا حقيقة، وجاهدوا جهاداً كبيرا ولم ينتظروا من أحدٍ ان يساعدَهم وهم قاعدون.. كما يفعل العرب والمسلمون اليوم.
ثم امر الله تعالى المؤمنين ان يعملوا ويجدّوا ويكونوا انصار الله في كل حين، فلا يتخاذلوا ولا يتناحروا ويتحاربوا، وان لا يتوكلوا فيقعدوا ويطلبوا النصر، بل عليهم ان يعملوا ويجاهدوا حتى يكتب الله لهم النصر. فقالك
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله﴾ فاستعدّوا وأعدّوا من قوتكم ما استطعتم، ولا تنتظروا من أعدائكم ان يحلّوا لكم قضيتكم وينصروكم.
330
وكيف ينصرونكم والبلاء منهم، وهم الذين يدعمون عدوكم ويمدّونه بالمال والسلاح!!
وخلاصة القول: كونوا أنصار الله في جميع أعمالكم وأقوالكم واستعدّوا دائما، كما استجاب الحواريّون لعيسى.
﴿فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ﴾.
وانتم أيها المسلمون في هذا العصر اذا كنتم تريدون ان تبقوا في بلادكم وان تستردوا الاراضي المقدسة وما اغتُصب من وطنكم، على يد اليهود والدولة الكبرى حليفتهم والمؤيدة لهم - فجاهدوا جهادا حقيقيا في سبيل الله ينصركم الله، وتصبحوا ظاهرين غالبين.
قراءات:
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص وخلف: متم نوره بضم الميم والاضافة بجر نوره. والباقون: متم نوره بتنوين متم، ونصب نوره. وقرأ ابن عامر: ننجيكم من عذاب أليم بفتح النون الثانية وبتشديد الجيم. والباقون: ننجيكم بضم النون الأولى واسكان الثانية وكسر الجيم دون تشديد. وقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو: كونوا انصاراص لله بالتنوين. وقرأ الباقون: كونوا انصار الله بالاضافة. وقرأ نافع وحده: من انصاريَ الى الله بفتح الياء. والباقون: انصاري الى الله.
331
Icon