تفسير سورة الضحى

اللباب
تفسير سورة سورة الضحى من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية، وهي إحدى عشرة آية، وأربعون كلمة، ومائة وسبعون حرفا.

مكية، وهي إحدى عشرة آية، وأربعون كلمة، ومائة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿والضحى والليل إِذَا سجى﴾، تقدم الكلام في «الضُّحَى» والمراد به هنا: النهارُ، لمقابلته بقوله تعالى: ﴿والليل إِذَا سجى﴾، ولقوله تعالى: ﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأعراف: ٩٨]، أي: نهاراً.
وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق، أقسم بالضحى الذي كلم الله فيه موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وبليلة المعراج.
وقيل: «الضُّحَى» هي الساعة التي خرّ فيها السحرة سُجَّداً لقوله تعالى: ﴿وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى﴾ [طه: ٥٩].
وقال القرطبي: «يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم».
وقيل: الضحى نور الجنة، والليل ظلمة النار.
وقيل: الضحى نور قلوب العارفين كهيئة النهار، والليل سواد قلوب الكافرين كهيئة الليل، أقسم تعالى بهذه الأشياء.
وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: فيه إضمار مجازه ورب الضحى وسيجيء معناه. و «سَجَى»، أي: سكن، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة.
يقال: ليلة ساجية، أي: ساكنة.
ويقال للعين إذا سكن طرفها ساجية، ويقال: سَجَا الشَّيءُ سَجْواً إذا سكن، وسَجَا
380
البحر سُجُوًّا، أي: سكنت أمواجُه وطرف ساج، أي: فاتر، ومنه استعير تسجية الميت، أي: تغطيته بالثواب؛ قاله الراغب.
وقال الأعشى: [الطويل]
٥٢٣٢ - فَمَا ذَنْبُنَا أنْ جَاشَ بَحْرُ ابْنِ عمِّكُم وبَحْرُكَ سَاجٍ ما يُوَارِي الدَّعَامِصَا
وقال الفراء: أظلم.
وقال ابن الأعرابي: اشتد ظلامه.
وقال الشاعر: [الرجز]
٥٢٣٣ - يا حَبَّذَا القَمراءُ واللَّيلُ السَّاجْ وطُرقٌ مِثْلُ مُلاءِ النَّسَّاجْ
[قال الضحاك: سجا غطى كل شيء.
قال الأصمعي: سجو الليل؛ تغطيته النهار، ومثل ما يسجَّى الرجل الثوب.
وعن ابن عباس: سجا أدبر، وعنه: أظلم.
وقال سعيد بن جبير: أقبل.
وعن مجاهد: سَجَا: استوى.
والقول الأول أشهر في اللغة، أي: سكن الناس فيه كما قال: نهار صائم وليل قائم.
وقيل: سكونه استقرار ظلامه، وهو من ذوات الواو، وإنما أميل لموافقة رءوس الآي، كالضحى، فإنه من ذوات الواو أيضاً].

فصل


قال ابن الخطيب: وقدم هنا الضحى، وفي السورة التي قبلها قدم الليل إما لأن لكلَّ منهما أثر عظيمٌ في صلاح العالم، ولليل فضيلة السبق لقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات
381
والنور} [الأنعام: ١]، وللنهار فضيلة النور، فقدم سبحانه هذا تارة وقدم هذا تارة، كالركوع والسجود في قوله تعالى: ﴿اركعوا واسجدوا﴾ [الحج: ٧٧] وقوله تعالى: ﴿واسجدي واركعي مَعَ الراكعين﴾ [آل عمران: ٤٣].
وقيل: قدم الليل في سورة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لأن أبا بكر سبقه كفر، وقدم الضحى في سورة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه نور محض، ولم يتقدمه ذنب.
وقيل: لما كانت سورة «الليل» سورة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وسورة «الضحى» سورة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يجعل بينهما واسطة، ليعلم أنه لا واسطة بين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.

فصل في ذكر الضحى والليل


قال ابن الخطيب: وذكر الضحى، وهو ساعة، وذكر الليل بجملته، إشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل، كما أنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوازن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وأيضاً: فالضحى وقت السرورٍ، والليل وقتُ الوحشةِ، ففيه إشارة إلى أن سرور الدنيا، أقل من شرورها، وأن هموم الدنيا أدوم من سرورها، فإن الضحى ساعة، والليل ساعات، يروى أن الله - سبحانه وتعالى - لما خلق العرش أظلت غمامة سوداء، ونادت: ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري الهموم والأحزان مائة عامٍ، ثم انكشفت، فأمرت مرة أخرى بذلك، وهكذا إلى ثلاثمائة سنة، ثم بعد ذلك أظَّلت عن يمين العرش غمامة بيضاء، ونادت ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري السرور ساعة فلهذا ترى الهموم، والأحزان دائمة، والسرور قليلاً ونادراً، وقدم ذكر الضحى لأنه يشبه الحياة، وأخر الليل؛ لأنه يشبه الموت.
قوله: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ﴾، هذا جواب القسم، والعامة: على تشديد الدال من التوديع.
وقرأ عروة بن الزبير وابنه هاشم، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة بتخفيفها، من قولهم: «ودَعَهُ»، أي: تركه والمشهور في اللغة الاستغناء عن «ودع، ووذرَ» واسم فاعلهما، واسم مفعولهما ومصدرهما ب «ترك» وما تصرف منه، وقد جاء «ودع ووذَرَ» ؛ قال الشاعر: [الرمل]
٥٢٣٤ - سَلْ أمِيرِي:
382
وقال آخر: [الطويل]
ما الَّذي غَيَّرهُ عَنْ وصالِي اليَوْمَ حَتَّى وَدَعَهْ
٥٢٣٥ - وثَمَّ ودعْنَا آل عمرٍو وعامِرٍ فَرائِسَ أطْرافِ المُثقَّفَةِ السُّمْرِ
قيل: والتوديع مبالغة في الودع؛ لأن من ودعك مفارقاً، فقد بالغ في تركك.
قال القرطبيُّ: واستعماله قليل يقال: هو يدع كذا، أي: يتركه.
قال المبرد: لا يكادون يقولون: ودع، ولا ذر، لضعف الواو إذا قدمت، واستغنوا عنهما ب «ترك».
قوله: ﴿وَمَا قلى﴾، أي: ما أبغضك، يقال: قلاه يقليه - بكسر العين في المضارع - وتقول: قلاه يقلاه، بالفتح؛ قال: [الهزج]
٥٢٣٦ - أيَا مَنْ لَستُ أنسَاهُ وَلاَ واللَّهِ أقْلاهُ
لَكَ اللَّهُ عَلَى ذَاكَا لَكَ اللَّهُ لَكَ اللَّهُ
وحذف مفعول «قَلاَ» مراعاة للفواصل مع العلم به، وكذا بعد «فآوَى» وما بعده.

فصل في «القِلَى»


القلى: البغض، أي: ما أبغضك ربك منذ أحبك، فإن فتحت القاف مددت، تقول: قلاه يقليه قى وقلاء، كما تقول: قريت الضيف أقرية قرى وقراء، ويقلاه: لغة طيىء. وأنشد:
٥٢٣٧ - أيَّامَ أمِّ الغَمْرِ لا نَقْلاَهَا... أي: لا نبغضها، ونقلي: أي: نبغض؛ وقال: [الطويل]
٥٢٣٨ - أسِيئِي بِنَا أو أحْسِنِي لا ملُومَةٌ لَديْنَا ولا مَقلِيَّةٌ إنْ تقلَّتِ
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
٥٢٣٩ -...................................
383
ولَسْتُ بِمقْلِيِّ الخِلالِ ولا قَالِ
ومعنى الآية: ما ودعك ربك وما قلاك، فترك الكاف، لأنه رأس آية، كقوله تعالى: ﴿والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات﴾ [الأحزاب: ٣٥] أي: والذاكرات الله.

فصل في سبب نزول الآية


قال المفسرون: انحبس الوحي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اثني عشر يوماً.
وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً [وقيل خمسة وعشرين يوماً.
وقال مقاتل: أربعين يوماً].
فقال المشركون: إن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قلاه ربه وودعه، ولو كان أمره من الله لتابع عليه كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء، فنزلت هذه الآية.
وروى البخاريُّ عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يقم ليلتين، أو ثلاثاً، فجاءت أم جميل امرأة أبي لهب - لعنة الله عليها - فقالت: يا محمدُ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك ليلتين، أو ثلاث، فأنزل الله تعالى: ﴿والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى﴾.
وروي عن أبي عمران الجوني: قال: أبطأ جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى شق عليه، فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو، فنكت بين كتفيه، وأنزل عليه: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى﴾.
وروي أن خولة كانت تخدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: «إن جرواً دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي الله أياماً لا ينزل عليه الوحي، فقال:» يا خولةُ ما حدّثَ في بَيْتِي؟ ما لِجِبْريلَ لا يَأْتِينِي «؟ قالت خولة: فقلت: لو هيأت البيت، وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته، فألقيته خلف الجدار، فجاء نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال: يا خولة دثِّرِيِنْي، فأنزل
384
الله هذه السورة، ولما نزل جبريل سأله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن التّأخر، فقال:» أما عَلِمْتَ أنَّا لا ندخلُ بَيْتَاً فيهِ كَلبٌ، ولا صُورةٌ «.
وقيل: لما سألته اليهود عن الروح، وذي القرنين وأهل الكهف، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
سَأخْبركُمْ غداً «ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل - عليه السلام - بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الكهف: ٢٣، ٢٤]، فأخبره بما سئل عنه، وفي هذه القصة نزلت: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى﴾.
قوله: ﴿وَلَلآخِرَةُ﴾ الظاهر في هذه اللام أنها جواب القسم، وكذلك وفي»
ولسَوْفَ «أقسم الله تعالى على أربعة أشياءٍ: اثنان منفيان، وهما توديعه وقلاه، واثنان مثبتان مؤكدان، وهما كون الآخرة خيراً له من الأولى، وأنه سوف يعطيه ما يرضيه. وقال الزمخشري:» فإن قلت: ما هذه اللام الداخلة على «سَوْفَ» ؟.
قلت: هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف، تقديره: وأنت سوف - كما ذكرنا في «لأقسمُ» أن المعنى: لأنا أقسم - وذلك أنها لا تخلو من أن تكون لام قسم، أو ابتداء، فلام القسم لا تدخل مع المضارع إلا مع نون التوكيد، فبقي أن تكون لام ابتداء، ولام الابتداء لا تدخل إلاَّ على الجملة من المبتدأ، والخبر، فلا بد من تقدير مبتدأ، وخبره، وأن يكون أصله: ولأنت سوف يعطيك «.
ونقل أبو حيَّان عنه، أنه قال:»
وخلع من اللام دلالتها على الحال «انتهى.
وهذا الذي رده على الزمخشري، يختار منه: أنها لام القسم، وقوله:»
لا يدخل مع المضارع إلا مع نون التوكيد «، استثنى النحاة منه صورتين:
إحداهما: أن لا يفصل بينها وبين الفعل حرف التنفيس كهذه الآية، وكقولك:»
والله لسأعطيك «.
والثاني: ألاَّ يفصل بينهما بمعمول الفعل، كقوله: ﴿لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: ١٥٨].
ويدل لما قلت ما قال الفارسي: ليست هذه اللام هي التي في قولك:»
إن زيداً لقائم «، بل هي التي في قولك:» لأقُومنَّ «ونابت» سَوْفَ «عن إحدى نوني التأكيد، فكأنه قال: ولنعطينك.
385
وقوله:» خلع منها دلالتها على الحال «يعني أن لام الابتداء الداخلة على المضارع مخلصة للحال وهنا لا يمكن ذلك؛ لأجل حرف التنفيس، فلذلك خلعت الحالية منها.
وقال أبو حيَّان: واللام في»
وللآخِرةُ «لام ابتداء أكدت مضمون الجملة، ثم حكى بعض ما تقدم عن الزمخشري وأبي علي، ثم قال:» ويجوز عندي أن تكون اللام في «وللآخِرَةُ خَيْرٌ» وفي «ولسَوْفَ يُعْطِيكَ» اللام التي يُتَلَقَّى بها القسم، عطفهما على جواب القسم، وهي قوله تعالى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ﴾، فيكون هذا قسماً على هذه الثلاثة «انتهى.
فظاهره أن هذه اللام في»
وللآخِرةُ «لام ابتداء غير متلقى بها القسم بدليل قوله ثانياً:» ويجوز عندي «، ولا يظهر انقطاع هذه الجملة عن جواب القسم ألبتة، وكذلك في» وَلَسَوْفَ «، وتقدير الزمخشريِّ: مبتدأ بعدها لا ينافي كونها جواباً للقسمِ، إنَّما منع أن يكون جواباً لكونها داخلة على المضارع لفظاً، وتقديراً.
وقال ابن الخطيب: فإن قيل: ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير؟.
قلت: معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة.

فصل


قال إبن إسحاق: معنى قوله: ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى﴾، أي: ما عندي من مرجعك إليَّ يا محمد خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا.
روى علقمة عن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«إنَّا أهْل بيتٍ اخْتَارَ اللهُ لنَا الآخِرَةِ على الدُّنْيَا»
.
وقوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى﴾ روى عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: هو الشفاعة في أمته حتى يرضى، وهو قول علي والحسن.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا قول الله تعالى في إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [إبراهيم: ٣٦]، وهو قول عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [المائدة: ١١٨]، الآية، فرفع يديه وقال:» اللَّهُمَّ أمَّتِي أمَّتِي «وبكى، فقال الله تعالى لجبريل» اذهب إلى محمد، وربُّك أعلم، فسلهُ ما يُبْكِيكَ «فأتى جبريل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسأله فأخبره، فقال الله تعالى لجبريل:» اذهب إلى محمد، فقل له: إن الله يقول لك: إنَّا سَنُرضِيْكَ فِي أمَّتكَ،
386
ولا نَسُوءَكَ «وقال حرب بن شريح: سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول: إنكم يا معشر أهل العراق تقولون: إنَّ أرْجَى آية في كتاب الله تعالى: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله﴾ [الزمر: ٥٣] قالوا: إنا نقول ذلك، قال: ولكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى﴾.
وقيل: يعطيك ربك من الثواب، وقيل: من النصر، فترضى، وقيل: الحوض والشفاعة.

فصل في الكلام على انقطاع الوحي


وجه النظم، كأنه قيل: انقطاع الوحي لا يكون عزلاً عن النبوّة، بل غايته أنه أمارة الموت للاستغناء عن الرسالة، فإن فهمت منه قرب الموت، فالموت خير لك من الأولى، وفهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الخطاب بقوله: ما ودعك ربك وما قلى تشريفاً عظيماً، فقيل له: ﴿وللآخِرةُ خيرٌ لك من الأوْلَى﴾، أي: أنَّ الأحوال الآتية خير لك من الماضية، فهو وعد بأنه سيزيده عزَّا إلى عزِّه، وبيان أن الآخرة خيرٌ، كأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يفعل فيها ما يريد، ولأنه آثرها فهي ملكه، وملكه خير مما لا يكون ملكه، أو لأن الكفار يؤذونك وأمتك في الدنيا، وأما في الآخرة فهم شهداء على الناس، أو لأن خيرات الدنيا قليلة مقطوعة، ولم يقل: خير لك، لأن فيهم من الآخرة شر له، فلو ميزهم لافتضحوا.
387
و«سَجَى »، أي : سكن، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة.
يقال : ليلة ساجية، أي : ساكنة.
ويقال للعين إذا سكن طرفها ساجية، ويقال : سَجَا الشَّيءُ سَجْواً إذا سكن، وسَجَا البحر سُجُوًّا، أي : سكنت أمواجُه وطرف ساج، أي : فاتر، ومنه استعير تسجية الميت، أي : تغطيته بالثواب ؛ قاله الراغب.
وقال الأعشى :[ الطويل ]
٥٢٣٢- فَمَا ذَنْبُنَا أنْ جَاشَ بَحْرُ ابْنِ عمِّكُم*** وبَحْرُكَ سَاجٍ ما يُوَارِي الدَّعَامِصَا١
وقال الفراء : أظلم.
وقال ابن الأعرابي : اشتد ظلامه.
وقال الشاعر :[ الرجز ]
٥٢٣٣- يا حَبَّذَا القَمراءُ واللَّيلُ السَّاجْ وطُرقٌ مِثْلُ مُلاءِ النَّسَّاجْ٢
[ قال الضحاك : سجا غطى كل شيء٣.
قال الأصمعي : سجو الليل ؛ تغطيته النهار، ومثل ما يسجَّى الرجل الثوب.
وعن ابن عباس : سجا أدبر، وعنه : أظلم٤.
وقال سعيد بن جبير : أقبل٥.
وعن مجاهد : سَجَا : استوى٦.
والقول الأول أشهر في اللغة، أي : سكن الناس فيه كما قال : نهار صائم وليل قائم.
وقيل : سكونه استقرار ظلامه، وهو من ذوات الواو، وإنما أميل لموافقة رءوس الآي، كالضحى، فإنه من ذوات الواو أيضاً ]٧.

فصل


قال ابن الخطيب٨ : وقدم هنا الضحى، وفي السورة التي قبلها قدم الليل إما لأن لكلَّ منهما أثر عظيمٌ في صلاح العالم، ولليل فضيلة السبق لقوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ الظلمات والنور ﴾ [ الأنعام : ١ ]، وللنهار فضيلة النور، فقدم سبحانه هذا تارة وقدم هذا تارة، كالركوع والسجود في قوله تعالى :﴿ اركعوا واسجدوا ﴾ [ الحج : ٧٧ ] وقوله تعالى :﴿ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين ﴾ [ آل عمران : ٤٣ ].
وقيل : قدم الليل في سورة أبي بكر - رضي الله عنه - لأن أبا بكر سبقه كفر، وقدم الضحى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه نور محض، ولم يتقدمه ذنب.
وقيل : لما كانت سورة «الليل » سورة أبي بكر - رضي الله عنه - وسورة «الضحى » سورة محمدٍ صلى الله عليه وسلم لم يجعل بينهما واسطة، ليعلم أنه لا واسطة بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر رضي الله عنه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل في ذكر الضحى والليل
قال ابن الخطيب٩ : وذكر الضحى، وهو ساعة، وذكر الليل بجملته، إشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل، كما أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم يوازن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وأيضاً : فالضحى وقت السرورٍ، والليل وقتُ الوحشةِ، ففيه إشارة إلى أن سرور الدنيا، أقل من شرورها، وأن هموم الدنيا أدوم من سرورها، فإن الضحى ساعة، والليل ساعات، يروى أن الله - سبحانه وتعالى - لما خلق العرش أظلت غمامة سوداء، ونادت : ماذا أمطر ؟ فأجيبت أن أمطري الهموم والأحزان مائة عامٍ، ثم انكشفت، فأمرت مرة أخرى بذلك، وهكذا إلى ثلاثمائة سنة، ثم بعد ذلك أظَّلت عن يمين العرش غمامة بيضاء، ونادت ماذا أمطر ؟ فأجيبت أن أمطري السرور ساعة فلهذا ترى الهموم، والأحزان دائمة، والسرور قليلاً ونادراً، وقدم ذكر الضحى لأنه يشبه الحياة، وأخر الليل ؛ لأنه يشبه الموت.


١ ينظر ديوانه ١٠٠، والقرطبي ٢٠/٦٢، والبحر ٨/٤٨٠، ومجمع البيان ١٠/٧٦٣، والدر المصون ٦/٣٧..
٢ البيت للحارثي ينظر الخصائص ٢/١١٥، وشرح المفصل ٧/١٣٩، ١٤١، ومجاز القرآن ٢/٣٠٢، والطبري ٣٠/١٤٧، والبحر ٨/٤٨٠، ومجمع البيان ١٠/٧٦٢، والدر المصون ٦/٦٠٩)..
٣ ينظر تفسير القرطبي (٢٠/٦٢)..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٢١) عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٠٩)..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٠٩) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره (١٢/٦٢٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٠٩) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٧ سقط من: ب..
٨ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١٨٩..
قوله :﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ﴾، هذا جواب القسم، والعامة : على تشديد الدال من التوديع.
وقرأ١ عروة بن الزبير وابنه هاشم، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة بتخفيفها، من قولهم :«ودَعَهُ »، أي : تركه والمشهور في اللغة الاستغناء عن «ودع، ووذرَ » واسم فاعلهما، واسم مفعولهما ومصدرهما ب «ترك » وما تصرف منه، وقد جاء «ودع ووذَرَ » ؛ قال الشاعر :[ الرمل ]
٥٢٣٤- سَلْ أمِيرِي : ما الَّذي غَيَّرهُ *** عَنْ وصالِي اليَوْمَ حَتَّى وَدَعَهْ٢
وقال آخر :[ الطويل ]
٥٢٣٥- وثَمَّ ودعْنَا آل عمرٍو وعامِرٍ*** فَرائِسَ أطْرافِ المُثقَّفَةِ السُّمْرِ٣
قيل : والتوديع مبالغة في الودع ؛ لأن من ودعك مفارقاً، فقد بالغ في تركك.
قال القرطبيُّ٤ : واستعماله قليل يقال : هو يدع كذا، أي : يتركه.
قال المبرد : لا يكادون يقولون : ودع، ولا ذر، لضعف الواو إذا قدمت، واستغنوا عنهما ب «ترك ».
قوله :﴿ وَمَا قلى ﴾، أي : ما أبغضك، يقال : قلاه يقليه - بكسر العين في المضارع - وتقول : قلاه يقلاه، بالفتح ؛ قال :[ الهزج ]
٥٢٣٦- أيَا مَنْ لَستُ أنسَاهُ *** وَلاَ واللَّهِ أقْلاه
لَكَ اللَّهُ عَلَى ذَاكَا *** لَكَ اللَّهُ لَكَ اللَّهُ٥
وحذف مفعول «قَلاَ » مراعاة للفواصل مع العلم به، وكذا بعد «فآوَى » وما بعده.

فصل في «القِلَى »


القلى : البغض، أي : ما أبغضك ربك منذ أحبك، فإن فتحت القاف مددت، تقول : قلاه يقليه قلى وقلاء، كما تقول : قريت الضيف أقرية قرى وقراء، ويقلاه : لغة طيىء. وأنشد :
٥٢٣٧- *** أيَّامَ أمِّ الغَمْرِ لا نَقْلاَهَا٦ ***
أي : لا نبغضها، ونقلي : أي : نبغض ؛ وقال :[ الطويل ]
٥٢٣٨- أسِيئِي بِنَا أو أحْسِنِي لا ملُومَةٌ *** لَديْنَا ولا مَقلِيَّةٌ إنْ تقلَّتِ٧
وقال امرؤ القيس :[ الطويل ]
٥٢٣٩-. . . *** ولَسْتُ بِمقْلِيِّ الخِلالِ ولا قَالِ٨
ومعنى الآية : ما ودعك ربك وما قلاك، فترك الكاف، لأنه رأس آية، كقوله تعالى :﴿ والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات ﴾ [ الأحزاب : ٣٥ ] أي : والذاكرات الله.

فصل في سبب نزول الآية


قال المفسرون : انحبس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر يوماً.
وقال ابن عباس : خمسة عشر يوماً [ وقيل خمسة وعشرين يوماً.
وقال مقاتل : أربعين يوماً ]٩.
فقال المشركون : إن محمداً صلى الله عليه وسلم قلاه ربه وودعه، ولو كان أمره من الله لتابع عليه كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء، فنزلت هذه الآية.
وروى البخاريُّ عن جندب بن سفيان قال : اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين، أو ثلاث، فجاءت أم جميل امرأة أبي لهب - لعنة الله عليها - فقالت : يا محمدُ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك ليلتين، أو ثلاث، فأنزل الله تعالى :﴿ والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى ﴾١٠.
وروي عن أبي عمران الجوني : قال : أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم حتى شق عليه، فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو، فنكت بين كتفيه، وأنزل عليه :﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى ﴾١١.
وروي أن خولة كانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن جرواً دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي الله أياماً لا ينزل عليه الوحي، فقال :«يا خولةُ ما حدّثَ في بَيْتِي ؟ ما لِجِبْريلَ لا يَأْتِينِي » ؟ قالت خولة : فقلت : لو هيأت البيت، وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته، فألقيته خلف الجدار، فجاء نبي الله صلى الله عليه وسلم ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال : يا خولة دثِّرِيِنْي، فأنزل الله هذه السورة، ولما نزل جبريل سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن التّأخر، فقال :«أما عَلِمْتَ أنَّا لا ندخلُ بَيْتَاً فيهِ كَلبٌ، ولا صُورةٌ »١٢.
وقيل : لما سألته اليهود عن الروح، وذي القرنين وأهل الكهف، قال النبي صلى الله عليه وسلم :«سَأخْبركُمْ غداً » ولم يقل : إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل - عليه السلام - بقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ [ الكهف : ٢٣، ٢٤ ]، فأخبره بما سئل عنه، وفي هذه القصة نزلت :﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى ﴾.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٩٣..
٢ نسب البيت إلى سويد بن أبي كاهل، ونسب إلى أبي الأسود الدؤلي، وكذلك نسب لأنس بن زنيم ويروي:
ليت شعري عن خليلي ما الذي *** غاله في الحب حتى ودعه
ينظر المحتسب ٢/٣١٤، والخصائص ١/٩٩، وشرح شواهد الشافية ص ٥٠، واللسان (ودع)، والبحر المحيط ٨/٤٨، والدر المصون ٦/٥٣٧..

٣ ينظر الكشاف ٤/٧٦٦، والقرطبي ٢٠/٦٤، والبحر ٨/٤٨٠، والدر المصون ٦/٥٣٧..
٤ ينظر الجامع لأحكام القرآن (٢٠/٦٤)..
٥ يروى البيت الأول:
أيا من لست أقلاه *** ولا في البعد أنساه
ينظر الدرر ٦/٤٨، وشرح الأشموني ٢/٤٩، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٣٧، والمقاصد النحوية ٤/٩٧، وهمع الهوامع ٢/١٢٥، والدرر المصون ٦/٥٣٧..

٦ ينظر القرطبي ٢٠/٦٤، واللسان (قلا)..
٧ تقدم..
٨ عجز بيت وصدره:
*** صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ***
ينظر ديوانه ص ٣٥، واللسان (خلل)، والقرطبي ٢٠/٦٤..

٩ سقط من: ب..
١٠ أخرجه البخاري (٨/٥٨٠) كتاب التفسير: باب ما ودعك ربك وما قلى، رقم (٤٩٥٠) ومسلم (٣/١٤٢٢) كتاب الجهاد والسير: باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين رقم (١١٥/١٧٩٧) والترمذي (٥/٤١١) رقم (٣٣٤٥) والنسائي في "الكبرى" (٦/٥١٨) والطبري في "تفسيره" (١٢/٦٢٣) من حديث جندب بن عبد الله بن عبد الله بن سفيان البجلي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح..
١١ ينظر تفسير القرطبي (٢٠/٦٣)..
١٢ ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧/١٤١) وقال رواه الطبراني وأم حفص لم أعرفها.
وذكره الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية" (٣/٣٩٦) رقم (٣٨٠٦) وعزاه إلى ابن أبي شيبة في "مسنده"..

قوله :﴿ وَلَلآخِرَةُ ﴾ الظاهر في هذه اللام أنها جواب القسم، وكذلك وفي «ولسَوْفَ » أقسم الله تعالى على أربعة أشياءٍ : اثنان منفيان، وهما توديعه وقلاه، واثنان مثبتان مؤكدان، وهما كون الآخرة خيراً له من الأولى١، وأنه سوف يعطيه ما يرضيه. وقال الزمخشري٢ :» فإن قلت : ما هذه اللام الداخلة على «سَوْفَ » ؟.
قلت : هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف، تقديره : وأنت سوف - كما ذكرنا في «لأقسمُ » أن المعنى : لأنا أقسم - وذلك أنها لا تخلو من أن تكون لام قسم، أو ابتداء، فلام القسم لا تدخل مع المضارع إلا مع نون التوكيد، فبقي أن تكون لام ابتداء، ولام الابتداء لا تدخل إلاَّ على الجملة من المبتدأ، والخبر، فلا بد من تقدير مبتدأ، وخبره، وأن يكون أصله : ولأنت سوف يعطيك ».
ونقل أبو حيَّان عنه، أنه قال :«وخلع من اللام دلالتها على الحال » انتهى.
وهذا الذي رده على الزمخشري، يختار منه : أنها لام القسم، وقوله :«لا يدخل مع المضارع إلا مع نون التوكيد »، استثنى النحاة منه صورتين :
إحداهما : أن لا يفصل بينها وبين الفعل حرف التنفيس كهذه الآية، وكقولك :«والله لسأعطيك ».
والثاني : ألاَّ يفصل بينهما بمعمول الفعل، كقوله :﴿ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٥٨ ].
ويدل لما قلت ما قال الفارسي : ليست هذه اللام هي التي في قولك :«إن زيداً لقائم »، بل هي التي في قولك :«لأقُومنَّ » ونابت «سَوْفَ » عن إحدى نوني التأكيد، فكأنه قال : ولنعطينك.
وقوله :«خلع منها دلالتها على الحال » يعني أن لام الابتداء الداخلة على المضارع مخلصة للحال وهنا لا يمكن ذلك ؛ لأجل حرف التنفيس، فلذلك خلعت الحالية منها.
وقال أبو حيَّان٣ : واللام في «وللآخِرةُ » لام ابتداء أكدت مضمون الجملة، ثم حكى بعض ما تقدم عن الزمخشري وأبي علي، ثم قال :«ويجوز عندي أن تكون اللام في «وللآخِرَةُ خَيْرٌ » وفي «ولسَوْفَ يُعْطِيكَ » اللام التي يُتَلَقَّى بها القسم، عطفهما على جواب القسم، وهي قوله تعالى :﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ﴾، فيكون هذا قسماً على هذه الثلاثة » انتهى.
فظاهره أن هذه اللام في «وللآخِرةُ » لام ابتداء غير متلقى بها القسم بدليل قوله ثانياً :«ويجوز عندي »، ولا يظهر انقطاع هذه الجملة عن جواب القسم ألبتة، وكذلك في «وَلَسَوْفَ »، وتقدير الزمخشريِّ : مبتدأ بعدها لا ينافي كونها جواباً للقسمِ، إنَّما منع أن يكون جواباً لكونها داخلة على المضارع لفظاً، وتقديراً.
وقال ابن الخطيب٤ : فإن قيل : ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير ؟.
قلت : معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة.

فصل


قال ابن إسحاق : معنى قوله :﴿ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى ﴾، أي : ما عندي من مرجعك إليَّ يا محمد خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا.
روى علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إنَّا أهْل بيتٍ اخْتَارَ اللهُ لنَا الآخِرَةِ على الدُّنْيَا »٥.
١ في أ: الدنيا..
٢ الكشاف ٤/٤٦٧..
٣ البحر المحيط ٨/٤٨١..
٤ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١٩٤..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦١١) وعزاه إلى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود..
وقوله تعالى :﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى ﴾ روى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : هو الشفاعة في أمته حتى يرضى، وهو قول علي والحسن١.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص :«أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه الصلاة والسلام :﴿ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ]، وهو قول عيسى - عليه الصلاة والسلام - :﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ [ المائدة : ١١٨ ]، الآية، فرفع يديه وقال :«اللَّهُمَّ أمَّتِي أمَّتِي » وبكى، فقال الله تعالى لجبريل «اذهب إلى محمد، وربُّك أعلم، فسلهُ ما يُبْكِيكَ » فأتى جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره، فقال الله تعالى لجبريل :«اذهب إلى محمد، فقل له : إن الله يقول لك : إنَّا سَنُرضِيْكَ فِي أمَّتكَ، ولا نَسُوءَكَ »٢ وقال حرب بن شريح : سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول : إنكم يا معشر أهل العراق تقولون : إنَّ أرْجَى آية في كتاب الله تعالى :﴿ قُلْ يا عبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله ﴾ [ الزمر : ٥٣ ] قالوا : إنا نقول ذلك، قال : ولكنا أهل البيت نقول : إن أرجى آية في كتاب الله :﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى ﴾.
وقيل : يعطيك ربك من الثواب، وقيل : من النصر، فترضى، وقيل : الحوض والشفاعة.

فصل في الكلام على انقطاع الوحي


وجه النظم، كأنه قيل : انقطاع الوحي لا يكون عزلاً عن النبوّة، بل غايته أنه أمارة الموت للاستغناء عن الرسالة، فإن فهمت منه قرب الموت، فالموت خير لك من الأولى، وفهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخطاب بقوله : ما ودعك ربك وما قلى تشريفاً عظيماً، فقيل له :﴿ وللآخِرةُ خيرٌ لك من الأوْلَى ﴾، أي : أنَّ الأحوال الآتية خير لك من الماضية، فهو وعد بأنه سيزيده عزَّا إلى عزِّه، وبيان أن الآخرة خيرٌ، كأنه صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يريد، ولأنه آثرها فهي ملكه، وملكه خير مما لا يكون ملكه، أو لأن الكفار يؤذونك وأمتك في الدنيا، وأما في الآخرة فهم شهداء على الناس، أو لأن خيرات الدنيا قليلة مقطوعة، ولم يقل : خير لك، لأن فيهم من الآخرة شر له، فلو ميزهم لافتضحوا.
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦١١) عن الحسن وعزاه إلى ابن أبي حاتم..
٢ أخرجه مسلم في "صحيحه" (١/١٩١) كتاب الإيمان: باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته (٣٤٦ -٢٠٢) والبغوي في "شرح السنة" (٧/٥٠٧) من حديث عبد الله بن عمرو..
ثم أخبر الله تعالى عن حاله التي كان عليها قبل الوحي وذكره نعمه فقال: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى﴾، العامة على: «فآوى» بألف بعد الهمزة رباعياً.
وأبو الأشهب: «فأوى» ثلاثياً.
قال الزمخشري: «وهو على معنيين: إما من» أواه «بمعنى» آواه «سمع بعض الرعاة يقول: أين آوي هذه الموقسة؟ وإما من أوى له، إذا رحمه». انتهى.
وعلى الثاني قوله: [الطويل]
387
أي: رحمة لنفسي، ووجه الدلالة من قوله «أين آوي هذه»، أنه لو كان من الرباعي [لقال: أُأْوي - بضم الهمزة الأولى وسكون الثانية - لأنه مضارع آوى مثل أكرم، وهذه الهمزة] المضمومة هي حرف المضارعة، والثانية هي فاء الكلمة، وأما همزة «أفْعَل» فمحذوفة على القاعدة، ولم تبدل هذه الهمزة كما أبدلت في «أومن» لئلا يستثقل بالإدغام، ولذلك نص الفراء على أن «تُؤويهِ» من قوله تعالى ﴿وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ﴾ [المعارج: ١٣] لا يجوز إبدالها للثقل.

فصل


قال ابن الخطيب: «يَجدْكَ» من الوجود الذي بمعنى العلم، والمفعولان منصوبان ب «وجد»، والوجود من الله العلم، والمعنى: ألم يعلمك الله يتيماً فآوى.
قال القرطبي: «يَتِيْماً» لا أب لك، قد مات أبوك، «فآوى»، أي: جعل لك مأوى تأوى إليه عند عمك أبي طالب، فكفلك.
وقيل لجعفر بن محمد الصادق: لم أوتم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أبويه؟.
فقال: لئلاَّ يكون لمخلوق عليه حق.
وعن مجاهدٍ: هو من قول العرب: درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل، فمجاز الآية ألم يجدك واحداً في شرفك، لا نظير لك، فآواك الله بأصحاب يحفظونك، ويحوطونك.

فصل في جواب سؤال


أورد ابن الخطيب هنا سؤالاً: وهو أنه كيف يحسن من الجواد أن يمن بنعمة، فيقول: ﴿ألمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى﴾، ويؤكد هذا السؤال أن الله - تعالى - حكى عن فرعون قوله لموسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً﴾ [الشعراء: ١٨] في معرض الذَّم لفرعون فما كان مذموماً من فرعون، كيف يحسن من الله تعالى؟ قال: والجواب: أن ذلك يحسن إذا قصد بذلك تقوية قلبه، ووعده بدوام النعمة، ولهذا ظهر الفرق بين هذا الامتنان، وبين امتنان فرعون، لأن امتنان فرعون معناه: فما بالك لا تخدمني، وامتنان الله تعالى: زيادة نعمه، كأنه يقول: ما لك تقطع عني رجاءك، ألست شرعت في تربيتك أتظنني تاركاً لما صنعته، بل لا بد وأ أتمّ النعمة كما قال تعالى: ﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٠].
فإن قيل: إن الله تعالى منَّ عليه بثلاثة أشياء، ثم أمره أن يذكر نعمة ربه، فما وجه المناسبة؟.
388
فالجوابُ: وجه المناسبة أن تقول: قضاء الدين واجب، والدين نوعان: مالي وإنعامي، والإنعامي أقوى وجوباً لأن المال قد يسقط بالإبراء، والإنعامي يتأكد بالإبراء، والمالي يقضى مرة فينجو منه الإنسان، والإنعامي يجب عليه قضاؤه طول عمره، فإذا تعذر قضاء النعمة القليلة من منعم، هو مملوك، فكيف حال النعمة العظيمة من المنعم المالك، فكان العبد يقول: إلهي أخرجتني من العدم، إلى الوجود بشراً مستوياً، طاهر الظاهر نجس الباطن، بشارة منك، تستر عليَّ ذنوبي بستر عفوك، كما سترت نجاستي بالجلد الظاهر، فكيف يمكنني قضاء نعمتك التي لا حصر لها، فيقول تبارك وتعالى: الطريق إلى ذلك أن تفعل في حق [عبيدي ذلك، وكنت عائلاً فأغنيتك، فافعل في حق] الأيتام ذلك ثم إذا فعلت كل ذلك، فاعلم أنما فعلته بتوفيقي، ولطفي، وإرشادي، فكن أبداً ذاكراً لهذه النعم.
قوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى﴾، أي: غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة فهداك أي: أرشدك، والضلال هنا بمعنى الغفلة، لقوله تعالى: ﴿لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى﴾ [طه: ٥٢] أي: لا يغفل، وقال في حق نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين﴾ [يوسف: ٣] وقيل: معنى قوله: «ضالاًّ» لم تكن تدري القرآن، والشرائع، فهداك اللهُ إلى القرآن، وشرائع الإسلام، قاله الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما. قال تعالى: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان﴾ [الشورى: ٥٢] على ما تقدم في سورة الشورى.
وقال السديُّ والكلبي والفراء: وجدك ضالاًّ، أي: في قوم ضلال، فهداهم الله بك، أو فهداك إلى إرشادهم.
وقيل: وجدك ضالاً عن الهجرة، فهداك وقيل: «ضالاً»، أي: ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهفِ، وذي القرنين، والروح، فأذكرك، لقوله تعالى: ﴿أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا﴾ [البقرة: ٢٨٢].
وقيل: ووجدك طالباً للقبلة فهداك إليها، لقوله تعالى: ﴿قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء﴾ [البقرة: ١٤٤]، ويكون الضلال بمعنى الطلب؛ لأن الضال طالب.
وقيل: وجدك ضائعاً في قومك، فهداك إليهم، ويكون الضلال بمعنى الضياع.
وقيل: ووجدك محباً للهداية، فهداك إليها؛ ويكون الضلال بمعنى المحبة ومنه قوله تعالى: ﴿قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم﴾ [يوسف: ٩٥]، أي: في محبتك.
قال الشاعر: [الكامل]
٥٢٤٠ - أرَانِي ولا كُفْرانَ للَّهِ أيَّةَ لنَفْسِي لقَدْ طَالبْتُ غَيْرَ مُنيلِ
389
٥٢٤١ - هَذا الضَّلالُ أشَابَ منِّي المفْرِقَا والعَارضَينِ ولَمْ أكُنْ مُتحقِّقَا
عَجَباً لعزَّة في اخْتِيَارِ قَطيعَتِي بَعْدَ الضَّلالِ فحِبْلُهَا قَدْ أخْلقَا
وقيل: ضالاً في شعاب «مكة»، فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب.
وقال كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن حليمة لما قضت حق الرضاع، جاءت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لتردهُ على عبد المطلب، فسمعت عند باب «مكة» : هنيئاً لك يا بطحاء «مكة»، اليوم يرد إليك الدين والبهاء والنور والجمالُ، قالت: فوضعته لأصلح ثيابي، فسمعت هدة شديدة فالتفت فلم أره، فقلت: معشر الناس، أين الصبي؟ فقالوا: لم نر شيئاً فصحتُ: وامحمداه، فإذا شيخ فإن يتوكأ على عصاه، فقال: اذهبي إلى الصنم الأعظم، فإن شاء أن يرده إليك فعل، ثم طاف الشيخ بالصَّنم، وقبل رأسه وقال: يا رب، لم تزل منتك على قريش، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضلّ، فرده إن شئت، فانكبّ هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام؛ وقالت: إليك عنا أيها الشيخ فهلاكُنَا على يدي محمد فألقى الشيخ عصاه وارتعد وقال: إن لابنك رباً لا يضيعه فاطلبيه على مهل، فانحشرت قريش إلى عبد المطلب، وطلبوه في جميع «مكة»، فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً، وتضرع إلى الله أن يرده؛ وقال: [الرجز]
٥٢٤٢ - يا ربِّ، رُدَّ ولَدِي مُحَمَّداً أرْدُدْهُ ربِّي واصْطَنِعْ عِنْدِي يَدَا
فسمعوا منادياً ينادي من السماء: معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد ربَّا لا يضيعه ولا يخذله، وإن محمداً بوادي «تهامة»، عند شجرة السَّمُرِ، فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل، فإذا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائم تحت شجرة يلعب بالإغصان وبالورق.
وفي رواية: فما زال عبد المطلب يردد البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين يديه، وهو يقول: ألا تدري ماذا جرى من ابنك؟.
فقال عبد المطلب: ولم؟ قال: إني أنخت الناقة، وأركبته خلفي فأبت الناقة أن تقوم، فلما أركبته أمامي قامت النَّاقة.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: رده إلى جده وبيد عدوه، كما فعل بموسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حين حفظه عند فرعون.
وقال سعيد بن جبيرٍ: خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع عمه أبي طالب في سفر، فأخذ إبليس بزمام ناقته في ليلة ظلماء فعدل بها على الطريق، فجاء جبريل - عليه السلام - فنفخ لإبليس نفخة وقع منها إلى أرض «الهند»، ورده إلى القافلة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
390
وقيل: ووجدك ضالاً ليلة المعراج حين انصرف عنك جبريل، وأنت لا تعرف الطريق، فهداك إلى ساق العرش.
وقال بعض المتكلمين: إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض، لا شجر معها، سموها ضالة، فيهتدى بها إلى الطريق، فقال تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ووجَدَكَ ضالاًّ» أي لا أحد على دينك، بل وأنت وحيد ليس معك أحد، فهديت بك الخلق إلي.
وقيل: ووجدك مغموراً في أهل الشرك، فميزك عنهم، يقال: ضل الماءُ في اللبن، ومنه ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض﴾ [السجدة: ١٠]، أي: لحقنا بالتراب عند الدَّفن، حتى كأنا لا نتميز من جملته وقيل: ضالاًّ عن معرفة الله حين كنت طفلاً صغيراً، كقوله تعالى: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾
[النحل: ٧٨] فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة، فالمراد من الضال الخالي من العلم لا الموصوف بالاعتقاد، قيل: قد يخاطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمراد قومه فقوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى﴾ أي وجد قومك ضلالاً فهداهم بك.
وقيل: إنه كان على ما كان القوم عليه لا يظهر لهم في الظاهر الحال، وأما الشرك فلا يظن به على مواسم القوم في الظاهر أربعين سنة.
وقال الكلبي والسدي أي وجدك كافراً والقوم كفاراً فهداك، وقد مضى الرد على هذا القول في سورة الشورى.
قوله: ﴿وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى﴾، العائل: الفقير، وهذه قراءة العامة يقال: عال زيد، أي: افتقر.
قال الشاعر: [الوافر]
٥٢٤٣ - ومَا يَدْري الفَقِيرُ متَى غِنَاهُ ومَا يَدْرِي الغَنِيُّ متَى يَعِيلُ
وقال جرير: [الكامل]
٥٢٤٤ - اللهُ أنْزَلَ في الكِتَابِ فَريضَةً لابْنِ السَّبِيلِ وللفَقِيرِ العَائِلِ
وقرأ اليماني: «عيِّلاً» بكسر الياء المشددة ك «سيد».
وقال ابن الخطيب: العائل ذو العيلة، ثم أطلق على الفقير لم يكن له عيال،
391
والمشهور أن المراد به الفقير، ويؤيده ما روي في مصحف عبد الله: «وَوَجَدَكَ عديماً».
وقوله تعالى: ﴿فأغنى﴾، أي: فأغناك خديجة وتربية أبي طالب، ولما اختل ذلك أغناك بمال أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة وأغناه بإعانة الأنصار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، ثم أمره بالجهاد، وأغناه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالغنائم.
[وقال مقاتل: أغناك بما أعطاك من الرزق.
وقال عطاء: وجدك فقير النفس، فأغنى قلبك، وقيل: فقيراً من الحجج والبراهين، فأغناك بها].
قوله: ﴿فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ﴾. اليتيم منصوب ب «تَقْهَرْ»، وبه استدل ابن مالك على أنه لا يلزم من تقديم المعمول تقديم العامل؛ ألا ترى أنَّ اليتيم منصوب بالمجزوم، وقد تقدم الجازم، لو قدمت المجزوم على جازمه، لامتنع، لأن المجزوم لا يتقدم على جازمه، كالمجرور لا يقدم على جاره.
وتقدَّم ذلك في سورة هود عليه السلام عند قوله تعالى: ﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ﴾ [هود: ٨].
وقرأ العامة: «تَقْهَر» بالقاف من الغلبة، وابن مسعود، والشعبي، وإبراهيم النخعي والأشهب العقيلي، «تكهر» بالكاف. كهر في وجهه: أي عبس، وفلان ذو كهرة، أي: عابس الوجه.
ومنه الحديث: «فَبِأبِي هُوَ وأمِّي فوالله ما كهرني».
قال أبو حيان: «وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور» انتهى.
والكهر في الأصل: ارتفاع النهار مع شدة الحر.
وقيل: الكهر: الغلبة، والكهر: الزجر. والمعنى: لا تسلط عليه بالظلم، بل ادفع إليه حقه، واذكر يتمكَ. قاله الأخفش.
وقال مجاهدٌ: لا تحتقر. وخص اليتيم، لأنه لا ناصر له غير الله تعالى، فغلظ في تأثير العقوبة على ظالمه، والمعنى: عامله كما عاملناك به، ونظيره:
﴿وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ﴾ [القصص: ٧٧].
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الله الله فيمَنْ لَيْسَ له إلا الله».
392

فصل


دلت الآية على اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه، قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنا وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى».
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ ضَمَّ يَتِيمَاً فَكَانَ فِي نَفَقَتِهِ وكفاهُ مؤنَتَهُ، كَانَ لَهُ حِجَابَاً مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ».
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ مَسَحَ برأسِ يَتِيمٍ كَانَ لَهُ بكُلِّ شَعْرةً حَسَنةٌ».

فصل


الحكمة في أن الله تعالى اختار لنبيه اليتم، أنه عرف حرارة اليتم، فيرفق باليتيم، وأيضاً ليشاركه في الاسم، فيكرمه لأجل ذلك، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إذَا سَمَّيْتُم الوَلَدَ مُحَمَّداً فأكْرِمُوهُ ووسِّعُوا لَهُ فِي المَجْلسِ» وأيضاً ليعتمد من أول عمره على الله تعالى، فيشبه إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في قوله: «حَسْبي مِنْ سُؤالِي، علمهُ بِحَالِي».
وأيضاً فالغالب أن اليتيم تظهر عيوبه فلما لم يجدوا فيه عيباً، لم يجدوا فيه مطعناً.
وأيضاً جعله يتيماً، ليعلم كل أحد فضيلته ابتداء من الله تعالى، لا من التعليم، لأن من له أب فإن أباه يعلمه، ويؤدبه.
وأيضاً فاليتم والفقر نقص في العادة، فكونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع هذين الوصفين من أكرم الخلق كان ذلك قلباً للعادة، فكان معجزة ظاهرة.
قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ﴾، أي: فلا تزجره، يقال: نهره، وانتهره إذا زجره، وأغلظ له في القول، ولكن يرده ردَّا جميلاً.
[قال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السؤال، يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء.
وقيل: المراد بالسائل الذي يسأل عن الدين].
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سَألتُ ربِّي مَسْألةً ودِدْتُ أنِّي لَمْ أسْألْهَا، قُلْتُ: يَا ربِّ، اتَّخذتَ إبْراهِيمَ خَلِيلاً، وكلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيماً، وسخَّرتَ مَع دَاوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ،
393
وأعطيتَ فُلاناً كَذَا فقال عَزَّ وَجَلَّ: ألَمْ أجِدْكَ يَتِيماً فَأويتك؟ أَلَمْ أَجِدْكَ ضالاً فَهَدَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَجِدكَ عائِلاً فَأَغْنَيْتُكِ؟ أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ أَلَمْ أُوتِكَ مَا لَمْ أُوتِ أَحَدَاً قبلَكَ خَوَاتِيِمَ سورةِ البقرة؟ أَلَمْ أَتَّخِذُكَ خَلِيْلاً كَمَا اتَّخَذْتُ إبراهيمَ خليلاً؟ قلت: بلى يا ربِّ».
قوله: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾. الجار متعلق ب «حدِّثْ» والفاء غير مانعة من ذلك قال مجاهدٌ: تلك النعمة هي القرآن والحديث.
وعنه أيضاً: تلك النعمة هي النبوة، أي: بلغ ما أنزل إليك من ربك قيل: تلك النعمة هي أن وفقك الله تعالى، ورعيت حق اليتيم والسائل، فحدث بها؛ ليقتدي بك غيرك.
وعن الحسين علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: إذا عملت خيراً فحدث به الثقة من إخوانك ليقتدوا بك.
إلا أنَّ هذا لا يحسن إلا إذا لم يتضمن رياء، وظن أن غيره يقتدي به.
وروى مالك بن نضلة الجشمي، قال: «كنت جالساً عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فرآني رثَّ الثياب فقال:» أَلَكَ مَالٌ «؟.
قلت: نعم، يا رسول الله، من كل المال، قال:»
إذَا آتَاكَ اللهُ مالاً فليُرَ أثرهُ عَلَيْكَ «.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
إنَّ اللهَ تعالى جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، ويُحِبُّ أنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتِهِ على عَبْدِهِ «.
فإن قيل: ما الحكمة في أن الله أخر نفسه على حق اليتيم والسائل؟.
فالجواب: كأنه سبحانه وتعالى يقول: أنا غني، وهما محتاجان، وحق المحتاج أولى بالتقديم، واختار قوله:»
فحدث «على قوله» فخبِّرْ «ليكون ذلك حديثاً عنه وينساه، ويعيده مرة أخرى.

فصل


يكبر القارىء في رواية البزي عن ابن كثير وقد رواه مجاهد عن ابن عباس وروي عن أبيّ بن كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كان إذا بلغ آخر»
الضُّحَى «كبَّر بين كلِّ سورةٍ
394
تكبيرة إلى أن يختم القرآن، ولا يصل آخر السورة بتكبيرة، بل يفصل بينهما بسكتة، وكأن المعنى في ذلك أن الوحي تأخّر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أياماً، فقال ناس من المشركين: قد ودعه صاحبه، فنزلت هذه السورة فقال:» اللهُ أكْبَرُ «.
قال مجاهد: قرأت على ابن عبّاس، فأمرني به، وأخبرني به عن أبيٍّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولا يكبر في [رواية] الباقين، لأنها ذريعة إلى الزيادة في القرآن.
قال القرطبي: القرآن ثبت نقله بالتواتر سُوَره، وآياته، وحروفه بغير زيادةٍ، ولا نقصان، وعلى هذا فالتكبير ليس بقرآن.
روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
مَنْ قَرَأَ سُورَةَ ﴿والضحى﴾ كان فيمن يرضاه الله تعالى لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشفع له، وكتب الله تعالى له من الحسنات بعدد كل يتيم وسائل «والله أعلم.
395
سورة " ألم نشرح "
396
قوله :﴿ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى ﴾، أي : غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة فهداك أي : أرشدك، والضلال هنا بمعنى الغفلة، لقوله تعالى :﴿ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى ﴾ [ طه : ٥٢ ] أي : لا يغفل، وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين ﴾ [ يوسف : ٣ ] وقيل : معنى قوله :«ضالاًّ » لم تكن تدري القرآن، والشرائع، فهداك اللهُ إلى القرآن، وشرائع الإسلام، قاله الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما. قال تعالى :﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] على ما تقدم في سورة الشورى.
وقال السديُّ والكلبي والفراء : وجدك ضالاًّ، أي : في قوم ضلال، فهداهم الله بك، أو فهداك إلى إرشادهم١.
وقيل : وجدك ضالاً عن الهجرة، فهداك وقيل :«ضالاً »، أي : ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهفِ، وذي القرنين، والروح، فأذكرك، لقوله تعالى :﴿ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ].
وقيل : ووجدك طالباً للقبلة فهداك إليها، لقوله تعالى :﴿ قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ]، ويكون الضلال بمعنى الطلب ؛ لأن الضال طالب.
وقيل : وجدك ضائعاً في قومك، فهداك إليهم، ويكون الضلال بمعنى الضياع.
وقيل : ووجدك محباً للهداية، فهداك إليها ؛ ويكون الضلال بمعنى المحبة ومنه قوله تعالى :﴿ قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم ﴾ [ يوسف : ٩٥ ]، أي : في محبتك.
قال الشاعر :[ الكامل ]
٥٢٤١- هَذا الضَّلالُ أشَابَ منِّي المفْرِقَا والعَارضَينِ ولَمْ أكُنْ مُتحقِّقَا
عَجَباً لعزَّة في اخْتِيَارِ قَطيعَتِي*** بَعْدَ الضَّلالِ فحِبْلُهَا قَدْ أخْلقَا٢
وقيل : ضالاً في شعاب «مكة »، فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب.
وقال كعب - رضي الله عنه - : إن حليمة لما قضت حق الرضاع، جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتردهُ على عبد المطلب، فسمعت عند باب «مكة » : هنيئاً لك يا بطحاء «مكة »، اليوم يرد إليك الدين والبهاء والنور والجمالُ، قالت : فوضعته لأصلح ثيابي٣، فسمعت هدة شديدة فالتفت فلم أره، فقلت : معشر الناس، أين الصبي ؟ فقالوا : لم نر شيئاً فصحتُ : وامحمداه، فإذا شيخ فإن يتوكأ على عصاه، فقال : اذهبي إلى الصنم الأعظم، فإن شاء أن يرده إليك فعل، ثم طاف الشيخ بالصَّنم، وقبل رأسه وقال : يا رب، لم تزل منتك على قريش، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضلّ، فرده إن شئت، فانكبّ هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام ؛ وقالت : إليك عنا أيها الشيخ فهلاكُنَا على يدي محمد فألقى الشيخ عصاه وارتعد وقال : إن لابنك رباً لا يضيعه فاطلبيه على مهل، فانحشرت قريش إلى عبد المطلب، وطلبوه في جميع «مكة »، فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً، وتضرع إلى الله أن يرده ؛ وقال :[ الرجز ]
٥٢٤٢- يا ربِّ، رُدَّ ولَدِي مُحَمَّداً أرْدُدْهُ ربِّي واصْطَنِعْ عِنْدِي يَدَا٤
فسمعوا منادياً ينادي من السماء : معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد ربَّا لا يضيعه ولا يخذله، وإن محمداً بوادي «تهامة »، عند شجرة السَّمُرِ، فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالإغصان وبالورق٥.
وفي رواية : فما زال عبد المطلب يردد البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة، ومحمد صلى الله عليه وسلم بين يديه، وهو يقول : ألا تدري ماذا جرى من ابنك ؟.
فقال عبد المطلب : ولم ؟ قال : إني أنخت الناقة، وأركبته خلفي فأبت الناقة أن تقوم، فلما أركبته أمامي قامت النَّاقة.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : رده إلى جده وبيد عدوه، كما فعل بموسى - عليه الصلاة والسلام - حين حفظه عند فرعون٦.
وقال سعيد بن جبيرٍ : خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في سفر، فأخذ إبليس بزمام ناقته في ليلة ظلماء فعدل بها على الطريق، فجاء جبريل - عليه السلام - فنفخ لإبليس نفخة وقع منها إلى أرض «الهند »، ورده إلى القافلة صلى الله عليه وسلم٧.
وقيل : ووجدك ضالاً ليلة المعراج حين انصرف عنك جبريل، وأنت لا تعرف الطريق، فهداك إلى ساق العرش.
وقال بعض المتكلمين : إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض، لا شجر معها، سموها ضالة، فيهتدى بها إلى الطريق، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :«ووجَدَكَ ضالاًّ » أي لا أحد على دينك، بل وأنت وحيد ليس معك أحد، فهديت بك الخلق إلي.
وقيل : ووجدك مغموراً في أهل الشرك، فميزك عنهم، يقال : ضل الماءُ في اللبن، ومنه ﴿ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض ﴾ [ السجدة : ١٠ ]، أي : لحقنا بالتراب عند الدَّفن، حتى كأنا لا نتميز من جملته وقيل : ضالاًّ عن معرفة الله حين كنت طفلاً صغيراً، كقوله تعالى :﴿ والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ [ النحل : ٧٨ ] فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة، فالمراد من الضال الخالي من العلم لا الموصوف بالاعتقاد، قيل : قد يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد قومه فقوله تعالى :﴿ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى ﴾ أي وجد قومك ضلالاً فهداهم بك.
وقيل : إنه كان على ما كان القوم عليه لا يظهر لهم في الظاهر الحال، وأما الشرك فلا يظن به على مواسم القوم في الظاهر أربعين سنة.
وقال الكلبي والسدي أي وجدك كافراً والقوم كفاراً فهداك، وقد مضى الرد على هذا القول في سورة الشورى.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٦٥)..
٢ ينظر القرطبي ٢٠/٦٦..
٣ في أ: شأني..
٤ البيت لعبد المطلب بن هاشم ينظر القرطبي ٢٠/٦٦، والفخر الرازي ٣١/٢١٧..
٥ ينظر القرطبي ٢٠/٦٥..
٦ ينظر المصدر السابق..
٧ ينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى ﴾، العائل : الفقير، وهذه قراءة العامة يقال : عال زيد، أي : افتقر.
قال الشاعر :[ الوافر ]
٥٢٤٣- ومَا يَدْري الفَقِيرُ متَى غِنَاهُ ومَا يَدْرِي الغَنِيُّ متَى يَعِيلُ١
وقال جرير :[ الكامل ]
٥٢٤٤- اللهُ أنْزَلَ في الكِتَابِ فَريضَةً لابْنِ السَّبِيلِ وللفَقِيرِ العَائِلِ٢
وقرأ اليماني٣ :«عيِّلاً » بكسر الياء المشددة ك «سيد ».
وقال ابن الخطيب٤ : العائل ذو العيلة، ثم أطلق على الفقير لم يكن له عيال، والمشهور أن المراد به الفقير، ويؤيده ما روي٥ في مصحف عبد الله :«وَوَجَدَكَ عديماً ».
وقوله تعالى :﴿ فأغنى ﴾، أي : فأغناك خديجة وتربية أبي طالب، ولما اختل ذلك أغناك بمال أبي بكر - رضي الله عنه -، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة وأغناه بإعانة الأنصار - رضي الله عنهم -، ثم أمره بالجهاد، وأغناه صلى الله عليه وسلم بالغنائم.
[ وقال مقاتل : أغناك بما أعطاك من الرزق٦.
وقال عطاء : وجدك فقير النفس، فأغنى قلبك، وقيل : فقيراً من الحجج والبراهين، فأغناك بها٧ ]٨.
١ البيت لأحيحة بن الجلاح، ينظر مجاز القرآن ١/٢٥٥، واللسان (عيل)، والطبري ٣٠/١٤٩، والقرطبي ٢٠/٦٧، ومجمع البيان ١٠/٧٦٣، والبحر ٨/٤٨٢، والدر المصون ٦/٥٣٩، وفتح القدير ٥/٤٥٨..
٢ ينظر ديوانه ص ٥٠٣، والقرطبي ٢٠/٩٧، والبحر ٨/٤٨١، والدر المصون ٦/٥٣٩..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٩٤، والبحر المحيط ٨/٤٨١، والدر المصون ٦/٥٣٩..
٤ الفخر الرازي ٣١/١٩٧..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٥٩٥..
٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٦٧)..
٧ ينظر: المصدر السابق..
٨ سقط من: ب..
قوله :﴿ فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ ﴾. اليتيم منصوب ب «تَقْهَرْ »، وبه استدل ابن مالك على أنه لا يلزم من تقديم المعمول تقديم العامل ؛ ألا ترى أنَّ اليتيم منصوب بالمجزوم، وقد تقدم الجازم، لو قدمت المجزوم على جازمه، لامتنع، لأن المجزوم لا يتقدم على جازمه، كالمجرور لا يقدم على جاره.
وتقدَّم ذلك في سورة هود عليه السلام عند قوله تعالى :﴿ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ﴾ [ هود : ٨ ].
وقرأ العامة :«تَقْهَر » بالقاف من الغلبة، وابن مسعود، والشعبي، وإبراهيم النخعي والأشهب العقيلي، «تكهر » بالكاف. كهر في وجهه : أي عبس، وفلان ذو كهرة، أي : عابس الوجه.
ومنه الحديث :«فَبِأبِي هُوَ وأمِّي فوالله ما كهرني ».
قال أبو حيان١ :«وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور » انتهى.
والكهر في الأصل : ارتفاع النهار مع شدة الحر.
وقيل : الكهر : الغلبة، والكهر : الزجر. والمعنى : لا تسلط عليه بالظلم، بل ادفع إليه حقه، واذكر يتمكَ. قاله الأخفش.
وقال مجاهدٌ : لا تحتقر. وخص اليتيم، لأنه لا ناصر له غير الله تعالى، فغلظ في تأثير العقوبة على ظالمه، والمعنى : عامله كما عاملناك به، ونظيره :﴿ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ ﴾ [ القصص : ٧٧ ].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الله الله فيمَنْ لَيْسَ له إلا الله ».

فصل


دلت الآية على اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه، قال قتادة : كن لليتيم كالأب الرحيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أنا وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى »٢.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«مَنْ ضَمَّ يَتِيمَاً فَكَانَ فِي نَفَقَتِهِ وكفاهُ مؤنَتَهُ، كَانَ لَهُ حِجَابَاً مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ »٣.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :«مَنْ مَسَحَ برأسِ يَتِيمٍ كَانَ لَهُ بكُلِّ شَعْرةً حَسَنةٌ »٤.

فصل


الحكمة في أن الله تعالى اختار لنبيه اليتم، أنه عرف حرارة اليتم، فيرفق باليتيم، وأيضاً ليشاركه في الاسم، فيكرمه لأجل ذلك، لقوله - عليه الصلاة والسلام - :«إذَا سَمَّيْتُم الوَلَدَ مُحَمَّداً فأكْرِمُوهُ ووسِّعُوا لَهُ فِي المَجْلسِ » وأيضاً ليعتمد من أول عمره على الله تعالى، فيشبه إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في قوله :«حَسْبي مِنْ سُؤالِي، علمهُ بِحَالِي ».
وأيضاً فالغالب أن اليتيم تظهر عيوبه فلما لم يجدوا فيه عيباً، لم يجدوا فيه مطعناً.
وأيضاً جعله يتيماً، ليعلم كل أحد فضيلته ابتداء من الله تعالى، لا من التعليم، لأن من له أب فإن أباه يعلمه، ويؤدبه.
وأيضاً فاليتم والفقر نقص في العادة، فكونه صلى الله عليه وسلم مع هذين الوصفين من أكرم الخلق كان ذلك قلباً للعادة، فكان معجزة ظاهرة.
١ ينظر: الكشاف ٤/٧٦٨، والمحرر الوجيز ٥/٤٩٥، والبحر المحيط ٨/٤٨٢، والدر المصون ٦/٥٣٩..
٢ تقدم تخريجه..
٣ أخرجه ابن عدي في "الكامل" (٣/١٠٩٧)..
٤ أخرجه الطبراني في "الكبير" (٨/٢٣٩) وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (١/٢٠٨، ٢٩٦)..
قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ ﴾، أي : فلا تزجره، يقال : نهره، وانتهره إذا زجره، وأغلظ له في القول، ولكن يرده ردَّا جميلاً.
[ قال إبراهيم بن أدهم : نعم القوم السؤال، يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي : السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول : هل تبعثون إلى أهليكم بشيء.
وقيل : المراد بالسائل الذي يسأل عن الدين ]١.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«سَألتُ ربِّي مَسْألةً ودِدْتُ أنِّي لَمْ أسْألْهَا، قُلْتُ : يَا ربِّ، اتَّخذتَ إبْراهِيمَ خَلِيلاً، وكلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيماً، وسخَّرتَ مَع دَاوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ، وأعطيتَ فُلاناً كَذَا فقال عز وجل : ألَمْ أجِدْكَ يَتِيماً فَأويتك ؟ أَلَمْ أَجِدْكَ ضالاً فَهَدَيْتُكَ ؟ أَلَمْ أَجِدكَ عائِلاً فَأَغْنَيْتُكِ ؟ أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ؟ أَلَمْ أُوتِكَ مَا لَمْ أُوتِ أَحَدَاً قبلَكَ خَوَاتِيِمَ سورةِ البقرة ؟ أَلَمْ أَتَّخِذُكَ خَلِيْلاً كَمَا اتَّخَذْتُ إبراهيمَ خليلاً ؟ قلت : بلى يا ربِّ »٢.
١ سقط من: ب..
٢ أخرجه الطبراني في "الكبير" (١١/٤٥٥) والبيهقي في "دلائل النبوة (٧/٦٣) عن ابن عباس.
وقال الهيثمي في "المجمع" (٨/٢٥٦): رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦١١) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي نعيم في "الدلائل" وابن مردويه وابن عساكر..

قوله :﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾. الجار متعلق ب «حدِّثْ » والفاء غير مانعة من ذلك قال مجاهدٌ : تلك النعمة هي القرآن والحديث١.
وعنه أيضاً : تلك النعمة هي النبوة، أي : بلغ ما أنزل إليك من ربك قيل : تلك النعمة هي أن وفقك الله تعالى، ورعيت حق اليتيم والسائل، فحدث بها ؛ ليقتدي بك غيرك.
وعن الحسين علي - رضي الله عنهما - قال : إذا عملت خيراً فحدث به الثقة من إخوانك ليقتدوا بك٢. إلا أنَّ هذا لا يحسن إلا إذا لم يتضمن رياء، وظن أن غيره يقتدي به.
وروى مالك بن نضلة الجشمي، قال :«كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآني رثَّ الثياب فقال :«أَلَكَ مَالٌ » ؟.
قلت : نعم، يا رسول الله، من كل المال، قال :«إذَا آتَاكَ اللهُ مالاً فليُرَ أثرهُ عَلَيْكَ ».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إنَّ اللهَ تعالى جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، ويُحِبُّ أنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتِهِ على عَبْدِه »ِ٣.
فإن قيل : ما الحكمة في أن الله أخر نفسه على حق اليتيم والسائل ؟.
فالجواب : كأنه سبحانه وتعالى يقول : أنا غني، وهما محتاجان، وحق المحتاج أولى بالتقديم، واختار قوله :«فحدث » على قوله «فخبِّر »ْ ليكون ذلك حديثاً عنه وينساه، ويعيده مرة أخرى
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦١٢) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦١٢) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن الحسن..
٣ تقدم..
Icon