تفسير سورة الضحى

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الضحى من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

نعم اللَّه تعالى على النبي محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم
[سورة الضحى (٩٣) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)
الإعراب:
وَالضُّحى قسم، وجواب القسم: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى والتوديع: مبالغة في الودع لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك. وقرئ: وَدَّعَكَ أي تركك. وما قَلى أي ما قلاك أي ما أبغضك، فحذف الكاف وهي مفعول، كما حذف الكاف التي هي المفعول من قوله: فَآوى أي فآواك، وفي قوله: فَأَغْنى أي فأغناك، والحذف للتخفيف كثير.
وهنا حذفت المفاعيل رعاية للفواصل.
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ دخلت اللام على «سوف» دون السين لأن «سوف» أشبهت الاسم لأنها على ثلاثة أحرف. ولما دخلت اللام عليها علم أنها لام قسم، لا لام ابتداء، لأن لام الابتداء لا تدخل على «سوف». ويُعْطِيكَ فعل متعد إلى مفعولين، وحذف هنا أحدهما، وتقديره: ولسوف يعطيك ربك ما تريده، فترضى. وهو من الأفعال التي يجوز الاقتصار فيها على أحد المفعولين دون الآخرة، فيجوز أن تقول في (أعطيت زيدا درهما) :(أعطيت زيدا).
فَأَمَّا الْيَتِيمَ وَأَمَّا السَّائِلَ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ الْيَتِيمَ مفعول تَقْهَرْ، والسَّائِلَ مفعول تَنْهَرْ، والباء في بِنِعْمَةِ تتعلق ب فَحَدِّثْ والفاء في فَلا تَقْهَرْ، وفَلا تَنْهَرْ، وفَحَدِّثْ جواب أَمَّا في هذه المواضع لأن فيها معنى الشرط.
البلاغة:
لَلْآخِرَةُ والْأُولى بينهما طباق أي بين الآخرة والدنيا.
281
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى مقابلة بينها وبين فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ.
تَقْهَرْ وتَنْهَرْ جناس ناقص لتغير الحرف الثاني من الكلمة.
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى سجع مرصّع: وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
وَالضُّحى وقت ارتفاع الشمس أول النهار. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى سكن وغطى بظلامه الأشياء. وإنما قدم ذكر الليل في السورة السابقة، وأخره في هذه السورة، للتنويه بفضيلة كل واحد من الليل والنهار، فالليل له فضيلة السبق، وللنهار فضيلة النور، فيقدم هذا تارة، وهذا تارة أخرى. وإنما حلف بالضحى والليل فقط للتنويه بقيمة الزمان الذي يدل عليه مرور النهار والليل. وخص وقت الضحى بالذكر لأنه وقت اجتماع الناس، وكمال الأنس بعد وحشة زمان الليل. وذكر الضحى وهو ساعة من النهار، وذكر الليل كله إشارة إلى أن ساعة من النهار في الإنتاج توازي جميع الليل، كما أن محمدا إذا قورن بغيره يوازي جميع الأنبياء «١».
ما وَدَّعَكَ ما قطعك أو فارقك قطع المودّع أو مفارقته، وقرئ وَدَّعَكَ بالتخفيف، أي تركك. وهو جواب القسم. وَما قَلى ما أبغضك ربك، والقلى: شدة الكره، وقد نزل هذا لما قال الكفار عند تأخر الوحي عنه خمسة عشر يوما: إن ربه ودعه وقلاه.
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى لما فيها من الكرامات، ولأنها باقية خالصة عن الشوائب، والدنيا فانية مشوبة بالمضارّ. وهذا تنويه بقدر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإعداده للنبوة، ومواصلته بالوحي والكرامة في الدنيا، والإخبار بعلو منزلته في الآخرة، فإنه لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال.
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى يعطيك ربك في الآخرة من الخيرات عطاء جزيلا، فترضى به، وهو وعد شامل بالعطاء الجزيل، ومنه الشفاعة العظمى،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه الخطيب في تلخيص المتشابه: «إذن لا أرضى، وواحد من أمتي في النار».
وهذا تمام جواب القسم بمثبتين بعد منفيين.
أَلَمْ يَجِدْكَ استفهام تقرير، أي وجدك يَتِيماً بفقد أبيك قبل ولادتك أو بعدها.
فَآوى ضمك إلى عمك أبي طالب. وهذا وما بعده تعداد لما أنعم اللَّه به على نبيه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، تنبيها على أنه كما أحسن إليه فيما مضى، يحسن إليه فيما يستقبل. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى لا يمكن حمل الضلال هنا على ما يقابل الهدى لأن الأنبياء معصومون من ذلك، قال العلماء: إنه ما كفر
(١) تفسير الرازي: ٣١/ ٢٠٧- ٢٠٨
282
باللَّه طرفة عين، وإنما المراد بالضلال: الخطأ في معرفة أحكام الشرائع، فهداه إلى مناهجها وكيفياتها. والمراد: الحيدة عن معالم الشريعة الحنيفية، كقوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى ٤٢/ ٥٢].
عائِلًا فقيرا. فَأَغْنى بالقناعة بربح التجارة وغيرها، جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس». فَلا تَقْهَرْ فلا تستذله وتستضعفه بأخذ ماله أو بتسخيره ونحو ذلك. فَلا تَنْهَرْ تزجره لفقره. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي نعمته عليك بالنبوة وغيرها. فَحَدِّثْ أخبر واشكر مولاك
سبب النزول:
نزول الآية (١) وما بعدها:
أخرج الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة، فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل اللَّه: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ، وَما قَلى.
وأخرج سعيد بن منصور والفريابي عن جندب قال: أبطأ جبريل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال المشركون: قد ودّع محمد، فنزلت.
وأخرج الحاكم عن زيد بن أرقم قال: مكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أياما لا ينزل عليه جبريل، فقالت أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى صاحبك إلا قد ودّعك وقلاك، فأنزل اللَّه: وَالضُّحى.. الآيات.
وأخرج ابن جرير عن عبد اللَّه بن شداد: أن خديجة قالت للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ما أرى ربك إلا قد قلاك، فنزلت. والخبر مرسل، ورواته ثقات. قال الحافظ ابن حجر: فالذي يظهر أن كلا من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل قالته شماتة، وخديجة قالته توجعا.
والخلاصة: أبطأ جبريل عليه السلام على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال المشركون:
قلاه اللَّه وودّعه فنزلت الآية.
283
نزول الآية (٤) :
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ..:
أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «عرض عليّ ما هو مفتوح لأمتي بعدي، فسرّني» فأنزل اللَّه: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى
وإسناده حسن.
نزول الآية (٥) :
أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: عرض على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما هو مفتوح على أمته كفرا كفرا- أي قرية قرية- فسرّ به، فأنزل اللَّه: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى.
التفسير والبيان:
وَالضُّحى، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى أي قسما بالضحى: وقت ارتفاع الشمس أول النهار، والمراد به النهار، لمقابلته بالليل، وبالليل إذا سكن وغطى بظلمته النهار مثلما يسجّى الرجل بالثوب، ما قطعك ربك قطع المودّع، وما تركك، ولم يقطع عنك الوحي، وما أبغضك وما كرهك، كما يزعم بعضهم أو تتوهم في نفسك. وهذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند اللَّه إذ لو كان من عنده لما توقف.
ثم بشره بأن مستقبله أفضل من ماضيه، فقال:
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أي وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار، إذا فرض انقطاع الوحي وحصل الموت، وكذلك فإن أحوالك الآتية خير لك من الماضية، وأن كل يوم تزداد عزا إلى عز، ومنصبا إلى منصب، فلا تظن أني قليتك، بل تكون كل يوم يأتي أسمى وأرفع، فإني أزيدك رفعة وسموا، وإن شرف الدنيا يصغر عنده كل شرف، ويتضاءل بالنسبة إليه كل مكرمة في الدنيا.
284
أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود قال: اضطجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على حصير، فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه، وقلت: يا رسول اللَّه، ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب، ظلّ تحت شجرة، ثم راح وتركها».
وبشره بعطاء جزيل فقال:
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أي ولسوف يمنحك ربك عطاء جزيلا ونعمة كبيرة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو الفتح في الدين، وأما في الآخرة فهو الثواب والحوض والشفاعة لأمتك، فترضى به. وهذا دليل على تحقيق العلو والسمو في الدارين، فيعلو دينه على كل الأديان، ويرتفع قدره على جميع الأنبياء والناس بالشفاعة العظمى يوم العرض الأكبر يوم القيامة. وإنما أتى بحرف التوكيد والتأخير، ليفيد بأن العطاء كائن لا محالة، وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة.
ثم عدد اللَّه تعالى نعمه على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل إرساله، وكأنه قال: ما تركناك وما قليناك قبل أن اخترناك واصطفيناك، فتظن أنا بعد الرسالة نهجرك ونخذلك، فقال:
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى أي ألم يجدك ربك يتيما لا أب لك، فجعل لك مأوى تأوي إليه، وهو بيت جدك عبد المطلب وعمك أبي طالب، فإنه فقد أباه وهو في بطن أمه، أو بعد ولادته، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب، وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب، إلى أن توفي، وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، ثم لم يزل يحوطه وينصره بعد أن ابتعثه اللَّه على رأس أربعين سنة.
285
ووجدك غافلا عن أحكام الشرائع حائرا في معرفة أصح العقائد، فهداك لذلك، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا الآية [الشورى ٤٢/ ٥٢].
ووجدك فقيرا ذا عيال لا مال لك، فأغناك بربح التجارة في مال خديجة، وبما منحك اللَّه من البركة والقناعة،
أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس».
وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه اللَّه بما آتاه».
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى قال: كانت هذه منازل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل أن يبعثه اللَّه عز وجل.
ثم أمره ربه ببعض الأخلاق الاجتماعية وبشكره على هذه النعم، فقال:
١- فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أي كما كنت يتيما فآواك اللَّه، فلا تستذل اليتيم وتهنه وتتسلط عليه بالظلم لضعفه، بل أدّه حقه، وأحسن إليه، وتلطف به، واذكر يتمك. لذا كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحسن إلى اليتيم ويبره ويوصي باليتامى خيرا.
٢- وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أي وكما كنت ضالا، فهداك اللَّه، فلا تنهر السائل المسترشد في العلم، وطلب المال، ولا تزجره، بل أجبه أورد عليه ردا جميلا.
٣- وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أي تحدث بنعمة ربك عليك، واشكر هذه النعمة وهي النبوة والقرآن، وما ذكر في الآيات، والتحدث بنعمة اللَّه
286
شكر، فكما كنت عائلا فقيرا، فأغناك اللَّه، فتحدث بنعمة اللَّه عليك، كما
جاء في الدعاء النبوي المأثور: «واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين عليها، قابليها، وأتمها علينا».
وأخرج أبو داود والترمذي وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا يشكر اللَّه من لا يشكر الناس».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- أقسم اللَّه بالضحى، أي بالنهار، وبالليل إذا سكن، على أنه ما ترك نبيه وما أبغضه منذ أحبه. قال ابن جريج: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما. وقيل: خمسة وعشرين يوما. وقال مقاتل: أربعين يوما.
قال الرازي: هذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند اللَّه، إذ لو كان من عنده لما امتنع «١». كما تقدم.
٢- بشر اللَّه نبيه ببشارتين عظيمتين: الأولى- أنه جعل أحواله الآتية خيرا له من الماضية، ووعده بأنه سيزيده كل يوم عزا إلى عز، وجعل ما عنده في الآخرة حين مرجعه إليه، خيرا له مما عجل له من الكرامة في الدنيا.
والثانية- أنه سيعطيه غاية ما يتمناه ويرتضيه في الدنيا بالنصر والتفوق وغلبة دينه على الأديان كلها، وفي الآخرة بالثواب والحوض والشفاعة.
روى الخطيب أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لما نزلت هذه الآية: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قال: «إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار»
، كما تقدم.
(١) تفسير الرازي: ٣١/ ٢١٠
287
والخلاصة: آية وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ... عدة كريمة شاملة لما أعطاه اللَّه عز وجل في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين، وظهور الأمر وإعلاء الدين بالفتوحات وانتشار الدعوة في المشارق والمغارب، ولما ادخر له عليه السلام في الآخرة من الكرامات التي لا يعلمها إلا هو عز وجل.
وورد في صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تلا قول اللَّه عز وجل في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [إبراهيم ١٤/ ٣٦] وقول عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة ٥/ ١١٨] فرفع يديه، وقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله، فأخبره صلّى اللَّه عليه وسلّم بما قال، وهو أعلم فقال اللَّه: يا جبريل اذهب إلى محمد، فقال: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك».
٣- عدد اللَّه تعالى نعمه ومننه على نبيه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذكر منها في السورة ثلاثا هي الإيواء بعد اليتم، والهدى بعد الغفلة، والإغناء بعد الفقر.
أما الإيواء فقد تكفله بعد موت أبيه وأمه جده عبد المطلب، ثم عمه أبو طالب فكفله وآزره، ودفع عنه الأذى.
وأما الهدى فهو بيان القرآن والشرائع، فهداه اللَّه إلى أحكام القرآن وشرائع الإسلام، بعد الجهل بها والغفلة عنها. وليس معنى الضلالة الكفر أو كونه على دين قومه لأن الأنبياء معصومون عن ذلك. واتفق جمهور العلماء على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما كفر باللَّه لحظة واحدة. وقالت المعتزلة: هذا غير جائز عقلا، لما فيه من التنفير.
288
وأما الإغناء فهو الإمداد بالفضل والمال والرزق بالتجارة في مال خديجة رضي اللَّه عنها. وفي زمان الرسالة أغناه بمال أبي بكر، ثم بمال الأنصار بعد الهجرة، ثم بالغنيمة.
والحكمة في اختيار اليتم له: أن يعرف قدر اليتامى، ويقوم بحقهم وصلاح أمرهم. ثم إن اليتم والفقر نقص في حق الناس عادة، فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام نبيا ورسولا، وأكرم الخلق، مع هذين الوصفين، كان ذلك قلبا للعادة، فكان من جنس المعجزات.
٤- أدّب اللَّه نبيه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يتعامل مع الخلق مثل معاملة اللَّه معه، فأمره بألا يظلم اليتيم، ويدفع إليه حقه، ويذكر أنه كان يتيما مثله. ودلت الآية على طلب اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه، حتى قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم.
وروي عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قسوة قلبه، فقال: «إن أردت أن يلين، فامسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين»
وفي الصحيح الذي رواه البخاري وأحمد وغيرهما عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى.
ونهى اللَّه تعالى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن زجر السائل وعن إغلاظ القول له، وأمره بأن يردّه ببذل يسير، أو ردّ جميل، وأن يتذكر فقره.
روي عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا يمنعن أحدكم السائل، وأن يعطيه إذا سأل، ولو رأى في يده قلبين «١» من ذهب».
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أيضا: «ردّوا السائل ببذل يسير، أو ردّ جميل، فإنه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن، ينظر كيف صنيعكم فيما خوّلكم اللَّه» «٢».
(١) القلب: السوار.
(٢) تفسير القرطبي: ٢٠/ ١٠١
289
وأمر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بشكر نعمة اللَّه عليه وهي النبوة والرسالة، وإنزال القرآن الكريم عليه. ويكون الشكر بنشر ما أنعم اللَّه عليه، والتحدث بنعم اللَّه، والاعتراف بها شكر لها.
ويلاحظ أنه تعالى نهاه عن شيئين وأمره بواحد: نهاه عن قهر اليتيم جزاء لما أنعم به عليه في قوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. ونهاه عن نهر السائل في مقابلة قوله: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى. وأمره بتحديث نعمة ربه، وهو في مقابلة قوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى.
قال العلماء المحققون: التحديث بنعم اللَّه تعالى جائز مطلقا، بل مندوب إليه إذا كان الغرض أن يقتدي به غيره، أو أن يشيع شكر ربه بلسانه، وإذا لم يأمن على نفسه الفتنة والإعجاب، فالستر أفضل.
وإنما أخر التحديث تقديما لمصلحة المخلوقات على حق اللَّه لأن اللَّه غني وهم المحتاجون، ولهذا رضي لنفسه بالقول فقط.
وروي عن الشافعي أنه رأى التكبير سنة في خاتمة وَالضُّحى إلى آخر القرآن لأنه حين انقطع الوحي كما تقدم، وأنزلت السورة،
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «اللَّه أكبر» تصديقا لما أتى به القرآن.
وهذا التكبير ليس بقرآن لأنه لم ينقل كالقرآن نقلا متواترا بسورة وآياته وحروفه، دون زيادة ولا نقصان. وقال العلماء: لا نقول: إنه لا بد لمن ختم أن يفعله، ولكنه من فعل فقد أحسن، ومن ترك فلا حرج.
ولفظ التكبير إما بأن يقول: «اللَّه أكبر» أو يقول: «لا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر».
290

بسم الله الرحمن الرحيم

الشرح، أو: الانشراح
مكيّة، وهي ثماني آيات.
تسميتها:
سميت سورة الشرح أو الانشراح أو أَلَمْ نَشْرَحْ لافتتاحها بالخبر عن شرح صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم أي تنويره بالهدى والإيمان والحكمة، وجعله فسيحا رحيبا واسعا، كقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ، يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام ٦/ ١٢٥].
مناسبتها لما قبلها:
هي شديدة الاتصال بسورة الضحى، لتناسبهما في الجمل والموضوع لأن فيهما تعداد نعم اللَّه تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلّم، مع تطمينه وحثه على العمل والشكر، حيث قال في السورة السابقة: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى.. وأضاف هنا وعطف: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ...
ولهذا ذهب بعض السلف إلى أنهما سورة واحدة بلا بسملة بينهما، والأصح المتواتر كونهما سورتين، وإن اتصلتا معنى.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسابقتها الحديث عن شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم وما أمده اللَّه به من نعم عظيمة، تستحق الحمد والشكر.
291
Icon