تفسير سورة سورة الضحى من كتاب أضواء البيان
المعروف بـأضواء البيان
.
لمؤلفه
محمد الأمين الشنقيطي
.
المتوفي سنة 1393 هـ
ﰡ
ﮉ
ﰀ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
سُورَةُ الضُّحَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى
تَقَدَّمَ مَعْنَى الضُّحَى فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا النَّهَارُ كُلُّهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [٧ ٩٧ - ٩٨]، وَقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى قِيلَ: أَقْبَلَ، وَقِيلَ: شِدَّةُ ظَلَامِهِ، وَقِيلَ: غَطَّى، وَقِيلَ: سَكَنَ.
وَاخْتَارَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ مَعْنَى: سَكَنَ.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ سَكَنَ بِأَهْلِهِ، وَثَبَتَ بِظَلَامِهِ، قَالَ: كَمَا يُقَالُ: بَحْرٌ سَاجٍ، إِذَا كَانَ سَاكِنًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
وَقَوْلُ الرَّاجِزِ:
وَأَنْشَدَهُمَا الْقُرْطُبِيُّ، وَذَكَرَ قَوْلَ جَرِيرٍ:
أَقْسَمَ تَعَالَى بِالضُّحَى وَاللَّيْلِ هُنَا فَقَطْ ; لِمُنَاسَبَتِهَا لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُمَا طَرَفَا الزَّمَنِ وَظَرْفَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ مُؤَانِسًا: «مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى»، لَا فِي لَيْلٍ وَلَا فِي نَهَارٍ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ، قُرِئَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ تَوْدِيعِ الْمُفَارِقِ. وَقُرِئَ: «مَا
سُورَةُ الضُّحَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى
تَقَدَّمَ مَعْنَى الضُّحَى فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا النَّهَارُ كُلُّهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [٧ ٩٧ - ٩٨]، وَقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى قِيلَ: أَقْبَلَ، وَقِيلَ: شِدَّةُ ظَلَامِهِ، وَقِيلَ: غَطَّى، وَقِيلَ: سَكَنَ.
وَاخْتَارَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ مَعْنَى: سَكَنَ.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ سَكَنَ بِأَهْلِهِ، وَثَبَتَ بِظَلَامِهِ، قَالَ: كَمَا يُقَالُ: بَحْرٌ سَاجٍ، إِذَا كَانَ سَاكِنًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
فَمَا ذَنْبُنَا إِنْ جَاشَ بَحْرُ ابْنِ عَمِّكُمْ | وَبَحْرُكَ سَاجٍ مَا يُوَارِي الدَّعَامِصَا |
يَا حَبَّذَا الْقَمْرَاءُ وَاللَّيْلُ السَّاجُ | وَطَرْقٌ مِثْلُ مُلَاءِ النَّسَّاجِ |
وَلَقَدْ رَمَيْتُكِ يَوْمَ رُحْنَ بِأَعْيُنٍ | يَنْظُرْنَ مِنْ خَلَلِ السُّتُورِ سَوَاجِ |
وَقَوْلُهُ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ، قُرِئَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ تَوْدِيعِ الْمُفَارِقِ. وَقُرِئَ: «مَا
554
وَدَعَكَ»، بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْوَدْعِ، أَيْ: مِنَ التَّرْكِ، كَمَا قَالَ أَبُو الْأُسُودِ:
أَيْ تَرَكَهُ، وَقَوْلُ الْآخَرِ:
أَيْ تَرَكُوهُمْ فَرَائِسَ السُّيُوفِ.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَالتَّوْدِيعُ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَدْعِ ; لِأَنَّ مَنْ وَدَّعَكَ مُفَارِقًا، فَقَدْ بَالَغَ فِي تَرْكِكَ. اهـ.
وَالْقِرَاءَةُ الْأَوْلَى أَشْهَرُ وَأَوْلَى ; لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ وَدَّعَ بِمَعْنَى تَرَكَ قَلِيلٌ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ: وَدَعَ وَلَا وَذَرَ ; لِضَعْفِ الْوَاوِ إِذَا قُدِّمَتْ وَاسْتَغْنَوْا عَنْهَا بِتَرَكَ، وَيَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْمُبَرِّدِ سُقُوطُ الْوَاوِ فِي الْمُضَارِعِ، فَتَقُولُ فِي مُضَارِعِ وَدَعَ يَدَعُ كَيَزِنُ وَيَهَبُ وَيَرِثُ، مِنْ وَزَنَ وَوَهَبَ وَوَرِثَ، وَتَقُولُ فِي الْأَمْرِ: دَعْ وَزِنْ، وَهَبْ، أَمَّا ذَرْ بِمَعْنَى اتْرُكْ، فَلَمْ يَأْتِ مِنْهُ الْمَاضِي، وَجَاءَ الْمُضَارِعُ: يَذَرْهُمْ، وَالْأَمْرُ: ذَرْهُمْ. فَتَرَجَّحَتْ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ: «وَدَّعَكَ» مِنَ التَّوْدِيعِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا التَّرْجِيحَ ; لِأَنَّ وَدَّعَ بِمَعْنَى تَرَكَ فِيهَا شِدَّةٌ وَشِبْهُ جَفْوَةٍ وَقَطِيعَةٍ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ رَبِّهِ. أَمَّا الْمُوَادَعَةُ وَالْوَدَاعُ، فَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمَوَدَّةِ وَالصِّلَةِ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ عِنْدَ الِافْتِرَاقِ، فَهُوَ وَإِنْ وَادَعَهُ بِجِسْمِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوَادِعْهُ بِحُبِّهِ وَعَطْفِهِ، وَالسُّؤَالِ عَنْهُ وَهُوَ مَا يَتَنَاسَبُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا قَلَى.
تَنْبِيهٌ.
هُنَا: «مَا وَدَّعَكَ» بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَهُوَ كَذَلِكَ لِلْمُسْتَقْبَلِ، بِدَلِيلِ الْوَاقِعِ وَبِدَلِيلِ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [٩٣ ٤] ; لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُوَاصَلَةِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِ، حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْآخِرَةِ فَيَجِدُهَا خَيْرًا لَهُ مِنَ الْأُولَى، فَيَكُونُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي عِنَايَةِ وَرِعَايَةِ رَبِّهِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَ لِعُمَرَ: «أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»، أَيْ: تَحْتَ رَحْمَتِهِ وَفِي رِعَايَتِهِ.
لَيْتَ شِعْرِي عَنْ خَلِيلٍ مَا الَّذِي | نَمَا لَهُ فِي الْحُبِّ حَتَّى وَدَعَهُ |
وَثَمَّ وَدَعْنَا آلَ عَمْرٍو وَعَامِرِ | فَرَائِسَ أَطْرَافِ الْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ |
قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَالتَّوْدِيعُ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَدْعِ ; لِأَنَّ مَنْ وَدَّعَكَ مُفَارِقًا، فَقَدْ بَالَغَ فِي تَرْكِكَ. اهـ.
وَالْقِرَاءَةُ الْأَوْلَى أَشْهَرُ وَأَوْلَى ; لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ وَدَّعَ بِمَعْنَى تَرَكَ قَلِيلٌ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ: وَدَعَ وَلَا وَذَرَ ; لِضَعْفِ الْوَاوِ إِذَا قُدِّمَتْ وَاسْتَغْنَوْا عَنْهَا بِتَرَكَ، وَيَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْمُبَرِّدِ سُقُوطُ الْوَاوِ فِي الْمُضَارِعِ، فَتَقُولُ فِي مُضَارِعِ وَدَعَ يَدَعُ كَيَزِنُ وَيَهَبُ وَيَرِثُ، مِنْ وَزَنَ وَوَهَبَ وَوَرِثَ، وَتَقُولُ فِي الْأَمْرِ: دَعْ وَزِنْ، وَهَبْ، أَمَّا ذَرْ بِمَعْنَى اتْرُكْ، فَلَمْ يَأْتِ مِنْهُ الْمَاضِي، وَجَاءَ الْمُضَارِعُ: يَذَرْهُمْ، وَالْأَمْرُ: ذَرْهُمْ. فَتَرَجَّحَتْ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ: «وَدَّعَكَ» مِنَ التَّوْدِيعِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا التَّرْجِيحَ ; لِأَنَّ وَدَّعَ بِمَعْنَى تَرَكَ فِيهَا شِدَّةٌ وَشِبْهُ جَفْوَةٍ وَقَطِيعَةٍ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ رَبِّهِ. أَمَّا الْمُوَادَعَةُ وَالْوَدَاعُ، فَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمَوَدَّةِ وَالصِّلَةِ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ عِنْدَ الِافْتِرَاقِ، فَهُوَ وَإِنْ وَادَعَهُ بِجِسْمِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوَادِعْهُ بِحُبِّهِ وَعَطْفِهِ، وَالسُّؤَالِ عَنْهُ وَهُوَ مَا يَتَنَاسَبُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا قَلَى.
تَنْبِيهٌ.
هُنَا: «مَا وَدَّعَكَ» بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَهُوَ كَذَلِكَ لِلْمُسْتَقْبَلِ، بِدَلِيلِ الْوَاقِعِ وَبِدَلِيلِ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [٩٣ ٤] ; لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُوَاصَلَةِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِ، حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْآخِرَةِ فَيَجِدُهَا خَيْرًا لَهُ مِنَ الْأُولَى، فَيَكُونُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي عِنَايَةِ وَرِعَايَةِ رَبِّهِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَ لِعُمَرَ: «أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»، أَيْ: تَحْتَ رَحْمَتِهِ وَفِي رِعَايَتِهِ.
555
وَقَوْلُهُ: «وَمَا قَلَى»، حَذَفَ كَافَ الْخِطَابِ لِثُبُوتِهَا فِيمَا مَعَهَا، فَدَلَّتْ عَلَيْهَا، هَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُرِكَتْ لِرَأْسِ الْآيَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ لَطِيفِ الْخِطَابِ وَرَقِيقِ الْإِينَاسِ وَمَدَاخِلِ اللُّطْفِ، أَنَّ الْمُوَادَعَةَ تُشْعِرُ بِالْوَفَاءِ وَالْوُدِّ، فَأُبْرِزَتْ فِيهَا كَافُ الْخِطَابِ، أَيْ: لَمْ تَتَأَتَّ مُوَادَعَتُكَ وَأَنْتَ الْحَبِيبُ، وَالْمُصْطَفَى الْمُقَرَّبُ.
أَمَّا: «قَلَى» : فَفِيهَا مَعْنَى الْبُغْضِ، فَلَمْ يُنَاسِبْ إِبْرَازُهَا إِمْعَانًا فِي إِبْعَادِ قَصْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ لِعَزِيزٍ عَلَيْكَ: لَقَدْ أَكْرَمْتُكَ، وَمَا أَهَنْتُ، لَقَدْ قَرَّبْتُكَ، وَمَا أَبْعَدْتُ، كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْطِقَ بِإِهَانَتِهِ وَكَرَاهِيَتِهِ، أَوْ تُصَرِّحَ بِهَا فِي حَقِّهِ، وَالْقَلَى: يُمَدُّ وَيُقْصَرُ هُوَ الْبُغْضُ، يُمَدُّ إِذَا فَتَحْتَ الْقَافَ، وَيُقْصَرُ إِذَا كَسَرْتَهَا، وَهُوَ وَاوِيٌّ وَيَائِيٌّ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
وَقَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ:
فَالْأَوَّلُ قَالَ: فَقَلَاهَا مِنَ الْوَاوِيِّ، وَالثَّانِي قَالَ: مَقْلِيَّةٌ مِنَ الْيَاءِ، وَهُمَا فِي اللِّسَانِ شَوَاهِدُ.
وَقَدْ جَاءَ فِي السِّيرَةِ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَيُثْبِتُ دَوَامَ مُوَالَاتِهِ سُبْحَانَهُ لِحَبِيبِهِ، وَعِنَايَتِهِ بِهِ وَحِفْظِهِ لَهُ بِمَا كَانَ بُكَاؤُهُ بِهِ عَمَّهُ، وَقَدْ قَالَ عَمُّهُ فِي ذَلِكَ:
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي رِعَايَةِ عَمِّهِ لَهُ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَنَّ اللَّيْلُ وَأَرَادُوا أَنْ يَنَامُوا، تَرَكَهُ مَعَ أَوْلَادِهِ يَنَامُونَ، حَتَّى إِذَا أَخَذَ كُلٌّ مَضْجَعَهُ، عَمَدَ عَمُّهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ أَبْنَائِهِ، فَأَقَامَهُ وَأَتَى بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنَامُ مَوْضِعَهُ، وَذَهَبَ بِوَلَدِهِ يَنَامُ مَكَانَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُرِيدُ بِهِ سُوءًا فَرَأَى مَكَانَهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ مَنْ يُرِيدُهُ بِسُوءٍ وَقَعَ السُّوءُ بِابْنِهِ، وَسَلِمَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الْهِجْرَةِ فِي طَرِيقِهِمَا إِلَى الْغَارِ، فَكَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَارَةً يَمْشِي أَمَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَارَةً يَمْشِي وَرَاءَهُ، فَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُرِكَتْ لِرَأْسِ الْآيَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ لَطِيفِ الْخِطَابِ وَرَقِيقِ الْإِينَاسِ وَمَدَاخِلِ اللُّطْفِ، أَنَّ الْمُوَادَعَةَ تُشْعِرُ بِالْوَفَاءِ وَالْوُدِّ، فَأُبْرِزَتْ فِيهَا كَافُ الْخِطَابِ، أَيْ: لَمْ تَتَأَتَّ مُوَادَعَتُكَ وَأَنْتَ الْحَبِيبُ، وَالْمُصْطَفَى الْمُقَرَّبُ.
أَمَّا: «قَلَى» : فَفِيهَا مَعْنَى الْبُغْضِ، فَلَمْ يُنَاسِبْ إِبْرَازُهَا إِمْعَانًا فِي إِبْعَادِ قَصْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ لِعَزِيزٍ عَلَيْكَ: لَقَدْ أَكْرَمْتُكَ، وَمَا أَهَنْتُ، لَقَدْ قَرَّبْتُكَ، وَمَا أَبْعَدْتُ، كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْطِقَ بِإِهَانَتِهِ وَكَرَاهِيَتِهِ، أَوْ تُصَرِّحَ بِهَا فِي حَقِّهِ، وَالْقَلَى: يُمَدُّ وَيُقْصَرُ هُوَ الْبُغْضُ، يُمَدُّ إِذَا فَتَحْتَ الْقَافَ، وَيُقْصَرُ إِذَا كَسَرْتَهَا، وَهُوَ وَاوِيٌّ وَيَائِيٌّ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
أَيَّامُ أُمِّ الْغَمْرِ لَا نَقْلَاهَا | وَلَوْ تَشَاءُ قَبَّلْتُ عَيْنَاهَا |
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةٌ | لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةٌ إِنْ تَقَلَّتِ |
وَقَدْ جَاءَ فِي السِّيرَةِ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَيُثْبِتُ دَوَامَ مُوَالَاتِهِ سُبْحَانَهُ لِحَبِيبِهِ، وَعِنَايَتِهِ بِهِ وَحِفْظِهِ لَهُ بِمَا كَانَ بُكَاؤُهُ بِهِ عَمَّهُ، وَقَدْ قَالَ عَمُّهُ فِي ذَلِكَ:
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ | حَتَّى أُوسَدَ فِي التُّرَابِ دَفِينًا |
556
ذَلِكَ، فَقَالَ: «أَذْكُرُ الرَّصِيدَ فَأَكُونُ أَمَامَكَ، وَأَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَكُونُ وَرَاءَكَ، فَقَالَ:» أَتُرِيدُ لَوْ كَانَ سُوءٌ يَكُونُ بِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ «قَالَ: بَلَى، فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ أَهْلَكْ أَهْلَكْ وَحْدِي، وَإِنْ تَهْلَكْ تَهْلَكْ مَعَكَ الدَّعْوَةُ»، فَذَاكَ عَمُّهُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَيْسَ عَلَى دِينِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى
«خَيْرٌ» تَأْتِي مَصْدَرًا كَقَوْلِهِ: «إِنْ تَرَكَ خَيْرًا» [٢ ١٨٠] أَيْ: مَالًا كَثِيرًا، وَتَأْتِي أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مَحْذُوفَةَ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ هُنَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بِدَلِيلِ ذِكْرِ الْمُقَابِلِ، وَذِكْرِ حَرْفِ «مِنْ»، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً، وَلَكِنْ مَا يَكُونُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ مِمَّا أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُوهِمُ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ مِنَ الْأُولَى، وَلَكِنْ جَاءَ النَّصُّ عَلَى أَنَّهَا خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ [٣ ١٩٨].
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ الْخَيْرِيَّةِ لِلْأَبْرَارِ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [٨٢ ١٣]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [٧٦ ٥].
أَمَّا بَيَانُ الْخَيْرِيَّةِ هُنَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَانُ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا أَوَّلًا، ثُمَّ بَيَانُ الْأَفْضَلِ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ.
أَمَّا فِي الدُّنْيَا الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، أَيْ: لِدَلَالَتِهِ عَلَى اشْتِرَاكِ الْأَمْرَيْنِ فِي الْوَصْفِ، وَزِيَادَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا، فَفِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [٩٣ ٦]، أَيْ: مُنْذُ وِلَادَتِهِ وَنَشْأَتِهِ، وَلَقَدْ تَعَهَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ صِغَرِهِ فَصَانَهُ عَنْ دَنَسِ الشِّرْكِ، وَطَهَّرَهُ وَشَقَّ صَدْرَهُ وَنَقَّاهُ، وَكَانَ رَغْمَ يُتْمِهِ سَيِّدَ شَبَابِ قُرَيْشٍ، حَيْثُ قَالَ عَمُّهُ عِنْدَ خِطْبَتِهِ خَدِيجَةَ لِزَوَاجِهِ بِهَا، فَقَالَ: «فَتًى لَا يُعَادِلُهُ فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، حِلْمًا وَعَقْلًا وَخُلُقًا، إِلَّا رَجَحَ عَلَيْهِ».
وَقَوْلُهُ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [٩٣ ٧ - ٨].
عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ كُلُّهُ، فَهِيَ نِعَمٌ يُعَدِّدُهَا تَعَالَى عَلَيْهِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى
«خَيْرٌ» تَأْتِي مَصْدَرًا كَقَوْلِهِ: «إِنْ تَرَكَ خَيْرًا» [٢ ١٨٠] أَيْ: مَالًا كَثِيرًا، وَتَأْتِي أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مَحْذُوفَةَ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ هُنَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بِدَلِيلِ ذِكْرِ الْمُقَابِلِ، وَذِكْرِ حَرْفِ «مِنْ»، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً، وَلَكِنْ مَا يَكُونُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ مِمَّا أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُوهِمُ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ مِنَ الْأُولَى، وَلَكِنْ جَاءَ النَّصُّ عَلَى أَنَّهَا خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ [٣ ١٩٨].
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ الْخَيْرِيَّةِ لِلْأَبْرَارِ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [٨٢ ١٣]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [٧٦ ٥].
أَمَّا بَيَانُ الْخَيْرِيَّةِ هُنَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَانُ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا أَوَّلًا، ثُمَّ بَيَانُ الْأَفْضَلِ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ.
أَمَّا فِي الدُّنْيَا الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، أَيْ: لِدَلَالَتِهِ عَلَى اشْتِرَاكِ الْأَمْرَيْنِ فِي الْوَصْفِ، وَزِيَادَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا، فَفِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [٩٣ ٦]، أَيْ: مُنْذُ وِلَادَتِهِ وَنَشْأَتِهِ، وَلَقَدْ تَعَهَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ صِغَرِهِ فَصَانَهُ عَنْ دَنَسِ الشِّرْكِ، وَطَهَّرَهُ وَشَقَّ صَدْرَهُ وَنَقَّاهُ، وَكَانَ رَغْمَ يُتْمِهِ سَيِّدَ شَبَابِ قُرَيْشٍ، حَيْثُ قَالَ عَمُّهُ عِنْدَ خِطْبَتِهِ خَدِيجَةَ لِزَوَاجِهِ بِهَا، فَقَالَ: «فَتًى لَا يُعَادِلُهُ فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، حِلْمًا وَعَقْلًا وَخُلُقًا، إِلَّا رَجَحَ عَلَيْهِ».
وَقَوْلُهُ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [٩٣ ٧ - ٨].
عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ كُلُّهُ، فَهِيَ نِعَمٌ يُعَدِّدُهَا تَعَالَى عَلَيْهِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا
مِنْ صِغَرِهِ إِلَى شَبَابِهِ وَكِبَرِهِ، ثُمَّ اصْطِفَائِهِ بِالرِّسَالَةِ، ثُمَّ حِفْظِهِ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ نَصْرِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ.
وَمِنَ النَّاحِيَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَا جَاءَ فِي السُّورَةِ بَعْدَهَا: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [٩٤ ١ - ٤].
أَمَّا خَيْرِيَّةُ الْآخِرَةِ عَلَى الْأُولَى، فَعَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [٩٣ ٥]، وَلَيْسَ بَعْدَ الرِّضَى مَطْلَبٌ، وَفِي الْجُمْلَةِ: فَإِنَّ الْأُولَى دَارُ عَمَلٍ وَتَكْلِيفٍ وَجِهَادٍ، وَالْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ وَثَوَابٍ وَإِكْرَامٍ، فَهِيَ لَا شَكَّ أَفْضَلُ مِنَ الْأُولَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى
جَاءَ مُؤَكَّدًا بِاللَّامِ وَسَوْفَ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُعْطِيهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ إِتْمَامِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ.
وَالْجُمْهُورُ: أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، إِلَّا أَنَّهُ فُصِّلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَأَعْظَمُهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [١٧ ٧٩].
وَجَاءَ فِي السُّنَّةِ بَيَانُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَهُوَ الَّذِي يَغْبِطُهُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى حِينَ يَتَخَلَّى كُلُّ نَبِيٍّ، وَيَقُولُ: «نَفْسِي نَفْسِي، حَتَّى يَصِلُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ: أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا» إِلَخْ.
وَمِنْهَا: الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ، وَمَا خُصَّتْ بِهِ أُمَّتُهُ غُرًّا مُحَجَّلِينَ، يَرِدُونَ عَلَيْهِ الْحَوْضَ.
وَمِنْهَا: الْوَسِيلَةُ، وَهِيَ مَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ عَالِيَةٌ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ وَاحِدٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ وَسَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ وَاحِدٍ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ».
وَإِذَا كَانَتْ لِعَبْدٍ وَاحِدٍ فَمَنْ يَسْتَقْدِمُ عَلَيْهَا، وَإِذَا رَجَا رَبَّهُ أَنْ تَكُونَ لَهُ طَلَبَ مِنَ الْأُمَّةِ طَلَبَهَا لَهُ، فَهُوَ مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّهَا لَهُ، وَإِلَّا لَمَا طَلَبَهَا وَلَا تَرَجَّاهَا، وَلَا أَمَرَ بِطَلَبِهَا لَهُ. وَهُوَ بِلَا شَكٍّ أَحَقُّ بِهَا مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، إِذِ الْخَلْقُ أَفْضَلُهُمُ الرُّسُلُ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَدَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا فِي الْإِسْرَاءِ تَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ فِي الصَّلَاةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَمِنَ النَّاحِيَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَا جَاءَ فِي السُّورَةِ بَعْدَهَا: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [٩٤ ١ - ٤].
أَمَّا خَيْرِيَّةُ الْآخِرَةِ عَلَى الْأُولَى، فَعَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [٩٣ ٥]، وَلَيْسَ بَعْدَ الرِّضَى مَطْلَبٌ، وَفِي الْجُمْلَةِ: فَإِنَّ الْأُولَى دَارُ عَمَلٍ وَتَكْلِيفٍ وَجِهَادٍ، وَالْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ وَثَوَابٍ وَإِكْرَامٍ، فَهِيَ لَا شَكَّ أَفْضَلُ مِنَ الْأُولَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى
جَاءَ مُؤَكَّدًا بِاللَّامِ وَسَوْفَ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُعْطِيهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ إِتْمَامِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ.
وَالْجُمْهُورُ: أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، إِلَّا أَنَّهُ فُصِّلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَأَعْظَمُهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [١٧ ٧٩].
وَجَاءَ فِي السُّنَّةِ بَيَانُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَهُوَ الَّذِي يَغْبِطُهُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى حِينَ يَتَخَلَّى كُلُّ نَبِيٍّ، وَيَقُولُ: «نَفْسِي نَفْسِي، حَتَّى يَصِلُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ: أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا» إِلَخْ.
وَمِنْهَا: الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ، وَمَا خُصَّتْ بِهِ أُمَّتُهُ غُرًّا مُحَجَّلِينَ، يَرِدُونَ عَلَيْهِ الْحَوْضَ.
وَمِنْهَا: الْوَسِيلَةُ، وَهِيَ مَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ عَالِيَةٌ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ وَاحِدٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ وَسَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ وَاحِدٍ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ».
وَإِذَا كَانَتْ لِعَبْدٍ وَاحِدٍ فَمَنْ يَسْتَقْدِمُ عَلَيْهَا، وَإِذَا رَجَا رَبَّهُ أَنْ تَكُونَ لَهُ طَلَبَ مِنَ الْأُمَّةِ طَلَبَهَا لَهُ، فَهُوَ مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّهَا لَهُ، وَإِلَّا لَمَا طَلَبَهَا وَلَا تَرَجَّاهَا، وَلَا أَمَرَ بِطَلَبِهَا لَهُ. وَهُوَ بِلَا شَكٍّ أَحَقُّ بِهَا مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، إِذِ الْخَلْقُ أَفْضَلُهُمُ الرُّسُلُ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَدَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا فِي الْإِسْرَاءِ تَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ فِي الصَّلَاةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَمِنْهَا: الشَّفَاعَةُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلُ مَنْ تُفْتَحُ لَهُ الْجَنَّةُ، وَأَنَّ رِضْوَانَ خَازِنَ الْجَنَّةِ يَقُولُ لَهُ: أُمِرْتُ أَلَّا أَفْتَحَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ».
وَمِنْهَا: الشَّفَاعَةُ الْمُتَعَدِّدَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ فِي النَّارِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «لَا أَرْضَى وَأَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي فِي النَّارِ» أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنَا شَفَاعَتَهُ، وَيُورِدَنَا حَوْضَهُ. آمِينَ.
وَشَفَاعَتُهُ الْخَاصَّةُ فِي الْخَاصِّ فِي عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَيُخَفَّفُ عَنْهُ بِهَا مَا كَانَ فِيهِ.
وَمِنْهَا: شَهَادَتُةُ عَلَى الرُّسُلِ، وَشَهَادَةُ أُمَّتِهِ عَلَى الْأُمَمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ بِلَا شَكٍّ عَطَايَا مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِحَبِيبِهِ وَصَفِيِّهِ الْكَرِيمِ، - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، وَعَلَى آلِهِ وَصَحِبَهُ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
تَنْبِيهٌ.
اللَّامُ فِي وَلَلْآخِرَةُ وَفِي وَلَسَوْفَ لِلتَّأْكِيدِ وَلَيْسَتْ لِلْقَسَمِ، وَهِيَ فِي الْأَوَّلِ دَخَلَتْ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، وَفِي الثَّانِيَةِ الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ وَأَبُو السُّعُودِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى
تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْيَتِيمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [٧٦ ٨].
وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ أَبُوهُ، وَهُوَ حَمْلٌ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَمَاتَتْ أُمُّهُ وَهِيَ عَائِدَةٌ مِنَ الْمَدِينَةِ بِالْأَبْوَاءِ وَعُمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ يُتْمَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ حَقٌّ عَلَيْهِ، نَقَلَهُ أَبُو حَيَّانَ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ يُتْمَهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ، أَيْ: لِيَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُ مِنْ صِغَرِهِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى إِيوَاءِ اللَّهِ لَهُ، فَكَانَ يُتْمُهُ لِإِبْرَازِ فَضْلِهِ ; لِأَنَّ يَتِيمَ الْأَمْسِ أَصْبَحَ سَيِّدَ الْغَدِ، وَكَافِلَ الْيَتَامَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى
وَمِنْهَا: الشَّفَاعَةُ الْمُتَعَدِّدَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ فِي النَّارِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «لَا أَرْضَى وَأَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي فِي النَّارِ» أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنَا شَفَاعَتَهُ، وَيُورِدَنَا حَوْضَهُ. آمِينَ.
وَشَفَاعَتُهُ الْخَاصَّةُ فِي الْخَاصِّ فِي عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَيُخَفَّفُ عَنْهُ بِهَا مَا كَانَ فِيهِ.
وَمِنْهَا: شَهَادَتُةُ عَلَى الرُّسُلِ، وَشَهَادَةُ أُمَّتِهِ عَلَى الْأُمَمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ بِلَا شَكٍّ عَطَايَا مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِحَبِيبِهِ وَصَفِيِّهِ الْكَرِيمِ، - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، وَعَلَى آلِهِ وَصَحِبَهُ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
تَنْبِيهٌ.
اللَّامُ فِي وَلَلْآخِرَةُ وَفِي وَلَسَوْفَ لِلتَّأْكِيدِ وَلَيْسَتْ لِلْقَسَمِ، وَهِيَ فِي الْأَوَّلِ دَخَلَتْ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، وَفِي الثَّانِيَةِ الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ وَأَبُو السُّعُودِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى
تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْيَتِيمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [٧٦ ٨].
وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ أَبُوهُ، وَهُوَ حَمْلٌ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَمَاتَتْ أُمُّهُ وَهِيَ عَائِدَةٌ مِنَ الْمَدِينَةِ بِالْأَبْوَاءِ وَعُمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ يُتْمَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ حَقٌّ عَلَيْهِ، نَقَلَهُ أَبُو حَيَّانَ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ يُتْمَهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ، أَيْ: لِيَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُ مِنْ صِغَرِهِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى إِيوَاءِ اللَّهِ لَهُ، فَكَانَ يُتْمُهُ لِإِبْرَازِ فَضْلِهِ ; لِأَنَّ يَتِيمَ الْأَمْسِ أَصْبَحَ سَيِّدَ الْغَدِ، وَكَافِلَ الْيَتَامَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى
559
الضَّلَالُ: يَكُونُ حِسًّا وَمَعْنًى، فَالْأَوَّلُ: كَمَنْ تَاهَ فِي طَرِيقٍ يَسْلُكُهُ، وَالثَّانِي: كَمَنْ تَرَكَ الْحَقَّ فَلَمْ يَتَّبِعْهُ.
فَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْأَوَّلُ، كَأَنْ قَدْ ضَلَّ فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكَّةَ، أَوْ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الشَّامِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّعْلِيمِ أَوَّلًا، ثُمَّ مَنْحِهِ مِنَ الْعِلْمِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، كَقَوْلِهِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [٤٢ ٥٢].
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَحْثُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ:
أَوَّلًا: فِي سُورَةِ «يُوسُفَ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [١٢ ٨]، وَسَاقَ شَوَاهِدَ الضَّلَالِ لُغَةً هُنَاكَ.
وَثَانِيًا: فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [١٨ ١٠٤].
وَثَالِثًا: فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [٢٦ ٢٠].
وَفِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ أَيْضًا، وَهَذَا كُلُّهُ يُغْنِي عَنْ أَيِّ بَحْثٍ آخَرَ.
وَمِنَ الطَّرِيفِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، حَيْثُ قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ، أَنِّي أُفَكِّرُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَأَقُولُ عَلَى الْفَوْرِ: «وَوَجَدَكَ» : أَيْ: وَجَدَ رَهْطَكَ «ضَالًّا» فَهَدَاهُ بِكَ، ثُمَّ أَقُولُ: عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، نَحْوُ: «وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ» [١٢ ٨٢]. اهـ.
وَقَدْ أَوْرَدَ النَّيْسَابُورِيُّ هَذَا وَجْهًا فِي الْآيَةِ.
وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَذْكُرُ مَنَامَيْنِ كُنْتُ رَأَيْتُهُمَا وَلَمْ أُرِدْ ذِكْرَهُمَا حَتَّى رَأَيْتُ هَذَا لِأَبِي حَيَّانَ، فَاسْتَأْنَسْتُ بِهِ لِذِكْرِهِمَا، وَهُمَا: الْأَوَّلُ: عِنْدَمَا وَصَلْتُ إِلَى سُورَةِ «ن» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [٦٨ ٤]، وَمِنْ مَنْهَجِ الْأَضْوَاءِ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا وَصْفٌ مُجْمَلٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» فَأَخَذْتُ فِي التَّفْكِيرِ، كَيْفَ أُفَصِّلُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْقُرْآنِ، وَأُبَيِّنُ حُكْمَهُ وَصَفْحَهُ وَصَبْرَهُ وَكَرَمَهُ وَعَطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ
فَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْأَوَّلُ، كَأَنْ قَدْ ضَلَّ فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكَّةَ، أَوْ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الشَّامِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّعْلِيمِ أَوَّلًا، ثُمَّ مَنْحِهِ مِنَ الْعِلْمِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، كَقَوْلِهِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [٤٢ ٥٢].
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَحْثُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ:
أَوَّلًا: فِي سُورَةِ «يُوسُفَ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [١٢ ٨]، وَسَاقَ شَوَاهِدَ الضَّلَالِ لُغَةً هُنَاكَ.
وَثَانِيًا: فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [١٨ ١٠٤].
وَثَالِثًا: فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [٢٦ ٢٠].
وَفِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ أَيْضًا، وَهَذَا كُلُّهُ يُغْنِي عَنْ أَيِّ بَحْثٍ آخَرَ.
وَمِنَ الطَّرِيفِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، حَيْثُ قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ، أَنِّي أُفَكِّرُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَأَقُولُ عَلَى الْفَوْرِ: «وَوَجَدَكَ» : أَيْ: وَجَدَ رَهْطَكَ «ضَالًّا» فَهَدَاهُ بِكَ، ثُمَّ أَقُولُ: عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، نَحْوُ: «وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ» [١٢ ٨٢]. اهـ.
وَقَدْ أَوْرَدَ النَّيْسَابُورِيُّ هَذَا وَجْهًا فِي الْآيَةِ.
وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَذْكُرُ مَنَامَيْنِ كُنْتُ رَأَيْتُهُمَا وَلَمْ أُرِدْ ذِكْرَهُمَا حَتَّى رَأَيْتُ هَذَا لِأَبِي حَيَّانَ، فَاسْتَأْنَسْتُ بِهِ لِذِكْرِهِمَا، وَهُمَا: الْأَوَّلُ: عِنْدَمَا وَصَلْتُ إِلَى سُورَةِ «ن» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [٦٨ ٤]، وَمِنْ مَنْهَجِ الْأَضْوَاءِ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا وَصْفٌ مُجْمَلٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» فَأَخَذْتُ فِي التَّفْكِيرِ، كَيْفَ أُفَصِّلُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْقُرْآنِ، وَأُبَيِّنُ حُكْمَهُ وَصَفْحَهُ وَصَبْرَهُ وَكَرَمَهُ وَعَطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ
560
وَرَأْفَتَهُ وَجِهَادَهُ وَعِبَادَتَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلَنِي أَقِفُ حَائِرًا وَأَمْكُثُ عَنِ الْكِتَابَةِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، فَرَأَيْتُ الشَّيْخَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي النَّوْمِ، كَأَنَّنَا فِي الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَشَاطِهِ الْعَادِيِّ، فَسَأَلْتُهُ مَاذَا عِنْدَكَ الْيَوْمَ؟
فَقَالَ: عِنْدِي تَفْسِيرٌ. فَقُلْتُ: أَتُدَرِّسُ الْيَوْمَ؟ قَالَ: لَا، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا الَّذِي بِيَدِكَ؟ - لِدَفْتَرٍ فِي يَدِهِ -، فَقَالَ: مُذَكِّرَةُ تَفْسِيرٍ، أَيْ: الَّتِي كَانَ سَيُفَسِّرُهَا - وَهِيَ مَخْطُوطَةٌ -، فَقُلْتُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: مِنْ أَوَّلِ «ن» إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، فَحَرَصْتُ عَلَى أَخْذِهَا لِأَكْتُبَ مِنْهَا، وَلَمْ أَتَجَرَّأْ عَلَى طَلَبِهَا صَرَاحَةً، وَلَكِنْ قُلْتُ لَهُ: إِذَا كُنْتَ لَمْ تُدَرِّسِ الْيَوْمَ فَأَعْطِنِيهَا أُبَيِّضُهَا وَأُجَلِّدُهَا لَكَ، وَآتِيكَ بِهَا غَدًا، فَأَعْطَانِيهَا فَانْتَبَهْتُ فَرَحًا بِذَلِكَ وَبَدَأْتُ فِي الْكِتَابَةِ.
وَالْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فِي سُورَةِ «الْمُطَفِّفِينَ»، لَمَّا كَتَبْتُ عَلَى مَعْنَى التَّطْفِيفِ، ثُمَّ فَكَّرْتُ فِي التَّوَعُّدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ مَعَ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ مِنْ شَيْءٍ طَفِيفٍ، حَتَّى فَكَّرْتُ فِي أَنَّ لَهُ صِلَةً بِالرِّبَا، إِذَا مَا بِيعَ جِنْسٌ بِجِنْسِهِ، فَحَصَلَتْ مُغَايِرَةٌ فِي الْكَيْلِ وَوَقَعَ تَفَاضُلٌ، وَلَكِنِّي لَمْ أَجِدْ مَنْ قَالَ بِهِ، فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، أَنِّي مَعَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -، وَلَكِنْ لَمْ يَتَحَدَّثْ مَعِي فِي شَيْءٍ مِنَ التَّفْسِيرِ.
وَبَعْدَ أَنْ رَاحَ عَنِّي، فَإِذَا بِشَخْصٍ لَا أَعْرِفُهُ يَقُولُ وَأَنَا أَسْمَعُ دُونَ أَنْ يُوَجِّهَ الْحَدِيثَ إِلَيَّ: إِنَّ فِي التَّطْفِيفِ رِبًا، إِذَا بِيعَ الْحَدِيدُ بِحَدِيدٍ، وَكَلِمَةً أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا نَسِيتُهَا بَعْدَ أَنِ انْتَبَهْتُ.
وَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ تَأَسِّيًا بِأَبِي حَيَّانَ، لِمَا أَجِدُ فِيهِ مِنْ إِينَاسٍ، وَاللَّهُ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَعَلَى مَا جَاءَ فِي الرُّؤْيَا مِنْ مُبَشِّرَاتٍ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوَفِيقُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى
الْعَائِلُ: صَاحِبُ الْعِيَالِ، وَقِيلَ: الْعَائِلُ الْفَقِيرُ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ لَازِمِ الْعِيَالِ الْحَاجَةُ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَمُقَابَلَةُ «عَائِلًا» بِأَغْنَى، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى «عَائِلًا» أَيْ: فَقِيرًا، وَلِذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَقَالَ: عِنْدِي تَفْسِيرٌ. فَقُلْتُ: أَتُدَرِّسُ الْيَوْمَ؟ قَالَ: لَا، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا الَّذِي بِيَدِكَ؟ - لِدَفْتَرٍ فِي يَدِهِ -، فَقَالَ: مُذَكِّرَةُ تَفْسِيرٍ، أَيْ: الَّتِي كَانَ سَيُفَسِّرُهَا - وَهِيَ مَخْطُوطَةٌ -، فَقُلْتُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: مِنْ أَوَّلِ «ن» إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، فَحَرَصْتُ عَلَى أَخْذِهَا لِأَكْتُبَ مِنْهَا، وَلَمْ أَتَجَرَّأْ عَلَى طَلَبِهَا صَرَاحَةً، وَلَكِنْ قُلْتُ لَهُ: إِذَا كُنْتَ لَمْ تُدَرِّسِ الْيَوْمَ فَأَعْطِنِيهَا أُبَيِّضُهَا وَأُجَلِّدُهَا لَكَ، وَآتِيكَ بِهَا غَدًا، فَأَعْطَانِيهَا فَانْتَبَهْتُ فَرَحًا بِذَلِكَ وَبَدَأْتُ فِي الْكِتَابَةِ.
وَالْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فِي سُورَةِ «الْمُطَفِّفِينَ»، لَمَّا كَتَبْتُ عَلَى مَعْنَى التَّطْفِيفِ، ثُمَّ فَكَّرْتُ فِي التَّوَعُّدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ مَعَ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ مِنْ شَيْءٍ طَفِيفٍ، حَتَّى فَكَّرْتُ فِي أَنَّ لَهُ صِلَةً بِالرِّبَا، إِذَا مَا بِيعَ جِنْسٌ بِجِنْسِهِ، فَحَصَلَتْ مُغَايِرَةٌ فِي الْكَيْلِ وَوَقَعَ تَفَاضُلٌ، وَلَكِنِّي لَمْ أَجِدْ مَنْ قَالَ بِهِ، فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، أَنِّي مَعَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -، وَلَكِنْ لَمْ يَتَحَدَّثْ مَعِي فِي شَيْءٍ مِنَ التَّفْسِيرِ.
وَبَعْدَ أَنْ رَاحَ عَنِّي، فَإِذَا بِشَخْصٍ لَا أَعْرِفُهُ يَقُولُ وَأَنَا أَسْمَعُ دُونَ أَنْ يُوَجِّهَ الْحَدِيثَ إِلَيَّ: إِنَّ فِي التَّطْفِيفِ رِبًا، إِذَا بِيعَ الْحَدِيدُ بِحَدِيدٍ، وَكَلِمَةً أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا نَسِيتُهَا بَعْدَ أَنِ انْتَبَهْتُ.
وَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ تَأَسِّيًا بِأَبِي حَيَّانَ، لِمَا أَجِدُ فِيهِ مِنْ إِينَاسٍ، وَاللَّهُ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَعَلَى مَا جَاءَ فِي الرُّؤْيَا مِنْ مُبَشِّرَاتٍ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوَفِيقُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى
الْعَائِلُ: صَاحِبُ الْعِيَالِ، وَقِيلَ: الْعَائِلُ الْفَقِيرُ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ لَازِمِ الْعِيَالِ الْحَاجَةُ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَمُقَابَلَةُ «عَائِلًا» بِأَغْنَى، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى «عَائِلًا» أَيْ: فَقِيرًا، وَلِذَا قَالَ الشَّاعِرُ: