هذه السورة مكية. ولما ذكر فيما قبلها ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى ﴾
وكان سيد الأتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر تعالى هنا نعمه عليه.
ﰡ
[سورة الضحى (٩٣) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤)وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)
سَجَا اللَّيْلُ: أَدْبَرَ، وَقِيلَ: أَقْبَلَ، وَمِنْهُ:
يَا حَبَّذَا الْقَمْرَاءُ وَاللَّيْلُ السَّاجِ | وَطُرُقٌ مِثْلُ مِلَاءِ النَّسَّاجِ |
وَمَا ذَنْبُنَا إِنْ جَاشَ بِحْرُ ابْنِ عَمِّكُمْ | وَبَحْرُكَ سَاجٍ لَا يُوَارِي الدَّعَامِصَا |
وَالضُّحى، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.
وَاسْتَغْنَتِ الْعَرَبُ فِي فَصِيحِ كَلَامِهَا بِتَرَكَ عَنْ وَدَعَ وَوَذَرَ، وَعَنِ اسْمِ فَاعِلِهِمَا بِتَارِكٍ، وَعَنِ اسْمِ مَفْعُولِهِمَا بِمَتْرُوكٍ، وَعَنْ مَصْدَرِهِمَا بِالتَّرْكِ، وَقَدْ سُمِعَ وَدَعَ وَوَذَرَ. قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:
لَيْتَ شِعْرِي عَنْ خَلِيلِي مَا الَّذِي | غَالَهُ فِي الْحُبِّ حَتَّى وَدَعَهُ |
وَثَمَّ وَدَعْنَا آلَ عَمْرٍو وَعَامِرٍ | فَرَائِسَ أَطْرَافِ الْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ |
مَا أَبْغَضَكَ، وَاللُّغَةُ الشَّهِيرَةُ فِي مُضَارِعِ قَلَى يَقْلِي، وطيىء تُعْلِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَحَذْفِ الْمَفْعُولِ اخْتِصَارًا فِي قَلى، وَفِي فَآوى وَفِي فَهَدى، وَفِي فَأَغْنى، إِذْ يُعْلَمُ أَنَّهُ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ، وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَبْطَأَ الْوَحْيُ مَرَّةً عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ أُمُّ جَمِيلٍ، امْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ: يَا مُحَمَّدُ مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا تَرَكَكَ؟ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّمَا احْتَبَسَ عَنْهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لجر وكلب كَانَ فِي بَيْتِهِ.
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى: يُرِيدُ الدَّارَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ حَالَتَيْهِ قَبْلَ نُزُولِ السُّورَةِ وَبَعْدَهَا، وَعَدَهُ تَعَالَى بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ اهْتِمَالًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى بِمَا قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَمَّا كَانَ فِي ضِمْنِ نَفْيِ التَّوْدِيعِ وَالْقِلَى أَنَّ اللَّهَ مُوَاصِلُكَ بِالْوَحْيِ إِلَيْكَ، وَأَنَّكَ حَبِيبُ اللَّهِ، وَلَا تُرَى كَرَامَةٌ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا نِعْمَةٌ أَجَلُّ مِنْهُ، أَخْبَرَهُ أَنَّ حَالَهُ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ، وَهُوَ السَّبْقُ وَالتَّقَدُّمُ عَلَى جَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَشَهَادَةُ أُمَّتِهِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَرَفْعُ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِعْلَاءُ مَرَاتِبِهِمْ بِشَفَاعَتِهِ. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى، قَالَ الْجُمْهُورُ: ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رِضَاهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ النَّارَ. وَقَالَ أَيْضًا: رِضَاهُ أَنَّهُ وَعَدَهُ بِأَلْفِ قَصْرٍ فِي الْجَنَّةِ بِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ وَالْخَدَمِ. وَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا بِفَتْحِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِ، وَالْأَوْلَى أَنَّ هَذَا مَوْعِدٌ شَامِلٌ لِمَا أَعْطَاهُ فِي
وَلَمَّا وَعَدَهُ هَذَا الْمَوْعُودَ الْجَلِيلَ، ذَكَّرَهُ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِ فِي حَالِ نَشْأَتِهِ. أَلَمْ يَجِدْكَ:
يَعْلَمْكَ، يَتِيماً:
تُوُفِّيَ أَبُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ جَنِينٌ، أَتَتْ عَلَيْهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَمَاتَتْ أُمُّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ، فَكَفَلَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَأَحْسَنَ تَرْبِيَتَهُ. وَقِيلَ لِجَعْفَرٍ الصَّادِقِ: لِمَ يُتِّمَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ أَبَوَيْهِ؟ فَقَالَ: لِئَلَّا يَكُونَ عَلَيْهِ حَقٌّ لِمَخْلُوقٍ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ يَدَّعِ التَّفَاسِيرَ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: أَلَمْ يَجِدْكَ وَاحِدًا فِي قُرَيْشٍ عَدِيمَ النَّظِيرِ فَآوَاكَ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَآوى رُبَاعِيًّا وَأَبُو الْأَشْهَبِ الْعُقَيْلِيُّ: فَأَوَى ثُلَاثِيًّا، بِمَعْنَى رَحِمَ. تَقُولُ: أَوِيتُ لِفُلَانٍ: أَيْ رَحِمْتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أُرَانِي وَلَا كُفْرَانَ لِلَّهِ أَنَّهُ | لِنَفْسِي قَدْ طَالَبْتُ غَيْرَ مُنِيلِ |
وَوَجَدَكَ، أَيْ وَجَدَ رَهْطَكَ، ضَالًّا، فَهَدَاهُ بِكَ. ثُمَّ أَقُولُ: عَلَى حَذْفِ مضاف، نحو: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «١». وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عائِلًا: أَيْ فَقِيرًا. قَالَ جَرِيرٌ:
اللَّهُ نَزَّلَ فِي الْكِتَابِ فَرِيضَةً | لِابْنِ السَّبِيلِ وَلِلْفَقِيرِ الْعَائِلِ |
وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ | وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ |
وَقِيلَ: أَغْنَاكَ بِالْقَنَاعَةِ وَالصَّبْرِ. وَقِيلَ: بِالْكَفَافِ. وَلَمَّا عَدَّدَ عَلَيْهِ هَذِهِ النِّعَمَ الثَّلَاثَ، وَصَّاهُ بِثَلَاثٍ كَأَنَّهَا مُقَابِلَةٌ لَهَا. فَلا تَقْهَرْ، قال مجاهد: لا تحتقره. وَقَالَ ابْنُ سَلَّامٍ: لَا تَسْتَزِلَّهُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: لَا تَظْلِمْهُ بِتَضْيِيعِ مَالِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تَمْنَعْهُ حَقَّهُ، وَالْقَهْرُ هُوَ التَّسْلِيطُ بِمَا
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا: السَّائِلُ هُنَا: السَّائِلُ عَنِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، لَا سَائِلَ الْمَالِ، فَيَكُونُ بِإِزَاءِ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى.
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ بُثَّ الْقُرْآنَ وَبَلِّغْ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: هِيَ النُّبُوَّةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ النِّعَمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّحْدِيثُ بِالنِّعَمِ: شَكْرُهَا وَإِشَاعَتُهَا، يُرِيدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ نِعْمَةِ الْإِيوَاءِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِغْنَاءِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ، انْتَهَى. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الثَّلَاثَةِ، أَمَرَهُ بِثَلَاثَةٍ: فَذَكَرَ الْيَتِيمَ أَوَّلًا وَهِيَ الْبِدَايَةُ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّائِلَ ثَانِيًا وَهُوَ الْعَائِلُ، وَكَانَ أَشْرَفُ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ هِيَ الْهِدَايَةَ، فَتَرَقَّى مِنْ هَذَيْنِ إِلَى الْأَشْرَفِ وَجَعَلَهُ مَقْطَعَ السُّورَةِ، وَإِنَّمَا وَسَّطَ ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْيَتِيمِ هُوَ زَمَانُ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومٌ مِنَ اقْتِرَافِ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْعَقِيدَةِ، فَكَانَ ذِكْرُ الِامْتِنَانِ بِذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْيَتِيمِ وَحَالَةِ التَّكْلِيفِ، وَفِي الْآخَرِ تَرَقَّى إِلَى الْأَشْرَفِ، فَهُمَا مَقْصِدَانِ فِي الْخِطَابِ.