تفسير سورة الفاتحة

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ
تفسير الاستعاذة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم١ :
[ ٢و ] قال ابن عرفة : الاستعاذة استجارة والاستجارة إبعاد والإبعاد نفي ( والنفي )٢ متعلق بالأخص ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم فلا يلزم ( من )٣ الاستعاذة من هذا الشيطان المخصوص الاستعاذة من مطلق الشيطان.
وأجاب بأن قال : النعت على قسمين : نعت تخصيص ونعت لمجرد الذم، فيقال إن هذا النعت مجرد الذم ( وكل )٤ شيطان مرجوم.
قال الإمام مالك في المدونة : لا يتعوذ في المكتوبة ( قبل القراءة )٥ ولكن يتعوذ في قيام رمضان٦ وإذا بدأ – وقال في المجموعة٧ في قوله تعالى :" فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " ٨ – إن ذلك بعد أم القرآن ( إن )٩ قرأ في الصلاة.
قال اللخمي١٠ :( الشأن فيمن )١١ افتتح أن لا يتعوذ ورأى ذلك لأن الافتتاح بالتكبير ينوب عنه ويجزئ عنه.
قال ابن عرفة : وإذا نسي الاستعاذة فإن أطال القراءة أتمها ولم يعد وإن لم يكن أطال ففي رجوعه إلى الاستعاذة قولان. وكره له في العتبية١٢ الجهر بالاستعاذة في قيام رمضان ورأى أن الأمر بالاستعاذة على الندب.
ابن رشد١٣ : ووجه ما في المدونة الاتباع، وخفف في العتبية١٤ أيضا تعوذ القارئ إذا أخطأ في الصلاة لأن ( ذلك )١٥ من الشيطان.
وحكى ( أبو عمرو الداني )١٦ في ( بحار البيان )١٧ ١٨ في كيفيته ثلاثة أوجه :( إما أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وإما أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإما أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم )١٩ ( وحكي )٢٠ في كتاب ( الإقناع )٢١ ٢٢ أن الأولى أن تقول : أعوذ بالله القوي من الشيطان ( الغوي )٢٣.
وقال الشاطبي٢٤ :
( وإذا أردت الدهر تقرأ فاستعذ جهارا من الشيطان بالله مسجلا
على ما أتى في النحل يسرا وإن تزد لربك تنزيها فلست مجهلا )٢٥
وقد ذكروا لفظ الرسول ولم يرد ولو صح هذا النقل لم يبق مجملا٢٦
فظاهره أن الآية مجملة ( وهو خطأ لأن المجمل عند الأصوليين هو اللفظ المحتمل معينين فصاعدا على التساوي، وليست الآية كذلك بل هي عندهم من قبيل المطلق الذي يصدق بصورة )٢٧.
قال : وعادتهم يجيبون عنه بأنه من قبيل الإجمال اللغوي لا الاصطلاحي.
( ثم قال )٢٨ :
وفيه خلاف في الأصول فروعه فلا تعد منها باسقا ومظللا٢٩
ومراده بالأصول إما( الكتب المطولة )٣٠ وإما أصول الفقه.
وقوله الرجيم : هو بمعنى مرجوم فإن أريد المرجوم بالشهب فالنعت للتخصيص والبيان، وإن أريد به أنه مرجوم باللعنة، والمقت وعدم الرحمة فالنعت للتأكيد، لأن كل شيطان كذلك.
قلت : وتقدم لابن عرفة ( في الختمة الثانية في عام سبعة وخمسين وسبع مائة )٣١،
قال أبو البقاء٣٢ : الشيطان فيعال من شطن يشطن إذا بعد، ويقال فيه : شاطن وشيطان وسمي بذلك كل متمرد لبعد ( غوره )٣٣ ( في الشر )٣٤ وقيل : هو ( فعلان )٣٥من شاط يشيط إذا هلك٣٦.
قال ابن عرفة : ورد هذا لمخالفة ( قاعدة )٣٧ الاشتقاق، لأن الشيطان فيه النون وشاط لا نون فيه – والرجيم بمعنى مرجوم ( وقيل )٣٨ بمعنى فاعل أي يرجم غيره.
تفسير سورة الفاتحة٣٩
اختلفوا فيها فقال ابن عباس٤٠ رضي الله عنهما وجماعة : إنها مكية٤١ واحتج ( له )٤٢ ابن عطية بقوله تعالى في الحجر :" ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم " ٤٣. وهي مكية بإجماع٤٤ وفي حديث أبي بن كعب٤٥ " إنها السبع المثاني " ٤٦،
ورده ابن عرفة بقوله تعالى :" والقرآن العظيم " ٤٧ ولم يكن نزل ( حينئذ )٤٨ جميعه فلا بد أن يكون أوقع الماضي موضع المستقبل.
قال ابن عطية : ولا خلاف أن الصلاة ( فرض )٤٩ ( كان )٥٠ بمكة، ولم يحفظ ( أنه كانت قط )٥١ صلاة في الإسلام بغير الحمد لله رب العالمين٥٢.
ورده ابن عرفة : بأن أبا حنيفة لم يشترط قراءة الفاتحة بل خير المصلي بأن يقرأ بما شاء فلعل ( ذلك )٥٣ لأنها لم تكن في أول الإسلام واجبة ولعل حديث :" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب متأخر " ٥٤.
قال الإمام٥٥ : وذهب عطاء والزهري وجماعة إلى أنها مدنية، وقيل إنها نزلت بمكة والمدينة، وأبطله القاضي العماد٥٦ بأنه يجب عليه تحصيل الحاصل وهو محال.
أجاب ابن عرفة بأن التأكيد شائع في كلام العرب وليس فيه تحصيل الحاصل.
فإن قلت : يلزم عليه ( أن تكون )٥٧ الفاتحة في القرآن مرتين لتزولها مرتين وكان ( تكرر )٥٨ كما ( تكرر )٥٩ " فبأي آلاء ربكما تكذبان " ٦٠.
فإن ( قلنا )٦١ : إنما ذلك إذا نزلت على أنها غير الأولى.
فقد ذكر الأصوليون أن الغيرين يصدقان على المثلين أما إذا نزلت على أنها هي الأولى بعينها فلا يلزم ذلك فيها.
زاد القاضي العماد في إبطال النزول بمكة والمدينة أنه يلزم منه أن يكون كلما نزل بمكة نزل بالمدينة مرة أخرى، لأن جبريل عليه السلام كان ( يعرضه )٦٢ القرآن في كل سنة مرة، وفي الآخرة مرتين فيكون ذلك إنزالا آخر وهذا لا يقوله أحد.
وقال : ولعلهم يعنون بنزولها مرتين، أن جبريل نزل حين حولت القبلة فأخبره عليه الصلاة والسلام أن الفاتحة ركن في الصلاة كما كانت بمكة، وأقرأه فيها قراءة لم ( يكن أقرأه بها ) ٦٣ في مكة فظنوا٦٤ ذلك إنزالا وهو ضعيف.
١ - قال البسيلي في التقييد الكبير عند تفسير الاستعاذة ما يلي واكتفى به: الفخر: لفظ أعوذ بالله مشتمل على الألوف من المسائل المهمة المعتبرة نحو العشرة آلاف، لأن المراد منه الاستعاذة بالله من جميع المنهيات المنقسمة إلى الاعتقادات وأعمال الجوارح. أما الاعتقادات فقال (صلى الله عليه وسلم): "ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلهم في النار إلا ملة واحدة". فدل على أن الاثنين والسبعين موصوفون بالعقائد الفاسدة، ثم إن ضلال كل فرقة منهم حاصل في مسائل كثيرة من المباحث المتعلقة بذات الله وبصفاته وأحكامه وبأفعاله وبأسمائه وبمسائل الجبر والقدر والتعديل والتجويز والنبؤات والمعاد والوعد والوعيد والأسماء والأحكام.
فإذا وزعنا عدد الفرق الضالة على هذه المسائل الكثيرة بلغ العدد الحاصل مبلغا عظيما. وقولنا: أعوذ بالله: يتناول الاستعاذة من جميع تلك الأنواع - والاستعاذة من الشيء لا يمكن إلا بعد معرفة المستعاذ منه، وإلا بعد معرفة كون ذلك الشيء باطلا. وأما الأعمال الباطلة فهي عبارة عن كل ما ورد النهي عنه إما في القرآن، أو في الأخبار المتواترة، أو في الأخبار الآحاد، أو في إجماع الأمة أو في القياسات الصحيحة ولا شك أن تلك المنهيات تزيد على الألوف – وقولنا "أعوذ بالله". متناول لجميعها وجملتها..

٢ أ ب ج د: فالنفي..
٣ أ ب ج: نقص..
٤ هـ: إذ كل..
٥ أ: نقص – ج: في القراءة..
٦ - نص المدونة: "وقال مالك: لا يتعوذ الرجل في المكتوبة قبل القراءة. قال: ولكن يتعوذ في قيام رمضان ١/٦٤..
٧ - المجموعة لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبدوس بن بشير (توفي سنة ٢٦٠هـ أو ٢٦١هـ) الفقيه المالكي – والكتاب معتمد في المذهب. ابن فرحون: الديباج ٢٣٧. برو كلمان تاريخ الأدب ٣/٢٨٣..
٨ - سورة النحل الآية ٩٨..
٩ -د هـ: لمن..
١٠ -أبو الحسن علي بن محمد الربعي المعروف باللخمي القيرواني – توفي بصفاقس سنة ٤٧٨هـ/١٠٨٥م عنه أخذ الإمام المازري وأبو الفضل النحوي له تعليق مهم على المدونة – توفي سنة ٤٨٦هـ. كحالة ٧/١٩٧..
١١ - أ: من الشأن فمن – ب: في التبيان فيمن – د: في البيان فيمن..
١٢ - العتبية لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبي المتوفى سنة ٢٥٥هـ/٨٦٩م. وتسمى أيضا المستخرجة – قال عنها ابن حزم الظاهري: لها عند أهل العلم بإفريقيا القدر العالي والطيران الحثيث.
تناول ابن رشد العتبية بالشرح في كتابه البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل وهو مخطوط توجد منه نسخ بدار الكتب الوطنية بتونس واحدة في أجزاء تحمل الأرقام التالية: (١٢١٠١-١٢١٠٢-١٢١٠٣-١٢١٠٤-١٢١٠٥) وهي التي اعتمدتها في ضبط إحالات العتبية.
وتوجد نسخة من العتبية بباريس (أول ١٠٥٥) لم يتحقق بروكلمان من أنها كاملة انظر: بروكلمان ٣/٢٨٤ – انظر: المختار التليلي: ابن رشد وكتابه المقدمات ص ٢٨٩. كشف الظنون ١١٢٤..

١٣ - أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، ولد بقرطبة سنة ٤٥٠هـ/١٠٥٨م وتوفي سنة ٥٢٠هـ ١١٢٦م – انظر دائرة المعارف الإسلامية ١/١٦٧..
١٤ - قال العتبي: وسئل مالك عن القارئ إذا أخطأ في الصلاة أيتعوذ وهو يلقن أو لا يلقن ولا يفقه؟ قال: أرجو أن يكون خفيفا – نص العتبية من البيان والتحصيل ص٥٥ ظ مخطوط رقم ١٢١٠١..
١٥ -هـ: الخطأ..
١٦ - أ ب ج: نقص.
.

١٧ - بحار البيان: لأبي عمرو عثمان بن عمرو الأموي المعروف بالداني (٣٧١هـ -٤٤٤هت) كحالة: معجم المؤلفين ٦/٢٥٤..
١٨ د هـ: إيجاز البيان..
١٩ -أ: ناقصة الاستعاذة الثالثة وفي الثانية ذكر الغوي بدل الرجيم.
ب د: ناقصة الاستعاذة الثانية – هـ: الاستعاذتان الأولى والثانية ناقصتان..

٢٠ - أ: حكي – ب ج: بياض – د: حكى ابن المرشد – هـ: حكى ابن البيدش..
٢١ - كتاب الإقناع في القراءات السبع لابن الباذش (ت ٥٤٠) المقرئ المتوفى سنة ٤٤٦هـ - وذكر الجعبري أنه لأبي العز القلانسي وأنه واضح فيه كفاية للطالب – انظر كشف الظنون ١٤٠..
٢٢ - ج د هـ: الاقماع..
٢٣ - أ ب د: الرجيم..
٢٤ -أبو محمد قاسم بن أبي قاسم خلف الرعيني الشاطبي فقيه إمام القراء، توفي سنة ٥٩٠هـ/١١٩٤م – صنف حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات وهي قصيدة تبلغ ١١٧٣ بيتا – انظر: ابن فرحون ص ٢٢٤ – كحالة: ٨/١٠٠ – بروكلمان ١/٤٠٩-٤١٠..
٢٥ -د هـ: البيتان الأول والثاني ناقصان..
٢٦ - انظر شرح ابن القاصح ص ٣ – والأبيات الشعرية من البحر الطويل..
٢٧ - د: بياض..
٢٨ - أ: نقص..
٢٩ -انظر متن الشاطبية ص٧..
٣٠ -ج: الكتاب المطلق..
٣١ - د: الجملة ناقصة..
٣٢ -أبو البقاء: هو عبد الله بن الحسين العكبري فقيه حنبلي ولد ببغداد سنة ٥٣٨هـ/١١٤٣م وتوفي سنة ٦١٦هـ/١٢١٩م – من أهم مصنفاته: إعراب القرآن، انظر وفيات الأعيان لابن خلكان ٢/٢٨٦..
٣٣ -أ ب د هـ: غدره – والتصحيح من ج وهو الموافق لما في وجوه الإعراب والقراءات١/٤..
٣٤ - أ د: نقص – ج: في الشيء، والمثبت موافق لما في وجوه الإعراب والقراءات١/٤..
٣٥ -أ د: فيعال. والمثبت موافق لما في وجوه الإعراب والقراءات١/٤..
٣٦ -انظر: إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن لأبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري – ط دار الكتب العلمية بيروت١/٤..
٣٧ - أ د: نقص..
٣٨ -ج د: فعيل..
٣٩ - قال البسيلي في تفسير هذه السورة: سورة أم القرآن:
الألف واللام في الحمد للجنس ويتناول الحمد القديم وهو حمده تعالى نفسه بنفسه ويتناول حمده في الدنيا وحمده في الآخرة وإن كان خبرا بمعنى الطلب فيكون (الـ) للماهية إذ لا يقدر أحد على حمده تعالى بجميع محامده ولذا قال عليه الصلاة والسلام:" فأحمده بمحامد يعلمنيها لم أكن أحمده بها قبل ذلك". فإن قلت: يكون المطلوب حمده تعالى بمجموع المحامد من حيث هو مجموع؟ قلت: صيغ العموم كلية لا كل. فإن قلت: قد ثبت الحمد للمخلوق فأين العموم؟ فالجواب: أنه وإن ثبت للمخلوق فهو مجاز لا حقيقة.
النووي، في الأذكار: سئل الحافظ أبو عمرو بن الصلاح عن من حلف أنه يحمد الله بجميع محامده فأجاب بأنه لا يبر بقوله (الحمد لله) بل بأن يقول: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، أو يقول الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده.
ونقله حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، انظر التفتازاني في شرح تلخيص المفتاح. إياك: لما أجرى المحامد ما ذكر من الصفات على اسم الذات كأنه اعتقد أنه عز وجل كالمشاهد الحاضر فخاطبه بقوله إياك.
قاله الطيبي: في غير هذا الموضع: وجعل الزمخشري ومن قدمه تقديم المضمر المنفصل المنصوب والمفعول الظاهر يدل على الحصر.
وقال صاحب المثل السائر: تقديم المجرور يفيد الحصر كقوله تعالى: "إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم".
ورده صاحب الفلك الدائر: بأن الحصر في ذلك من السياق لا من تقديم المجرور. قيل: لو اقتضى التقديم الحصر لاقتضى نقيضه على عدم الحصر في مثل: اعبد ربك؟ أجيب بأن اللازم لاقتضاء نقيضه لا حصر وهو أعم من عدم الحصر.
قيل: لو اقتضاه في قوله تعالى: وثيابك فطهر.
أجيب: بأن إنما يدعى ذلك ظاهرا لا نصا..

٤٠ - ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتهر بتبحره في العلم توفي سنة ٦٨هـ/٧٨٧م. انظر الأعلام ٤/٢٢٨ -٢٢٩..
٤١ - جاء في تنوير المقباس عن ابن عباس ص٢ ما يلي: "وهي مدنية، ويقال: إنها مكية"..
٤٢ - ب: نقص..
٤٣ - سورة الحجر الآية: ٨٧..
٤٤ - عبارة ابن عطية (والحجر مكية بإجماع). المحرر الوجيز ١/٦١..
٤٥ - أبو المنذر وأبو الطفيل أبي بن كعب بن قيس الأنصاري سيد القراء ومن رواة السنة شهد بدرا وكتب الوحي وكان ممن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم له ١٦٤ حديث توفي سنة ٢٠هـ/٢٤١م وقيل غير ذلك.
ترجم له ابن سعد في الطبقات ٣/٤١٤. الزركلي: الأعلام ١/٨٧..

٤٦ - الحديث أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن (٤٦) باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب (١) رقم ٢٨٧٥..
٤٧ - روى الإمام احمد في مسنده عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت فأتيته فقال: ما منعك أن تأتيني، قال: قلت يا رسول الله إني كنت أصلي قال: ألم يقل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد قال: فأخذ بيدي. فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، قال: نعم: "الحمد لله رب العالمين" هي "السبع المثاني والقرآن العظيم" الذي أوتيته. رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة..
٤٨ - أ ب: نقص..
٤٩ - أ ب ج هـ: نقص..
٥٠ - أ ب: كانت..
٥١ - أ: إن، ج: إنها كانت..
٥٢ - المحرر الوجيز ١/٦١..
٥٣ - ب ج د: نقص..
٥٤ - الحديث رواه الترمذي (المواقيت) ١١٦. وأحمد ٢/٤٢٨، لا صلاة إلا بقراءة الفاتحة، رواه الترمذي أيضا (المواقيت) ٦٩ – ١١٥ وابن ماجة (الإقامة): لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب..
٥٥ - ب ج د هـ: نقص، والمثبت من أ ويقصد بالإمام ابن عرفة..
٥٦ - انظر تفسير ابن كثير: ١/١٧..
٥٧ - أ: كون..
٥٨ - ج: تكريرا..
٥٩ - أ: في..
٦٠ - آيات سورة الرحمان بداية من الآية رقم: ١٣..
٦١ - أ: قلت..
٦٢ - د: يعرضه..
٦٣ ب: لم تقرأ بها له، ج هـ: لم يقرأ بها له، د: لم يكن يقرأ بها..
٦٤ - ب د: فظن، ج: نقص..
تفسير البسملة
﴿بِسْمِ اللهِ الرحمن الرَّحِيمِ﴾:
قال ابن رشد في البيان (في رسم تدريسه): لم يختلف قول مالك: إنّها لا تقرأ في الفريضة لا في أوّل الحمد، ولا في (أول) السورة التي بعدها لأنها ليست آية منها. (وليست) من القرآن إلا في سورة النمل: وإنما ثبت في المصحف الاستفتاح بها.
قال: ويتحصل في قراءتها في أول الحمد في الفريضة أربعة (وجوه):
قراءتها للشافعي - وكراهتها لمالك - واستحبابها لمحمد ابن مسلمة - والرابع قراءتها سرّا استحبابا -. وأما النافلة
فلمالك فيها في الحمد قولان، وله فيما عدا الحمد ثلاثة، فله في هذه الرواية القراءة، وله في رواية أشهب عنه عدمها إلا أن يقرأ القرآن في صلاته عرضا، وفي المدونة أنّه يخيّر - انتهى.
قال القاضي عماد الدين: ذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها ليست آية من الفاتحة ولا من أول كل سورة وذهب الشافعي وجماعة إلى أنها آية من الفاتحة وعنه في كونها آية من (أول) كل سورة قولان: ((فمن أصحابه من حمل القولين على أنها من القرآن في أول كل سورة، ومنهم من حملها على أنها هل هي آية برأسها في أول كل سورة أو هي مع كل آية من أول كل سورة آية؟
ونقل السهيلي)) في الروض الأنف (عن) داود وأبي حنيفة أنها آية مقترنة مع السورة.
ابن عرفة: قيل البسملة آية من كل سورة.
فقال الغزالي في المستصفى: معناه أنها آية مع كل سورة وليست جزءا من كل سورة.
وقال غيره: معناه أنها آية أي جزء من كل سورة.
وورد في الحديث عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: (ما كنا نعلم تمام السورة إلا بالبسملة) فظاهره (أنها) تكرر إنزالها مع كل سورة مثل ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ وظاهر غيره من الأحاديث أنه لم يتكَرر فإذا قلنا: إنها مع أول كل سورة فكيف (تصح) قراءة ورش بإسقاطها. قال: لكن يجاب بما (قال) ابن الحاجب بتعارض الشبهات: أي أن كل واحد من الخصمين يرى أن ما أتى به خصمه شبهة أعني دليلا باطلا وهما قويان فتعارضت الشبهات.
قال ابن عرفة: ولا بد من زيادة ضميمة أخرى وهي الإجماع على أنها قرآن من حيث الجملة، فلذلك صح التعارض.
25
قال بعضهم: والنافي هنا دليله أقوى، وظاهر كلام ابن عطية في آخر سورة الحمد (أنّ عدد آي السور قياسي لا سماعي) لأنّه قال: أجمع الناس على أنّ (عدد) آي الحمد سبع. (ربّ) العَالمين آية - الرّحْمَان الرحِيمِ آية - (مَالِكِ يَوْمِ) الدّينِ آية - نَسْتَعينُ آية - أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية - وَلاَ الضّالّينَ آية.
ونص الغزالي (في المستصفى) على أنه مسموع وكذلك قال الزمخشري في أول سورة البقرة في تفسير قوله: الم.
قال الزمخشري: وذكر الزجاج أنه يفخم (لاَمَهُ) وعلى ذلك العرب كلهم وإطباقهم عليه دليل على أنهم ورثوه كابرا عن كابر.
قال ابن عرفة: إنما يفخم في الرفع، والنصب أما الخفض فلا.
قال ابن عرفة: وكان الفقيه أبو عبد الله محمد بن سعيد (بن عثمان) بن أيوب (الهزميري) يحكي عن علماء الشافعية بالمشرق أنهم يقسمون البسملة ثلاثة أقسام: قسم هي فيه آية في أول الفاتحة، وقسم هي فيه بعض آية، وذلك في (سورة) النمل، وقسم بعضها فيه آية، وهو: ﴿الرحمن الرَّحِيمِ﴾.
﴿بِسْمِ اللهِ﴾:
إما متعلق بفعل أو اسم وقدّره الزمخشري (في) «بسم الله أقرأ وأتلو» وقدره ابن عطية: بِسم الله أبتدئ.
قال (ابن عرفة): وكان الشيوخ يستصوبون تقدير الزمخشري، فإنه يجعل (قراءته) من أولها إلى آخرها مصاحبة لاسم الله تعالى.
وقد قال الشيخ عز الدين في قواعده: في قول الإنسان عند الأكل ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ معناه: آكل باسم الله، وليس معناه:
أبدأ باسم الله، ولهذا كانوا ينتقدون على الشاطبي في قوله: في (النّظم) أولا «وهلا قال» نظمت باسم الله (في الذكر أولا «). (حتى تكون التسمية مصاحبة له في جميع نظمه)
فإن قلت: لِمَ قدر الفعل متأخرا؟
فالجواب: (إنّه إنما) قدره كذلك ليفيد الاختصاص لأنهم كانوا يقولون: واللاّت والعزى ويبدؤون بآلهتهم، قُدّم اسم الله هنا (للتوجيه والحصر) كما في إياك نعبد.
وابن أبي الربيع وغيره كانوا يقولون: إنّما قدم بِسْمِ الله (هنا) للاهتمام به.
26
قوله تعالى: ﴿الرحمن الرَّحِيمِ﴾:
إن قلت: لِمَ قدم الوصف بالرّحمان مع أنه أبلغ على الوصف بالرحيم فيلزم أن يكون تأكيدا للأقوى بالأضعف.
(فأجيب) (بوجهين):
- الأول: الرّحمان لما كان خاصا بالله تعالى جرى مجرى (الأسماء) الأعلام التي تلي العوامل فقدم على الرحيم.
- (الثاني): إن الرّحمان دال على جلائل النعم والرّحيم على دقائقها. قاله الزمخشري.
قال ابن عرفة: وكان (يسبق) لنا تقريره بأنّهما يختلفان (باعتبار) المتعلق، فالرحمة قسمان لأنّ الرحمة بالإنقاذ من الموت أشد من الرّحمة بإزالة شوكة، فقد يرحم الإنسان عَدُوّهُ بالإنقاذ
من الموت ولا تطيب نفسه أن يرحمه بإزالة شوكة تؤلمه في (بدنه) (فتقديم) الرّحمة الأُولى لا يستلزم هذه بوجه.
قلت: وقرر ابن عرفة لنا في الختمة الثانية السؤال المتقدم: بأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص (فيبدأ) في الثبوت بالأعم، ثم بالأخص وفي النفي على العكس ورَحمان أخص من رحيم.
وقرر لنا جوابه بأن الرحمان دال على كثير النّعم بالمطابقة وعلى دقائقها بالالتزام ودلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام فذكر الرحيم بعده ليدل على دقائق النعم بالمطابقة.
وإليه أشار الزمخشري بقوله: والرحيم أتى به (كالتّتمة) ليتناول ما دق منها.
ولما (رأى)، وذكر أن الرّحْمَانَ أبلغ لكونه أكثر حروفا قال: وهو من الصفات الغالبة كالدّبران (والعرب) لم (تستعمله) في غير الله أما قول بني حنيفة
في (مسيلمة) الكذاب: رحمان اليَمامة. وقول شاعرهم:
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
(فباب) من تعنتهم في كفرهم
قال ابن عرفة: هو لا يحتاج إليه، وكان (يظهر) لنا الجواب عنه بأن رَحْمانا في قولهم: رحمان اليمامة (استعمل مضافا) ورحمانا في البيت منكرا.
وأما الرحمان المعرّف بالألف واللام فخاص بالله لم يستعمل في غيره (فانتفى) السؤال.
27
وكذا نص إمام الحرمين في الإرشاد خلافا (للفاسي)
في شرح الشاطبية، فإنه نص على أن المختصّ بالله مجموع الرّحْمَانِ الرّحِيم ونحوه في أسئلة ابن السيد البطليوسي.
قلت: ونقل لي بعضهم عن القاضي أبي عبد الله بن عبد السلام أنه أجاب عن السؤال المتقدم بوجوه.
أحدها: الجواب المتقدم: أتى بالرحيم على سبيل التتمة، وقد حصل الغرض بذكر الرّحْمَانِ وفائدته تحقق دخول ما يتوهم خروجه.
- الثاني: مراعاة الفواصل، عند من يرى أنها من الفاتحة.
- الثالث: أن الرّحمان يستلزم الرّحيم لكنه ذكر ليدل عليه مطابقة.
قال: وأجاب ابن أبي الربيع في شرح الإيضاح بأن الرّحمان كثر استعماله حتى عُومل معاملة العلم بخلاف الرّحيم فإنه لم يخرج عن كونه صفة.
قال: أو تقول إنها ليست للمبالغة.
وقول الزمخشري: إن العرب لا تزيد حرفا إلا لمعنى ممنوع، (وسند) المنع قولهم في حذر وبطر وأشد إنها أبلغ من حاذر وباطر وأشد.
قلت: وأجاب بعض النحاة المعاصرين بأن حذر ناب مناب محذور، ومحذور أكثر حروفا من حاذر بخلاف حاذر، فإنه لم ينب مناب شيء (حسبما) نص عليه ابن عصفور في (مقربه) في باب الأمثلة.
قلت: وأجاب ابن عرفة: بأنّ ذلك فيما عدل فيه عن الأصل والقياس إلى غيره كحذر وحاذر فإن القياس في اسم الفاعل منه أن يكون على وزن فاعل (فإنما) عدل عن ذلك لمعنى وغرض زائد،
وهو إرادة المبالغة، وأما الذي لم يعدل فيه عن الأصل كرحمان ورحيم فنقول الأكثر حروفا (أبلغ) ولهذا (قرر) القاضي العماد (رحمان) أبلغ. قال: ورحمان ورحيم كلاهما معدولان وحذر معه كذلك بخلاف حاذر فما عدل إلا للمبالغة.
28
واستشكل الغزالي (في الإحياء) قولهم: أَرْحَمُ الرّاحمِينَ مع أن الكفار في جهنم لم تصلهم رحمة بوجه، وهنالك قال: ما في الإمكان (أبدع) مما كان. وانتقدها الناس عليه.
وأجاب ابن عرفة: عن الإشكال بأن ذلك باعتبار مراعاة جميع الصفات لله تعالى لأن من صفاته - شديد العقاب - وذلك صادق بعذاب أهل النَار ونعيم أهل الجنة. فرحمته (هي) أشد الرحمة، وعقابه هو أشد العقاب.
وعادتهم يخطئون الغزالي في هذه المسألة، ويقولون: كل عذاب فالعقل يجوز أن يكون أشد منه في الوجود، وكل نعيم فالعقل يجوز أن يكون هناك أحسن منه.
قال الزمخشري: فإن قلت ما معنى وصفه (بالرحمة ومعناها العطف والحنو ومنه) الرّحم لانعطافها على ما فيها. قلت: هو مجاز على إنعامه على عباده. قال ابن عرفة: قالوا كل مجاز لا بد له من حقيقة الاّ هذا فإن الرحمة هي العطف (والحنو)، وذلك (ما هو) حقيقته إلا في الأجسام وتقرر أن غير الله لا يطلق عليه اسم الرحمان فهو مجاز لا حقيقة له.
وتكلم ابن عطية هنا في الاسم هل هو عين المسمى أو غيره؟
قال الفخر ابن الخطيب في نهاية العقول: المشهور عن أصحابنا أنّ الاسم هو المسمى، وعن المعتزلة أنه التسمية، وعن الغزالي أنه مغاير لهما، والناس طوّلوا في هذا وهو عندي (فضول) لأن البحث عن ذلك مسبوق بتصور ماهية الاسم وماهية المسمى، فالاسم هو الاسم الدال بالوضع لمعنى من غير زمان والمسمى هو وضع ذلك اللفظ بإزائه، فقد يكون اللفظ غير المسمى لعلمنا أن لفظ الجواز مغاير لحقيقة (المجاز)، وقد يكون نفسه لأن لفظ الاسم اسم (للفظ) الدال على المعنى المجرد (عن) الزمان، ومن جملة تلك الألفاظ (لفظ) الاسم، فيكون الاسم اسما لنفسه من حيث هو اسم. وقال غيره: إنّ السؤال (سفسطة).
وقال الآمدي (في أبكار الأفكار)، وهو أحسن من تكلم عليه لأن المسألة لها تعلق باللغة (وتعلق بأصول الدين) أما اللغة فمن حيث إطلاق لفظ (الاسم) هل المراد به الذات فيكون الاسم (هو)
29
المسمى أو اللفظ الدال عليه ك ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى﴾ أما تعلقها بأصول الدين فهو (هل) المعقول (من الذات) (منها) وحدها أو منها مع اسمها (أم لا)؟ فإن كان (المعقول) منهما واحدا كان الاسم هو المسمى كالعالم والقادر
وقال ابن عرفة: والصواب أن المعقول من الذات من حيث اتصالها بالصفة غير المعقول منها مجردة عن تلك الصفة، (فإنا) إذا فهمنا من لفظ العالم الذات من حيث اتصافها بالعلم استحال اتصافها
بالجهل، بخلاف قولنا: «إن المعقول هو الذات القابلة (للاتصاف) بالعلم وبضده ولا شك أن المعقولين متغايران».
وانظر كلام الآمدي، فهو طويل نقلته بكامله في آخر سورة الحشر وانظر مختصر ابن عرفة في فصل (الحقيقة) وما قيدته أنا في أواخر مسلم على حديث (إن لله) تسعا وتسعينا اسما مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة.
قلت: وقال ابن عرفة مرة أخرى: منهم من قال: تارة يراد بالاسم المسمى مثل: زيد عاقل، وتارة يراد به التسمية: كزيد (وزنه فعل)، ومنهم من قال: يراد به المسمى: كزيد قادر، إذا أردت الذات. وتارة يراد به الصفة، فقادر موضوع لأن يولد به القدرة، وهو صفة من صفات الذات، والله أعلم بالصواب.
30
تفسِيَر سُورَة الفاتحِة
(أ)
اختلفوا فيها فقال ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة: إنّها مكّية واحتج (له) ابن عطية بقوله تعالى في الحجر:
ولقَدَ أتَيَنَاكَ سَبْعا من المَثاني والقُرآن العظيم ". وهي مكية بإجماع وفي حديث أبي بن كعب " إنها السبع المثاني ". ورده ابن عرفة بقوله تعالى: " والقرآن العظيم " ولم يكن نزل (حينئذ) جميعه فلا بد أن يكون أوقع الماضي موضع المستقبل. قال ابن عطية: ولا خلاف أن الصلاة (فرض) (كان) بمكة، ولم يحفظ (أنه كانت قط) صلاة في الإسلام بغير الحَمْدُ للهِ رَبّ العَالمينَ.
ورده ابن عرفة: بأن أبا حنيفة لم يشترط قراءة الفاتحة بل خيّر المصلي بأن يقرأ بما شاء فلعل (ذلك) لأنها لم تكن في أول الإسلام واجبة ولعل حديث: " لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب متأخر ". قال (الإمام): وذهب عطاء والزهري وجماعة إلى أنها مدينة، وقيل أنها نزنلت بمكة والمدينة، وأبطله القاضي العماد بأنه يجب عليه تحصيل الحاصل وهو محال.
31
أجاب ابن عرفة بأن التأكيد شائع في كلام العرب وليس فيه تحصيل الحاصل. فإن قلت: يلزم عليه (أنْ تَكُون) الفاتحة في القرآن مرتين لتزولها مرتين وكان (تكرر) كما (تكرر) ﴿فَبِأَيّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذّبَان﴾. فإن قلنا: إنما ذلك إذا نزلت على أنها غير الأولى. فقد ذكر الأصوليون أن الغيرين يصدقان على المثلين أما إذا نزلت على أنها الأولى بعينها فلا يلزم ذلك فيها.
زاد القاضي العماد في إبطال النزول بمكة والمدينة أنه يلزم منه أن يكون كلما نزل بمكة نزل المدينة مرة أخرى، لأن جبريل عليه السلام كان (يعرّضه) القرآن في كل سنة مرة، وفي الأخيرة مرتين فيكون ذلك إنزالا آخر وهذا لا يقوله أحد. وقال: ولعلهم يعنون بنزولها مرتين، أن جبريل نزل حين حَوَلت القبلة فأخبره عليه الصلاة والسلام أن الفاتحة ركن في الصلاة كما كانت بمكة، وأقرأه فيها قراءة لم (يكن أقرأه بها) في مكة فظنّوا ذلك إنزالاً وهو ضعيف. قوله تعالى: ﴿الحَمْدُ للهِ﴾
قوله تعالى: ﴿الحمد لِلَّهِ.. ﴾
قال الزمخشري: الحَمْدُ والمدح أخوان.
فقيل: معناه أنهما مترادفان، وقيل: متقاربان، وقيل: متغايران، فالحمد يطلق على الله تعالى والمدح لا يطلق عليه. وأما الشكر/ فحكى أبو حيان فيه ثلاثة أقوال قال الطبري: هو الحمد، وقيل: غيره، وقيل: الحمد أعمّ منه، فالحمد يطلق على الصفات الجميلة والشكر على الأفعال الجزيلة. وظاهر كلام الزمخشري قول رابع أن بينهما عموم وخصوص وجه دون وجه
فالحمد يكون باللّسان على الصفات الجميلة والأفعال الجزيلة والشكر يكون بالقول والفعل والقلب على الأفعال (خاصة)، واحتجوا له بقول الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي، ولساني، والضمير المحجبا
قال ابن عرفة: وعادتهم يتعقبونه بانه لم يسمه شكرا وإنما سماه نعماء وعلى تقدير أن لو سمّاه (شكرا) فلا دليل فيه. لأن العربي إنّما يحتج بقوله فيما يرجع إلى نظم الكلام وأحكامه
32
اللفظية الإعرابية. أما ما يحكم عليه بأنه كذا فلا يحتج به كما ذكر في الإرشاد الرد عليهم في استدلالهم على كلام النفس (بقول) الأخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعل اللّسان على الفؤاد دليلا
وذكر هذه الأقوال (الأربعة) ابن هارون في شرح ابن الحاجب الأصلي.
والألف واللاّم في «الحمد» إما للجنس أو (للعهد) أو للماهية. وقرر القاضي العماد الجنس بأنّ الحمد يختلف فيه القديم (والحادث) لأنّ الله تعالى في الأزل حمد نفسه بنفسه، فيتناول حمدنا له وحمده هو لنفسه وقرر العهد بأنّ النعم لما كان (اللّسان) يستحضرها فكأنه يعهدها إلى الله تعالى.
واختار القاضي العماد أنها للماهية وضعف كونه للجنس، وقرر بأن الله تعالى تعبدنا بحمده، أي نحمده بما حمد به نفسه فالحمد القديم (مماثل) (للحادث) بمعنى اللفظ المؤدي باللّسان هو المعنى القديم الذي وصف الله به نفسه، كما أن القرآن قديم أزلى، ونحن نعبر عنه (بألفاظنا الحادثة) فالحمد إذا حقيقة واحدة.
قال: (وهذا البحث من نظري) فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان.
قال ابن عرفة: وحاصله هل المعتبرُ في الحمد صفة الفاعل أو صفة متعلق الحمد، فإن اعتبرته الحمد من حيث الفاعل فهو حادث وإن (اعتبرته) من حيث صفة المحمود جاء منها الذي قاله العماد.
ولما ذكر (بعضهم) كونها للجنس قال: إنها دالة على أفرادها مطابقة.
قال ابن عرفة: هذا جار (الخلاف) في دلالة (العام) على بعض أفراده هل (هو) مطابقة تضمن أو التزام؟
قال ابن عطية: وقرأ سفيان بن عينية (ورؤبة) بن العجاج: «الحمد» لله بفتح الدال علما على إضمار فعل.
33
قال ابن عرفة: وقالوا وقراءة الضم أدل على الثبوت (كقولهم له) علم (علم الفقهاء) بالنصب والرفع.
قال الزمخشري: ومنه قوله تعالى:
﴿فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ﴾ (بالرفع في) الثّاني ليدلّ على أنّ إبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم لأن الرفع دال على الثبوت. وكذا قال السكاكى في علم البيان.
قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون عليه تشكيكا من ناحية أن سلام الملائكة على إضمار (فعل) مؤكد بالمصدر، والدّال على إثبات الحقيقة وإزالة الشك عن الحديث الأعم من أن يكون وقوعه منهم ثابتا، أو لا؟ والاسم المرفوع دال على ثبوت وقوع السلام منهم أعم من أن يكون حقيقة أو مجازا، فتعادلا، فليس أحدهما بأبلغ من الآخر. قال: وكان يمشي لنا الجواب عنه بأن سلام إبراهيم إنما هو بعد سلام الملائكة ردا عليهم، والبعدية تقتضي الحدوث (والتجدّد)، فلو عبر فيه بالفعل لتوهّم (فيه) الحدوث، وأنه إنّما سلم ردا عليهم فعبّر بالاسم (تنبيها) على أن (سلامِيَ) عليكم كان ثابت ولو لم تبدؤوني بالسّلام. وسلام الملائكة لما كان ابتدائيا لا يتوهّم فيه البعدية ولا أنه جواب وَرَدّ عبّروا فيه بالفعل (إذْ) لا ضرورة تدعو إلى التعبير بالاسم.
قلت: وأورد بعض نحاة الزمان على هذا إشكالين.
- الأول: كيف يصح حذف الفعل مع أن المصدر مؤكد له والفعل المؤكد يحذف لأن مقام الاختصار مناف لمقام التأكيد (فيمنع) أن (يكون) المصدر هنا مؤكدا؟
- الثاني: (إنما يمنع) أن هذا أبلغ لأن هذا المصدر نائب مناب الفعل لا مؤكدا له وكأنه لم يحذف من الكلام شيء
سلمنا أنه مؤكد لكن نقول: هو مؤكد لوجود الفعل وثبوته في نفس الأمر على سبيل الثبوت واللزوم، أو على سبيل التجدد والحدوث نظرٌ آخر، وانظر ما قيدته في سورة الذاريات.
34
قوله تعالى: ﴿.. رَبِّ العالمين﴾
قال الزمخشري: لفظ الرّب لا يطلق هكذا إلا على الله تعالى فهو في غيره مقيد بالإضافة تقول: ربّ الدّابة وربّ الدّار.
قال ابن عرفة: فإن قلت: قد قال الأصوليون كل ما صدق مقيدا صدق مطلقا؟
فالجواب: أن ذلك باعتبار المفعولية وهذا باعتبار الإطلاق اللفظي.
وفي حديث مسلم عن عبد الله بن عمر عن أبية في أشراط الساعة «أن تلد الأمَة ربتها».
قال ابن عطية: ويروى أنها تعدل ثلثي القرآن. والعدل إما في المعاني باشتمالها على التوحيد وغيره، وَ ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ على التوحيد فقط، وإما أن يكون (فضلا) من الله لا يعلل.
قوله تعالى: ﴿الرحمن الرحيم﴾.
قال ابن عرفة: قدم أولا الوصف برَبّ العَالمِينَ تنبيها على أصل النشأة، وأنه هو الخالق المبدئ، ثم ثنى بحال الإنسان في الدّنيا من النعم والإحسان، فلولا رحمة الله تعالى لما كان ذلك.
قوله تعالى: ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾.
تنبيها على (حال) الآخرة وفرّقوا بين الملك والمالك بأن المالك إنّما يتصرف في مال غيره بالمصلحة، والمالك يتصرف في ماله بالمصلحة وغيرها.
قوله تعالى :﴿ مالك يَوْمِ الدين ﴾.
تنبيها على ( حال )١ الآخرة وفرّقوا بين الملك والمالك بأن الملك إنّما يتصرف في مال غيره بالمصلحة، والمالك يتصرف في ماله بالمصلحة وغيرها.
قال ابن عطية : وحكى أبو علي٢ في حجة : من قرأ :﴿ مالك يَوْمِ الدين ﴾ أن أول من قرأ ﴿ مالك يَوْمِ الدين ﴾ مروان بن الحكم٣ [ ٤و ] وأنه يقال : مالِكُ الدّنانير والطير والبهائم/ ولا يقال : ملكها٤.
وقال ابن عرفة : عادتهم يردون الأول بأنّها شهادة على ( نفي )٥ فلا تقبل وكأنه قال : لم يقرأ بها أحد قبل ( مروان )٦ وكذلك قالوا في قول ابن خالويه٧ في كتاب ( تفسير )٨ ليس في كلام العرب كذا٩.
قلت : وأجابوا بأن الشهادة على النفي من العالم ( مقبولة )١٠.
قال الزمخشري : وصحّ الوصف بملك يوم الدين لأنه بمعنى ( النكرة )١١ ( فتعرف )١٢ بالإضافة١٣.
قال ( القرطبي )١٤ ١٥ : وليس المراد الملك الحاصل بالفعل، بل الملك التقديري لأن يوم القيامة ( لم )١٦ يوجد١٧.
قال ابن عرفة : المراد بالملك على ما قال الزمخشري :( القدرة )١٨ باعتبار الصلاحية لا باعتبار التنجيز.
قال الزمخشري : أو لأن المراد به زمان ( مستمر )١٩، مثل : زيد مالك العبيد فإضافته محضة. قال ( ويجوز )٢٠ أن يكون المعنى ( ملك الأمور يوم الدين )٢١ مثل :﴿ ونادى أَصْحَابُ الجنة ﴾٢٢ - ﴿ ونادى أَصْحَابُ الأعراف ﴾٢٣ - فيكون هذا للماضي وعلى الأول مجرد قيام الصفة بالموصوف من غير تعرض لزمان مخصوص٢٤.
١ - د: ملك..
٢ - أبو علي الفارسي في كتابه الحجة في علل القراءات السبع أخذ عن ابن مجاهد وقد جعل كتابه شرحا لكتاب القراءات السبع لابن مجاهد على ما ذكر حاجي خليفة في كشف الظنون ٢/١٤٤٨ وقد صدر منه جزء صغير عن دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة بدون تاريخ..
٣ - هو الخليفة الرابع من خلفاء بني أمية انتخبه بنو أمية بعد اعتزال معاوية بن يزيد، انظر دائرة معارف القرن العشرين ٨/٧٦٣..
٤ - المحرر الوجيز ١/٦٩..
٥ - أ: الانفى..
٦ - أ ب هـ: نقص..
٧ -أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه بن أحمدان الهمذاني نحوي لغوي شهير لا يعرف عام مولده. وتوفي عام ٣٧٠هـ/٩٨٠م. من أهم مصنفاته كتاب – ليس في كلام العرب – انظر دائرة المعارف الإسلامية ١/١٤٨..
٨ - د: نقص، والمثبت من بقية النسخ انظر الاسم في التعليق، هـ: أسفله..
٩ - كتاب ليس في كلام العرب لابن خالويه طبع نصفه درنيورج وطبع بالقاهرة طبعة تكاد تكون كاملة طبعه أحمد بن الامين الشنقيطي، أنظر دائرة المعارف الإسلامية ١/١٤٨..
١٠ - أ ب: بقبوله..
١١ - أ ب ج هـ: المضي..
١٢ - أ: فتعرفت، د: فيتعرف..
١٣ - الكشاف: ١/٥٨..
١٤ - أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن أبي بكر القرطبي المتوفى سنة ٦٦٨هـ، صاحب الجامع لأحكام القرآن..
١٥ - ج: القطربي..
١٦ - ج د: نقص..
١٧ - الجامع لأحكام القرآن: ١/١٤٢..
١٨ - أ: التقديري..
١٩ - أ: مستحق..
٢٠ - أ: ويحبون.
٢١ - أ: نقص..
٢٢ - سورة الأعراف الآية: ٤٤..
٢٣ - سورة الأعراف الآية: ٤٨..
٢٤ - الكشاف: ١/٥٩..
قال ابن عطية: وحكى أبو علي في حجة: من قرأ: ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ أن أول من قرأ ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ مروان بن الحكم وأنه يقال: مالِكُ الدّنانير والطير والبهائم/ ولا يقال: ملكها.
وقال ابن عرفة: عادتهم يردون الأول بأنّها شهادة على (نفي) فلا تقبل وكأنه قال: لم يقرأ بها أحد قبل (مروان)
وكذلك قالوا في قول ابن خالويه في كتاب (تفسير) ليس في كلام العرب كذا.
قلت: وأجابوا بأن الشهادة على النفي من العالم (مقبولة).
قال الزمخشري: وصحّ الوصف بملك يوم الدين لأنه بمعنى (الفكرة) (فتعرف) بالإضافة.
قال (القرطبي): وليس المراد الملك الحاصل بالفعل، بل الملك التقديري لأن يوم القيامة (لم) يوجد.
قال ابن عرفة: المراد الملك على ما قال الزمخشري: (القدرة) باعتبار الصلاحية لا باعتبار التنجيز.
قال الزمخشري: أو لأن المراد به زمان (مستمر)، مثل: زيد مالك العبيد فإضافته محضة. قال (ويجوز) أن يكون المعنى (ملك الأمور يوم الدين) مثل: ﴿ونادى أَصْحَابُ الجنة﴾ ﴿ونادى أَصْحَابُ الأعراف﴾ - فيكون هذا للماضي وعلى الأول مجرد قيام الصفة بالموصوف من غير تعرض لزمان مخصوص.
قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
إن قلت: لِمَ قدمت العبادة على الاستعانة مع أن الاستعانة سبب فيها؟
أجاب الزمخشري: بأن العبادة وسيلة والاستعانة مقصد فقدمت الوسيلة قبل (الحاجة). قال ابن عرفة: بل الصواب العكس (فالعبادة) هي المقصد.
قال: وكان يمشي لنا الجواب عن ذلك بأن هذا أقرب لكمال الافتقار وخلوص النية فإنّ المكلف إذا (أَقَرّ أوّلا بأن لاَ قُدْرة) له على الفعل إلا بالله، ثم فعل العبادة فإنّه قد تحول نيته بعد
ذلك
(وتزهو نفسه) ويتوهّم أن الفعل الواقع منه بقدرته استقلالا، فإذا أقر بعد الفعل بأن الاستعانة له عليه إلا بالله كان (نفيا) للتهمة وأقرب لمقام التذلّل والخضوع.
قلت: وقال بعض الناس العبادة مقصد باعتبار الحكم الشرعي والاستعانة مقصد باعتبار نية المكلف في طلبه لأنه (أخبر) أنه إنما يعبد الله لا غيره، ثم أخبر أنه لا يستعين على تلك العبادة إلا بالله.
قلت: وأجاب القاضي العماد (عن) السؤال بثلاثة أوجه:
- الأول: طلب المعونة من الله لا يكون إلا بعد معرفته ومعرفته هو التوحيد (وهي) العبادة.
- الثاني: يحتمل أن ترجع (العبادة) لتوحيد الله والاستعانة طلب معونته على حوائج الدنيا والاخرة وأول السورة في توحيد الله تعالى وآخرها للعبد كما في حديثه:... «قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين».
قدم العبادة ليكون ما هو لله بإزاء ما هو لله، وما هو للعبد بإزاء ما هو للعبد.
الثالث: طلب المعونة عبادة خاصة وإياك نعبد عامة، والعام مقدم على الخاص
قوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾.
قال ابن عرفة: الطّلب من الأدنى للأعلى سؤال عند المنطقيين ودعاء عند النحويين. ومنهم من قال: إن كان لله تعالى فهو دعاء، (وإن كان) لغيره (فهو) أمر. والهداية (لها معنيان خاص وعام) (فالأعم) الإرشاد سواء كان للخير أو للشر، والأخص الإرشاد إلى طريق الخير والمراد هنا الأخص.
والصراط قيل: هنا الطريق وقيل: الطريق الموصلة للآمر
الملائم وهو طريق الخير كأنه مأخوذ من السّرط وهو (الإبلاغ).
والإنسان ما يتبلغ إلا ما هو ملائم له، وَصَفَهُ على هذا بالمستقيم لأن طريق الخير قسمان قريبة، وبعيدة:
فالمستقيم نصّ (اقليدس) على أنه أقرب خطين بين نقطتين فالخط المستقيم أقرب من المعوج فلذلك وصفه على هذا بالمستقيم.
قال ابن عرفة: ولمّا قال «إياك نعبد» أوهم أن للإنسان في العبادة (ضربا) من المشاركة والاختيار، فعقبه بطلب الهداية
تنبيها على كمال الافتقار، وأن كل العبادة والطاعة من الله تعالى وليس للعبد عليها قدرة، فهو دليل لأهل السنة.
قوله تعالى: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ... ﴾.
دليل على أن الهداية إلى الطّاعة محض نعمة وتفضل من الله تعالى (لا باستحقاقه) بوجه، والمراد بالهداية خلق القدرة على الطاعة وعند المعتزلة (تيسير) أسباب الفعل والتمكن منه (ومنح الألطاف) لأنهم يقولون: إن العبد يستقل بأفعاله ويخلقها.
قال الزمخشري: فإن قلت ما أفاد الوصف بغير المغضوب مع أنه معلوم من الأول؟
فأجاب: بأن الإنعام يشمل الكافر والمسلم فبين أن المراد به المسلم. وردّه ابن عرفة بما تقدم لنا من أن المراد الإنعام الأخص.
قال: وإنّما الجواب أنه وصف به تنبيها وتحريضا للانسان على استحضار مقام الخوف والرّجاء خشية أن يستغرق في استحضار مقام الإنعام فيذهل عن المقام الآخر وأشار إليه ابن الخطيب هنا.
قال ابن عرفة: وغضب الله تعالى إما راجع لإرادته من العبد المعصية والكفر أو راجع لخلقه الكفر والمعصية في قلبه، هَذَا
عِنْدنَا. وعند المعتزلة راجع لإرادته الانتقام منه لأنهم يقولون أن الله تعالى لم يخلق الشر ولا أراده ووافقونا في (الدّاعى) أنه مخلوق لله تعالى.
فإن قلت لم قال: ﴿الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بلفظ الفعل، و ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ﴾ بلفظ الاسم وهلاّ قال صِرَاطَ المنعم عليهم كَما قال ﴿غَيْرِ المغضوب﴾؟
قلت: (فالجواب أنه) قصد التنبيه على التأدب مع الله تعالى بنسبة الإنعام إليه وعدم (نسبة) الشر إليه بل أتى به بلفظ المفعول الذي لم يتم فاعله فلم ينسب الغضب إليه على معنى الفاعلية وإن كان هو الفاعل المختار لكل شيء لكن جرت العادة في مقام التأدب أن ينسب للفاعل الخير دون الشر.
وأجاب القاضي العماد بوجوه:
38
- الأول: من (ألطاف) الله (أنه) إذا ذكر نعمة أسندها (إليه) فقال: -ayah text-primary">﴿وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: -ayah text-primary">﴿وإذا مرضت فهو يشفين﴾ -
الثاني: إنما قال: ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ﴾ (ليدخل غضبه) وغضب الملائكة والأنبياء والمؤمنين فهو أعمّ/ فائدة.
- الثالث: إنما لم يقل صراط المنعم عليهم لأن إبراز (ضمير) فاعل النعمة ذِكْر وشكر له باللّسان وبالقلب، فيكون (دعاء) مقرونا بالشكر والذكر.
- الرابع: فيه فائدة بيانية، وهو أنه من (التفنن) في الكلام لأنه (لو أجري) على أسلوب واحد لم يكن فيه تلك (اللّذاذة) وإذا اختلف أسلوبه ألقى السامع إليه سمعه (وهو تنبيه) وطلب احضار ذهنه من قريب ومن بعيد.
(قلت): وإشارة إلى قوله تعالى: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ فالنعمة تفضل ورحمة، والانتقام عدل وقصاص.
قلت: ونقل بعضهم أن القاضي (محمد) بن عبد السلام الهواري سئل ما السر في أن قيل: ﴿اهدنا الصراط﴾ بنُون العظمة والداعي واحد وهو محل تضرع وخضوع، وهلا قال: اهدِنِي؟
فأجاب بأنّ المصلّي إن كان واحدا فهو طالب لنفسه ولجميع المسلمين.
قال: أو تقول إنّ المصلي لما حصّل (مناجاة) الله وهي من أعظم الأشياء عظم لذلك وهو الجواب في «نَعْبُدُ - ونَسْتَعِينُ» والله أعلم بالصواب.
39
Icon