تفسير سورة يونس

تفسير المنار
تفسير سورة سورة يونس من كتاب تفسير المنار المعروف بـتفسير المنار .
لمؤلفه محمد رشيد رضا . المتوفي سنة 1354 هـ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ).
(الر) تُقْرَأُ هَذِهِ الْحُرُوفُ الثَّلَاثَةُ بِأَسْمَائِهَا سَاكِنَةً غَيْرَ مُعْرَبَةٍ هَكَذَا: أَلِفْ، لَامْ، رَا.
وَالْحَرْفُ الْأَخِيرُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. وَفَائِدَةُ النُّطْقِ بِهَا وَبِأَمْثَالِهَا هَكَذَا تَنْبِيهُ الَّذِينَ تُتْلَى عَلَيْهِمُ السُّورَةُ لِمَا بَعْدَهَا لِأَجْلِ الْعِنَايَةِ بِفَهْمِهِ حَتَّى لَا يَفُوتَهُمْ مِنْ سَمَاعِهِ شَيْءٌ، وَهِيَ أَقْوَى فِي هَذَا التَّنْبِيهِ مِنْ حَرْفِ الْهَاءِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَمِنْ كَلِمَةِ ((أَلَا)) الِافْتِتَاحِيَّةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) أَيْ تِلْكَ الْآيَاتُ الْبَعِيدَةُ الشَّأْوِ، الرَّفِيعَةُ الشَّأْنِ الَّتِي تَأَلَّفَتْ مِنْهَا هَذِهِ السُّورَةُ، أَوِ الْقُرْآنُ كُلُّهُ، هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِ بِالْحِكْمَةِ فِي مَعَانِيهِ، وَالْأَحْكَامِ فِي مَبَانِيهِ، الْحَقِيقِ بِهِدَايَةِ مُتَدَبِّرِهِ وَوَاعِيهِ.
(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ عَجَبِ الْكُفَّارِ وَاسْتِنْكَارِ إِنْكَارِهِمْ لِلْوَحْيِ إِلَى رَجُلٍ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَالْوَحْيُ الْإِعْلَامُ الْخَفِيُّ
الْخَاصُّ لِامْرِئٍ بِمَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ. أَيْ أَكَانَ إِيحَاؤُنَا إِلَى رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا نُكْرًا اتَّخَذُوهُ أُعْجُوبَةً بَيْنَهُمْ يَتَفَكَّهُونَ بِاسْتِغْرَابِهَا؟ كَأَنَّ مُشَارَكَتَهُمْ لَهُ فِي الْبَشَرِيَّةِ يَمْنَعُ اخْتِصَاصَ اللهِ إِيَّاهُ بِمَا شَاءَ مِنَ الْعِلْمِ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ كُفَّارُ مَكَّةَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالنَّاسِ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ عَلَى الرِّسَالَةِ قَدْ سَبَقَتْهُمْ إِلَيْهَا أَقْوَامُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ
وَهُوَ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) (٧: ٦٣ و٦٩) وَهَذَا الْمَعْنَى مُكَرَّرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ دَحَضْنَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) ((أَنْ)) هَذِهِ مُفَسِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْإِنْذَارُ الْإِعْلَامُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَسَائِرِ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْمُقْتَرِنِ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ بِأَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ كَافَّةً (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) التَّبْشِيرُ مُقَابِلُ الْإِنْذَارِ، أَيِ الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِالْبِشَارَةِ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَالْمَعْنَى وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ خَاصَّةً (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يَجْزِيهِمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ - وَالصِّدْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ ضِدُّ الْكَذِبِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْإِيمَانِ وَصِدْقِ النِّيَّةِ وَالْوَفَاءِ وَسَائِرِ مَوَاقِفِ الْفَضَائِلِ، وَمِنْهُ فِي التَّنْزِيلِ (مَقْعَدِ صِدْقٍ) (٥٤: ٥٥) وَ (مُدْخَلَ صِدْقٍ) (١٧: ٨٠) وَ (مُخْرَجَ صِدْقٍ) (١٧: ٨٠) وَ (قَدَمَ صِدْقٍ) وَالْقَدَمُ هَاهُنَا السَّابِقَةُ وَالتَّقَدُّمُ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: سَابِقَةٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ سُمِّيَتْ قَدَمًا لِأَنَّ السَّبْقَ بِهَا كَمَا سُمِّيَتِ النِّعْمَةُ يَدًا لِأَنَّهَا تُعْطَى بِالْيَدِ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى الصِّدْقِ لِتَحَقُّقِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَنَالُونَهَا بِصِدْقِ الْقَوْلِ وَالنِّيَّةِ (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكُوفِيُّونَ (لَسَاحِرٌ) يَعْنُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْبَاقُونَ (لَسِحْرٌ) وَيَعْنُونَ بِهِ الْقُرْآنَ، وَكُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَدْ قَالُوا، وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ يُشِيرُ إِلَى إِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَإِنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّ الْقُرْآنَ سِحْرٌ جَاءَ بِهِ سَاحِرٌ يَتَضَمَّنُ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّهُمَا فَوْقَ الْمَعْهُودِ وَالْمَعْلُومِ لِلْبَشَرِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ الْمَقْدُورَةِ لَهُمْ، وَتَأْكِيدُ قَوْلِهِمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَإِنَّ وَاللَّامِ، وَبِوَصْفِ السِّحْرِ أَوِ
السَّاحِرِ بِالْمُبِينِ الظَّاهِرِ يُفِيدُ الْحَصْرَ كَقَوْلِ الْوَلِيدِ (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَسَمَّوْهُ سِحْرًا لِأَنَّهُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ بِقُوَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي الْقُلُوبِ وَجَذْبِهِ لِلنُّفُوسِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَحَمْلِهَا عَلَى احْتِقَارِ الْحَيَاةِ وَلَذَّاتِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى إِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَزَوْجِهِ وَبَنِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَتَمْنَعُهُ وَتَحْمِيهِ. وَإِنَّمَا السِّحْرُ مَا كَانَ بِأَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ خَاصَّةٍ بِبَعْضِ النَّاسِ يَتَعَلَّمُهَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ إِمَّا حِيَلٌ وَشَعْوَذَةٌ، وَإِمَّا خَوَاصُّ طَبِيعِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ مَجْهُولَةٌ لِلْجَمَاهِيرِ، وَإِمَّا تَأْثِيرُ قُوَى النَّفْسِ وَتَوْجِيهُ الْإِرَادَةِ، وَكُلُّهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْعَارِفِينَ بِهَا وَقَدِ اسْتَبَانَ لِعَامَّةِ الْعَرَبِ ثُمَّ لِغَيْرِهِمْ مِنْ شُعُوبِ الْعَجَمِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِسِحْرٍ يُؤْثَرُ بِالتَّعْلِيمِ وَالصِّنَاعَةِ، بَلْ هُوَ مَجْمُوعَةُ عُلُومٍ عَالِيَةٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالتَّشْرِيعِ وَالِاجْتِمَاعِ مُرَقِّيَةٌ لِلْعُقُولِ، مُزَكِّيَةٌ لِلْأَنْفُسِ، مُصْلِحَةٌ لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُ مُعْجِزٌ لِلْبَشَرِ فِي أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعَانِيهِ وَهِدَايَتِهِ وَتَشْرِيعِهِ وَإِخْبَارِهِ
119
بِالْغَيْبِ (١) وَأَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَلِّغٌ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَقْدِرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْهُ غَيْرُهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ نَبِيُّ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ وَحْيٌ مِنْهُ تَعَالَى.
وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْوَحْيِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَإِثْبَاتَهُ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا مَا فِي بَحْثِ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي (ص ١٨١ - ١٨٢ ج ١ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا تَفْسِيرُ (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ) (٤: ١٦٣) الْآيَةَ. وَهُوَ فِي (ص ٥٥ وَمَا بَعْدَهَا ج ٦ ط الْهَيْئَةِ). وَمِنْهَا رَدُّ شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (ص ٢٥٨ - ٢٦٧ ج ٧ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا فِي خُلَاصَتِهِمَا (ص ٢٤٢ - ٢٤٧ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ بِمُنَاسَبَةِ تَكْلِيمِ اللهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (ص ١٥٤ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ) وَبَقِيَ عَلَيْنَا بَسْطُ الْقَوْلِ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ مَعَ مُثْبِتِي الْوَحْيِ وَنُفَاتِهِ، وَشُبْهَةُ النُّفَاةِ لِعَالَمِ الْغَيْبِ عَلَيْهَا وَتَصْوِيرُهُمْ لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ بِغَيْرِ صُورَتِهِ، فَنَعْقِدُ لَهُ الْفَصْلَ التَّالِيَ:
فَصْلٌ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مُثْبِتِي الْوَحْيِ وَنُفَاتِهِ
(فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
الْكَلَامُ فِي الْوَحْيِ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مُثْبِتِي الْوَحْيِ:
أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِكُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ، وَعَلَى الْقُرْآنِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَالسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلِمَ عِلْمًا عَقْلِيًّا وِجْدَانِيًّا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُؤْمِنَ إِيمَانًا عِلْمِيًّا بِأَنَّ تِلْكَ كُتُبُ وَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ كَتَبُوهَا أَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ فِيمَا كَتَبُوهُ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مَعْصُومٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ فَقِيهٌ أَنْ يُنْكِرَ فِقْهَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا نَحْوِيٌّ أَنْ يَجْحَدَ نَحْوَ سِيبَوَيْهِ وَابْنِ جِنِّيٍّ، وَلَا شَاعِرٌ أَنْ يَنْفِيَ شَاعِرِيَّةَ الرَّضِيِّ وَالْبُحْتُرِيِّ، بَلْ كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ بَصِيرٌ أَنْ يُكَابِرَ حِسَّهُ فَيُفَضِّلَ نُورَ الْقَمَرِ وَالْكَوْكَبِ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ، أَوْ نُورَ السِّرَاجِ عَلَى نُورِ النَّهَارِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْبُوصِيرِيِّ حَيْثُ قَالَ:
اللهُ أَكْبَرُ إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ وَكِتَابَهُ أَقْوَى وَأَقْوَمُ قِيلًا
لَا تَذْكُرُوا الْكُتُبَ السَّوَالِفَ عِنْدَهُ
طَلَعَ الصَّبَاحُ فَأَطْفِئِ الْقِنْدِيلَا
وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الَّذِينَ نَشَئُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَأَحَاطُوا بِهَا عِلْمًا وَخَبَرًا، ثُمَّ عَرَفُوا الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً وَلَوْ غَيْرَ تَامَّةٍ. وَهَاكَ شَهَادَةً حَدِيثَةً لِعَالِمٍ مُسْتَشْرِقٍ مِنْهُمْ.
120
كَتَبَ الْأُسْتَاذُ إِدْوَارْ مُونْتِيهِ الْمُسْتَشْرِقُ مُدَرِّسُ اللُّغَاتِ الشَّرْقِيَّةِ فِي مَدْرَسَةِ جِنِيفَ الْجَامِعَةِ فِي مُقَدِّمَةِ تَرْجَمَتِهِ الْفَرَنْسِيَّةِ لِلْقُرْآنِ مَا تَرْجَمْتُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ.
((كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا صَادِقًا كَمَا كَانَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقَدِيمِ، كَانَ مِثْلُهُمْ يُؤْتَى رُؤْيَا وَيُوحَى إِلَيْهِ، وَكَانَتِ الْعَقِيدَةُ الدِّينِيَّةُ وَفِكْرَةُ وُجُودِ الْأُلُوهِيَّةِ مُتَمَكِّنَتَيْنِ فِيهِ كَمَا كَانَتَا مُتَمَكِّنَتَيْنِ فِي أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ أَسْلَافِهِ، فَتُحْدِثُ فِيهِ كَمَا كَانَتْ تُحْدِثُ فِيهِمْ
ذَلِكَ الْإِلْهَامَ النَّفْسِيَّ، وَهَذَا التَّضَاعُفُ فِي الشَّخْصِيَّةِ اللَّذَيْنِ يُحْدِثَانِ فِي الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ الْمَرَائِيَ، وَالتَّجَلِّيَاتِ، وَالْوَحْيَ، وَالْأَحْوَالَ الرُّوحِيَّةَ الَّتِي مِنْ بَابِهَا)) اهـ.
فَهَذَا الْعَالِمُ الْأُورُبِّيُّ الْمُسْتَقِلُّ الْفِكْرِ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ بِهِ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْبِيَاءَ كَانَ ثَابِتًا لِمُحَمَّدٍ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ جَمِيعَ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ هِيَ أَكْمَلُ شَكْلًا وَمَوْضُوعًا وَأَصَحُّ رِوَايَةً وَأَبْعَدُ عَنِ الشُّبَهَاتِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ، وَأَمَّا مَا فُسِّرَ بِهِ هَذِهِ الْخَصَائِصُ فَهُوَ التَّعْلِيلُ الَّذِي يُعَلِّلُ بِهِ الْمَادِّيُّونَ الْوَحْيَ الْمُطْلَقَ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ.
وَقَدْ لَخَّصَ هَذَا الْعَالِمُ خَبَرَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كُتُبٍ إِسْلَامِيَّةٍ مُذْعِنًا لِصِحَّةِ رِوَايَتِهَا وَفَصَّلَهَا بَعْدَهُ الْعَالِمُ الْمُسْتَشْرِقُ الْفَرَنْسِيُّ إِمِيلْ دِرِمْنِغَامْ فِي كِتَابِهِ (حَيَاةُ مُحَمَّدٍ) مُذْعِنًا لِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ وَلِمَوْضُوعِهَا مُفَصِّلًا نُبُوَّتَهُ فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ، مُتَمَنِّيًا الِاتِّفَاقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى، آسِفًا لِلشِّقَاقِ بَيْنَهُمْ.
وَإِنَّنَا نَنْقُلُ هُنَا تَعْرِيفَ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْآيَاتِ (الْعَجَائِبِ) عَنْ أَحَدِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالتَّوَارِيخِ وَهُوَ الدُّكْتُورُ جُورْجُ بُوسْتِ الشَّهِيرُ مُؤَلِّفُ كِتَابِ (قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ) بِالْعَرَبِيَّةِ ; لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا الْبَاحِثُ الْمُسْتَقِلُّ الْعَقْلِ حُكْمَهُ فِي نُبُوَّةِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوُحْيِهِمْ، وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَالْوَحْيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
تَعْرِيفُ الْوَحْيِ عِنْدَهُمْ
جَاءَ فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ ((وَحْيٍ)) مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ مَعَ حَذْفِ رُمُوزِ الشَّوَاهِدِ:
((تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّةٍ خَاصَّةٍ بِمَدِينَةٍ أَوْ شَعْبٍ، وَجَاءَ فِي (حَزَّ ١٢: ١) وَهَذَا الْوَحْيُ هُوَ الرَّئِيسُ)) أَيْ أَنَّهُ آيَةٌ لِلشَّعْبِ. وَعَلَى الْعُمُومِ يُرَادُ بِالْوَحْيِ الْإِلْهَامُ. وَعَلَى ذَلِكَ
121
يُقَالُ: ((إِنَّ كُلَّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ)) وَالْوَحْيُ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ حُلُولُ رُوحِ
اللهِ فِي رُوحِ الْكُتَّابِ الْمُلْهَمِينَ وَذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ.
(١) إِفَادَتُهُمْ بِحَقَائِقَ رُوحِيَّةٍ أَوْ حَوَادِثَ مُسْتَقْبَلَةٍ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِهِ.
(٢) إِرْشَادُهُمْ إِلَى تَأْلِيفِ حَوَادِثَ مَعْرُوفَةٍ أَوْ حَقَائِقَ مُقَرَّرَةٍ، وَالتَّفَوُّهُ بِهَا شِفَاهًا أَوْ تَدْوِينُهَا كِتَابَةً بِحَيْثُ يُعْصَمُونَ مِنَ الْخَطَأِ فَيُقَالُ ((تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ)) وَهُنَا لَا يَفْقِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَوِ الْكَاتِبُ شَيْئًا مِنْ شَخْصِيَّتِهِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرُّوحُ الْإِلَهِيُّ بِحَيْثُ يَسْتَعْمِلُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقُوَى وَالصِّفَاتِ وَفْقَ إِرْشَادِهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا تَرَى فِي كُلِّ مُؤَلِّفٍ مِنَ الْكُتَّابِ الْكِرَامِ مَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْمَوَاهِبِ الطَّبِيعِيَّةِ وَنَمَطِ التَّأْلِيفِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ، وَفِي شَرْحِ هَذَا التَّعْلِيمِ دِقَّةٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَوْرَدُوهُ مِنْ شَرْحِهِ، غَيْرَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَسِيحِيِّينَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ قَدْ أَوْحَى لِأُولَئِكَ الْكُتَّابِ لِيُدَوِّنُوا إِرَادَتَهُ وَيُفِيدُوا الْإِنْسَانَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ لِكَيْ يَنَالَ الْخَلَاصَ الْأَبَدِيَّ)) اهـ.
تَعْرِيفُ النُّبُوَّةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عِنْدَهُمْ
وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ ((نَبِيٍّ. أَنْبِيَاءَ. نُبُوَّةٍ)) مِنْهُ مَا نَصُّهُ:
((النُّبُوَّةُ لَفْظَةٌ تُفِيدُ مَعْنَى الْإِخْبَارِ عَنِ اللهِ وَعَنِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا عَمَّا سَيَحْدُثُ فِيمَا بَعْدُ.
وَسُمِّي هَارُونُ نَبِيًّا ; لِأَنَّهُ كَانَ الْمُخْبِرَ وَالْمُتَكَلِّمَ عَنْ مُوسَى نَظَرًا لِفَصَاحَتِهِ. أَمَّا أَنْبِيَاءُ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ فَكَانُوا يُنَادُونَ بِالشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَيُنَبِّئُونَ بِمَجِيءِ الْمَسِيحِ. وَلَمَّا قَلَّتْ رَغْبَةُ الْكَهَنَةِ وَقَلَّ اهْتِمَامُهُمْ بِالتَّعْلِيمِ وَالْعِلْمِ فِي أَيَّامِ صَمُوئِيلَ أَقَامَ مَدْرَسَةً فِي الرَّامَّةِ وَأَطْلَقَ عَلَى تَلَامِذَتِهَا اسْمَ بَنِي الْأَنْبِيَاءِ فَاشْتُهِرَ مِنْ ثَمَّ صَمُوئِيلُ بِإِحْيَاءِ الشَّرِيعَةِ وَقُرِنَ اسْمُهُ بَاسِمِ مُوسَى وَهَارُونَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكِتَابِ، وَتَأَسَّسَتْ أَيْضًا مَدَارِسُ أُخْرَى لِلْأَنْبِيَاءِ فِي بَيْتِ أُبَلَّ وَأَرِيحَا وَالْجَلْجَالِ وَأَمَاكِنَ أُخْرَى. وَكَانَ رَئِيسُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ يُدْعَى أَبًا أَوْ سَيِّدًا، وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي هَذِهِ الْمَدَارِسِ تَفْسِيرَ التَّوْرَاةِ وَالْمُوسِيقَى وَالشِّعْرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ شُعَرَاءَ وَأَغْلَبُهُمْ كَانُوا يُرَنِّمُونَ وَيَلْعَبُونَ عَلَى آلَاتِ الطَّرَبِ. وَكَانَتِ الْغَايَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَدَارِسِ أَنْ يُرَشَّحَ الطَّلَبَةُ فِيهَا لِتَعْلِيمِ الشَّعْبِ.
أَمَّا مَعِيشَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَنِي الْأَنْبِيَاءِ فَكَانَتْ سَاذَجَةً لِلْغَايَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانُوا مُتَنَسِّكِينَ أَوْ طَوَّافِينَ يُضَافُونَ عِنْدَ الْأَتْقِيَاءِ.
((وَيَظْهَرُ أَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الَّذِينَ تَعَلَّمُوا فِي تِلْكَ الْمَدَارِسِ لَمْ يُعْطُوا قُوَّةً عَلَى الْإِنْبَاءِ بِمَا سَيَأْتِي، إِنَّمَا اخْتُصَّ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ أُنَاسٌ مِنْهُمْ كَانَ اللهُ يُقَيِّمُهُمْ وَقْتًا دُونَ آخَرَ حَسَبَ مَشِيئَتِهِ، وَيَعِدُهُمْ بِتَرْبِيَةٍ فَوْقَ الْعَادَةِ لِوَاجِبَاتِهِمُ الْخَطِيرَةِ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُلْهَمِينَ كَانَ يَخُصُّهُمُ اللهُ بِوَحْيِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا مِنْ قَبْلُ وَلَا دَخَلُوا تِلْكَ الْمَدَارِسَ كَعَامُوسَ مَثَلًا فَإِنَّهُ كَانَ رَاعِيًا وَجَانِيَ
122
جُمَّيْزٍ. أَمَّا النُّبُوَّةُ فَكَانَتْ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْأَحْلَامِ وَالرُّؤَى وَالتَّبْلِيغِ، وَأَحْيَانًا كَثِيرَةً كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَرَوْنَ الْأُمُورَ الْمُسْتَقْبَلَةَ بِدُونِ تَمْيِيزِ أَزْمِنَتِهَا، فَكَانَتْ تَقْتَرِنُ فِي رُؤَاهُمُ الْحَوَادِثُ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ مَعَ الْبَعِيدَةِ كَاقْتِرَانِ نَجَاةِ الْيَهُودِ مِنَ الْآشُورِيِّينَ بِخَلَاصِ الْعَالِمِ بِوَاسِطَةِ الْمَسِيحِ، وَكَانْتِصَارِ إِسْكَنْدَرَ ذِي الْقَرْنَيْنِ بِإِتْيَانِ الْمَسِيحِ، وَكَاقْتِرَانِ انْسِكَابِ الرُّوحِ الْقُدُسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ بِيَوْمِ الْحَشْرِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اقْتِرَانُ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ بِحَوَادِثِ يَوْمِ الدَّيْنُونَةِ.
((وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ الْأَنْبِيَاءَ الْمُلْهَمِينَ لِيُعْلِنُوا مَشِيئَتَهُ وَلِيُصْلِحُوا الشُّئُونَ الدِّينِيَّةَ، وَعَلَى الْأَخَصِّ لِيُخْبِرُوا بِالْمَسِيحِ الْآتِي لِتَخْلِيصِ الْعَالَمِ، وَكَانُوا الْقُوَّةَ الْعَظِيمَةَ الْفَعَّالَةَ فِي تَعْلِيمِ الشَّعْبِ وَتَنْبِيهِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ، وَكَانَ لَهُمْ دَخْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ انْتَهَى بِنَصِّهِ.
مَا يَرِدُ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ مِنْ تَعْرِيفِهَا:
أَمَّا تَفْسِيرُ الْإِلْهَامِ بِحُلُولِ رُوحِ اللهِ فِي رُوحِ الْمُلْهَمِ فَهُوَ تَحَكُّمٌ لِلنَّصَارَى لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَعْتَرِفُ بِهِ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا عُلَمَاؤُهُمْ. وَلَا يُمْكِنُهُمْ إِثْبَاتُهُ وَلَا دَفْعُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَالْخُلْفِ فِيمَا كَتَبَهُ أُولَئِكَ الْمُلْهَمُونَ وَمَا خَالَفُوا فِيهِ الْوَاقِعَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فَى شَرْحِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ دِقَّةً وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شَرْحِهِ إِلَخْ، وَمَنْ حَلَّ فِيهِ رُوحُ اللهِ صَارَ إِلَهًا ; إِذًا الْمَسِيحُ لَمْ يَكُنْ إِلَهًا عِنْدَ النَّصَارَى إِلَّا بِهَذَا الْحُلُولِ، فَكَيْفَ يَقَعُ فِي مِثْلِ مَا ذُكِرَ وَيَتَخَلَّفُ وَحْيُهُ أَوْ يُخَالِفُ الْوَاقِعَ؟
وَأَمَّا كَلَامُهُ فِي النُّبُوَّةِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يَأْتِي:
(١) إِنَّ أَكْثَرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَتَخَرَّجُونَ فِي مَدَارِسَ خَاصَّةٍ بِهِمْ يَتَعَلَّمُونَ فِيهَا تَفْسِيرَ شَرِيعَتِهِمُ التَّوْرَاةَ وَالْمُوسِيقَى وَالشِّعْرَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا شُعَرَاءَ وَمُغَنِّينَ وَعَزَّافِينَ عَلَى آلَاتِ الطَّرَبِ، وَبَارِعِينَ فِي كُلِّ مَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَنْفُسِ وَيُحَرِّكُ الشُّعُورَ
وَالْوِجْدَانَ، وَيُثِيرُ رَوَاكِدَ الْخَيَالِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ عِزْرَا وَنَحْمِيَا مِنْ أَعْظَمِ أَنْبِيَائِهِمْ سَاقِيَيْنِ مِنْ سُقَاةِ الْخَمْرِ لِمَلِكِ بَابِلَ (أَرْتَحْشَشْتَا) وَمُغَنِّيَيْنِ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَا قَدِ اسْتَعَانَا بِتَأْثِيرِ غِنَائِهِمَا فِي نَفْسِهِ عَلَى سَمَاحِهِ لَهُمَا بِالْعَوْدَةِ بِقَوْمِهِمَا إِلَى وَطَنِهِمَا وَإِقَامَةِ دِينِهِمَا فِيهِ.
فَالنُّبُوَّةُ عَلَى هَذَا كَانَتْ صِنَاعَةً تُعَلَّمُ مَوَادُّهَا فِي الْمَدَارِسِ وَيُسْتَعَانُ عَلَى الْإِقْنَاعِ بِهَا بِالتَّخْيِيلَاتِ الشِّعْرِيَّةِ وَالْإِلْهَامَاتِ الْكَلَامِيَّةِ، وَالْمُؤَثِّرَاتِ الْغِنَائِيَّةِ وَالْمُوسِيقِيَّةِ. وَالْمَعْلُومَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ فَأَيْنَ هِيَ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا وَلَمْ يَقُلْ شِعْرًا، وَقَدْ جَاءَ بِأَعْظَمِ مِمَّا جَاءُوا بِهِ كُلُّهُمْ؟
(٢) إِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَوْلَادِهِمْ كَانُوا مُتَنَسِّكِينَ أَوْ طَوَّافِينَ عَلَى النَّاسِ يَعِيشُونَ ضُيُوفًا عِنْدَ الْأَتْقِيَاءِ الْمُحِبِّينَ لِرِجَالِ الدِّينِ كَمَا هُوَ مِنْ دَرَاوِيشِ الْمُتَصَوِّفَةِ أَهْلِ
123
الطُّرُقِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ مِنْ رِجَالِ التَّنَسُّكِ كُلَّ مَا يَقُولُونَ، وَيُسَلِّمُونَ لَهُمْ مَا يَدَّعُونَ، وَيُذِيعُونَ عَنْهُمْ كُلَّ مَا يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ، وَمِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ نَقَلَتْ عَنْهُمْ كُتُبُهُمُ الْمُقَدَّسَةُ بَعْضَ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، وَإِنَّ مِنْ أَخْبَارِ الصُّوفِيَّةِ وَالنُّسَّاكِ وَالسُّيَّاحِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ تَفْضُلُ سِيرَتُهُمْ سِيرَةَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُتُبِهِمْ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَرْتَفِعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى دَرَجَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَشْأَتِهِ الْفِطْرِيَّةِ وَمَعِيشَتِهِ مِنْ كَسْبِهِ، وَكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ عَالَةً عَلَى النَّاسِ فِي شَيْءٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَلَا بَعْدَهَا.
(٣) أَشْهَرُ أَنْوَاعِ نَبُّوتِهِمُ الْأَحْلَامُ وَالرُّؤَى الْمَنَامِيَّةُ وَالتَّخَيُّلَاتُ الْمُبْهَمَةُ وَكُلُّهَا تَقَعُ لِغَيْرِهِمْ، وَقَدْ كَانَتِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مَبْدَأَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وَحْيِ التَّشْرِيعِ الَّذِي كَانَ لَهُ صُوَرٌ أَعْلَى مِنْهَا سَنُبَيِّنُهَا بَعْدُ. وَالرُّؤَى: صُوَرٌ حِسِّيَّةٌ فِي الْخَيَالِ تَذْهَبُ الْآرَاءُ وَالْأَفْكَارُ فِي تَعْبِيرِهَا مَذَاهِبَ شَتَّى قَلَّمَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَ الصَّادِقِ مِنْهَا غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ كَرُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ الَّتِي عَبَرَهَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرُؤْيَاهُ هُوَ فِي صِغَرِهِ.
(٤) إِنَّ نُبُوَّةَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَهِيَ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى كَوْنِهِمْ مُخْبَرِينَ عَنِ اللهِ تَعَالَى كَانَتْ أَحْيَانًا كَثِيرَةً بِدُونِ تَمْيِيزِ أَزْمِنَتِهَا وَلَا حَوَادِثِهَا: فَكَانَ بَعْضُهَا يَخْتَلِطُ بِبَعْضٍ فَلَا يَكَادُ يَظْهَرُ الْمُرَادُ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ حَمْلِهَا عَلَى شَيْءٍ وَاضِحٍ بَعْدَ وُقُوعِهِ كَمَا يُعْهَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْعَرَّافِينَ وَالْمُنَجِّمِينَ، بَلْهَ الرُّوحَانِيِّينَ الْمُكَاشِفِينَ،
وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ خِلَافُهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَشْرَحْهُ وَلَكِنَّ التَّارِيخَ شَرَحَهُ. وَكَانَ أَعْظَمُ نُبُوَّاتِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِخْبَارَهُمْ عَنِ الْمَسِيحِ (مِسْيَا) وَمُلْكِ إِسْرَائِيلَ ثُمَّ إِخْبَارَ الْمَسِيحِ نَفْسِهِ عَنْ خَرَابِ الْعَالَمِ وَمَجِيءِ الْمَلَكُوتِ لِأَجْلِ دَيْنُونِيَّةِ الْعَالَمِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْقَضِي الْجِيلُ الَّذِي خَاطَبَهُ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَقَدْ مَرَّ أَجْيَالٌ كَثِيرَةٌ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
امْتِيَازُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى نُبُوَّةٍ مَنْ قَبْلَهُ:
فَأَنَّى تُضَاهِئُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ (النُّبُوَّاتِ)، وَهِيَ كَمَا عَلِمْتَ - أَنْبَاءُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ بِالْمُغَيَّبَاتِ كَالَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ السَّابِقَةِ مِمَّا وَقَعَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَا هُوَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) الْآيَاتِ (١ - ٤) وَقَوْلُهُ: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٢٤: ٥٥) وَأَيْنَ هِيَ مِنْ إِنْبَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ بِأَنَّهُمْ سَيَفْتَحُونَ بَعْدَهُ بِلَادَ الشَّامِ وَبِلَادَ الْفُرْسِ وَمِصْرَ وَسَيَسْتَوْلُونَ عَلَى مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ حَتَّى إِنَّهُ سَمَّى كِسْرَى عَصْرَهُ بِاسْمِهِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ إِلَخْ؟
هَذَا مَا يُقَالُ بِالْإِجْمَالِ عَلَى أَحَدِ مَوْضُوعَيِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَمَّا سَيَكُونُ فِي مُسْتَقْبَلِ
124
الزَّمَانِ، فَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا فِي وَحْيِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ وَأَبْعَدُ عَنِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ، وَأَعْصَى عَلَى إِنْكَارِ الْمُرْتَابِينَ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ، وَسَأَذْكُرُ مَا يَتَأَوَّلُهُ بِهِ الْجَاحِدُونَ لِلنُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ فِي بَيَانِ بُطْلَانِ شُبْهَتِهِمْ.
وَأَمَّا الْمَوْضُوعُ الثَّانِي لِلنُّبُوَّةِ وَهُوَ الْأَهَمُّ الْأَعْظَمُ أَيْ عَقَائِدُ الدِّينِ وَعِبَادَاتُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ فَالنَّظَرُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) مَا ذَكَرُوهُ مَنْ كَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ عَقْلُ مَنْ جَاءَ بِهِ وَفِكْرُهُ وَلَا عُلُومُهُ وَمَعَارِفُهُ الْكَسْبِيَّةُ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ (وَثَانِيهِمَا) أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ مِنْ هِدَايَةِ النَّاسِ وَصَلَاحِ أُمُورِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ أَعْلَى فِي نَفْسِهِ مِنْ مَعَارِفِ الْبَشَرِ فِي عَصْرِهِ، فَيَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ وَحْيًا.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ الْخَاصُّ بِشَخْصِ الرَّسُولِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ الْمُسْتَقِلَّ الْمُفَكِّرَ إِذَا عَرَفَ تَارِيخَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَارِيخَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَشَأَ أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمِ الْقِرَاءَةَ وَلَا الْكِتَابَةَ، وَأَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ نَشَأَ فِيهِمْ كَانُوا أُمِّيِّينَ وَثَنِيِّينَ جَاهِلِينَ بِعَقَائِدِ الْمِلَلِ وَتَوَارِيخِ الْأُمَمِ وَعُلُومِ التَّشْرِيعِ وَالْفَلْسَفَةِ، حَتَّى إِنَّ مَكَّةَ عَاصِمَةَ بِلَادِهِمْ، وَقَاعِدَةَ
دِينِهِمْ، وَمَثْوَى كُبَرَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَمَثَابَةَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ لِلْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ فِيهَا، وَالْمُفَاخَرَةِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي أَسْوَاقِهَا التَّابِعَةِ لَهَا، لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ فِيهَا مَدْرَسَةٌ وَلَا كِتَابٌ مُدَوَّنٌ قَطُّ، فَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ التَّامِّ الْكَامِلِ، وَالشَّرْعِ الْعَامِّ الْعَادِلِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُكْتَسَبًا وَلَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْبَطًا بِعَقْلِهِ وَفِكْرِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَسَنَدْفَعُ مَا يَرُدُّ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ.
وَيُرَى تُجَاهَ هَذَا أَنَّ مُوسَى أَعْظَمَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَمَلِهِ وَفِي شَرِيعَتِهِ وَفِي هِدَايَتِهِ - قَدْ نَشَأَ فِي أَعْظَمِ بُيُوتِ الْمَلِكِ لِأَعْظَمِ شَعْبٍ فِي الْأَرْضِ وَأَرْقَاهُ تَشْرِيعًا وَعِلْمًا وَحِكْمَةً وَفَنًّا وَصِنَاعَةً، وَهُوَ بَيْتُ فِرْعَوْنِ مِصْرَ، وَرَأَى قَوْمَهُ فِي حُكْمِ هَذَا الْمَلِكِ الْقَوِيِّ الْقَاهِرِ مُسْتَعْبَدِينَ مُسْتَذَلِّينَ، تُذَبَّحُ أَبْنَاؤُهُمْ وَتُسْتَحْيَا نِسَاؤُهُمْ، تَمْهِيدًا لِفَنَائِهِمْ وَمَحْوِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَكَثَ بِضْعَ سِنِينَ عِنْدَ حَمِيهِ فِي مَدْيَنَ وَكَانَ نَبِيًّا - أَوْ كَاهِنًا كَمَا يَقُولُونَ - فَمِنْ ثَمَّ يَرَى مُنْكِرُو الْوَحْيِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الشَّرِيعَةِ الْخَاصَّةِ بِشَعْبِهِ لَيْسَ بِكَثِيرٍ عَلَى رَجُلٍ كَبِيرِ الْعَقْلِ عَظِيمِ الْهِمَّةِ، نَاشِئٍ فِي بَيْتِ الْمُلْكِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْحِكْمَةِ إِلَخْ.
ثُمَّ ظَهَرَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْقَرْنِ الْمِيلَادِيِّ أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ مُوَافِقَةٌ فِي أَكْثَرِ أَحْكَامِهَا لِشَرِيعَةِ حَمُورَابِي الْعَرَبِيِّ مَلِكِ الْكَلْدَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ مُوسَى وَقَدْ قَالَ الَّذِينَ عَثَرُوا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ فِي حَفَائِرِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى مُسْتَمَدَّةٌ مِنْهَا لَا وَحْيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا شَرَحْنَا فِي مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ وَذَكَرْنَا خُلَاصَتَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ (٩: ٣٠) وَهُوَ فِي (ص ٣٠٥ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ) وَأَقَلُّ مَا يَقُولُهُ مُسْتَقِلُّ الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ: إِنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ
125
مُسْتَمَدَّةً مِنْهَا فَلَا تُعَدُّ أَحَقَّ مِنْهَا بِأَنْ تَكُونَ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ حَمُورَابِيَ ادَّعَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
ثُمَّ يَرَى النَّاظِرُ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ أَنَّهُمْ كَانُوا تَابِعِينَ لِلتَّوْرَاةِ مُتَعَبِّدِينَ بِهَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَدَارَسُونَ تَفْسِيرَهَا فِي مَدَارِسَ خَاصَّةٍ بِهِمْ وَبِأَبْنَائِهِمْ مَعَ عُلُومٍ أُخْرَى، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَيَرَى أَيْضًا أَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ الَّذِي شَهِدَ الْمَسِيحَ بِتَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ وَلَمْ يَأْتِ بِشَرْعٍ وَلَا بِنَبَأٍ غَيْبِيٍّ - بَلْ إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ أَعْظَمُهُمْ قَدْرًا وَأَعْلَاهُمْ ذِكْرًا، وَأَجَلُّهُمْ أَثَرًا، لَمْ يَأْتِ بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ بَلْ كَانَ تَابِعًا لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ نَسْخِ قَلِيلٍ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَإِصْلَاحٍ رُوحِيٍّ أَدَبِيٍّ لِجُمُودِ الْيَهُودِ الْمَادِّيِّ عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا، فَأَمْكَنَ لِجَاحِدِي الْوَحْيِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ لَا يَكْثُرُ عَلَى رَجُلٍ مِثْلِهِ زَكِيِّ
الْفِطْرَةِ ذَكِيِّ الْعَقْلِ نَاشِئٍ فِي حِجْرِ الشَّرِيعَةِ الْيَهُودِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ الرُّومَانِيَّةِ. وَالْحِكْمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، غَلَبَ عَلَيْهِ الزُّهْدُ وَالرُّوحَانِيَّةُ، أَنْ يَأْتِيَ بِتِلْكَ الْوَصَايَا الْأَدَبِيَّةِ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نَقُولُ هَذَا وَإِنَّمَا يَقُولُهُ الْمَادِّيُّونَ وَالْمُلْحِدُونَ وَالْعَقْلِيُّونَ، وَأُلُوفٌ مِنْهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى الْمَذَاهِبِ النَّصْرَانِيَّةِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ عَقَائِدُ الدِّينِ وَعِبَادَاتُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ فَلَا يَرْتَابُ الْعَقْلُ الْمُسْتَقِلُّ الْمُفَكِّرُ غَيْرُ الْمُقَلِّدِ لِدِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ فِي أَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ: مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَمِنْ بَيَانِ هِدَايَةِ رُسُلِهِ، وَمِنْ عِبَادَاتِهِ وَآدَابِهِ الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ الْمُرَقِّيَةِ لِلْعَقْلِ، وَمِنْ تَشْرِيعِهِ الْعَادِلِ وَحُكْمِهِ الشُّورِيِّ الْمُرَقِّي لِلِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ - كُلُّ ذَلِكَ أَرْقَى مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، بَلْ هُوَ الْإِصْلَاحُ الَّذِي بَلَغَ بِهِ دِينُ اللهِ أَعْلَى الْكَمَالِ، وَيَشْهَدُ بِهَذَا عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِنَا وَوِجْهَةِ نَظَرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ التَّفْسِيرِ (آخِرُهَا ص ٣١٣ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
وَمَنْ نَظَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَسِيرَةِ مُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سَائِرِ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْقِصَصَ فِي الْقُرْآنِ يَرَى الْفَرْقَ الْعَظِيمَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِسِيرَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْعِظَامِ ; فَفِي أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ يَرَى وَصْفَ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالنَّدَمِ عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَوَصْفَ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي مِمَّا هُوَ قُدْوَةٌ سُوأَى، مِنْ حَيْثُ يَجِدُ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِنْ وَصْفِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ بِالْكَمَالِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، مَا هُوَ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ وَأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَزِيدُ قَارِئَهَا إِيمَانًا وَهُدًى، فَأَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ تُشْبِهُ بُسْتَانًا فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الشَّجَرِ وَالْعُشْبِ وَالشَّوْكِ، وَالثِّمَارِ وَالْأَزْهَارِ
126
وَالْحَشَرَاتِ، وَأَخْبَارُهُمْ فِي الْقُرْآنِ تُشْبِهُ الْعِطْرَ الْمُسْتَخْرَجَ مِنْ تِلْكَ الْأَزْهَارِ، وَالْعَسَلَ الْمُشْتَارَ مِنْ تِلْكَ الثِّمَارِ، وَيَرَى فِيهِ رِيَاضًا أُخْرَى جَمَعَتْ جَمَالَ الْكَوْنِ كُلِّهِ.
وَنَدَعُ هُنَا ذِكْرَ مَا كَتَبَهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الْأَحْرَارُ فِي نَقْدِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَالطَّعْنِ فِيهَا، وَمِنْ أَخْصَرِهَا وَأَغْرَبِهَا كِتَابُ (أَضْرَارِ تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) لِأَحَدِ عُلَمَاءِ الْإِنْكِلِيزِ، وَمَا فِيهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالتَّارِيخِ، وَالْقُرْآنُ خَالٍ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ.
(صَدُّ الْكَنِيسَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَبَغْيُهُ عِوَجًا)
إِنَّ رِجَالَ الْكَنِيسَةِ لَمْ يَجِدُوا مَا يَصُدُّونَ بِهِ أَتْبَاعَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ أَنْ رَأَوْهُ قَدْ قَضَى عَلَى الْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، وَكَادَ يَقْضِي عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، ثُمَّ امْتَدَّ نُورُهُ إِلَى الْغَرْبِ - إِلَّا تَأْلِيفَ الْكُتُبِ، وَنَظْمَ الْأَشْعَارِ وَالْأَغَانِي فِي ذَمِّ الْإِسْلَامِ وَنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ بِالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَفُحْشِ الْكَلَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَدَيِّنِينَ أَكْذَبُ الْبَشَرِ وَأَشَدُّهُمْ عَدَاوَةً لِلْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ، فِي سَبِيلِ رِيَاسَتِهِمُ الَّتِي يَتَبَرَّأُ مِنْهَا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ.
وَقَدْ كَانَ أَتْبَاعُهُمْ يُصَدِّقُونَ مَا يَقُولُونَ وَيَكْتُبُونَ. وَيَتَهَيَّجُونَ بِمَا يَنْظُمُونَ وَيُنْشِدُونَ، حَتَّى إِذَا مَا اطَّلَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى كُتُبِ الْإِسْلَامِ وَرَأَوُا الْمُسْلِمِينَ وَعَاشَرُوهُمْ فَضَحُوهُمْ أَقْبَحَ الْفَضَائِحِ، كَمَا تَرَى فِي كِتَابِ (الْإِسْلَامِ خَوَاطِرُ وَسَوَانِحُ) لِلْكُونْتِ دِي كَاسْتِرِي، وَكَمَا تَرَى فِي الْكِتَابِ الْفَرَنْسِيِّ الَّذِي ظَهَرَ فِي هَذَا الْعَهْدِ بَاسِمِ (حَيَاةِ مُحَمَّدٍ) لِلْمُوسِيُو دِرِمِنْغَامْ وَهَذَانِ الْكِتَابَانِ فَرَنْسِيَّانِ مِنْ طَائِفَةِ الْكَاثُولِيكِ اللَّاتِينِ، وَقَدْ صَرَّحَا كَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ كَنِيسَتَهُمْ هِيَ الْبَادِئَةُ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَبِأَدَبِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّفَاعِ.
127
وَلَمَّا ظَهَرَتْ طَائِفَةُ الْبُرُوتُسْتَانِ وَغَلَبَ مَذْهَبُهَا فِي شُعُوبِ الْأَنْجُلُوسَكْسُونِ وَالْجِرْمَانِ، وَكَانَ الْفَضْلُ فِي دَعْوَتِهِمُ الْإِصْلَاحِيَّةِ لِمَا انْعَكَسَ عَلَى أُورُبَّةَ مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَتَعَفَّفْ قُسُوسُهُمْ وَدُعَاتُهُمْ (الْمُبَشِّرُونَ) عَنِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ، وَلَا تَجَمَّلُوا فِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّزَاهَةِ وَالْأَدَبِ، وَالَّذِي نَرَاهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ مَطَاعِنِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ وَسُوءِ أَدَبِهِمْ أَشَدَّ مِمَّا نَرَاهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنِ الَّذِينَ أَنْصَفُوا الْإِسْلَامَ مِنْ أَحْرَارِ عُلَمَائِهِمْ أَصْرَحُ قَوْلًا، وَلَعَلَّهُمْ أَكْثَرُ مِنَ اللَّاتِينِ عَدَدًا، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالِاسْتِقْلَالَ فِي تَرْبِيَتِهِمْ أَقْوَى، وَسَيَكُونُونَ هُمُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ الْإِسْلَامَ فِي أُورُبَّةَ وَالْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرْكَانِيَّةِ، ثُمَّ فِي سَائِرِ الْعَالَمِ كَمَا جَزَمَ الْعَلَّامَةُ بِرْنَارْدُ شُو الْإِنْكِلِيزِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ).
مَسْأَلَةُ الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ أَيِ الْخَوَارِقِ:
بَقِيَ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَجَائِبِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى أَسَاسِهَا الْكَنَائِسُ النَّصْرَانِيَّةُ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهَا. وَفِيمَا يَدَّعُونَهُ مَنْ تَجَرُّدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ لِبَاسِهَا، وَهِيَ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ لَا لَهُ، وَصَادَّةً لِلْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ عَنْهُ لَا مُقْنِعَةً بِهِ، وَلَوْلَا حِكَايَةُ الْقُرْآنِ لِآيَاتِ اللهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَكَانَ إِقْبَالُ أَحْرَارِ الْإِفْرِنْجِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ، وَاهْتِدَاؤُهُمْ بِهِ أَعَمَّ وَأَسْرَعَ ; لِأَنَّ أَسَاسَهُ قَدْ بُنِيَ عَلَى الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَمُوَافَقَةِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِ الْأَفْرَادِ، وَتَرْقِيَةِ مَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَمَّا آيَتُهُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى هِيَ الْقُرْآنُ، وَأُمِّيَّةُ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَهِيَ آيَةٌ عِلْمِيَّةٌ تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ.
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتْمِ
وَأَمَّا تِلْكَ الْعَجَائِبُ الْكَوْنِيَّةُ فَهِيَ مَثَارُ شُبَهَاتٍ وَتَأْوِيلَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي رِوَايَتِهَا وَفِي صِحَّتِهَا وَفِي دَلَالَتِهَا وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ تَقَعُ مِنْ أُنَاسٍ كَثِيرِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْمَنْقُولُ مِنْهَا عَنْ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَالْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَنْقُولِ عَنِ الْعَهْدَيْنِ: الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ، وَعَنْ مَنَاقِبِ الْقِدِّيسِينَ ; وَهِيَ مِنْ مُنَفِّرَاتِ الْعُلَمَاءِ عَنِ الدِّينِ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَسَنُبَيِّنُ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِيهَا مِنَ الْفَصْلِ.
الْعَجَائِبُ وَمَا لِلْمَسِيحِ مِنْهَا:
جَاءَ فِي تَعْرِيفِ الْعَجَائِبِ وَأَنْوَاعِهَا مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ:
((عَجِيبَةٌ: حَادِثَةٌ تَحْدُثُ بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ خَارِقَةٍ مَجْرَى الْعَادَةِ الطَّبِيعِيَّةِ لِإِثْبَاتِ إِرْسَالِيَّةِ مَنْ جَرَتْ
128
عَلَى يَدِهِ أَوْ فِيهِ. وَالْعَجِيبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ فَوْقَ الطَّبِيعَةِ لَا ضِدُّهَا تَحْدُثُ بِتَوْقِيفِ نَوَامِيسِ الطَّبِيعَةِ لَا بِمُعَاكَسَتِهَا، وَهِيَ إِظْهَارُ نِظَامٍ أَعْلَى مِنَ الطَّبِيعَةِ يَخْضَعُ لَهُ النِّظَامُ الطَّبِيعِيُّ، وَلَنَا فِي فِعْلِ الْإِرَادَةِ مِثَالٌ يُظْهِرُ لَنَا حَقِيقَةَ أَمْرِ الْعَجَائِبِ إِذْ بِهَا نَرْفَعُ الْيَدَ وَبِذَلِكَ نُوقِفُ نَامُوسَ الثِّقَلِ وَيَتَسَلَّطُ اللهُ عَلَى قُوَى الطَّبِيعَةِ، وَيُرْشِدُهَا، وَيَمُدُّ مَدَارَهَا أَوْ يَحْصُرُهُ ; لِأَنَّهَا عَوَامِلُ لِمَشِيئَتِهِ وَيُنَاطُ فِعْلُ الْعَجَائِبِ بِاللهِ وَحْدَهُ أَوْ بِمَنْ سَمَحَ لَهُ بِذَلِكَ.
وَإِذَا آمَنَّا بِالْإِلَهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْنَا التَّسْلِيمُ بِإِمْكَانِ الْعَجَائِبِ. وَكَانَتِ الْعَجِيبَةُ الْأَوْلَى خَلِيقَةَ الْكَوْنِ مِنَ الْعَدَمِ بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى. أَمَّا الْمَسِيحُ فَأُقْنُومُهُ عَجِيبَةٌ أَدَبِيَّةٌ عَظِيمَةٌ وَعَجَائِبُهُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا إِظْهَارَ هَذَا الْأُقْنُومِ وَأَعْمَالِهِ، وَإِذَا آمَنَّا بِالْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ الْعَدِيمِ الْخَطِيَّةِ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْنَا تَصْدِيقُ عَجَائِبِهِ. أَمَّا الشَّيْطَانُ فَعَجَائِبُهُ كَذَّابَةٌ.
وَلَابُدَّ مِنَ الْعَجَائِبِ لِتَعْزِيزِ الدِّيَانَةِ، فَكَثِيرًا مَا يَسْتَشْهِدُ الْمَسِيحُ بِعَجَائِبِهِ لِإِثْبَاتِ هُوَّتِهِ وَكَوْنِهِ الْمَسِيحَ، وَكَانَ يَفْعَلُهَا لِتَمْجِيدِ اللهِ وَلِمَنْفَعَةِ نُفُوسِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ، كَانَ يَفْعَلُهَا ظَاهِرًا أَمَامَ جَمَاهِيرِ أَصْحَابِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَعْدَاؤُهُ غَيْرَ أَنَّهُمْ نَسَبُوهَا لِبَعْلَزْبُولَ، وَسَوَاءٌ امْتَحَنَّاهَا بِالشَّهَادَةِ مِنَ الْخَارِجِ، وَبِمُنَاسَبَتِهَا إِلَى إِرْسَالِيَّتِهِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَتْ لِكُلِّ مَنْ كَانَ خَالِيًا مِنَ الْغَرَضِ صَحِيحَةً. فَإِذَا لَمْ نُسَلِّمْ بِصِحَّتِهَا الْتَزَمْنَا أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ مُقَرِّرِيهَا كَذَّابُونَ ; الْأَمْرُ الَّذِي لَا يَسُوغُ ظَنُّهُ بِالْمَسِيحِ وَالرُّسُلِ.
وَبَقِيَتْ قُوَّةُ الْعَجَائِبِ فِي عَصْرِ الرُّسُلِ، وَلَمَّا امْتَدَّتِ الدِّيَانَةُ الْمَسِيحِيَّةُ زَالَ الِاضْطِرَارُ إِلَيْهَا وَلَا يَلْزَمُنَا الْآنَ سِوَى الْعَجَائِبِ الْأَدَبِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ هَذِهِ الدِّيَانَةِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الدَّاخِلِيَّةِ عَلَى صِحَّتِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ)) اهـ.
ثُمَّ وَضَعَ الْمُؤَلِّفُ حُلُولًا أَحْصَى فِيهِ عَجَائِبَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ مِنْ خَرَابِ سَدُومَ
وَعَمُّورَةَ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ إِلَى ((خَلَاصِ يُونَانَ (يُونُسَ) بِوَاسِطَةِ حُوتٍ)) فَبَلَغَتْ ٦٧ عَجِيبَةً، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِجَدْوَلِ الْعَجَائِبِ الْمَقْرُونَةِ بِحَيَاةِ الْمَسِيحِ مِنَ الْحَبَلِ بِهِ ((بِفِعْلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ)) إِلَى ((الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ)) فَبَلَغَتْ ٣٧، وَعَزَّزَ الْجَدْوَلَيْنِ بِثَالِثٍ فِي ((الْعَجَائِبِ الَّتِي جَرَتْ فِي عَصْرِ الرُّسُلِ)) أَيِ الَّذِينَ بَثُّوا دَعْوَةَ الْمَسِيحِ مِنْ تَلَامِيذِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ((انْسِكَابِ الرُّوحِ الْقُدُسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ)) إِلَى ((شِفَاءِ أَبِي بُوبْلِيُوسَ وَغَيْرِهِ)) فَكَانَتْ عِشْرِينَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ صَنَعَ عَجَائِبَ.
129
بَحْثٌ فِي عَجَائِبِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَقُولُ: إِنَّ ٢٧ مِنْ عَجَائِبِ الْمَسِيحِ الْمَذْكُورَةِ شِفَاءُ مَرْضَى وَمَجَانِينَ لَابَسَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَثَلَاثٌ مِنْهَا إِقَامَةُ مَوْتَى عَقِبَ مَوْتِهِمْ، وَمَا بَقِيَ فَمَسْأَلَةُ الْحَبَلِ بِهِ وَتَحْوِيلُهُ الْمَاءَ إِلَى خَمْرٍ وَسَحْبِ الشَّبَكَةِ فِي بَحْرِ الْجَلِيلِ، وَإِشْبَاعِ خَمْسَةِ آلَافٍ مَرَّةً وَأَرْبَعَةِ آلَافٍ مَرَّةً أُخْرَى، وَضَرْبُ التِّينَةِ الْعَقِيمَةِ بِمَا أَيْبَسَهَا، وَقِيَامَةُ الْمَسِيحِ، وَصَيْدُ السَّمَكِ وَالصُّعُودِ.
وَإِنَّنَا نُلَخِّصُ رِوَايَةَ الْأَنَاجِيلِ لِأَهَمِّهَا وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وَنَذْكُرُ مَا يَقُولُهُ فِيهَا مُنْكِرُو الْعَجَائِبِ
الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ شَابٌّ مِنْ مَدِينَةِ نَابِينَ كَانَ مَحْمُولًا فِي جَنَازَةٍ وَأُمُّهُ تَبْكِي فَاسْتَوْقَفَ النَّعْشَ، وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الشَّابُّ لَكَ أَقُولُ قُمْ ; فَجَلَسَ وَابْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ، فَأَخَذَ الْجَمِيعَ خَوْفٌ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهُ (لُوقَا ٧: ١١ - ١٦)
الثَّانِي: صَبِيَّةٌ مَاتَتْ فَقَالَ لَهُ أَبُوهَا وَكَانَ رَئِيسًا: ابْنَتِي الْآنَ مَاتَتْ لَكِنْ تَعَالَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهَا فَتَحْيَا. فَجَاءَ بَيْتَ الرَّئِيسِ وَوَجَدَ الْمُزَمِّرِينَ وَالْجَمْعَ يَضِجُّونَ فَقَالَ لَهُمْ ((تَنَحَّوْا فَإِنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ)) فَضَحِكُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَخْرَجَ الْجَمْعَ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا فَقَامَتِ الصَّبِيَّةُ (مَتَّ ٩: ١٨ - ٢٤).
فَمُنْكِرُو الْعَجَائِبِ يَقُولُونَ إِنَّ كُلًّا مِنَ الشَّابِّ وَالشَّابَّةِ لَمْ يَكُونَا قَدْ مَاتَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ قَدْ قَامُوا مِنْ نُعُوشِهِمْ، بَلْ مِنْ قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَنْ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُمْ مَاتُوا، وَلِذَلِكَ تَمْنَعُ الْحُكُومَاتُ الْمَدَنِيَّةُ دَفْنَ الْمَيِّتِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكْتُبَ أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ شَهَادَةً بِمَوْتِهِ.
وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالْآيَاتِ أَنْ يَجْزِمُوا أَيْضًا بِأَنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَكُنْ مَيِّتَةً أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ ((لِيعَازِرُ)) حَبِيبُهُ وَأَخُو مَرْثَا وَمَرْيَمَ حَبِيبَتِهِ: مَرِضَ فِي قَرْيَتِهِمْ ((بَيْتِ عَنَيَا)) فَأَرْسَلَتَا إِلَى الْمَسِيحِ قَائِلَتَيْنِ: ((هُوَ ذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ)) فَمَكَثَ يَوْمَيْنِ وَحَضَرَ فَوَجَدَ أَنَّهُ مَاتَ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَلَاقَتْهُ مَرْثَا وَقَالَتْ: يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي، ثُمَّ دَعَتْ أُخْتَهَا مَرْيَمَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً كَمَا قَالَتْ مَرْثَا، وَكَانُوا قَدْ ذَهَبُوا إِلَى عِنْدِ الْقَبْرِ لِلْبُكَاءِ، فَلَمَّا رَآهَا تَبْكِي وَالْيَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ ((انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ)) وَقَالَ: ((أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟)) فَدَلُّوهُ عَلَيْهِ فَبَكَى وَانْزَعَجَ فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى الْقَبْرِ وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ حَجَرٌ، فَأَمَرَ بِرَفْعِ الْحَجَرِ فَرَفَعُوهُ ((وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ وَقَالَ: أَيُّهَا الْأَبُ أَشْكُرُكَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي، وَلَكِنْ لِأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي)) وَلَمَّا قَالَ هَذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ ((لِعَازِرَ! هَلُمَّ خَارِجًا)) فَخَرَجَ الْمَيِّتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ مَرْبُوطَتَانِ بِأَقْمِطَةٍ وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ، فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ. انْتَهَى. مُلَخَّصًا مِنَ الْفَصْلِ ١١ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا.
130
أَتَدْرِي أَيُّهَا الْقَارِئُ مَا يَقُولُ مُنْكِرُو الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ؟ إِنَّنِي سَمِعْتُ طَبِيبًا سُورِيًّا بُرُوتُسْتَنْتِيًّا يَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ بِتَوَاطُؤٍ بَيْنِهِ وَبَيْنَ حَبِيبَتَيْهِ وَحَبِيبِهِ لِإِقْنَاعِ الْيَهُودِ بِنُبُوَّتِهِ. وَحَاشَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَإِنَّمَا نَنْقُلُ هَذَا لِنُبَيِّنَ أَنَّ النَّصَارَى لَا يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَةَ الْبُرْهَانِ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَلَى نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ فَضْلًا عَنْ أُلُوهِيَّتِهِ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ وَتَنْفِي الْأُلُوهِيَّةَ، كَمَا فَهِمَ الَّذِينَ شَاهَدُوهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ إِلَى كَاتِبِيهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي رِوَايَتِهَا، دَعْ قَوْلَ الْمُنْكِرِينَ بِاحْتِمَالِ الِاحْتِيَالِ وَالتَّلْبِيسِ أَوِ الْمُصَادَقَةِ فِيهَا، أَوْ عَدَّهُمْ إِيَّاهَا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا مِنْ فَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ.
وَإِذَا كَانَ أَعْظَمُهَا وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ يَحْتِمَلُ مَا ذَكَرُوا مِنَ التَّأْوِيلِ فَمَا الْقَوْلُ فِي شِفَاءِ الْمَرْضَى وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ الَّذِي يَكْثُرُ وُقُوعُ مِثْلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْأَطِبَّاءُ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَا يَدَّعِي الْعَوَّامُ مِنْ دُخُولِ الشَّيَاطِينِ فِي أَجْسَادِ النَّاسِ مَا هُوَ إِلَّا أَمْرَاضٌ عَصَبِيَّةٌ تُشْفَى بِالْمُعَالَجَةِ أَوْ بِالْوَهْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَدُونَهَا مَسْأَلَةُ الْخَمْرِ وَالسَّمَكِ وَيُبْسِ التِّينَةِ.
آيَةُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَقْلِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ وَسَائِرُ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ:
هَذَا وَإِنَّ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ تَارَةً وَبِالْمُرْسَلَةِ أُخْرَى مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ مَا رَوَاهُ الْإِنْجِيلِيُّونَ وَأَبْعَدُ عَنِ التَّأْوِيلِ. وَلَمْ يَجْعَلْهَا بُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ الدِّينِ وَلَا أَمَرَ بِتَلْقِينِهَا لِلنَّاسِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتَهُ قَائِمَةً عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فِي ثُبُوتِهَا وَفِي مَوْضُوعِهَا ; لِأَنَّ الْبَشَرَ قَدْ بَدَءُوا يَدْخُلُونَ فِي سِنِّ الرُّشْدِ وَالِاسْتِقْلَالِ النَّوْعِيِّ الَّذِي لَا يَخْضَعُ عَقْلُ صَاحِبِهِ فِيهِ لِاتِّبَاعِ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُمْ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلنِّظَامِ الْمَأْلُوفِ فِي سُنَنِ الْكَوْنِ، بَلْ لَا يَكْمُلُ ارْتِقَاؤُهُمْ وَاسْتِعْدَادُهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ مَوَانِعِهِ، فَجَعَلَ حُجَّةَ نُبُوَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَيْنَ مَوْضُوعِ نُبُوَّتِهِ وَهُوَ كِتَابُهُ الْمُعْجِزُ لِلْبَشَرِ بِهِدَايَتِهِ وَعُلُومِهِ وَإِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ: كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِيُرَبِّيَ الْبَشَرَ عَلَى التَّرَقِّي فِي هَذَا الِاسْتِقْلَالِ، إِلَى مَا هُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ.
هَذَا الْفَصْلُ بَيْنَ النُّبُوَّاتِ الْخَاصَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَالنُّبُوَّةِ الْعَامَّةِ الْبَاقِيَةِ، قَدْ عَبَّرَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: ((مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ. وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.
وَقَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ (الْعَجَائِبَ) عَلَى رَسُولِهِ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ السَّابِقَةِ الَّتِي
131
لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ، وَبِهِدَايَتِهِ وَبِعُلُومِهِ وَبِإِعْجَازِهِ، وَعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ وَلَا جَمَاعَةٍ وَلَا الْعَالَمِ كُلِّهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (١٧: ٨٨).
وَأَمَّا مَا أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، بَلْ كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ فِي الشَّدَائِدِ: كَنَصْرِهِمْ عَلَى الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَفُوقُونَهُمْ عَدَدًا وَعُدَدًا وَاسْتِعْدَادًا بِالسِّلَاحِ وَالطَّعَامِ، وَنَاهِيكَ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ وَالنَّصْرِ فِيهَا، ثُمَّ بِغَزْوَةِ الْأَحْزَابِ إِذْ تَأَلَّبَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَحَاطُوا بِمَدِينَتِهِمْ فَرَدَّهُمُ اللهُ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ.
مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ شِفَاءُ الْمَرْضَى وَإِبْصَارُ الْأَعْمَى وَإِشْبَاعُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَمَا وَقَعَ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْهُ تَسْخِيرُ اللهِ السَّحَابَ لِإِسْقَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَثْبِيتُ أَقْدَامِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تَسِيخُ فِي الرَّمْلِ بِبَدْرٍ، وَلَمْ يُصِبِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْثِهَا شَيْءٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذْ نَفِدَ مَاءُ الْجَيْشِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْحَرُّ شَدِيدٌ حَتَّى كَانُوا يَذْبَحُونَ الْبَعِيرَ وَيُخْرِجُونَ الْفَرْثَ مِنْ كَرِشِهِ لِيَعْتَصِرُوهُ وَيَبِلُّوا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى قِلَّةِ الرَّوَاحِلِ مَعَهُمْ، وَكَانَ يَقِلُّ مَنْ يَجِدُ مِنْ عُصَارَتِهِ مَا يَشْرَبُهُ شُرْبًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى كَانَتِ السَّمَاءُ قَدْ سَكَبَتْ لَهُمْ مَاءً مَلَئُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الرَّوَايَا وَلَمْ تَتَجَاوَزْ عَسْكَرَهُمْ.
تَأْثِيرُ الْعَجَائِبِ فِي الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ.
لَقَدْ كَانَتْ آيَاتُ الْمُرْسَلِينَ حُجَّةً عَلَى الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ اسْتَحَقُّوا بِجُحُودِهَا عَذَابَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهَا مِمَّنْ شَاهَدُوهَا إِلَّا الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ بِهَا، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِآيَاتِ مُوسَى، وَإِنَّ أَكْثَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْقِلُوهَا، وَقَدِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَعَبَدُوهُ بَعْدَ رُؤْيَتِهَا. وَقَالَ الْيَهُودُ فِي الْمَسِيحِ: لَوْلَا أَنَّهُ رَئِيسُ الشَّيَاطِينِ لَمَا أَخْرَجَ الشَّيْطَانَ مِنَ الْإِنْسَانِ وَقَالُوا: إِنَّ إِبْلِيسَ أَوْ بَعْلَزْبُولَ يَفْعَلُ أَكْبَرَ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ وَقَدْ رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ سَحَابَةً وَاحِدَةً فِي إِبَّانِ الْقَيْظِ قَدْ مَطَرَتْ عَسْكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَحْدَهُ عِنْدَ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّنَا مُطِرْنَا بِتَأْثِيرِ النَّوْءِ لَا بِدُعَائِهِ.
وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مَنْ آمَنَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ إِنَّمَا خَضَعَتْ أَعْنَاقُهُمْ وَاسْتَخْذَتْ أَنْفُسُهُمْ لِمَا لَا يَعْقِلُونَ لَهُ سَبَبًا، وَقَدِ انْطَوَتِ الْفِطْرَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ فَالْآتِي بِهِ مَظْهَرٌ لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْخَالِقَ نَفْسَهُ وَكَانَ أَضْعَافُ أَضْعَافِهِمْ يَخْضَعُ مِثْلَ هَذَا الْخُضُوعِ نَفْسِهِ لِلسَّحَرَةِ وَالْمُشَعْوِذِينَ وَالدَّجَّالِينَ وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ.
132
وَقَدْ نَقَلُوا عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَهُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ
وَيُعْطَوْنَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ حَتَّى يَضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا (مَتَّى ٢٤: ٢٤) وَقَدْ ذَكَرَ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عَدَدًا كَثِيرًا مِنْهُمْ وَأَسْمَاءَ بَعْضِهِمْ. وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْهُمُ الْقَادْيَانِيُّ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ مُسْلِمِي الْهِنْدِ، وَتَذْكُرُ صُحُفُ الْأَخْبَارِ ظُهُورَ هِنْدِيٍّ آخَرَ يُرِيدُ إِظْهَارَ عَجَائِبِهِ فِي أَمْرِيكَا فِي هَذَا الْعَامِ وَنَقَلُوا عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ: ((الْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ لَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ مَقْبُولًا فِي وَطَنِهِ)) وَجَعَلَ الْقَاعِدَةَ لِمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ الصَّادِقِ تَأْثِيرَ هِدَايَتِهِ فِي النَّاسِ لَا الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبَ فَقَالَ: ((مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ)) وَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدَهُ - وَلَا قَبْلَهُ - نَبِيٌّ كَانَتْ ثِمَارُهُ الطَّيِّبَةُ فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ كَثِمَارِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (١٦: ١٢ إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا وَلَكِنْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الْآنَ، وَأَمَّا مَتَّى جَاءَ ذَلِكَ (أَيِ الْبَارْقَلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ) إِلَخْ وَمَا جَاءَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ أَرْشَدَ النَّاسَ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ فِي الدِّينِ مِنْ تَوْحِيدٍ وَتَشْرِيعٍ وَحِكْمَةٍ وَتَأْدِيبٍ غَيْرَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ.
وَمَنِ اسْتَقْرَأَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ الْوَثَنِيَّةِ أَكْثَرُ اعْتِمَادًا عَلَى الْعَجَائِبِ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ، وَرَأَى الْجَمِيعَ يَنْقُلُونَ مِنْهَا عَنْ مُعْتَقِدِيهِمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ أَكْثَرَ مِمَّا نَقَلُوا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ أَكْثَرَ الْمُصَدِّقِينَ بِهَا مِنَ الْخُرَافِيِّينَ.
ثُبُوتُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ بِنَفْسِهَا وَإِثْبَاتِهَا لِغَيْرِهَا:
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ ثَبَتَتْ بِنَفْسِهَا، أَيْ بِالْبُرْهَانِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ لَا بِالْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ الْكَوْنِيَّةِ، وَأَنَّ هَذَا الْبُرْهَانَ قَائِمٌ مَاثِلٌ لِلْعُقُولِ وَالْحَوَاسِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ آيَاتِ النَّبِيِّينَ السَّابِقِينَ إِلَّا بِثُبُوتِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَالْحُجَّةُ الْوَحِيدَةُ عَلَيْهَا فِي هَذَا الطَّوْرِ الْعِلْمِيِّ الِاسْتِقْلَالِيِّ مِنْ أَطْوَارِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ هُوَ شَهَادَتُهُ لَهَا. فَإِنَّ الْكُتُبَ الَّتِي نَقَلَتْهَا لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ عَزْوِهَا إِلَى مَنْ عُزِيَتْ إِلَيْهِمْ ; إِذْ لَا يُوجَدُ نُسَخٌ مِنْهَا مَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِاللُّغَاتِ الَّتِي كَتَبُوهَا بِهَا لَا تَوَاتُرًا وَلَا آحَادًا، وَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا كَتَبُوهُ عَلَى اخْتِلَافِهِ وَتَنَاقُضِهِ وَتَعَارُضِهِ، وَلَا إِثْبَاتُ صِحَّةِ التَّرَاجِمِ الَّتِي نُقِلَتْ بِهَا، كَمَا قُلْنَا آنِفًا وَبَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ مِرَارًا.
الْكِتَابُ الْإِلَهِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نُقِلَ بِنَصِّهِ الْحَرْفِيِّ تَوَاتُرًا عَمَّنْ جَاءَ بِهِ بِطَرِيقَتَيِ
الْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ مَعًا هُوَ الْقُرْآنُ، وَالنَّبِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نُقِلَ تَارِيخُهُ بِالرِّوَايَاتِ الْمُتَّصِلَةِ الْأَسَانِيدِ حِفْظًا وَكِنَايَةً هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالدِّينُ الْوَحِيدُ الَّذِي يُمْكِنُ لِلْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ فِي الْفَهْمِ وَالرَّأْيِ أَنْ يَعْقِلُوهُ وَيَبْنُوا عَلَيْهِ حُكْمَهُمْ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَأَمَّا خُلَاصَةُ مَا يُمْكِنُ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ لِثُبُوتِ قَضَايَاهُ الْإِجْمَالِيَّةِ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، فَهُوَ أَنَّهُ وُجِدَ فِي جَمِيعِ أُمَمِ الْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ
133
دُعَاةٌ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَإِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِلَى تَرْكِ الشُّرُورِ وَالرَّذَائِلِ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءُ مُبَلِّغُونَ عَنِ اللهِ تَعَالَى مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، كَمَا أَنَّهُ وُجِدَ فِيهِمْ حُكَمَاءُ يَبْنُونَ إِرْشَادَهُمْ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيَضُرُّهُمْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ وَالتَّجْرِبَةِ - وَوُجِدَ فِي جَمِيعِ مَا نُقِلَ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ أُمُورٌ مُخَالِفَةٌ لِلْعَقْلِ وَلِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَأُمُورٌ خَاصَّةٌ بِأَهْلِهَا وَبِزَمَانِهِمْ، وَخُرَافَاتٌ يُنْكِرُهَا الْعَقْلُ وَيَنْقُضُهَا الْعِلْمُ.
وَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ وَنَبِيُّهُ هُوَ الدِّينَ الْوَحِيدَ الَّذِي عُرِفَتْ حَقِيقَتُهُ وَتَارِيخُهُ بِالتَّفْصِيلِ فَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا شُبْهَةَ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمَادِّيِّينَ وَمُقَلِّدَتِهِمْ عَلَيْهِ، بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ فِي شَهَادَتِهِمُ الْإِجْمَالِيَّةِ لَهُ، تَمْهِيدًا لِدَحْضِ الشُّبْهَةِ، وَنُهُوضِ الْحُجَّةِ، فَنَقُولُ:
(دَرْسُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ لِلسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَشَهَادَتُهُمْ بِصِدْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
دَرَسَ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ تَارِيخَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي النَّقْدِ وَالتَّحْلِيلِ، وَدَرَسُوا السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَفَلَوْهَا فَلْيًا وَنَقَشُوهَا بِالْمَنَاقِيشِ، وَقَرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُغَتِهِ وَقَرَءُوا مَا تَرْجَمَهُ بِهِ أَقْوَامُهُمْ، وَكَانُوا عَلَى عِلْمٍ مُحِيطٍ بِكُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَتَارِيخِ الْأَدْيَانِ وَلَا سِيَّمَا الدِّيَانَتَيْنِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَبِمَا كَتَبَهُ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْكَنِيسَةِ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهِ آنِفًا، فَخَرَجُوا مِنْ هَذِهِ الدُّرُوسِ كُلِّهَا بِالنَّتِيجَةِ الْآتِيَةِ:
(إِنَّ مُحَمَّدًا كَانَ سَلِيمَ الْفِطْرَةِ، كَامِلَ الْعَقْلِ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، صَادِقَ الْحَدِيثِ، عَفِيفَ النَّفْسِ، قَنُوعًا بِالْقَلِيلِ مِنَ الرِّزْقِ، غَيْرَ طَمُوعٍ بِالْمَالِ وَلَا جَنُوحٍ إِلَى الْمُلْكِ، وَلَا يُعْنَى بِمَا كَانَ يُعْنَى بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْفَخْرِ، وَالْمُبَارَاةِ فِي تَحْبِيرِ الْخُطَبِ وَقَرْضِ الشِّعْرِ، وَكَانَ يَمْقُتُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَيَحْتَقِرُ مَا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ، كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ وَبِمَا ثَبَتَ مِنْ سِيرَتِهِ وَيَقِينِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ جَزَمُوا بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقًا فِيمَا ادَّعَاهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ سِنِّهِ مِنْ رُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ، وَإِقْرَائِهِ إِيَّاهُ هَذَا الْقُرْآنَ، وَإِنْبَائِهِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ قَوْمِهِ فَسَائِرِ النَّاسِ).
وَزَادَهُمْ ثِقَةً بِصِدْقِهِ أَنْ كَانَ أَوَّلُ النَّاسِ إِيمَانًا بِهِ وَاهْتِدَاءً بِنُبُوَّتِهِ أَعْلَمَهُمْ بِدَخِيلَةِ أَمْرِهِ، وَأَوَّلُهُمْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْعَقْلِ وَالنُّبْلِ وَالْفَضِيلَةِ، وَمَوْلَاهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَنْ يَلْحَقَ بِوَالِدِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَيَكُونَ مَعَهُمْ حُرًّا، ثُمَّ إِنْ كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْعَرَبِ حُرِّيَّةً وَاسْتِقْلَالًا فِي الرَّأْيِ وَلَا سِيَّمَا أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِأَنَّ لِلْبَشَرِ أَرْوَاحًا خَالِدَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ فَقَدْ آمَنُوا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عِلْمٍ وَبُرْهَانٍ، وَهُمْ يَزِيدُونَ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، بِقَدْرِ مَا يُتَاحُ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِالْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْمَادِّيُّونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ تَفْسِيرٍ لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ أَوِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي
134
لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهَا وَثُبُوتِهَا، وَبِتَصْوِيرِهَا بِالصُّورَةِ الَّتِي يَقْبَلُهَا الْعَقْلُ، الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِمَا وَرَاءَ الْمَادَّةِ أَوِ الطَّبِيعَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ.
قَدَحُوا زِنَادَ الْفِكْرِ، وَاسْتَوَرُوا بِهِ نَظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفَةِ، فَلَاحَ لَهُمْ مِنْهُ سَقْطٌ أَبْصَرُوا فِي ضَوْئِهِ الضَّئِيلِ الصُّورَةَ الْخَيَالِيَّةَ الَّتِي أَجْمَلَهَا الْأُسْتَاذُ مُونْتِيِهْ فِي عِبَارَتِهِ الَّتِي نَقَلْنَاهَا عَنْهُ آنِفًا وَفَصَّلَهَا إِمِيلْ دِرِمِنْغَامْ وَغَيْرُهُ بِمَا نَشْرَحُهُ هَاهُنَا.
(شُبْهَةُ مُنْكِرِي عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ)
(وَتَصْوِيرُهُمْ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
خُلَاصَةُ رَأْيِ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ أَنَّ الْوَحْيَ إِلْهَامٌ يَفِيضُ مِنْ نَفْسِ النَّبِيِّ الْمُوحَى إِلَيْهِ لَا مِنَ الْخَارِجِ، ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَهُ الْعَالِيَةَ، وَسَرِيرَتَهُ الطَّاهِرَةَ، وَقُوَّةَ إِيمَانِهِ بِاللهِ وَبِوُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَتَرْكِ مَا سِوَاهَا مِنْ عِبَادَةٍ وَثَنِيَّةٍ، وَتَقَالِيدَ وِرَاثِيَّةٍ، يَكُونُ لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ مَا يَتَجَلَّى فِي ذِهْنِهِ وَيُحْدِثُ فِي عَقْلِهِ الرُّؤَى وَالْأَحْوَالَ الرُّوحِيَّةَ، فَيَتَصَوَّرُ مَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ إِرْشَادًا إِلَهِيًّا نَازِلًا عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، أَوْ يَتَمَثَّلُ لَهُ رَجُلٌ يُلَقِّنُهُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَقَدْ يَسْمَعُهُ يَقُولُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَرَى وَيَسْمَعُ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي الْيَقَظَةِ
كَمَا يَرَى وَيَسْمَعُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْوَحْيِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكُلُّ مَا يُخْبِرُ بِهِ النَّبِيُّ مِنْ كَلَامٍ أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ أَوْ مَلَكٌ أَلْقَاهُ عَلَى سَمْعِهِ فَهُوَ خَبَرٌ صَادِقٌ عِنْدَهُ.
يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيُّونَ: نَحْنُ لَا نَشُكُّ فِي صِدْقِ مُحَمَّدٍ فِي خَبَرِهِ عَمَّا رَأَى وَسَمِعَ، وَإِنَّمَا نَقُولُ إِنَّ مَنْبَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ جَاءَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي وَرَاءَ عَالَمِ الْمَادَّةِ وَالطَّبِيعَةِ الَّذِي يَعْرِفُهُ جَمِيعُ النَّاسِ ; فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا وُجُودُهُ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ مَا يَنْفِيهِ وَيُلْحِقُهُ بِالْمُحَالِ، وَإِنَّمَا نُفَسِّرُ الظَّوَاهِرَ غَيْرَ الْمُعْتَادَةِ بِمَا عَرَفْنَا وَثَبَتَ عِنْدَنَا دُونَ مَا لَمْ يَثْبُتْ.
وَيَضْرِبُونَ مَثَلًا لِهَذَا الْوَحْيِ قِصَّةَ جَانْ دَارْكِ الْفَتَاةِ الْإِفْرَنْسِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَتِ الْكَنِيسَةُ الْكَاثُولِيكِيَّةُ قَدَاسَتَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا بِزَمَنٍ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ الَّذِي يُصَوِّرُونَ بِهِ ظَاهِرَةَ الْوَحْيِ قَدْ سَرَتْ شُبْهَتُهُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُرْتَابِينَ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ فِي نَظَرِيَّاتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ أَوْ يَقْتَنِعُونَ بِهَا.
وَإِنَّنِي أَفْتَتِحُ الْكَلَامَ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَيَالِيَّةِ بِالْكَلَامِ عَلَى جَانْ دَارْكْ فَقَدْ أُلْقِيَ إِلَيَّ سُؤَالٌ عَنْهَا نَشَرْتُهُ مَعَ الْجَوَابِ عَنْهُ فِي صَفْحَةِ ٧٨٨ مِنَ الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنَ الْمَنَارِ (سَنَةَ ١٣٢١ هـ) وَهَذَا نَصُّهُ.
135
شُبْهَةٌ عَلَى الْوَحْيِ
حَضْرَةَ الْأُسْتَاذِ الرَّشِيدِ
عَرَضَتْ لِي شُبَهَاتٌ فِي وُقُوعِ الْوَحْيِ (وَهُوَ أَسَاسُ الدِّينِ) فَعَمَدْتُ إِلَى رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ لِلشَّيْخِ مُحَمَّدْ عَبْدُهْ - حَيْثُ وَقَعَ اخْتِيَارِي عَلَيْهَا - وَقَرَأْتُ فِي بَابَيْ (حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْوَحْيِ) وَ (إِمْكَانِ الْوَحْيِ) فَوَجَدْتُ الْكَلَامَ وَجِيهًا مَعْقُولًا، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الشَّيْءِ لَا تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَهُ، وَكَذَا إِمْكَانُهُ وَعَدَمُ اسْتِحَالَتِهِ عَقْلًا لَا يَقْتَضِي حُصُولَهُ. ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدُ مِنْ أَنَّ حَالَةَ النَّبِيِّ وَسُلُوكَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ بِجَلَائِلِ الْأَعْمَالِ وَبِوُقُوعِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيْهِ هُوَ دَلِيلُ نُبُوَّتِهِ وَتَأْيِيدُ بَعْثَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ (كَوْنُ) النَّبِيِّ حَمِيدَ السِّيرَةِ فِي عَشِيرَتِهِ صَادِقًا فِي دَعْوَتِهِ - أَعْنِي مُعْتَقِدًا فِي نَفْسِهِ - سَبَبًا فِي نُهُوضِ أُمَّتِهِ، وَلَا يَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ مَدْعَاةً إِلَى الِاعْتِقَادِ بِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ.
وَلَقَدْ حَدَثَ بِفَرَنْسَا فِي الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ إِذْ كَانَتْ مَقْهُورَةً لِلْإِنْكِلِيزِ
أَنَّ بِنْتًا تُدْعَى (جَانْ دَارْكْ) مَنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ سِيرَةً وَأَسْلَمِهِنَّ نِيَّةً اعْتَقَدَتْ وَهِيَ مِنْ بَيْتِ أَهْلِهَا بَعِيدَةً عَنِ التَّكَالِيفِ السِّيَاسِيَّةِ أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِإِنْقَاذِ وَطَنِهَا وَدَفْعِ الْعَدُوِّ عَنْهُ، وَصَارَتْ تَسْمَعُ صَوْتَ الْوَحْيِ فَأَخْلَصَتْ فِي الدَّعْوَةِ لِلْقِتَالِ، وَتَوَصَّلَتْ بِصِدْقِ إِرَادَتِهَا إِلَى رِئَاسَةِ جَيْشٍ صَغِيرٍ وَغَلَبَتْ بِهِ الْعَدُوَّ فِعْلًا، ثُمَّ مَاتَتْ غِبَّ نُصْرَتِهَا مَوْتَةَ الْأَبْطَالِ مِنَ الرِّجَالِ، إِذْ خَذَلَهَا قَوْمُهَا، وَوَقَعَتْ فِي يَدِ عَدُوِّهَا فَأَلْقَوْهَا فِي النَّارِ حَيَّةً، فَذَهَبَتْ تَارِكَةً فِي صَحَائِفِ التَّارِيخِ اسْمًا يَعْبَقُ نَشْرُهُ وَتَضُوعُ رَيَّاهُ، وَهِيَ الْآنَ مَوْضِعُ إِجْلَالِ الْقَوْمِ وَإِعْظَامِهِمْ، فَلَقَدْ تَيَسَّرَتْ لَهُمُ النَّهْضَةُ بَعْدَهَا وَجَرَوْا فِي الْعِلْمِ وَالرُّقِيِّ بَعِيدًا.
فَهَلْ نَجْزِمُ لِذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْبِنْتَ نَبِيَّةٌ مُرْسَلَةٌ؟ ؟ رُبَّمَا تَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ عَمَلَهَا لَا يُذْكَرُ مُقَارَنًا بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَمَا وَصَلَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَيْرِ بِسَبَبِهِمْ، فَأَقُولُ: هَلْ هُنَاكَ مِنْ مِيزَانٍ نَزِنُ بِهِ الْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ لِنَعْلَمَ إِنْ كَانَتْ وَصَلَتْ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا أَنْ نُصَدِّقَ دَعْوَةَ صَاحِبِهَا؟ وَهَلْ لَوْ سَاعَدَتِ الصُّدَفُ (كَذَا) رَجُلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ النَّاسِ فِعْلًا وَأَبْقَاهُمْ أَثَرًا وَاعْتَقَدَ بِرِسَالَةِ نَفْسِهِ لِوَهْمٍ قَامَ (عِنْدَهُ) يُفْضِي بِنَا ذَلِكَ إِلَى التَّيَقُّنِ مِنْ رِسَالَتِهِ؟
أَظُنُّ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مُضَافًا لِغَيْرِهِ يَدْعُو إِلَى التَّرْجِيحِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْيَقِينَ أَبَدًا. عَلَى أَنَّنِي أَنْتَظِرُ أَنْ تَجِدُوا فِي قَوْلِي هَذَا خَطَأً تُقْنِعُونِي بِهِ أَوْ تَزِيدُونِي إِيضَاحًا يَنْكَشِفُ بِهِ الْحِجَابُ وَتَنَالُونَ بِهِ الثَّوَابَ. هَذَا وَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ فِئَةٍ مُسْلِمَةٍ مَا أَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِي وَلَكِنَّهُمْ يَتَحَفَّظُونَ فِي الْكِتْمَانِ، وَيَسْأَلُونَ الْكُتُبَ خَشْيَةَ سُؤَالِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنِّي لَا أَجِدُ فِي السُّؤَالِ عَارًا، وَكُلُّ عَقْلٍ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَيَزِلُّ وَيَسْتَقِيمُ. (أَحَدُ قُرَّائِكُمْ).
136
(جَوَابُ الْمَنَارِ)
لَقَدْ سَرَّنَا مِنَ السَّائِلِ أَنَّهُ عَلَى تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يُذْعِنْ لَهَا تَمَامَ الْإِذْعَانِ، فَيَسْتَرْسِلُ فِي تَعَدِّي حُدُودِ الدِّينِ إِلَى فَضَاءِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ الْأَرْوَاحَ وَالْأَجْسَامَ، بَلْ أَطَاعَ شُعُورَ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ، وَلَجَأَ إِلَى الْبَحْثِ فِي الْكُتُبِ، ثُمَّ السُّؤَالِ مِمَّنْ يُظَنُّ فِيهِمُ الْعِلْمُ بِمَا يَكْشِفُ الشُّبْهَةَ، وَيُقِيمُ الْحُجَّةَ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيَنْصَرِفُونَ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ عِنْدَ أَوَّلِ قَذْعَةٍ مِنَ الشُّبَهِ تَلُوحُ فِي فَضَاءِ أَذْهَانِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ شَبُّوا عَلَى حُبِّ التَّمَتُّعِ وَالِانْغِمَاسِ فِي اللَّذَّةِ، وَيَرَوْنَ الدِّينَ صَادًّا لَهُمْ عَنِ
الِانْهِمَاكِ وَالِاسْتِرْسَالِ فِيهَا، فَهُمْ يُحَاوِلُونَ إِمَاتَةَ شُعُورِهِ الْفِطْرِيِّ، كَمَا أَمَاتَ النُّشُوءُ فِي الْجَهْلِ بُرْهَانَهُ الْكَسْبِيَّ.
أَرَى السَّائِلَ نَظَرَ مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَوَعَاهَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُدَقِّقِ النَّظَرَ فِي الْمَقَاصِدِ وَالنَّتَائِجِ ; لِذَلِكَ نَرَاهُ مُسَلِّمًا بِالْمُقَدَّمَاتِ دُونَ النَّتِيجَةِ مَعَ اللُّزُومِ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا هُوَ عَادَ إِلَى مَبْحَثِ (حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الرِّسَالَةِ) وَتَدَبَّرَهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَأَنَّهُ أَقَامَ الْكَوْنَ عَلَى أَسَاسِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالنِّظَامِ الْكَامِلِ فَإِنَّنِي أَرْجُو لَهُ أَنْ يَقْتَنِعَ. ثُمَّ إِنَّنِي آنَسْتُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ مَبْحَثَ (وُقُوعِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ) أَوْ لَعَلَّهُ قَرَأَهُ وَلَمْ يَتَدَبَّرْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْبُرْهَانَ عَلَى نَفْسِ الرِّسَالَةِ وَيَبْنِي الشُّبْهَةَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا بَنَاهَا عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَهِيَ الْقَوْلُ فِي بَعْضِ صِفَاتِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَإِنَّنِي أَكْشِفُ لَهُ شُبْهَتَهُ أَوَّلًا فَأُبَيِّنُ أَنَّهَا لَمْ تُصِبْ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَأْيِي فِي الْمَوْضُوعِ.
إِنَّ (جَانْ دَارْكْ) الَّتِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا بِوَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تَقُمْ بِدَعْوَةٍ إِلَى دِينٍ أَوْ مَذْهَبٍ تَدَّعِي أَنَّ فِيهِ سَعَادَةَ الْبَشَرِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا هُوَ شَأْنُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَمْ تَأْتِ بِآيَةٍ كَوْنِيَّةٍ وَلَا عِلْمِيَّةٍ لَا يُعْهَدُ مِثْلُهَا مِنْ كَسْبِ الْبَشَرِ تَتَحَدَّى بِهَا النَّاسَ لِيُؤْمِنُوا بِهَا. وَإِنَّمَا كَانَتْ فَتَاةً ذَاتَ وِجْدَانٍ شَرِيفٍ هَاجَهُ شُعُورُ الدِّينِ وَحَرَّكَتْهُ مُزْعِجَاتُ السِّيَاسَةِ، فَتَحَرَّكَ، فَنَفَرَ، فَصَادَفَ مُسَاعَدَةً مِنَ الْحُكُومَةِ، وَاسْتِعْدَادًا مِنَ الْأُمَّةِ لِلْخُرُوجِ مِنَ الذُّلِّ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَكَانَ التَّحَمُّسُ الَّذِي حَرَّكَتْهُ سَبَبًا لِلْحَمْلَةِ الصَّادِقَةِ عَلَى الْعَدْوِ وَخِذْلَانِهِ. وَمَا أَسْهَلَ تَهْيِيجَ حَمَاسَةِ أَهْلِ فَرَنْسَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَبِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا، فَإِنَّ نَابِلْيُونَ الْأَوَّلَ كَانَ يَسُوقُهُمْ إِلَى الْمَوْتِ مُخْتَارِينَ بِكَلِمَةٍ شِعْرِيَّةٍ يَقُولُهَا كَكَلِمَتِهِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْأَهْرَامِ.
وَأُذَكِّرُ السَّائِلَ الْفَطِنَ بِأَنَّهُ لَمْ يُوَافِقِ الصَّوَابَ فِي إِبْعَادِ الْفَتَاةِ عَنِ السِّيَاسَةِ وَمَذَاهِبِهَا فَقَدْ جَاءَ فِي تَرْجَمَتِهَا مِنْ (دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعَرَبِيَّةِ لِلْبُسْتَانِيِّ) مَا نَصُّهُ:
((كَانَتْ مُتَعَوِّدَةً الشُّغْلَ خَارِجَ الْبَيْتِ كَرَعْيِ الْمَوَاشِي وَرُكُوبِ الْخَيْلِ إِلَى الْعَيْنِ وَمِنْهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي جِوَارِ دُومَرْمَى (أَيْ بَلَدِهَا) مُتَمَسِّكِينَ بِالْخُرَافَاتِ، وَيَمِيلُونَ
137
إِلَى حِزْبِ أُورْلِيَانْ فِي الِانْقِسَامَاتِ الَّتِي مَزَّقَتْ مَمْلَكَةَ فَرَنْسَا، وَكَانَتْ جَانْ
تَشْتَرِكُ فِي الْهِيَاجِ السِّيَاسِيِّ وَالْحَمَاسَةِ الدِّينِيَّةِ. وَكَانَتْ كَثِيرَةَ التَّخَيُّلِ وَالْوَرَعِ تُحِبُّ أَنْ تَتَأَمَّلَ فِي قِصَصِ الْعَذْرَاءِ وَعَلَى الْأَكْثَرِ فِي نُبُوَّةٍ كَانَتْ شَائِعَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهِيَ إِحْدَى الْعَذَارَى سَتُخَلِّصُ فَرَنْسَا مِنْ أَعْدَائِهَا. وَلَمَّا كَانَ عُمُرُهَا ١٣ سَنَةً كَانَتْ تَعْتَقِدُ بِالظُّهُورَاتِ الْفَائِقَةِ الطَّبِيعَةَ وَتَتَكَلَّمُ عَنْ أَصْوَاتٍ كَانَتْ تَسْمَعُهَا وَرُؤًى كَانَتْ تَرَاهَا. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِبِضْعِ سِنِينَ خُيِّلَ لَهَا أَنَّهَا قَدْ دُعِيَتْ لِتُخَلِّصَ بِلَادَهَا وَتُتَوَّجَ مُلْكَهَا. ثُمَّ أَوْقَعَ (الْبَرِغْنِيُورُ) تَعَدِّيًا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي وُلِدَتْ فِيهَا فَقَوَّى ذَلِكَ اعْتِقَادَهَا بِصِحَّةِ مَا خُيِّلَ لَهَا)).
ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ تَوَسُّلَهَا إِلَى الْحُكَّامِ وَتَعْيِينَهَا قَائِدَةً لِجَيْشِ مَلِكِهَا وَهُجُومَهَا بِعَشَرَةِ آلَافِ جُنْدِيٍّ ضُبَّاطُهُمْ مَلَكِيُّونَ عَلَى عَسْكَرِ الْإِنْكِلِيزِ الَّذِينَ كَانُوا يُحَاصِرُونَ أُورْلِيَانْ، وَأَنَّهَا دَفَعَتْهُمْ عَنْهَا حَتَّى رَفَعُوا الْحِصَارَ فِي مُدَّةِ أُسْبُوعٍ، وَذَلِكَ سَنَةَ ١٤٢٩ م ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ زَالَتْ خَيَالَاتُهَا الْحَمَاسِيَّةُ، وَلِذَلِكَ هُوجِمَتْ فِي السَّنَةِ التَّالِيَةِ سَنَةِ ١٤٣٠ م فَانْكَسَرَتْ وَجُرِحَتْ وَأُسِرَتْ.
فَمِنْ مُلَخَّصِ الْقِصَّةِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ تَهَيُّجٌ عَصَبِيٌّ سَبَّبَهُ التَّأَلُّمُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ السِّيَاسِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَتَأَلَّمُ مِنْهَا مَنْ نَشَأَتْ بَيْنَهُمْ مَعَ مَعُونَةِ التَّحَمُّسِ الدِّينِيِّ وَالِاعْتِقَادِ بِالْخُرَافَاتِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ ذَائِعَةً فِي زَمَنِهَا. وَهَذَا شَيْءٌ عَادِيٌّ مَعْرُوفُ السَّبَبِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بَاسِمِ الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ كَمُحَمَّدِ أَحْمَدَ السُّودَانِيِّ وَالْبَابِ (وَكَذَا الْبَهَاءُ وَالْقَادْيانِيُّ) بَلِ الشُّبْهَةُ فِي قِصَّتِهَا أَبْعَدُ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي قِصَّةِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ أَسْبَابُ النَّهْضَةِ مُتَقَارِبَةً فَإِنَّ هَذَيْنِ كَانَا كَأَمْثَالِهِمَا يَدْعُوَانِ إِلَى شَيْءٍ (مُلَفَّقٍ) يَزْعُمَانِ أَنَّهُ إِصْلَاحٌ لِلْبَشَرِ فِي الْجُمْلَةِ.
أَيْنَ هَذِهِ النَّوْبَةُ الْعَصَبِيَّةُ الْقَصِيرَةُ الزَّمَنِ، الْمَعْرُوفَةُ السَّبَبِ، الَّتِي لَا دَعْوَةَ فِيهَا إِلَى عِلْمٍ وَلَا إِصْلَاحٍ اجْتِمَاعِيٍّ إِلَّا الْمُدَافَعَةَ عَنِ الْوَطَنِ عِنْدَ الضِّيقِ الَّتِي هِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، الَّتِي لَا حُجَّةَ تَعْمِدُهَا، وَلَا مُعْجِزَةَ تُؤَيِّدُهَا، الَّتِي اشْتَعَلَتْ بِنَفْخَةٍ وَطَفِئَتْ بِنَفْخَةٍ؟ أَيْنَ هِيَ مِنْ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهَا حَاجَةٌ طَبِيعِيَّةٌ مِنْ حَاجَاتِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، طَلَبَهَا هَذَا النَّوْعُ بِلِسَانِ اسْتِعْدَادِهِ فَوَهَبَهَا لَهُ الْمُدَبِّرُ الْحَكِيمُ: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (٢٠: ٥٠) فَسَارَ الْإِنْسَانُ بِذَلِكَ إِلَى كَمَالِهِ، فَلَمْ يَكُنْ أَدْنَى مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ الْحَيَّةِ النَّامِيَةِ بَلْ أَرْقَى وَأَعْلَى. وَأَيْنَ دَلِيلُهَا مِنْ أَدِلَّةِ
النُّبُوَّةِ وَأَيْنَ أَثَرُهَا مِنْ أَثَرِ النُّبُوَّةِ؟ إِنَّ الْأُمَمَ الَّتِي ارْتَقَتْ بِمَا أَرْشَدَهَا إِلَيْهِ تَعَالِيمُ الْوَحْيِ إِنَّمَا ارْتَقَتْ بِطَبِيعَةِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ وَتَأْثِيرِهِ، وَإِنَّ فَرَنْسَا لَمْ تَرْتَقِ بِإِرْشَادِ (جَانْ دَارْكْ) وَتَعْلِيمِهَا، وَإِنَّمَا مِثْلُهَا مِثْلُ قَائِدٍ انْتَصَرَ فِي وَاقِعَةٍ فَاصِلَةٍ بِشَجَاعَتِهِ وَبِأَسْبَابٍ أُخْرَى لَيْسَتْ مِنْ صُنْعِهِ، وَاسْتَوْلَتْ أُمَّتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى بِلَادٍ رَقَّتْهَا بِعُلُومِ عُلَمَائِهَا وَحِكْمَةِ حُكَمَائِهَا وَصُنْعِ صُنَّاعِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الْقَائِدُ يَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَمْ يُرْشَدْ إِلَيْهِ، فَلَا يُقَالُ
138
إِنَّ ذَلِكَ الْقَائِدَ هُوَ الَّذِي أَصْلَحَ تِلْكَ الْبِلَادَ، وَعَمَّرَهَا وَمَدَّنَهَا، وَإِنْ عُدَّ سَبَبًا بَعِيدًا فَهُوَ شَبِيهٌ بِالسَّبَبِ الطَّبِيعِيِّ، كَهُبُوبِ رِيحٍ تُهَيِّجُ الْبَحْرَ فَيَغْرَقُ الْأُسْطُولُ وَتَنْتَصِرُ الْأُمَّةُ.
أَيْنَ حَالُ تِلْكَ الْفَتَاةِ الَّتِي كَانَتْ كَبَارِقَةٍ خَفَّتْ (أَيْ ظَهَرَتْ وَأَوْمَضَتْ) ثُمَّ خَفِيَتْ، وَصَيْحَةٍ عَلَتْ وَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ خَفَتَتْ، مَنْ حَالِ شَمْسِ النُّبُوَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي أَشْرَقَتْ فَأَنَارَتِ الْأَرْجَاءَ، وَلَا يَزَالُ نُورُهَا وَلَنْ يُزَالَ مُتَأَلِّقَ السَّنَاءِ، أُمِّيٌّ يَتِيمٌ قَضَى سِنَّ الصِّبَا وَسِنَّ الشَّبَابِ هَادِئًا سَاكِنًا لَا يُعْرَفُ عَنْهُ عِلْمٌ وَلَا تَخَيُّلٌ، وَلَا وَهْمٌ دِينِيٌّ، وَلَا شِعْرٌ، وَلَا خَطَابَةٌ، ثُمَّ صَاحَ عَلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ بِالْعَالَمِ كُلِّهِ صَيْحَةً ((إِنَّكُمْ عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ، فَاتَّبِعُونِ أَهْدِكُمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) فَأَصْلَحَ وَهُوَ الْآدَمِيُّ أَدْيَانَ الْبَشَرِ عَقَائِدَهَا وَآدَابَهَا وَشَرَائِعَهَا، وَقَلَبَ نِظَامَ الْأَرْضِ فَدَخَلَتْ بِتَعْلِيمِهِ فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ؟ لَا جَرَمَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ عَظِيمٌ إِذَا أَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهِ الْعَاقِلُ.
لَا سَعَةَ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ لِتَقْرِيرِ الدَّلِيلِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَإِنَّمَا أُحِيلَ السَّائِلَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي بَقِيَّةِ بَحْثِ النُّبُوَّةِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ وَمُرَاجَعَةِ مَا كَتَبْنَاهُ أَيْضًا مِنَ الْأَمَالِي الدِّينِيَّةِ فِي الْمَنَارِ لَا سِيَّمَا الدَّرْسِ الَّذِي عُنْوَانُهُ (الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، عَلَى صِدْقِ النُّبُوَّاتِ) وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَى رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ الْمَثَلُ ((كُلُّ صَيْدٍ فِي جَوْفِ الْفَرَا)) فَإِنْ بَقِيَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَفَضَّلَ بِزِيَارَتِنَا لِأَجْلِ الْمُذَاكَرَةِ الشِّفَاهِيَّةِ فِي الْمَوْضُوعِ، فَإِنَّ الْمُشَافَهَةَ أَقْوَى بَيَانًا، وَأَنْصَعُ بُرْهَانًا، وَنَحْنُ نُعَاهِدُهُ بِأَنْ نَكْتُمَ أَمْرَهُ وَإِنْ أَبَى فَلْيَكْتُبْ إِلَيْنَا مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى مَا فِي الرِّسَالَةِ وَالْأَمَالِي مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ النُّبُوَّةِ بِالْفِعْلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نُسْهِبُ فِي الْجَوَابِ بِمَا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُقْنِعًا، عَلَى أَنَّ الْمُشَافَهَةَ أَوْلَى كَمَا هُوَ مَعْقُولٌ وَكَمَا ثَبَتَ لَنَا بِالتَّجْرِبَةِ مَعَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُشْتَبِهِينَ وَالْمُرْتَابِينَ اهـ.
هَذَا وَإِنَّ مَا بَيَّنَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي إِثْبَاتِ وُقُوعِ الْوَحْيِ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ فَهْمَهُ حَقَّ الْفَهْمِ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِوُجُودِ اللهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ إِلَّا أَنْ يَقْبَلَهُ وَيُذْعِنَ لَهُ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ لَازِمٌ عَقْلِيٌّ لِعِلْمِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَكَوْنِهِ هُوَ: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (٢٠: ٥٠) وَلَا يَفْهَمُهُ حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ نَصِيبًا مِنْ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَحِكْمَةِ الْوُجُودِ وَسُنَنِهِ وَأُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَنَصِيبًا آخَرَ مِنْ بَلَاغَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَإِنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِسَالَتَهُ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِمَا دُونَ هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَهُوَ مَا قَهَرَ عُقُولَ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى تَصْدِيقِ دَعْوَتِهِ. وَحَمَلَ الْمَادِّيِّينَ عَلَى تَصْوِيرِهَا بِمَا نَبْسُطُهُ فِيمَا يَأْتِي وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ بُطْلَانِهِ.
139
تَفْصِيلُ الشُّبْهَةِ وَدَحْضُهَا بِالْحُجَّةِ
قَدْ فَصَّلَ إِمِيلْ دِرِمِنْغَامِ الشُّبْهَةَ الَّتِي أَجْمَلَهَا مُونْتِيِهْ بِمَا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ كُتَّابِ الْإِفْرِنْجِ حَتَّى اغْتَرَّ بِكَلَامِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنْ كَانَ حَكِيمُنَا السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ قَالَ لِبَعْضِ مُجَادِلِي النَّصْرَانِيَّةِ: إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا مِنْ رِقَاعِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَأَلْبَسْتُمُوهَا لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَنَحْنُ نَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا آخَرَ مِمَّا فَهِمْتُمْ مِنْ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ لَا مِنْ نُصُوصِهِ وَحَاوَلْتُمْ خَلْعَهَا عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّنِي أَشْرَحُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِأَوْضَحِ مِمَّا كَتَبَهُ دِرِمِنْغَامْ وَمَا بَلَغَنِي عَنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَكُرُّ عَلَيْهَا بِالنَّقْضِ وَالدَّحْضِ فَأَقُولُ:
(١) قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ لَقِيَ بَحِيرَى الرَّاهِبَ فِي مَدِينَةِ بُصْرَى بِالشَّامِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ نَسْطُورِيًّا مِنْ أَتْبَاعِ آرْيُوسَ فِي التَّوْحِيدِ وَيُنْكِرُ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ وَعَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ مِنْهُ عَقِيدَتَهُ، وَقَالُوا فِي بَحِيرَى أَيْضًا: إِنَّهُ كَانَ عَالِمًا فَلَكِيًّا مُنَجِّمًا وَحَاسِبًا سَاحِرًا، وَإِنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ ظَهَرَ لَهُ وَأَنْبَأَهُ بِأَنْ سَيَكُونُ هَادِيًا لِآلِ إِسْمَاعِيلَ إِلَى الدِّينِ الْمَسِيحِيِّ.
بَلْ سَمِعْنَا مِنْ بَعْضِ الرُّهْبَانِ أَنَّهُ كَانَ مُعَلِّمًا لِمُحَمَّدٍ وَمُصَاحِبًا لَهُ بَعْدَ رِسَالَتِهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا مَا حَرَّمَ الْخَمْرَ إِلَّا لِأَنَّهُ قَتَلَ أُسْتَاذَهُ بَحِيرَى وَهُوَ سَكْرَانُ، وَأَمْثَالُ هَذَا مِنَ الِافْتِرَاءِ وَالْبُهْتَانِ. وَكُلُّ مَا عَرَفَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رُوَاةِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَرَجَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ
وَقِيلَ ١٢ سَنَةً رَآهُ هَذَا الرَّاهِبُ مَعَ قُرَيْشٍ وَرَأَى سَحَابَةً تُظَلِّلُهُ مِنَ الشَّمْسِ، وَذَكَرَ لِعَمِّهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ وَحَذَّرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِ - وَفِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى بِمَعْنَاهَا ضَعِيفَةُ الْأَسَانِيدِ إِلَّا رِوَايَةً لِلتِّرْمِذِيِّ لَيْسَ فِيهَا اسْمُ بَحِيرَى وَفِيهَا غَلَطٌ فِي الْمَتْنِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ مِنْ بَحِيرَى شَيْئًا مِنْ عَقِيدَتِهِ أَوْ دِينِهِ.
(٢) قَالُوا إِنَّ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ كَانَ مِنْ مُتَنَصِّرَةِ الْعَرَبِ الْعُلَمَاءِ بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَأَحَدَ أَقَارِبِ خَدِيجَةَ - يُوهِمُونَ الْقَارِئَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ - وَالَّذِي صَحَّ مِنْ خَبَرِ وَرَقَةَ هَذَا هُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّ خَدِيجَةَ أَخَذَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِبَ إِخْبَارِهِ إِيَّاهَا بِرُؤْيَةِ الْمَلَكِ فِي حِرَاءَ إِلَى وَرَقَةَ هَذَا وَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَهُ وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَمِيَ وَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ (وَسَأَذْكُرُ نَصَّ الْحَدِيثِ فِي آخِرِ هَذَا الْمَبْحَثِ) وَقَدِ اسْتَقْصَى الْمُحَدِّثُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ كُلَّ مَا عُرِفَ عَنْ وَرَقَةَ هَذَا مِمَّا صَحَّ سَنَدُهُ وَمِمَّا لَمْ يَصِحَّ لَهُ سَنَدٌ كَدَأْبِهِمْ فِي كُلِّ مَا لَهُ عَلَاقَةٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَرَفَ عَنْهُ دَعْوَةً إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ كِتَابَةً فِيهَا.
وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ قَالَ حِينَ عَلِمَ مِنْ خَدِيجَةَ خَبَرَ مُحَمَّدٍ: إِنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ عَاشَ حَتَّى رَأَى بِلَالًا يُعَذِّبُهُ
140
الْمُشْرِكُونَ لِيَرْجِعَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ، الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ أَعْمَى وَلَمْ يَنْشَبْ أَيْ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، وَقَدْ كَانَ تَعْذِيبُ بِلَالٍ بَعْدَ إِظْهَارِ دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ هَذَا بَعْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِثَلَاثِ سِنِينَ - وَإِمِيلْ دِرِمِنْغَامْ قَدْ غَلِطَ فِيمَا نَقَلَهُ مِنْ خَبَرِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ لِاخْتِلَاطِ الرِّوَايَاتِ عَلَيْهِ فِيهَا وَعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا دُوِّنَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ مِنْهَا. وَإِنَّمَا كَانَ هَمُّ الْمُحَدِّثِينَ فِي خَبَرِ وَرَقَةَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَانَ صَحَابِيًّا أَمْ لَا، فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ هُوَ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْبَعْثَةِ مُؤْمِنًا بِهِ، وَلَوْ بَلَغَهُمْ عَنْهُ أَيُّ شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ بِالتَّوْرَاةِ أَوِ الْإِنْجِيلِ لَنَقَلُوهُ.
(٣) ذَكَرُوا مَا كَانَ مِنِ انْتِشَارِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَتَنَصُّرِ بَعْضِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ وَشُعَرَائِهِمْ كَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ الْأَيَادِيِّ وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَإِشَادَةِ هَؤُلَاءِ بِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ قُرْبِ ظُهُورِ النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ نَشَرْنَا بَعْضَ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ وَكُتُبِ النُّبُوَّاتِ فِي تَفْسِيرِ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) (١٥٧) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
فَأَمَّا الْقُسُّ فَقَدْ مَاتَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي سُوقِ عُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَوْرَقَ، بِكَلَامٍ لَهُ مُونِقٍ، قَالَ فِيهِ: إِنَّ لِلَّهِ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَنَبِيًّا قَدْ أَظَلَّكُمْ زَمَانُهُ، وَأَدْرَكُكُمْ أَوَانُهُ، فَطُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَهُ فَاتَّبَعَهُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ خَالَفَهُ - وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا ضَعِيفَةٌ، وَتَعَدُّدُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا.
وَأَمَّا أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ فَهُوَ شَاعِرٌ مَشْهُورٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: اتَّفَقَتِ الْعَرَبُ عَلَى أَنَّ أُمَيَّةَ أَشْعَرُ ثَقِيفَ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: كَانَ أُمَيَّةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَظَرَ الْكُتُبَ وَقَرَأَهَا وَلَبِسَ الْمُسُوحَ تَعَبُّدًا وَكَانَ يَذْكُرُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْحَنِيفِيَّةَ، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَتَجَنَّبَ الْأَوْثَانَ وَطَمِعَ فِي النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ قَرَأَ فِي الْكُتُبِ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ بِالْحِجَازِ فَرَجَا أَنْ يَكُونَ هُوَ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسَدَهُ فَلَمْ يُسْلِمْ. وَهُوَ الَّذِي رَثَى قَتْلَى بَدْرٍ (الْمُشْرِكِينَ) بِالْقَصِيدَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا:
مَاذَا بِبَدْرٍ وَالْعَقَنْ قَلِ مِنْ مَرَازِبَةٍ جَحَاجِحْ
وَفِي الْمِرْآةِ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ كَانَ آمَنَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِمَ الْحِجَازَ، لِيَأْخُذَ مَالَهُ مِنَ الطَّائِفِ وَيُهَاجِرَ، فَعَلِمَ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ وَقَتْلِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِيهَا فَجَدَعَ أَنْفَ نَاقَتِهِ وَشَقَّ ثَوْبَهُ وَبَكَى ; لِأَنَّ فِيهِمُ ابْنَيْ خَالِهِ وَعَادَ إِلَى الطَّائِفِ وَمَاتَ فِيهَا. وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
141
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْشَدَ الشَّرِيدَ بْنَ عَمْرٍو مِنْ شِعْرِهِ فَأَنْشَدَهُ فَقَالَ: ((كَادَ أَنْ يُسْلِمَ)) وَلَكِنَّهُ كَانَ حَنِيفِيًّا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَتَنَصَّرْ وَمِنْ شِعْرِهِ:
كُلُّ دَيْنٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللهِ إِلَّا دِينَ الْحَنِيفَةِ زُورٌ
(٤) إِسْلَامُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كَانَ فَارِسِيًّا مَجُوسِيًّا فَتَنَصَّرَ عَلَى يَدِ بَعْضِ الرُّهْبَانِ وَصَحِبَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ عُبَّادِهِمْ وَسَمِعَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ آخِرِهِمْ بِقُرْبِ ظُهُورِ النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى وَالْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْعَرَبِ فَقَصَدَ بِلَادَ الْعَرَبِ وَبِيعَ لِبَعْضِ يَهُودِ يَثْرِبَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَلَمْ يَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَأَسْلَمَ وَكَاتَبَ سَيِّدَهُ. وَفِي قِصَّتِهِ رِوَايَاتٌ مُتَعَارِضَةٌ، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا لِدِرِمِنْغَامْ وَغَيْرِهِ.
(٥) ذَكَرُوا مَا كَانَ مِنْ رِحْلَةِ تُجَّارِ قُرَيْشٍ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَفِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ وَاجْتِمَاعِهِمْ بِالنَّصَارَى فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كُلَّمَا مَرُّوا بِدَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ لِلرُّهْبَانِ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى يَتَحَدَّثُونَ بِقُرْبِ ظُهُورِ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ.
(٦) زَعَمَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ بِمَكَّةَ نَفْسِهَا أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَبِيدًا وَخَدَمًا لِأَنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ لَمْ يَكُونُوا يَسْمَحُونَ لَهُمْ أَنْ يَسْكُنُوا فِي مَكَّةَ حَرَمِهِمُ الْمُقَدَّسِ الْخَاصِّ بِوَثَنِيَّتِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ. وَكَانَ هَؤُلَاءِ يَسْكُنُونَ فِي أَطْرَافِ مَكَّةَ ((فِي الْمَنَازِلِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْكَعْبَةِ الْمُتَاخِمَةِ لِلصَّحْرَاءِ)) ! ! وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِقِصَصٍ عَنْ دِينِهِمْ لَا تَصِلُ إِلَى مَسَامِعِ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَعُظَمَائِهِمْ أَوْ مَا كَانُوا يَحْفَلُونَ بِهَا لِسَمَاعِ أَمْثَالِهَا فِي رِحْلَاتِهِمُ الْكَثِيرَةِ. وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ عَتَبَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ كَثْرَةَ تَكْرِيرِهِ لِمَا يَذْكُرُهُ الرُّهْبَانُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ.
فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ يَذْكُرُهَا كُتَّابُ الْإِفْرِنْجِ لِتَعْلِيلِ مَا ظَهَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ عَلَى طَرِيقِهِمْ فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَمَا يُسَمُّونَهُ النَّقْدَ التَّحْلِيلِيَّ، وَيُقْرِنُونَ بِهَا مُقَدِّمَاتٍ أُخْرَى فِي وَصْفِ حَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَحَالَةِ قَوْمِهِ وَمَا اسْتَفَادَهُ مِنْهَا مِنْ تَأْثِيرٍ وَعِبْرَةٍ، فَنُلَخِّصُهَا مَضْمُومَةً إِلَى مَا قَبْلَهَا مَعَ الْإِلْمَامِ بِنَقْدِهَا.
(٧) قَالَ دِرِمِنْغَامْ فِي كَفَالَةِ أَبِي طَالِبٍ لِمُحَمَّدٍ بَعْدَ وَفَاةِ جَدِّهِ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا فَلَمْ يُتَحْ لَهُ تَعْلِيمُ الصَّبِيِّ الَّذِي بَقِيَ أُمِّيًّا طُولَ حَيَاتِهِ (يُوهِمُ الْقَارِئَ أَنَّ أَوْلَادَ الْمُوسِرِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ كَأَنَّ هُنَالِكَ مَدَارِسَ يُعَلَّمُ فِيهَا النَّشْءُ بِالْأُجُورِ كَمَدَارِسِ بِلَادِ الْحَضَارَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ - ثُمَّ قَالَ) :
((وَلَكِنَّهُ كَانَ يَسْتَصْحِبُهُ وَإِيَّاهُ فِي التِّجَارَةِ فَيَسِيرُ وَالْقَوَافِلَ خِلَالَ الصَّحْرَاءِ يَقْطَعُ هَذِهِ الْأَبْعَادَ الْمُتَنَائِيَةَ وَتُحَدِّقُ عَيْنَاهُ الْجَمِيلَتَانِ بِمَدْيَنَ وَوَادِي الْقُرَى وَدِيَارِ ثَمُودَ وَتَسْتَمِعُ أُذُنَاهُ الْمُرْهَفَتَانِ إِلَى حَدِيثِ الْعَرَبِ وَالْبَادِيَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ وَحَدِيثِهَا وَمَاضِي نَبَئِهَا. وَيُقَالُ إِنَّهُ فِي إِحْدَى هَذِهِ الرِّحْلَاتِ إِلَى الشَّامِ الْتَقَى بِالرَّاهِبِ بَحِيرَى فِي جِوَارِ مَدِينَةِ بُصْرَى، وَأَنَّ الرَّاهِبَ رَأَى فِيهِ
142
عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ عَلَى مَا تَدُلُّهُ عَلَيْهِ أَنْبَاءُ كُتُبِهِ. وَفِي الشَّامِ عَرَفَ مُحَمَّدٌ أَحْبَارَ الرُّومِ وَنَصْرَانِيَّتَهُمْ وَكُتَّابَهُمْ وَمُنَاوَأَةَ الْفُرْسِ مِنْ عُبَّادِ النَّارِ لَهُمْ وَانْتِظَارَ الْوَقِيعَةِ بِهِمْ)).
كُلُّ مَا ذَكَرَهُ دِرِمِنْغَامْ هُنَا فَهُوَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ خَيَالِهِ وَمُبْتَدَعَاتِ رَأْيِهِ إِلَّا مَسْأَلَةَ بَحِيرَى الرَّاهِبِ فَأَصْلُهَا مَا ذَكَرْنَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْفَلْ بِإِثْبَاتِهَا لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ مُفْتَرَيَاتِ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ فِيهَا.
فَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْهَبْ مَعَ عَمِّهِ إِلَى التِّجَارَةِ فِي الشَّامِ إِلَّا وَهُوَ طِفْلٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ أَعَادَهُ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ إِتْمَامِ رِحْلَتِهِ. ثُمَّ سَافَرَ إِلَيْهَا فِي تِجَارَةِ خَدِيجَةَ وَهُوَ شَابٌّ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَتَجَاوَزْ سُوقَ بُصْرَى فِي الْمَرَّتَيْنِ. وَالْقَوَافِلُ الَّتِي تَذْهَبُ إِلَى الشَّامِ لَمْ تَكُنْ تَمُرُّ بِمَدْيَنَ وَهِيَ فِي أَرْضِ سَيْنَاءَ. وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقَوَافِلُ تُضَيِّعُ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهَا لِلْبَحْثِ مَعَ الْعَرَبِ أَوِ الْأَعْرَابِ فِي طَرِيقِهَا عَنْ أَنْبَائِهَا وَالتَّارِيخِ الْقَدِيمِ لِبِلَادِهَا، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ تُجَّارِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُعْنَوْنَ بِلِقَاءِ أَحْبَارِ النَّصَارَى وَمُبَاحَثَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ لِدِرِمِنْغَامْ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي كَانَ يَشْتَغِلُ فِي تِلْكَ التِّجَارَةِ بِالْبَحْثِ عَنِ الْأُمَمِ وَالتَّوَارِيخِ وَالْكُتُبِ وَالْأَدْيَانِ وَيُعْنَى بِلِقَاءِ رُؤَسَائِهَا وَالْبَحْثِ مَعَهُمْ؟ إِنَّمَا اخْتَرَعَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَعْلِيلَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ إِلَّا بِهِ وَكَذَلِكَ الْإِنْبَاءُ بِغَلَبِ الرُّومِ لِلْفَرَسِ كَمَا سَيَأْتِي. وَسَتَرَى مَا نُفَنِّدُ بِهِ تَعْلِيلَهُ وَتَحْلِيلَهُ وَتَرْكِيبَهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا زَعَمَهُ كُلَّهُ.
(٨) ثُمَّ ذَكَرَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّ الْعَرَبَ وَلَا سِيَّمَا أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَصْرِفُونَ مُعْظَمَ أَوْقَاتِهِمْ بَعْدَ مَا يَكُونُ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ حَرْبٍ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِاللَّذَّاتِ مِنَ السُّكْرِ وَالتَّسَرِّي وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ التَّارِيخَ يَشْهَدُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يَرَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يُشَارِكُهُمْ فِي ذَلِكَ لَا لِفَقْرِهِ وَضِيقِ ذَاتِ يَدِهِ قَالَ: ((لَكِنَّ نَفْسَ مُحَمَّدٍ كَانَتْ شَغِفَةً بِأَنْ تَرَى وَأَنْ تَسْمَعَ وَأَنْ تَعْرِفَ، وَكَأَنَّ حِرْمَانَهُ مِنَ التَّعْلِيمِ الَّذِي كَانَ يَعْلَمُهُ أَنْدَادُهُ جَعَلَهُ أَشَدَّ لِلْمَعْرِفَةِ شَوْقًا وَبِهَا تَعَلُّقًا، كَمَا أَنَّ النَّفْسَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي تَجَلَّتْ مِنْ بَعْدُ آثَارُهَا، وَمَا زَالَ يَغْمُرُ الْعَالَمَ سُلْطَانُهَا، كَانَتْ فِي تَوْقِهَا إِلَى الْكَمَالِ تَرْغَبُ عَنْ هَذَا اللهْوِ الَّذِي يَطْمَحُ إِلَيْهِ أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى نُورِ الْحَيَاةِ الْمُتَجَلِّي مِنْ كُلِّ مَظَاهِرِ الْحَيَاةِ لِمَنْ هَدَاهُ الْحَقُّ إِلَيْهَا لِاسْتِكْنَاهِ مَا تَدُلُّ هَذِهِ الْمَظَاهِرُ عَلَيْهِ وَمَا تَحَدَّثَ الْمَوْهُوبُونَ بِهِ)).
هَذَا الْخَبَرُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ دِرِمِنْغَامْ فَمُحَمَّدٌ لَمْ يَكُنْ شَغُوفًا بِأَنْ يَرَى مَا يَفْعَلُهُ فُسَّاقُ قَوْمِهِ مِنْ فُسُوقٍ وَفُجُورٍ، وَلَا أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ، وَلَا يَتَحَرَّى أَنْ يَعْرِفَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ سَمَرَهُمْ وَلَهْوَهُمْ إِلَّا مَرَّتَيْنِ أَلْقَى الله عَلَيْهِ النُّوَّمَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا حَتَّى طَلَعَتِ
الشَّمْسُ فَلَمْ يَرَ وَلَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا، وَقَدْ بَطَلَ بِهَذَا مَا عَلَّلَ بِهِ الْخَبَرَ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَدْحِ الْمُتَضَمِّنِ لِدَسِيسَتَيْنِ (إِحْدَاهُمَا) أَنَّ أَنْدَادَهُ فِي قُرَيْشٍ كَانُوا مُتَعَلِّمِينَ وَكَانَ هُوَ مَحْرُومًا مِمَّا لُقِّنُوهُ مِنَ الْعِلْمِ وَكَانَ حِرْمَانُهُ هَذَا يَزِيدُهُ شَغَفًا بِالْبَحْثِ وَالِاسْتِطْلَاعِ (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّ نَفْسَهُ كَانَتْ بِسَبَبِ هَذَا تَزْدَادُ طُمُوحًا إِلَى نُورِ الْحَيَاةِ الْمُتَجَلِّي فِي جَمِيعِ مَظَاهِرِهَا لِاسْتِكْنَاهِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَظَاهِرُ، فَهَذِهِ مِدْحَةٌ غَرَضُهُ مِنْهَا تَعْلِيلُ مَا انْبَثَقَ فِي نَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَسَتَرَى بُطْلَانَهُ.
143
(٩) ثُمَّ ذَكَرَ دِرِمِنْغَامْ مَسْأَلَةَ أَبْنَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَاسِمِ وَالطَّيِّبِ وَالطَّاهِرِ وَهُوَ يَشُكُّ فِي وُجُودِهِمْ وَيَقُولُ: إِنَّ تَكْنِيَتَهُ بِأَبِي الْقَاسِمِ لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ وَلَدٍ لَهُ بِهَذَا الِاسْمِ وَإِنَّهُ إِنْ صَحَّ أَنَّهُمْ وُلِدُوا فَقَدْ مَاتُوا فِي الْمَهْدِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ غُلَامٌ سَمَّاهُ الْقَاسِمَ وَكُنِّيَ بِهِ وَأَنَّهُ مَاتَ طِفْلًا، وَقِيلَ عَاشَ إِلَى أَنْ رَكِبَ الدَّابَّةَ وَأَنَّ الطَّيِّبَ وَالطَّاهِرَ لَقَبَانِ لِلْقَاسِمِ. وَلَكِنَّ دِرِمِنْغَامْ قَدْ كَبَّرَ مَسْأَلَةَ مَوْتِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ يَشُكُّ فِي وُجُودِهِمْ. وَبَنَى عَلَيْهَا حُكْمًا. وَأَثَارَ وَهْمًا، قَالَ بَعْدَ أَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُطِقْ عَلَى الْحِرْمَانِ مِنَ الْبَنِينَ صَبْرًا.
((فَمِنْ حَقِّ الْمُؤَرِّخِ أَنْ يَجْعَلَ لِهَذَا الْحَادِثِ بَلِ الْحَوَادِثِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَصَابَتْ مُحَمَّدًا فِي بَنِيهِ مَا هِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَتْرُكَهُ فِي حَيَاتِهِ وَفِي تَفْكِيرِهِ مِنْ أَثَرٍ. وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِنَوْعٍ خَاصٍّ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أُمِّيًّا، فَلَمْ تَكُنِ الْمُضَارَّاتُ الْجَدَلِيَّةُ (كَذَا) لِتَصْرِفَهُ عَنِ التَّأْثِيرِ بِعِبَرِ الْحَوَادِثِ وَدُرُوسِهَا، وَحَوَادِثُ أَلِيمَةٌ كَوَفَاةِ أَبْنَائِهِ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَسْتَوْقِفَ تَفْكِيرَهُ وَأَنْ تَلْفِتَهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لِمَا كَانَتْ خَدِيجَةُ تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى أَصْنَامِ الْكَعْبَةِ وَتَنْحَرُ لِهُبَلٍ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى تُرِيدُ أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْ أَلَمِ الثُّكْلِ فَلَا تُفِيدُ الْقُرْبَانُ وَلَا تُجْدِي النُّحُورُ)).
((وَالْأَمْرُ كَانَ كَذَلِكَ لَا رَيْبَ أَنْ كَانَتْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ قَدْ بَدَأَتْ تَتَزَعْزَعُ فِي النُّفُوسِ تَحْتَ ضَغْطِ النَّصْرَانِيَّةِ الْآتِيَةِ مِنَ الشَّامِ مُنْحَدِرَةً إِلَيْهَا مِنَ الرُّومِ وَمِنَ الْيَمَنِ مُتَخَطِّيَةً إِلَيْهَا مِنْ خَلِيجِ الْعَرَبِ (الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ) مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ)).
غَرَضُ دِرِمِنْغَامْ مِنْ تَكْبِيرِ الْمُصِيبَةِ بِمَوْتِ الْأَبْنَاءِ الْمَشْكُوكِ فِي وِلَادَتِهِمْ هُوَ أَنْ يَجْعَلَهَا مُسَوِّغَةً لِمَا اخْتَلَقَهُ مِنْ تَوَسُّلِ خَدِيجَةَ إِلَى الْأَصْنَامِ بِالْقَرَابِينِ لِيُنْقِذُوهَا مِنْ
مَعْصِيَةِ الثُّكْلِ، ثُمَّ يَسْتَنْبِطُ مِنْ ذَلِكَ زَعْزَعَةَ إِيمَانِهَا وَإِيمَانَ بَعْلِهَا بِعِبَادَتِهَا الَّذِي كَانَ سَبَبُهُ تَأْثِيرَ النَّصْرَانِيَّةِ فِي مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، ثُمَّ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ التَّحْلِيلِيَّةِ لِتَعْلِيلِ الْوَحْيِ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَا تَبَنَّى زَيْدًا إِلَّا لِأَنَّهُ آثَرَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ حُرًّا مَعَ وَالِدِهِ وَعَمِّهِ عِنْدَمَا جَاءَا مَكَّةَ لِافْتِدَائِهِ بِالْمَالِ. فَقَالَ لَهُمَا: ((ادْعُوهُ فَخَيِّرُوهُ فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ فِدَاءٌ)) ثُمَّ دَعَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ فَعَرَفَهُمَا قَالَ: ((فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ وَقَدْ رَأَيْتَ صُحْبَتِي لَكَ فَاخْتَرْنِي أَوِ اخْتَرْهُمَا)) فَقَالَ زَيْدٌ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْكَ أَحَدًا. أَنْتَ مِنِّي بِمَكَانِ الْأَبِ وَالْعَمِّ. فَقَالَا: وَيْحَكَ يَا زَيْدُ أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَعَلَى أَبِيكَ وَعَمِّكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ شَيْئًا مَا أَنَا الَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْهِ أَحَدًا. فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ أَخْرَجَهُ إِلَى الْحِجْرِ فَقَالَ: ((اشْهَدُوا أَنَّ زَيْدًا ابْنِي يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ)) فَلَمَّا رَأَى أَبُوهُ وَعَمُّهُ طَابَتْ أَنْفُسُهُمَا. فَدُعِيَ زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ.
رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَنَحْوُهُ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
هَذَا وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكُنْ جَزُوعًا عِنْدَ مَوْتِ وَلَدٍ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ كَانَ أَصْبَرَ الصَّابِرِينَ وَإِنَّ
144
خَدِيجَةَ لَمْ تَيْأَسْ - بِمَوْتِ الْقَاسِمِ - مِنَ اللهِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهَا بِوَلَدٍ آخَرَ، وَلَمْ تَنْحَرْ لِلْأَصْنَامِ شَيْئًا، وَإِنَّ اللَّاتَ كَانَتْ صَخْرَةً فِي الطَّائِفِ تَعْبُدُهَا ثَقِيفُ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ، وَالْعُزَّى كَانَتْ شَجَرَةً بِبَطْنِ نَخْلَةَ تَعْبُدُهَا قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَغَطَفَانُ، وَمَنَاةَ كَانَتْ صَنَمًا فِي قُدَيْدٍ لِبَنِي هِلَالٍ وَهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ.
وَقَدْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ضَعِيفِ الْوَثَنِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ - وَزَعَمَ أَنَّهُ سَبَّبَهُ انْتِشَارُ النَّصْرَانِيَّةِ - جَدِيرًا بِأَنْ يَمْنَعَ خَدِيجَةَ وَهِيَ مِنْ أَعْقَلِ الْعَرَبِ وَأَسْلَمِهِمْ فِطْرَةً، وَأُقْرَبُهُمْ إِلَى الْحَنَفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ تُهَاجِرَ إِلَى هَذِهِ الْأَصْنَامِ لِتَنْحَرَ لَهَا وَتَتَقَرَّبَ إِلَيْهَا لِتَرْزُقَهَا غُلَامًا، فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا عَقْلُهَا وَفِطْرَتُهَا فَأَجْدَرُ بِبَعْلِهَا الْمُصْطَفَى أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ عَدُوُّ الْوَثَنِيَّةِ وَالْأَصْنَامِ مِنْ طُفُولَتِهِ كَمَا يَعْتَرِفُ دِرِمِنْغَامْ، وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُنْسِي صَاحِبَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَاهُ لَوْلَاهُ.
(١٠) زَعَمَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَغَلْغُلِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَوْجَدَ فِيهَا حَالَةً نَفْسِيَّةً أَدَّتْ إِلَى زِيَادَةِ إِمْعَانِهِمْ فِيمَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ التَّحَنُّثَ أَوِ التَّحَنُّفَ وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ:
(وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَجِدُ فِي التَّحَنُّثِ طُمَأْنِينَةً لِنَفْسِهِ أَنْ كَانَ لَهُ بِالْوَحْدَةِ شَغَفٌ، وَأَنْ
كَانَ يَجِدُ فِيهَا الْوَسِيلَةَ إِلَى مَا بَرِحَ شَوْقُهُ يَشْتَدُّ إِلَيْهِ مِنْ نِشْدَانِ الْمَعْرِفَةِ وَاسْتِلْهَامِ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ أَسْبَابِهَا فَكَانَ يَنْقَطِعُ كُلَّ رَمَضَانَ طُولَ الشَّهْرِ فِي غَارِ حِرَاءَ بِجَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ مُكْتَفِيًا بِالْقَلِيلِ مِنَ الزَّادِ يُحْمَلُ إِلَيْهِ لِيَمْضِيَ أَيَّامًا بِالْغَارِ طَوِيلَةً فِي التَّأَمُّلِ وَالْعِبَادَةِ بَعِيدًا عَنْ ضَجَّةِ النَّاسِ وَضَوْضَاءِ الْحَيَاةِ)).
وَأَقُولُ: إِنَّ رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ تُفِيدُ أَنَّهُ حُبِّبَ إِلَيْهِ التَّحَنُّثُ فِي غَارِ حِرَاءَ فِي الْعَامِ الَّذِي جَاءَهُ فِيهِ الْوَحْيُ وَكَانَ هُوَ يَحْمِلُ الزَّادَ وَمَا كَانَ أَحَدٌ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ تَعَبُّدِهِ فِيهِ شَهْرَ رَمَضَانَ كُلَّ سَنَةٍ إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَنِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَمَا سَيَأْتِي:
وَهَاهُنَا وَصَلَ دِرِمِنْغَامْ إِلَى آخِرِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالنَّتِيجَةِ الْمَطْلُوبَةِ لَهُ فَأَرْخَى لِخَيَالِهِ الْعِنَانَ وَنَزَعَ مِنْ جَوَادِهِ اللِّجَامَ، وَنَخَسَهُ بِالْمَهَارَةِ، فَعَدَا بِهِ سَبْحًا، وَجَمَحَ بِهِ جَمْحًا، وَقَدَحَتْ حَوَافِرُهُ لَهُ قَدْحًا، وَأَثَارَتْ لَهُ نَقْعًا، وَأَذِنَ لِشَاعِرِيَّتِهِ الْفَرَنْسِيَّةِ أَنْ تَصِفَ مُحَمَّدًا عِنْدَ ذَلِكَ الْغَارِ بِمَا تُحْدِثُهُ فِي نَفْسِهِ مَشَاهِدُ نُجُومِ اللَّيْلِ وَمَا تُسْعِفُهُ بِهِ شَمْسُ النَّهَارِ، وَمَا تَصَوَّرَ أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ فِي تِلْكَ الْقُنَّةِ مِنَ الْجَبَلِ مِنْ صَحَارَى وَقِفَارٍ، وَخِيَامٍ وَآبَارٍ، وَرُعَاةٍ تَهُشُّ عَلَى غَنَمِهَا حَيْثُ لَا أَشْجَارَ، حَتَّى ذَكَرَ الْبِحَارَ عَلَى بُعْدِ الْبِحَارِ وَقَدْ أَتْقَنَ التَّخَيُّلَ الشِّعْرِيَّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ بِهِ الْوَصْفَ الْمَوْضِعِيَّ، ثُمَّ قَالَ مُصَوِّرًا لِمَا يَبْتَغِيهِ مِنْ مُشَاهَدَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((وَهَذِهِ النُّجُومُ فِي لَيَالِي صَيْفِ الصَّحْرَاءِ كَثِيرَةٌ شَدِيدَةُ الْبَرِيقِ حَتَّى لَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَسْمَعَ بَصِيصَ ضَوْئِهَا وَكَأَنَّهُ نَغَمُ نَارٍ مُوقَدَةٍ.
((حَقًّا! إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَشَارَاتٍ لِلْمُدْرِكِينَ. وَفِي الْعَالَمِ غَيْبٌ بَلِ الْعَالَمُ غَيْبٌ كُلُّهُ، لَكِنْ!
145
أَلَا يَكْفِي أَنْ يَفْتَحَ الْإِنْسَانُ عَيْنَيْهِ لِيَرَى، وَأَنْ يُرْهِفَ أُذُنَهُ لِيَسْمَعَ؟ لِيَرَى حَقًّا، وَلِيَسْمَعَ الْكَلِمَ الْخَالِدَ! لَكِنَّ لِلنَّاسِ عُيُونًا لَا تَرَى وَآذَانًا لَا تَسْمَعُ... أَمَّا هُوَ فَحَسْبٌ أَنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى وَهَلْ تَحْتَاجُ لِكَيْ تَسْمَعَ مَا وَرَاءَ السَّمَاءِ مِنْ أَصْوَاتٍ إِلَّا إِلَى قَلْبٍ خَالِصٍ وَنَفْسٍ مُخْلِصَةٍ وَفُؤَادٍ مُلِئَ إِيمَانًا؟
((وَمُحَمَّدٌ فِي رَيْبٍ مِنْ حِكْمَةِ النَّاسِ فَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ إِلَّا الْحَقَّ الْخَالِصَ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ بَاطِلٌ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَيْشَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ لَيْسَ فِيمَا يَرَى حَوْلَهُ، فَحَيَاةُ الْقُرَشِيِّينَ لَيْسَتْ حَقًّا، وَرِبَا الْمُرَابِينَ وَنَهْبُ الْبَدْوِ وَلَهْوُ
الْخُلَعَاءِ وَكُلُّ مَا إِلَى ذَلِكَ لَا شَيْءَ مِنَ الْحَقِّ فِيهِ، وَالْأَصْنَامُ الْمُحِيطَةُ بِالْكَعْبَةِ لَيْسَتْ حَقًّا وَهُبَلُ الْإِلَهُ الطَّوِيلُ الذَّقْنِ الْكَثِيرُ الْعُطُورِ وَالْمَلَابِسِ لَيْسَ إِلَهًا حَقًّا.
((إِذًا فَأَيْنَ الْحَقُّ وَمَا هُوَ)) ؟
((وَظَلَّ مُحَمَّدٌ يَتَرَدَّدُ عَلَى حِرَاءَ فِي رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ سَنَوَاتٍ مُتَتَالِيَةً وَهُنَاكَ كَانَ يَزْدَادُ بِهِ التَّأَمُّلُ ابْتِغَاءَ الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَكَانَ يَنْسَى نَفْسَهُ، وَيَنْسَى طَعَامَهُ، وَيَنْسَى كُلَّ مَا فِي الْحَيَاةِ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي يَرَى فِي الْحَيَاةِ لَيْسَ حَقًّا وَهُنَاكَ كَانَ يُقَلِّبُ فِي صُحُفِ ذِهْنِهِ كُلَّ مَا وَعَى، فَيَزْدَادُ عَمَّا يُزَاوِلُ النَّاسُ مِنْ أَلْوَانِ الظَّنِّ رَغْبَةً وَازْوِرَارًا، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَطْمَعُ فِي أَنْ يَجِدَ فِي قِصَصِ الْأَحْبَارِ وَفِي كُتُبِ الرُّهْبَانِ الْحَقَّ الَّذِي يَنْشُدُ، بَلْ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْمُحِيطِ بِهِ: فِي السَّمَاءِ وَنُجُومِهَا وَقَمَرِهَا وَشَمْسِهَا، وَفِي الصَّحْرَاءِ سَاعَاتِ لَهِيبِهَا الْمُحْرِقِ تَحْتَ ضَوْءِ الشَّمْسِ الْبَاهِرَةِ اللَّأْلَاءِ، وَسَاعَاتِ صَفْوِهَا الْبَدِيعِ إِذْ تَكْسُوهَا أَشِعَّةُ الْقَمَرِ أَوْ أَضْوَاءُ النُّجُومِ بِلِبَاسِهَا الرَّطْبِ النَّدِيِّ، وَفِي الْبَحْرِ وَمَوْجِهِ وَفِي كُلِّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْوُجُودِ وَتَشْمَلُهُ وَحْدَةُ الْوُجُودِ - فِي هَذَا الْكَوْنِ كَانَ يَلْتَمِسُ الْحَقِيقَةَ الْعُلْيَا، وَابْتِغَاءُ إِدْرَاكِهَا كَانَ يَسْمُو بِنَفْسِهِ سَاعَاتِ خَلْوَتِهِ لِيَتَّصِلَ بِهَذَا الْكَوْنِ وَلِيَخْتَرِقَ شِغَافَ الْحُجُبِ إِلَى مَكْنُونِ سِرِّهِ.
قَالَ دِرِمِنْغَامْ: فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ ٦١٠ م أَوْ نَحْوُهَا كَانَتِ الْحَالُ النَّفْسِيَّةُ الَّتِي يُعَانِيهَا (مُحَمَّدٌ) عَلَى أَشُدِّهَا فَقَدْ أَبْهَظَتْ عَاتِقَهُ الْعَقِيدَةُ بِأَنَّ أَمْرًا جَوْهَرِيًّا يَنْقُصُهُ وَيَنْقُصُ قَوْمَهُ، وَأَنَّ النَّاسَ نَسُوا هَذَا الْأَمْرَ الْجَوْهَرِيَّ وَتَشَبَّثَ كُلٌّ بِصَنَمِ قَوْمِهِ وَقَبِيلَتِهِ، وَخَشِيَ النَّاسُ الْجِنَّ وَالْأَشْبَاحَ وَالْبَوَارِحَ وَأَهْمَلُوا الْحَقِيقَةَ الْعُلْيَا، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوهَا وَلَكِنَّهُمْ نَسُوهَا نِسْيَانًا هُوَ مَوْتُ الرُّوحِ وَقَدْ خَلَصَتْ نَفْسُ ((مُحَمَّدٍ)) مَنْ كُلِّ هَذِهِ الْآرَاءِ التَّافِهَةِ، وَمِنْ كُلِّ الْقُوَى الَّتِي تَخْضَعُ لِقُوَّةِ غَيْرِهَا وَمِنْ كُلِّ كَائِنٍ لَيْسَ مَظْهَرًا لِلْكَائِنِ الْوَاحِدِ.
146
وَلَقَدْ عَرَفَ أَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ فِي الشَّامِ وَمَكَّةَ لَهُمْ دِينٌ أُوحِيَ بِهِ، وَأَنَّ أَقْوَامًا غَيْرَهُمْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا الْحَقَّ وَوَعَوْهُ أَنْ جَاءَهُمْ عِلْمٌ مِنْ أَنْبِيَاءَ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ بِهِ، وَكُلَّمَا ضَلَّ النَّاسُ بَعَثَتِ السَّمَاءُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يَهْدِيهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَيُذَكِّرُهُمْ
بِالْحَقِيقَةِ الْخَالِدَةِ.
وَهَذَا الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ دِينٌ وَاحِدٌ وَكُلَّمَا أَفْسَدَهُ النَّاسُ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّمُ عِوَجَهُمْ. وَقَدْ كَانَ الشَّعْبُ الْعَرَبِيُّ يَوْمَئِذٍ فِي أَشَدِّ تَيْهَاءِ الضَّلَالِ. أَفَمَا آنَ لِرَحْمَةِ اللهِ أَنْ تَظْهَرَ فِيهِمْ مَرَّةً أُخْرَى وَأَنْ تَهْدِيَهُمْ إِلَى الْحَقِّ)) ؟
((وَتَزَايَدَتْ رَغْبَةُ مُحَمَّدٍ عَنِ الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ، وَوَجَدَ فِي وَحْدَةِ غَارِ حِرَاءَ مَسَرَّةً تَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ عُمْقًا، وَجَعَلَ يَقْضِي الْأَسَابِيعَ وَمَعَهُ قَلِيلٌ مِنَ الزَّادِ وَرُوحُهُ تَزْدَادُ بِالصَّوْمِ وَالسَّهَرِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى تَقْلِيبِ فِكْرَتِهِ صِقَالًا وَحِدَّةً. وَنَسِيَ النَّهَارَ وَاللَّيْلَ وَالْحُلْمَ وَالْيَقَظَةَ، وَجَعَلَ يَقْضِي السَّاعَاتِ الطِّوَالَ جَاثِيًا فِي الْغَارِ، أَوْ مُسْتَلْقِيًا فِي الشَّمْسِ، أَوْ سَائِرًا بِخُطًى وَاسِعَةٍ فِي طُرُقٍ الصَّحْرَاءِ الْحَجَرِيَّةِ، وَكَأَنَّهُ يَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ تَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ أَحْجَارِهَا تُنَادِيهِ مُؤْمِنَةً بِرِسَالَتِهِ.
((وَقَضَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَتَّى خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ فَأَسَرَّ بِمَخَاوِفِهِ إِلَى خَدِيجَةَ فَطَمْأَنَتْهُ وَجَعَلَتْ تُحَدِّثُهُ بِأَنَّهُ الْأَمِينُ وَأَنَّ الْجِنَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَقْتَرِبَ مِنْهُ وَفِيمَا هُوَ يَوْمًا نَائِمٌ بِالْغَارِ جَاءَهُ مَلَكٌ فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ، قَالَ ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ)) وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ الْوَحْيِ وَأَوَّلَ النُّبُوَّةِ.
((وَهُنَا تَبْدَأُ حَيَاةٌ جِدَّةٍ رُوحِيَّةٍ قَوِيَّةٍ غَايَةَ الْقُوَّةِ، حَيَاةٌ تَأْخُذُ بِالْأَبْصَارِ وَالْأَلْبَابِ وَلَكِنَّهَا حَيَاةُ تَضْحِيَةٍ خَالِصَةٍ لِوَجْهِ اللهِ وَالْحَقِّ وَالْإِنْسَانِيَّةِ)).
أَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا هُنَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ جُلَّهُ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ هَذَا الْإِفْرَنْسِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا نَسِيَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالْحُلْمَ وَالْيَقَظَةَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقْضِي السَّاعَاتِ الطِّوَالَ جَاثِيًا فِي الْغَارِ أَوْ مُسْتَلْقِيًا فِي الشَّمْسِ إِلَخْ وَأَنَّهُ قَضَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ - قَدِ افْتَرَى فِي الْأَخْبَارِ لِيَسْتَنْبِطَ مِنْهَا أَنَّهُ صَارَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، غَائِبًا عَنْ حِسِّهِ. وَإِنَّنَا نَنْقُلُ هُنَا أَصَحَّ الْأَخْبَارِ فِي خَبَرِ تَحَنُّثِهِ فِي الْغَارِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ - مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَا فِيمَا قَبْلَهَا - لِتَفْنِيدِ مُفْتَرَيَاتِهِ وَلِلِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَمَّا نَقَلَهُ مِنَ الْخَلْطِ فِي صِفَةِ الْوَحْيِ مِنَ الْفَصْلِ الْآتِي - وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا وَهَذَا نَصُّ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.
147
(بَابُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
افْتَتَحَ الْبَابَ بَلِ الْكِتَابَ كُلَّهُ بِرِوَايَتِهِ الْحَدِيثَ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ) قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: وَلَقَدْ
رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عَقِيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ
148
الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمَثَلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ:
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (٩٦: ١ - ٣) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - فَقَالَ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)) فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ
149
فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: ((لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي)) فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي
الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَبَرِ مَا أَرَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا. لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
150
أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ. وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ
وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ ((بَيْنَا أَنَا مَاشٍ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٧٤: ١ - ٥) فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ اهـ.
(وَأَقُولُ) أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ مِنْ طُرُقٍ فِي بَعْضِهَا أَنَّ أَوَّلَهَا أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ مُطْلَقًا وَفِي الْبَعْضِ الْآخَرِ أَنَّهَا مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَالَّتِي هُنَا وَقَدْ عَبَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رُعْبِهِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ بِقَوْلِهِ: ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ
رُعْبًا)) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ)) أَيْ فَزِعْتُ وَخِفْتُ وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ بِالتَّاءِ لِلْمَفْعُولِ.
151
هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ أَوَّلِ الْمُدَّثِّرِ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ تَامَّةً وَبَعْدَهَا بَقِيَّةُ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ سُورَةُ (ن وَالْقَلَمِ) (٦٨: ١) وَهُوَ غَلَطٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَاعْتَمَدَهُ شَيْخُنَا فِي تَوْجِيهِ كَوْنِهَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ تَامَّةٍ بَعْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِالتَّمْهِيدِ التَّكْوِينِيِّ ثُمَّ بِالْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ الْإِجْمَالِيِّ وَتَلَاهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ وَنُزُولُ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ أَوْ نَزَلَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
(بَسْطُ مَا يُصَوِّرُونَ بِهِ الْوَحْيَ النَّفْسِيَّ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
هَأَنَذَا قَدْ بَسَطْتُ جَمِيعَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي اسْتَنْبَطُوهَا مِنْ تَارِيخِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَحَالَةِ قَوْمِهِ وَوَطَنِهِ، وَمَا تَصَوَّرُوا أَنَّهُ اسْتَفَادَهُ مِنْ أَسْفَارِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ خَلَوَاتِهِ وَتَحَنُّثِهِ وَتَفَكُّرِهِ فِيهَا، وَقَفَّيْتُ عَلَيْهَا بِأَصَحِّ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ صِفَةِ الْوَحْيِ وَكَيْفَ كَانَ بَدْؤُهُ وَفَتْرَتُهُ، ثُمَّ كَيْفَ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبْلِيغِهِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ وَكَيْفَ حَمِيَ وَتَتَابَعَ.
وَأُبَيِّنُ الْآنَ كَيْفَ يَسْتَنْبِطُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْوَحْيَ قَدْ نَبَعَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ وَأَفْكَارِهِ بِتَأْثِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي وِجْدَانِهِ وَعَقْلِهِ، بِمَا لَمْ أَرَ وَلَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهُ فِي تَقْرِيبِهِ إِلَى الْعَقْلِ، ثُمَّ أُقَفِّي عَلَيْهِ بِمَا يَنْقُضُهُ مِنْ أَسَاسِهِ بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالتَّارِيخِ وَالصَّحِيحِ مِنْ وَصْفِ حَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقُولُ:
يَقُولُونَ: إِنَّ عَقْلَ مُحَمَّدٍ الْهُيُولَانِيَّ قَدْ أَدْرَكَ بِنُورِهِ الذَّاتِيِّ بُطْلَانَ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا أَدْرَكَ ذَلِكَ أَفْرَادٌ آخَرُونَ مِنْ قَوْمِهِ - آمَنَّا وَصَدَّقْنَا - وَإِنَّ فِطْرَتَهُ الزَّكِيَّةَ قَدِ احْتَقَرَتْ مَا كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنْ جَمْعِ الْأَمْوَالِ بِالرِّبَا وَالْقِمَارِ - آمَنَّا وَصَدَّقْنَا - وَإِنَّ فَقْرَهُ وَفَقْرَ عَمِّهِ (أَبِي طَالِبٍ) الَّذِي كَفَلَهُ صَغِيرًا قَدْ حَالَ دُونَ انْغِمَاسِهِ فِيمَا كَانُوا يُسْرِفُونَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالشَّهَوَاتِ، مِنَ السُّكْرِ وَالتَّسَرِّي وَعَزْفِ الْقِيَانِ - الصَّحِيحُ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ احْتِقَارًا لَهُ لَا عَجْزًا عَنْهُ -
وَأَنَّهُ طَالَ تَفَكُّرُهُ فِي إِنْقَاذِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ الْقَبِيحِ وَتَطْهِيرِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ - لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ -، وَإِنَّهُ اسْتَفَادَ مِنْ أَسْفَارِهِ وَمِمَّنْ لَقِيَهُ فِيهَا وَفِي مَكَّةَ نَفْسِهَا مِنَ النَّصَارَى كَثِيرًا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ عَنِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ - هَذَا وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا وَلَا يَضُرُّنَا -، وَإِنَّ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ لَمْ تَكُنْ كُلُّهَا مَقْبُولَةً فِي عَقْلِهِ لِمَا عَرَضَ لِلنَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَبِمَا حَدَثَ فِيهَا مِنَ الْبِدَعِ - هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَهُوَ مَعْقُولٌ غَيْرُ مَنْقُولٍ - وَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَمِعَ أَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ نَبِيًّا مِثْلَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ قَدْ بَشَّرَ بِهِ
152
عِيسَى الْمَسِيحُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - وَإِنَّ هَذَا عَلَقَ بِنَفْسِهِ فَتَعَلَّقَ رَجَاؤُهُ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ النَّبِيَّ الَّذِي آنَ أَوَانُهُ - وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ لَهُمْ مِمَّا قَبْلَهُ وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ - وَنَتِيجَةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَوَسَّلَ إِلَى ذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ بِغَارِ حِرَاءَ فَقَوِيَ هُنَالِكَ إِيمَانُهُ، وَسَمَا وِجْدَانُهُ، فَاتَّسَعَ مُحِيطُ تَفَكُّرِهِ، وَتَضَاعَفَ نُورُ بَصِيرَتِهِ، فَاهْتَدَى عَقْلُهُ الْكَبِيرُ إِلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ مُبْدِعِ الْوُجُودِ، وَسِرِّ النِّظَامِ السَّارِي فِي كُلِّ مَوْجُودٍ، بِمَا صَارَ بِهِ أَهْلًا لِهِدَايَةِ النَّاسِ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَا زَالَ يُفَكِّرُ وَيَتَأَمَّلُ، وَيَنْفَعِلُ وَيَتَمَلْمَلُ، وَيَتَقَلَّبُ بَيْنَ الْآلَامِ وَالْآمَالِ، حَتَّى أَيْقَنَ أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ، الَّذِي يَبْعَثُهُ اللهُ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ، فَتَجَلَّى لَهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ فِي الرُّؤَى الْمَنَامِيَّةِ، ثُمَّ قَوِيَ حَتَّى صَارَ يَتَمَثَّلُ لَهُ الْمَلَكُ يُلَقِّنُهُ فِي الْيَقَظَةِ.
وَأَمَّا الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي جَاءَتْهُ فِي هَذَا الْوَحْيِ فَهِيَ مُسْتَمَدَّةُ الْأَصْلِ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَمِمَّا هَدَاهُ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَتَفَكُّرُهُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَصِحُّ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَتَجَلَّى لَهُ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهَا خِطَابُ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ بِوَاسِطَةِ النَّامُوسِ الْأَكْبَرِ مَلَكِ الْوَحْيِ جِبْرِيلَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَالَ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ الْمِصْرِيِّينَ: إِنْ سُولُونَ الْحَكِيمَ الْيُونَانِيَّ وَضَعَ قَانُونًا وَشَرِيعَةً لِقَوْمِهِ فَلَيْسَ بِدْعًا فِي الْعَقْلِ أَنْ يَضَعَ مُحَمَّدٌ شَرِيعَةً أَيْضًا، وَسَأُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا الرَّأْيِ.
(تَفْنِيدُ تَصْوِيرِهِمْ لِلْوَحْيِ النَّفْسِيِّ وَإِبْطَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ)
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ أَكْثَرَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي أَخَذُوا مِنْهَا هَذِهِ النَّتِيجَةَ هِيَ آرَاءٌ مُتَخَيَّلَةٌ، أَوْ دَعَاوَى بَاطِلَةٌ، لَا قَضَايَا تَارِيخِيَّةٌ ثَابِتَةٌ، كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُقَدِّمَاتُ بَطَلَ التَّسْلِيمُ بِالنَّتِيجَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ خَبَرَ غَلَبِ الْفُرْسِ وَظُهُورِهِمْ عَلَى الرُّومِ ; لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ مَا جَاءَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِالْمَسْأَلَةِ وَبِأَنَّ الرُّومَ سَيَغْلِبُونَ الْفُرْسَ بَعْدَ ذَلِكَ - هُوَ مُسْتَمَدٌّ مِمَّا سَمِعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَصَارَى الشَّامِ. وَهَذَا مَرْدُودٌ بِدَلَائِلِ التَّارِيخِ وَالْعَقْلِ. فَأَمَّا التَّارِيخُ فَإِنَّهُ يُحَدِّثُنَا بِأَنَّ ظُهُورَ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ كَانَ فِي سَنَةِ ٦١٠م وَذَلِكَ بَعْدَ رِحْلَةِ مُحَمَّدٍ الْأَخِيرَةِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَبْلَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِسَنَةٍ. ثُمَّ إِنَّ التَّارِيخَ أَنْبَأَنَا أَنَّ دَوْلَةَ الرُّومِ كَانَتْ مُخْتَلَّةً مُعْتَلَّةً فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرْجُو أَنْ تَعُودَ لَهَا الْكَرَّةُ وَالْغَلَبُ عَلَى الْفَرَسِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْفُسَهُمْ هَزِئُوا بِالْخَبَرِ وَرَاهَنَ أَبُو بَكْرٍ أَحَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَجَازَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَبِحَ الرِّهَانَ
153
وَأَمَّا الْفِعْلُ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِأَنَّ مِثْلَ مُحَمَّدٍ فِي سُمُوِّ إِدْرَاكِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْزِمَ بِأَنَّ الْغَلَبَ سَيَعُودُ لِلرُّومِ عَلَى الْفَرَسِ فِي مُدَّةِ بِضْعِ سِنِينَ - لَا مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ وَلَا مِنَ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ الْمُسْتَمَدِّ مِنَ الْأَخْبَارِ غَيْرِ الْمَوْثُوقِ بِهَا. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ انْتِصَارَ الرُّومِ حَصَلَ سَنَةَ ٦٢٢م وَكَانَ وَحْيُ التَّبْلِيغِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ ٦١٤م فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ سُورَةَ الرُّومِ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَكُونُ النَّصْرُ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ وَإِنْ كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَكُونُ الْمُدَّةُ سَبْعَ سِنِينَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْبِضْعُ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالتِّسْعِ. وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا النَّبَأِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (٣٠: ١ - ٤) وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ مَثَلًا - هِيَ إِفَادَةٌ أَنَّ الْغَلَبَ يَكُونُ فِي الْحَرْبِ الْمُمْتَدَّةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَأَنْبَاءُ الْوَحْيِ وَالْعِبَرِ لَا تَكُونُ بِأُسْلُوبِ التَّارِيخِ الَّذِي يُحَدِّدُ الْوَقَائِعَ بِالسِّنِينَ، وَلَيْسَ فِي وُعُودِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ذِكْرُ السِّنِينَ وَلَا الشُّهُورِ فَهَذِهِ الْآيَةُ فَرِيدَةٌ فِي بَابِهَا.
وَمِثَالٌ آخَرُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ مُرُورِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رِحْلَتِهِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْضِ مَدْيَنَ وَحَدِيثِهِ مَعَ أَهْلِهَا، الَّذِي أَرَادُوا بِهِ أَنْ يَجْعَلُوهُ أَصْلًا لِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِهَا، وَالْخَبَرُ بَاطِلٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ نَقْلِنَا إِيَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ مَا سَمِعَهُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ أُنَاسٍ مَجْهُولِينَ، وَمَعَارِفُهُمْ لَا يُوثَقُ بِهَا أَصْلًا لِلْوَحْيِ الَّذِي جَاءَهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) لَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّى عَنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى فِي الشَّامِ شَيْئًا أَوْ عَاشَرَهُمْ لَنَقَلَ ذَلِكَ إِلَى أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ لَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا عُلِمَ عَنْهُ أَوْ قِيلَ فِيهِ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا دَوَّنُوهُ وَوَكَلُوا أَمْرَ صِحَّتِهِ أَوْ عَدَمِهَا إِلَى إِسْنَادِهِ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) لَوْ وَقَعَ مَا ذَكَرَ لَاتَّخَذَهُ أَعْدَاؤُهُ مِنْ كِبَارِ الْمُشْرِكِينَ شُبْهَةً يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْوَحْيِ قَدْ تَعَلَّمَهُ فِي الشَّامِ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُورِدُونَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَضْعَفُ وَأَسْخَفُ مِنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَكَّةَ قَيْنٌ (حَدَّادٌ) رُومِيٌّ يَصْنَعُ السُّيُوفَ وَغَيْرَهَا فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقِفُ عِنْدَهُ أَحْيَانًا يُشَاهِدُ صَنْعَتَهُ فَاتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٦: ١٠٣).
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) نُصُوصُ الْقُرْآنِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَقِصَصِهِمْ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَكْذِبُ عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا عَنِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَعْدَى أَعْدَائِهِ أَبُو جَهْلٍ، كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَقِينِهِ بِكُلِّ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ.
154
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى فِي مَدْيَنَ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٢٨: ٤٤، ٤٥) وَقَوْلُهُ بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (١١: ٤٩) وَنَحْوُهَا فِي قِصَّةِ يُونُسَ مِنْ سُورَتِهِ.
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَلَا الضَّعِيفَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كَانَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّبِيَّ الْمُنْتَظَرَ الَّذِي كَانَ يَتَحَدَّثُ عَنْهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَبْلَ بَعْثَتِهِ، وَلَوْ رُوِيَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَدَوَّنَهُ الْمُحَدِّثُونَ لِأَنَّهُمْ مَا تَرَكُوا شَيْئًا بَلَغَهُمْ عَنْهُ إِلَّا دَوَّنُوهُ كَمَا رَوَوْا مِثْلَهُ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ.
(الْوَجْهُ السَّادِسُ) أَنَّ حَدِيثَ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا رَأَى الْمَلَكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَمْ تَجِدْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ الْعَاقِلَةُ الْمُفَكِّرَةُ وَسِيلَةً يَطْمَئِنُّ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ وَتَطْمَئِنُّ هِيَ عَلَيْهِ إِلَّا اسْتِفْتَاءَ أَعْلَمِ الْعَرَبِ بِهَذَا الشَّأْنِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الَّذِي كَانَ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ كُتُبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
(الْوَجْهُ السَّابِعُ) لَوْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ أَمْرًا كَانَ يَرْجُوهُ مُحَمَّدٌ وَيَتَوَقَّعُهُ، وَكَانَ قَدْ تَمَّ اسْتِعْدَادُهُ لَهُ بِاخْتِلَائِهِ وَتَعَبُّدِهِ فِي الْغَارِ، وَمَا صَوَّرُوا بِهِ حَالَهُ فِيهِ مِنَ الْفِكْرِ الْمُضْطَرِبِ، وَالْوِجْدَانِ الْمُلْتَهِبِ، وَالْقَلْبِ الْمُتَقَلِّبِ، حَتَّى إِذَا كَمُلَ اسْتِعْدَادُهُ تَجَلَّى لَهُ رَجَاؤُهُ وَاعْتِقَادُهُ، بِمَا تَمَّ بِهِ مُرَادُهُ، لَظَهَرَ عَقِبَ ذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَتْ تَنْطَوِي عَلَيْهِ نَفْسُهُ الْوَثَّابَةُ، وَفِكْرَتُهُ الْوَقَّادَةُ، فِي سُورَةٍ أَوْ سُوَرٍ مِنْ أَبْلَغِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فِي بَيَانِ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَتَوْحِيدِ الدَّيَّانِ، وَاجْتِثَاثِ شَجَرَةِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنْذَارِ رُءُوسِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، مَا سَيَلْقَوْنَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، كَسُوَرِ الْمُفَصَّلِ وَلَا سِيَّمَا (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (٥٠: ١) وَالذَّارِيَاتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ. ثُمَّ الْحَاقَّةِ وَالنَّبَأِ - أَوْ فِي سُورَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْوُسْطَى الَّتِي تُقَرِّعُهُمْ بِالْحُجَجِ، وَتَأْخُذُهُمْ بِالْعِبَرِ، وَتَضْرِبُ لَهُمُ الْمَثَلَ بِسُنَنِ اللهِ فِي الرُّسُلِ، كَسُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحَجِّ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُ ظَلَّ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَتْلُ فِيهَا عَلَى النَّاسِ سُورَةً، وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا تَحَدَّثَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا إِلَى أَصْدِقَائِهِ بِمَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ الَّذِي تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلَا مِنْ ذَمِّ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ الَّذِي ضَاقَ بِهِ ذَرْعُهُ، إِذْ لَوْ تَحَدَّثَ بِذَلِكَ لَنَقَلُوهُ عَنْهُ، وَنَاهِيكَ بِأَلْصَقِ النَّاسِ بِهِ. خَدِيجَةُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي بَيْتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الَّذِي عَاشَرَهُ طُولَ عُمُرِهِ - فَهَذَا السُّكُوتُ وَحْدَهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ
155
مَا صَوَّرُوا بِهِ اسْتِعْدَادَهُ لِلْوَحْيِ الذَّاتِيَّ الَّذِي زَعَمُوهُ، وَاسْتِمْدَادَهُ لِعُلُومِهِ مِنَ التَّلَقِّي وَالِاخْتِبَارِ الَّذِي تَوَهَّمُوهُ.
(الْوَجْهُ الثَّامِنُ) أَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ تَرْتِيبِ نُزُولِ الْوَحْيِ بَعْدَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمُجْرَيَاتِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَقَدْ نَزَلَ مَا بَعْدَ صَدْرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ عَقِبَ قَوْلِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ الَّذِي قَالَهُ فِي الْقُرْآنِ - فَقَدْ أَرَادَهُ أَبُو جَهْلٍ أَنْ يَقُولَ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَهُ أَنَّهُ مُنْكِرٌ لَهُ وَأَنَّهُ كَارِهٌ لَهُ، بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَحَرَّى اسْتِمَاعَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُعْجِبَ بِهِ.
قَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالشِّعْرِ لَا بِرَجْزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُنِيرٌ أَعْلَاهُ، مُشْرِقٌ أَسْفَلُهُ وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. فَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ بِأَثَرِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) (٧٤: ١١) إِلَخْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
(الْوَجْهُ التَّاسِعُ) أَنَّ هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةَ الَّتِي تَصَوَّرَهَا هَؤُلَاءِ الْمُحَلِّلُونَ لِمَسْأَلَةِ الْوَحْيِ قَلِيلَةُ الْمَوَادِّ، ضَيِّقَةُ النِّطَاقِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا لِوَحْيِ الْقُرْآنِ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَأَعْلَى وَأَوْسَعُ وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ مِثْلُ بَحِيرَى وَنَسْطُورَ وَكُلِّ نَصَارَى الشَّامِ وَنَصَارَى الْأَرْضِ وَيَهُودِهَا، دَعِ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ كَانَ يَمُرُّ بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّرِيقِ إِلَى الشَّامِ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُصَدِّقًا لِكُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا فِي الْأَصْلِ مِنْ وَحْيِ اللهِ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ - وَنَزَلَ أَيْضًا مُهَيْمِنًا عَلَيْهَا أَيْ رَقِيبًا وَحَاكِمًا كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ (٤٨) مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (٥) وَمِمَّا حَكَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْيَهُودِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ (أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) (٤: ٤٤ و٥١) وَنَسُوا نَصِيبًا أَوْ حَظًّا آخَرَ مِنْهُ وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا وَغَيَّرُوا، وَبَدَّلُوا (٥: ١٣، ١٤) وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ الْكُبْرَى مِمَّا خَالَفُوا وَاخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْعُلْيَا عَلَيْهِمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَمَدَّةً مِنْ أَفْرَادٍ مِنَ الرُّهْبَانِ أَوْ غَيْرِ الرُّهْبَانِ، أَفَاضُوهَا عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَى رِحْلَتِهِ التِّجَارِيَّةِ إِلَى الشَّامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ
بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمُوسَوِيِّ وَالْعِيسَوِيِّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ بِهِ آرْيُوسُ وَأَتْبَاعُهُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ لَدَى بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي حَكَمَتِ الْكَنِيسَةُ الرَّسْمِيَّةُ بِعَدَمِ قَانُونِيَّتِهَا (أَبُو كَرِيفٍ) كَإِنْجِيلِ طُفُولَةِ الْمَسِيحِ وَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا أَمْ لَا، فَمُحَمَّدٌ
156
لَمْ يَعْقِدْ فِي الشَّامِ وَلَا فِي مَكَّةَ مَجْمَعًا مَسِيحِيًّا كَمَجَامِعِ الْكَنِيسَةِ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَنَاجِيلِ وَالْمَذَاهِبِ الْمَسِيحِيَّةِ وَيَحْكُمُ بِصِحَّةِ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ.
إِنَّ وُقُوعَ مِثْلَ هَذَا مِنْهُ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ مِمَّا يَعْلَمُ وَاضِعُو هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ مَعَ عَدَمِ النَّقْلِ أَنَّهُ مُحَالٌ، وَعَلَى فَرْضِ وُقُوعِهِ يُقَالُ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ وَتِلْكَ الْمَذَاهِبِ بِرَأْيِهِ فِي تِلْكَ الْخِلْسَةِ التِّجَارِيَّةِ لِلنَّظَرِ فِيهَا وَيَأْمَنُ عَلَى حُكْمِهِ الْخَطَأَ؟ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ: ((لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ)) يَعْنِي فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ لِئَلَّا يَكُونَ مَا كَذَّبُوهُمْ فِيهِ مِمَّا حَفِظُوا، وَيَكُونَ مَا صَدَّقُوهُمْ بِهِ مِمَّا نَسُوا حَقِيقَتَهُ أَوْ حَرَّفُوا أَوْ بَدَّلُوا.
(الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَى الْآنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَ بِهِ، كَمُخَالَفَةِ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِيمَنْ تَبَنَّتْ مُوسَى فَفِيهِ أَنَّهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ وَفِي الْقُرْآنِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ - وَفِيمَا قَرَّرَهُ مِنْ عَزْوِ صُنْعِ الْعِجْلِ الَّذِي عَبَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَزْوِهِ إِيَّاهُ إِلَى السَّامِرِيِّ وَإِثْبَاتِهِ لِإِنْكَارِ هَارُونَ عَلَيْهِمْ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
بَلْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ مَا صَحَّ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَصِحَّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
رُوَيْدَكُمْ أَيُّهَا الْمُفْتَاتُونَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّ وَحْيَ الْقُرْآنِ أَعْلَى مِمَّا تَزْعُمُونَ، وَأَكْبَرُ مِمَّا تَتَصَوَّرُونَ، وَتُصَوِّرُونَ. وَإِنَّ مُحَمَّدًا أَقَلُّ عِلْمًا كَسْبِيًّا مِمَّا تَدَّعُونَ وَأَكْمَلُ اسْتِعْدَادًا لِتَلَقِّي كَلَامِ اللهِ عَنِ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِمَّا تَسْتَكْبِرُونَ.
وَإِذَا كَانَ وَحْيُ الْقُرْآنِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ جَمِيعِ مَا حُفِظَ عَنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ لِأَنَّهُ الْخَاتَمُ لَهُمُ الْمُكَمِّلُ لِشَرَائِعِهِمُ الْخَاصَّةِ الْمَوْقُوتَةِ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ مِمَّا وَضَعَهُ سُولُونُ الْفَيْلَسُوفُ الْيُونَانِيُّ الَّذِي شَبَّهَ مُحَمَّدًا بِهِ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ عَصْرِنَا فِي مِصْرِنَا، مَعَ بُعْدِ الشَّبَهِ بَيْنَ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَفَيْلَسُوفٍ نَشَأَ فِي أُمَّةِ حِكْمَةٍ وَتَشْرِيعٍ وَدَوْلَةٍ
وَسِيَاسَةٍ، وَدَخَلَ فِي كُلِّ أُمُورِ الْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ.
157
الْقَوْلُ الْحَقُّ فِي اسْتِعْدَادِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ:
التَّحْقِيقُ فِي صِفَةِ حَالِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، وَإِعْدَادِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لِنَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، هُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْفِطْرَةِ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْعَقْلِ الِاسْتِعْدَادِيِّ الْهَيُولَانِيِّ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ الْعِلْمِيِّ، وَأَنَّهُ كَمَّلَهُ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ لِيَبْعَثَهُ مُتَمِّمًا لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنَّهُ بَغَّضَ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةَ وَخُرَافَاتِ أَهْلِهَا وَرَذَائِلَهُمْ مِنْ صِغَرِ سِنِّهِ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْعُزْلَةَ حَتَّى لَا تَأْنَسَ نَفْسُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، أَوْ مُنْكِرَاتِ الْوَحْشِيَّةِ، كَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْبَغْيِ عَلَى النَّاسِ، أَوِ الْمَطَامِعِ الدَّنِيئَةِ كَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ - لِيَبْعَثَهُ مُصْلِحًا لِمَا فَسَدَ مِنْ أَنْفُسِ النَّاسِ، وَمُزَكِّيًا لَهُمْ بِالتَّأَسِّي بِهِ، وَجَعَلَهُ الْمَثَلَ الْبَشَرِيَّ الْأَعْلَى، لِتَنْفِيذِ مَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرْعِ الْأَعْلَى، فَكَانَ مِنْ عِفَّتِهِ أَنْ سَلَخَ مِنْ سِنِي شَبَابِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مَعَ زَوْجِهِ خَدِيجَةَ كَانَتْ فِي ١٥ مِنْهَا عَجُوزًا يَائِسَةً مِنَ النَّسْلِ فَتُوُفِّيَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَالسِّتِّينَ وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَظَلَّ يَذْكُرُهَا وَيُفَضِّلُهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ تَزَوَّجَ بِهِنَّ مِنْ بَعْدِهَا، حَتَّى عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ عَلَى جَمَالِهَا وَحَدَاثَتِهَا وَذَكَائِهَا وَكَمَالِ اسْتِعْدَادِهَا لِلتَّبْلِيغِ عَنْهُ - وَظَلَّ طُولَ عُمُرِهِ يَكْرَهُ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَلَوْ بِالْحَقِّ فَكَانَ عَلَى شَجَاعَتِهِ
الْكَامِلَةِ يَقُودُ أَصْحَابَهُ لِقِتَالِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَائِهِ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ لِأَجْلِ صَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ (هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ) كَانَ مُوَطِّنًا نَفْسَهُ عَلَى قَتْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَجَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ بِالْحَدِيدِ مِنْ مِغْفَرٍ وَدِرْعٍ فَلَمْ يَجِدْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُدًّا مِنْ قَتْلِهِ فَطَعَنَهُ فِي تَرْقُوَتِهِ مِنْ خَلَلِ الدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ، وَظَلَّ طُولَ عُمْرِهِ وَبَعْدَ مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ يُؤْثِرُ الْقَشَفَ وَشَظَفَ الْعَيْشِ عَلَى نِعْمَتِهِ، مَعَ إِبَاحَةِ شَرْعِهِ لِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَنَهْيِهِ لِمَنْ كَانَ يَتْرُكُهَا تَدَيُّنًا، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، مَعَ إِبَاحَةِ دِينِهِ لِلزِّينَةِ وَأَمْرِهِ بِهَا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ لَا يَعِيبُ طَعَامًا قَطُّ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْرَبُ إِلَّا الْمَاءَ الْعَذْبَ النَّقِيَّ.
وَأَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى اسْتِعْدَادَهُ الذَّاتِيَّ ((لَا الْكَسْبِيَّ)) لِلْبَعْثَةِ بِإِكْمَالِ دِينِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَالتَّشْرِيعِ الْكَافِي الْكَافِلِ لِإِصْلَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، بِأَنْ أَنْشَأَهُ كَأَكْثَرِ قَوْمِهِ أُمِّيًّا وَصَرَفَهُ فِي أُمِّيَّتِهِ عَنِ اكْتِسَابِ أَيِّ شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ الْبَشَرِ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَدْنَى عِنَايَةٍ بِمَا يَتَفَاخَرُ بِهِ قَوْمُهُ مِنْ فَصَاحَةِ
158
اللِّسَانِ، وَقُوَّةِ الْبَيَانِ، مِنْ شِعْرٍ وَخَطَابَةٍ، وَمُفَاخَرَةٍ وَمُنَافَرَةٍ، إِذْ كَانُوا يَؤُمُّونَ أَسْوَاقَ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَأَشْهَرُهَا عُكَاظُ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي لِإِظْهَارِ بَلَاغَتِهِمْ وَبَرَاعَتِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ لِارْتِقَاءِ لُغَتِهِمْ، وَلِوُجُودِ الْحِكْمَةِ فِي شِعْرِهِمْ، فَكَانَ مِنَ الْغَرِيبِ أَنْ يَزْهَدَ فِي مُشَارَكَتِهِمْ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَفِي رِوَايَتِهِ لِمَا عَسَاهُ يَسْمَعُهُ مِنْهُ، وَقَدْ سَمِعَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ زُهَاءَ مِائَةِ قَافِيَةٍ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ فَقَالَ: ((إِنْ كَادَ لَيُسْلِمُ)) وَقَالَ: ((آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ)) وَقَالَ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)) فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
قُلْنَا: إِنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَطَرِيٌّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَسْبِهِ بِعِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ لِسَانِيٍّ وَلَا نَفْسِيٍّ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْجُوهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، بَلْ رُوِيَ عَنْ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ مِنْ غُلَامِهَا مَيْسَرَةَ أَخْبَارَ أَمَانَتِهِ وَفَضَائِلِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَمَا قَالَ بَحِيرَى الرَّاهِبُ فِيهِ تَعَلَّقَ أَمَلُهَا بِأَنْ يَكُونَ
هُوَ النَّبِيَّ الَّذِي يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَا يَصِلُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ كَحَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يُقَوِّيهِ حَلِفُهَا بِاللهِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُخْزِيهِ أَبَدًا، قُلْنَا: إِنَّهَا عَلَّلَتْ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ فَضَائِلِهِ، وَرَأَتْ أَنَّهَا فِي حَاجَةٍ إِلَى اسْتِفْتَاءِ ابْنِ عَمِّهَا أُمَيَّةَ فِي شَأْنِهِ.
وَأَمَّا اخْتِلَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعَبُّدُهُ فِي الْغَارِ عَامَ الْوَحْيِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ كَانَ عَمَلًا كَسْبِيًّا مُقَوِّيًا لِذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ السَّلْبِيِّ مِنَ الْعُزْلَةِ وَعَدَمِ مُشَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ عِبَادَاتِهِمْ وَلَا عَادَاتِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ الِاسْتِعْدَادَ لِلنُّبُوَّةِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَجْلِهَا لَاعْتَقَدَ حِينَ رَأَى الْمَلِكَ أَوْ عَقِبَ رُؤْيَتِهِ حُصُولَ مَأْمُولِهِ وَتَحَقُّقِ رَجَائِهِ وَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَاعِثُ لِهَذَا الِاخْتِلَاءِ، وَالتَّحَنُّثِ اشْتِدَادَ الْوَحْشَةِ مِنْ سُوءِ حَالِ النَّاسِ وَالْهَرَبِ مِنْهَا إِلَى الْأُنْسِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالرَّجَاءِ فِي هِدَايَتِهِ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهَا، كَمَا بَسَطَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الضُّحَى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) (٩٣: ٧) وَمَا يُفَسِّرُهُ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الشُّورَى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٤٢: ٥٢ و٥٣) وَأَلَمَّ بِهِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ إِلْمَامًا مُخْتَصَرًا مُفِيدًا، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((مِنَ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ أَنْ يَتِيمًا فَقِيرًا أُمِّيًّا مِثْلَهُ تَنْطَبِعُ نَفْسُهُ بِمَا تَرَاهُ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى زَمَنِ كُهُولَتِهِ، وَيَتَأَثَّرُ عَقْلُهُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِمَّنْ يُخَالِطُهُ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ وَأَهْلِ عَصَبَتِهِ،
159
وَلَا كِتَابَ يُرْشِدُهُ، وَلَا أُسْتَاذَ يُنَبِّهُهُ، وَلَا عَضُدَ إِذَا عَزَمَ يُؤَيِّدُهُ، فَلَوْ جَرَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى جَارِي السُّنَنِ لَنَشَأَ عَلَى عَقَائِدِهِمْ، وَأَخَذَ بِمَذَاهِبِهِمْ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، وَيَكُونَ لِلْفِكْرِ وَالنَّظَرِ مَجَالٌ، فَيَرْجِعُ إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ، إِذَا قَامَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ ضَلَالَاتِهِمْ، كَمَا فَعَلَ الْقَلِيلُ مِمَّنْ كَانُوا عَلَى عَهْدِهِ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَجْرِ عَلَى سُنَّتِهِ، بَلْ بُغِّضَتْ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةُ مِنْ مَبْدَأِ عُمُرِهِ، فَعَاجَلَتْهُ طَهَارَةُ الْعَقِيدَةِ، كَمَا بَادَرَهُ
حُسْنُ الْخَلِيقَةِ، وَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) (٩٣: ٧) لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى وَثَنِيَّةٍ قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ الْقَوِيمِ، قَبْلَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، حَاشَ لِلَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَهُوَ الْإِفْكُ الْمُبِينُ، وَإِنَّمَا هِيَ الْحَيْرَةُ تُلِمُّ بِقُلُوبِ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ، فِيمَا يَرْجُونَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَلَاصِ، وَطَلَبِ السَّبِيلِ إِلَى مَا هُدُوا إِلَيْهِ مِنْ إِنْقَاذِ الْهَالِكِينَ، وَإِرْشَادٍ لِلضَّالِّينَ، وَقَدْ هَدَى اللهُ نَبِيَّهُ إِلَى مَا كَانَتْ تَتَلَمَّسُهُ بَصِيرَتُهُ بِاصْطِفَائِهِ لِرِسَالَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ لِتَقْرِيرِ شَرِيعَتِهِ)) اهـ.
(أَقُولُ) وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ اللهِ تَعَالَى رُوحَهُ الْكَرِيمَةَ كَمِرْآةٍ صَقِيلَةٍ حِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ التَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ، وَالْآدَابِ الْوِرَاثِيَّةِ وَالْعَادَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ، إِلَى أَنْ تَجَلَّى فِيهَا الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ بِأَكْمَلِ مَعَانِيهِ، وَأَبْلَغِ مَبَانِيهِ، لِتَجْدِيدِ دِينِ اللهِ الْمُطْلَقِ الَّذِي كَانَ يُرْسِلُ بِهِ رُسُلَهُ إِلَى أَقْوَامِهِمْ خَاصَّةً بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُمْ وَاسْتِعْدَادَهُمْ، وَجَعَلَ بَعْثَةَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ بِهِ لِلْبَشَرِ عَامَّةً دَائِمَةً لَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَهَا إِلَى وَحْيٍ آخَرَ، فَكَانَ فِي فِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ وَرُوحِهِ الشَّرِيفَةِ، وَمَا نَزَلَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ، وَمَا أَشْرَقَ فِيهَا مِنْ نُورِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي تَلَوْتُهُ عَلَيْكَ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الشُّورَى، هُوَ مَضْرَبُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٤: ٣٥).
فَزَيْتُ مِصْبَاحِ الْمَعَارِفِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، يُوقَدُ مِنْ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، وَلَا يَهُودِيَّةٍ، وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، بَلْ هِيَ إِلَهِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ.
هَذَا مَا نَرَاهُ كَافِيًا لِتَفْنِيدِ مَزَاعِمِ مُصَوِّرِي الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ مِنْ نَاحِيَةِ شَخْصِ مُحَمَّدٍ وَاسْتِعْدَادِهِ، وَيَتْلُوهُ مَا هُوَ أَقْوَى دَلِيلًا، وَأَقْوَمُ قِيلًا، وَهُوَ تَفْنِيدُهُ بِمَوْضُوعِ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ آيَةُ نُبُوَّتِهِ الْخَالِدَةُ، وَحُجَّتُهُ النَّاهِضَةُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.
160
آيَةُ اللهِ الْكُبْرَى - الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ
(الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، الْكِتَابُ الْعَزِيزُ)
الَّذِي: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)
هُوَ كِتَابٌ لَا كَالْكُتُبِ، هُوَ آيَةٌ لَا كَالْآيَاتِ، هُوَ مُعْجِزَةٌ لَا كَالْمُعْجِزَاتِ، هُوَ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، وَهُوَ سِرٌّ لَا كَالْأَسْرَارِ، هُوَ كَلَامٌ لَا كَالْكَلَامِ، هُوَ كَلَامُ اللهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لَيْسَ لِرُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ الْأَمِينِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُ إِلَّا نَقْلُهُ بِلَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ مِنْ سَمَاءِ الْأُفُقِ الْأَعْلَى إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ، وَلَا لِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - مِنْهُ إِلَّا تَبْلِيغُهُ لِلنَّاسِ لِيَهْتَدُوا بِهِ، فَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِلْخَلْقِ بِلَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَعُلُومِهِ وَهِدَايَتِهِ، لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِطَاعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةٍ مِنْ سُورِهِ بِكَسْبِهِ وَمَعَارِفِهِ، وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ عَالِمًا وَلَا بَلِيغًا مُمْتَازًا إِلَّا بِهِ، بَلْ فِيهِ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ فِي مُعَاتَبَتِهِ عَلَى بَعْضِ اجْتِهَادِهِ كَفِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ (رَاجِعْ ص ٧٢ و٨٢ و٤٠١ و٤٠٩ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ٢٣) أَهَمَّ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ بِالْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ، وَأَعُودُ هُنَا إِلَى الْكَلَامِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ الْمُصْلِحَةِ لِلْبَشَرِ بِمَا يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ مِنَ الْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَا حَفِظَهُ التَّارِيخُ عَنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، وَوَاضِعِي الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ، وَسَاسَةِ الشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ.
فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ رَبًّا عَلِيمًا حَكِيمًا رَحِيمًا مُرِيدًا فَاعِلًا مُخْتَارًا فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ وَلَا مَنَاصَ مِنَ الْإِيمَانِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنْ لَدُنْهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَهُ عَلَى خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ رَحْمَةً بِهِمْ لِيَهْتَدُوا بِهِ إِلَى تَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِصْلَاحِ مُجْتَمَعِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ أُمَمِهِمْ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ فَرْضًا إِلَهِيًّا لَازِبًا عَامًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٧: ١٥٨).
وَمَنْ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِوُجُودِ هَذَا الرَّبِّ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنِ الْجَزْمِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَأَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ مَنْ عُرِفَ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْحُكَمَاءِ الْهَادِينَ الْمَهْدِيِّينَ،
161
وَيَكُونُ الْوَاجِبُ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ سَيِّدُ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَوْلَاهُمْ بِالِاتِّبَاعِ بِعُنْوَانِ (سَيِّدِ الْبَشَرِ وَحَكِيمِهِمُ الْأَعْظَمِ).
وَإِنَّنَا رَأَيْنَا بَعْضَ الْمُنْصِفِينَ مِنَ الْوَاقِفِينَ عَلَى السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ فِي الْجُمْلَةِ يَعْتَرِفُونَ بِهَذَا قَوْلًا وَكِتَابَةً (مِنْهُمْ) الْأُسْتَاذُ مُولَرِ الْإِنْكِلِيزِيُّ الْمَشْهُورُ، وَمِنْهُمْ ذَلِكَ الْفَيْلَسُوفُ الطَّبِيبُ السُّورِيُّ الْكَاثُولِيكِيُّ النَّشْأَةِ الَّذِي رَأَى فِي مَجَلَّةِ الْمَنَارِ بَعْضَ الْمَنَاقِبِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَكَتَبَ إِلَيْنَا كِتَابًا يَقُولُ فِي أَوَّلِهِ: أَنْتَ تَنْظُرُ إِلَى مُحَمَّدٍ كَنَبِيٍّ فَتَرَاهُ عَظِيمًا، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ كَرَجُلٍ فَأَعُدُّهُ أَعْظَمَ، وَذَكَرَ أَبْيَاتًا فِي وَصْفِهِ وَوَصْفِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ مُحْكَمِ الْآيَاتِ، الْمَانِعَةِ لِمَنْ عَقَلَهَا مِنْ تَقْيِيدِ الْعُمْرَانِ بِالْعَادَاتِ، وَإِصْلَاحِهِ لِلْبَشَرِ بِحِكْمَةِ بَيَانِهِ وَقُوَّةِ بَنَانِهِ، وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ:
بِبَيَانِهِ أَرْبَى عَلَى أَهْلِ النُّهَى وَبِسَيْفِهِ أَنْحَى عَلَى الْهَامَاتِ
مِنْ دُونِهِ الْأَبْطَالُ فِي كُلِّ الْوَرَى مِنْ سَابِقٍ أَوْ حَاضِرٍ أَوْ آتٍ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ مِنْ أَحْرَارِ مُفَكِّرِي الشُّعُوبِ كُلِّهَا كَثِيرُونَ، وَلَكِنَّ الْجَاحِدِينَ لِوُجُودِ رَبٍّ مُدَبِّرٍ لِلْعَالَمِينَ قَلِيلُونَ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحَجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي نَشْأَتِهِ وَتَرْبِيَتِهِ وَمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ صِدْقِهِ الْفِطْرِيِّ الْمَطْبُوعِ، ثُمَّ بِمَا جَاءَ بِهِ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ الْمُصْلِحَةِ لِجَمِيعِ شُئُونِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِذَا عَقَلُوهَا وَاهْتَدَوْا بِهَا، وَإِسْنَادِهِ إِيَّاهَا إِلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، فَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَزَايَاهُ هَذِهِ حُجَّةٌ وَبُرْهَانٌ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، بَلْ مَجْمُوعَةُ حُجَجٍ عَقْلِيَّةٍ وَطَبِيعِيَّةٍ - وَهَاكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ مَا أَزُفُّهُ إِلَيْكَ مِنْ قَوَاعِدِ تِلْكَ الْعُلُومِ الْإِصْلَاحِيَّةِ بَعْدَ تَمْهِيدٍ وَجِيزٍ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَحِكْمَةِ جَعْلِ تِلْكَ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ مُتَفَرِّقَةً فِي سُورِهِ بِأُسْلُوبِهِ الْغَرِيبِ الْعَجِيبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا نُعِيدُهُ مَعَ زِيَادَةٍ مُفِيدَةٍ وَإِيضَاحٍ اقْتِدَاءً بِأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ فِي تَكْرَارِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي الْمَوَاقِعِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ مِنْ إِيجَازٍ أَوْ إِسْهَابٍ، وَتَفْصِيلٍ أَوْ إِجْمَالٍ.
(أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الْخَاصِّ وَحِكْمَتُهُ وَإِعْجَازُهُ بِهِ)
لَوْ أَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ الْمُنَزَّلَةَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَدَارِ الثَّوَابِ وَدَارِ الْعِقَابِ جُمِعَتْ وَحْدَهَا مُرَتَّبَةً فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ مَثَلًا كَكُتُبِ الْعَقَائِدِ الْمُدَوَّنَةِ - وَلَوْ أَنَّ عِبَادَاتِهِ مِنَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالدُّعَاءِ وَالْأَذْكَارِ وُضِعَ كُلٌّ مِنْهَا فِي بِضْعِ سُوَرٍ أَيْضًا كَكُتُبِ الْفِقْهِ الْمُصَنَّفَةِ - وَلَوْ أَنَّ آدَابَهُ وَحِكَمَهُ وَفَضَائِلَهُ الْوَاجِبَةَ وَالْمَنْدُوبَةَ، وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الرَّذَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ، أُفْرِدَتْ هِيَ وَمَا يَقْتَضِيهِ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ وَالْأَمْثَالِ الْبَاعِثَةِ لِشُعُورَيِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فِي بِضْعِ سُوَرٍ أُخْرَى كَكُتُبِ
162
الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الْمُؤَلَّفَةِ - وَلَوْ أَنَّ قَوَاعِدَهُ التَّشْرِيعِيَّةَ وَأَحْكَامَهُ الشَّخْصِيَّةَ وَالسِّيَاسِيَّةَ وَالْحَرْبِيَّةَ وَالْمَدَنِيَّةَ وَحُدُودَهُ وَعُقُوبَاتِهِ التَّأْدِيبِيَّةَ رُتِّبَتْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ خَاصَّةٍ بِهَا كَأَسْفَارِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ - ثُمَّ لَوْ أَنَّ قِصَصَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ سُرِدَتْ فِي سُورِهَا مُرَتَّبَةً كَدَوَاوِينِ التَّارِيخِ - لَوْ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ الَّتِي أَرَادَ اللهُ بِهَا إِصْلَاحَ شُئُونِ الْبَشَرِ جُمِعَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا وَحْدَهُ كَتَرْتِيبِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ التَّارِيخِيِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مُرَتِّبَهُ، أَوْ كُتُبِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْقَوَانِينِ لَفَقَدَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ مَزَايَا هِدَايَتِهِ الْمَقْصُودَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ لِلْغَايَةِ الَّتِي انْتَهَتْ إِلَيْهَا، وَهُوَ التَّعَبُّدُ بِهِ وَاسْتِفَادَةُ كُلِّ حَافِظٍ لِلْقَلِيلِ مِنْ سُوَرِهِ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ الْمُنْبَثَّةِ فِي جَمِيعِ السُّورِ ; لِأَنَّ السُّورَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يُوجَدُ فِيهَا فِي هَذَا التَّرْتِيبِ إِلَّا مَقْصِدٌ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ، وَقَدْ يَكُونُ أَحْكَامُ الطَّلَاقِ أَوِ الْحَيْضِ، فَهُوَ يَتَعَبَّدُ بِهَا، وَلَاشَكَّ أَنَّهُ يَمَلُّهَا، وَأَمَّا سُوَرُهُ الْمُنَزَّلَةُ فَفِي كُلٍّ مِنْهَا حَتَّى أَقْصَرِهَا عِدَّةُ مَسَائِلَ مِنَ الْهِدَايَةِ فَتَرَى فِي سُورَتَيِ الْفِيلِ وَقُرَيْشٍ (الْمُتَعَلِّقَةُ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى حَتَّى فِي الْإِعْرَابِ) ذِكْرَ مَسْأَلَتَيْنِ تَارِيخِيَّتَيْنِ قَدْ جُعِلَتَا حُجَّةً عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ بِمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ عِنَايَتِهِ بِحِفْظِ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ عِزِّهِمْ وَفَخْرِهِمْ وَشَرَفِهِمْ وَتَأْمِينِ تِجَارَتِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ - وَلَفَقَدَ بِهَذَا التَّرْتِيبِ أَخَصَّ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ أَيْضًا.
يُعْلَمُ هَذَا وَذَاكَ مِمَّا نُبَيِّنُهُ مِنْ فَوَائِدِ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ بِهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَلِيمُ، الْحَكِيمُ، الرَّحِيمُ، وَهُوَ مَزْجُ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ كُلِّهَا بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَتَفْرِيقُهَا فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، الطَّوِيلَةِ مِنْهَا وَالْقَصِيرَةِ، بِالْمُنَاسَبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَكْرَارُهَا بِالْعِبَارَاتِ الْبَلِيغَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْقُلُوبِ، الْمُحَرِّكَةِ لِلشُّعُورِ، النَّافِيَةِ لِلسَّآمَةِ وَالْمَلَلِ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى تَرْتِيلِهَا بِنَغَمَاتِ نَظْمِهِ الْخَاصِّ بِهِ وَفَوَاصِلِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْقَابِلَةِ لِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّغَنِّي الَّذِي يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ وِجْدَانَ الْخُشُوعِ، وَخَشْيَةَ الْإِجْلَالِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَالرَّجَاءَ فِي رِضْوَانِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالْخَوْفَ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالِاعْتِبَارَ بِسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ مِنْ خَطَابَةٍ وَلَا شِعْرٍ وَلَا رَجْزٍ وَلَا سَجْعٍ، فَبِهَذَا الْأُسْلُوبِ الرَّفِيعِ فِي النَّظْمِ الْبَدِيعِ وَبَلَاغَةِ التَّعْبِيرِ السَّنِيعِ، كَانَ كَمَا وَرَدَ فِي وَصْفِهِ: لَا تَبْلَى جِدَّتُهُ وَلَا تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ التَّرْدِيدِ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ وَغَايَتُهُ تُعْلَمُ مِمَّا وَقَعَ بِالْفِعْلِ وَهَاكَ بَيَانَهُ بِالْإِجْمَالِ.
الثَّوْرَةُ وَالِانْقِلَابُ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْقُرْآنُ فِي الْبَشَرِ:
الْقُرْآنُ كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ أُمِّيٍّ نَشَأَ عَلَى الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ سَلِيمِ الْعَقْلِ صَقِيلِ النَّفْسِ طَاهِرِ الْأَخْلَاقِ لَمْ تَمْلِكْهُ تَقَالِيدُ دِينِيَّةٌ وَلَا أَهْوَاءُ دُنْيَوِيَّةٌ ; لِأَجْلِ إِحْدَاثِ ثَوْرَةٍ وَانْقِلَابٍ كَبِيرٍ فِي الْعَرَبِ، فَسَائِرُ الْأُمَمِ يَكْتَسِحُ مِنَ الْعَالِمِ الْإِنْسَانِيِّ مَا دَنُسَ فِطْرَتُهُ مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ
163
الَّذِي هَبَطَ بِهَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ أُفُقِهِ الْأَعْلَى فِي عَالَمِ الْأَرْضِ إِلَى عِبَادَةِ مِثْلِهِ وَمَا هُوَ دُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَا أَفْسَدَ عَقْلَهُ وَذَهَبَ بِاسْتِقْلَالِ فِكْرِهِ مِنَ الْبِدَعِ الْكَنَسِيَّةِ، وَالتَّقَالِيدِ الْمَذْهَبِيَّةِ، الَّتِي أَحَالَتْ تَوْحِيدَ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ شِرْكًا وَحَقَّهُمْ بَاطِلًا، وَهِدَايَتَهُمْ غِوَايَةً - وَمَا أَفْسَدَ بَأْسَهُ، وَأَذَلَّ نَفْسَهُ، وَسَلَبَهُ إِرَادَتَهُ، مِنِ اسْتِبْدَادِ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ، وَالرُّؤَسَاءِ الْقَاهِرِينَ، ثَوْرَةٌ تُحَرِّرُ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ وَالْإِرَادَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ مِنْ رِقِّ الْمُنْتَحِلِينَ لِأَنْفُسِهِمْ صِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ أَوِ النِّيَابَةِ عَنْهَا فِي التَّحَكُّمِ فِي النَّاسِ وَاسْتِذْلَالِهِمْ، فَيَكُونُ كُلُّ امْرِئٍ اهْتَدَى بِهِ حُرًّا كَرِيمًا فِي نَفْسِهِ، عَبْدًا خَالِصًا لِرَبِّهِ وَإِلَهِهِ، يُوَجِّهُ قُوَاهُ الْعَقْلِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ إِلَى تَكْمِيلِ نَفْسِهِ وَجِنْسِهِ.
مَثَلُ هَذِهِ الثَّوْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ إِلَّا عَلَى قَاعِدَةِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ((إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (١٣: ١١) وَكَيْفَ يَكُونُ تَغْيِيرُ الْأَقْوَامِ
لِمَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ، الَّتِي طَبَعَتْهَا عَلَيْهَا الْعِبَادَاتُ الْمَوْرُوثَةُ وَالْعَادَاتُ الرَّاسِخَةُ؟
هَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ قِيَامُ مُصْلِحٍ فِيهِمْ يَضَعُ لَهُمْ كِتَابًا تَعْلِيمِيًّا جَافًّا كَكُتُبِ الْفُنُونِ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ضَالُّونَ فَاسِدُونَ، وَمُضِلُّونَ مُفْسِدُونَ، فَاعْمَلُوا بِهَذَا الْكِتَابِ تَهْتَدُوا وَتَصْلُحُوا أَوْ قَانُونًا مَدَنِيًّا يَقُولُ فِي مُقَدِّمَتِهِ: نَفِّذُوا هَذَا الْقَانُونَ تُحْفَظْ حُقُوقُكُمْ، وَتَعْتَزَّ أُمَّتُكُمْ وَتَقْوَ دَوْلَتُكُمْ؟ أَنَّى وَقَدْ عُهِدَ مِنَ النَّاسِ الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ سُوءُ التَّصَرُّفِ بِكُتُبِ أَنْبِيَائِهِمُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِهْمَالِ قَوَانِينِ حُكَمَائِهِمُ الْمُصْلِحِينَ، (كَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَأَخِّرُونَ) وَإِنَّمَا تُوضَعُ الْقَوَانِينُ لِلْحُكُومَاتِ الْمُنَظَّمَةِ ذَاتِ السُّلْطَةِ وَالْقُوَّةِ الَّتِي تَكْفُلُ تَنْفِيذَهَا، وَأَنَّى لِمُحَمَّدٍ فِعْلُ هَذَا فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَقَدْ بُعِثَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَرِيدًا وَحِيدًا لَا عُصْبَةَ لَهُ مِنْ قَوِمِهِ وَلَا سُلْطَانَ؟ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ بِأَعْدَلِ الْأُصُولِ الَّتِي تَبْنِي عَلَيْهَا أُمَّتُهُ قَوَانِينَهَا عِنْدَ تَكْوِينِ دَوْلَتِهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُلَائِمَةِ لَهَا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي.
كَلَّا إِنَّ هَذِهِ الثَّوْرَةَ مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ إِلَّا بِمَا حَدَثَتْ بِهِ وَهُوَ تَأْثِيرُ هَذَا الْقُرْآنِ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ أَشَدَّ الْأُمَمِ الْبَدَوِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ اسْتِعْدَادًا فِطْرِيًّا لِظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِيهَا بِالْإِقْنَاعِ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي كِتَابِنَا (خُلَاصَةِ السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ) وَسَنُلِمُّ بِهِ قَرِيبًا.
ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْمَعْرِفَةِ وَإِنْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ. إِنَّ مُجَرَّدَ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يَكْفِي فِي الْحَمْلِ عَلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ وَنَصْرِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلَا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ إِذَا عَارَضَ الْمُقْتَضَى الْعِلْمِيَّ لَهُمَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنَ الْمَوَانِعِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِنَ النَّاسِ دُونَ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ. بَلْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي تَثْبِيتِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فِي النَّفْسِ وَصُدُورِ آثَارِهِمَا عَنْهُمَا بِالْعَمَلِ، إِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صَيْرُورَةِ الْإِيمَانِ بِهِمَا إِذْعَانًا وِجْدَانِيًّا حَاكِمًا عَلَى الْقَلْبِ، رَاجِحًا عَلَى مَا يُخَالِفُهُ مِنْ رَغَبٍ وَرَهَبٍ
164
وَأَلَمٍ وَأَمَلٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا فِي الْأَحْدَاثِ بِالتَّرْبِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ لَهُمْ فِيمَنْ يَنْشَئُونَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْمُعَاشِرِينَ.
وَأَمَّا كِبَارُ السِّنِّ فَلَا سَبِيلَ إِلَى جَعْلِ الْإِيمَانِ بِالْحَقِّ الْمُطْلَقِ وَالْخَيْرِ الْعَامِّ إِذْعَانًا
وِجْدَانِيًّا لِجُمْهُورِهِمْ إِلَّا بِالْأُسْلُوبِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ فَقَلَبَ بِهِ طِبَاعَ الْكُهُولِ وَالشُّبَّانِ وَأَخْلَاقَهُمْ وَتَقَالِيدَهُمْ وَعَادَاتِهِمْ وَحَوَّلَهَا إِلَى ضِدِّهَا عِلْمًا وَعَمَلًا بِمَا لَمْ يُعْهَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْبَشَرِ، فَكَانَ الْقُرْآنُ آيَةً خَارِقَةً لِلْمَعْهُودِ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي تَأْثِيرِهِ، بِالتَّبَعِ لِكَوْنِهِ آيَةً مُعْجِزَةً لِلْبَشَرِ فِي لُغَتِهِ وَأُسْلُوبِهِ.
وَاعْتَبِرَ هَذَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ سُلَالَةِ النَّبِيِّينَ، فَإِنَّ كُلَّ مَا رَأَوْهُ بِمِصْرَ مِنْ آيَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ مَا رَأَوْهُ فِي بَرِّيَّةِ سِينَا مُدَّةَ التِّيهِ مِنْهَا، وَمِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ، وَمِنْ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى بِآذَانِهِمْ فِي لَهِيبِ النَّارِ الْمُشْتَعِلَةِ عَلَى مَا تَرْوِيهِ تَوْرَاتُهُمْ - وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا التَّكْلِيمُ إِلَّا لِنَبِيِّهِمْ - لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ مَا كَانَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَأْثِيرِ الْوَثَنِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ وَخُرَافَاتِهَا وَمَهَانَتِهَا وَأَخْلَاقِهَا، فَقَدْ عَذَّبُوا مُوسَى عَذَابًا نُكْرًا، وَعَانَدُوهُ فِي كُلِّ مَا كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَعَبَدُوا صَنَمَ الْعِجْلِ الذَّهَبِيِّ فِي أَثْنَاءِ مُنَاجَاتِهِ لِرَبِّهِ، حَتَّى وَصَفَهُمُ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ بِالشَّعْبِ الصُّلْبِ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَلَادَةِ وَالْعِنَادِ، وَعَصْلِ الطِّبَاعِ الْمَانِعِ مِنَ الِانْقِيَادِ، وَظَلَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ بَادَ ذَلِكَ الْجِيلُ الْفَاسِدُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً نَشَأَ فِيهِمْ جِيلٌ جَدِيدٌ مِمَّنْ كَانُوا أَطْفَالًا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ وَمِمَّنْ وُلِدَ فِي التِّيهِ أَمْكَنَ أَنْ يَعْقِلُوا التَّوْحِيدَ وَالشَّرِيعَةَ، وَأَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَيُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهَا وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَأَيْنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ تَرَبَّوْا بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَتَرْتِيلِهِ وَتَدَبُّرِهِ فِي رُسُوخِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَصَبْرِهِمْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَاضْطِهَادِهِمْ إِيَّاهُمْ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، ثُمَّ فِي مُجَاهَدَتِهِمْ لَهُمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْوَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (الْيَهُودِ) وَتَطْهِيرِهِمُ الْحِجَازَ وَسَائِرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنْ كُفْرِ الْفَرِيقَيْنِ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةُ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كُلِّهَا عِشْرِينَ سَنَةً أَيْ نِصْفَ مُدَّةِ التِّيهِ، وَكَانَ ذَهَبَ نِصْفُهَا فِي الدَّعْوَةِ وَتَبْلِيغِ الدِّينِ لِلْأَفْرَادِ بِمَكَّةَ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي تَمَّ فِيهِ الِانْقِلَابُ الْعَرَبِيُّ مِنْ تَشْرِيعٍ وَتَنْفِيذٍ وَجِهَادٍ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ مَا كَانَ مِنْ تَدَفُّقِهِمْ هُمْ أَنْفُسِهِمْ كَالسَّيْلِ الْآتِي عَلَى الْأَقْطَارِ مِنْ نَوَاحِي الْجَزِيرَةِ كُلِّهَا وَالظُّهُورِ عَلَى مَلِكَيْ قَيْصَرَ وَكِسْرَى أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَإِزَالَةِ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ مِنْهُمَا، وَنَشْرِ التَّوْحِيدِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِيهِمَا، وَدُخُولِ الْأُمَمِ فِي دِينِ اللهِ
أَفْوَاجًا مُخْتَارِينَ اهْتِدَاءً بِهِمْ،
165
وَعِنَايَتِهِمْ بِتَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ بِالتَّبَعِ لِعِنَايَتِهِمْ بِالدِّينِ، حَتَّى فَتَحُوا لَهُمْ وَتَلَامِيذُهُمْ نِصْفَ كُرَةِ الْأَرْضِ فِي زُهَاءِ نِصْفِ قَرْنٍ، أَوْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ وَكَانُوا مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ وَمَوْضِعَ الْحَيْرَةِ لِعُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ وَقُوَّادِ الْحَرْبِ.
وَأَنَّى يَبْلُغُ الشَّعْبُ الَّذِي وَصَفَهُ رَبُّهُ فِي كِتَابِهِ بِالشَّعْبِ الصُّلْبِ الرَّقَبَةِ رُتْبَةَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِقَوْلِهِ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا) (٤٨: ٢٩) الْآيَاتِ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي طُبِعَ وَشَبَّ عَلَى الشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ يَطْبُخُ الطَّعَامَ هُوَ وَزَوْجُهُ لَيْلًا لِامْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ تَلِدُ وَبَعْلُهَا حَاضِرٌ لَا يُسَاعِدُهُمَا إِذْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
لَا جَرَمَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا كُلِّهِ تَأْثِيرُ الْقُرْآنِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ الَّذِي نَرَاهُ فِي الْمُصْحَفِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَاهِدُ بِهِ الْكَافِرِينَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (٢٥: ٢٥) ثُمَّ كَانَ بِهِ يُرَبِّي الْمُؤْمِنِينَ وَيُزَكِّيهِمْ، وَبِهِدَايَتِهِ وَالتَّأَسِّي بِمَبْلَغِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّوُا الْأُمَمَ وَهَذَّبُوهَا، وَقَلَّمَا يَقْرَؤُهُ أَحَدٌ كَمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ، إِلَّا وَيَهْتَدِي بِهِ كَمَا كَانُوا يَهْتَدُونَ، عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الِاسْتِعْدَادِ النَّفْسِيِّ وَاللُّغَوِيِّ وَاخْتِلَافِ الزَّمَانِ لَا يَخْفَى.
وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ بِأُسْلُوبِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ لَمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ الَّذِي غَيَّرَ مَا بِأَنْفُسِ الْعَرَبِ فَغَيَّرُوا بِهِ أُمَمَ الْعَجَمِ، فَكَانُوا كُلُّهُمْ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (٣: ١١٠).
وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَمِ وَإِدَارَتِهَا إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ، وَالْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ بِمُبَلِّغِهِ وَمُنَفِّذِهِ الْأَوَّلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَنْ يَعُودَ لِلْمُسْلِمِينَ مَجْدُهُمْ وَعِزُّهُمْ إِلَّا إِذَا عَادُوا إِلَى هِدَايَتِهِ، وَتَجْدِيدِ ثَوْرَتِهِ، وَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى مَنْ يَصُدُّونَهُمْ عَنْهُ زَاعِمِينَ اسْتِغْنَاءَهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ وَبِسُّنَةِ نَبِيِّهِ، بِكُتُبِ مَشَايِخِهِمُ الْجَافَّةِ الْخَاوِيَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُحْيِي الْإِيمَانَ وَيُنْهِضُ الْهِمَمَ، وَيُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَيَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ.
(فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهُ نَوْعَانِ)
بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ وَإِحْدَاثَهُ تِلْكَ الثَّوْرَةِ الْكُبْرَى فِيهِمْ قَدْ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَوَّلُهُمَا جَذْبُهُ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَثَانِيهِمَا تَزْكِيَتُهُمْ وَتَغْيِيرُ كُلِّ مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ جَهْلٍ وَفَسَادٍ إِلَى ضِدِّهِ، حَتَّى أَعْقَبَ مَا أَعْقَبَ مِنَ الْإِصْلَاحِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ. وَهَاكَ التَّفْصِيلَ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ لِذَلِكَ.
بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعَدَّ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ وَلَا سِيَّمَا قُرَيْشٍ وَمَنْ حَوْلَهَا لِمَا أَرَادَهُ
166
مِنَ الْإِصْلَاحِ الْعَامِّ لِلْبَشَرِ بِكَوْنِهِمْ كَانُوا أَقْرَبَ الْأُمَمِ إِلَى سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، وَأَرْقَاهُمْ لُغَةً وَأَقْوَاهُمُ اسْتِقْلَالًا فِي الْعَقْلِ وَالْإِرَادَةِ ; لِعَدَمِ وُجُودِ مُلُوكٍ مُسْتَبِدِّينَ وَرُؤَسَاءَ دِينٍ أُولِي سُلْطَانٍ رُوحِيٍّ يَتَحَكَّمُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَيُسَخِّرُونَهُمْ لِشَهَوَاتِهِمْ.
فَلَمَّا بُعِثَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْقُرْآنِ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ لِقَبُولِ دَعْوَتِهِ، وَلَكِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ كَانُوا عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ مُلُوكِ شُعُوبِ الْعَجَمِ فِي التَّمَتُّعِ بِالثَّرْوَةِ الْوَاسِعَةِ وَالْعَظَمَةِ الْكَاذِبَةِ وَالشَّهَوَاتِ الْفَاتِنَةِ وَالسَّرَفِ فِي التَّرَفِ، وَعَلَى حَظٍّ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْأَدْيَانِ فِيهَا مِنَ الْمَكَانَةِ الدِّينِيَّةِ بِسَدَانَتِهِمْ لِبَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ الَّذِي أَوْدَعَ اللهُ تَعْظِيمَهُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الدِّينَ يَسْلُبُهُمُ الِانْفِرَادَ بِهَذِهِ الْعَظَمَةِ الْمَوْر�