تفسير سورة الفلق

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الفلق من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

قال الكلبيُّ: هَذِهِ السُّورَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ سُحِرَ، فَأُمِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَتَعَوَّذ بهِمَا، وَذلِكَ أنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ: لَبيدُ بْنُ أعْصَمَ، سَحَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَدَّ شَكْوَاهُ حَتَّى تُخُوِّفَ عَلَيْهِ." فَبَيْنَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إذْ أتَاهُ مَلَكَانِ؛ أحَدُهُمَا عِنْدَ رَأسِهِ وَالآخَرُ عِنْدَ رجْلَيْهِ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأسِهِ لِلثَّانِي، أيُّ شَيْءٍ بهِ؟ قَالَ: سِحْرٌ، قَالَ: مَنْ فَعَلَ بهِ؟ قَالَ: لَبيدُ بْنُ أعْصَمَ الْيَهُودِيُّ، قَالَ: فَأََيْنَ جَعَلَهُ؟ قَالَ: فِي بئْرٍ لِبَنِي زُرَيْقِ، وَجَعَلَهُ فِي صَخْرَةٍ فِي كُوبَةٍ، قَالَ: فَمَا دَوَاؤُهُ؟ قَالَ: نَبْعَثُ إلَى تِلْكَ الْبئْرِ فَيُنْزَحُ مَاؤُهَا، ثُمَّ تُقْلَعُ الصَّخْرَةُ فَتُسْتَخْرَجُ الْكُوبَةُ مِنْ تَحْتِهَا فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً. وَإنَّمَا قَالَ ذلِكَ؛ لِكَي يُفْهِمَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَانْتَبَهَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ فَهِمَ مَا قَالاَ. فَأَرْسَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أصْحَابهِ إلَى تِلْكَ الْبئْرِ، فَانْتَهَى إلَيْهَا عَمَّارُ، وَقَدْ تَغَيَّرَ مَاؤُهَا كَهَيْئَةِ الْحِنَّاءِ مِنْ ذلِكَ السِّحْرِ، فَنَزَحُوا ذلِكَ الْمَاءَ حَتَّى بَدَتِ الصَّخْرَةُ فَإذا تَحْتَهَا كُوبَةٌ، فَأَخَذُوهَا وَإذا فِي الْكُوبَةِ وَتَرٌ فِيْهِ إحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً، فَجَاءَ بهَا إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُحْرِقَتْ وَأُنْزِلَتِ الْمُعَوَّذتَانِ إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً فَحَلَّتْ كُلُّ آيَةٍ عُقْدَةً، وَأُمِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَتَعَوَّذ بهِمَا، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ بهِمَا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، فَكَانَ لَبيدُ بَعْدَ ذلِكَ يَأْتِي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَا رَأى فِي وَجْهِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً مِنْ ذلِكَ قَطُّ وَلاَ ذاكَرَهُ إيَّاهُ ". وفي بعضِ الروايات:" أنَّ بَنَات لَبيدِ بْنِ أعْصَمَ اللَّوَاتِي سَحَرْنَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذهَبَ بذلِكَ لَبيدُ فَجَعَلَهُ فِي وعَاءِ الطَّلْعِ - أعْنِي كُوزَي النَّخْلِ - وَجَعَلَهُ فِي بئْرٍ تَحْتَ صَخْرَةٍ، فَلَمَّا أطْلَعَ اللهُ نَبيَّهُ عَلَى ذلِكَ بَعَثَ أبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ حَتَّى أخْرَجَاهُ. وَقِيْلَ: بَعَثَ عَلِيّاً فِي اسْتِخْرَاجِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ ". والفَلَقُ على قولِ الكلبيِّ وقتادة: ((الصُّبْحُ عِنْدَ بَيَانِهِ وَظُهُورهِ))، وعن ابنِ عبَّاس: ((أنَّ الْفَلَقَ الْخَلْقُ يَخْرُجُونَ مِنْ أصْلاَب آبَائِهِمْ وَأرْحَامِ أُمَّهَاتُهُمْ كَمَا يَنْفَلِقُ الْحَبُّ مِنَ النَّبَاتِ)). وهذا القول أعمُّ من الأولِ وأقربُ إلى تعظيمِ الله تعالى، لأن الفلَقَ كلمةٌ جامعة من لطائفِ القرآن، واللهُ تعالى فاِلقُ الإصباحِ وفالقُ الحب والنَوى، وفالقُ البحرِ لموسى. ومعنى السُّورة: قُل يا مُحَمَّدٍ: امتَنِعُ واعتَصِمُ واستَعِذُ بربِّ الفلقِ من شرِّ كل ذي شرٍّ منِ الجنِّ والإنسِ والسباع والحيَّات والعقارب وغيرها، وعن كعب الأحبار أنه قالَ: ((الْفَلَقُ بَيْتٌ فِي النَّار لَوْ فُتِحَ بَابُهُ صَاحَ جَميعُ أهْلِ النَّار مِنْ شِدَّتِهِ)). قال السديُّ: ((الْفَلَقُ بئْرٌ فِي جَهَنَّمَ)).
الغَاسِقُ: هو الليلُ إذا اشتدَّت ظُلمَتهُ، ووقُوبُ الليلِ دخولهُ في الظَّلام، هكذا عن قتادةُ، وأصل الغَسَقِ: الجريانُ بالضَّرر من قولهم: غَسَقَتِ القَرْحَةُ إذا جرَى صَدِيدُها، والغَاسِقُ صديدُ أهلِ النار، والغاسِقُ كلُّ هاجمٍ بالضَّرر كائناً ما كان، وسُمِّي الليلُ غَاسِقاً؛ لأنه تخرجُ فيه السِّباعُ من آجَامِها، والهوامُّ من مكانِها. وإنما أضيفُ الشرُّ إلى الليلِ؛ لأن الإنسانَ يحذرُ في أوقاتِ الليل من الشرِّ ما لا يحذرُ مثلَهُ بالنهار، كأنه قالَ تعالى: ومن شرِّ ما في الغاسقِ، كما يقالُ: أعوذُ بالله من هذا البلدِ إذ كَثُرَ فيه الظُّلم والفسادُ. وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: ((الْغَاسِقُ هُوَ الظَّالِمُ، وَوُقُوبُهُ دُخُولُهُ عَلَى الظُّلْمِ)). ويقالُ: الغاسقُ سقوطُ الثُّريا؛ لأن الطوَاعِين والأسقامَ تكثرُ عند سقوطِها، وترتفعُ عند طلوعِها. وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت:" أرَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقَمَرَ فَقَالَ: " تَعَوَّذِي باللهِ مِنْ شَرِّ هَذا الْغَاسِقِ إذا وَقَبَ " "أيْ إذا كَسَفَ وَاسْوَدَّ.
أي من شرِّ السَّواحِرِ ينفُثْنَ؛ أي يسحَرْنَ في عُقَدِ السحرِ، وهن الجماعات السواحر، وذلك أنَّهن إذا أردنَ الإضرارَ بإنسانٍ نفَثْنَ عليه ورقَّيْنَهُ بكلامٍ فيه كفرٌ وشرك وتعظيمُ الكواكب من الأدويةِ الضارَّة والسُّموم القاتلةِ بالاحتيال، ثم يزعُمن إذا ظهر الضُّر عليه أنَّ ذلك من رُقَاهِنَّ. وإذا أردنَ نفعَ إنسان نَفَثْنَ عليه، واحتَلنَ أنْ يَسقِينَهُ شيئاً من الأدويةِ النافعة، ثم إذا اتَّفقَ للعليلِ خفَّةُ الوجعِ أوهَمْنَ أنَّهن اللَّواتي نفعنَهُ من النفعِ والرقى، والنَّفثُ هو أن يُلقِي الإنسان بعضَ ريقه على منَ يعوِّذهُ، يقالُ: نَفَثَ يَنْفُثُ، وتَفَلَ يَتْفُلُ بمعنى واحدٍ.
معناهُ: إن الحاسدَ يستعظمُ نعمةَ صاحبهِ ويريدُ زوالَها، فيحملهُ ذلك على الظُّلم والبغي والاحتيالِ بكلِّ ما يقدرُ عليه لإزالةِ تلك النعمةِ عنه. والحسَدُ في اللغة بمعنى زَوَالِ النِّعمةِ عن صاحبها لِمَا يدخلُ على النفسِ من المشقَّة بها. ويقالُ: معناهُ: التلهُّف على جودِ الله تعالى، وهذا هو الحسدُ المذموم، وأما إذا تَمنَى لنفسهِ نعمةً من اللهِ تعالى مثلَ نعمةِ صاحبهِ من غيرِ أنْ يتمنَّى زوالَها عنه، فذلك يكونُ غِبْطَةً، ولا يكون حَسَداً. وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ المرادَ بهذه الآيةِ: استعاذةٌ من شرِّ عينِ الحاسد، واستدلَّ على ذلك بما رُوي:" أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَرَ عَائِشَةَ أنْ تَسْتَرْقِى مِنَ الْعَيْنِ "، وَيُسْتَحَبُّ لِلْعَائِنِ عِنْدَ إعْجَابهِ بمَا يَرَاهُ أنْْ يَقُولَ: مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله، كما رُوى أنسٍ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:" مَنْ رَأى شَيْئاً يُعْجِبُهُ فَقَالَ: اللهُ اللهُ! مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ، لَمْ يَضُرُّهُ شَيْءٌ ". وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" الْعَيْنُ حَقٌّ، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإذا اسْتَغْسَلْتُمْ فَاغْسِلُوا ". وإنما خُتمت السورةُ بالحسدِ، ليُعلَمَ أنه أخَسُّ من الأشياءِ التي قبلَهُ، وهو أخسُّ الطبائعِ.
Icon