ﰡ
«إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»..
وقد صدّرت سورة الإخلاص، والمعوذتين بعدها، بقوله تعالى: «قل» وهذا الأمر بالقول داخل فى مقول القول الذي يقوله النبي، ويقوله كل من يتأسّون به، فمطلوب من النبي، ومن المؤمنين أن يقولوا: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ..
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ.. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ».. فهذا الأمر بالقول، هو قرآن متعبد به، وهو يعنى أن القرآن كلمات الله، وأنه لا تبديل لكلمات الله، وأن هذه الكلمات قد انطبعت فى قلب النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، فهو يقرؤها من كتاب قلبه كما أنزلت عليه، دون تبديل فيها.. فإذا قيل له- صلوات الله وسلامه عليه: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي».. قال: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي»..
وإذا قيل له «قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ» قال: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ» وإذا قيل له: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ» ؟
قال: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ..» وهكذا.
وقد عرضنا هذا الموضوع فى مبحث خاص، عند تفسير سورة «الجن».
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (١- ٥) [سورة الفلق (١١٣) : الآيات ١ الى ٥]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤)وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥)
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ... ).
الفلق: جميع الخلق، لأن كل مخلوق يتولد من غيره، وينفلق عنه، كما تنفلق الحبّة عن الشجرة، والكمّ عن الزّهرة، والزّهرة عن الثمرة، والرّحم عن الجنين.. وهكذا مما نعلم من المخلوقات.. ومنه قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى» وقوله تعالى: «فالِقُ الْإِصْباحِ» لأن الإصباح يخرج من أحشاء الظلام، كما يخرج الجنين من رحم الأمّ.
والاستعاذة: التعوذ، واللّجأ إلى من يستعاذ به طلبا للحماية، ودفعا للسوء، والمكروه.
والغاسق: اللّيل وظلامه المائج فيه.. والغسق ظلمة الليل..
وأصل الغسق، السّيلان، والتدفق، يقال غسقت القرحة إذا جرى صديدها وتدفق، ومنه «الغسّاق» وهو صديد أهل النار.
والوقوب، والوقب: الدخول، ومنه النّقرة، لأنه يدخل فيها غيرها من الأشياء، والغاسق إذا وقب، أي الليل إذا هجم، ودخل على النهار فأجلاه عن مكانه.
والنفاثات: من النّفث، وهو النّفخ بالفم فى الشيء.. وهو جمع نفّاثة مبالغة فى النّفث، أي كثير النّفث، مثل علّامة، وفهّامة.. ويجوز أن يكون جمع مؤنث..
والعقد: جمع عقدة، وهى ما يعقد بها على الشيء، لربطه، وإحكامه، ومنه اليمين المنعقدة، وهى التي تقع عن نية وقصد، ومنه عقد البيع الذي يتم بين المتبايعين، وعقدة النكاح التي تتمّ بين الزوجين.
وقوله تعالى:
«قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ».
أي اجعل- أيها النبىّ- عيادك، ولجأك متعلّقا بربّ المخلوقات، مقصورا عليه وحده.
والعياذ، إنما يكون من الشرور، والمكاره، التي يلقاها الإنسان على طريق حياته، وهى تتوارد على الإنسان من المخلوقات، سواء أكانت من عالم الأحياء أو غير الأحياء، ، وسواء أكانت منظورة، معلومة، أو خفية مجهولة.. ولهذا جاء قوله تعالى:
«مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ».
فهذا هو المستعاذ بالله من شرّه، وهو المخلوقات على إطلاقها.
والمخلوقات كلها لله سبحانه، وهى من صنعة يده، وهو وحده سبحانه القادر على دفع شرّها، وردّ بأسها، سواء أكانت من قوى الطبيعة، أو من الحيوان أو الإنسان..
وليست المخلوقات شرّا. وإنما هى خير فى ذاتها، وفى نظام الوجود العام، الذي يأخذ فيه كل مخلوق مكانه من بنائه، ولو أخلى مكانه لاختلّ نظام الوجود واضطربت مسيرته.
ومن جهة نظر الإنسان إلى المخلوقات، فإنه ليس كل المخلوقات شرّا، بل إن معظمها هو خير، يعيش فيه، وبنعم به، وحتى ما يراه هو من بعض المخلوقات شرّا خالصا، ليس بالشرّ الخالص، وأنه لو أنعم النظر فيه لوجد بعض الخير قائما إلى جانب هذا الشر.. فالمخلوقات خيرها كثير، وشرها بالإضافة إلى الإنسان فى ذاته، قليل.
فالمستعاذ منه هو هذا الشر القليل إلى جانب الخير الكثير، والمراد
وقد يكون للإنسان، أو الحيوان حيلة فى دفع بعض الشرّ، فليحتل حيلته، وليبذل وسعه، ولكن هذا لا يمنع الإنسان العاقل من أن يجعل معاذه هو الله سبحانه، كما أن معاذه بالله، لا يحمله على تعطيل ملكانه وقواه، فنلك وسائل أودعها الخالق جلّ وعلا فيه، وهى داخلة فى الاستعاذة بالله، واللّجأ إليه.. فما يملكه الإنسان من قدرات على دفع ما يدفع به من شرور، ومكاره، هى أسلحة من عند الله سلّحه بها، فلا يعظلها، وليذكر فضل المنعم بها عليه، فإنها عند المؤمن استعاذة بالله.
وليس الشرّ المستعاذ بالله منه، هو شرّ فى ذاته، لأن الله سبحانه ما خلق شرّا، وإنما هو شرّ إضافىّ، أو نسبىّ، وذلك بالإضافة إلى من وقع عليه، والذي يعدّه شرّا بالنسبة له هو، ولكنه فى النظام العام للوجود، هو خير مطلق، كما قلنا.
وأما الشر المستعاذ به، فهو شر يقع من احتكاك الموجودات بعضها ببعض، أشبه بالشرر المتطاير من احتكاك الزناد بالصّوان، بل هو أشبه بآلام المخاض لميلاد حياة متجددة فى الحياة! فالإنسان فى ذاته يشعر بآلام المرض، والجوع، ويجد لذعة الحرمان والفقر، ومرارة فقد الأحباب والأعزاء، وخيبة الآمال، وضياع الفرص- إلى غير ذلك مما يساء به الإنسان، ويألم منه، ويعده شرا مقيسا بمقياس ذاته. مضبوطا على تلقيات مشاعره له، وإحساسه به.. وهذا كله غير منكور، ومن حقّ الإنسان أن يلجأ إلى حمى ربه، وأن يستعيذ به، وأن يطلب منه اللطف والعافية..
قوله تعالى:
«وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ».
فى لآية السابقة كانت الاستعاذة بالله، استعاذة عامة من جميع الشرور التي ترد على الإنسان من المخلوقات كلها..
وفى قوله تعالى: «وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ» - وما بعدها من الآيات إلى آخر السورة، استعاذة من شرور بعض المخلوقات، البادي شرها..
فالليل حين يهجم على الكائنات، ويحتوى الإنسان، يثير فيه كثيرا من المخاوف، التي تطل عليه من وراء هذا العالم المجهول، المحجب بهذا الستار
وفى الليل، وفى وحشة الظلام، والسكون، والوحدة- تطرق الإنسان همومه ووساوسه، وتتوارد عليه آلامه وأشجانه، فيبيت مؤرقا يئن تحت وطأة هذه الهموم، وتلك الوساوس.. ومن هنا كثرت مناجاة الناس لليل، وشكايتهم له، وبثهم إياه ما توارد عليهم فيه من هموم، وما طرقهم من غائبات الذكريات الموجعة..
يقول امرؤ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله | علىّ بأنواع الهموم ليبتلى |
كلينى لهمّ يا أميمة ناصب | وليل أقاسيه بطيء الكواكب |
تطاول حتى قلت ليس بمنقض | وليس الذي يرعى النجوم بآيب |
وقوله تعالى:
«وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ»..
النفث فى العقد: هو السعى بين الناس بالوشاية والنميمة، فتنحل بذلك عقد الإخاء، والمودة بينهم..
وأصل النفث فى الشيء النفخ فيه.. ومنه يقال للحية نفثت سمومها أي
وهذه استعاذة بالله من شر جزئى، من شرور المخلوقات، وهو الشر الذي الذي ينجم من مثيرى الفتن والفلاقل، ومن مهيجى النفوس وإيقاد نار العداوة بين الناس، فتنحلّ بذلك روابط الإخاء بينهم، وتنفك عقد التواصل والتراحم بين المتواصلين والمتراحمين.. وإن أكثر ما يقع بين الناس من شر، وما يقوم بينهم من صراع، هو من حصاد هؤلاء النفاثين فى العقد، من الرجال والنفاثات فيها من النساء، ابتغاء الفتنة، وتمزيق الوحدة، وتشتيت الشمل..
وإذ كانت الكلمة هنا هى الأداة العاملة فى هذا المجال، فى إيغار الصدور، وإثارة النفوس، وبلبلة المشاعر، وتعكير صفو العواطف، بالحديث الكاذب والقلة المفتراة، والشائعة المضللة- فقد نصح الله سبحانه وتعالى لنا، بالاستفادة من شر تلك الأفواه الآثمة التي تنفث سمومها فى العقد الموثّقة بيننا وبين أهلنا، وأصدقائنا، أبناء مجتمعنا الذي نعيش فيه..
والنصيحة هنا ذات شقين: أن نأخذ حذرنا من هؤلاء الساعين بالنميمة، المتنقلين بين الناس بالفتنة، فنحذرهم كما نحذر الحيات والأفاعى، ونعوذ بالله من شرهم، ونستعين به سبحانه على ردّ كيدهم، ودفع أذاهم، والله سبحانه وتعالى يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» (٦: الحجرات).. ومن جهة أخرى، نحذر من أنفسنا أن توردنا هذا المورد، وأن تدفع بنا إلى هذا الطريق الذي يلبسنا ثوب الشر الذي يستعاذ بالله منه..
وفى الاستعاذة بالله من النفاثات، استعاذة ضمنية أيضا من النفاثين، إذ
وقيل النفاثات: النفوس الخبيثة، والأرواح الفاسدة. سواء تعلقت بالرجال أو بالنساء..
هذا، وفى هذا التعبير عن إفساد ما بين الناس من روابط، بكلمة «النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ» - إعجاز من إعجاز النظم القرآنى..
والذي يتأمل هذا اللفظ المعجز يجد:
أولا: أن كلمة النّفث تشير إلى هذا الشبه بين فم هذا الذي يسعى بين الناس بالكلمة الآثمة الفاجرة، وبين الحية التي تنفث سمومها فتصيب بها من الناس مقتلا..
وثانيا: أن هذا النفث المنطلق من فم هذا الإنسان، يصدر عن صدر ملىء بالعداوة والبغضاء للناس جميعا.. أشبه بتلك العداوة المتوارثة بين الحية والناس.
وثالثا: أن كلمة «العقد» وهى الروابط القائمة بين الناس، هى حياة لهم أشبه بتلك الحياة السارية فى أبدانهم، وأن حلها يفسد هذه الحياة، كما يفسد حياتهم نفث الأفاعى فيهم..
ورابعا: ان النفث فى العقد المادية، من حبال ونحوها، من شأنه أن يلين من صلابتها، وأن يعين على حلها، وكذلك الشأن فى العقد المعنوية، من روابط الأخوة والمودة بين الناس، فإن النفث فيها بالنميمة موهن لها، وممهد لحلّها..
«وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ» والحسد، فى الأعمّ الأغلب هو الدافع إلى كل عداوة، الموقد لكل فتنة، المغرى بالكذب والافتراء على الناس، لحلّ عقد الوئام والوفاق بينهم، ولنزع هذه البسمة التي تعلو الشفاه بين المتحابّين، ولإطفاء إشراقة البشاشة والرضا التي تفيض من وجوه أهل النعمة والرضا..
فالحسد- وهو ما يجده الحاسد فى قلبه ضيق وحسرة، حين يرى فى يد أحد خيرا ليس فى يده، ثم لا يهدأ له بال، ولا تستريح له نفس، حتى يغرب وجه هذا الخير- هو داء يغتال كل معانى الإنسانية فى الإنسان، فيصبح عداوة متحركة فى الناس، ترميهم برجوم من العداوة والبغضاء، وتنفث فيهم سموم الحقد والضغينة، حتى يميت أو يموت.
كالنار تأكل نفسها... إن لم تجد ما تأكله..
والحسد- وليس غيره- هو الذي أغرى أهل الكتاب- وخاصة اليهود- بهذا الموقف الضال الآثم، من رسالة رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- وكتمانهم الحق عن علم بأنه رسول الله، وأنه الذي يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (٧١: آل عمران) ويقول سبحانه وتعالى عنهم: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (١٤٦: البقرة) ويقول جل شأنه فيهم أيضا: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
(١٠٩: البقرة).
وفى نار الحسد التي تأججت فى صدور اليهود، ذابت كلّ معالم الحق الذي كان معهم من أمر النبي، فكفروا به، واتخذوا طريق الضلال مركبا إلى عذاب الجحيم..
والحسد- وليس غيره- هو الذي أغرق مشركى قريش فى الضلال، وأغراهم بهذا الموقف اللئيم الآئم الذي وقفوه من النبي، حتى كان عمه أبو لهب هو وامرأته من أشدّ الناس حسدا له، وتصديا لدعوته، وتشنيعا عليه، وكان من مقولات المشركين ما ذكره الله عنهم من قولهم: «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا» ؟
(٢٥: القمر).. «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (٣١:
الزخرف) «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ» (٢٤: القمر) وقوله تعالى: «إِذا حَسَدَ» - هو قيد للاستعاذة بالله من الشر الذي ينقدح من صدر الحاسد، فتشتعل ناره، وتعلق بمن حسده..
أما الحسد الساكن، الذي لم ينضبح بعد، ولم يتحرك من صدر صاحبه، ولم يبلغ من القوة بحيث يأخذ صورة عملية، أبعد من دائرة الخواطر والمشاعر- أما هذا الحسد، فهو طبيعة غالبة فى الناس، قلّ أن يسلم منه قلب، أو تخلو منه نفس.. فما أكثر ما يمد الإنسان بصره إلى ما عند الناس، مما ليس فى يده، من مال، أو علم، أو صحة، أو شباب، أو جمال، أو بنين، أو نحو هذا، مما ترغب فيه النفوس، وتتداعى عليه الآمال، وما أكثر ما تتولد مشاعر الحسد من المحروم إلى حيث مواطن هذه المحبّبات إلى النفوس، ثم يجد من دينه، أو عقله، أو مروءته ما يردّه عن موقف الحسد، ثم لا تلبث هذه المشاعر أن
هذا، وقد تكرر لفظ «شر» أربع مرات، مضافا فى كل مرة إلى جهة خاصة غير الجهات الثلاث، وذلك لأن الشر الناجم من كل جهة منها مختلف عن غيرها..
[النبي.. وحديث السحر] هذا ما يفهم من منطوق آيات الله فى قوله تعالى: «وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ».. وهو فهم يتفق مع سياق السورة، ومع سورة الإخلاص التي سبقتها، وسورة الناس التي جاءت بعدها، والتي كان من ثلاثتها خاتمة كتاب الله على ترتيبه فى المصحف، الذي رتبت سورة بتوقيف من الله تعالى، على ما وقع فى يقيننا.
ولكن بعض المفسرين قد ذهب فى فهم هاتين الآيتين فهما آخر، إذ زعم أن سورتى الفلق، والناس نزلتا على رسول الله ﷺ ليسترقى بهما من السحر الذي أصابه، والذي كان قد صنعه به رجل يهودى، يدعى لبيد بن الأعصم.. وقد استند هؤلاء المفسرون فى هذا على ما جاء فى صحيحى البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث، من حديث هذا السحر الذي يقال إنه أصاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
روى البخاري، عن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه. ، عن عائشة- رضى الله عنها- قالت:
أتانى رجلان، فجلس أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب! قال من طبّه؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي، من بنى زريق! قال فى أي شىء؟ قال فى مشط ومشاطة، وجفّ طلع تخلة ذكر! «١» قال: فأين هو؟ قال فى بئر ذروان!.. فأتاها رسول الله صلى الله عليه فى ناس من أصحابه، فنظر إليها، وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة، فقال:
والله لكأن ماءها نقاعة الحنّاء، وكأنّ رءوس، نخلها الشياطين» قلت يا رسول الله أفأخرجته؟ قال: لا.. أما أنا فقد عافانى الله وشفانى، وخشيت أن أثير على الناس منه شرا.. فأمر بها- أي البئر- فدفنت». أي ردمت هذا حديث يرويه البخاري عن السيدة عائشة.
ويروى البخاري، أيضا عن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، سحر حتى كان يرى أنه يأتى النساء ولا يأتيهن- وهذا أشدّ ما يكون من السحر، إذا كان كذا- فقال يا عائشة: أعلمت أن الله أفتانى فيما أستفتيه فيه؟ أتانى رجلان، فقعد أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى فقال الذي عند رأسى للآخر:
ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟
قال: وفيم؟ قال فى مشط ومشاطة؟ قال: وأين؟ قال: فى جفّ طلعة ذكر، تحت راعوفة «١» فى بئر ذى أروان.. قالت: فأنى النبي- صلى الله عليه وسلم- البئر حتى استخرجه، فقال هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحنّاء، وكأن نحلها رءوس الشياطين..»
وفى حديث ثالث يرويه البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله، عنها.. قالت: «سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ليخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندى، دعا الله ودعاه، ثم قال: «أشعرت يا عائشة أن الله قد أفنانى فيما أستفتيه فيه؟» قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «جاءنى رجلان..
فجلس أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى، ثم قال أحدهما لصاحبه:
ما وجع الرجل؟ قال مطبوب؟ قال: ومن طبّه؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي من بنى زريق! قال: فى ماذا؟ قال: فى مشط ومشاطة وجف لطلعة ذكر. قال فأين هو؟ قال: فى بئر ذى أروان «٢». قالت: فذهب النبي ﷺ فى ناس من أصحابه إلى البئر، فنظر إليها، وعليها نخل ثم رجع إلى عائشة، فقال: والله لكأن ماءها نقّاعة الحنّاء «٣»، ولكأن نخلها رءوس الشياطين.. قلت: يا رسول الله، أفأخرجته؟ قال: لا..
أمّا أنا فقد عافانى الله، وشفانى، وخشيت أن أثير على الناس منه شرّا..
وأمر بها فدفنت».
(٢) بئر ذى أروان: عين فى بستان بنى زريق بالمدينة.
(٣) نقاعة الحناء: نقيعها، والحناء: صبغ معروف. [.....]
م ١٠٩ التفسير القرآنى ج ٣٠
وفى مسند الإمام أحمد عن إبراهيم بن خالد عن معمر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: لبث رسول الله ﷺ ستة أشهر يرى أنه يأتى النساء ولا يأتى، فأتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه..
الحديث» وفى تفسير الثعلبي عن ابن عباس وعائشة رضى الله عنهما، أن غلاما من اليهود كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدبّت «١» إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدّة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود فسحروه فيها، وكان الذي تولّى ذلك رجل منهم يقال له ابن أعصم، ثم دسّها فى بئر لبنى زريق، يقال له ذروان، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتثر شعر رأسه، ولبث ستة أشهر، يرى أنه يأتى النساء ولا يأتيهن، وجعل يذوى، ولا يدرى ما عراه، فبينما هو نائم أتاه ملكان، فجلس أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه للذى عند رجليه: ما بال الرجل؟ قال: طبّ، قال:
وما طبّ، قال: سحر، قال: ومن سحره؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي! قال: وبم طبّه؟ قال: بمشط ومشاطة.. قال: وأين هو؟ قال: فى جفّ طلعة ذكر، تحت راعوفة فى بئر ذروان.. فانتبه النبىّ صلى الله عليه وسلم
والذي ينظر فى هذه الأحاديث، وتلك الأخبار يتردّد كثيرا فى قبولها، أو الوقوف عندها، إذ كانت تضع رسول الله ﷺ فى الموضع الذي يجور على كماله، وينتقص من عصمته..
وقد كان ذلك مثار بحث وخلاف بين العلماء، فردّ كثير منهم هذه الأحاديث وأبى أن يقبلها، جاعلا عصمة النبىّ فوق كل اعتبار، رافعا مقام النبوّة فوق كلّ مقام.. على حين نجد كثيرا من العلماء، قد انبرى للدفاع عن كتب السنة الصحاح، وما ورد فيها من أحاديث، محاولا سدّ باب الطعن فيها، بتخريج مثل هذه الأحاديث على وجه يمكن قبولها عليه، ولو ركب فى هذا مركب التعسّف فى التأويل والتخريج.. والانتصار للسنّة، ولكتب الصحاح الحاملة لها، أمر يحرص عليه كلّ مسلم، ويلتقى عنده المسلمون جميعا بلا خلاف.. ولكن حين يكون الموقف كهذا الذي نحن بين يديه، تختلف وجهات النظر، ويكون فى المسلمين من يؤثر الجمع بين قبول الحديث وبين الجهة التي يتعلق بها هذا الحديث، محاولا تعليل ذلك وتبريره، على حين يكون فى المسلمين من يؤثر مقام النبوّة وتنزيهها عن عوارض النقص، على كل خبر يساق، أو حديث يروى..
«ولكن الذي يمكن أن يكون- هو أن «اليهودىّ» أو بناته، قد اجتهدوا فى ذلك فلم يقدروا عليه، وأطلع الله نبيّه ﷺ على ما فعلوه من التمويه، حتى استخرج، وكان ذلك دلالة على صدقه..
«ثم كيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم، ولو قدروا على ذلك لقتلوه- أي النبىّ- وقتلوا كثيرا من المؤمنين» ؟.
وهذا الذي يتلمّسه الإمام الطبرسي لقبول الخبر بقوله: «ولكن الذي يمكن أن يكون- هو أن اليهودىّ أو بناته اجتهدوا فى ذلك فلم يقدروا عليه، وأطلع الله نبيّه على ما فعلوه من التمويه، حتى استخرج، وكان بذلك دلالة على صدقه..».. نقول هذا القول لا تقوم منه حجة على صحة الحديث وقبوله، وذلك:
أولا: أن الخبر المروي يقول: إن لبيد بن الأعصم هو الذي سحر النبي صل الله عليه وسلم، ولم يجر لبناته ذكر فى الحديث على تعدد الروايات التي روى بها..
والخبر وحدة واحدة، فإما أن يقبل كله، أو يردّ كله..
وثانيا: إذا كان ما فعله لبيد هذا، هو من قبيل التمويه.. فما الحكمة فى أن
وأي دلالة على صدق النبي فى استخراج شىء لا أثر له فى واقع الحياة؟
ويقول الإمام محمد عبده، تعقيبا على حديث السحر:
«وقد قال كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هى النبوة، ولا ما يجب لها:
«إن الخبر بتأثير السحر فى النفس الشريفة- يقصدون نفس النبي- قد صحّ، فيلزم الاعتقاد به.. وعدم التصديق به من بدع المبتدعين، لأنه ضرب من ضروب السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر» !.
ويعلق الإمام محمد عبده على هذه المقولة بقوله:
«فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح، والحق الصريح فى نظر المقلد- بدعة؟ نعوذ بالله! «يحتج بالقرآن على ثبوت السحر «١»، ويعرض عن القرآن فى نفيه السحر عنه صلى الله عليه وسلم، وعدّه من افتراء المشركين «٢» عليه ويؤول القرآن فى هذا، ولا يؤول فى تلك، مع أن الذي قصده المشركون ظاهر، لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه- عليه السلام- وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم، وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد بن الأعصم.. فإنه- أي السحر الذي سحره بن الأعصم- قد خالط عقله (أي عقل النبي) وإدراكه فى زعمهم..
(٢) وهو ما رد الله به على المشركين قولهم: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» فرماهم الله سبحانه بقوله: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا».
«والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته، وعدم الاعتقاد بما ينفيه.
«وقد جاء- أي القرآن- بنفي السحر عنه، عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له، إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا.. فإذن ليس هو بمسحور قطعا.
«وأما الحديث- على فرض صحته- فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد.. وعصمة النبي من تأثير السحر فى عقله، عقيدة من العقائد، لا يؤخذ فى نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون..
ثم يقول الإمام..
«على أن الحديث الذي يصل إلينا عن طريق الآحاد، إنما يحصّل الظنّ عند من صحّ عنده.. أما من قامت له الأدلة على أنه غير صحيح، فلا تقوم به عليه حجة..
ثم يقول الإمام:
«وعلى أي حال، فلنا، بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث، ولا نحكّمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل.. فإنه إذا خولط النبي فى عقله- كما زعموا- جاز عليه أن يظن أنه بلّغ شيئا وهو لم يبلغه، أو أن شيئا نزل عليه وهو لم ينزل عليه.. والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان..»
والإمامان الجليلان- الطبرسي، ومحمد عبده- يقفان هذا الموقف من حديث السحر، وبين يديهما هذه المقولات الكثيرة التي تنتصر لهذا الحديث وتدفع يد المعارضين له، بل وترميهم بالكفر، والإلحاد..
«وأما ما ورد من أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس فى هذا ما يدخل عليه داخلة فى شىء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح فى صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما طروّه عليه فى أمر دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فضّل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل له من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلى عنه كما كان!! ثم يقول القاضي عياض: «فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات، أنه إنما تسلط على ظاهره، وجوارحه، لا على قلبه، واعتقاده وعقله، وأنه إنما أثّر فى بصره، وحبسه عن وطء نسائه وطعامه، وأضعف جسمه وأمرضه..
ويكون معنى قوله: «يخيل إليه أنه أنى أهله ولا يأتيهن» أي يظهر له من نشاطه، ومتقدم عادته القدرة على النساء، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر فلم يقدر على إتيانهن، كما يعترى من أخذ وامترض.»
وينقل الآلوسى فى تفسيره روح المعاني عن الإمام المازري قوله تعليقا على هذا الحديث:
«قد أنكر هذا الحديث المبتدعة، من حيث أنه يحطّ منصب النبوة ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع.
وهذا- كما ترى- دفاع متهافت، فإن التسلط على البدن والجوارح، من شأنه أن يجوز على التفكير، وأن يفسد الرؤية الصحيحة للأمور، كما حدث ذلك فيما دخل على النبي، وعلى تصوراته، كما يقول الحديث!! وأما ابن قيم الجوزية، فيعلق على حديث السحر بقوله:
«هذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث، متلقّى منهم بالقبول..
لا يختلفون فى صحته، وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغير هم، وأنكروه أشد الإنكار، وقابلوه بالتكذيب، وصنف فيه بعضهم مصنفا منفردا، حمل فيه على هشام- ابن عروة بن الزبير- راوى الحديث عن السيدة
ثم يقول ابن القيم:
«وهذا الذي قاله هؤلاء، مردود عند أهل العلم.. فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب ردّ حديثه..
«فما للمتكلمين وما لهذا الشأن؟ وقد رواه غير هشام عن عائشة.. وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة.. ؟
ويقول ابن القيم:
«والسحر الذي أصابه (صلوات الله وسلامه عليه) كان مرضا عارضا، شفاه الله منه. ولا نقص فى ذلك ولا عيب بوجه ما، فإن المرض يجوز على الأنبياء، وكذلك الإغماء، فقد أغمى عليه ﷺ فى مرضه، ووقع حين انفكت قدمه،
«وأما قولكم: إن سحر الأنبياء ينافى حماية الله لهم.. فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم، ويحفظهم ويتولاهم، فإنه يبتليهم بما شاء من أذى الكفار، ليستوجبوا كمال كرامته، وليتأسّى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ماجرى على الرسل والأنبياء- صبروا وتأسوا بهم، ولتمتلئ صاع الكفار، فيستوجبوا ما أعد لهم من النكال العاجل، والعقوبة الآجلة، فيمحقهم الله بسبب بغيهم وعدوانهم، فيعجل تطهير الأرض منهم.. فهذا من بعض حكمته تعالى فى ابتلاء أنبيائه ورسله، بإيذائهم من أقوامهم، وله الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، لا إله غيره، ولا رب سواه».
وهذا- كما ترى- دفاع متهافت أيضا، فإن ما يبتلى الله سبحانه أنبياءه به من صنوف الابتلاء من أقوامهم، إنما هو فى عناد هؤلاء الأقوام، وفى ضلالهم وتأبيهم على قبول الخير، وهذا ما لا يمسّ الأنبياء شىء منه.. وأما ما عرض للرسول
(٢) السلا: ما يخرج من بطن الناقة ونحوها مع الولد عند ولادته.
أما أن يمتد هذا المعارض ستة أشهر أو سنة، فهذا ما يقطع النبىّ عن رسالته، ويعزله من مقام النبوة.
ويقول ابن حزم فى كتابه المحلّى تعقيبا على حديث السحر:
«فهذا خبر صحيح.. وقد عرّف الله تعالى رسوله ﷺ من سحره، فلم يقتله» !! ومن عجب أن عالما فقيها مجتهدا، واسع الأفق كابن القيم، وأن عالما كبيرا عرف بنفاذ البصيرة، واحترام العقل كابن حزم- من عجب أن يكون هذا موقف هذين العالمين الجليلين من حديث السحر، يغلب عليهما فيه ما تواردت عليه مقولات العلماء، من قبوله، والاحتجاج إليه.. ولا أدلّ على ذلك من أن ابن القيم يتحدث فى موقف آخر عن السحر، فيقول- فيما ينقله عنه ابن حجر فى شرح هذا الحديث من البخاري- يقول: «قال ابن القيم: من أنفع الأدوية وأقوى ما يوجد من النشرة- أي استخراج السحر، وإبطال عمله- مقاومة السحر- الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة- بالأدوية الإلهية، من الذّكر والدعاء، لا يخل به «١» - كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له.. قال (أي ابن القيم) :
«وسلطان تأثير السحر، هو فى القلوب الضعيفة، ولهذا غالب ما يؤثّر، فى النساء، والصبيان والجهال، لأن الأرواح الخبيثة، إنما تنشط على أرواح من تلقاه مستعدة لما يناسبها» هذا ما يقرره ابن القيم هنا من تمكن الأرواح الخبيثة، التي يقع من آثارها
ويردّ ابن حجر على ما نقله- ملخصا- من قول ابن القيم، فيقول:
«ويعكّر عليه- أي يؤخذ على قوله هذا- حديث الباب (أي الباب الذي ورد فيه حديث السحر). وجواز السحر على النبي صلى الله عليه وسلم- مع عظيم مقامه، وصدق توجهه، وملازمة ورده (أي ذكر الله) ثم يقول ابن حجر: «ولكن يمكن الانفصال عن ذلك- أي الرد على قول ابن القيم- بأن الذي ذكره محمول على الغالب، وإنما وقع به صلى الله عليه وسلم- لبيان تجويز ذلك»..
هذا هو جانب من موقف المنكرين لهذا الحديث، والمدافعين عنه.
وهناك كثير من العلماء، آثروا العافية، وأعفوا أنفسهم من أن يكونوا طرفا فى هذه القضية، وهؤلاء هم جماعة من أئمة المفسرين، لم يشاؤا أن يعرضوا لحديث السحر، عند تفسير هم لسورة «الفلق» بل نظروا فى قوله تعالى: «وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ» - نظروا فيه نظرا مجانبا لحديث السحر، فلم يشيروا إلى هذا الحديث من قريب أو بعيد، مع أن هذا هو موضعه الذي يشار إليه فيه.. وهذا يعنى أنهم فى موقف توقّف إزاء هذا الحديث، وأنهم يميلون إلى ردّه، أكثر من ميلهم إلى قبوله.. ومن هؤلاء الأئمة المفسرين الذين وقفوا هذا الموقف من حديث السحر: الزمخشري، والطبري، والقرطبي، والنّسفى..
موقف من يردّه، ويأبى التسليم به، تنزيها لمقام النبوة، وتأكيدا لعصمة النبي..
وموقف من ينصر هذا الحديث، ويحاول تخريجه على ما يحفظ للنبوة مقامها، ويبقى على النبي عصمته..
وموقف من تجنب الخوض فى هذه المعركة، مهاجما أو مدافعا، فلم يعرض لهذا الحديث بإشارة من قريب أو من بعيد..
وإنى إذ أسأل نفسى أىّ موقف من هذه المواقف أنحاز إليه، وآخذ مكانى فيه، ما دمت قد أقحمت نفسى فى زمرة العلماء الدارسين لكتاب الله- لأجدنى محمولا حملا لا شعوريا على التوقف فى هذا الحديث، ثم على تركه وعدم الأخذ به.. وذلك لأمور:
أولهما: أنه ليس حديثا يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يريد به أمرا من أوامر الدين، أو نهيا من نواهيه، أو يبغى به نصحا أو إرشادا مما يتصل بالشريعة وأحكامها وآدابها..
فهذا الحديث- إن صح- لا يعدو أن يكون خبرا عن حال من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الخاصة به، والتي لا يطلع عليها غير خاصة أهله كالسيدة عائشة رضى الله عنها.. فهذا الحديث- إن صح- لم يرد إلا عن السيدة عائشة، وهذا يعنى أن هذا العارض الذي عرض للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن له أي أثر خارج بيت الرسول، وخارج صلته بالسيدة عائشة بالذات، والتي قيل إن رسول الله حبس عنها ستة أشهر، وفى بعض الروايات سنة.. ولو كان هذا العارض الذي عرض للنبىّ ذا أثر فى غير هذه
أما أن يكون حديث آحاد، لا يمسك به إلا آل الزبير عن السيدة عائشة، فهذا ما لا يتسع منطق الحياة لقبوله، إلا أن يكون مما يتصل بالعلاقة الزوجية بين النبي، وبين السيدة عائشة وحدها.. ، فلا تطلع عليه إلّا هى ومن كان قريبا منها كأبناء أختها صفية، من زوجها الزبير بن العوام.
وثانيها: أن القرآن الكريم يقول للنبى الكريم: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»..
وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى بحفظ النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- مما يكيد له به أعداؤه، سواء أكان ذلك فيما يتصل بجسده، أو عقله، أو مشاعره..
فالله سبحانه قد تولى حراسة النبي حراسة مطلقة، بحيث لا يخلص إليه من الناس أذى، أو يصل إليه منهم سوء..
ولهذا قال النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- حين تلقى هذه الآية- قال لمن كان يتولى حراسته من أصحابه تطوعا: «يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمنى الله عزّ وجلّ» فهل يعقل بعد هذا، أن يتولى الله سبحانه وتعالى حراسة النبي، وأن يخبره بهذا، ثم لا يدفع عنه هذا الكيد الذي يقال إن لبيد بن الأعصم كاده له، وأصابه به فى أقتل مقاتله، وهو عقله؟.. وكم امتدت هذه البلوى؟ لقد قيل إنها ستة أشهر، وقيل سنة كاملة!!..
أما كان من الجائز، بل من الواقع الذي لا يمكن توقيه- أن يحدث النبي- وحاشاه- فى شرع الله حدثا، فيقول- وهو لا يدرى- ما يحسبه المؤمنون المتلقون عنه- أنه قرآن أو سنة، وهو ليس بقرآن ولا سنة، فيأخذون به ويقيمون دينهم عليه؟ أم ترى أن المسلمين- وقد عرفوا ما بالنبي- عزلوه عن النبوة خلال تلك المدة، فلم يسمعوا ما يقول، ولم يقبلوه منه؟ وكيف والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» ؟
(٧: الحشر) أمسلمون بلا نبىّ، والنبي فيهم؟ أم نبى ولا مسلمون، والمسلمون ألوف، وألوف بين يديه.. ؟
وثالثها: المعروف المؤكد من سيرة الرسول أنه كان إمام المسلمين فى الصلوات الخمس، فى الحضر، وفى السفر- فهل كان النبىّ خلال هذا العارض الذي عرض له- وقد امتدّ أشهرا- هل كان يقيم للمسلمين صلاتهم دون أن يختلط عليه أمر الصلاة، فى أقوالها، وأفعالها؟ وكيف كان يمكن أن يتحقق من أنه جالس، أو قائم، أو راكع، أو ساجد.. وهو فى حال يحيّل إليه فيها أنه يفعل الشيء ولا يفعله؟
لقد كان الرسول صلوات الله عليه حريصا على أن يقيم للمسلمين صلاتهم حتى فى مرض موته، فكان يتحامل على نفسه، ويمضى إلى المسجد- لا تكاد تحمله قدماه- مستندا من جانبيه على صاحبين من صحابته، حتى ثقل عليه المرض فى اليومين الأخيرين من حياته فى هذه الدنيا، فأمر أبا بكر بأن يصلّى بالناس..
فإذا قلنا إن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لم يسحر، ولم يمسسه سوء، فى جسده، أو عقله، قام بين أيدينا أكثر من شاهد يصدّق هذا القول ويؤكده..
فأولا: عصمة النبوّة، تلك العصمة التي لا تتحقق إلا بالسلامة المطلقة فى العقل أولا، وفى الجسد ثانيا.
وثانيا: ما وعد الله به نبيّه الكريم فى قوله سبحانه: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ».
وثالثا: الواقع المحسوس الذي قامت عليه حياة الرسول فى أصحابه، وأنه كان يقيم لهم صلاتهم، فى الحضر والسفر، فى السلم والحرب، لم يتخلف عن هذا يوما واحدا، أو فريضة واحدة، إلا فى اليومين الأخيرين من حياته..
هذا ما ينبغى أن يتقرر ويتأكد، وما يجب أن نقيم عليه إيماننا بالله، وبرسول الله..
هذا وقد يلقانا من يقول: كيف تتصدى لخبر ورد فى البخاري، وفى مسلم وفى كتب السنة الصحاح؟ وكيف تشك فيه وتتردد فى قبوله؟ إن ذلك إن سلّم لك به كان معناه إهدار السنة، ووضع مصادرها الموثّقة موضع الاتهام!! ونقول: كلا: إننا نحترم كتب السنة، وننزل أصحابها من نفوسنا منزلة
ولكن هذه قضية، ورفع مقام هذه الكتب فوق مقام القرآن الكريم، وإنزاله على حكمها، مما يخالف صريح محكم آياته- قضية أخرى..
ولقد صحّ منا العزم، ونحن نكتب هذه السطور الأخيرة من تفسير كتاب الله، أن نلتقى بكتب السنّة فى دراسة، نرجو أن يوفقنا الله فيها، وأن يعيننا عليها، وأن يسدد خطانا على طريق الحق إلى سنة رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، التي هى وحي من عند الله، وبيان شارح لكتاب الله.. «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ..»
(١١٤) سورة الناس
نزولها: مدنية، وقيل مكية.. نزلت بعد سورة الفلق..
عدد آياتها: ست آيات..
عدد كلماتها: عشرون كلمة.
عدد حروفها: تسعة وسبعون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
هى امتداد لسورة «الفلق» قبلها، ومتممة لما يستعاذ بالله منه..
و «المعوذتان» أشبه بسورة واحدة، ولهذا فقد جمعهما اسم واحد:
«المعوذتان».
(م ١١٠ التفسير القرآنى- ج ٣٠