تفسير سورة الضحى

الدر المصون
تفسير سورة سورة الضحى من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿سجى﴾ : قيل: معناه سَكَن، ومنه: سجا البحر يَسْجُو سَجْواً، أي: سَكَنَتْ أمواجُه، وطَرْفٌ ساجٍ، أي: فاتر، ومنه اسْتُعِير تَسْجِيَةُ الميتِ، أي: تَغْطِيَتُه بالثوبِ، قاله الراغب وقال الأعشى:
٤٥٨٩ - وما ذَنْبُنا إنْ جاش بَحْرُ ابنِ عَمِّكُمْ وبَحْرُكَ ساجٍ لا يُوارِي الدَّعامِصا
وقيل: سجا، أي: أَدْبَرَ وقيل بعكسِه. وقال الفراء: «أظلم». وقال ابن الأعرابي: «اشتدَّ ظلامُه» وقال الشاعر:
35
٤٥٩٠ - يا حَبَّذا القَمْراءُ والليلُ السَّاجْ وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النِّسَّاجْ
وهو من ذواتِ الواوِ، وإنما أُميل لموافقةِ رؤوسِ الآيِ، كالضُّحى فإنه من ذواتِ الواوِ ايضاً.
36
قوله: ﴿مَا وَدَّعَكَ﴾ : هذا هو الجوابُ. والعامَّةُ على تشديد الدالِ من التَوْديع. [وقرأ] عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتخفيفِها مِنْ قولِهم: وَدَعَه، أي: تركه والمشهورُ في اللغةِ الاستغناءُ عن وَدَعَ ووَذَرَ واسمِ فاعِلهما واسمِ مفعولِهما ومصدرِهما ب «تَرَكَ» وما تصرَّفَ منه، وقد جاء وَدَعَ ووَذَرَ. قال الشاعر:
٤٥٩١ - سَلْ أميري ما الذي غَيَّرَهْ عن وِصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ
وقال الشاعر:
٤٥٩٢ - وثُمَّ وَدَعْنا آلَ عمروٍ وعامرٍ فرائِسَ أَطْرافِ المُثَقَّفةِ السُّمْرِ
قيل: والتوديعُ مبالغةٌ في الوَدْع؛ لأن مَنْ وَدَّعك مفارقاً فقد بالغ في تَرْكِك.
قوله: ﴿وَمَا قلى﴾ أي: ما أَبْغَضَك، قلاه يَقْليه بكسر العين في
36
المضارع، وطيِّىء تقول: قلاه يقلاه بالفتح قال الشاعر:
٤٥٩٣ - أيا مَنْ لَسْتُ أَنْساه ولا واللَّهِ أَقْلاه
لكَ اللَّهُ على ذاكَ لكَ اللَّهُ [لكَ اللَّهُ]
وحُذِفَ مفعولُ «قَلَى» مراعاةً للفواصلِ مع العِلْم به وكذا بعدَ «فآوى» وما بعدَه.
37
قوله: ﴿وَلَلآخِرَةُ﴾ : الظاهرُ في هذه اللامِ أنَّها جوابُ القسم، وكذلك في «ولَسَوْفَ» أَقْسم تعالى على أربعةِ أشياءَ: اثنان منفيَّان وهما توديعُه وقِلاه، واثنان مُثْبَتان مؤكَّدان، وهما كونُ الآخرةِ خيراً له من الدنيا، وأنه سوف يُعْطيه ما يُرضيه. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما هذه اللامُ الداخلةُ على» سَوْف «؟ قلت: هي لامُ الابتداءِ المؤكِّدةُ لمضمون الجملة، والمبتدأُ محذوفٌ تقديرُه: ولأنت سَوْفَ يُعْطيك، كما ذَكَرْنا في ﴿لاَ أُقْسِمُ﴾ [القيامة: ١] أن المعنى: لأَنا أُقْسِمُ. وذلك أنها لا تَخْلو: مِنْ أَنْ تكونَ لامَ قسمٍ أو ابتداء. فلامُ القسم لا تدخلُ على المضارع إلاَّ مع نونِ التوكيد، فبقي أن تكونَ لامَ ابتداءِ، ولامُ الابتداء لا تدخل إلاَّ على الجملة من المبتدأ والخبرِ فلا بُدَّ من تقدير [مبتدأ] وخبره، وأصله:
37
ولأنت سوف يعطيك» ونقل الشيخ عنه أنه قال: «وخُلِع من اللامِ دلالتُها على الحال» انتهى. وهذا الذي رَدَّده الزمخشري يُختار منه أنها لامُ القسم.
قوله: «لا تَدْخُلُ على المضارع إلاَّ مع نونِ التوكيد» هذا استثنى النحاة منه صورتَيْنِ، إحداهما: أَنْ لا يُفْصَلَ بينها وبين الفعل حرفُ تنفيسٍ كهذه الآيةِ، كقولِك: واللَّهِ لَسَأُعْطيك. والثانية: أن لا يُفْصَلَ بينهما بمعمولِ الفعل كقولِه تعالى: ﴿لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: ١٥٨]. ويَدُلُّ لِما قُلْتُه ما قال الفارسيُّ: «ليسَتْ هذه اللامُ هي التي في قولك:» إنَّ زيداً لَقائمٌ، بل هي التي في قولِك: «لأَقومَنَّ» ونابَتْ «سوفَ» عن إحدى نونَيْ التوكيدِ، فكأنه قال: ولَيُعْطِيَنَّك.
وقوله: «خُلِع منها دلالتُها على الحال» يعني أنَّ لامَ الابتداءِ الداخلةَ على المضارع تُخَلِّصُه للحال، وهنا لا يُمْكِنُ ذلك لأجلِ حَرْفِ التنفيسِ، فلذلك خُلِعَتِ الحاليةُ منها.
وقال الشيخ: «واللامُ في» ولَلآخرةُ «لامُ ابتداء وَكَّدَتْ مضمونَ الجملةِ» ثم حكى بعضَ ما ذكَرْتُه عن الزمخشري وأبي علي ثم قال: «ويجوز عندي أَنْ تكونَ اللامُ في» وللآخرةُ خيرٌ «وفي» ولَسَوْفَ يُعْطيك «
38
اللامَ التي يُتَلَقَّى بها القسمُ، عَطَفَها على جوابِ القسم، وهو قولُه: ﴿مَا وَدَّعَكَ﴾ فيكون قد أقسم على هذه الثلاثة» انتهى. فظاهرُه أنَّ اللامَ في «ولَلآخرةُ» لامُ ابتداء غيرُ مُتَلَقَّى بها القسمُ، بدليلِ قولِه ثانياً: «ويجوز عندي» ولا يظهرُ انقطاعُ هذه الجملةِ عن جواب القسم البتةَ، وكذلك في ﴿ولَسَوْفَ﴾ وتقديرُ الزمخشري مبتدأً بعدها لا يُنافي كونَها جواباً للقسم، وإنما مَنَعَ أن تكونَ جواباً داخلةً على المضارع لفظاً وتقديراً.
39
قوله: ﴿فآوى﴾ : العامَّة على «آوى» بألفٍ بعد الهمزة رباعياً، مِنْ آواه يُؤْوِيْهِ. وأبو الأشهب «فأوى» ثلاثياً. قال الزمخشري: «وهو على معنيين: إمَّا مِنْ» أواه «بمعنى آواه. سُمع بعضُ الرعاة يقول:» أين آوي هذه «، وإمَّا مِنْ أوى له إذا رحمه» انتهى. وعلى الثاني قولُه:
٤٥٩ - ٤- أراني - ولا كفرانَ لله - أيَّةُ لنفسي لقد طالَبْتُ غيرَ مُنيلِ
أي: رحمةً لنفسي. ووجهُ الدلالةِ مِنْ قولِه: «يقول: أين آوي هذه» ؟ أنه لو كان من الرباعي لقال: «أُؤْوي» بضم الهمزةِ الأولى وسكونِ الثانيةِ؛ لأنه مضارعُ «آوى» مثل أَكْرَمَ، وهذه الهمزةُ المضمومةُ هي حرفُ المضارعةِ، والثانيةُ هي فاءُ الكلمةِ، وأمَّا همزةُ أَفْعَل فمحذوفةٌ على القاعدةِ، ولم تُبْدَلْ هذه الهمزةُ كما أُبْدِلَتْ في «أُوْمِنُ أنا» لئلا تثقلَ
39
بالإِدغام، ولذلك نصَّ القراءُ على أنَّ «تُؤْويه» من قوله «وفَصيلتِه التي تُؤْويه» لا يجوزُ إبْدالُها للثِّقَلِ.
40
قوله: ﴿عَآئِلاً﴾ : أي: فقيراً. وهذه قراءةُ العامَّةِ. يقال: عال زيدٌ أي: افتقر. قال جرير:
٤٥٩٥ - اللهُ نَزَّل في الكتابِ فريضةً لابنِ السبيل وللفقيرِ العائلِ
وأعال: كَثُرَ عيالُه قال:
٤٥٩٦ - ومايَدْري الفقيرُ متى غِناه وما يَدْري الغَنِيُّ متى يُعيلُ
وقرأ اليماني «عَيِّلاً» بكسر الياء المشددة كسَيِّد.
قوله: ﴿فَأَمَّا اليتيم﴾ : منصوبٌ ب تَقْهَرْ. وبه استدل الشيخ ابن مالك - رحمه الله - على أنه لا يَلْزَمُ من تقديمِ المعمولِ تقديمُ العامل. ألا ترى أن «اليتيمَ» منصوبٌ بالمجزوم، وقد تقدَّم على الجازمِ، ولو قَدَّمْتَ «تَقْهَرْ» على «لا» لامتنع؛ لأنَّ المجزومَ لا يتقدَّمُ على جازِمِه، كالمجرورِ لا يتقدَّمُ على جارِّه، وتقدَّم ذلك في سورة هود عند
40
قولِه تعالى: ﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ﴾ [هود: ٨]. وقراءةُ العامَّةِ «تَقْهَرْ» بالقاف من الغلبةِ. وابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي بالكاف. يقال: كَهَرَ في وجهه، أي: عَبَسَ. وفلان ذو كُهْرُوْرة، أي عابسُ الوجه. ومنه الحديث «فبأبي وأمي هو ما كَهَرني» قاله الزمخشري. وقال الشيخ: «وهي لغةٌ بمعنى قراءةِ الجمهور» انتهى. والكَهْرُ في الأصل: ارتفاعُ النهارِ مع شدَّةِ الحَرِّ
41
قوله: ﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ : متعلقٌ ب حَدِّثْ، والفاء غيرُ مانعةٍ من ذلك. وقد تقدَّم هذا.
Icon