تفسير سورة سورة يونس من كتاب تفسير المنار
المعروف بـتفسير المنار
.
لمؤلفه
محمد رشيد رضا
.
المتوفي سنة 1354 هـ
ﰡ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ).(الر) تُقْرَأُ هَذِهِ الْحُرُوفُ الثَّلَاثَةُ بِأَسْمَائِهَا سَاكِنَةً غَيْرَ مُعْرَبَةٍ هَكَذَا: أَلِفْ، لَامْ، رَا.
وَالْحَرْفُ الْأَخِيرُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. وَفَائِدَةُ النُّطْقِ بِهَا وَبِأَمْثَالِهَا هَكَذَا تَنْبِيهُ الَّذِينَ تُتْلَى عَلَيْهِمُ السُّورَةُ لِمَا بَعْدَهَا لِأَجْلِ الْعِنَايَةِ بِفَهْمِهِ حَتَّى لَا يَفُوتَهُمْ مِنْ سَمَاعِهِ شَيْءٌ، وَهِيَ أَقْوَى فِي هَذَا التَّنْبِيهِ مِنْ حَرْفِ الْهَاءِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَمِنْ كَلِمَةِ ((أَلَا)) الِافْتِتَاحِيَّةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) أَيْ تِلْكَ الْآيَاتُ الْبَعِيدَةُ الشَّأْوِ، الرَّفِيعَةُ الشَّأْنِ الَّتِي تَأَلَّفَتْ مِنْهَا هَذِهِ السُّورَةُ، أَوِ الْقُرْآنُ كُلُّهُ، هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِ بِالْحِكْمَةِ فِي مَعَانِيهِ، وَالْأَحْكَامِ فِي مَبَانِيهِ، الْحَقِيقِ بِهِدَايَةِ مُتَدَبِّرِهِ وَوَاعِيهِ.
(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ عَجَبِ الْكُفَّارِ وَاسْتِنْكَارِ إِنْكَارِهِمْ لِلْوَحْيِ إِلَى رَجُلٍ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَالْوَحْيُ الْإِعْلَامُ الْخَفِيُّ
الْخَاصُّ لِامْرِئٍ بِمَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ. أَيْ أَكَانَ إِيحَاؤُنَا إِلَى رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا نُكْرًا اتَّخَذُوهُ أُعْجُوبَةً بَيْنَهُمْ يَتَفَكَّهُونَ بِاسْتِغْرَابِهَا؟ كَأَنَّ مُشَارَكَتَهُمْ لَهُ فِي الْبَشَرِيَّةِ يَمْنَعُ اخْتِصَاصَ اللهِ إِيَّاهُ بِمَا شَاءَ مِنَ الْعِلْمِ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ كُفَّارُ مَكَّةَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالنَّاسِ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ عَلَى الرِّسَالَةِ قَدْ سَبَقَتْهُمْ إِلَيْهَا أَقْوَامُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ
وَهُوَ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) (٧: ٦٣ و٦٩) وَهَذَا الْمَعْنَى مُكَرَّرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ دَحَضْنَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) ((أَنْ)) هَذِهِ مُفَسِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْإِنْذَارُ الْإِعْلَامُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَسَائِرِ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْمُقْتَرِنِ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ بِأَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ كَافَّةً (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) التَّبْشِيرُ مُقَابِلُ الْإِنْذَارِ، أَيِ الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِالْبِشَارَةِ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَالْمَعْنَى وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ خَاصَّةً (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يَجْزِيهِمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ - وَالصِّدْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ ضِدُّ الْكَذِبِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْإِيمَانِ وَصِدْقِ النِّيَّةِ وَالْوَفَاءِ وَسَائِرِ مَوَاقِفِ الْفَضَائِلِ، وَمِنْهُ فِي التَّنْزِيلِ (مَقْعَدِ صِدْقٍ) (٥٤: ٥٥) وَ (مُدْخَلَ صِدْقٍ) (١٧: ٨٠) وَ (مُخْرَجَ صِدْقٍ) (١٧: ٨٠) وَ (قَدَمَ صِدْقٍ) وَالْقَدَمُ هَاهُنَا السَّابِقَةُ وَالتَّقَدُّمُ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: سَابِقَةٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ سُمِّيَتْ قَدَمًا لِأَنَّ السَّبْقَ بِهَا كَمَا سُمِّيَتِ النِّعْمَةُ يَدًا لِأَنَّهَا تُعْطَى بِالْيَدِ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى الصِّدْقِ لِتَحَقُّقِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَنَالُونَهَا بِصِدْقِ الْقَوْلِ وَالنِّيَّةِ (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكُوفِيُّونَ (لَسَاحِرٌ) يَعْنُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْبَاقُونَ (لَسِحْرٌ) وَيَعْنُونَ بِهِ الْقُرْآنَ، وَكُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَدْ قَالُوا، وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ يُشِيرُ إِلَى إِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَإِنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّ الْقُرْآنَ سِحْرٌ جَاءَ بِهِ سَاحِرٌ يَتَضَمَّنُ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّهُمَا فَوْقَ الْمَعْهُودِ وَالْمَعْلُومِ لِلْبَشَرِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ الْمَقْدُورَةِ لَهُمْ، وَتَأْكِيدُ قَوْلِهِمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَإِنَّ وَاللَّامِ، وَبِوَصْفِ السِّحْرِ أَوِ
السَّاحِرِ بِالْمُبِينِ الظَّاهِرِ يُفِيدُ الْحَصْرَ كَقَوْلِ الْوَلِيدِ (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَسَمَّوْهُ سِحْرًا لِأَنَّهُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ بِقُوَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي الْقُلُوبِ وَجَذْبِهِ لِلنُّفُوسِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَحَمْلِهَا عَلَى احْتِقَارِ الْحَيَاةِ وَلَذَّاتِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى إِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَزَوْجِهِ وَبَنِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَتَمْنَعُهُ وَتَحْمِيهِ. وَإِنَّمَا السِّحْرُ مَا كَانَ بِأَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ خَاصَّةٍ بِبَعْضِ النَّاسِ يَتَعَلَّمُهَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ إِمَّا حِيَلٌ وَشَعْوَذَةٌ، وَإِمَّا خَوَاصُّ طَبِيعِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ مَجْهُولَةٌ لِلْجَمَاهِيرِ، وَإِمَّا تَأْثِيرُ قُوَى النَّفْسِ وَتَوْجِيهُ الْإِرَادَةِ، وَكُلُّهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْعَارِفِينَ بِهَا وَقَدِ اسْتَبَانَ لِعَامَّةِ الْعَرَبِ ثُمَّ لِغَيْرِهِمْ مِنْ شُعُوبِ الْعَجَمِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِسِحْرٍ يُؤْثَرُ بِالتَّعْلِيمِ وَالصِّنَاعَةِ، بَلْ هُوَ مَجْمُوعَةُ عُلُومٍ عَالِيَةٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالتَّشْرِيعِ وَالِاجْتِمَاعِ مُرَقِّيَةٌ لِلْعُقُولِ، مُزَكِّيَةٌ لِلْأَنْفُسِ، مُصْلِحَةٌ لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُ مُعْجِزٌ لِلْبَشَرِ فِي أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعَانِيهِ وَهِدَايَتِهِ وَتَشْرِيعِهِ وَإِخْبَارِهِ
السَّاحِرِ بِالْمُبِينِ الظَّاهِرِ يُفِيدُ الْحَصْرَ كَقَوْلِ الْوَلِيدِ (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَسَمَّوْهُ سِحْرًا لِأَنَّهُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ بِقُوَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي الْقُلُوبِ وَجَذْبِهِ لِلنُّفُوسِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَحَمْلِهَا عَلَى احْتِقَارِ الْحَيَاةِ وَلَذَّاتِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى إِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَزَوْجِهِ وَبَنِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَتَمْنَعُهُ وَتَحْمِيهِ. وَإِنَّمَا السِّحْرُ مَا كَانَ بِأَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ خَاصَّةٍ بِبَعْضِ النَّاسِ يَتَعَلَّمُهَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ إِمَّا حِيَلٌ وَشَعْوَذَةٌ، وَإِمَّا خَوَاصُّ طَبِيعِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ مَجْهُولَةٌ لِلْجَمَاهِيرِ، وَإِمَّا تَأْثِيرُ قُوَى النَّفْسِ وَتَوْجِيهُ الْإِرَادَةِ، وَكُلُّهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْعَارِفِينَ بِهَا وَقَدِ اسْتَبَانَ لِعَامَّةِ الْعَرَبِ ثُمَّ لِغَيْرِهِمْ مِنْ شُعُوبِ الْعَجَمِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِسِحْرٍ يُؤْثَرُ بِالتَّعْلِيمِ وَالصِّنَاعَةِ، بَلْ هُوَ مَجْمُوعَةُ عُلُومٍ عَالِيَةٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالتَّشْرِيعِ وَالِاجْتِمَاعِ مُرَقِّيَةٌ لِلْعُقُولِ، مُزَكِّيَةٌ لِلْأَنْفُسِ، مُصْلِحَةٌ لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُ مُعْجِزٌ لِلْبَشَرِ فِي أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعَانِيهِ وَهِدَايَتِهِ وَتَشْرِيعِهِ وَإِخْبَارِهِ
119
بِالْغَيْبِ (١) وَأَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَلِّغٌ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَقْدِرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْهُ غَيْرُهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ نَبِيُّ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ وَحْيٌ مِنْهُ تَعَالَى.
وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْوَحْيِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَإِثْبَاتَهُ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا مَا فِي بَحْثِ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي (ص ١٨١ - ١٨٢ ج ١ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا تَفْسِيرُ (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ) (٤: ١٦٣) الْآيَةَ. وَهُوَ فِي (ص ٥٥ وَمَا بَعْدَهَا ج ٦ ط الْهَيْئَةِ). وَمِنْهَا رَدُّ شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (ص ٢٥٨ - ٢٦٧ ج ٧ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا فِي خُلَاصَتِهِمَا (ص ٢٤٢ - ٢٤٧ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ بِمُنَاسَبَةِ تَكْلِيمِ اللهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (ص ١٥٤ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ) وَبَقِيَ عَلَيْنَا بَسْطُ الْقَوْلِ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ مَعَ مُثْبِتِي الْوَحْيِ وَنُفَاتِهِ، وَشُبْهَةُ النُّفَاةِ لِعَالَمِ الْغَيْبِ عَلَيْهَا وَتَصْوِيرُهُمْ لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ بِغَيْرِ صُورَتِهِ، فَنَعْقِدُ لَهُ الْفَصْلَ التَّالِيَ:
فَصْلٌ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مُثْبِتِي الْوَحْيِ وَنُفَاتِهِ
(فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
الْكَلَامُ فِي الْوَحْيِ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مُثْبِتِي الْوَحْيِ:
أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِكُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ، وَعَلَى الْقُرْآنِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَالسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلِمَ عِلْمًا عَقْلِيًّا وِجْدَانِيًّا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُؤْمِنَ إِيمَانًا عِلْمِيًّا بِأَنَّ تِلْكَ كُتُبُ وَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ كَتَبُوهَا أَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ فِيمَا كَتَبُوهُ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مَعْصُومٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ فَقِيهٌ أَنْ يُنْكِرَ فِقْهَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا نَحْوِيٌّ أَنْ يَجْحَدَ نَحْوَ سِيبَوَيْهِ وَابْنِ جِنِّيٍّ، وَلَا شَاعِرٌ أَنْ يَنْفِيَ شَاعِرِيَّةَ الرَّضِيِّ وَالْبُحْتُرِيِّ، بَلْ كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ بَصِيرٌ أَنْ يُكَابِرَ حِسَّهُ فَيُفَضِّلَ نُورَ الْقَمَرِ وَالْكَوْكَبِ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ، أَوْ نُورَ السِّرَاجِ عَلَى نُورِ النَّهَارِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْبُوصِيرِيِّ حَيْثُ قَالَ:
اللهُ أَكْبَرُ إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ وَكِتَابَهُ أَقْوَى وَأَقْوَمُ قِيلًا
لَا تَذْكُرُوا الْكُتُبَ السَّوَالِفَ عِنْدَهُ
طَلَعَ الصَّبَاحُ فَأَطْفِئِ الْقِنْدِيلَا
وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الَّذِينَ نَشَئُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَأَحَاطُوا بِهَا عِلْمًا وَخَبَرًا، ثُمَّ عَرَفُوا الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً وَلَوْ غَيْرَ تَامَّةٍ. وَهَاكَ شَهَادَةً حَدِيثَةً لِعَالِمٍ مُسْتَشْرِقٍ مِنْهُمْ.
وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْوَحْيِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَإِثْبَاتَهُ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا مَا فِي بَحْثِ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي (ص ١٨١ - ١٨٢ ج ١ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا تَفْسِيرُ (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ) (٤: ١٦٣) الْآيَةَ. وَهُوَ فِي (ص ٥٥ وَمَا بَعْدَهَا ج ٦ ط الْهَيْئَةِ). وَمِنْهَا رَدُّ شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (ص ٢٥٨ - ٢٦٧ ج ٧ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا فِي خُلَاصَتِهِمَا (ص ٢٤٢ - ٢٤٧ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ بِمُنَاسَبَةِ تَكْلِيمِ اللهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (ص ١٥٤ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ) وَبَقِيَ عَلَيْنَا بَسْطُ الْقَوْلِ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ مَعَ مُثْبِتِي الْوَحْيِ وَنُفَاتِهِ، وَشُبْهَةُ النُّفَاةِ لِعَالَمِ الْغَيْبِ عَلَيْهَا وَتَصْوِيرُهُمْ لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ بِغَيْرِ صُورَتِهِ، فَنَعْقِدُ لَهُ الْفَصْلَ التَّالِيَ:
فَصْلٌ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مُثْبِتِي الْوَحْيِ وَنُفَاتِهِ
(فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
الْكَلَامُ فِي الْوَحْيِ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مُثْبِتِي الْوَحْيِ:
أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِكُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ، وَعَلَى الْقُرْآنِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَالسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلِمَ عِلْمًا عَقْلِيًّا وِجْدَانِيًّا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُؤْمِنَ إِيمَانًا عِلْمِيًّا بِأَنَّ تِلْكَ كُتُبُ وَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ كَتَبُوهَا أَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ فِيمَا كَتَبُوهُ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مَعْصُومٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ فَقِيهٌ أَنْ يُنْكِرَ فِقْهَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا نَحْوِيٌّ أَنْ يَجْحَدَ نَحْوَ سِيبَوَيْهِ وَابْنِ جِنِّيٍّ، وَلَا شَاعِرٌ أَنْ يَنْفِيَ شَاعِرِيَّةَ الرَّضِيِّ وَالْبُحْتُرِيِّ، بَلْ كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ بَصِيرٌ أَنْ يُكَابِرَ حِسَّهُ فَيُفَضِّلَ نُورَ الْقَمَرِ وَالْكَوْكَبِ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ، أَوْ نُورَ السِّرَاجِ عَلَى نُورِ النَّهَارِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْبُوصِيرِيِّ حَيْثُ قَالَ:
اللهُ أَكْبَرُ إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ وَكِتَابَهُ أَقْوَى وَأَقْوَمُ قِيلًا
لَا تَذْكُرُوا الْكُتُبَ السَّوَالِفَ عِنْدَهُ
طَلَعَ الصَّبَاحُ فَأَطْفِئِ الْقِنْدِيلَا
وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الَّذِينَ نَشَئُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَأَحَاطُوا بِهَا عِلْمًا وَخَبَرًا، ثُمَّ عَرَفُوا الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً وَلَوْ غَيْرَ تَامَّةٍ. وَهَاكَ شَهَادَةً حَدِيثَةً لِعَالِمٍ مُسْتَشْرِقٍ مِنْهُمْ.
120
كَتَبَ الْأُسْتَاذُ إِدْوَارْ مُونْتِيهِ الْمُسْتَشْرِقُ مُدَرِّسُ اللُّغَاتِ الشَّرْقِيَّةِ فِي مَدْرَسَةِ جِنِيفَ الْجَامِعَةِ فِي مُقَدِّمَةِ تَرْجَمَتِهِ الْفَرَنْسِيَّةِ لِلْقُرْآنِ مَا تَرْجَمْتُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ.
((كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا صَادِقًا كَمَا كَانَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقَدِيمِ، كَانَ مِثْلُهُمْ يُؤْتَى رُؤْيَا وَيُوحَى إِلَيْهِ، وَكَانَتِ الْعَقِيدَةُ الدِّينِيَّةُ وَفِكْرَةُ وُجُودِ الْأُلُوهِيَّةِ مُتَمَكِّنَتَيْنِ فِيهِ كَمَا كَانَتَا مُتَمَكِّنَتَيْنِ فِي أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ أَسْلَافِهِ، فَتُحْدِثُ فِيهِ كَمَا كَانَتْ تُحْدِثُ فِيهِمْ
ذَلِكَ الْإِلْهَامَ النَّفْسِيَّ، وَهَذَا التَّضَاعُفُ فِي الشَّخْصِيَّةِ اللَّذَيْنِ يُحْدِثَانِ فِي الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ الْمَرَائِيَ، وَالتَّجَلِّيَاتِ، وَالْوَحْيَ، وَالْأَحْوَالَ الرُّوحِيَّةَ الَّتِي مِنْ بَابِهَا)) اهـ.
فَهَذَا الْعَالِمُ الْأُورُبِّيُّ الْمُسْتَقِلُّ الْفِكْرِ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ بِهِ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْبِيَاءَ كَانَ ثَابِتًا لِمُحَمَّدٍ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ جَمِيعَ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ هِيَ أَكْمَلُ شَكْلًا وَمَوْضُوعًا وَأَصَحُّ رِوَايَةً وَأَبْعَدُ عَنِ الشُّبَهَاتِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ، وَأَمَّا مَا فُسِّرَ بِهِ هَذِهِ الْخَصَائِصُ فَهُوَ التَّعْلِيلُ الَّذِي يُعَلِّلُ بِهِ الْمَادِّيُّونَ الْوَحْيَ الْمُطْلَقَ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ.
وَقَدْ لَخَّصَ هَذَا الْعَالِمُ خَبَرَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كُتُبٍ إِسْلَامِيَّةٍ مُذْعِنًا لِصِحَّةِ رِوَايَتِهَا وَفَصَّلَهَا بَعْدَهُ الْعَالِمُ الْمُسْتَشْرِقُ الْفَرَنْسِيُّ إِمِيلْ دِرِمْنِغَامْ فِي كِتَابِهِ (حَيَاةُ مُحَمَّدٍ) مُذْعِنًا لِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ وَلِمَوْضُوعِهَا مُفَصِّلًا نُبُوَّتَهُ فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ، مُتَمَنِّيًا الِاتِّفَاقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى، آسِفًا لِلشِّقَاقِ بَيْنَهُمْ.
وَإِنَّنَا نَنْقُلُ هُنَا تَعْرِيفَ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْآيَاتِ (الْعَجَائِبِ) عَنْ أَحَدِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالتَّوَارِيخِ وَهُوَ الدُّكْتُورُ جُورْجُ بُوسْتِ الشَّهِيرُ مُؤَلِّفُ كِتَابِ (قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ) بِالْعَرَبِيَّةِ ; لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا الْبَاحِثُ الْمُسْتَقِلُّ الْعَقْلِ حُكْمَهُ فِي نُبُوَّةِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوُحْيِهِمْ، وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَالْوَحْيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
تَعْرِيفُ الْوَحْيِ عِنْدَهُمْ
جَاءَ فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ ((وَحْيٍ)) مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ مَعَ حَذْفِ رُمُوزِ الشَّوَاهِدِ:
((تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّةٍ خَاصَّةٍ بِمَدِينَةٍ أَوْ شَعْبٍ، وَجَاءَ فِي (حَزَّ ١٢: ١) وَهَذَا الْوَحْيُ هُوَ الرَّئِيسُ)) أَيْ أَنَّهُ آيَةٌ لِلشَّعْبِ. وَعَلَى الْعُمُومِ يُرَادُ بِالْوَحْيِ الْإِلْهَامُ. وَعَلَى ذَلِكَ
((كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا صَادِقًا كَمَا كَانَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقَدِيمِ، كَانَ مِثْلُهُمْ يُؤْتَى رُؤْيَا وَيُوحَى إِلَيْهِ، وَكَانَتِ الْعَقِيدَةُ الدِّينِيَّةُ وَفِكْرَةُ وُجُودِ الْأُلُوهِيَّةِ مُتَمَكِّنَتَيْنِ فِيهِ كَمَا كَانَتَا مُتَمَكِّنَتَيْنِ فِي أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ أَسْلَافِهِ، فَتُحْدِثُ فِيهِ كَمَا كَانَتْ تُحْدِثُ فِيهِمْ
ذَلِكَ الْإِلْهَامَ النَّفْسِيَّ، وَهَذَا التَّضَاعُفُ فِي الشَّخْصِيَّةِ اللَّذَيْنِ يُحْدِثَانِ فِي الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ الْمَرَائِيَ، وَالتَّجَلِّيَاتِ، وَالْوَحْيَ، وَالْأَحْوَالَ الرُّوحِيَّةَ الَّتِي مِنْ بَابِهَا)) اهـ.
فَهَذَا الْعَالِمُ الْأُورُبِّيُّ الْمُسْتَقِلُّ الْفِكْرِ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ بِهِ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْبِيَاءَ كَانَ ثَابِتًا لِمُحَمَّدٍ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ جَمِيعَ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ هِيَ أَكْمَلُ شَكْلًا وَمَوْضُوعًا وَأَصَحُّ رِوَايَةً وَأَبْعَدُ عَنِ الشُّبَهَاتِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ، وَأَمَّا مَا فُسِّرَ بِهِ هَذِهِ الْخَصَائِصُ فَهُوَ التَّعْلِيلُ الَّذِي يُعَلِّلُ بِهِ الْمَادِّيُّونَ الْوَحْيَ الْمُطْلَقَ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ.
وَقَدْ لَخَّصَ هَذَا الْعَالِمُ خَبَرَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كُتُبٍ إِسْلَامِيَّةٍ مُذْعِنًا لِصِحَّةِ رِوَايَتِهَا وَفَصَّلَهَا بَعْدَهُ الْعَالِمُ الْمُسْتَشْرِقُ الْفَرَنْسِيُّ إِمِيلْ دِرِمْنِغَامْ فِي كِتَابِهِ (حَيَاةُ مُحَمَّدٍ) مُذْعِنًا لِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ وَلِمَوْضُوعِهَا مُفَصِّلًا نُبُوَّتَهُ فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ، مُتَمَنِّيًا الِاتِّفَاقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى، آسِفًا لِلشِّقَاقِ بَيْنَهُمْ.
وَإِنَّنَا نَنْقُلُ هُنَا تَعْرِيفَ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْآيَاتِ (الْعَجَائِبِ) عَنْ أَحَدِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالتَّوَارِيخِ وَهُوَ الدُّكْتُورُ جُورْجُ بُوسْتِ الشَّهِيرُ مُؤَلِّفُ كِتَابِ (قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ) بِالْعَرَبِيَّةِ ; لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا الْبَاحِثُ الْمُسْتَقِلُّ الْعَقْلِ حُكْمَهُ فِي نُبُوَّةِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوُحْيِهِمْ، وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَالْوَحْيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
تَعْرِيفُ الْوَحْيِ عِنْدَهُمْ
جَاءَ فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ ((وَحْيٍ)) مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ مَعَ حَذْفِ رُمُوزِ الشَّوَاهِدِ:
((تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّةٍ خَاصَّةٍ بِمَدِينَةٍ أَوْ شَعْبٍ، وَجَاءَ فِي (حَزَّ ١٢: ١) وَهَذَا الْوَحْيُ هُوَ الرَّئِيسُ)) أَيْ أَنَّهُ آيَةٌ لِلشَّعْبِ. وَعَلَى الْعُمُومِ يُرَادُ بِالْوَحْيِ الْإِلْهَامُ. وَعَلَى ذَلِكَ
121
يُقَالُ: ((إِنَّ كُلَّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ)) وَالْوَحْيُ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ حُلُولُ رُوحِ
اللهِ فِي رُوحِ الْكُتَّابِ الْمُلْهَمِينَ وَذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ.
(١) إِفَادَتُهُمْ بِحَقَائِقَ رُوحِيَّةٍ أَوْ حَوَادِثَ مُسْتَقْبَلَةٍ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِهِ.
(٢) إِرْشَادُهُمْ إِلَى تَأْلِيفِ حَوَادِثَ مَعْرُوفَةٍ أَوْ حَقَائِقَ مُقَرَّرَةٍ، وَالتَّفَوُّهُ بِهَا شِفَاهًا أَوْ تَدْوِينُهَا كِتَابَةً بِحَيْثُ يُعْصَمُونَ مِنَ الْخَطَأِ فَيُقَالُ ((تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ)) وَهُنَا لَا يَفْقِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَوِ الْكَاتِبُ شَيْئًا مِنْ شَخْصِيَّتِهِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرُّوحُ الْإِلَهِيُّ بِحَيْثُ يَسْتَعْمِلُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقُوَى وَالصِّفَاتِ وَفْقَ إِرْشَادِهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا تَرَى فِي كُلِّ مُؤَلِّفٍ مِنَ الْكُتَّابِ الْكِرَامِ مَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْمَوَاهِبِ الطَّبِيعِيَّةِ وَنَمَطِ التَّأْلِيفِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ، وَفِي شَرْحِ هَذَا التَّعْلِيمِ دِقَّةٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَوْرَدُوهُ مِنْ شَرْحِهِ، غَيْرَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَسِيحِيِّينَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ قَدْ أَوْحَى لِأُولَئِكَ الْكُتَّابِ لِيُدَوِّنُوا إِرَادَتَهُ وَيُفِيدُوا الْإِنْسَانَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ لِكَيْ يَنَالَ الْخَلَاصَ الْأَبَدِيَّ)) اهـ.
تَعْرِيفُ النُّبُوَّةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عِنْدَهُمْ
وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ ((نَبِيٍّ. أَنْبِيَاءَ. نُبُوَّةٍ)) مِنْهُ مَا نَصُّهُ:
((النُّبُوَّةُ لَفْظَةٌ تُفِيدُ مَعْنَى الْإِخْبَارِ عَنِ اللهِ وَعَنِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا عَمَّا سَيَحْدُثُ فِيمَا بَعْدُ.
وَسُمِّي هَارُونُ نَبِيًّا ; لِأَنَّهُ كَانَ الْمُخْبِرَ وَالْمُتَكَلِّمَ عَنْ مُوسَى نَظَرًا لِفَصَاحَتِهِ. أَمَّا أَنْبِيَاءُ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ فَكَانُوا يُنَادُونَ بِالشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَيُنَبِّئُونَ بِمَجِيءِ الْمَسِيحِ. وَلَمَّا قَلَّتْ رَغْبَةُ الْكَهَنَةِ وَقَلَّ اهْتِمَامُهُمْ بِالتَّعْلِيمِ وَالْعِلْمِ فِي أَيَّامِ صَمُوئِيلَ أَقَامَ مَدْرَسَةً فِي الرَّامَّةِ وَأَطْلَقَ عَلَى تَلَامِذَتِهَا اسْمَ بَنِي الْأَنْبِيَاءِ فَاشْتُهِرَ مِنْ ثَمَّ صَمُوئِيلُ بِإِحْيَاءِ الشَّرِيعَةِ وَقُرِنَ اسْمُهُ بَاسِمِ مُوسَى وَهَارُونَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكِتَابِ، وَتَأَسَّسَتْ أَيْضًا مَدَارِسُ أُخْرَى لِلْأَنْبِيَاءِ فِي بَيْتِ أُبَلَّ وَأَرِيحَا وَالْجَلْجَالِ وَأَمَاكِنَ أُخْرَى. وَكَانَ رَئِيسُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ يُدْعَى أَبًا أَوْ سَيِّدًا، وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي هَذِهِ الْمَدَارِسِ تَفْسِيرَ التَّوْرَاةِ وَالْمُوسِيقَى وَالشِّعْرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ شُعَرَاءَ وَأَغْلَبُهُمْ كَانُوا يُرَنِّمُونَ وَيَلْعَبُونَ عَلَى آلَاتِ الطَّرَبِ. وَكَانَتِ الْغَايَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَدَارِسِ أَنْ يُرَشَّحَ الطَّلَبَةُ فِيهَا لِتَعْلِيمِ الشَّعْبِ.
أَمَّا مَعِيشَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَنِي الْأَنْبِيَاءِ فَكَانَتْ سَاذَجَةً لِلْغَايَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانُوا مُتَنَسِّكِينَ أَوْ طَوَّافِينَ يُضَافُونَ عِنْدَ الْأَتْقِيَاءِ.
((وَيَظْهَرُ أَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الَّذِينَ تَعَلَّمُوا فِي تِلْكَ الْمَدَارِسِ لَمْ يُعْطُوا قُوَّةً عَلَى الْإِنْبَاءِ بِمَا سَيَأْتِي، إِنَّمَا اخْتُصَّ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ أُنَاسٌ مِنْهُمْ كَانَ اللهُ يُقَيِّمُهُمْ وَقْتًا دُونَ آخَرَ حَسَبَ مَشِيئَتِهِ، وَيَعِدُهُمْ بِتَرْبِيَةٍ فَوْقَ الْعَادَةِ لِوَاجِبَاتِهِمُ الْخَطِيرَةِ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُلْهَمِينَ كَانَ يَخُصُّهُمُ اللهُ بِوَحْيِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا مِنْ قَبْلُ وَلَا دَخَلُوا تِلْكَ الْمَدَارِسَ كَعَامُوسَ مَثَلًا فَإِنَّهُ كَانَ رَاعِيًا وَجَانِيَ
اللهِ فِي رُوحِ الْكُتَّابِ الْمُلْهَمِينَ وَذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ.
(١) إِفَادَتُهُمْ بِحَقَائِقَ رُوحِيَّةٍ أَوْ حَوَادِثَ مُسْتَقْبَلَةٍ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِهِ.
(٢) إِرْشَادُهُمْ إِلَى تَأْلِيفِ حَوَادِثَ مَعْرُوفَةٍ أَوْ حَقَائِقَ مُقَرَّرَةٍ، وَالتَّفَوُّهُ بِهَا شِفَاهًا أَوْ تَدْوِينُهَا كِتَابَةً بِحَيْثُ يُعْصَمُونَ مِنَ الْخَطَأِ فَيُقَالُ ((تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ)) وَهُنَا لَا يَفْقِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَوِ الْكَاتِبُ شَيْئًا مِنْ شَخْصِيَّتِهِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرُّوحُ الْإِلَهِيُّ بِحَيْثُ يَسْتَعْمِلُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقُوَى وَالصِّفَاتِ وَفْقَ إِرْشَادِهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا تَرَى فِي كُلِّ مُؤَلِّفٍ مِنَ الْكُتَّابِ الْكِرَامِ مَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْمَوَاهِبِ الطَّبِيعِيَّةِ وَنَمَطِ التَّأْلِيفِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ، وَفِي شَرْحِ هَذَا التَّعْلِيمِ دِقَّةٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَوْرَدُوهُ مِنْ شَرْحِهِ، غَيْرَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَسِيحِيِّينَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ قَدْ أَوْحَى لِأُولَئِكَ الْكُتَّابِ لِيُدَوِّنُوا إِرَادَتَهُ وَيُفِيدُوا الْإِنْسَانَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ لِكَيْ يَنَالَ الْخَلَاصَ الْأَبَدِيَّ)) اهـ.
تَعْرِيفُ النُّبُوَّةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عِنْدَهُمْ
وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ ((نَبِيٍّ. أَنْبِيَاءَ. نُبُوَّةٍ)) مِنْهُ مَا نَصُّهُ:
((النُّبُوَّةُ لَفْظَةٌ تُفِيدُ مَعْنَى الْإِخْبَارِ عَنِ اللهِ وَعَنِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا عَمَّا سَيَحْدُثُ فِيمَا بَعْدُ.
وَسُمِّي هَارُونُ نَبِيًّا ; لِأَنَّهُ كَانَ الْمُخْبِرَ وَالْمُتَكَلِّمَ عَنْ مُوسَى نَظَرًا لِفَصَاحَتِهِ. أَمَّا أَنْبِيَاءُ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ فَكَانُوا يُنَادُونَ بِالشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَيُنَبِّئُونَ بِمَجِيءِ الْمَسِيحِ. وَلَمَّا قَلَّتْ رَغْبَةُ الْكَهَنَةِ وَقَلَّ اهْتِمَامُهُمْ بِالتَّعْلِيمِ وَالْعِلْمِ فِي أَيَّامِ صَمُوئِيلَ أَقَامَ مَدْرَسَةً فِي الرَّامَّةِ وَأَطْلَقَ عَلَى تَلَامِذَتِهَا اسْمَ بَنِي الْأَنْبِيَاءِ فَاشْتُهِرَ مِنْ ثَمَّ صَمُوئِيلُ بِإِحْيَاءِ الشَّرِيعَةِ وَقُرِنَ اسْمُهُ بَاسِمِ مُوسَى وَهَارُونَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكِتَابِ، وَتَأَسَّسَتْ أَيْضًا مَدَارِسُ أُخْرَى لِلْأَنْبِيَاءِ فِي بَيْتِ أُبَلَّ وَأَرِيحَا وَالْجَلْجَالِ وَأَمَاكِنَ أُخْرَى. وَكَانَ رَئِيسُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ يُدْعَى أَبًا أَوْ سَيِّدًا، وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي هَذِهِ الْمَدَارِسِ تَفْسِيرَ التَّوْرَاةِ وَالْمُوسِيقَى وَالشِّعْرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ شُعَرَاءَ وَأَغْلَبُهُمْ كَانُوا يُرَنِّمُونَ وَيَلْعَبُونَ عَلَى آلَاتِ الطَّرَبِ. وَكَانَتِ الْغَايَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَدَارِسِ أَنْ يُرَشَّحَ الطَّلَبَةُ فِيهَا لِتَعْلِيمِ الشَّعْبِ.
أَمَّا مَعِيشَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَنِي الْأَنْبِيَاءِ فَكَانَتْ سَاذَجَةً لِلْغَايَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانُوا مُتَنَسِّكِينَ أَوْ طَوَّافِينَ يُضَافُونَ عِنْدَ الْأَتْقِيَاءِ.
((وَيَظْهَرُ أَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الَّذِينَ تَعَلَّمُوا فِي تِلْكَ الْمَدَارِسِ لَمْ يُعْطُوا قُوَّةً عَلَى الْإِنْبَاءِ بِمَا سَيَأْتِي، إِنَّمَا اخْتُصَّ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ أُنَاسٌ مِنْهُمْ كَانَ اللهُ يُقَيِّمُهُمْ وَقْتًا دُونَ آخَرَ حَسَبَ مَشِيئَتِهِ، وَيَعِدُهُمْ بِتَرْبِيَةٍ فَوْقَ الْعَادَةِ لِوَاجِبَاتِهِمُ الْخَطِيرَةِ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُلْهَمِينَ كَانَ يَخُصُّهُمُ اللهُ بِوَحْيِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا مِنْ قَبْلُ وَلَا دَخَلُوا تِلْكَ الْمَدَارِسَ كَعَامُوسَ مَثَلًا فَإِنَّهُ كَانَ رَاعِيًا وَجَانِيَ
122
جُمَّيْزٍ. أَمَّا النُّبُوَّةُ فَكَانَتْ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْأَحْلَامِ وَالرُّؤَى وَالتَّبْلِيغِ، وَأَحْيَانًا كَثِيرَةً كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَرَوْنَ الْأُمُورَ الْمُسْتَقْبَلَةَ بِدُونِ تَمْيِيزِ أَزْمِنَتِهَا، فَكَانَتْ تَقْتَرِنُ فِي رُؤَاهُمُ الْحَوَادِثُ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ مَعَ الْبَعِيدَةِ كَاقْتِرَانِ نَجَاةِ الْيَهُودِ مِنَ الْآشُورِيِّينَ بِخَلَاصِ الْعَالِمِ بِوَاسِطَةِ الْمَسِيحِ، وَكَانْتِصَارِ إِسْكَنْدَرَ ذِي الْقَرْنَيْنِ بِإِتْيَانِ الْمَسِيحِ، وَكَاقْتِرَانِ انْسِكَابِ الرُّوحِ الْقُدُسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ بِيَوْمِ الْحَشْرِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اقْتِرَانُ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ بِحَوَادِثِ يَوْمِ الدَّيْنُونَةِ.
((وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ الْأَنْبِيَاءَ الْمُلْهَمِينَ لِيُعْلِنُوا مَشِيئَتَهُ وَلِيُصْلِحُوا الشُّئُونَ الدِّينِيَّةَ، وَعَلَى الْأَخَصِّ لِيُخْبِرُوا بِالْمَسِيحِ الْآتِي لِتَخْلِيصِ الْعَالَمِ، وَكَانُوا الْقُوَّةَ الْعَظِيمَةَ الْفَعَّالَةَ فِي تَعْلِيمِ الشَّعْبِ وَتَنْبِيهِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ، وَكَانَ لَهُمْ دَخْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ انْتَهَى بِنَصِّهِ.
مَا يَرِدُ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ مِنْ تَعْرِيفِهَا:
أَمَّا تَفْسِيرُ الْإِلْهَامِ بِحُلُولِ رُوحِ اللهِ فِي رُوحِ الْمُلْهَمِ فَهُوَ تَحَكُّمٌ لِلنَّصَارَى لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَعْتَرِفُ بِهِ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا عُلَمَاؤُهُمْ. وَلَا يُمْكِنُهُمْ إِثْبَاتُهُ وَلَا دَفْعُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَالْخُلْفِ فِيمَا كَتَبَهُ أُولَئِكَ الْمُلْهَمُونَ وَمَا خَالَفُوا فِيهِ الْوَاقِعَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فَى شَرْحِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ دِقَّةً وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شَرْحِهِ إِلَخْ، وَمَنْ حَلَّ فِيهِ رُوحُ اللهِ صَارَ إِلَهًا ; إِذًا الْمَسِيحُ لَمْ يَكُنْ إِلَهًا عِنْدَ النَّصَارَى إِلَّا بِهَذَا الْحُلُولِ، فَكَيْفَ يَقَعُ فِي مِثْلِ مَا ذُكِرَ وَيَتَخَلَّفُ وَحْيُهُ أَوْ يُخَالِفُ الْوَاقِعَ؟
وَأَمَّا كَلَامُهُ فِي النُّبُوَّةِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يَأْتِي:
(١) إِنَّ أَكْثَرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَتَخَرَّجُونَ فِي مَدَارِسَ خَاصَّةٍ بِهِمْ يَتَعَلَّمُونَ فِيهَا تَفْسِيرَ شَرِيعَتِهِمُ التَّوْرَاةَ وَالْمُوسِيقَى وَالشِّعْرَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا شُعَرَاءَ وَمُغَنِّينَ وَعَزَّافِينَ عَلَى آلَاتِ الطَّرَبِ، وَبَارِعِينَ فِي كُلِّ مَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَنْفُسِ وَيُحَرِّكُ الشُّعُورَ
وَالْوِجْدَانَ، وَيُثِيرُ رَوَاكِدَ الْخَيَالِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ عِزْرَا وَنَحْمِيَا مِنْ أَعْظَمِ أَنْبِيَائِهِمْ سَاقِيَيْنِ مِنْ سُقَاةِ الْخَمْرِ لِمَلِكِ بَابِلَ (أَرْتَحْشَشْتَا) وَمُغَنِّيَيْنِ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَا قَدِ اسْتَعَانَا بِتَأْثِيرِ غِنَائِهِمَا فِي نَفْسِهِ عَلَى سَمَاحِهِ لَهُمَا بِالْعَوْدَةِ بِقَوْمِهِمَا إِلَى وَطَنِهِمَا وَإِقَامَةِ دِينِهِمَا فِيهِ.
فَالنُّبُوَّةُ عَلَى هَذَا كَانَتْ صِنَاعَةً تُعَلَّمُ مَوَادُّهَا فِي الْمَدَارِسِ وَيُسْتَعَانُ عَلَى الْإِقْنَاعِ بِهَا بِالتَّخْيِيلَاتِ الشِّعْرِيَّةِ وَالْإِلْهَامَاتِ الْكَلَامِيَّةِ، وَالْمُؤَثِّرَاتِ الْغِنَائِيَّةِ وَالْمُوسِيقِيَّةِ. وَالْمَعْلُومَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ فَأَيْنَ هِيَ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا وَلَمْ يَقُلْ شِعْرًا، وَقَدْ جَاءَ بِأَعْظَمِ مِمَّا جَاءُوا بِهِ كُلُّهُمْ؟
(٢) إِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَوْلَادِهِمْ كَانُوا مُتَنَسِّكِينَ أَوْ طَوَّافِينَ عَلَى النَّاسِ يَعِيشُونَ ضُيُوفًا عِنْدَ الْأَتْقِيَاءِ الْمُحِبِّينَ لِرِجَالِ الدِّينِ كَمَا هُوَ مِنْ دَرَاوِيشِ الْمُتَصَوِّفَةِ أَهْلِ
((وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ الْأَنْبِيَاءَ الْمُلْهَمِينَ لِيُعْلِنُوا مَشِيئَتَهُ وَلِيُصْلِحُوا الشُّئُونَ الدِّينِيَّةَ، وَعَلَى الْأَخَصِّ لِيُخْبِرُوا بِالْمَسِيحِ الْآتِي لِتَخْلِيصِ الْعَالَمِ، وَكَانُوا الْقُوَّةَ الْعَظِيمَةَ الْفَعَّالَةَ فِي تَعْلِيمِ الشَّعْبِ وَتَنْبِيهِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ، وَكَانَ لَهُمْ دَخْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ انْتَهَى بِنَصِّهِ.
مَا يَرِدُ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ مِنْ تَعْرِيفِهَا:
أَمَّا تَفْسِيرُ الْإِلْهَامِ بِحُلُولِ رُوحِ اللهِ فِي رُوحِ الْمُلْهَمِ فَهُوَ تَحَكُّمٌ لِلنَّصَارَى لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَعْتَرِفُ بِهِ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا عُلَمَاؤُهُمْ. وَلَا يُمْكِنُهُمْ إِثْبَاتُهُ وَلَا دَفْعُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَالْخُلْفِ فِيمَا كَتَبَهُ أُولَئِكَ الْمُلْهَمُونَ وَمَا خَالَفُوا فِيهِ الْوَاقِعَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فَى شَرْحِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ دِقَّةً وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شَرْحِهِ إِلَخْ، وَمَنْ حَلَّ فِيهِ رُوحُ اللهِ صَارَ إِلَهًا ; إِذًا الْمَسِيحُ لَمْ يَكُنْ إِلَهًا عِنْدَ النَّصَارَى إِلَّا بِهَذَا الْحُلُولِ، فَكَيْفَ يَقَعُ فِي مِثْلِ مَا ذُكِرَ وَيَتَخَلَّفُ وَحْيُهُ أَوْ يُخَالِفُ الْوَاقِعَ؟
وَأَمَّا كَلَامُهُ فِي النُّبُوَّةِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يَأْتِي:
(١) إِنَّ أَكْثَرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَتَخَرَّجُونَ فِي مَدَارِسَ خَاصَّةٍ بِهِمْ يَتَعَلَّمُونَ فِيهَا تَفْسِيرَ شَرِيعَتِهِمُ التَّوْرَاةَ وَالْمُوسِيقَى وَالشِّعْرَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا شُعَرَاءَ وَمُغَنِّينَ وَعَزَّافِينَ عَلَى آلَاتِ الطَّرَبِ، وَبَارِعِينَ فِي كُلِّ مَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَنْفُسِ وَيُحَرِّكُ الشُّعُورَ
وَالْوِجْدَانَ، وَيُثِيرُ رَوَاكِدَ الْخَيَالِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ عِزْرَا وَنَحْمِيَا مِنْ أَعْظَمِ أَنْبِيَائِهِمْ سَاقِيَيْنِ مِنْ سُقَاةِ الْخَمْرِ لِمَلِكِ بَابِلَ (أَرْتَحْشَشْتَا) وَمُغَنِّيَيْنِ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَا قَدِ اسْتَعَانَا بِتَأْثِيرِ غِنَائِهِمَا فِي نَفْسِهِ عَلَى سَمَاحِهِ لَهُمَا بِالْعَوْدَةِ بِقَوْمِهِمَا إِلَى وَطَنِهِمَا وَإِقَامَةِ دِينِهِمَا فِيهِ.
فَالنُّبُوَّةُ عَلَى هَذَا كَانَتْ صِنَاعَةً تُعَلَّمُ مَوَادُّهَا فِي الْمَدَارِسِ وَيُسْتَعَانُ عَلَى الْإِقْنَاعِ بِهَا بِالتَّخْيِيلَاتِ الشِّعْرِيَّةِ وَالْإِلْهَامَاتِ الْكَلَامِيَّةِ، وَالْمُؤَثِّرَاتِ الْغِنَائِيَّةِ وَالْمُوسِيقِيَّةِ. وَالْمَعْلُومَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ فَأَيْنَ هِيَ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا وَلَمْ يَقُلْ شِعْرًا، وَقَدْ جَاءَ بِأَعْظَمِ مِمَّا جَاءُوا بِهِ كُلُّهُمْ؟
(٢) إِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَوْلَادِهِمْ كَانُوا مُتَنَسِّكِينَ أَوْ طَوَّافِينَ عَلَى النَّاسِ يَعِيشُونَ ضُيُوفًا عِنْدَ الْأَتْقِيَاءِ الْمُحِبِّينَ لِرِجَالِ الدِّينِ كَمَا هُوَ مِنْ دَرَاوِيشِ الْمُتَصَوِّفَةِ أَهْلِ
123
الطُّرُقِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ مِنْ رِجَالِ التَّنَسُّكِ كُلَّ مَا يَقُولُونَ، وَيُسَلِّمُونَ لَهُمْ مَا يَدَّعُونَ، وَيُذِيعُونَ عَنْهُمْ كُلَّ مَا يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ، وَمِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ نَقَلَتْ عَنْهُمْ كُتُبُهُمُ الْمُقَدَّسَةُ بَعْضَ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، وَإِنَّ مِنْ أَخْبَارِ الصُّوفِيَّةِ وَالنُّسَّاكِ وَالسُّيَّاحِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ تَفْضُلُ سِيرَتُهُمْ سِيرَةَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُتُبِهِمْ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَرْتَفِعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى دَرَجَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَشْأَتِهِ الْفِطْرِيَّةِ وَمَعِيشَتِهِ مِنْ كَسْبِهِ، وَكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ عَالَةً عَلَى النَّاسِ فِي شَيْءٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَلَا بَعْدَهَا.
(٣) أَشْهَرُ أَنْوَاعِ نَبُّوتِهِمُ الْأَحْلَامُ وَالرُّؤَى الْمَنَامِيَّةُ وَالتَّخَيُّلَاتُ الْمُبْهَمَةُ وَكُلُّهَا تَقَعُ لِغَيْرِهِمْ، وَقَدْ كَانَتِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مَبْدَأَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وَحْيِ التَّشْرِيعِ الَّذِي كَانَ لَهُ صُوَرٌ أَعْلَى مِنْهَا سَنُبَيِّنُهَا بَعْدُ. وَالرُّؤَى: صُوَرٌ حِسِّيَّةٌ فِي الْخَيَالِ تَذْهَبُ الْآرَاءُ وَالْأَفْكَارُ فِي تَعْبِيرِهَا مَذَاهِبَ شَتَّى قَلَّمَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَ الصَّادِقِ مِنْهَا غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ كَرُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ الَّتِي عَبَرَهَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرُؤْيَاهُ هُوَ فِي صِغَرِهِ.
(٤) إِنَّ نُبُوَّةَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَهِيَ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى كَوْنِهِمْ مُخْبَرِينَ عَنِ اللهِ تَعَالَى كَانَتْ أَحْيَانًا كَثِيرَةً بِدُونِ تَمْيِيزِ أَزْمِنَتِهَا وَلَا حَوَادِثِهَا: فَكَانَ بَعْضُهَا يَخْتَلِطُ بِبَعْضٍ فَلَا يَكَادُ يَظْهَرُ الْمُرَادُ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ حَمْلِهَا عَلَى شَيْءٍ وَاضِحٍ بَعْدَ وُقُوعِهِ كَمَا يُعْهَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْعَرَّافِينَ وَالْمُنَجِّمِينَ، بَلْهَ الرُّوحَانِيِّينَ الْمُكَاشِفِينَ،
وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ خِلَافُهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَشْرَحْهُ وَلَكِنَّ التَّارِيخَ شَرَحَهُ. وَكَانَ أَعْظَمُ نُبُوَّاتِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِخْبَارَهُمْ عَنِ الْمَسِيحِ (مِسْيَا) وَمُلْكِ إِسْرَائِيلَ ثُمَّ إِخْبَارَ الْمَسِيحِ نَفْسِهِ عَنْ خَرَابِ الْعَالَمِ وَمَجِيءِ الْمَلَكُوتِ لِأَجْلِ دَيْنُونِيَّةِ الْعَالَمِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْقَضِي الْجِيلُ الَّذِي خَاطَبَهُ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَقَدْ مَرَّ أَجْيَالٌ كَثِيرَةٌ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
امْتِيَازُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى نُبُوَّةٍ مَنْ قَبْلَهُ:
فَأَنَّى تُضَاهِئُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ (النُّبُوَّاتِ)، وَهِيَ كَمَا عَلِمْتَ - أَنْبَاءُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ بِالْمُغَيَّبَاتِ كَالَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ السَّابِقَةِ مِمَّا وَقَعَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَا هُوَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) الْآيَاتِ (١ - ٤) وَقَوْلُهُ: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٢٤: ٥٥) وَأَيْنَ هِيَ مِنْ إِنْبَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ بِأَنَّهُمْ سَيَفْتَحُونَ بَعْدَهُ بِلَادَ الشَّامِ وَبِلَادَ الْفُرْسِ وَمِصْرَ وَسَيَسْتَوْلُونَ عَلَى مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ حَتَّى إِنَّهُ سَمَّى كِسْرَى عَصْرَهُ بِاسْمِهِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ إِلَخْ؟
هَذَا مَا يُقَالُ بِالْإِجْمَالِ عَلَى أَحَدِ مَوْضُوعَيِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَمَّا سَيَكُونُ فِي مُسْتَقْبَلِ
(٣) أَشْهَرُ أَنْوَاعِ نَبُّوتِهِمُ الْأَحْلَامُ وَالرُّؤَى الْمَنَامِيَّةُ وَالتَّخَيُّلَاتُ الْمُبْهَمَةُ وَكُلُّهَا تَقَعُ لِغَيْرِهِمْ، وَقَدْ كَانَتِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مَبْدَأَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وَحْيِ التَّشْرِيعِ الَّذِي كَانَ لَهُ صُوَرٌ أَعْلَى مِنْهَا سَنُبَيِّنُهَا بَعْدُ. وَالرُّؤَى: صُوَرٌ حِسِّيَّةٌ فِي الْخَيَالِ تَذْهَبُ الْآرَاءُ وَالْأَفْكَارُ فِي تَعْبِيرِهَا مَذَاهِبَ شَتَّى قَلَّمَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَ الصَّادِقِ مِنْهَا غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ كَرُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ الَّتِي عَبَرَهَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرُؤْيَاهُ هُوَ فِي صِغَرِهِ.
(٤) إِنَّ نُبُوَّةَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَهِيَ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى كَوْنِهِمْ مُخْبَرِينَ عَنِ اللهِ تَعَالَى كَانَتْ أَحْيَانًا كَثِيرَةً بِدُونِ تَمْيِيزِ أَزْمِنَتِهَا وَلَا حَوَادِثِهَا: فَكَانَ بَعْضُهَا يَخْتَلِطُ بِبَعْضٍ فَلَا يَكَادُ يَظْهَرُ الْمُرَادُ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ حَمْلِهَا عَلَى شَيْءٍ وَاضِحٍ بَعْدَ وُقُوعِهِ كَمَا يُعْهَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْعَرَّافِينَ وَالْمُنَجِّمِينَ، بَلْهَ الرُّوحَانِيِّينَ الْمُكَاشِفِينَ،
وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ خِلَافُهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَشْرَحْهُ وَلَكِنَّ التَّارِيخَ شَرَحَهُ. وَكَانَ أَعْظَمُ نُبُوَّاتِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِخْبَارَهُمْ عَنِ الْمَسِيحِ (مِسْيَا) وَمُلْكِ إِسْرَائِيلَ ثُمَّ إِخْبَارَ الْمَسِيحِ نَفْسِهِ عَنْ خَرَابِ الْعَالَمِ وَمَجِيءِ الْمَلَكُوتِ لِأَجْلِ دَيْنُونِيَّةِ الْعَالَمِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْقَضِي الْجِيلُ الَّذِي خَاطَبَهُ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَقَدْ مَرَّ أَجْيَالٌ كَثِيرَةٌ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
امْتِيَازُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى نُبُوَّةٍ مَنْ قَبْلَهُ:
فَأَنَّى تُضَاهِئُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ (النُّبُوَّاتِ)، وَهِيَ كَمَا عَلِمْتَ - أَنْبَاءُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ بِالْمُغَيَّبَاتِ كَالَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ السَّابِقَةِ مِمَّا وَقَعَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَا هُوَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) الْآيَاتِ (١ - ٤) وَقَوْلُهُ: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٢٤: ٥٥) وَأَيْنَ هِيَ مِنْ إِنْبَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ بِأَنَّهُمْ سَيَفْتَحُونَ بَعْدَهُ بِلَادَ الشَّامِ وَبِلَادَ الْفُرْسِ وَمِصْرَ وَسَيَسْتَوْلُونَ عَلَى مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ حَتَّى إِنَّهُ سَمَّى كِسْرَى عَصْرَهُ بِاسْمِهِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ إِلَخْ؟
هَذَا مَا يُقَالُ بِالْإِجْمَالِ عَلَى أَحَدِ مَوْضُوعَيِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَمَّا سَيَكُونُ فِي مُسْتَقْبَلِ
124
الزَّمَانِ، فَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا فِي وَحْيِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ وَأَبْعَدُ عَنِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ، وَأَعْصَى عَلَى إِنْكَارِ الْمُرْتَابِينَ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ، وَسَأَذْكُرُ مَا يَتَأَوَّلُهُ بِهِ الْجَاحِدُونَ لِلنُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ فِي بَيَانِ بُطْلَانِ شُبْهَتِهِمْ.
وَأَمَّا الْمَوْضُوعُ الثَّانِي لِلنُّبُوَّةِ وَهُوَ الْأَهَمُّ الْأَعْظَمُ أَيْ عَقَائِدُ الدِّينِ وَعِبَادَاتُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ فَالنَّظَرُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) مَا ذَكَرُوهُ مَنْ كَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ عَقْلُ مَنْ جَاءَ بِهِ وَفِكْرُهُ وَلَا عُلُومُهُ وَمَعَارِفُهُ الْكَسْبِيَّةُ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ (وَثَانِيهِمَا) أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ مِنْ هِدَايَةِ النَّاسِ وَصَلَاحِ أُمُورِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ أَعْلَى فِي نَفْسِهِ مِنْ مَعَارِفِ الْبَشَرِ فِي عَصْرِهِ، فَيَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ وَحْيًا.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ الْخَاصُّ بِشَخْصِ الرَّسُولِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ الْمُسْتَقِلَّ الْمُفَكِّرَ إِذَا عَرَفَ تَارِيخَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَارِيخَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَشَأَ أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمِ الْقِرَاءَةَ وَلَا الْكِتَابَةَ، وَأَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ نَشَأَ فِيهِمْ كَانُوا أُمِّيِّينَ وَثَنِيِّينَ جَاهِلِينَ بِعَقَائِدِ الْمِلَلِ وَتَوَارِيخِ الْأُمَمِ وَعُلُومِ التَّشْرِيعِ وَالْفَلْسَفَةِ، حَتَّى إِنَّ مَكَّةَ عَاصِمَةَ بِلَادِهِمْ، وَقَاعِدَةَ
دِينِهِمْ، وَمَثْوَى كُبَرَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَمَثَابَةَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ لِلْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ فِيهَا، وَالْمُفَاخَرَةِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي أَسْوَاقِهَا التَّابِعَةِ لَهَا، لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ فِيهَا مَدْرَسَةٌ وَلَا كِتَابٌ مُدَوَّنٌ قَطُّ، فَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ التَّامِّ الْكَامِلِ، وَالشَّرْعِ الْعَامِّ الْعَادِلِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُكْتَسَبًا وَلَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْبَطًا بِعَقْلِهِ وَفِكْرِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَسَنَدْفَعُ مَا يَرُدُّ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ.
وَيُرَى تُجَاهَ هَذَا أَنَّ مُوسَى أَعْظَمَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَمَلِهِ وَفِي شَرِيعَتِهِ وَفِي هِدَايَتِهِ - قَدْ نَشَأَ فِي أَعْظَمِ بُيُوتِ الْمَلِكِ لِأَعْظَمِ شَعْبٍ فِي الْأَرْضِ وَأَرْقَاهُ تَشْرِيعًا وَعِلْمًا وَحِكْمَةً وَفَنًّا وَصِنَاعَةً، وَهُوَ بَيْتُ فِرْعَوْنِ مِصْرَ، وَرَأَى قَوْمَهُ فِي حُكْمِ هَذَا الْمَلِكِ الْقَوِيِّ الْقَاهِرِ مُسْتَعْبَدِينَ مُسْتَذَلِّينَ، تُذَبَّحُ أَبْنَاؤُهُمْ وَتُسْتَحْيَا نِسَاؤُهُمْ، تَمْهِيدًا لِفَنَائِهِمْ وَمَحْوِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَكَثَ بِضْعَ سِنِينَ عِنْدَ حَمِيهِ فِي مَدْيَنَ وَكَانَ نَبِيًّا - أَوْ كَاهِنًا كَمَا يَقُولُونَ - فَمِنْ ثَمَّ يَرَى مُنْكِرُو الْوَحْيِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الشَّرِيعَةِ الْخَاصَّةِ بِشَعْبِهِ لَيْسَ بِكَثِيرٍ عَلَى رَجُلٍ كَبِيرِ الْعَقْلِ عَظِيمِ الْهِمَّةِ، نَاشِئٍ فِي بَيْتِ الْمُلْكِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْحِكْمَةِ إِلَخْ.
ثُمَّ ظَهَرَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْقَرْنِ الْمِيلَادِيِّ أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ مُوَافِقَةٌ فِي أَكْثَرِ أَحْكَامِهَا لِشَرِيعَةِ حَمُورَابِي الْعَرَبِيِّ مَلِكِ الْكَلْدَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ مُوسَى وَقَدْ قَالَ الَّذِينَ عَثَرُوا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ فِي حَفَائِرِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى مُسْتَمَدَّةٌ مِنْهَا لَا وَحْيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا شَرَحْنَا فِي مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ وَذَكَرْنَا خُلَاصَتَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ (٩: ٣٠) وَهُوَ فِي (ص ٣٠٥ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ) وَأَقَلُّ مَا يَقُولُهُ مُسْتَقِلُّ الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ: إِنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ
وَأَمَّا الْمَوْضُوعُ الثَّانِي لِلنُّبُوَّةِ وَهُوَ الْأَهَمُّ الْأَعْظَمُ أَيْ عَقَائِدُ الدِّينِ وَعِبَادَاتُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ فَالنَّظَرُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) مَا ذَكَرُوهُ مَنْ كَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ عَقْلُ مَنْ جَاءَ بِهِ وَفِكْرُهُ وَلَا عُلُومُهُ وَمَعَارِفُهُ الْكَسْبِيَّةُ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ (وَثَانِيهِمَا) أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ مِنْ هِدَايَةِ النَّاسِ وَصَلَاحِ أُمُورِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ أَعْلَى فِي نَفْسِهِ مِنْ مَعَارِفِ الْبَشَرِ فِي عَصْرِهِ، فَيَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ وَحْيًا.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ الْخَاصُّ بِشَخْصِ الرَّسُولِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ الْمُسْتَقِلَّ الْمُفَكِّرَ إِذَا عَرَفَ تَارِيخَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَارِيخَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَشَأَ أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمِ الْقِرَاءَةَ وَلَا الْكِتَابَةَ، وَأَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ نَشَأَ فِيهِمْ كَانُوا أُمِّيِّينَ وَثَنِيِّينَ جَاهِلِينَ بِعَقَائِدِ الْمِلَلِ وَتَوَارِيخِ الْأُمَمِ وَعُلُومِ التَّشْرِيعِ وَالْفَلْسَفَةِ، حَتَّى إِنَّ مَكَّةَ عَاصِمَةَ بِلَادِهِمْ، وَقَاعِدَةَ
دِينِهِمْ، وَمَثْوَى كُبَرَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَمَثَابَةَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ لِلْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ فِيهَا، وَالْمُفَاخَرَةِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي أَسْوَاقِهَا التَّابِعَةِ لَهَا، لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ فِيهَا مَدْرَسَةٌ وَلَا كِتَابٌ مُدَوَّنٌ قَطُّ، فَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ التَّامِّ الْكَامِلِ، وَالشَّرْعِ الْعَامِّ الْعَادِلِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُكْتَسَبًا وَلَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْبَطًا بِعَقْلِهِ وَفِكْرِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَسَنَدْفَعُ مَا يَرُدُّ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ.
وَيُرَى تُجَاهَ هَذَا أَنَّ مُوسَى أَعْظَمَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَمَلِهِ وَفِي شَرِيعَتِهِ وَفِي هِدَايَتِهِ - قَدْ نَشَأَ فِي أَعْظَمِ بُيُوتِ الْمَلِكِ لِأَعْظَمِ شَعْبٍ فِي الْأَرْضِ وَأَرْقَاهُ تَشْرِيعًا وَعِلْمًا وَحِكْمَةً وَفَنًّا وَصِنَاعَةً، وَهُوَ بَيْتُ فِرْعَوْنِ مِصْرَ، وَرَأَى قَوْمَهُ فِي حُكْمِ هَذَا الْمَلِكِ الْقَوِيِّ الْقَاهِرِ مُسْتَعْبَدِينَ مُسْتَذَلِّينَ، تُذَبَّحُ أَبْنَاؤُهُمْ وَتُسْتَحْيَا نِسَاؤُهُمْ، تَمْهِيدًا لِفَنَائِهِمْ وَمَحْوِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَكَثَ بِضْعَ سِنِينَ عِنْدَ حَمِيهِ فِي مَدْيَنَ وَكَانَ نَبِيًّا - أَوْ كَاهِنًا كَمَا يَقُولُونَ - فَمِنْ ثَمَّ يَرَى مُنْكِرُو الْوَحْيِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الشَّرِيعَةِ الْخَاصَّةِ بِشَعْبِهِ لَيْسَ بِكَثِيرٍ عَلَى رَجُلٍ كَبِيرِ الْعَقْلِ عَظِيمِ الْهِمَّةِ، نَاشِئٍ فِي بَيْتِ الْمُلْكِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْحِكْمَةِ إِلَخْ.
ثُمَّ ظَهَرَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْقَرْنِ الْمِيلَادِيِّ أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ مُوَافِقَةٌ فِي أَكْثَرِ أَحْكَامِهَا لِشَرِيعَةِ حَمُورَابِي الْعَرَبِيِّ مَلِكِ الْكَلْدَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ مُوسَى وَقَدْ قَالَ الَّذِينَ عَثَرُوا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ فِي حَفَائِرِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى مُسْتَمَدَّةٌ مِنْهَا لَا وَحْيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا شَرَحْنَا فِي مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ وَذَكَرْنَا خُلَاصَتَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ (٩: ٣٠) وَهُوَ فِي (ص ٣٠٥ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ) وَأَقَلُّ مَا يَقُولُهُ مُسْتَقِلُّ الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ: إِنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ
125
مُسْتَمَدَّةً مِنْهَا فَلَا تُعَدُّ أَحَقَّ مِنْهَا بِأَنْ تَكُونَ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ حَمُورَابِيَ ادَّعَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
ثُمَّ يَرَى النَّاظِرُ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ أَنَّهُمْ كَانُوا تَابِعِينَ لِلتَّوْرَاةِ مُتَعَبِّدِينَ بِهَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَدَارَسُونَ تَفْسِيرَهَا فِي مَدَارِسَ خَاصَّةٍ بِهِمْ وَبِأَبْنَائِهِمْ مَعَ عُلُومٍ أُخْرَى، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَيَرَى أَيْضًا أَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ الَّذِي شَهِدَ الْمَسِيحَ بِتَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ وَلَمْ يَأْتِ بِشَرْعٍ وَلَا بِنَبَأٍ غَيْبِيٍّ - بَلْ إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ أَعْظَمُهُمْ قَدْرًا وَأَعْلَاهُمْ ذِكْرًا، وَأَجَلُّهُمْ أَثَرًا، لَمْ يَأْتِ بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ بَلْ كَانَ تَابِعًا لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ نَسْخِ قَلِيلٍ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَإِصْلَاحٍ رُوحِيٍّ أَدَبِيٍّ لِجُمُودِ الْيَهُودِ الْمَادِّيِّ عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا، فَأَمْكَنَ لِجَاحِدِي الْوَحْيِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ لَا يَكْثُرُ عَلَى رَجُلٍ مِثْلِهِ زَكِيِّ
الْفِطْرَةِ ذَكِيِّ الْعَقْلِ نَاشِئٍ فِي حِجْرِ الشَّرِيعَةِ الْيَهُودِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ الرُّومَانِيَّةِ. وَالْحِكْمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، غَلَبَ عَلَيْهِ الزُّهْدُ وَالرُّوحَانِيَّةُ، أَنْ يَأْتِيَ بِتِلْكَ الْوَصَايَا الْأَدَبِيَّةِ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نَقُولُ هَذَا وَإِنَّمَا يَقُولُهُ الْمَادِّيُّونَ وَالْمُلْحِدُونَ وَالْعَقْلِيُّونَ، وَأُلُوفٌ مِنْهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى الْمَذَاهِبِ النَّصْرَانِيَّةِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ عَقَائِدُ الدِّينِ وَعِبَادَاتُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ فَلَا يَرْتَابُ الْعَقْلُ الْمُسْتَقِلُّ الْمُفَكِّرُ غَيْرُ الْمُقَلِّدِ لِدِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ فِي أَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ: مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَمِنْ بَيَانِ هِدَايَةِ رُسُلِهِ، وَمِنْ عِبَادَاتِهِ وَآدَابِهِ الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ الْمُرَقِّيَةِ لِلْعَقْلِ، وَمِنْ تَشْرِيعِهِ الْعَادِلِ وَحُكْمِهِ الشُّورِيِّ الْمُرَقِّي لِلِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ - كُلُّ ذَلِكَ أَرْقَى مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، بَلْ هُوَ الْإِصْلَاحُ الَّذِي بَلَغَ بِهِ دِينُ اللهِ أَعْلَى الْكَمَالِ، وَيَشْهَدُ بِهَذَا عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِنَا وَوِجْهَةِ نَظَرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ التَّفْسِيرِ (آخِرُهَا ص ٣١٣ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
وَمَنْ نَظَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَسِيرَةِ مُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سَائِرِ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْقِصَصَ فِي الْقُرْآنِ يَرَى الْفَرْقَ الْعَظِيمَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِسِيرَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْعِظَامِ ; فَفِي أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ يَرَى وَصْفَ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالنَّدَمِ عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَوَصْفَ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي مِمَّا هُوَ قُدْوَةٌ سُوأَى، مِنْ حَيْثُ يَجِدُ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِنْ وَصْفِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ بِالْكَمَالِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، مَا هُوَ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ وَأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَزِيدُ قَارِئَهَا إِيمَانًا وَهُدًى، فَأَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ تُشْبِهُ بُسْتَانًا فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الشَّجَرِ وَالْعُشْبِ وَالشَّوْكِ، وَالثِّمَارِ وَالْأَزْهَارِ
ثُمَّ يَرَى النَّاظِرُ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ أَنَّهُمْ كَانُوا تَابِعِينَ لِلتَّوْرَاةِ مُتَعَبِّدِينَ بِهَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَدَارَسُونَ تَفْسِيرَهَا فِي مَدَارِسَ خَاصَّةٍ بِهِمْ وَبِأَبْنَائِهِمْ مَعَ عُلُومٍ أُخْرَى، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَيَرَى أَيْضًا أَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ الَّذِي شَهِدَ الْمَسِيحَ بِتَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ وَلَمْ يَأْتِ بِشَرْعٍ وَلَا بِنَبَأٍ غَيْبِيٍّ - بَلْ إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ أَعْظَمُهُمْ قَدْرًا وَأَعْلَاهُمْ ذِكْرًا، وَأَجَلُّهُمْ أَثَرًا، لَمْ يَأْتِ بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ بَلْ كَانَ تَابِعًا لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ نَسْخِ قَلِيلٍ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَإِصْلَاحٍ رُوحِيٍّ أَدَبِيٍّ لِجُمُودِ الْيَهُودِ الْمَادِّيِّ عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا، فَأَمْكَنَ لِجَاحِدِي الْوَحْيِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ لَا يَكْثُرُ عَلَى رَجُلٍ مِثْلِهِ زَكِيِّ
الْفِطْرَةِ ذَكِيِّ الْعَقْلِ نَاشِئٍ فِي حِجْرِ الشَّرِيعَةِ الْيَهُودِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ الرُّومَانِيَّةِ. وَالْحِكْمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، غَلَبَ عَلَيْهِ الزُّهْدُ وَالرُّوحَانِيَّةُ، أَنْ يَأْتِيَ بِتِلْكَ الْوَصَايَا الْأَدَبِيَّةِ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نَقُولُ هَذَا وَإِنَّمَا يَقُولُهُ الْمَادِّيُّونَ وَالْمُلْحِدُونَ وَالْعَقْلِيُّونَ، وَأُلُوفٌ مِنْهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى الْمَذَاهِبِ النَّصْرَانِيَّةِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ عَقَائِدُ الدِّينِ وَعِبَادَاتُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ فَلَا يَرْتَابُ الْعَقْلُ الْمُسْتَقِلُّ الْمُفَكِّرُ غَيْرُ الْمُقَلِّدِ لِدِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ فِي أَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ: مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَمِنْ بَيَانِ هِدَايَةِ رُسُلِهِ، وَمِنْ عِبَادَاتِهِ وَآدَابِهِ الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ الْمُرَقِّيَةِ لِلْعَقْلِ، وَمِنْ تَشْرِيعِهِ الْعَادِلِ وَحُكْمِهِ الشُّورِيِّ الْمُرَقِّي لِلِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ - كُلُّ ذَلِكَ أَرْقَى مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، بَلْ هُوَ الْإِصْلَاحُ الَّذِي بَلَغَ بِهِ دِينُ اللهِ أَعْلَى الْكَمَالِ، وَيَشْهَدُ بِهَذَا عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِنَا وَوِجْهَةِ نَظَرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ التَّفْسِيرِ (آخِرُهَا ص ٣١٣ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
وَمَنْ نَظَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَسِيرَةِ مُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سَائِرِ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْقِصَصَ فِي الْقُرْآنِ يَرَى الْفَرْقَ الْعَظِيمَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِسِيرَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْعِظَامِ ; فَفِي أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ يَرَى وَصْفَ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالنَّدَمِ عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَوَصْفَ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي مِمَّا هُوَ قُدْوَةٌ سُوأَى، مِنْ حَيْثُ يَجِدُ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِنْ وَصْفِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ بِالْكَمَالِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، مَا هُوَ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ وَأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَزِيدُ قَارِئَهَا إِيمَانًا وَهُدًى، فَأَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ تُشْبِهُ بُسْتَانًا فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الشَّجَرِ وَالْعُشْبِ وَالشَّوْكِ، وَالثِّمَارِ وَالْأَزْهَارِ
126
وَالْحَشَرَاتِ، وَأَخْبَارُهُمْ فِي الْقُرْآنِ تُشْبِهُ الْعِطْرَ الْمُسْتَخْرَجَ مِنْ تِلْكَ الْأَزْهَارِ، وَالْعَسَلَ الْمُشْتَارَ مِنْ تِلْكَ الثِّمَارِ، وَيَرَى فِيهِ رِيَاضًا أُخْرَى جَمَعَتْ جَمَالَ الْكَوْنِ كُلِّهِ.
وَنَدَعُ هُنَا ذِكْرَ مَا كَتَبَهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الْأَحْرَارُ فِي نَقْدِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَالطَّعْنِ فِيهَا، وَمِنْ أَخْصَرِهَا وَأَغْرَبِهَا كِتَابُ (أَضْرَارِ تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) لِأَحَدِ عُلَمَاءِ الْإِنْكِلِيزِ، وَمَا فِيهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالتَّارِيخِ، وَالْقُرْآنُ خَالٍ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ.
(صَدُّ الْكَنِيسَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَبَغْيُهُ عِوَجًا)
إِنَّ رِجَالَ الْكَنِيسَةِ لَمْ يَجِدُوا مَا يَصُدُّونَ بِهِ أَتْبَاعَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ أَنْ رَأَوْهُ قَدْ قَضَى عَلَى الْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، وَكَادَ يَقْضِي عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، ثُمَّ امْتَدَّ نُورُهُ إِلَى الْغَرْبِ - إِلَّا تَأْلِيفَ الْكُتُبِ، وَنَظْمَ الْأَشْعَارِ وَالْأَغَانِي فِي ذَمِّ الْإِسْلَامِ وَنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ بِالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَفُحْشِ الْكَلَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَدَيِّنِينَ أَكْذَبُ الْبَشَرِ وَأَشَدُّهُمْ عَدَاوَةً لِلْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ، فِي سَبِيلِ رِيَاسَتِهِمُ الَّتِي يَتَبَرَّأُ مِنْهَا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ.
وَقَدْ كَانَ أَتْبَاعُهُمْ يُصَدِّقُونَ مَا يَقُولُونَ وَيَكْتُبُونَ. وَيَتَهَيَّجُونَ بِمَا يَنْظُمُونَ وَيُنْشِدُونَ، حَتَّى إِذَا مَا اطَّلَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى كُتُبِ الْإِسْلَامِ وَرَأَوُا الْمُسْلِمِينَ وَعَاشَرُوهُمْ فَضَحُوهُمْ أَقْبَحَ الْفَضَائِحِ، كَمَا تَرَى فِي كِتَابِ (الْإِسْلَامِ خَوَاطِرُ وَسَوَانِحُ) لِلْكُونْتِ دِي كَاسْتِرِي، وَكَمَا تَرَى فِي الْكِتَابِ الْفَرَنْسِيِّ الَّذِي ظَهَرَ فِي هَذَا الْعَهْدِ بَاسِمِ (حَيَاةِ مُحَمَّدٍ) لِلْمُوسِيُو دِرِمِنْغَامْ وَهَذَانِ الْكِتَابَانِ فَرَنْسِيَّانِ مِنْ طَائِفَةِ الْكَاثُولِيكِ اللَّاتِينِ، وَقَدْ صَرَّحَا كَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ كَنِيسَتَهُمْ هِيَ الْبَادِئَةُ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَبِأَدَبِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّفَاعِ.
وَنَدَعُ هُنَا ذِكْرَ مَا كَتَبَهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الْأَحْرَارُ فِي نَقْدِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَالطَّعْنِ فِيهَا، وَمِنْ أَخْصَرِهَا وَأَغْرَبِهَا كِتَابُ (أَضْرَارِ تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) لِأَحَدِ عُلَمَاءِ الْإِنْكِلِيزِ، وَمَا فِيهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالتَّارِيخِ، وَالْقُرْآنُ خَالٍ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ.
(صَدُّ الْكَنِيسَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَبَغْيُهُ عِوَجًا)
إِنَّ رِجَالَ الْكَنِيسَةِ لَمْ يَجِدُوا مَا يَصُدُّونَ بِهِ أَتْبَاعَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ أَنْ رَأَوْهُ قَدْ قَضَى عَلَى الْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، وَكَادَ يَقْضِي عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، ثُمَّ امْتَدَّ نُورُهُ إِلَى الْغَرْبِ - إِلَّا تَأْلِيفَ الْكُتُبِ، وَنَظْمَ الْأَشْعَارِ وَالْأَغَانِي فِي ذَمِّ الْإِسْلَامِ وَنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ بِالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَفُحْشِ الْكَلَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَدَيِّنِينَ أَكْذَبُ الْبَشَرِ وَأَشَدُّهُمْ عَدَاوَةً لِلْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ، فِي سَبِيلِ رِيَاسَتِهِمُ الَّتِي يَتَبَرَّأُ مِنْهَا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ.
وَقَدْ كَانَ أَتْبَاعُهُمْ يُصَدِّقُونَ مَا يَقُولُونَ وَيَكْتُبُونَ. وَيَتَهَيَّجُونَ بِمَا يَنْظُمُونَ وَيُنْشِدُونَ، حَتَّى إِذَا مَا اطَّلَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى كُتُبِ الْإِسْلَامِ وَرَأَوُا الْمُسْلِمِينَ وَعَاشَرُوهُمْ فَضَحُوهُمْ أَقْبَحَ الْفَضَائِحِ، كَمَا تَرَى فِي كِتَابِ (الْإِسْلَامِ خَوَاطِرُ وَسَوَانِحُ) لِلْكُونْتِ دِي كَاسْتِرِي، وَكَمَا تَرَى فِي الْكِتَابِ الْفَرَنْسِيِّ الَّذِي ظَهَرَ فِي هَذَا الْعَهْدِ بَاسِمِ (حَيَاةِ مُحَمَّدٍ) لِلْمُوسِيُو دِرِمِنْغَامْ وَهَذَانِ الْكِتَابَانِ فَرَنْسِيَّانِ مِنْ طَائِفَةِ الْكَاثُولِيكِ اللَّاتِينِ، وَقَدْ صَرَّحَا كَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ كَنِيسَتَهُمْ هِيَ الْبَادِئَةُ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَبِأَدَبِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّفَاعِ.
127
وَلَمَّا ظَهَرَتْ طَائِفَةُ الْبُرُوتُسْتَانِ وَغَلَبَ مَذْهَبُهَا فِي شُعُوبِ الْأَنْجُلُوسَكْسُونِ وَالْجِرْمَانِ، وَكَانَ الْفَضْلُ فِي دَعْوَتِهِمُ الْإِصْلَاحِيَّةِ لِمَا انْعَكَسَ عَلَى أُورُبَّةَ مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَتَعَفَّفْ قُسُوسُهُمْ وَدُعَاتُهُمْ (الْمُبَشِّرُونَ) عَنِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ، وَلَا تَجَمَّلُوا فِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّزَاهَةِ وَالْأَدَبِ، وَالَّذِي نَرَاهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ مَطَاعِنِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ وَسُوءِ أَدَبِهِمْ أَشَدَّ مِمَّا نَرَاهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنِ الَّذِينَ أَنْصَفُوا الْإِسْلَامَ مِنْ أَحْرَارِ عُلَمَائِهِمْ أَصْرَحُ قَوْلًا، وَلَعَلَّهُمْ أَكْثَرُ مِنَ اللَّاتِينِ عَدَدًا، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالِاسْتِقْلَالَ فِي تَرْبِيَتِهِمْ أَقْوَى، وَسَيَكُونُونَ هُمُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ الْإِسْلَامَ فِي أُورُبَّةَ وَالْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرْكَانِيَّةِ، ثُمَّ فِي سَائِرِ الْعَالَمِ كَمَا جَزَمَ الْعَلَّامَةُ بِرْنَارْدُ شُو الْإِنْكِلِيزِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ).
مَسْأَلَةُ الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ أَيِ الْخَوَارِقِ:
بَقِيَ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَجَائِبِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى أَسَاسِهَا الْكَنَائِسُ النَّصْرَانِيَّةُ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهَا. وَفِيمَا يَدَّعُونَهُ مَنْ تَجَرُّدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ لِبَاسِهَا، وَهِيَ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ لَا لَهُ، وَصَادَّةً لِلْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ عَنْهُ لَا مُقْنِعَةً بِهِ، وَلَوْلَا حِكَايَةُ الْقُرْآنِ لِآيَاتِ اللهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَكَانَ إِقْبَالُ أَحْرَارِ الْإِفْرِنْجِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ، وَاهْتِدَاؤُهُمْ بِهِ أَعَمَّ وَأَسْرَعَ ; لِأَنَّ أَسَاسَهُ قَدْ بُنِيَ عَلَى الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَمُوَافَقَةِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِ الْأَفْرَادِ، وَتَرْقِيَةِ مَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَمَّا آيَتُهُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى هِيَ الْقُرْآنُ، وَأُمِّيَّةُ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَهِيَ آيَةٌ عِلْمِيَّةٌ تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ.
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتْمِ
وَأَمَّا تِلْكَ الْعَجَائِبُ الْكَوْنِيَّةُ فَهِيَ مَثَارُ شُبَهَاتٍ وَتَأْوِيلَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي رِوَايَتِهَا وَفِي صِحَّتِهَا وَفِي دَلَالَتِهَا وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ تَقَعُ مِنْ أُنَاسٍ كَثِيرِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْمَنْقُولُ مِنْهَا عَنْ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَالْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَنْقُولِ عَنِ الْعَهْدَيْنِ: الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ، وَعَنْ مَنَاقِبِ الْقِدِّيسِينَ ; وَهِيَ مِنْ مُنَفِّرَاتِ الْعُلَمَاءِ عَنِ الدِّينِ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَسَنُبَيِّنُ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِيهَا مِنَ الْفَصْلِ.
الْعَجَائِبُ وَمَا لِلْمَسِيحِ مِنْهَا:
جَاءَ فِي تَعْرِيفِ الْعَجَائِبِ وَأَنْوَاعِهَا مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ:
((عَجِيبَةٌ: حَادِثَةٌ تَحْدُثُ بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ خَارِقَةٍ مَجْرَى الْعَادَةِ الطَّبِيعِيَّةِ لِإِثْبَاتِ إِرْسَالِيَّةِ مَنْ جَرَتْ
مَسْأَلَةُ الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ أَيِ الْخَوَارِقِ:
بَقِيَ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَجَائِبِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى أَسَاسِهَا الْكَنَائِسُ النَّصْرَانِيَّةُ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهَا. وَفِيمَا يَدَّعُونَهُ مَنْ تَجَرُّدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ لِبَاسِهَا، وَهِيَ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ لَا لَهُ، وَصَادَّةً لِلْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ عَنْهُ لَا مُقْنِعَةً بِهِ، وَلَوْلَا حِكَايَةُ الْقُرْآنِ لِآيَاتِ اللهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَكَانَ إِقْبَالُ أَحْرَارِ الْإِفْرِنْجِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ، وَاهْتِدَاؤُهُمْ بِهِ أَعَمَّ وَأَسْرَعَ ; لِأَنَّ أَسَاسَهُ قَدْ بُنِيَ عَلَى الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَمُوَافَقَةِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِ الْأَفْرَادِ، وَتَرْقِيَةِ مَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَمَّا آيَتُهُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى هِيَ الْقُرْآنُ، وَأُمِّيَّةُ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَهِيَ آيَةٌ عِلْمِيَّةٌ تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ.
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتْمِ
وَأَمَّا تِلْكَ الْعَجَائِبُ الْكَوْنِيَّةُ فَهِيَ مَثَارُ شُبَهَاتٍ وَتَأْوِيلَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي رِوَايَتِهَا وَفِي صِحَّتِهَا وَفِي دَلَالَتِهَا وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ تَقَعُ مِنْ أُنَاسٍ كَثِيرِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْمَنْقُولُ مِنْهَا عَنْ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَالْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَنْقُولِ عَنِ الْعَهْدَيْنِ: الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ، وَعَنْ مَنَاقِبِ الْقِدِّيسِينَ ; وَهِيَ مِنْ مُنَفِّرَاتِ الْعُلَمَاءِ عَنِ الدِّينِ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَسَنُبَيِّنُ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِيهَا مِنَ الْفَصْلِ.
الْعَجَائِبُ وَمَا لِلْمَسِيحِ مِنْهَا:
جَاءَ فِي تَعْرِيفِ الْعَجَائِبِ وَأَنْوَاعِهَا مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ:
((عَجِيبَةٌ: حَادِثَةٌ تَحْدُثُ بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ خَارِقَةٍ مَجْرَى الْعَادَةِ الطَّبِيعِيَّةِ لِإِثْبَاتِ إِرْسَالِيَّةِ مَنْ جَرَتْ
128
عَلَى يَدِهِ أَوْ فِيهِ. وَالْعَجِيبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ فَوْقَ الطَّبِيعَةِ لَا ضِدُّهَا تَحْدُثُ بِتَوْقِيفِ نَوَامِيسِ الطَّبِيعَةِ لَا بِمُعَاكَسَتِهَا، وَهِيَ إِظْهَارُ نِظَامٍ أَعْلَى مِنَ الطَّبِيعَةِ يَخْضَعُ لَهُ النِّظَامُ الطَّبِيعِيُّ، وَلَنَا فِي فِعْلِ الْإِرَادَةِ مِثَالٌ يُظْهِرُ لَنَا حَقِيقَةَ أَمْرِ الْعَجَائِبِ إِذْ بِهَا نَرْفَعُ الْيَدَ وَبِذَلِكَ نُوقِفُ نَامُوسَ الثِّقَلِ وَيَتَسَلَّطُ اللهُ عَلَى قُوَى الطَّبِيعَةِ، وَيُرْشِدُهَا، وَيَمُدُّ مَدَارَهَا أَوْ يَحْصُرُهُ ; لِأَنَّهَا عَوَامِلُ لِمَشِيئَتِهِ وَيُنَاطُ فِعْلُ الْعَجَائِبِ بِاللهِ وَحْدَهُ أَوْ بِمَنْ سَمَحَ لَهُ بِذَلِكَ.
وَإِذَا آمَنَّا بِالْإِلَهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْنَا التَّسْلِيمُ بِإِمْكَانِ الْعَجَائِبِ. وَكَانَتِ الْعَجِيبَةُ الْأَوْلَى خَلِيقَةَ الْكَوْنِ مِنَ الْعَدَمِ بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى. أَمَّا الْمَسِيحُ فَأُقْنُومُهُ عَجِيبَةٌ أَدَبِيَّةٌ عَظِيمَةٌ وَعَجَائِبُهُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا إِظْهَارَ هَذَا الْأُقْنُومِ وَأَعْمَالِهِ، وَإِذَا آمَنَّا بِالْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ الْعَدِيمِ الْخَطِيَّةِ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْنَا تَصْدِيقُ عَجَائِبِهِ. أَمَّا الشَّيْطَانُ فَعَجَائِبُهُ كَذَّابَةٌ.
وَلَابُدَّ مِنَ الْعَجَائِبِ لِتَعْزِيزِ الدِّيَانَةِ، فَكَثِيرًا مَا يَسْتَشْهِدُ الْمَسِيحُ بِعَجَائِبِهِ لِإِثْبَاتِ هُوَّتِهِ وَكَوْنِهِ الْمَسِيحَ، وَكَانَ يَفْعَلُهَا لِتَمْجِيدِ اللهِ وَلِمَنْفَعَةِ نُفُوسِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ، كَانَ يَفْعَلُهَا ظَاهِرًا أَمَامَ جَمَاهِيرِ أَصْحَابِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَعْدَاؤُهُ غَيْرَ أَنَّهُمْ نَسَبُوهَا لِبَعْلَزْبُولَ، وَسَوَاءٌ امْتَحَنَّاهَا بِالشَّهَادَةِ مِنَ الْخَارِجِ، وَبِمُنَاسَبَتِهَا إِلَى إِرْسَالِيَّتِهِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَتْ لِكُلِّ مَنْ كَانَ خَالِيًا مِنَ الْغَرَضِ صَحِيحَةً. فَإِذَا لَمْ نُسَلِّمْ بِصِحَّتِهَا الْتَزَمْنَا أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ مُقَرِّرِيهَا كَذَّابُونَ ; الْأَمْرُ الَّذِي لَا يَسُوغُ ظَنُّهُ بِالْمَسِيحِ وَالرُّسُلِ.
وَبَقِيَتْ قُوَّةُ الْعَجَائِبِ فِي عَصْرِ الرُّسُلِ، وَلَمَّا امْتَدَّتِ الدِّيَانَةُ الْمَسِيحِيَّةُ زَالَ الِاضْطِرَارُ إِلَيْهَا وَلَا يَلْزَمُنَا الْآنَ سِوَى الْعَجَائِبِ الْأَدَبِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ هَذِهِ الدِّيَانَةِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الدَّاخِلِيَّةِ عَلَى صِحَّتِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ)) اهـ.
ثُمَّ وَضَعَ الْمُؤَلِّفُ حُلُولًا أَحْصَى فِيهِ عَجَائِبَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ مِنْ خَرَابِ سَدُومَ
وَعَمُّورَةَ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ إِلَى ((خَلَاصِ يُونَانَ (يُونُسَ) بِوَاسِطَةِ حُوتٍ)) فَبَلَغَتْ ٦٧ عَجِيبَةً، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِجَدْوَلِ الْعَجَائِبِ الْمَقْرُونَةِ بِحَيَاةِ الْمَسِيحِ مِنَ الْحَبَلِ بِهِ ((بِفِعْلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ)) إِلَى ((الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ)) فَبَلَغَتْ ٣٧، وَعَزَّزَ الْجَدْوَلَيْنِ بِثَالِثٍ فِي ((الْعَجَائِبِ الَّتِي جَرَتْ فِي عَصْرِ الرُّسُلِ)) أَيِ الَّذِينَ بَثُّوا دَعْوَةَ الْمَسِيحِ مِنْ تَلَامِيذِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ((انْسِكَابِ الرُّوحِ الْقُدُسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ)) إِلَى ((شِفَاءِ أَبِي بُوبْلِيُوسَ وَغَيْرِهِ)) فَكَانَتْ عِشْرِينَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ صَنَعَ عَجَائِبَ.
وَإِذَا آمَنَّا بِالْإِلَهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْنَا التَّسْلِيمُ بِإِمْكَانِ الْعَجَائِبِ. وَكَانَتِ الْعَجِيبَةُ الْأَوْلَى خَلِيقَةَ الْكَوْنِ مِنَ الْعَدَمِ بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى. أَمَّا الْمَسِيحُ فَأُقْنُومُهُ عَجِيبَةٌ أَدَبِيَّةٌ عَظِيمَةٌ وَعَجَائِبُهُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا إِظْهَارَ هَذَا الْأُقْنُومِ وَأَعْمَالِهِ، وَإِذَا آمَنَّا بِالْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ الْعَدِيمِ الْخَطِيَّةِ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْنَا تَصْدِيقُ عَجَائِبِهِ. أَمَّا الشَّيْطَانُ فَعَجَائِبُهُ كَذَّابَةٌ.
وَلَابُدَّ مِنَ الْعَجَائِبِ لِتَعْزِيزِ الدِّيَانَةِ، فَكَثِيرًا مَا يَسْتَشْهِدُ الْمَسِيحُ بِعَجَائِبِهِ لِإِثْبَاتِ هُوَّتِهِ وَكَوْنِهِ الْمَسِيحَ، وَكَانَ يَفْعَلُهَا لِتَمْجِيدِ اللهِ وَلِمَنْفَعَةِ نُفُوسِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ، كَانَ يَفْعَلُهَا ظَاهِرًا أَمَامَ جَمَاهِيرِ أَصْحَابِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَعْدَاؤُهُ غَيْرَ أَنَّهُمْ نَسَبُوهَا لِبَعْلَزْبُولَ، وَسَوَاءٌ امْتَحَنَّاهَا بِالشَّهَادَةِ مِنَ الْخَارِجِ، وَبِمُنَاسَبَتِهَا إِلَى إِرْسَالِيَّتِهِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَتْ لِكُلِّ مَنْ كَانَ خَالِيًا مِنَ الْغَرَضِ صَحِيحَةً. فَإِذَا لَمْ نُسَلِّمْ بِصِحَّتِهَا الْتَزَمْنَا أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ مُقَرِّرِيهَا كَذَّابُونَ ; الْأَمْرُ الَّذِي لَا يَسُوغُ ظَنُّهُ بِالْمَسِيحِ وَالرُّسُلِ.
وَبَقِيَتْ قُوَّةُ الْعَجَائِبِ فِي عَصْرِ الرُّسُلِ، وَلَمَّا امْتَدَّتِ الدِّيَانَةُ الْمَسِيحِيَّةُ زَالَ الِاضْطِرَارُ إِلَيْهَا وَلَا يَلْزَمُنَا الْآنَ سِوَى الْعَجَائِبِ الْأَدَبِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ هَذِهِ الدِّيَانَةِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الدَّاخِلِيَّةِ عَلَى صِحَّتِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ)) اهـ.
ثُمَّ وَضَعَ الْمُؤَلِّفُ حُلُولًا أَحْصَى فِيهِ عَجَائِبَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ مِنْ خَرَابِ سَدُومَ
وَعَمُّورَةَ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ إِلَى ((خَلَاصِ يُونَانَ (يُونُسَ) بِوَاسِطَةِ حُوتٍ)) فَبَلَغَتْ ٦٧ عَجِيبَةً، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِجَدْوَلِ الْعَجَائِبِ الْمَقْرُونَةِ بِحَيَاةِ الْمَسِيحِ مِنَ الْحَبَلِ بِهِ ((بِفِعْلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ)) إِلَى ((الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ)) فَبَلَغَتْ ٣٧، وَعَزَّزَ الْجَدْوَلَيْنِ بِثَالِثٍ فِي ((الْعَجَائِبِ الَّتِي جَرَتْ فِي عَصْرِ الرُّسُلِ)) أَيِ الَّذِينَ بَثُّوا دَعْوَةَ الْمَسِيحِ مِنْ تَلَامِيذِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ((انْسِكَابِ الرُّوحِ الْقُدُسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ)) إِلَى ((شِفَاءِ أَبِي بُوبْلِيُوسَ وَغَيْرِهِ)) فَكَانَتْ عِشْرِينَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ صَنَعَ عَجَائِبَ.
129
بَحْثٌ فِي عَجَائِبِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَقُولُ: إِنَّ ٢٧ مِنْ عَجَائِبِ الْمَسِيحِ الْمَذْكُورَةِ شِفَاءُ مَرْضَى وَمَجَانِينَ لَابَسَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَثَلَاثٌ مِنْهَا إِقَامَةُ مَوْتَى عَقِبَ مَوْتِهِمْ، وَمَا بَقِيَ فَمَسْأَلَةُ الْحَبَلِ بِهِ وَتَحْوِيلُهُ الْمَاءَ إِلَى خَمْرٍ وَسَحْبِ الشَّبَكَةِ فِي بَحْرِ الْجَلِيلِ، وَإِشْبَاعِ خَمْسَةِ آلَافٍ مَرَّةً وَأَرْبَعَةِ آلَافٍ مَرَّةً أُخْرَى، وَضَرْبُ التِّينَةِ الْعَقِيمَةِ بِمَا أَيْبَسَهَا، وَقِيَامَةُ الْمَسِيحِ، وَصَيْدُ السَّمَكِ وَالصُّعُودِ.
وَإِنَّنَا نُلَخِّصُ رِوَايَةَ الْأَنَاجِيلِ لِأَهَمِّهَا وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وَنَذْكُرُ مَا يَقُولُهُ فِيهَا مُنْكِرُو الْعَجَائِبِ
الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ شَابٌّ مِنْ مَدِينَةِ نَابِينَ كَانَ مَحْمُولًا فِي جَنَازَةٍ وَأُمُّهُ تَبْكِي فَاسْتَوْقَفَ النَّعْشَ، وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الشَّابُّ لَكَ أَقُولُ قُمْ ; فَجَلَسَ وَابْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ، فَأَخَذَ الْجَمِيعَ خَوْفٌ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهُ (لُوقَا ٧: ١١ - ١٦)
الثَّانِي: صَبِيَّةٌ مَاتَتْ فَقَالَ لَهُ أَبُوهَا وَكَانَ رَئِيسًا: ابْنَتِي الْآنَ مَاتَتْ لَكِنْ تَعَالَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهَا فَتَحْيَا. فَجَاءَ بَيْتَ الرَّئِيسِ وَوَجَدَ الْمُزَمِّرِينَ وَالْجَمْعَ يَضِجُّونَ فَقَالَ لَهُمْ ((تَنَحَّوْا فَإِنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ)) فَضَحِكُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَخْرَجَ الْجَمْعَ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا فَقَامَتِ الصَّبِيَّةُ (مَتَّ ٩: ١٨ - ٢٤).
فَمُنْكِرُو الْعَجَائِبِ يَقُولُونَ إِنَّ كُلًّا مِنَ الشَّابِّ وَالشَّابَّةِ لَمْ يَكُونَا قَدْ مَاتَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ قَدْ قَامُوا مِنْ نُعُوشِهِمْ، بَلْ مِنْ قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَنْ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُمْ مَاتُوا، وَلِذَلِكَ تَمْنَعُ الْحُكُومَاتُ الْمَدَنِيَّةُ دَفْنَ الْمَيِّتِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكْتُبَ أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ شَهَادَةً بِمَوْتِهِ.
وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالْآيَاتِ أَنْ يَجْزِمُوا أَيْضًا بِأَنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَكُنْ مَيِّتَةً أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ ((لِيعَازِرُ)) حَبِيبُهُ وَأَخُو مَرْثَا وَمَرْيَمَ حَبِيبَتِهِ: مَرِضَ فِي قَرْيَتِهِمْ ((بَيْتِ عَنَيَا)) فَأَرْسَلَتَا إِلَى الْمَسِيحِ قَائِلَتَيْنِ: ((هُوَ ذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ)) فَمَكَثَ يَوْمَيْنِ وَحَضَرَ فَوَجَدَ أَنَّهُ مَاتَ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَلَاقَتْهُ مَرْثَا وَقَالَتْ: يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي، ثُمَّ دَعَتْ أُخْتَهَا مَرْيَمَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً كَمَا قَالَتْ مَرْثَا، وَكَانُوا قَدْ ذَهَبُوا إِلَى عِنْدِ الْقَبْرِ لِلْبُكَاءِ، فَلَمَّا رَآهَا تَبْكِي وَالْيَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ ((انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ)) وَقَالَ: ((أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟)) فَدَلُّوهُ عَلَيْهِ فَبَكَى وَانْزَعَجَ فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى الْقَبْرِ وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ حَجَرٌ، فَأَمَرَ بِرَفْعِ الْحَجَرِ فَرَفَعُوهُ ((وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ وَقَالَ: أَيُّهَا الْأَبُ أَشْكُرُكَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي، وَلَكِنْ لِأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي)) وَلَمَّا قَالَ هَذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ ((لِعَازِرَ! هَلُمَّ خَارِجًا)) فَخَرَجَ الْمَيِّتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ مَرْبُوطَتَانِ بِأَقْمِطَةٍ وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ، فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ. انْتَهَى. مُلَخَّصًا مِنَ الْفَصْلِ ١١ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا.
أَقُولُ: إِنَّ ٢٧ مِنْ عَجَائِبِ الْمَسِيحِ الْمَذْكُورَةِ شِفَاءُ مَرْضَى وَمَجَانِينَ لَابَسَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَثَلَاثٌ مِنْهَا إِقَامَةُ مَوْتَى عَقِبَ مَوْتِهِمْ، وَمَا بَقِيَ فَمَسْأَلَةُ الْحَبَلِ بِهِ وَتَحْوِيلُهُ الْمَاءَ إِلَى خَمْرٍ وَسَحْبِ الشَّبَكَةِ فِي بَحْرِ الْجَلِيلِ، وَإِشْبَاعِ خَمْسَةِ آلَافٍ مَرَّةً وَأَرْبَعَةِ آلَافٍ مَرَّةً أُخْرَى، وَضَرْبُ التِّينَةِ الْعَقِيمَةِ بِمَا أَيْبَسَهَا، وَقِيَامَةُ الْمَسِيحِ، وَصَيْدُ السَّمَكِ وَالصُّعُودِ.
وَإِنَّنَا نُلَخِّصُ رِوَايَةَ الْأَنَاجِيلِ لِأَهَمِّهَا وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وَنَذْكُرُ مَا يَقُولُهُ فِيهَا مُنْكِرُو الْعَجَائِبِ
الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ شَابٌّ مِنْ مَدِينَةِ نَابِينَ كَانَ مَحْمُولًا فِي جَنَازَةٍ وَأُمُّهُ تَبْكِي فَاسْتَوْقَفَ النَّعْشَ، وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الشَّابُّ لَكَ أَقُولُ قُمْ ; فَجَلَسَ وَابْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ، فَأَخَذَ الْجَمِيعَ خَوْفٌ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهُ (لُوقَا ٧: ١١ - ١٦)
الثَّانِي: صَبِيَّةٌ مَاتَتْ فَقَالَ لَهُ أَبُوهَا وَكَانَ رَئِيسًا: ابْنَتِي الْآنَ مَاتَتْ لَكِنْ تَعَالَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهَا فَتَحْيَا. فَجَاءَ بَيْتَ الرَّئِيسِ وَوَجَدَ الْمُزَمِّرِينَ وَالْجَمْعَ يَضِجُّونَ فَقَالَ لَهُمْ ((تَنَحَّوْا فَإِنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ)) فَضَحِكُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَخْرَجَ الْجَمْعَ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا فَقَامَتِ الصَّبِيَّةُ (مَتَّ ٩: ١٨ - ٢٤).
فَمُنْكِرُو الْعَجَائِبِ يَقُولُونَ إِنَّ كُلًّا مِنَ الشَّابِّ وَالشَّابَّةِ لَمْ يَكُونَا قَدْ مَاتَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ قَدْ قَامُوا مِنْ نُعُوشِهِمْ، بَلْ مِنْ قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَنْ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُمْ مَاتُوا، وَلِذَلِكَ تَمْنَعُ الْحُكُومَاتُ الْمَدَنِيَّةُ دَفْنَ الْمَيِّتِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكْتُبَ أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ شَهَادَةً بِمَوْتِهِ.
وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالْآيَاتِ أَنْ يَجْزِمُوا أَيْضًا بِأَنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَكُنْ مَيِّتَةً أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ ((لِيعَازِرُ)) حَبِيبُهُ وَأَخُو مَرْثَا وَمَرْيَمَ حَبِيبَتِهِ: مَرِضَ فِي قَرْيَتِهِمْ ((بَيْتِ عَنَيَا)) فَأَرْسَلَتَا إِلَى الْمَسِيحِ قَائِلَتَيْنِ: ((هُوَ ذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ)) فَمَكَثَ يَوْمَيْنِ وَحَضَرَ فَوَجَدَ أَنَّهُ مَاتَ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَلَاقَتْهُ مَرْثَا وَقَالَتْ: يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي، ثُمَّ دَعَتْ أُخْتَهَا مَرْيَمَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً كَمَا قَالَتْ مَرْثَا، وَكَانُوا قَدْ ذَهَبُوا إِلَى عِنْدِ الْقَبْرِ لِلْبُكَاءِ، فَلَمَّا رَآهَا تَبْكِي وَالْيَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ ((انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ)) وَقَالَ: ((أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟)) فَدَلُّوهُ عَلَيْهِ فَبَكَى وَانْزَعَجَ فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى الْقَبْرِ وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ حَجَرٌ، فَأَمَرَ بِرَفْعِ الْحَجَرِ فَرَفَعُوهُ ((وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ وَقَالَ: أَيُّهَا الْأَبُ أَشْكُرُكَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي، وَلَكِنْ لِأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي)) وَلَمَّا قَالَ هَذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ ((لِعَازِرَ! هَلُمَّ خَارِجًا)) فَخَرَجَ الْمَيِّتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ مَرْبُوطَتَانِ بِأَقْمِطَةٍ وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ، فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ. انْتَهَى. مُلَخَّصًا مِنَ الْفَصْلِ ١١ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا.
130
أَتَدْرِي أَيُّهَا الْقَارِئُ مَا يَقُولُ مُنْكِرُو الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ؟ إِنَّنِي سَمِعْتُ طَبِيبًا سُورِيًّا بُرُوتُسْتَنْتِيًّا يَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ بِتَوَاطُؤٍ بَيْنِهِ وَبَيْنَ حَبِيبَتَيْهِ وَحَبِيبِهِ لِإِقْنَاعِ الْيَهُودِ بِنُبُوَّتِهِ. وَحَاشَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَإِنَّمَا نَنْقُلُ هَذَا لِنُبَيِّنَ أَنَّ النَّصَارَى لَا يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَةَ الْبُرْهَانِ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَلَى نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ فَضْلًا عَنْ أُلُوهِيَّتِهِ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ وَتَنْفِي الْأُلُوهِيَّةَ، كَمَا فَهِمَ الَّذِينَ شَاهَدُوهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ إِلَى كَاتِبِيهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي رِوَايَتِهَا، دَعْ قَوْلَ الْمُنْكِرِينَ بِاحْتِمَالِ الِاحْتِيَالِ وَالتَّلْبِيسِ أَوِ الْمُصَادَقَةِ فِيهَا، أَوْ عَدَّهُمْ إِيَّاهَا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا مِنْ فَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ.
وَإِذَا كَانَ أَعْظَمُهَا وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ يَحْتِمَلُ مَا ذَكَرُوا مِنَ التَّأْوِيلِ فَمَا الْقَوْلُ فِي شِفَاءِ الْمَرْضَى وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ الَّذِي يَكْثُرُ وُقُوعُ مِثْلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْأَطِبَّاءُ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَا يَدَّعِي الْعَوَّامُ مِنْ دُخُولِ الشَّيَاطِينِ فِي أَجْسَادِ النَّاسِ مَا هُوَ إِلَّا أَمْرَاضٌ عَصَبِيَّةٌ تُشْفَى بِالْمُعَالَجَةِ أَوْ بِالْوَهْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَدُونَهَا مَسْأَلَةُ الْخَمْرِ وَالسَّمَكِ وَيُبْسِ التِّينَةِ.
آيَةُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَقْلِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ وَسَائِرُ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ:
هَذَا وَإِنَّ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ تَارَةً وَبِالْمُرْسَلَةِ أُخْرَى مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ مَا رَوَاهُ الْإِنْجِيلِيُّونَ وَأَبْعَدُ عَنِ التَّأْوِيلِ. وَلَمْ يَجْعَلْهَا بُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ الدِّينِ وَلَا أَمَرَ بِتَلْقِينِهَا لِلنَّاسِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتَهُ قَائِمَةً عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فِي ثُبُوتِهَا وَفِي مَوْضُوعِهَا ; لِأَنَّ الْبَشَرَ قَدْ بَدَءُوا يَدْخُلُونَ فِي سِنِّ الرُّشْدِ وَالِاسْتِقْلَالِ النَّوْعِيِّ الَّذِي لَا يَخْضَعُ عَقْلُ صَاحِبِهِ فِيهِ لِاتِّبَاعِ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُمْ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلنِّظَامِ الْمَأْلُوفِ فِي سُنَنِ الْكَوْنِ، بَلْ لَا يَكْمُلُ ارْتِقَاؤُهُمْ وَاسْتِعْدَادُهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ مَوَانِعِهِ، فَجَعَلَ حُجَّةَ نُبُوَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَيْنَ مَوْضُوعِ نُبُوَّتِهِ وَهُوَ كِتَابُهُ الْمُعْجِزُ لِلْبَشَرِ بِهِدَايَتِهِ وَعُلُومِهِ وَإِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ: كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِيُرَبِّيَ الْبَشَرَ عَلَى التَّرَقِّي فِي هَذَا الِاسْتِقْلَالِ، إِلَى مَا هُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ.
هَذَا الْفَصْلُ بَيْنَ النُّبُوَّاتِ الْخَاصَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَالنُّبُوَّةِ الْعَامَّةِ الْبَاقِيَةِ، قَدْ عَبَّرَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: ((مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ. وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.
وَقَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ (الْعَجَائِبَ) عَلَى رَسُولِهِ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ السَّابِقَةِ الَّتِي
وَإِذَا كَانَ أَعْظَمُهَا وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ يَحْتِمَلُ مَا ذَكَرُوا مِنَ التَّأْوِيلِ فَمَا الْقَوْلُ فِي شِفَاءِ الْمَرْضَى وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ الَّذِي يَكْثُرُ وُقُوعُ مِثْلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْأَطِبَّاءُ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَا يَدَّعِي الْعَوَّامُ مِنْ دُخُولِ الشَّيَاطِينِ فِي أَجْسَادِ النَّاسِ مَا هُوَ إِلَّا أَمْرَاضٌ عَصَبِيَّةٌ تُشْفَى بِالْمُعَالَجَةِ أَوْ بِالْوَهْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَدُونَهَا مَسْأَلَةُ الْخَمْرِ وَالسَّمَكِ وَيُبْسِ التِّينَةِ.
آيَةُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَقْلِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ وَسَائِرُ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ:
هَذَا وَإِنَّ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ تَارَةً وَبِالْمُرْسَلَةِ أُخْرَى مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ مَا رَوَاهُ الْإِنْجِيلِيُّونَ وَأَبْعَدُ عَنِ التَّأْوِيلِ. وَلَمْ يَجْعَلْهَا بُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ الدِّينِ وَلَا أَمَرَ بِتَلْقِينِهَا لِلنَّاسِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتَهُ قَائِمَةً عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فِي ثُبُوتِهَا وَفِي مَوْضُوعِهَا ; لِأَنَّ الْبَشَرَ قَدْ بَدَءُوا يَدْخُلُونَ فِي سِنِّ الرُّشْدِ وَالِاسْتِقْلَالِ النَّوْعِيِّ الَّذِي لَا يَخْضَعُ عَقْلُ صَاحِبِهِ فِيهِ لِاتِّبَاعِ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُمْ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلنِّظَامِ الْمَأْلُوفِ فِي سُنَنِ الْكَوْنِ، بَلْ لَا يَكْمُلُ ارْتِقَاؤُهُمْ وَاسْتِعْدَادُهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ مَوَانِعِهِ، فَجَعَلَ حُجَّةَ نُبُوَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَيْنَ مَوْضُوعِ نُبُوَّتِهِ وَهُوَ كِتَابُهُ الْمُعْجِزُ لِلْبَشَرِ بِهِدَايَتِهِ وَعُلُومِهِ وَإِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ: كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِيُرَبِّيَ الْبَشَرَ عَلَى التَّرَقِّي فِي هَذَا الِاسْتِقْلَالِ، إِلَى مَا هُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ.
هَذَا الْفَصْلُ بَيْنَ النُّبُوَّاتِ الْخَاصَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَالنُّبُوَّةِ الْعَامَّةِ الْبَاقِيَةِ، قَدْ عَبَّرَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: ((مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ. وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.
وَقَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ (الْعَجَائِبَ) عَلَى رَسُولِهِ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ السَّابِقَةِ الَّتِي
131
لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ، وَبِهِدَايَتِهِ وَبِعُلُومِهِ وَبِإِعْجَازِهِ، وَعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ وَلَا جَمَاعَةٍ وَلَا الْعَالَمِ كُلِّهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (١٧: ٨٨).
وَأَمَّا مَا أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، بَلْ كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ فِي الشَّدَائِدِ: كَنَصْرِهِمْ عَلَى الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَفُوقُونَهُمْ عَدَدًا وَعُدَدًا وَاسْتِعْدَادًا بِالسِّلَاحِ وَالطَّعَامِ، وَنَاهِيكَ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ وَالنَّصْرِ فِيهَا، ثُمَّ بِغَزْوَةِ الْأَحْزَابِ إِذْ تَأَلَّبَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَحَاطُوا بِمَدِينَتِهِمْ فَرَدَّهُمُ اللهُ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ.
مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ شِفَاءُ الْمَرْضَى وَإِبْصَارُ الْأَعْمَى وَإِشْبَاعُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَمَا وَقَعَ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْهُ تَسْخِيرُ اللهِ السَّحَابَ لِإِسْقَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَثْبِيتُ أَقْدَامِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تَسِيخُ فِي الرَّمْلِ بِبَدْرٍ، وَلَمْ يُصِبِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْثِهَا شَيْءٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذْ نَفِدَ مَاءُ الْجَيْشِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْحَرُّ شَدِيدٌ حَتَّى كَانُوا يَذْبَحُونَ الْبَعِيرَ وَيُخْرِجُونَ الْفَرْثَ مِنْ كَرِشِهِ لِيَعْتَصِرُوهُ وَيَبِلُّوا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى قِلَّةِ الرَّوَاحِلِ مَعَهُمْ، وَكَانَ يَقِلُّ مَنْ يَجِدُ مِنْ عُصَارَتِهِ مَا يَشْرَبُهُ شُرْبًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى كَانَتِ السَّمَاءُ قَدْ سَكَبَتْ لَهُمْ مَاءً مَلَئُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الرَّوَايَا وَلَمْ تَتَجَاوَزْ عَسْكَرَهُمْ.
تَأْثِيرُ الْعَجَائِبِ فِي الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ.
لَقَدْ كَانَتْ آيَاتُ الْمُرْسَلِينَ حُجَّةً عَلَى الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ اسْتَحَقُّوا بِجُحُودِهَا عَذَابَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهَا مِمَّنْ شَاهَدُوهَا إِلَّا الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ بِهَا، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِآيَاتِ مُوسَى، وَإِنَّ أَكْثَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْقِلُوهَا، وَقَدِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَعَبَدُوهُ بَعْدَ رُؤْيَتِهَا. وَقَالَ الْيَهُودُ فِي الْمَسِيحِ: لَوْلَا أَنَّهُ رَئِيسُ الشَّيَاطِينِ لَمَا أَخْرَجَ الشَّيْطَانَ مِنَ الْإِنْسَانِ وَقَالُوا: إِنَّ إِبْلِيسَ أَوْ بَعْلَزْبُولَ يَفْعَلُ أَكْبَرَ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ وَقَدْ رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ سَحَابَةً وَاحِدَةً فِي إِبَّانِ الْقَيْظِ قَدْ مَطَرَتْ عَسْكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَحْدَهُ عِنْدَ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّنَا مُطِرْنَا بِتَأْثِيرِ النَّوْءِ لَا بِدُعَائِهِ.
وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مَنْ آمَنَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ إِنَّمَا خَضَعَتْ أَعْنَاقُهُمْ وَاسْتَخْذَتْ أَنْفُسُهُمْ لِمَا لَا يَعْقِلُونَ لَهُ سَبَبًا، وَقَدِ انْطَوَتِ الْفِطْرَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ فَالْآتِي بِهِ مَظْهَرٌ لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْخَالِقَ نَفْسَهُ وَكَانَ أَضْعَافُ أَضْعَافِهِمْ يَخْضَعُ مِثْلَ هَذَا الْخُضُوعِ نَفْسِهِ لِلسَّحَرَةِ وَالْمُشَعْوِذِينَ وَالدَّجَّالِينَ وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا مَا أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، بَلْ كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ فِي الشَّدَائِدِ: كَنَصْرِهِمْ عَلَى الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَفُوقُونَهُمْ عَدَدًا وَعُدَدًا وَاسْتِعْدَادًا بِالسِّلَاحِ وَالطَّعَامِ، وَنَاهِيكَ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ وَالنَّصْرِ فِيهَا، ثُمَّ بِغَزْوَةِ الْأَحْزَابِ إِذْ تَأَلَّبَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَحَاطُوا بِمَدِينَتِهِمْ فَرَدَّهُمُ اللهُ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ.
مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ شِفَاءُ الْمَرْضَى وَإِبْصَارُ الْأَعْمَى وَإِشْبَاعُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَمَا وَقَعَ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْهُ تَسْخِيرُ اللهِ السَّحَابَ لِإِسْقَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَثْبِيتُ أَقْدَامِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تَسِيخُ فِي الرَّمْلِ بِبَدْرٍ، وَلَمْ يُصِبِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْثِهَا شَيْءٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذْ نَفِدَ مَاءُ الْجَيْشِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْحَرُّ شَدِيدٌ حَتَّى كَانُوا يَذْبَحُونَ الْبَعِيرَ وَيُخْرِجُونَ الْفَرْثَ مِنْ كَرِشِهِ لِيَعْتَصِرُوهُ وَيَبِلُّوا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى قِلَّةِ الرَّوَاحِلِ مَعَهُمْ، وَكَانَ يَقِلُّ مَنْ يَجِدُ مِنْ عُصَارَتِهِ مَا يَشْرَبُهُ شُرْبًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى كَانَتِ السَّمَاءُ قَدْ سَكَبَتْ لَهُمْ مَاءً مَلَئُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الرَّوَايَا وَلَمْ تَتَجَاوَزْ عَسْكَرَهُمْ.
تَأْثِيرُ الْعَجَائِبِ فِي الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ.
لَقَدْ كَانَتْ آيَاتُ الْمُرْسَلِينَ حُجَّةً عَلَى الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ اسْتَحَقُّوا بِجُحُودِهَا عَذَابَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهَا مِمَّنْ شَاهَدُوهَا إِلَّا الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ بِهَا، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِآيَاتِ مُوسَى، وَإِنَّ أَكْثَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْقِلُوهَا، وَقَدِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَعَبَدُوهُ بَعْدَ رُؤْيَتِهَا. وَقَالَ الْيَهُودُ فِي الْمَسِيحِ: لَوْلَا أَنَّهُ رَئِيسُ الشَّيَاطِينِ لَمَا أَخْرَجَ الشَّيْطَانَ مِنَ الْإِنْسَانِ وَقَالُوا: إِنَّ إِبْلِيسَ أَوْ بَعْلَزْبُولَ يَفْعَلُ أَكْبَرَ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ وَقَدْ رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ سَحَابَةً وَاحِدَةً فِي إِبَّانِ الْقَيْظِ قَدْ مَطَرَتْ عَسْكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَحْدَهُ عِنْدَ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّنَا مُطِرْنَا بِتَأْثِيرِ النَّوْءِ لَا بِدُعَائِهِ.
وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مَنْ آمَنَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ إِنَّمَا خَضَعَتْ أَعْنَاقُهُمْ وَاسْتَخْذَتْ أَنْفُسُهُمْ لِمَا لَا يَعْقِلُونَ لَهُ سَبَبًا، وَقَدِ انْطَوَتِ الْفِطْرَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ فَالْآتِي بِهِ مَظْهَرٌ لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْخَالِقَ نَفْسَهُ وَكَانَ أَضْعَافُ أَضْعَافِهِمْ يَخْضَعُ مِثْلَ هَذَا الْخُضُوعِ نَفْسِهِ لِلسَّحَرَةِ وَالْمُشَعْوِذِينَ وَالدَّجَّالِينَ وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ.
132
وَقَدْ نَقَلُوا عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَهُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ
وَيُعْطَوْنَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ حَتَّى يَضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا (مَتَّى ٢٤: ٢٤) وَقَدْ ذَكَرَ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عَدَدًا كَثِيرًا مِنْهُمْ وَأَسْمَاءَ بَعْضِهِمْ. وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْهُمُ الْقَادْيَانِيُّ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ مُسْلِمِي الْهِنْدِ، وَتَذْكُرُ صُحُفُ الْأَخْبَارِ ظُهُورَ هِنْدِيٍّ آخَرَ يُرِيدُ إِظْهَارَ عَجَائِبِهِ فِي أَمْرِيكَا فِي هَذَا الْعَامِ وَنَقَلُوا عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ: ((الْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ لَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ مَقْبُولًا فِي وَطَنِهِ)) وَجَعَلَ الْقَاعِدَةَ لِمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ الصَّادِقِ تَأْثِيرَ هِدَايَتِهِ فِي النَّاسِ لَا الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبَ فَقَالَ: ((مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ)) وَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدَهُ - وَلَا قَبْلَهُ - نَبِيٌّ كَانَتْ ثِمَارُهُ الطَّيِّبَةُ فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ كَثِمَارِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (١٦: ١٢ إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا وَلَكِنْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الْآنَ، وَأَمَّا مَتَّى جَاءَ ذَلِكَ (أَيِ الْبَارْقَلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ) إِلَخْ وَمَا جَاءَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ أَرْشَدَ النَّاسَ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ فِي الدِّينِ مِنْ تَوْحِيدٍ وَتَشْرِيعٍ وَحِكْمَةٍ وَتَأْدِيبٍ غَيْرَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ.
وَمَنِ اسْتَقْرَأَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ الْوَثَنِيَّةِ أَكْثَرُ اعْتِمَادًا عَلَى الْعَجَائِبِ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ، وَرَأَى الْجَمِيعَ يَنْقُلُونَ مِنْهَا عَنْ مُعْتَقِدِيهِمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ أَكْثَرَ مِمَّا نَقَلُوا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ أَكْثَرَ الْمُصَدِّقِينَ بِهَا مِنَ الْخُرَافِيِّينَ.
ثُبُوتُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ بِنَفْسِهَا وَإِثْبَاتِهَا لِغَيْرِهَا:
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ ثَبَتَتْ بِنَفْسِهَا، أَيْ بِالْبُرْهَانِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ لَا بِالْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ الْكَوْنِيَّةِ، وَأَنَّ هَذَا الْبُرْهَانَ قَائِمٌ مَاثِلٌ لِلْعُقُولِ وَالْحَوَاسِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ آيَاتِ النَّبِيِّينَ السَّابِقِينَ إِلَّا بِثُبُوتِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَالْحُجَّةُ الْوَحِيدَةُ عَلَيْهَا فِي هَذَا الطَّوْرِ الْعِلْمِيِّ الِاسْتِقْلَالِيِّ مِنْ أَطْوَارِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ هُوَ شَهَادَتُهُ لَهَا. فَإِنَّ الْكُتُبَ الَّتِي نَقَلَتْهَا لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ عَزْوِهَا إِلَى مَنْ عُزِيَتْ إِلَيْهِمْ ; إِذْ لَا يُوجَدُ نُسَخٌ مِنْهَا مَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِاللُّغَاتِ الَّتِي كَتَبُوهَا بِهَا لَا تَوَاتُرًا وَلَا آحَادًا، وَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا كَتَبُوهُ عَلَى اخْتِلَافِهِ وَتَنَاقُضِهِ وَتَعَارُضِهِ، وَلَا إِثْبَاتُ صِحَّةِ التَّرَاجِمِ الَّتِي نُقِلَتْ بِهَا، كَمَا قُلْنَا آنِفًا وَبَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ مِرَارًا.
الْكِتَابُ الْإِلَهِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نُقِلَ بِنَصِّهِ الْحَرْفِيِّ تَوَاتُرًا عَمَّنْ جَاءَ بِهِ بِطَرِيقَتَيِ
الْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ مَعًا هُوَ الْقُرْآنُ، وَالنَّبِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نُقِلَ تَارِيخُهُ بِالرِّوَايَاتِ الْمُتَّصِلَةِ الْأَسَانِيدِ حِفْظًا وَكِنَايَةً هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالدِّينُ الْوَحِيدُ الَّذِي يُمْكِنُ لِلْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ فِي الْفَهْمِ وَالرَّأْيِ أَنْ يَعْقِلُوهُ وَيَبْنُوا عَلَيْهِ حُكْمَهُمْ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَأَمَّا خُلَاصَةُ مَا يُمْكِنُ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ لِثُبُوتِ قَضَايَاهُ الْإِجْمَالِيَّةِ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، فَهُوَ أَنَّهُ وُجِدَ فِي جَمِيعِ أُمَمِ الْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ
وَيُعْطَوْنَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ حَتَّى يَضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا (مَتَّى ٢٤: ٢٤) وَقَدْ ذَكَرَ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عَدَدًا كَثِيرًا مِنْهُمْ وَأَسْمَاءَ بَعْضِهِمْ. وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْهُمُ الْقَادْيَانِيُّ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ مُسْلِمِي الْهِنْدِ، وَتَذْكُرُ صُحُفُ الْأَخْبَارِ ظُهُورَ هِنْدِيٍّ آخَرَ يُرِيدُ إِظْهَارَ عَجَائِبِهِ فِي أَمْرِيكَا فِي هَذَا الْعَامِ وَنَقَلُوا عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ: ((الْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ لَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ مَقْبُولًا فِي وَطَنِهِ)) وَجَعَلَ الْقَاعِدَةَ لِمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ الصَّادِقِ تَأْثِيرَ هِدَايَتِهِ فِي النَّاسِ لَا الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبَ فَقَالَ: ((مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ)) وَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدَهُ - وَلَا قَبْلَهُ - نَبِيٌّ كَانَتْ ثِمَارُهُ الطَّيِّبَةُ فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ كَثِمَارِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (١٦: ١٢ إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا وَلَكِنْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الْآنَ، وَأَمَّا مَتَّى جَاءَ ذَلِكَ (أَيِ الْبَارْقَلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ) إِلَخْ وَمَا جَاءَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ أَرْشَدَ النَّاسَ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ فِي الدِّينِ مِنْ تَوْحِيدٍ وَتَشْرِيعٍ وَحِكْمَةٍ وَتَأْدِيبٍ غَيْرَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ.
وَمَنِ اسْتَقْرَأَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ الْوَثَنِيَّةِ أَكْثَرُ اعْتِمَادًا عَلَى الْعَجَائِبِ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ، وَرَأَى الْجَمِيعَ يَنْقُلُونَ مِنْهَا عَنْ مُعْتَقِدِيهِمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ أَكْثَرَ مِمَّا نَقَلُوا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ أَكْثَرَ الْمُصَدِّقِينَ بِهَا مِنَ الْخُرَافِيِّينَ.
ثُبُوتُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ بِنَفْسِهَا وَإِثْبَاتِهَا لِغَيْرِهَا:
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ ثَبَتَتْ بِنَفْسِهَا، أَيْ بِالْبُرْهَانِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ لَا بِالْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ الْكَوْنِيَّةِ، وَأَنَّ هَذَا الْبُرْهَانَ قَائِمٌ مَاثِلٌ لِلْعُقُولِ وَالْحَوَاسِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ آيَاتِ النَّبِيِّينَ السَّابِقِينَ إِلَّا بِثُبُوتِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَالْحُجَّةُ الْوَحِيدَةُ عَلَيْهَا فِي هَذَا الطَّوْرِ الْعِلْمِيِّ الِاسْتِقْلَالِيِّ مِنْ أَطْوَارِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ هُوَ شَهَادَتُهُ لَهَا. فَإِنَّ الْكُتُبَ الَّتِي نَقَلَتْهَا لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ عَزْوِهَا إِلَى مَنْ عُزِيَتْ إِلَيْهِمْ ; إِذْ لَا يُوجَدُ نُسَخٌ مِنْهَا مَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِاللُّغَاتِ الَّتِي كَتَبُوهَا بِهَا لَا تَوَاتُرًا وَلَا آحَادًا، وَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا كَتَبُوهُ عَلَى اخْتِلَافِهِ وَتَنَاقُضِهِ وَتَعَارُضِهِ، وَلَا إِثْبَاتُ صِحَّةِ التَّرَاجِمِ الَّتِي نُقِلَتْ بِهَا، كَمَا قُلْنَا آنِفًا وَبَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ مِرَارًا.
الْكِتَابُ الْإِلَهِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نُقِلَ بِنَصِّهِ الْحَرْفِيِّ تَوَاتُرًا عَمَّنْ جَاءَ بِهِ بِطَرِيقَتَيِ
الْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ مَعًا هُوَ الْقُرْآنُ، وَالنَّبِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نُقِلَ تَارِيخُهُ بِالرِّوَايَاتِ الْمُتَّصِلَةِ الْأَسَانِيدِ حِفْظًا وَكِنَايَةً هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالدِّينُ الْوَحِيدُ الَّذِي يُمْكِنُ لِلْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ فِي الْفَهْمِ وَالرَّأْيِ أَنْ يَعْقِلُوهُ وَيَبْنُوا عَلَيْهِ حُكْمَهُمْ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَأَمَّا خُلَاصَةُ مَا يُمْكِنُ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ لِثُبُوتِ قَضَايَاهُ الْإِجْمَالِيَّةِ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، فَهُوَ أَنَّهُ وُجِدَ فِي جَمِيعِ أُمَمِ الْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ
133
دُعَاةٌ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَإِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِلَى تَرْكِ الشُّرُورِ وَالرَّذَائِلِ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءُ مُبَلِّغُونَ عَنِ اللهِ تَعَالَى مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، كَمَا أَنَّهُ وُجِدَ فِيهِمْ حُكَمَاءُ يَبْنُونَ إِرْشَادَهُمْ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيَضُرُّهُمْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ وَالتَّجْرِبَةِ - وَوُجِدَ فِي جَمِيعِ مَا نُقِلَ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ أُمُورٌ مُخَالِفَةٌ لِلْعَقْلِ وَلِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَأُمُورٌ خَاصَّةٌ بِأَهْلِهَا وَبِزَمَانِهِمْ، وَخُرَافَاتٌ يُنْكِرُهَا الْعَقْلُ وَيَنْقُضُهَا الْعِلْمُ.
وَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ وَنَبِيُّهُ هُوَ الدِّينَ الْوَحِيدَ الَّذِي عُرِفَتْ حَقِيقَتُهُ وَتَارِيخُهُ بِالتَّفْصِيلِ فَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا شُبْهَةَ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمَادِّيِّينَ وَمُقَلِّدَتِهِمْ عَلَيْهِ، بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ فِي شَهَادَتِهِمُ الْإِجْمَالِيَّةِ لَهُ، تَمْهِيدًا لِدَحْضِ الشُّبْهَةِ، وَنُهُوضِ الْحُجَّةِ، فَنَقُولُ:
(دَرْسُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ لِلسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَشَهَادَتُهُمْ بِصِدْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
دَرَسَ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ تَارِيخَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي النَّقْدِ وَالتَّحْلِيلِ، وَدَرَسُوا السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَفَلَوْهَا فَلْيًا وَنَقَشُوهَا بِالْمَنَاقِيشِ، وَقَرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُغَتِهِ وَقَرَءُوا مَا تَرْجَمَهُ بِهِ أَقْوَامُهُمْ، وَكَانُوا عَلَى عِلْمٍ مُحِيطٍ بِكُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَتَارِيخِ الْأَدْيَانِ وَلَا سِيَّمَا الدِّيَانَتَيْنِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَبِمَا كَتَبَهُ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْكَنِيسَةِ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهِ آنِفًا، فَخَرَجُوا مِنْ هَذِهِ الدُّرُوسِ كُلِّهَا بِالنَّتِيجَةِ الْآتِيَةِ:
(إِنَّ مُحَمَّدًا كَانَ سَلِيمَ الْفِطْرَةِ، كَامِلَ الْعَقْلِ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، صَادِقَ الْحَدِيثِ، عَفِيفَ النَّفْسِ، قَنُوعًا بِالْقَلِيلِ مِنَ الرِّزْقِ، غَيْرَ طَمُوعٍ بِالْمَالِ وَلَا جَنُوحٍ إِلَى الْمُلْكِ، وَلَا يُعْنَى بِمَا كَانَ يُعْنَى بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْفَخْرِ، وَالْمُبَارَاةِ فِي تَحْبِيرِ الْخُطَبِ وَقَرْضِ الشِّعْرِ، وَكَانَ يَمْقُتُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَيَحْتَقِرُ مَا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ، كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ وَبِمَا ثَبَتَ مِنْ سِيرَتِهِ وَيَقِينِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ جَزَمُوا بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقًا فِيمَا ادَّعَاهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ سِنِّهِ مِنْ رُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ، وَإِقْرَائِهِ إِيَّاهُ هَذَا الْقُرْآنَ، وَإِنْبَائِهِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ قَوْمِهِ فَسَائِرِ النَّاسِ).
وَزَادَهُمْ ثِقَةً بِصِدْقِهِ أَنْ كَانَ أَوَّلُ النَّاسِ إِيمَانًا بِهِ وَاهْتِدَاءً بِنُبُوَّتِهِ أَعْلَمَهُمْ بِدَخِيلَةِ أَمْرِهِ، وَأَوَّلُهُمْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْعَقْلِ وَالنُّبْلِ وَالْفَضِيلَةِ، وَمَوْلَاهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَنْ يَلْحَقَ بِوَالِدِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَيَكُونَ مَعَهُمْ حُرًّا، ثُمَّ إِنْ كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْعَرَبِ حُرِّيَّةً وَاسْتِقْلَالًا فِي الرَّأْيِ وَلَا سِيَّمَا أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِأَنَّ لِلْبَشَرِ أَرْوَاحًا خَالِدَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ فَقَدْ آمَنُوا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عِلْمٍ وَبُرْهَانٍ، وَهُمْ يَزِيدُونَ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، بِقَدْرِ مَا يُتَاحُ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِالْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْمَادِّيُّونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ تَفْسِيرٍ لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ أَوِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي
وَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ وَنَبِيُّهُ هُوَ الدِّينَ الْوَحِيدَ الَّذِي عُرِفَتْ حَقِيقَتُهُ وَتَارِيخُهُ بِالتَّفْصِيلِ فَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا شُبْهَةَ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمَادِّيِّينَ وَمُقَلِّدَتِهِمْ عَلَيْهِ، بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ فِي شَهَادَتِهِمُ الْإِجْمَالِيَّةِ لَهُ، تَمْهِيدًا لِدَحْضِ الشُّبْهَةِ، وَنُهُوضِ الْحُجَّةِ، فَنَقُولُ:
(دَرْسُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ لِلسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَشَهَادَتُهُمْ بِصِدْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
دَرَسَ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ تَارِيخَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي النَّقْدِ وَالتَّحْلِيلِ، وَدَرَسُوا السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَفَلَوْهَا فَلْيًا وَنَقَشُوهَا بِالْمَنَاقِيشِ، وَقَرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُغَتِهِ وَقَرَءُوا مَا تَرْجَمَهُ بِهِ أَقْوَامُهُمْ، وَكَانُوا عَلَى عِلْمٍ مُحِيطٍ بِكُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَتَارِيخِ الْأَدْيَانِ وَلَا سِيَّمَا الدِّيَانَتَيْنِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَبِمَا كَتَبَهُ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْكَنِيسَةِ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهِ آنِفًا، فَخَرَجُوا مِنْ هَذِهِ الدُّرُوسِ كُلِّهَا بِالنَّتِيجَةِ الْآتِيَةِ:
(إِنَّ مُحَمَّدًا كَانَ سَلِيمَ الْفِطْرَةِ، كَامِلَ الْعَقْلِ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، صَادِقَ الْحَدِيثِ، عَفِيفَ النَّفْسِ، قَنُوعًا بِالْقَلِيلِ مِنَ الرِّزْقِ، غَيْرَ طَمُوعٍ بِالْمَالِ وَلَا جَنُوحٍ إِلَى الْمُلْكِ، وَلَا يُعْنَى بِمَا كَانَ يُعْنَى بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْفَخْرِ، وَالْمُبَارَاةِ فِي تَحْبِيرِ الْخُطَبِ وَقَرْضِ الشِّعْرِ، وَكَانَ يَمْقُتُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَيَحْتَقِرُ مَا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ، كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ وَبِمَا ثَبَتَ مِنْ سِيرَتِهِ وَيَقِينِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ جَزَمُوا بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقًا فِيمَا ادَّعَاهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ سِنِّهِ مِنْ رُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ، وَإِقْرَائِهِ إِيَّاهُ هَذَا الْقُرْآنَ، وَإِنْبَائِهِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ قَوْمِهِ فَسَائِرِ النَّاسِ).
وَزَادَهُمْ ثِقَةً بِصِدْقِهِ أَنْ كَانَ أَوَّلُ النَّاسِ إِيمَانًا بِهِ وَاهْتِدَاءً بِنُبُوَّتِهِ أَعْلَمَهُمْ بِدَخِيلَةِ أَمْرِهِ، وَأَوَّلُهُمْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْعَقْلِ وَالنُّبْلِ وَالْفَضِيلَةِ، وَمَوْلَاهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَنْ يَلْحَقَ بِوَالِدِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَيَكُونَ مَعَهُمْ حُرًّا، ثُمَّ إِنْ كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْعَرَبِ حُرِّيَّةً وَاسْتِقْلَالًا فِي الرَّأْيِ وَلَا سِيَّمَا أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِأَنَّ لِلْبَشَرِ أَرْوَاحًا خَالِدَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ فَقَدْ آمَنُوا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عِلْمٍ وَبُرْهَانٍ، وَهُمْ يَزِيدُونَ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، بِقَدْرِ مَا يُتَاحُ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِالْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْمَادِّيُّونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ تَفْسِيرٍ لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ أَوِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي
134
لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهَا وَثُبُوتِهَا، وَبِتَصْوِيرِهَا بِالصُّورَةِ الَّتِي يَقْبَلُهَا الْعَقْلُ، الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِمَا وَرَاءَ الْمَادَّةِ أَوِ الطَّبِيعَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ.
قَدَحُوا زِنَادَ الْفِكْرِ، وَاسْتَوَرُوا بِهِ نَظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفَةِ، فَلَاحَ لَهُمْ مِنْهُ سَقْطٌ أَبْصَرُوا فِي ضَوْئِهِ الضَّئِيلِ الصُّورَةَ الْخَيَالِيَّةَ الَّتِي أَجْمَلَهَا الْأُسْتَاذُ مُونْتِيِهْ فِي عِبَارَتِهِ الَّتِي نَقَلْنَاهَا عَنْهُ آنِفًا وَفَصَّلَهَا إِمِيلْ دِرِمِنْغَامْ وَغَيْرُهُ بِمَا نَشْرَحُهُ هَاهُنَا.
(شُبْهَةُ مُنْكِرِي عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ)
(وَتَصْوِيرُهُمْ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
خُلَاصَةُ رَأْيِ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ أَنَّ الْوَحْيَ إِلْهَامٌ يَفِيضُ مِنْ نَفْسِ النَّبِيِّ الْمُوحَى إِلَيْهِ لَا مِنَ الْخَارِجِ، ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَهُ الْعَالِيَةَ، وَسَرِيرَتَهُ الطَّاهِرَةَ، وَقُوَّةَ إِيمَانِهِ بِاللهِ وَبِوُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَتَرْكِ مَا سِوَاهَا مِنْ عِبَادَةٍ وَثَنِيَّةٍ، وَتَقَالِيدَ وِرَاثِيَّةٍ، يَكُونُ لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ مَا يَتَجَلَّى فِي ذِهْنِهِ وَيُحْدِثُ فِي عَقْلِهِ الرُّؤَى وَالْأَحْوَالَ الرُّوحِيَّةَ، فَيَتَصَوَّرُ مَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ إِرْشَادًا إِلَهِيًّا نَازِلًا عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، أَوْ يَتَمَثَّلُ لَهُ رَجُلٌ يُلَقِّنُهُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَقَدْ يَسْمَعُهُ يَقُولُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَرَى وَيَسْمَعُ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي الْيَقَظَةِ
كَمَا يَرَى وَيَسْمَعُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْوَحْيِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكُلُّ مَا يُخْبِرُ بِهِ النَّبِيُّ مِنْ كَلَامٍ أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ أَوْ مَلَكٌ أَلْقَاهُ عَلَى سَمْعِهِ فَهُوَ خَبَرٌ صَادِقٌ عِنْدَهُ.
يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيُّونَ: نَحْنُ لَا نَشُكُّ فِي صِدْقِ مُحَمَّدٍ فِي خَبَرِهِ عَمَّا رَأَى وَسَمِعَ، وَإِنَّمَا نَقُولُ إِنَّ مَنْبَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ جَاءَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي وَرَاءَ عَالَمِ الْمَادَّةِ وَالطَّبِيعَةِ الَّذِي يَعْرِفُهُ جَمِيعُ النَّاسِ ; فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا وُجُودُهُ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ مَا يَنْفِيهِ وَيُلْحِقُهُ بِالْمُحَالِ، وَإِنَّمَا نُفَسِّرُ الظَّوَاهِرَ غَيْرَ الْمُعْتَادَةِ بِمَا عَرَفْنَا وَثَبَتَ عِنْدَنَا دُونَ مَا لَمْ يَثْبُتْ.
وَيَضْرِبُونَ مَثَلًا لِهَذَا الْوَحْيِ قِصَّةَ جَانْ دَارْكِ الْفَتَاةِ الْإِفْرَنْسِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَتِ الْكَنِيسَةُ الْكَاثُولِيكِيَّةُ قَدَاسَتَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا بِزَمَنٍ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ الَّذِي يُصَوِّرُونَ بِهِ ظَاهِرَةَ الْوَحْيِ قَدْ سَرَتْ شُبْهَتُهُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُرْتَابِينَ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ فِي نَظَرِيَّاتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ أَوْ يَقْتَنِعُونَ بِهَا.
وَإِنَّنِي أَفْتَتِحُ الْكَلَامَ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَيَالِيَّةِ بِالْكَلَامِ عَلَى جَانْ دَارْكْ فَقَدْ أُلْقِيَ إِلَيَّ سُؤَالٌ عَنْهَا نَشَرْتُهُ مَعَ الْجَوَابِ عَنْهُ فِي صَفْحَةِ ٧٨٨ مِنَ الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنَ الْمَنَارِ (سَنَةَ ١٣٢١ هـ) وَهَذَا نَصُّهُ.
قَدَحُوا زِنَادَ الْفِكْرِ، وَاسْتَوَرُوا بِهِ نَظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفَةِ، فَلَاحَ لَهُمْ مِنْهُ سَقْطٌ أَبْصَرُوا فِي ضَوْئِهِ الضَّئِيلِ الصُّورَةَ الْخَيَالِيَّةَ الَّتِي أَجْمَلَهَا الْأُسْتَاذُ مُونْتِيِهْ فِي عِبَارَتِهِ الَّتِي نَقَلْنَاهَا عَنْهُ آنِفًا وَفَصَّلَهَا إِمِيلْ دِرِمِنْغَامْ وَغَيْرُهُ بِمَا نَشْرَحُهُ هَاهُنَا.
(شُبْهَةُ مُنْكِرِي عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ)
(وَتَصْوِيرُهُمْ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
خُلَاصَةُ رَأْيِ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ أَنَّ الْوَحْيَ إِلْهَامٌ يَفِيضُ مِنْ نَفْسِ النَّبِيِّ الْمُوحَى إِلَيْهِ لَا مِنَ الْخَارِجِ، ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَهُ الْعَالِيَةَ، وَسَرِيرَتَهُ الطَّاهِرَةَ، وَقُوَّةَ إِيمَانِهِ بِاللهِ وَبِوُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَتَرْكِ مَا سِوَاهَا مِنْ عِبَادَةٍ وَثَنِيَّةٍ، وَتَقَالِيدَ وِرَاثِيَّةٍ، يَكُونُ لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ مَا يَتَجَلَّى فِي ذِهْنِهِ وَيُحْدِثُ فِي عَقْلِهِ الرُّؤَى وَالْأَحْوَالَ الرُّوحِيَّةَ، فَيَتَصَوَّرُ مَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ إِرْشَادًا إِلَهِيًّا نَازِلًا عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، أَوْ يَتَمَثَّلُ لَهُ رَجُلٌ يُلَقِّنُهُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَقَدْ يَسْمَعُهُ يَقُولُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَرَى وَيَسْمَعُ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي الْيَقَظَةِ
كَمَا يَرَى وَيَسْمَعُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْوَحْيِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكُلُّ مَا يُخْبِرُ بِهِ النَّبِيُّ مِنْ كَلَامٍ أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ أَوْ مَلَكٌ أَلْقَاهُ عَلَى سَمْعِهِ فَهُوَ خَبَرٌ صَادِقٌ عِنْدَهُ.
يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيُّونَ: نَحْنُ لَا نَشُكُّ فِي صِدْقِ مُحَمَّدٍ فِي خَبَرِهِ عَمَّا رَأَى وَسَمِعَ، وَإِنَّمَا نَقُولُ إِنَّ مَنْبَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ جَاءَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي وَرَاءَ عَالَمِ الْمَادَّةِ وَالطَّبِيعَةِ الَّذِي يَعْرِفُهُ جَمِيعُ النَّاسِ ; فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا وُجُودُهُ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ مَا يَنْفِيهِ وَيُلْحِقُهُ بِالْمُحَالِ، وَإِنَّمَا نُفَسِّرُ الظَّوَاهِرَ غَيْرَ الْمُعْتَادَةِ بِمَا عَرَفْنَا وَثَبَتَ عِنْدَنَا دُونَ مَا لَمْ يَثْبُتْ.
وَيَضْرِبُونَ مَثَلًا لِهَذَا الْوَحْيِ قِصَّةَ جَانْ دَارْكِ الْفَتَاةِ الْإِفْرَنْسِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَتِ الْكَنِيسَةُ الْكَاثُولِيكِيَّةُ قَدَاسَتَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا بِزَمَنٍ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ الَّذِي يُصَوِّرُونَ بِهِ ظَاهِرَةَ الْوَحْيِ قَدْ سَرَتْ شُبْهَتُهُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُرْتَابِينَ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ فِي نَظَرِيَّاتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ أَوْ يَقْتَنِعُونَ بِهَا.
وَإِنَّنِي أَفْتَتِحُ الْكَلَامَ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَيَالِيَّةِ بِالْكَلَامِ عَلَى جَانْ دَارْكْ فَقَدْ أُلْقِيَ إِلَيَّ سُؤَالٌ عَنْهَا نَشَرْتُهُ مَعَ الْجَوَابِ عَنْهُ فِي صَفْحَةِ ٧٨٨ مِنَ الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنَ الْمَنَارِ (سَنَةَ ١٣٢١ هـ) وَهَذَا نَصُّهُ.
135
شُبْهَةٌ عَلَى الْوَحْيِ
حَضْرَةَ الْأُسْتَاذِ الرَّشِيدِ
عَرَضَتْ لِي شُبَهَاتٌ فِي وُقُوعِ الْوَحْيِ (وَهُوَ أَسَاسُ الدِّينِ) فَعَمَدْتُ إِلَى رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ لِلشَّيْخِ مُحَمَّدْ عَبْدُهْ - حَيْثُ وَقَعَ اخْتِيَارِي عَلَيْهَا - وَقَرَأْتُ فِي بَابَيْ (حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْوَحْيِ) وَ (إِمْكَانِ الْوَحْيِ) فَوَجَدْتُ الْكَلَامَ وَجِيهًا مَعْقُولًا، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الشَّيْءِ لَا تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَهُ، وَكَذَا إِمْكَانُهُ وَعَدَمُ اسْتِحَالَتِهِ عَقْلًا لَا يَقْتَضِي حُصُولَهُ. ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدُ مِنْ أَنَّ حَالَةَ النَّبِيِّ وَسُلُوكَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ بِجَلَائِلِ الْأَعْمَالِ وَبِوُقُوعِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيْهِ هُوَ دَلِيلُ نُبُوَّتِهِ وَتَأْيِيدُ بَعْثَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ (كَوْنُ) النَّبِيِّ حَمِيدَ السِّيرَةِ فِي عَشِيرَتِهِ صَادِقًا فِي دَعْوَتِهِ - أَعْنِي مُعْتَقِدًا فِي نَفْسِهِ - سَبَبًا فِي نُهُوضِ أُمَّتِهِ، وَلَا يَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ مَدْعَاةً إِلَى الِاعْتِقَادِ بِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ.
وَلَقَدْ حَدَثَ بِفَرَنْسَا فِي الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ إِذْ كَانَتْ مَقْهُورَةً لِلْإِنْكِلِيزِ
أَنَّ بِنْتًا تُدْعَى (جَانْ دَارْكْ) مَنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ سِيرَةً وَأَسْلَمِهِنَّ نِيَّةً اعْتَقَدَتْ وَهِيَ مِنْ بَيْتِ أَهْلِهَا بَعِيدَةً عَنِ التَّكَالِيفِ السِّيَاسِيَّةِ أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِإِنْقَاذِ وَطَنِهَا وَدَفْعِ الْعَدُوِّ عَنْهُ، وَصَارَتْ تَسْمَعُ صَوْتَ الْوَحْيِ فَأَخْلَصَتْ فِي الدَّعْوَةِ لِلْقِتَالِ، وَتَوَصَّلَتْ بِصِدْقِ إِرَادَتِهَا إِلَى رِئَاسَةِ جَيْشٍ صَغِيرٍ وَغَلَبَتْ بِهِ الْعَدُوَّ فِعْلًا، ثُمَّ مَاتَتْ غِبَّ نُصْرَتِهَا مَوْتَةَ الْأَبْطَالِ مِنَ الرِّجَالِ، إِذْ خَذَلَهَا قَوْمُهَا، وَوَقَعَتْ فِي يَدِ عَدُوِّهَا فَأَلْقَوْهَا فِي النَّارِ حَيَّةً، فَذَهَبَتْ تَارِكَةً فِي صَحَائِفِ التَّارِيخِ اسْمًا يَعْبَقُ نَشْرُهُ وَتَضُوعُ رَيَّاهُ، وَهِيَ الْآنَ مَوْضِعُ إِجْلَالِ الْقَوْمِ وَإِعْظَامِهِمْ، فَلَقَدْ تَيَسَّرَتْ لَهُمُ النَّهْضَةُ بَعْدَهَا وَجَرَوْا فِي الْعِلْمِ وَالرُّقِيِّ بَعِيدًا.
فَهَلْ نَجْزِمُ لِذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْبِنْتَ نَبِيَّةٌ مُرْسَلَةٌ؟ ؟ رُبَّمَا تَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ عَمَلَهَا لَا يُذْكَرُ مُقَارَنًا بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَمَا وَصَلَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَيْرِ بِسَبَبِهِمْ، فَأَقُولُ: هَلْ هُنَاكَ مِنْ مِيزَانٍ نَزِنُ بِهِ الْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ لِنَعْلَمَ إِنْ كَانَتْ وَصَلَتْ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا أَنْ نُصَدِّقَ دَعْوَةَ صَاحِبِهَا؟ وَهَلْ لَوْ سَاعَدَتِ الصُّدَفُ (كَذَا) رَجُلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ النَّاسِ فِعْلًا وَأَبْقَاهُمْ أَثَرًا وَاعْتَقَدَ بِرِسَالَةِ نَفْسِهِ لِوَهْمٍ قَامَ (عِنْدَهُ) يُفْضِي بِنَا ذَلِكَ إِلَى التَّيَقُّنِ مِنْ رِسَالَتِهِ؟
أَظُنُّ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مُضَافًا لِغَيْرِهِ يَدْعُو إِلَى التَّرْجِيحِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْيَقِينَ أَبَدًا. عَلَى أَنَّنِي أَنْتَظِرُ أَنْ تَجِدُوا فِي قَوْلِي هَذَا خَطَأً تُقْنِعُونِي بِهِ أَوْ تَزِيدُونِي إِيضَاحًا يَنْكَشِفُ بِهِ الْحِجَابُ وَتَنَالُونَ بِهِ الثَّوَابَ. هَذَا وَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ فِئَةٍ مُسْلِمَةٍ مَا أَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِي وَلَكِنَّهُمْ يَتَحَفَّظُونَ فِي الْكِتْمَانِ، وَيَسْأَلُونَ الْكُتُبَ خَشْيَةَ سُؤَالِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنِّي لَا أَجِدُ فِي السُّؤَالِ عَارًا، وَكُلُّ عَقْلٍ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَيَزِلُّ وَيَسْتَقِيمُ. (أَحَدُ قُرَّائِكُمْ).
حَضْرَةَ الْأُسْتَاذِ الرَّشِيدِ
عَرَضَتْ لِي شُبَهَاتٌ فِي وُقُوعِ الْوَحْيِ (وَهُوَ أَسَاسُ الدِّينِ) فَعَمَدْتُ إِلَى رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ لِلشَّيْخِ مُحَمَّدْ عَبْدُهْ - حَيْثُ وَقَعَ اخْتِيَارِي عَلَيْهَا - وَقَرَأْتُ فِي بَابَيْ (حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْوَحْيِ) وَ (إِمْكَانِ الْوَحْيِ) فَوَجَدْتُ الْكَلَامَ وَجِيهًا مَعْقُولًا، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الشَّيْءِ لَا تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَهُ، وَكَذَا إِمْكَانُهُ وَعَدَمُ اسْتِحَالَتِهِ عَقْلًا لَا يَقْتَضِي حُصُولَهُ. ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدُ مِنْ أَنَّ حَالَةَ النَّبِيِّ وَسُلُوكَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ بِجَلَائِلِ الْأَعْمَالِ وَبِوُقُوعِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيْهِ هُوَ دَلِيلُ نُبُوَّتِهِ وَتَأْيِيدُ بَعْثَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ (كَوْنُ) النَّبِيِّ حَمِيدَ السِّيرَةِ فِي عَشِيرَتِهِ صَادِقًا فِي دَعْوَتِهِ - أَعْنِي مُعْتَقِدًا فِي نَفْسِهِ - سَبَبًا فِي نُهُوضِ أُمَّتِهِ، وَلَا يَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ مَدْعَاةً إِلَى الِاعْتِقَادِ بِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ.
وَلَقَدْ حَدَثَ بِفَرَنْسَا فِي الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ إِذْ كَانَتْ مَقْهُورَةً لِلْإِنْكِلِيزِ
أَنَّ بِنْتًا تُدْعَى (جَانْ دَارْكْ) مَنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ سِيرَةً وَأَسْلَمِهِنَّ نِيَّةً اعْتَقَدَتْ وَهِيَ مِنْ بَيْتِ أَهْلِهَا بَعِيدَةً عَنِ التَّكَالِيفِ السِّيَاسِيَّةِ أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِإِنْقَاذِ وَطَنِهَا وَدَفْعِ الْعَدُوِّ عَنْهُ، وَصَارَتْ تَسْمَعُ صَوْتَ الْوَحْيِ فَأَخْلَصَتْ فِي الدَّعْوَةِ لِلْقِتَالِ، وَتَوَصَّلَتْ بِصِدْقِ إِرَادَتِهَا إِلَى رِئَاسَةِ جَيْشٍ صَغِيرٍ وَغَلَبَتْ بِهِ الْعَدُوَّ فِعْلًا، ثُمَّ مَاتَتْ غِبَّ نُصْرَتِهَا مَوْتَةَ الْأَبْطَالِ مِنَ الرِّجَالِ، إِذْ خَذَلَهَا قَوْمُهَا، وَوَقَعَتْ فِي يَدِ عَدُوِّهَا فَأَلْقَوْهَا فِي النَّارِ حَيَّةً، فَذَهَبَتْ تَارِكَةً فِي صَحَائِفِ التَّارِيخِ اسْمًا يَعْبَقُ نَشْرُهُ وَتَضُوعُ رَيَّاهُ، وَهِيَ الْآنَ مَوْضِعُ إِجْلَالِ الْقَوْمِ وَإِعْظَامِهِمْ، فَلَقَدْ تَيَسَّرَتْ لَهُمُ النَّهْضَةُ بَعْدَهَا وَجَرَوْا فِي الْعِلْمِ وَالرُّقِيِّ بَعِيدًا.
فَهَلْ نَجْزِمُ لِذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْبِنْتَ نَبِيَّةٌ مُرْسَلَةٌ؟ ؟ رُبَّمَا تَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ عَمَلَهَا لَا يُذْكَرُ مُقَارَنًا بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَمَا وَصَلَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَيْرِ بِسَبَبِهِمْ، فَأَقُولُ: هَلْ هُنَاكَ مِنْ مِيزَانٍ نَزِنُ بِهِ الْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ لِنَعْلَمَ إِنْ كَانَتْ وَصَلَتْ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا أَنْ نُصَدِّقَ دَعْوَةَ صَاحِبِهَا؟ وَهَلْ لَوْ سَاعَدَتِ الصُّدَفُ (كَذَا) رَجُلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ النَّاسِ فِعْلًا وَأَبْقَاهُمْ أَثَرًا وَاعْتَقَدَ بِرِسَالَةِ نَفْسِهِ لِوَهْمٍ قَامَ (عِنْدَهُ) يُفْضِي بِنَا ذَلِكَ إِلَى التَّيَقُّنِ مِنْ رِسَالَتِهِ؟
أَظُنُّ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مُضَافًا لِغَيْرِهِ يَدْعُو إِلَى التَّرْجِيحِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْيَقِينَ أَبَدًا. عَلَى أَنَّنِي أَنْتَظِرُ أَنْ تَجِدُوا فِي قَوْلِي هَذَا خَطَأً تُقْنِعُونِي بِهِ أَوْ تَزِيدُونِي إِيضَاحًا يَنْكَشِفُ بِهِ الْحِجَابُ وَتَنَالُونَ بِهِ الثَّوَابَ. هَذَا وَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ فِئَةٍ مُسْلِمَةٍ مَا أَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِي وَلَكِنَّهُمْ يَتَحَفَّظُونَ فِي الْكِتْمَانِ، وَيَسْأَلُونَ الْكُتُبَ خَشْيَةَ سُؤَالِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنِّي لَا أَجِدُ فِي السُّؤَالِ عَارًا، وَكُلُّ عَقْلٍ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَيَزِلُّ وَيَسْتَقِيمُ. (أَحَدُ قُرَّائِكُمْ).
136
(جَوَابُ الْمَنَارِ)
لَقَدْ سَرَّنَا مِنَ السَّائِلِ أَنَّهُ عَلَى تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يُذْعِنْ لَهَا تَمَامَ الْإِذْعَانِ، فَيَسْتَرْسِلُ فِي تَعَدِّي حُدُودِ الدِّينِ إِلَى فَضَاءِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ الْأَرْوَاحَ وَالْأَجْسَامَ، بَلْ أَطَاعَ شُعُورَ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ، وَلَجَأَ إِلَى الْبَحْثِ فِي الْكُتُبِ، ثُمَّ السُّؤَالِ مِمَّنْ يُظَنُّ فِيهِمُ الْعِلْمُ بِمَا يَكْشِفُ الشُّبْهَةَ، وَيُقِيمُ الْحُجَّةَ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيَنْصَرِفُونَ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ عِنْدَ أَوَّلِ قَذْعَةٍ مِنَ الشُّبَهِ تَلُوحُ فِي فَضَاءِ أَذْهَانِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ شَبُّوا عَلَى حُبِّ التَّمَتُّعِ وَالِانْغِمَاسِ فِي اللَّذَّةِ، وَيَرَوْنَ الدِّينَ صَادًّا لَهُمْ عَنِ
الِانْهِمَاكِ وَالِاسْتِرْسَالِ فِيهَا، فَهُمْ يُحَاوِلُونَ إِمَاتَةَ شُعُورِهِ الْفِطْرِيِّ، كَمَا أَمَاتَ النُّشُوءُ فِي الْجَهْلِ بُرْهَانَهُ الْكَسْبِيَّ.
أَرَى السَّائِلَ نَظَرَ مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَوَعَاهَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُدَقِّقِ النَّظَرَ فِي الْمَقَاصِدِ وَالنَّتَائِجِ ; لِذَلِكَ نَرَاهُ مُسَلِّمًا بِالْمُقَدَّمَاتِ دُونَ النَّتِيجَةِ مَعَ اللُّزُومِ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا هُوَ عَادَ إِلَى مَبْحَثِ (حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الرِّسَالَةِ) وَتَدَبَّرَهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَأَنَّهُ أَقَامَ الْكَوْنَ عَلَى أَسَاسِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالنِّظَامِ الْكَامِلِ فَإِنَّنِي أَرْجُو لَهُ أَنْ يَقْتَنِعَ. ثُمَّ إِنَّنِي آنَسْتُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ مَبْحَثَ (وُقُوعِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ) أَوْ لَعَلَّهُ قَرَأَهُ وَلَمْ يَتَدَبَّرْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْبُرْهَانَ عَلَى نَفْسِ الرِّسَالَةِ وَيَبْنِي الشُّبْهَةَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا بَنَاهَا عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَهِيَ الْقَوْلُ فِي بَعْضِ صِفَاتِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَإِنَّنِي أَكْشِفُ لَهُ شُبْهَتَهُ أَوَّلًا فَأُبَيِّنُ أَنَّهَا لَمْ تُصِبْ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَأْيِي فِي الْمَوْضُوعِ.
إِنَّ (جَانْ دَارْكْ) الَّتِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا بِوَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تَقُمْ بِدَعْوَةٍ إِلَى دِينٍ أَوْ مَذْهَبٍ تَدَّعِي أَنَّ فِيهِ سَعَادَةَ الْبَشَرِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا هُوَ شَأْنُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَمْ تَأْتِ بِآيَةٍ كَوْنِيَّةٍ وَلَا عِلْمِيَّةٍ لَا يُعْهَدُ مِثْلُهَا مِنْ كَسْبِ الْبَشَرِ تَتَحَدَّى بِهَا النَّاسَ لِيُؤْمِنُوا بِهَا. وَإِنَّمَا كَانَتْ فَتَاةً ذَاتَ وِجْدَانٍ شَرِيفٍ هَاجَهُ شُعُورُ الدِّينِ وَحَرَّكَتْهُ مُزْعِجَاتُ السِّيَاسَةِ، فَتَحَرَّكَ، فَنَفَرَ، فَصَادَفَ مُسَاعَدَةً مِنَ الْحُكُومَةِ، وَاسْتِعْدَادًا مِنَ الْأُمَّةِ لِلْخُرُوجِ مِنَ الذُّلِّ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَكَانَ التَّحَمُّسُ الَّذِي حَرَّكَتْهُ سَبَبًا لِلْحَمْلَةِ الصَّادِقَةِ عَلَى الْعَدْوِ وَخِذْلَانِهِ. وَمَا أَسْهَلَ تَهْيِيجَ حَمَاسَةِ أَهْلِ فَرَنْسَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَبِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا، فَإِنَّ نَابِلْيُونَ الْأَوَّلَ كَانَ يَسُوقُهُمْ إِلَى الْمَوْتِ مُخْتَارِينَ بِكَلِمَةٍ شِعْرِيَّةٍ يَقُولُهَا كَكَلِمَتِهِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْأَهْرَامِ.
وَأُذَكِّرُ السَّائِلَ الْفَطِنَ بِأَنَّهُ لَمْ يُوَافِقِ الصَّوَابَ فِي إِبْعَادِ الْفَتَاةِ عَنِ السِّيَاسَةِ وَمَذَاهِبِهَا فَقَدْ جَاءَ فِي تَرْجَمَتِهَا مِنْ (دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعَرَبِيَّةِ لِلْبُسْتَانِيِّ) مَا نَصُّهُ:
((كَانَتْ مُتَعَوِّدَةً الشُّغْلَ خَارِجَ الْبَيْتِ كَرَعْيِ الْمَوَاشِي وَرُكُوبِ الْخَيْلِ إِلَى الْعَيْنِ وَمِنْهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي جِوَارِ دُومَرْمَى (أَيْ بَلَدِهَا) مُتَمَسِّكِينَ بِالْخُرَافَاتِ، وَيَمِيلُونَ
لَقَدْ سَرَّنَا مِنَ السَّائِلِ أَنَّهُ عَلَى تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يُذْعِنْ لَهَا تَمَامَ الْإِذْعَانِ، فَيَسْتَرْسِلُ فِي تَعَدِّي حُدُودِ الدِّينِ إِلَى فَضَاءِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ الْأَرْوَاحَ وَالْأَجْسَامَ، بَلْ أَطَاعَ شُعُورَ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ، وَلَجَأَ إِلَى الْبَحْثِ فِي الْكُتُبِ، ثُمَّ السُّؤَالِ مِمَّنْ يُظَنُّ فِيهِمُ الْعِلْمُ بِمَا يَكْشِفُ الشُّبْهَةَ، وَيُقِيمُ الْحُجَّةَ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيَنْصَرِفُونَ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ عِنْدَ أَوَّلِ قَذْعَةٍ مِنَ الشُّبَهِ تَلُوحُ فِي فَضَاءِ أَذْهَانِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ شَبُّوا عَلَى حُبِّ التَّمَتُّعِ وَالِانْغِمَاسِ فِي اللَّذَّةِ، وَيَرَوْنَ الدِّينَ صَادًّا لَهُمْ عَنِ
الِانْهِمَاكِ وَالِاسْتِرْسَالِ فِيهَا، فَهُمْ يُحَاوِلُونَ إِمَاتَةَ شُعُورِهِ الْفِطْرِيِّ، كَمَا أَمَاتَ النُّشُوءُ فِي الْجَهْلِ بُرْهَانَهُ الْكَسْبِيَّ.
أَرَى السَّائِلَ نَظَرَ مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَوَعَاهَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُدَقِّقِ النَّظَرَ فِي الْمَقَاصِدِ وَالنَّتَائِجِ ; لِذَلِكَ نَرَاهُ مُسَلِّمًا بِالْمُقَدَّمَاتِ دُونَ النَّتِيجَةِ مَعَ اللُّزُومِ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا هُوَ عَادَ إِلَى مَبْحَثِ (حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الرِّسَالَةِ) وَتَدَبَّرَهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَأَنَّهُ أَقَامَ الْكَوْنَ عَلَى أَسَاسِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالنِّظَامِ الْكَامِلِ فَإِنَّنِي أَرْجُو لَهُ أَنْ يَقْتَنِعَ. ثُمَّ إِنَّنِي آنَسْتُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ مَبْحَثَ (وُقُوعِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ) أَوْ لَعَلَّهُ قَرَأَهُ وَلَمْ يَتَدَبَّرْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْبُرْهَانَ عَلَى نَفْسِ الرِّسَالَةِ وَيَبْنِي الشُّبْهَةَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا بَنَاهَا عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَهِيَ الْقَوْلُ فِي بَعْضِ صِفَاتِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَإِنَّنِي أَكْشِفُ لَهُ شُبْهَتَهُ أَوَّلًا فَأُبَيِّنُ أَنَّهَا لَمْ تُصِبْ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَأْيِي فِي الْمَوْضُوعِ.
إِنَّ (جَانْ دَارْكْ) الَّتِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا بِوَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تَقُمْ بِدَعْوَةٍ إِلَى دِينٍ أَوْ مَذْهَبٍ تَدَّعِي أَنَّ فِيهِ سَعَادَةَ الْبَشَرِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا هُوَ شَأْنُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَمْ تَأْتِ بِآيَةٍ كَوْنِيَّةٍ وَلَا عِلْمِيَّةٍ لَا يُعْهَدُ مِثْلُهَا مِنْ كَسْبِ الْبَشَرِ تَتَحَدَّى بِهَا النَّاسَ لِيُؤْمِنُوا بِهَا. وَإِنَّمَا كَانَتْ فَتَاةً ذَاتَ وِجْدَانٍ شَرِيفٍ هَاجَهُ شُعُورُ الدِّينِ وَحَرَّكَتْهُ مُزْعِجَاتُ السِّيَاسَةِ، فَتَحَرَّكَ، فَنَفَرَ، فَصَادَفَ مُسَاعَدَةً مِنَ الْحُكُومَةِ، وَاسْتِعْدَادًا مِنَ الْأُمَّةِ لِلْخُرُوجِ مِنَ الذُّلِّ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَكَانَ التَّحَمُّسُ الَّذِي حَرَّكَتْهُ سَبَبًا لِلْحَمْلَةِ الصَّادِقَةِ عَلَى الْعَدْوِ وَخِذْلَانِهِ. وَمَا أَسْهَلَ تَهْيِيجَ حَمَاسَةِ أَهْلِ فَرَنْسَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَبِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا، فَإِنَّ نَابِلْيُونَ الْأَوَّلَ كَانَ يَسُوقُهُمْ إِلَى الْمَوْتِ مُخْتَارِينَ بِكَلِمَةٍ شِعْرِيَّةٍ يَقُولُهَا كَكَلِمَتِهِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْأَهْرَامِ.
وَأُذَكِّرُ السَّائِلَ الْفَطِنَ بِأَنَّهُ لَمْ يُوَافِقِ الصَّوَابَ فِي إِبْعَادِ الْفَتَاةِ عَنِ السِّيَاسَةِ وَمَذَاهِبِهَا فَقَدْ جَاءَ فِي تَرْجَمَتِهَا مِنْ (دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعَرَبِيَّةِ لِلْبُسْتَانِيِّ) مَا نَصُّهُ:
((كَانَتْ مُتَعَوِّدَةً الشُّغْلَ خَارِجَ الْبَيْتِ كَرَعْيِ الْمَوَاشِي وَرُكُوبِ الْخَيْلِ إِلَى الْعَيْنِ وَمِنْهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي جِوَارِ دُومَرْمَى (أَيْ بَلَدِهَا) مُتَمَسِّكِينَ بِالْخُرَافَاتِ، وَيَمِيلُونَ
137
إِلَى حِزْبِ أُورْلِيَانْ فِي الِانْقِسَامَاتِ الَّتِي مَزَّقَتْ مَمْلَكَةَ فَرَنْسَا، وَكَانَتْ جَانْ
تَشْتَرِكُ فِي الْهِيَاجِ السِّيَاسِيِّ وَالْحَمَاسَةِ الدِّينِيَّةِ. وَكَانَتْ كَثِيرَةَ التَّخَيُّلِ وَالْوَرَعِ تُحِبُّ أَنْ تَتَأَمَّلَ فِي قِصَصِ الْعَذْرَاءِ وَعَلَى الْأَكْثَرِ فِي نُبُوَّةٍ كَانَتْ شَائِعَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهِيَ إِحْدَى الْعَذَارَى سَتُخَلِّصُ فَرَنْسَا مِنْ أَعْدَائِهَا. وَلَمَّا كَانَ عُمُرُهَا ١٣ سَنَةً كَانَتْ تَعْتَقِدُ بِالظُّهُورَاتِ الْفَائِقَةِ الطَّبِيعَةَ وَتَتَكَلَّمُ عَنْ أَصْوَاتٍ كَانَتْ تَسْمَعُهَا وَرُؤًى كَانَتْ تَرَاهَا. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِبِضْعِ سِنِينَ خُيِّلَ لَهَا أَنَّهَا قَدْ دُعِيَتْ لِتُخَلِّصَ بِلَادَهَا وَتُتَوَّجَ مُلْكَهَا. ثُمَّ أَوْقَعَ (الْبَرِغْنِيُورُ) تَعَدِّيًا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي وُلِدَتْ فِيهَا فَقَوَّى ذَلِكَ اعْتِقَادَهَا بِصِحَّةِ مَا خُيِّلَ لَهَا)).
ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ تَوَسُّلَهَا إِلَى الْحُكَّامِ وَتَعْيِينَهَا قَائِدَةً لِجَيْشِ مَلِكِهَا وَهُجُومَهَا بِعَشَرَةِ آلَافِ جُنْدِيٍّ ضُبَّاطُهُمْ مَلَكِيُّونَ عَلَى عَسْكَرِ الْإِنْكِلِيزِ الَّذِينَ كَانُوا يُحَاصِرُونَ أُورْلِيَانْ، وَأَنَّهَا دَفَعَتْهُمْ عَنْهَا حَتَّى رَفَعُوا الْحِصَارَ فِي مُدَّةِ أُسْبُوعٍ، وَذَلِكَ سَنَةَ ١٤٢٩ م ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ زَالَتْ خَيَالَاتُهَا الْحَمَاسِيَّةُ، وَلِذَلِكَ هُوجِمَتْ فِي السَّنَةِ التَّالِيَةِ سَنَةِ ١٤٣٠ م فَانْكَسَرَتْ وَجُرِحَتْ وَأُسِرَتْ.
فَمِنْ مُلَخَّصِ الْقِصَّةِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ تَهَيُّجٌ عَصَبِيٌّ سَبَّبَهُ التَّأَلُّمُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ السِّيَاسِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَتَأَلَّمُ مِنْهَا مَنْ نَشَأَتْ بَيْنَهُمْ مَعَ مَعُونَةِ التَّحَمُّسِ الدِّينِيِّ وَالِاعْتِقَادِ بِالْخُرَافَاتِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ ذَائِعَةً فِي زَمَنِهَا. وَهَذَا شَيْءٌ عَادِيٌّ مَعْرُوفُ السَّبَبِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بَاسِمِ الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ كَمُحَمَّدِ أَحْمَدَ السُّودَانِيِّ وَالْبَابِ (وَكَذَا الْبَهَاءُ وَالْقَادْيانِيُّ) بَلِ الشُّبْهَةُ فِي قِصَّتِهَا أَبْعَدُ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي قِصَّةِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ أَسْبَابُ النَّهْضَةِ مُتَقَارِبَةً فَإِنَّ هَذَيْنِ كَانَا كَأَمْثَالِهِمَا يَدْعُوَانِ إِلَى شَيْءٍ (مُلَفَّقٍ) يَزْعُمَانِ أَنَّهُ إِصْلَاحٌ لِلْبَشَرِ فِي الْجُمْلَةِ.
أَيْنَ هَذِهِ النَّوْبَةُ الْعَصَبِيَّةُ الْقَصِيرَةُ الزَّمَنِ، الْمَعْرُوفَةُ السَّبَبِ، الَّتِي لَا دَعْوَةَ فِيهَا إِلَى عِلْمٍ وَلَا إِصْلَاحٍ اجْتِمَاعِيٍّ إِلَّا الْمُدَافَعَةَ عَنِ الْوَطَنِ عِنْدَ الضِّيقِ الَّتِي هِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، الَّتِي لَا حُجَّةَ تَعْمِدُهَا، وَلَا مُعْجِزَةَ تُؤَيِّدُهَا، الَّتِي اشْتَعَلَتْ بِنَفْخَةٍ وَطَفِئَتْ بِنَفْخَةٍ؟ أَيْنَ هِيَ مِنْ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهَا حَاجَةٌ طَبِيعِيَّةٌ مِنْ حَاجَاتِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، طَلَبَهَا هَذَا النَّوْعُ بِلِسَانِ اسْتِعْدَادِهِ فَوَهَبَهَا لَهُ الْمُدَبِّرُ الْحَكِيمُ: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (٢٠: ٥٠) فَسَارَ الْإِنْسَانُ بِذَلِكَ إِلَى كَمَالِهِ، فَلَمْ يَكُنْ أَدْنَى مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ الْحَيَّةِ النَّامِيَةِ بَلْ أَرْقَى وَأَعْلَى. وَأَيْنَ دَلِيلُهَا مِنْ أَدِلَّةِ
النُّبُوَّةِ وَأَيْنَ أَثَرُهَا مِنْ أَثَرِ النُّبُوَّةِ؟ إِنَّ الْأُمَمَ الَّتِي ارْتَقَتْ بِمَا أَرْشَدَهَا إِلَيْهِ تَعَالِيمُ الْوَحْيِ إِنَّمَا ارْتَقَتْ بِطَبِيعَةِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ وَتَأْثِيرِهِ، وَإِنَّ فَرَنْسَا لَمْ تَرْتَقِ بِإِرْشَادِ (جَانْ دَارْكْ) وَتَعْلِيمِهَا، وَإِنَّمَا مِثْلُهَا مِثْلُ قَائِدٍ انْتَصَرَ فِي وَاقِعَةٍ فَاصِلَةٍ بِشَجَاعَتِهِ وَبِأَسْبَابٍ أُخْرَى لَيْسَتْ مِنْ صُنْعِهِ، وَاسْتَوْلَتْ أُمَّتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى بِلَادٍ رَقَّتْهَا بِعُلُومِ عُلَمَائِهَا وَحِكْمَةِ حُكَمَائِهَا وَصُنْعِ صُنَّاعِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الْقَائِدُ يَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَمْ يُرْشَدْ إِلَيْهِ، فَلَا يُقَالُ
تَشْتَرِكُ فِي الْهِيَاجِ السِّيَاسِيِّ وَالْحَمَاسَةِ الدِّينِيَّةِ. وَكَانَتْ كَثِيرَةَ التَّخَيُّلِ وَالْوَرَعِ تُحِبُّ أَنْ تَتَأَمَّلَ فِي قِصَصِ الْعَذْرَاءِ وَعَلَى الْأَكْثَرِ فِي نُبُوَّةٍ كَانَتْ شَائِعَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهِيَ إِحْدَى الْعَذَارَى سَتُخَلِّصُ فَرَنْسَا مِنْ أَعْدَائِهَا. وَلَمَّا كَانَ عُمُرُهَا ١٣ سَنَةً كَانَتْ تَعْتَقِدُ بِالظُّهُورَاتِ الْفَائِقَةِ الطَّبِيعَةَ وَتَتَكَلَّمُ عَنْ أَصْوَاتٍ كَانَتْ تَسْمَعُهَا وَرُؤًى كَانَتْ تَرَاهَا. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِبِضْعِ سِنِينَ خُيِّلَ لَهَا أَنَّهَا قَدْ دُعِيَتْ لِتُخَلِّصَ بِلَادَهَا وَتُتَوَّجَ مُلْكَهَا. ثُمَّ أَوْقَعَ (الْبَرِغْنِيُورُ) تَعَدِّيًا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي وُلِدَتْ فِيهَا فَقَوَّى ذَلِكَ اعْتِقَادَهَا بِصِحَّةِ مَا خُيِّلَ لَهَا)).
ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ تَوَسُّلَهَا إِلَى الْحُكَّامِ وَتَعْيِينَهَا قَائِدَةً لِجَيْشِ مَلِكِهَا وَهُجُومَهَا بِعَشَرَةِ آلَافِ جُنْدِيٍّ ضُبَّاطُهُمْ مَلَكِيُّونَ عَلَى عَسْكَرِ الْإِنْكِلِيزِ الَّذِينَ كَانُوا يُحَاصِرُونَ أُورْلِيَانْ، وَأَنَّهَا دَفَعَتْهُمْ عَنْهَا حَتَّى رَفَعُوا الْحِصَارَ فِي مُدَّةِ أُسْبُوعٍ، وَذَلِكَ سَنَةَ ١٤٢٩ م ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ زَالَتْ خَيَالَاتُهَا الْحَمَاسِيَّةُ، وَلِذَلِكَ هُوجِمَتْ فِي السَّنَةِ التَّالِيَةِ سَنَةِ ١٤٣٠ م فَانْكَسَرَتْ وَجُرِحَتْ وَأُسِرَتْ.
فَمِنْ مُلَخَّصِ الْقِصَّةِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ تَهَيُّجٌ عَصَبِيٌّ سَبَّبَهُ التَّأَلُّمُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ السِّيَاسِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَتَأَلَّمُ مِنْهَا مَنْ نَشَأَتْ بَيْنَهُمْ مَعَ مَعُونَةِ التَّحَمُّسِ الدِّينِيِّ وَالِاعْتِقَادِ بِالْخُرَافَاتِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ ذَائِعَةً فِي زَمَنِهَا. وَهَذَا شَيْءٌ عَادِيٌّ مَعْرُوفُ السَّبَبِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بَاسِمِ الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ كَمُحَمَّدِ أَحْمَدَ السُّودَانِيِّ وَالْبَابِ (وَكَذَا الْبَهَاءُ وَالْقَادْيانِيُّ) بَلِ الشُّبْهَةُ فِي قِصَّتِهَا أَبْعَدُ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي قِصَّةِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ أَسْبَابُ النَّهْضَةِ مُتَقَارِبَةً فَإِنَّ هَذَيْنِ كَانَا كَأَمْثَالِهِمَا يَدْعُوَانِ إِلَى شَيْءٍ (مُلَفَّقٍ) يَزْعُمَانِ أَنَّهُ إِصْلَاحٌ لِلْبَشَرِ فِي الْجُمْلَةِ.
أَيْنَ هَذِهِ النَّوْبَةُ الْعَصَبِيَّةُ الْقَصِيرَةُ الزَّمَنِ، الْمَعْرُوفَةُ السَّبَبِ، الَّتِي لَا دَعْوَةَ فِيهَا إِلَى عِلْمٍ وَلَا إِصْلَاحٍ اجْتِمَاعِيٍّ إِلَّا الْمُدَافَعَةَ عَنِ الْوَطَنِ عِنْدَ الضِّيقِ الَّتِي هِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، الَّتِي لَا حُجَّةَ تَعْمِدُهَا، وَلَا مُعْجِزَةَ تُؤَيِّدُهَا، الَّتِي اشْتَعَلَتْ بِنَفْخَةٍ وَطَفِئَتْ بِنَفْخَةٍ؟ أَيْنَ هِيَ مِنْ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهَا حَاجَةٌ طَبِيعِيَّةٌ مِنْ حَاجَاتِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، طَلَبَهَا هَذَا النَّوْعُ بِلِسَانِ اسْتِعْدَادِهِ فَوَهَبَهَا لَهُ الْمُدَبِّرُ الْحَكِيمُ: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (٢٠: ٥٠) فَسَارَ الْإِنْسَانُ بِذَلِكَ إِلَى كَمَالِهِ، فَلَمْ يَكُنْ أَدْنَى مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ الْحَيَّةِ النَّامِيَةِ بَلْ أَرْقَى وَأَعْلَى. وَأَيْنَ دَلِيلُهَا مِنْ أَدِلَّةِ
النُّبُوَّةِ وَأَيْنَ أَثَرُهَا مِنْ أَثَرِ النُّبُوَّةِ؟ إِنَّ الْأُمَمَ الَّتِي ارْتَقَتْ بِمَا أَرْشَدَهَا إِلَيْهِ تَعَالِيمُ الْوَحْيِ إِنَّمَا ارْتَقَتْ بِطَبِيعَةِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ وَتَأْثِيرِهِ، وَإِنَّ فَرَنْسَا لَمْ تَرْتَقِ بِإِرْشَادِ (جَانْ دَارْكْ) وَتَعْلِيمِهَا، وَإِنَّمَا مِثْلُهَا مِثْلُ قَائِدٍ انْتَصَرَ فِي وَاقِعَةٍ فَاصِلَةٍ بِشَجَاعَتِهِ وَبِأَسْبَابٍ أُخْرَى لَيْسَتْ مِنْ صُنْعِهِ، وَاسْتَوْلَتْ أُمَّتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى بِلَادٍ رَقَّتْهَا بِعُلُومِ عُلَمَائِهَا وَحِكْمَةِ حُكَمَائِهَا وَصُنْعِ صُنَّاعِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الْقَائِدُ يَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَمْ يُرْشَدْ إِلَيْهِ، فَلَا يُقَالُ
138
إِنَّ ذَلِكَ الْقَائِدَ هُوَ الَّذِي أَصْلَحَ تِلْكَ الْبِلَادَ، وَعَمَّرَهَا وَمَدَّنَهَا، وَإِنْ عُدَّ سَبَبًا بَعِيدًا فَهُوَ شَبِيهٌ بِالسَّبَبِ الطَّبِيعِيِّ، كَهُبُوبِ رِيحٍ تُهَيِّجُ الْبَحْرَ فَيَغْرَقُ الْأُسْطُولُ وَتَنْتَصِرُ الْأُمَّةُ.
أَيْنَ حَالُ تِلْكَ الْفَتَاةِ الَّتِي كَانَتْ كَبَارِقَةٍ خَفَّتْ (أَيْ ظَهَرَتْ وَأَوْمَضَتْ) ثُمَّ خَفِيَتْ، وَصَيْحَةٍ عَلَتْ وَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ خَفَتَتْ، مَنْ حَالِ شَمْسِ النُّبُوَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي أَشْرَقَتْ فَأَنَارَتِ الْأَرْجَاءَ، وَلَا يَزَالُ نُورُهَا وَلَنْ يُزَالَ مُتَأَلِّقَ السَّنَاءِ، أُمِّيٌّ يَتِيمٌ قَضَى سِنَّ الصِّبَا وَسِنَّ الشَّبَابِ هَادِئًا سَاكِنًا لَا يُعْرَفُ عَنْهُ عِلْمٌ وَلَا تَخَيُّلٌ، وَلَا وَهْمٌ دِينِيٌّ، وَلَا شِعْرٌ، وَلَا خَطَابَةٌ، ثُمَّ صَاحَ عَلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ بِالْعَالَمِ كُلِّهِ صَيْحَةً ((إِنَّكُمْ عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ، فَاتَّبِعُونِ أَهْدِكُمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) فَأَصْلَحَ وَهُوَ الْآدَمِيُّ أَدْيَانَ الْبَشَرِ عَقَائِدَهَا وَآدَابَهَا وَشَرَائِعَهَا، وَقَلَبَ نِظَامَ الْأَرْضِ فَدَخَلَتْ بِتَعْلِيمِهِ فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ؟ لَا جَرَمَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ عَظِيمٌ إِذَا أَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهِ الْعَاقِلُ.
لَا سَعَةَ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ لِتَقْرِيرِ الدَّلِيلِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَإِنَّمَا أُحِيلَ السَّائِلَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي بَقِيَّةِ بَحْثِ النُّبُوَّةِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ وَمُرَاجَعَةِ مَا كَتَبْنَاهُ أَيْضًا مِنَ الْأَمَالِي الدِّينِيَّةِ فِي الْمَنَارِ لَا سِيَّمَا الدَّرْسِ الَّذِي عُنْوَانُهُ (الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، عَلَى صِدْقِ النُّبُوَّاتِ) وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَى رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ الْمَثَلُ ((كُلُّ صَيْدٍ فِي جَوْفِ الْفَرَا)) فَإِنْ بَقِيَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَفَضَّلَ بِزِيَارَتِنَا لِأَجْلِ الْمُذَاكَرَةِ الشِّفَاهِيَّةِ فِي الْمَوْضُوعِ، فَإِنَّ الْمُشَافَهَةَ أَقْوَى بَيَانًا، وَأَنْصَعُ بُرْهَانًا، وَنَحْنُ نُعَاهِدُهُ بِأَنْ نَكْتُمَ أَمْرَهُ وَإِنْ أَبَى فَلْيَكْتُبْ إِلَيْنَا مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى مَا فِي الرِّسَالَةِ وَالْأَمَالِي مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ النُّبُوَّةِ بِالْفِعْلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نُسْهِبُ فِي الْجَوَابِ بِمَا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُقْنِعًا، عَلَى أَنَّ الْمُشَافَهَةَ أَوْلَى كَمَا هُوَ مَعْقُولٌ وَكَمَا ثَبَتَ لَنَا بِالتَّجْرِبَةِ مَعَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُشْتَبِهِينَ وَالْمُرْتَابِينَ اهـ.
هَذَا وَإِنَّ مَا بَيَّنَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي إِثْبَاتِ وُقُوعِ الْوَحْيِ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ فَهْمَهُ حَقَّ الْفَهْمِ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِوُجُودِ اللهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ إِلَّا أَنْ يَقْبَلَهُ وَيُذْعِنَ لَهُ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ لَازِمٌ عَقْلِيٌّ لِعِلْمِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَكَوْنِهِ هُوَ: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (٢٠: ٥٠) وَلَا يَفْهَمُهُ حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ نَصِيبًا مِنْ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَحِكْمَةِ الْوُجُودِ وَسُنَنِهِ وَأُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَنَصِيبًا آخَرَ مِنْ بَلَاغَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَإِنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِسَالَتَهُ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِمَا دُونَ هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَهُوَ مَا قَهَرَ عُقُولَ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى تَصْدِيقِ دَعْوَتِهِ. وَحَمَلَ الْمَادِّيِّينَ عَلَى تَصْوِيرِهَا بِمَا نَبْسُطُهُ فِيمَا يَأْتِي وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ بُطْلَانِهِ.
أَيْنَ حَالُ تِلْكَ الْفَتَاةِ الَّتِي كَانَتْ كَبَارِقَةٍ خَفَّتْ (أَيْ ظَهَرَتْ وَأَوْمَضَتْ) ثُمَّ خَفِيَتْ، وَصَيْحَةٍ عَلَتْ وَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ خَفَتَتْ، مَنْ حَالِ شَمْسِ النُّبُوَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي أَشْرَقَتْ فَأَنَارَتِ الْأَرْجَاءَ، وَلَا يَزَالُ نُورُهَا وَلَنْ يُزَالَ مُتَأَلِّقَ السَّنَاءِ، أُمِّيٌّ يَتِيمٌ قَضَى سِنَّ الصِّبَا وَسِنَّ الشَّبَابِ هَادِئًا سَاكِنًا لَا يُعْرَفُ عَنْهُ عِلْمٌ وَلَا تَخَيُّلٌ، وَلَا وَهْمٌ دِينِيٌّ، وَلَا شِعْرٌ، وَلَا خَطَابَةٌ، ثُمَّ صَاحَ عَلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ بِالْعَالَمِ كُلِّهِ صَيْحَةً ((إِنَّكُمْ عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ، فَاتَّبِعُونِ أَهْدِكُمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) فَأَصْلَحَ وَهُوَ الْآدَمِيُّ أَدْيَانَ الْبَشَرِ عَقَائِدَهَا وَآدَابَهَا وَشَرَائِعَهَا، وَقَلَبَ نِظَامَ الْأَرْضِ فَدَخَلَتْ بِتَعْلِيمِهِ فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ؟ لَا جَرَمَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ عَظِيمٌ إِذَا أَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهِ الْعَاقِلُ.
لَا سَعَةَ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ لِتَقْرِيرِ الدَّلِيلِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَإِنَّمَا أُحِيلَ السَّائِلَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي بَقِيَّةِ بَحْثِ النُّبُوَّةِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ وَمُرَاجَعَةِ مَا كَتَبْنَاهُ أَيْضًا مِنَ الْأَمَالِي الدِّينِيَّةِ فِي الْمَنَارِ لَا سِيَّمَا الدَّرْسِ الَّذِي عُنْوَانُهُ (الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، عَلَى صِدْقِ النُّبُوَّاتِ) وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَى رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ الْمَثَلُ ((كُلُّ صَيْدٍ فِي جَوْفِ الْفَرَا)) فَإِنْ بَقِيَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَفَضَّلَ بِزِيَارَتِنَا لِأَجْلِ الْمُذَاكَرَةِ الشِّفَاهِيَّةِ فِي الْمَوْضُوعِ، فَإِنَّ الْمُشَافَهَةَ أَقْوَى بَيَانًا، وَأَنْصَعُ بُرْهَانًا، وَنَحْنُ نُعَاهِدُهُ بِأَنْ نَكْتُمَ أَمْرَهُ وَإِنْ أَبَى فَلْيَكْتُبْ إِلَيْنَا مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى مَا فِي الرِّسَالَةِ وَالْأَمَالِي مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ النُّبُوَّةِ بِالْفِعْلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نُسْهِبُ فِي الْجَوَابِ بِمَا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُقْنِعًا، عَلَى أَنَّ الْمُشَافَهَةَ أَوْلَى كَمَا هُوَ مَعْقُولٌ وَكَمَا ثَبَتَ لَنَا بِالتَّجْرِبَةِ مَعَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُشْتَبِهِينَ وَالْمُرْتَابِينَ اهـ.
هَذَا وَإِنَّ مَا بَيَّنَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي إِثْبَاتِ وُقُوعِ الْوَحْيِ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ فَهْمَهُ حَقَّ الْفَهْمِ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِوُجُودِ اللهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ إِلَّا أَنْ يَقْبَلَهُ وَيُذْعِنَ لَهُ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ لَازِمٌ عَقْلِيٌّ لِعِلْمِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَكَوْنِهِ هُوَ: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (٢٠: ٥٠) وَلَا يَفْهَمُهُ حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ نَصِيبًا مِنْ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَحِكْمَةِ الْوُجُودِ وَسُنَنِهِ وَأُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَنَصِيبًا آخَرَ مِنْ بَلَاغَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَإِنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِسَالَتَهُ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِمَا دُونَ هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَهُوَ مَا قَهَرَ عُقُولَ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى تَصْدِيقِ دَعْوَتِهِ. وَحَمَلَ الْمَادِّيِّينَ عَلَى تَصْوِيرِهَا بِمَا نَبْسُطُهُ فِيمَا يَأْتِي وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ بُطْلَانِهِ.
139
تَفْصِيلُ الشُّبْهَةِ وَدَحْضُهَا بِالْحُجَّةِ
قَدْ فَصَّلَ إِمِيلْ دِرِمِنْغَامِ الشُّبْهَةَ الَّتِي أَجْمَلَهَا مُونْتِيِهْ بِمَا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ كُتَّابِ الْإِفْرِنْجِ حَتَّى اغْتَرَّ بِكَلَامِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنْ كَانَ حَكِيمُنَا السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ قَالَ لِبَعْضِ مُجَادِلِي النَّصْرَانِيَّةِ: إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا مِنْ رِقَاعِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَأَلْبَسْتُمُوهَا لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَنَحْنُ نَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا آخَرَ مِمَّا فَهِمْتُمْ مِنْ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ لَا مِنْ نُصُوصِهِ وَحَاوَلْتُمْ خَلْعَهَا عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّنِي أَشْرَحُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِأَوْضَحِ مِمَّا كَتَبَهُ دِرِمِنْغَامْ وَمَا بَلَغَنِي عَنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَكُرُّ عَلَيْهَا بِالنَّقْضِ وَالدَّحْضِ فَأَقُولُ:
(١) قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ لَقِيَ بَحِيرَى الرَّاهِبَ فِي مَدِينَةِ بُصْرَى بِالشَّامِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ نَسْطُورِيًّا مِنْ أَتْبَاعِ آرْيُوسَ فِي التَّوْحِيدِ وَيُنْكِرُ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ وَعَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ مِنْهُ عَقِيدَتَهُ، وَقَالُوا فِي بَحِيرَى أَيْضًا: إِنَّهُ كَانَ عَالِمًا فَلَكِيًّا مُنَجِّمًا وَحَاسِبًا سَاحِرًا، وَإِنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ ظَهَرَ لَهُ وَأَنْبَأَهُ بِأَنْ سَيَكُونُ هَادِيًا لِآلِ إِسْمَاعِيلَ إِلَى الدِّينِ الْمَسِيحِيِّ.
بَلْ سَمِعْنَا مِنْ بَعْضِ الرُّهْبَانِ أَنَّهُ كَانَ مُعَلِّمًا لِمُحَمَّدٍ وَمُصَاحِبًا لَهُ بَعْدَ رِسَالَتِهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا مَا حَرَّمَ الْخَمْرَ إِلَّا لِأَنَّهُ قَتَلَ أُسْتَاذَهُ بَحِيرَى وَهُوَ سَكْرَانُ، وَأَمْثَالُ هَذَا مِنَ الِافْتِرَاءِ وَالْبُهْتَانِ. وَكُلُّ مَا عَرَفَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رُوَاةِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَرَجَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ
وَقِيلَ ١٢ سَنَةً رَآهُ هَذَا الرَّاهِبُ مَعَ قُرَيْشٍ وَرَأَى سَحَابَةً تُظَلِّلُهُ مِنَ الشَّمْسِ، وَذَكَرَ لِعَمِّهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ وَحَذَّرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِ - وَفِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى بِمَعْنَاهَا ضَعِيفَةُ الْأَسَانِيدِ إِلَّا رِوَايَةً لِلتِّرْمِذِيِّ لَيْسَ فِيهَا اسْمُ بَحِيرَى وَفِيهَا غَلَطٌ فِي الْمَتْنِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ مِنْ بَحِيرَى شَيْئًا مِنْ عَقِيدَتِهِ أَوْ دِينِهِ.
(٢) قَالُوا إِنَّ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ كَانَ مِنْ مُتَنَصِّرَةِ الْعَرَبِ الْعُلَمَاءِ بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَأَحَدَ أَقَارِبِ خَدِيجَةَ - يُوهِمُونَ الْقَارِئَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ - وَالَّذِي صَحَّ مِنْ خَبَرِ وَرَقَةَ هَذَا هُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّ خَدِيجَةَ أَخَذَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِبَ إِخْبَارِهِ إِيَّاهَا بِرُؤْيَةِ الْمَلَكِ فِي حِرَاءَ إِلَى وَرَقَةَ هَذَا وَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَهُ وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَمِيَ وَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ (وَسَأَذْكُرُ نَصَّ الْحَدِيثِ فِي آخِرِ هَذَا الْمَبْحَثِ) وَقَدِ اسْتَقْصَى الْمُحَدِّثُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ كُلَّ مَا عُرِفَ عَنْ وَرَقَةَ هَذَا مِمَّا صَحَّ سَنَدُهُ وَمِمَّا لَمْ يَصِحَّ لَهُ سَنَدٌ كَدَأْبِهِمْ فِي كُلِّ مَا لَهُ عَلَاقَةٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَرَفَ عَنْهُ دَعْوَةً إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ كِتَابَةً فِيهَا.
وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ قَالَ حِينَ عَلِمَ مِنْ خَدِيجَةَ خَبَرَ مُحَمَّدٍ: إِنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ عَاشَ حَتَّى رَأَى بِلَالًا يُعَذِّبُهُ
قَدْ فَصَّلَ إِمِيلْ دِرِمِنْغَامِ الشُّبْهَةَ الَّتِي أَجْمَلَهَا مُونْتِيِهْ بِمَا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ كُتَّابِ الْإِفْرِنْجِ حَتَّى اغْتَرَّ بِكَلَامِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنْ كَانَ حَكِيمُنَا السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ قَالَ لِبَعْضِ مُجَادِلِي النَّصْرَانِيَّةِ: إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا مِنْ رِقَاعِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَأَلْبَسْتُمُوهَا لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَنَحْنُ نَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا آخَرَ مِمَّا فَهِمْتُمْ مِنْ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ لَا مِنْ نُصُوصِهِ وَحَاوَلْتُمْ خَلْعَهَا عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّنِي أَشْرَحُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِأَوْضَحِ مِمَّا كَتَبَهُ دِرِمِنْغَامْ وَمَا بَلَغَنِي عَنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَكُرُّ عَلَيْهَا بِالنَّقْضِ وَالدَّحْضِ فَأَقُولُ:
(١) قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ لَقِيَ بَحِيرَى الرَّاهِبَ فِي مَدِينَةِ بُصْرَى بِالشَّامِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ نَسْطُورِيًّا مِنْ أَتْبَاعِ آرْيُوسَ فِي التَّوْحِيدِ وَيُنْكِرُ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ وَعَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ مِنْهُ عَقِيدَتَهُ، وَقَالُوا فِي بَحِيرَى أَيْضًا: إِنَّهُ كَانَ عَالِمًا فَلَكِيًّا مُنَجِّمًا وَحَاسِبًا سَاحِرًا، وَإِنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ ظَهَرَ لَهُ وَأَنْبَأَهُ بِأَنْ سَيَكُونُ هَادِيًا لِآلِ إِسْمَاعِيلَ إِلَى الدِّينِ الْمَسِيحِيِّ.
بَلْ سَمِعْنَا مِنْ بَعْضِ الرُّهْبَانِ أَنَّهُ كَانَ مُعَلِّمًا لِمُحَمَّدٍ وَمُصَاحِبًا لَهُ بَعْدَ رِسَالَتِهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا مَا حَرَّمَ الْخَمْرَ إِلَّا لِأَنَّهُ قَتَلَ أُسْتَاذَهُ بَحِيرَى وَهُوَ سَكْرَانُ، وَأَمْثَالُ هَذَا مِنَ الِافْتِرَاءِ وَالْبُهْتَانِ. وَكُلُّ مَا عَرَفَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رُوَاةِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَرَجَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ
وَقِيلَ ١٢ سَنَةً رَآهُ هَذَا الرَّاهِبُ مَعَ قُرَيْشٍ وَرَأَى سَحَابَةً تُظَلِّلُهُ مِنَ الشَّمْسِ، وَذَكَرَ لِعَمِّهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ وَحَذَّرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِ - وَفِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى بِمَعْنَاهَا ضَعِيفَةُ الْأَسَانِيدِ إِلَّا رِوَايَةً لِلتِّرْمِذِيِّ لَيْسَ فِيهَا اسْمُ بَحِيرَى وَفِيهَا غَلَطٌ فِي الْمَتْنِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ مِنْ بَحِيرَى شَيْئًا مِنْ عَقِيدَتِهِ أَوْ دِينِهِ.
(٢) قَالُوا إِنَّ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ كَانَ مِنْ مُتَنَصِّرَةِ الْعَرَبِ الْعُلَمَاءِ بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَأَحَدَ أَقَارِبِ خَدِيجَةَ - يُوهِمُونَ الْقَارِئَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ - وَالَّذِي صَحَّ مِنْ خَبَرِ وَرَقَةَ هَذَا هُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّ خَدِيجَةَ أَخَذَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِبَ إِخْبَارِهِ إِيَّاهَا بِرُؤْيَةِ الْمَلَكِ فِي حِرَاءَ إِلَى وَرَقَةَ هَذَا وَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَهُ وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَمِيَ وَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ (وَسَأَذْكُرُ نَصَّ الْحَدِيثِ فِي آخِرِ هَذَا الْمَبْحَثِ) وَقَدِ اسْتَقْصَى الْمُحَدِّثُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ كُلَّ مَا عُرِفَ عَنْ وَرَقَةَ هَذَا مِمَّا صَحَّ سَنَدُهُ وَمِمَّا لَمْ يَصِحَّ لَهُ سَنَدٌ كَدَأْبِهِمْ فِي كُلِّ مَا لَهُ عَلَاقَةٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَرَفَ عَنْهُ دَعْوَةً إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ كِتَابَةً فِيهَا.
وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ قَالَ حِينَ عَلِمَ مِنْ خَدِيجَةَ خَبَرَ مُحَمَّدٍ: إِنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ عَاشَ حَتَّى رَأَى بِلَالًا يُعَذِّبُهُ
140
الْمُشْرِكُونَ لِيَرْجِعَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ، الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ أَعْمَى وَلَمْ يَنْشَبْ أَيْ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، وَقَدْ كَانَ تَعْذِيبُ بِلَالٍ بَعْدَ إِظْهَارِ دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ هَذَا بَعْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِثَلَاثِ سِنِينَ - وَإِمِيلْ دِرِمِنْغَامْ قَدْ غَلِطَ فِيمَا نَقَلَهُ مِنْ خَبَرِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ لِاخْتِلَاطِ الرِّوَايَاتِ عَلَيْهِ فِيهَا وَعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا دُوِّنَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ مِنْهَا. وَإِنَّمَا كَانَ هَمُّ الْمُحَدِّثِينَ فِي خَبَرِ وَرَقَةَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَانَ صَحَابِيًّا أَمْ لَا، فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ هُوَ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْبَعْثَةِ مُؤْمِنًا بِهِ، وَلَوْ بَلَغَهُمْ عَنْهُ أَيُّ شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ بِالتَّوْرَاةِ أَوِ الْإِنْجِيلِ لَنَقَلُوهُ.
(٣) ذَكَرُوا مَا كَانَ مِنِ انْتِشَارِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَتَنَصُّرِ بَعْضِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ وَشُعَرَائِهِمْ كَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ الْأَيَادِيِّ وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَإِشَادَةِ هَؤُلَاءِ بِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ قُرْبِ ظُهُورِ النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ نَشَرْنَا بَعْضَ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ وَكُتُبِ النُّبُوَّاتِ فِي تَفْسِيرِ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) (١٥٧) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
فَأَمَّا الْقُسُّ فَقَدْ مَاتَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي سُوقِ عُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَوْرَقَ، بِكَلَامٍ لَهُ مُونِقٍ، قَالَ فِيهِ: إِنَّ لِلَّهِ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَنَبِيًّا قَدْ أَظَلَّكُمْ زَمَانُهُ، وَأَدْرَكُكُمْ أَوَانُهُ، فَطُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَهُ فَاتَّبَعَهُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ خَالَفَهُ - وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا ضَعِيفَةٌ، وَتَعَدُّدُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا.
وَأَمَّا أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ فَهُوَ شَاعِرٌ مَشْهُورٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: اتَّفَقَتِ الْعَرَبُ عَلَى أَنَّ أُمَيَّةَ أَشْعَرُ ثَقِيفَ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: كَانَ أُمَيَّةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَظَرَ الْكُتُبَ وَقَرَأَهَا وَلَبِسَ الْمُسُوحَ تَعَبُّدًا وَكَانَ يَذْكُرُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْحَنِيفِيَّةَ، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَتَجَنَّبَ الْأَوْثَانَ وَطَمِعَ فِي النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ قَرَأَ فِي الْكُتُبِ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ بِالْحِجَازِ فَرَجَا أَنْ يَكُونَ هُوَ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسَدَهُ فَلَمْ يُسْلِمْ. وَهُوَ الَّذِي رَثَى قَتْلَى بَدْرٍ (الْمُشْرِكِينَ) بِالْقَصِيدَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا:
وَفِي الْمِرْآةِ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ كَانَ آمَنَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِمَ الْحِجَازَ، لِيَأْخُذَ مَالَهُ مِنَ الطَّائِفِ وَيُهَاجِرَ، فَعَلِمَ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ وَقَتْلِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِيهَا فَجَدَعَ أَنْفَ نَاقَتِهِ وَشَقَّ ثَوْبَهُ وَبَكَى ; لِأَنَّ فِيهِمُ ابْنَيْ خَالِهِ وَعَادَ إِلَى الطَّائِفِ وَمَاتَ فِيهَا. وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
(٣) ذَكَرُوا مَا كَانَ مِنِ انْتِشَارِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَتَنَصُّرِ بَعْضِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ وَشُعَرَائِهِمْ كَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ الْأَيَادِيِّ وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَإِشَادَةِ هَؤُلَاءِ بِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ قُرْبِ ظُهُورِ النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ نَشَرْنَا بَعْضَ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ وَكُتُبِ النُّبُوَّاتِ فِي تَفْسِيرِ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) (١٥٧) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
فَأَمَّا الْقُسُّ فَقَدْ مَاتَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي سُوقِ عُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَوْرَقَ، بِكَلَامٍ لَهُ مُونِقٍ، قَالَ فِيهِ: إِنَّ لِلَّهِ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَنَبِيًّا قَدْ أَظَلَّكُمْ زَمَانُهُ، وَأَدْرَكُكُمْ أَوَانُهُ، فَطُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَهُ فَاتَّبَعَهُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ خَالَفَهُ - وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا ضَعِيفَةٌ، وَتَعَدُّدُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا.
وَأَمَّا أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ فَهُوَ شَاعِرٌ مَشْهُورٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: اتَّفَقَتِ الْعَرَبُ عَلَى أَنَّ أُمَيَّةَ أَشْعَرُ ثَقِيفَ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: كَانَ أُمَيَّةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَظَرَ الْكُتُبَ وَقَرَأَهَا وَلَبِسَ الْمُسُوحَ تَعَبُّدًا وَكَانَ يَذْكُرُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْحَنِيفِيَّةَ، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَتَجَنَّبَ الْأَوْثَانَ وَطَمِعَ فِي النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ قَرَأَ فِي الْكُتُبِ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ بِالْحِجَازِ فَرَجَا أَنْ يَكُونَ هُوَ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسَدَهُ فَلَمْ يُسْلِمْ. وَهُوَ الَّذِي رَثَى قَتْلَى بَدْرٍ (الْمُشْرِكِينَ) بِالْقَصِيدَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا:
| مَاذَا بِبَدْرٍ وَالْعَقَنْ | قَلِ مِنْ مَرَازِبَةٍ جَحَاجِحْ |
141
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْشَدَ الشَّرِيدَ بْنَ عَمْرٍو مِنْ شِعْرِهِ فَأَنْشَدَهُ فَقَالَ: ((كَادَ أَنْ يُسْلِمَ)) وَلَكِنَّهُ كَانَ حَنِيفِيًّا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَتَنَصَّرْ وَمِنْ شِعْرِهِ:
(٤) إِسْلَامُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كَانَ فَارِسِيًّا مَجُوسِيًّا فَتَنَصَّرَ عَلَى يَدِ بَعْضِ الرُّهْبَانِ وَصَحِبَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ عُبَّادِهِمْ وَسَمِعَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ آخِرِهِمْ بِقُرْبِ ظُهُورِ النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى وَالْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْعَرَبِ فَقَصَدَ بِلَادَ الْعَرَبِ وَبِيعَ لِبَعْضِ يَهُودِ يَثْرِبَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَلَمْ يَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَأَسْلَمَ وَكَاتَبَ سَيِّدَهُ. وَفِي قِصَّتِهِ رِوَايَاتٌ مُتَعَارِضَةٌ، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا لِدِرِمِنْغَامْ وَغَيْرِهِ.
(٥) ذَكَرُوا مَا كَانَ مِنْ رِحْلَةِ تُجَّارِ قُرَيْشٍ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَفِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ وَاجْتِمَاعِهِمْ بِالنَّصَارَى فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كُلَّمَا مَرُّوا بِدَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ لِلرُّهْبَانِ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى يَتَحَدَّثُونَ بِقُرْبِ ظُهُورِ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ.
(٦) زَعَمَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ بِمَكَّةَ نَفْسِهَا أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَبِيدًا وَخَدَمًا لِأَنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ لَمْ يَكُونُوا يَسْمَحُونَ لَهُمْ أَنْ يَسْكُنُوا فِي مَكَّةَ حَرَمِهِمُ الْمُقَدَّسِ الْخَاصِّ بِوَثَنِيَّتِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ. وَكَانَ هَؤُلَاءِ يَسْكُنُونَ فِي أَطْرَافِ مَكَّةَ ((فِي الْمَنَازِلِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْكَعْبَةِ الْمُتَاخِمَةِ لِلصَّحْرَاءِ)) ! ! وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِقِصَصٍ عَنْ دِينِهِمْ لَا تَصِلُ إِلَى مَسَامِعِ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَعُظَمَائِهِمْ أَوْ مَا كَانُوا يَحْفَلُونَ بِهَا لِسَمَاعِ أَمْثَالِهَا فِي رِحْلَاتِهِمُ الْكَثِيرَةِ. وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ عَتَبَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ كَثْرَةَ تَكْرِيرِهِ لِمَا يَذْكُرُهُ الرُّهْبَانُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ.
فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ يَذْكُرُهَا كُتَّابُ الْإِفْرِنْجِ لِتَعْلِيلِ مَا ظَهَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ عَلَى طَرِيقِهِمْ فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَمَا يُسَمُّونَهُ النَّقْدَ التَّحْلِيلِيَّ، وَيُقْرِنُونَ بِهَا مُقَدِّمَاتٍ أُخْرَى فِي وَصْفِ حَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَحَالَةِ قَوْمِهِ وَمَا اسْتَفَادَهُ مِنْهَا مِنْ تَأْثِيرٍ وَعِبْرَةٍ، فَنُلَخِّصُهَا مَضْمُومَةً إِلَى مَا قَبْلَهَا مَعَ الْإِلْمَامِ بِنَقْدِهَا.
(٧) قَالَ دِرِمِنْغَامْ فِي كَفَالَةِ أَبِي طَالِبٍ لِمُحَمَّدٍ بَعْدَ وَفَاةِ جَدِّهِ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا فَلَمْ يُتَحْ لَهُ تَعْلِيمُ الصَّبِيِّ الَّذِي بَقِيَ أُمِّيًّا طُولَ حَيَاتِهِ (يُوهِمُ الْقَارِئَ أَنَّ أَوْلَادَ الْمُوسِرِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ كَأَنَّ هُنَالِكَ مَدَارِسَ يُعَلَّمُ فِيهَا النَّشْءُ بِالْأُجُورِ كَمَدَارِسِ بِلَادِ الْحَضَارَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ - ثُمَّ قَالَ) :
((وَلَكِنَّهُ كَانَ يَسْتَصْحِبُهُ وَإِيَّاهُ فِي التِّجَارَةِ فَيَسِيرُ وَالْقَوَافِلَ خِلَالَ الصَّحْرَاءِ يَقْطَعُ هَذِهِ الْأَبْعَادَ الْمُتَنَائِيَةَ وَتُحَدِّقُ عَيْنَاهُ الْجَمِيلَتَانِ بِمَدْيَنَ وَوَادِي الْقُرَى وَدِيَارِ ثَمُودَ وَتَسْتَمِعُ أُذُنَاهُ الْمُرْهَفَتَانِ إِلَى حَدِيثِ الْعَرَبِ وَالْبَادِيَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ وَحَدِيثِهَا وَمَاضِي نَبَئِهَا. وَيُقَالُ إِنَّهُ فِي إِحْدَى هَذِهِ الرِّحْلَاتِ إِلَى الشَّامِ الْتَقَى بِالرَّاهِبِ بَحِيرَى فِي جِوَارِ مَدِينَةِ بُصْرَى، وَأَنَّ الرَّاهِبَ رَأَى فِيهِ
| كُلُّ دَيْنٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللهِ | إِلَّا دِينَ الْحَنِيفَةِ زُورٌ |
(٥) ذَكَرُوا مَا كَانَ مِنْ رِحْلَةِ تُجَّارِ قُرَيْشٍ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَفِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ وَاجْتِمَاعِهِمْ بِالنَّصَارَى فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كُلَّمَا مَرُّوا بِدَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ لِلرُّهْبَانِ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى يَتَحَدَّثُونَ بِقُرْبِ ظُهُورِ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ.
(٦) زَعَمَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ بِمَكَّةَ نَفْسِهَا أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَبِيدًا وَخَدَمًا لِأَنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ لَمْ يَكُونُوا يَسْمَحُونَ لَهُمْ أَنْ يَسْكُنُوا فِي مَكَّةَ حَرَمِهِمُ الْمُقَدَّسِ الْخَاصِّ بِوَثَنِيَّتِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ. وَكَانَ هَؤُلَاءِ يَسْكُنُونَ فِي أَطْرَافِ مَكَّةَ ((فِي الْمَنَازِلِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْكَعْبَةِ الْمُتَاخِمَةِ لِلصَّحْرَاءِ)) ! ! وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِقِصَصٍ عَنْ دِينِهِمْ لَا تَصِلُ إِلَى مَسَامِعِ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَعُظَمَائِهِمْ أَوْ مَا كَانُوا يَحْفَلُونَ بِهَا لِسَمَاعِ أَمْثَالِهَا فِي رِحْلَاتِهِمُ الْكَثِيرَةِ. وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ عَتَبَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ كَثْرَةَ تَكْرِيرِهِ لِمَا يَذْكُرُهُ الرُّهْبَانُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ.
فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ يَذْكُرُهَا كُتَّابُ الْإِفْرِنْجِ لِتَعْلِيلِ مَا ظَهَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ عَلَى طَرِيقِهِمْ فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَمَا يُسَمُّونَهُ النَّقْدَ التَّحْلِيلِيَّ، وَيُقْرِنُونَ بِهَا مُقَدِّمَاتٍ أُخْرَى فِي وَصْفِ حَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَحَالَةِ قَوْمِهِ وَمَا اسْتَفَادَهُ مِنْهَا مِنْ تَأْثِيرٍ وَعِبْرَةٍ، فَنُلَخِّصُهَا مَضْمُومَةً إِلَى مَا قَبْلَهَا مَعَ الْإِلْمَامِ بِنَقْدِهَا.
(٧) قَالَ دِرِمِنْغَامْ فِي كَفَالَةِ أَبِي طَالِبٍ لِمُحَمَّدٍ بَعْدَ وَفَاةِ جَدِّهِ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا فَلَمْ يُتَحْ لَهُ تَعْلِيمُ الصَّبِيِّ الَّذِي بَقِيَ أُمِّيًّا طُولَ حَيَاتِهِ (يُوهِمُ الْقَارِئَ أَنَّ أَوْلَادَ الْمُوسِرِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ كَأَنَّ هُنَالِكَ مَدَارِسَ يُعَلَّمُ فِيهَا النَّشْءُ بِالْأُجُورِ كَمَدَارِسِ بِلَادِ الْحَضَارَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ - ثُمَّ قَالَ) :
((وَلَكِنَّهُ كَانَ يَسْتَصْحِبُهُ وَإِيَّاهُ فِي التِّجَارَةِ فَيَسِيرُ وَالْقَوَافِلَ خِلَالَ الصَّحْرَاءِ يَقْطَعُ هَذِهِ الْأَبْعَادَ الْمُتَنَائِيَةَ وَتُحَدِّقُ عَيْنَاهُ الْجَمِيلَتَانِ بِمَدْيَنَ وَوَادِي الْقُرَى وَدِيَارِ ثَمُودَ وَتَسْتَمِعُ أُذُنَاهُ الْمُرْهَفَتَانِ إِلَى حَدِيثِ الْعَرَبِ وَالْبَادِيَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ وَحَدِيثِهَا وَمَاضِي نَبَئِهَا. وَيُقَالُ إِنَّهُ فِي إِحْدَى هَذِهِ الرِّحْلَاتِ إِلَى الشَّامِ الْتَقَى بِالرَّاهِبِ بَحِيرَى فِي جِوَارِ مَدِينَةِ بُصْرَى، وَأَنَّ الرَّاهِبَ رَأَى فِيهِ
142
عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ عَلَى مَا تَدُلُّهُ عَلَيْهِ أَنْبَاءُ كُتُبِهِ. وَفِي الشَّامِ عَرَفَ مُحَمَّدٌ أَحْبَارَ الرُّومِ وَنَصْرَانِيَّتَهُمْ وَكُتَّابَهُمْ وَمُنَاوَأَةَ الْفُرْسِ مِنْ عُبَّادِ النَّارِ لَهُمْ وَانْتِظَارَ الْوَقِيعَةِ بِهِمْ)).
كُلُّ مَا ذَكَرَهُ دِرِمِنْغَامْ هُنَا فَهُوَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ خَيَالِهِ وَمُبْتَدَعَاتِ رَأْيِهِ إِلَّا مَسْأَلَةَ بَحِيرَى الرَّاهِبِ فَأَصْلُهَا مَا ذَكَرْنَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْفَلْ بِإِثْبَاتِهَا لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ مُفْتَرَيَاتِ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ فِيهَا.
فَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْهَبْ مَعَ عَمِّهِ إِلَى التِّجَارَةِ فِي الشَّامِ إِلَّا وَهُوَ طِفْلٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ أَعَادَهُ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ إِتْمَامِ رِحْلَتِهِ. ثُمَّ سَافَرَ إِلَيْهَا فِي تِجَارَةِ خَدِيجَةَ وَهُوَ شَابٌّ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَتَجَاوَزْ سُوقَ بُصْرَى فِي الْمَرَّتَيْنِ. وَالْقَوَافِلُ الَّتِي تَذْهَبُ إِلَى الشَّامِ لَمْ تَكُنْ تَمُرُّ بِمَدْيَنَ وَهِيَ فِي أَرْضِ سَيْنَاءَ. وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقَوَافِلُ تُضَيِّعُ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهَا لِلْبَحْثِ مَعَ الْعَرَبِ أَوِ الْأَعْرَابِ فِي طَرِيقِهَا عَنْ أَنْبَائِهَا وَالتَّارِيخِ الْقَدِيمِ لِبِلَادِهَا، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ تُجَّارِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُعْنَوْنَ بِلِقَاءِ أَحْبَارِ النَّصَارَى وَمُبَاحَثَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ لِدِرِمِنْغَامْ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي كَانَ يَشْتَغِلُ فِي تِلْكَ التِّجَارَةِ بِالْبَحْثِ عَنِ الْأُمَمِ وَالتَّوَارِيخِ وَالْكُتُبِ وَالْأَدْيَانِ وَيُعْنَى بِلِقَاءِ رُؤَسَائِهَا وَالْبَحْثِ مَعَهُمْ؟ إِنَّمَا اخْتَرَعَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَعْلِيلَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ إِلَّا بِهِ وَكَذَلِكَ الْإِنْبَاءُ بِغَلَبِ الرُّومِ لِلْفَرَسِ كَمَا سَيَأْتِي. وَسَتَرَى مَا نُفَنِّدُ بِهِ تَعْلِيلَهُ وَتَحْلِيلَهُ وَتَرْكِيبَهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا زَعَمَهُ كُلَّهُ.
(٨) ثُمَّ ذَكَرَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّ الْعَرَبَ وَلَا سِيَّمَا أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَصْرِفُونَ مُعْظَمَ أَوْقَاتِهِمْ بَعْدَ مَا يَكُونُ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ حَرْبٍ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِاللَّذَّاتِ مِنَ السُّكْرِ وَالتَّسَرِّي وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ التَّارِيخَ يَشْهَدُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يَرَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يُشَارِكُهُمْ فِي ذَلِكَ لَا لِفَقْرِهِ وَضِيقِ ذَاتِ يَدِهِ قَالَ: ((لَكِنَّ نَفْسَ مُحَمَّدٍ كَانَتْ شَغِفَةً بِأَنْ تَرَى وَأَنْ تَسْمَعَ وَأَنْ تَعْرِفَ، وَكَأَنَّ حِرْمَانَهُ مِنَ التَّعْلِيمِ الَّذِي كَانَ يَعْلَمُهُ أَنْدَادُهُ جَعَلَهُ أَشَدَّ لِلْمَعْرِفَةِ شَوْقًا وَبِهَا تَعَلُّقًا، كَمَا أَنَّ النَّفْسَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي تَجَلَّتْ مِنْ بَعْدُ آثَارُهَا، وَمَا زَالَ يَغْمُرُ الْعَالَمَ سُلْطَانُهَا، كَانَتْ فِي تَوْقِهَا إِلَى الْكَمَالِ تَرْغَبُ عَنْ هَذَا اللهْوِ الَّذِي يَطْمَحُ إِلَيْهِ أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى نُورِ الْحَيَاةِ الْمُتَجَلِّي مِنْ كُلِّ مَظَاهِرِ الْحَيَاةِ لِمَنْ هَدَاهُ الْحَقُّ إِلَيْهَا لِاسْتِكْنَاهِ مَا تَدُلُّ هَذِهِ الْمَظَاهِرُ عَلَيْهِ وَمَا تَحَدَّثَ الْمَوْهُوبُونَ بِهِ)).
هَذَا الْخَبَرُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ دِرِمِنْغَامْ فَمُحَمَّدٌ لَمْ يَكُنْ شَغُوفًا بِأَنْ يَرَى مَا يَفْعَلُهُ فُسَّاقُ قَوْمِهِ مِنْ فُسُوقٍ وَفُجُورٍ، وَلَا أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ، وَلَا يَتَحَرَّى أَنْ يَعْرِفَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ سَمَرَهُمْ وَلَهْوَهُمْ إِلَّا مَرَّتَيْنِ أَلْقَى الله عَلَيْهِ النُّوَّمَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا حَتَّى طَلَعَتِ
الشَّمْسُ فَلَمْ يَرَ وَلَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا، وَقَدْ بَطَلَ بِهَذَا مَا عَلَّلَ بِهِ الْخَبَرَ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَدْحِ الْمُتَضَمِّنِ لِدَسِيسَتَيْنِ (إِحْدَاهُمَا) أَنَّ أَنْدَادَهُ فِي قُرَيْشٍ كَانُوا مُتَعَلِّمِينَ وَكَانَ هُوَ مَحْرُومًا مِمَّا لُقِّنُوهُ مِنَ الْعِلْمِ وَكَانَ حِرْمَانُهُ هَذَا يَزِيدُهُ شَغَفًا بِالْبَحْثِ وَالِاسْتِطْلَاعِ (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّ نَفْسَهُ كَانَتْ بِسَبَبِ هَذَا تَزْدَادُ طُمُوحًا إِلَى نُورِ الْحَيَاةِ الْمُتَجَلِّي فِي جَمِيعِ مَظَاهِرِهَا لِاسْتِكْنَاهِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَظَاهِرُ، فَهَذِهِ مِدْحَةٌ غَرَضُهُ مِنْهَا تَعْلِيلُ مَا انْبَثَقَ فِي نَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَسَتَرَى بُطْلَانَهُ.
كُلُّ مَا ذَكَرَهُ دِرِمِنْغَامْ هُنَا فَهُوَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ خَيَالِهِ وَمُبْتَدَعَاتِ رَأْيِهِ إِلَّا مَسْأَلَةَ بَحِيرَى الرَّاهِبِ فَأَصْلُهَا مَا ذَكَرْنَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْفَلْ بِإِثْبَاتِهَا لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ مُفْتَرَيَاتِ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ فِيهَا.
فَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْهَبْ مَعَ عَمِّهِ إِلَى التِّجَارَةِ فِي الشَّامِ إِلَّا وَهُوَ طِفْلٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ أَعَادَهُ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ إِتْمَامِ رِحْلَتِهِ. ثُمَّ سَافَرَ إِلَيْهَا فِي تِجَارَةِ خَدِيجَةَ وَهُوَ شَابٌّ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَتَجَاوَزْ سُوقَ بُصْرَى فِي الْمَرَّتَيْنِ. وَالْقَوَافِلُ الَّتِي تَذْهَبُ إِلَى الشَّامِ لَمْ تَكُنْ تَمُرُّ بِمَدْيَنَ وَهِيَ فِي أَرْضِ سَيْنَاءَ. وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقَوَافِلُ تُضَيِّعُ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهَا لِلْبَحْثِ مَعَ الْعَرَبِ أَوِ الْأَعْرَابِ فِي طَرِيقِهَا عَنْ أَنْبَائِهَا وَالتَّارِيخِ الْقَدِيمِ لِبِلَادِهَا، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ تُجَّارِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُعْنَوْنَ بِلِقَاءِ أَحْبَارِ النَّصَارَى وَمُبَاحَثَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ لِدِرِمِنْغَامْ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي كَانَ يَشْتَغِلُ فِي تِلْكَ التِّجَارَةِ بِالْبَحْثِ عَنِ الْأُمَمِ وَالتَّوَارِيخِ وَالْكُتُبِ وَالْأَدْيَانِ وَيُعْنَى بِلِقَاءِ رُؤَسَائِهَا وَالْبَحْثِ مَعَهُمْ؟ إِنَّمَا اخْتَرَعَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَعْلِيلَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ إِلَّا بِهِ وَكَذَلِكَ الْإِنْبَاءُ بِغَلَبِ الرُّومِ لِلْفَرَسِ كَمَا سَيَأْتِي. وَسَتَرَى مَا نُفَنِّدُ بِهِ تَعْلِيلَهُ وَتَحْلِيلَهُ وَتَرْكِيبَهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا زَعَمَهُ كُلَّهُ.
(٨) ثُمَّ ذَكَرَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّ الْعَرَبَ وَلَا سِيَّمَا أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَصْرِفُونَ مُعْظَمَ أَوْقَاتِهِمْ بَعْدَ مَا يَكُونُ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ حَرْبٍ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِاللَّذَّاتِ مِنَ السُّكْرِ وَالتَّسَرِّي وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ التَّارِيخَ يَشْهَدُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يَرَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يُشَارِكُهُمْ فِي ذَلِكَ لَا لِفَقْرِهِ وَضِيقِ ذَاتِ يَدِهِ قَالَ: ((لَكِنَّ نَفْسَ مُحَمَّدٍ كَانَتْ شَغِفَةً بِأَنْ تَرَى وَأَنْ تَسْمَعَ وَأَنْ تَعْرِفَ، وَكَأَنَّ حِرْمَانَهُ مِنَ التَّعْلِيمِ الَّذِي كَانَ يَعْلَمُهُ أَنْدَادُهُ جَعَلَهُ أَشَدَّ لِلْمَعْرِفَةِ شَوْقًا وَبِهَا تَعَلُّقًا، كَمَا أَنَّ النَّفْسَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي تَجَلَّتْ مِنْ بَعْدُ آثَارُهَا، وَمَا زَالَ يَغْمُرُ الْعَالَمَ سُلْطَانُهَا، كَانَتْ فِي تَوْقِهَا إِلَى الْكَمَالِ تَرْغَبُ عَنْ هَذَا اللهْوِ الَّذِي يَطْمَحُ إِلَيْهِ أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى نُورِ الْحَيَاةِ الْمُتَجَلِّي مِنْ كُلِّ مَظَاهِرِ الْحَيَاةِ لِمَنْ هَدَاهُ الْحَقُّ إِلَيْهَا لِاسْتِكْنَاهِ مَا تَدُلُّ هَذِهِ الْمَظَاهِرُ عَلَيْهِ وَمَا تَحَدَّثَ الْمَوْهُوبُونَ بِهِ)).
هَذَا الْخَبَرُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ دِرِمِنْغَامْ فَمُحَمَّدٌ لَمْ يَكُنْ شَغُوفًا بِأَنْ يَرَى مَا يَفْعَلُهُ فُسَّاقُ قَوْمِهِ مِنْ فُسُوقٍ وَفُجُورٍ، وَلَا أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ، وَلَا يَتَحَرَّى أَنْ يَعْرِفَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ سَمَرَهُمْ وَلَهْوَهُمْ إِلَّا مَرَّتَيْنِ أَلْقَى الله عَلَيْهِ النُّوَّمَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا حَتَّى طَلَعَتِ
الشَّمْسُ فَلَمْ يَرَ وَلَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا، وَقَدْ بَطَلَ بِهَذَا مَا عَلَّلَ بِهِ الْخَبَرَ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَدْحِ الْمُتَضَمِّنِ لِدَسِيسَتَيْنِ (إِحْدَاهُمَا) أَنَّ أَنْدَادَهُ فِي قُرَيْشٍ كَانُوا مُتَعَلِّمِينَ وَكَانَ هُوَ مَحْرُومًا مِمَّا لُقِّنُوهُ مِنَ الْعِلْمِ وَكَانَ حِرْمَانُهُ هَذَا يَزِيدُهُ شَغَفًا بِالْبَحْثِ وَالِاسْتِطْلَاعِ (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّ نَفْسَهُ كَانَتْ بِسَبَبِ هَذَا تَزْدَادُ طُمُوحًا إِلَى نُورِ الْحَيَاةِ الْمُتَجَلِّي فِي جَمِيعِ مَظَاهِرِهَا لِاسْتِكْنَاهِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَظَاهِرُ، فَهَذِهِ مِدْحَةٌ غَرَضُهُ مِنْهَا تَعْلِيلُ مَا انْبَثَقَ فِي نَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَسَتَرَى بُطْلَانَهُ.
143
(٩) ثُمَّ ذَكَرَ دِرِمِنْغَامْ مَسْأَلَةَ أَبْنَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَاسِمِ وَالطَّيِّبِ وَالطَّاهِرِ وَهُوَ يَشُكُّ فِي وُجُودِهِمْ وَيَقُولُ: إِنَّ تَكْنِيَتَهُ بِأَبِي الْقَاسِمِ لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ وَلَدٍ لَهُ بِهَذَا الِاسْمِ وَإِنَّهُ إِنْ صَحَّ أَنَّهُمْ وُلِدُوا فَقَدْ مَاتُوا فِي الْمَهْدِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ غُلَامٌ سَمَّاهُ الْقَاسِمَ وَكُنِّيَ بِهِ وَأَنَّهُ مَاتَ طِفْلًا، وَقِيلَ عَاشَ إِلَى أَنْ رَكِبَ الدَّابَّةَ وَأَنَّ الطَّيِّبَ وَالطَّاهِرَ لَقَبَانِ لِلْقَاسِمِ. وَلَكِنَّ دِرِمِنْغَامْ قَدْ كَبَّرَ مَسْأَلَةَ مَوْتِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ يَشُكُّ فِي وُجُودِهِمْ. وَبَنَى عَلَيْهَا حُكْمًا. وَأَثَارَ وَهْمًا، قَالَ بَعْدَ أَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُطِقْ عَلَى الْحِرْمَانِ مِنَ الْبَنِينَ صَبْرًا.
((فَمِنْ حَقِّ الْمُؤَرِّخِ أَنْ يَجْعَلَ لِهَذَا الْحَادِثِ بَلِ الْحَوَادِثِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَصَابَتْ مُحَمَّدًا فِي بَنِيهِ مَا هِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَتْرُكَهُ فِي حَيَاتِهِ وَفِي تَفْكِيرِهِ مِنْ أَثَرٍ. وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِنَوْعٍ خَاصٍّ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أُمِّيًّا، فَلَمْ تَكُنِ الْمُضَارَّاتُ الْجَدَلِيَّةُ (كَذَا) لِتَصْرِفَهُ عَنِ التَّأْثِيرِ بِعِبَرِ الْحَوَادِثِ وَدُرُوسِهَا، وَحَوَادِثُ أَلِيمَةٌ كَوَفَاةِ أَبْنَائِهِ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَسْتَوْقِفَ تَفْكِيرَهُ وَأَنْ تَلْفِتَهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لِمَا كَانَتْ خَدِيجَةُ تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى أَصْنَامِ الْكَعْبَةِ وَتَنْحَرُ لِهُبَلٍ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى تُرِيدُ أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْ أَلَمِ الثُّكْلِ فَلَا تُفِيدُ الْقُرْبَانُ وَلَا تُجْدِي النُّحُورُ)).
((وَالْأَمْرُ كَانَ كَذَلِكَ لَا رَيْبَ أَنْ كَانَتْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ قَدْ بَدَأَتْ تَتَزَعْزَعُ فِي النُّفُوسِ تَحْتَ ضَغْطِ النَّصْرَانِيَّةِ الْآتِيَةِ مِنَ الشَّامِ مُنْحَدِرَةً إِلَيْهَا مِنَ الرُّومِ وَمِنَ الْيَمَنِ مُتَخَطِّيَةً إِلَيْهَا مِنْ خَلِيجِ الْعَرَبِ (الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ) مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ)).
غَرَضُ دِرِمِنْغَامْ مِنْ تَكْبِيرِ الْمُصِيبَةِ بِمَوْتِ الْأَبْنَاءِ الْمَشْكُوكِ فِي وِلَادَتِهِمْ هُوَ أَنْ يَجْعَلَهَا مُسَوِّغَةً لِمَا اخْتَلَقَهُ مِنْ تَوَسُّلِ خَدِيجَةَ إِلَى الْأَصْنَامِ بِالْقَرَابِينِ لِيُنْقِذُوهَا مِنْ
مَعْصِيَةِ الثُّكْلِ، ثُمَّ يَسْتَنْبِطُ مِنْ ذَلِكَ زَعْزَعَةَ إِيمَانِهَا وَإِيمَانَ بَعْلِهَا بِعِبَادَتِهَا الَّذِي كَانَ سَبَبُهُ تَأْثِيرَ النَّصْرَانِيَّةِ فِي مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، ثُمَّ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ التَّحْلِيلِيَّةِ لِتَعْلِيلِ الْوَحْيِ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَا تَبَنَّى زَيْدًا إِلَّا لِأَنَّهُ آثَرَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ حُرًّا مَعَ وَالِدِهِ وَعَمِّهِ عِنْدَمَا جَاءَا مَكَّةَ لِافْتِدَائِهِ بِالْمَالِ. فَقَالَ لَهُمَا: ((ادْعُوهُ فَخَيِّرُوهُ فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ فِدَاءٌ)) ثُمَّ دَعَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ فَعَرَفَهُمَا قَالَ: ((فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ وَقَدْ رَأَيْتَ صُحْبَتِي لَكَ فَاخْتَرْنِي أَوِ اخْتَرْهُمَا)) فَقَالَ زَيْدٌ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْكَ أَحَدًا. أَنْتَ مِنِّي بِمَكَانِ الْأَبِ وَالْعَمِّ. فَقَالَا: وَيْحَكَ يَا زَيْدُ أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَعَلَى أَبِيكَ وَعَمِّكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ شَيْئًا مَا أَنَا الَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْهِ أَحَدًا. فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ أَخْرَجَهُ إِلَى الْحِجْرِ فَقَالَ: ((اشْهَدُوا أَنَّ زَيْدًا ابْنِي يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ)) فَلَمَّا رَأَى أَبُوهُ وَعَمُّهُ طَابَتْ أَنْفُسُهُمَا. فَدُعِيَ زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ.
رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَنَحْوُهُ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
هَذَا وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكُنْ جَزُوعًا عِنْدَ مَوْتِ وَلَدٍ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ كَانَ أَصْبَرَ الصَّابِرِينَ وَإِنَّ
((فَمِنْ حَقِّ الْمُؤَرِّخِ أَنْ يَجْعَلَ لِهَذَا الْحَادِثِ بَلِ الْحَوَادِثِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَصَابَتْ مُحَمَّدًا فِي بَنِيهِ مَا هِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَتْرُكَهُ فِي حَيَاتِهِ وَفِي تَفْكِيرِهِ مِنْ أَثَرٍ. وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِنَوْعٍ خَاصٍّ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أُمِّيًّا، فَلَمْ تَكُنِ الْمُضَارَّاتُ الْجَدَلِيَّةُ (كَذَا) لِتَصْرِفَهُ عَنِ التَّأْثِيرِ بِعِبَرِ الْحَوَادِثِ وَدُرُوسِهَا، وَحَوَادِثُ أَلِيمَةٌ كَوَفَاةِ أَبْنَائِهِ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَسْتَوْقِفَ تَفْكِيرَهُ وَأَنْ تَلْفِتَهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لِمَا كَانَتْ خَدِيجَةُ تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى أَصْنَامِ الْكَعْبَةِ وَتَنْحَرُ لِهُبَلٍ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى تُرِيدُ أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْ أَلَمِ الثُّكْلِ فَلَا تُفِيدُ الْقُرْبَانُ وَلَا تُجْدِي النُّحُورُ)).
((وَالْأَمْرُ كَانَ كَذَلِكَ لَا رَيْبَ أَنْ كَانَتْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ قَدْ بَدَأَتْ تَتَزَعْزَعُ فِي النُّفُوسِ تَحْتَ ضَغْطِ النَّصْرَانِيَّةِ الْآتِيَةِ مِنَ الشَّامِ مُنْحَدِرَةً إِلَيْهَا مِنَ الرُّومِ وَمِنَ الْيَمَنِ مُتَخَطِّيَةً إِلَيْهَا مِنْ خَلِيجِ الْعَرَبِ (الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ) مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ)).
غَرَضُ دِرِمِنْغَامْ مِنْ تَكْبِيرِ الْمُصِيبَةِ بِمَوْتِ الْأَبْنَاءِ الْمَشْكُوكِ فِي وِلَادَتِهِمْ هُوَ أَنْ يَجْعَلَهَا مُسَوِّغَةً لِمَا اخْتَلَقَهُ مِنْ تَوَسُّلِ خَدِيجَةَ إِلَى الْأَصْنَامِ بِالْقَرَابِينِ لِيُنْقِذُوهَا مِنْ
مَعْصِيَةِ الثُّكْلِ، ثُمَّ يَسْتَنْبِطُ مِنْ ذَلِكَ زَعْزَعَةَ إِيمَانِهَا وَإِيمَانَ بَعْلِهَا بِعِبَادَتِهَا الَّذِي كَانَ سَبَبُهُ تَأْثِيرَ النَّصْرَانِيَّةِ فِي مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، ثُمَّ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ التَّحْلِيلِيَّةِ لِتَعْلِيلِ الْوَحْيِ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَا تَبَنَّى زَيْدًا إِلَّا لِأَنَّهُ آثَرَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ حُرًّا مَعَ وَالِدِهِ وَعَمِّهِ عِنْدَمَا جَاءَا مَكَّةَ لِافْتِدَائِهِ بِالْمَالِ. فَقَالَ لَهُمَا: ((ادْعُوهُ فَخَيِّرُوهُ فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ فِدَاءٌ)) ثُمَّ دَعَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ فَعَرَفَهُمَا قَالَ: ((فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ وَقَدْ رَأَيْتَ صُحْبَتِي لَكَ فَاخْتَرْنِي أَوِ اخْتَرْهُمَا)) فَقَالَ زَيْدٌ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْكَ أَحَدًا. أَنْتَ مِنِّي بِمَكَانِ الْأَبِ وَالْعَمِّ. فَقَالَا: وَيْحَكَ يَا زَيْدُ أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَعَلَى أَبِيكَ وَعَمِّكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ شَيْئًا مَا أَنَا الَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْهِ أَحَدًا. فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ أَخْرَجَهُ إِلَى الْحِجْرِ فَقَالَ: ((اشْهَدُوا أَنَّ زَيْدًا ابْنِي يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ)) فَلَمَّا رَأَى أَبُوهُ وَعَمُّهُ طَابَتْ أَنْفُسُهُمَا. فَدُعِيَ زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ.
رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَنَحْوُهُ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
هَذَا وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكُنْ جَزُوعًا عِنْدَ مَوْتِ وَلَدٍ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ كَانَ أَصْبَرَ الصَّابِرِينَ وَإِنَّ
144
خَدِيجَةَ لَمْ تَيْأَسْ - بِمَوْتِ الْقَاسِمِ - مِنَ اللهِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهَا بِوَلَدٍ آخَرَ، وَلَمْ تَنْحَرْ لِلْأَصْنَامِ شَيْئًا، وَإِنَّ اللَّاتَ كَانَتْ صَخْرَةً فِي الطَّائِفِ تَعْبُدُهَا ثَقِيفُ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ، وَالْعُزَّى كَانَتْ شَجَرَةً بِبَطْنِ نَخْلَةَ تَعْبُدُهَا قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَغَطَفَانُ، وَمَنَاةَ كَانَتْ صَنَمًا فِي قُدَيْدٍ لِبَنِي هِلَالٍ وَهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ.
وَقَدْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ضَعِيفِ الْوَثَنِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ - وَزَعَمَ أَنَّهُ سَبَّبَهُ انْتِشَارُ النَّصْرَانِيَّةِ - جَدِيرًا بِأَنْ يَمْنَعَ خَدِيجَةَ وَهِيَ مِنْ أَعْقَلِ الْعَرَبِ وَأَسْلَمِهِمْ فِطْرَةً، وَأُقْرَبُهُمْ إِلَى الْحَنَفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ تُهَاجِرَ إِلَى هَذِهِ الْأَصْنَامِ لِتَنْحَرَ لَهَا وَتَتَقَرَّبَ إِلَيْهَا لِتَرْزُقَهَا غُلَامًا، فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا عَقْلُهَا وَفِطْرَتُهَا فَأَجْدَرُ بِبَعْلِهَا الْمُصْطَفَى أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ عَدُوُّ الْوَثَنِيَّةِ وَالْأَصْنَامِ مِنْ طُفُولَتِهِ كَمَا يَعْتَرِفُ دِرِمِنْغَامْ، وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُنْسِي صَاحِبَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَاهُ لَوْلَاهُ.
(١٠) زَعَمَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَغَلْغُلِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَوْجَدَ فِيهَا حَالَةً نَفْسِيَّةً أَدَّتْ إِلَى زِيَادَةِ إِمْعَانِهِمْ فِيمَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ التَّحَنُّثَ أَوِ التَّحَنُّفَ وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ:
(وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَجِدُ فِي التَّحَنُّثِ طُمَأْنِينَةً لِنَفْسِهِ أَنْ كَانَ لَهُ بِالْوَحْدَةِ شَغَفٌ، وَأَنْ
كَانَ يَجِدُ فِيهَا الْوَسِيلَةَ إِلَى مَا بَرِحَ شَوْقُهُ يَشْتَدُّ إِلَيْهِ مِنْ نِشْدَانِ الْمَعْرِفَةِ وَاسْتِلْهَامِ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ أَسْبَابِهَا فَكَانَ يَنْقَطِعُ كُلَّ رَمَضَانَ طُولَ الشَّهْرِ فِي غَارِ حِرَاءَ بِجَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ مُكْتَفِيًا بِالْقَلِيلِ مِنَ الزَّادِ يُحْمَلُ إِلَيْهِ لِيَمْضِيَ أَيَّامًا بِالْغَارِ طَوِيلَةً فِي التَّأَمُّلِ وَالْعِبَادَةِ بَعِيدًا عَنْ ضَجَّةِ النَّاسِ وَضَوْضَاءِ الْحَيَاةِ)).
وَأَقُولُ: إِنَّ رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ تُفِيدُ أَنَّهُ حُبِّبَ إِلَيْهِ التَّحَنُّثُ فِي غَارِ حِرَاءَ فِي الْعَامِ الَّذِي جَاءَهُ فِيهِ الْوَحْيُ وَكَانَ هُوَ يَحْمِلُ الزَّادَ وَمَا كَانَ أَحَدٌ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ تَعَبُّدِهِ فِيهِ شَهْرَ رَمَضَانَ كُلَّ سَنَةٍ إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَنِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَمَا سَيَأْتِي:
وَهَاهُنَا وَصَلَ دِرِمِنْغَامْ إِلَى آخِرِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالنَّتِيجَةِ الْمَطْلُوبَةِ لَهُ فَأَرْخَى لِخَيَالِهِ الْعِنَانَ وَنَزَعَ مِنْ جَوَادِهِ اللِّجَامَ، وَنَخَسَهُ بِالْمَهَارَةِ، فَعَدَا بِهِ سَبْحًا، وَجَمَحَ بِهِ جَمْحًا، وَقَدَحَتْ حَوَافِرُهُ لَهُ قَدْحًا، وَأَثَارَتْ لَهُ نَقْعًا، وَأَذِنَ لِشَاعِرِيَّتِهِ الْفَرَنْسِيَّةِ أَنْ تَصِفَ مُحَمَّدًا عِنْدَ ذَلِكَ الْغَارِ بِمَا تُحْدِثُهُ فِي نَفْسِهِ مَشَاهِدُ نُجُومِ اللَّيْلِ وَمَا تُسْعِفُهُ بِهِ شَمْسُ النَّهَارِ، وَمَا تَصَوَّرَ أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ فِي تِلْكَ الْقُنَّةِ مِنَ الْجَبَلِ مِنْ صَحَارَى وَقِفَارٍ، وَخِيَامٍ وَآبَارٍ، وَرُعَاةٍ تَهُشُّ عَلَى غَنَمِهَا حَيْثُ لَا أَشْجَارَ، حَتَّى ذَكَرَ الْبِحَارَ عَلَى بُعْدِ الْبِحَارِ وَقَدْ أَتْقَنَ التَّخَيُّلَ الشِّعْرِيَّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ بِهِ الْوَصْفَ الْمَوْضِعِيَّ، ثُمَّ قَالَ مُصَوِّرًا لِمَا يَبْتَغِيهِ مِنْ مُشَاهَدَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((وَهَذِهِ النُّجُومُ فِي لَيَالِي صَيْفِ الصَّحْرَاءِ كَثِيرَةٌ شَدِيدَةُ الْبَرِيقِ حَتَّى لَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَسْمَعَ بَصِيصَ ضَوْئِهَا وَكَأَنَّهُ نَغَمُ نَارٍ مُوقَدَةٍ.
((حَقًّا! إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَشَارَاتٍ لِلْمُدْرِكِينَ. وَفِي الْعَالَمِ غَيْبٌ بَلِ الْعَالَمُ غَيْبٌ كُلُّهُ، لَكِنْ!
وَقَدْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ضَعِيفِ الْوَثَنِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ - وَزَعَمَ أَنَّهُ سَبَّبَهُ انْتِشَارُ النَّصْرَانِيَّةِ - جَدِيرًا بِأَنْ يَمْنَعَ خَدِيجَةَ وَهِيَ مِنْ أَعْقَلِ الْعَرَبِ وَأَسْلَمِهِمْ فِطْرَةً، وَأُقْرَبُهُمْ إِلَى الْحَنَفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ تُهَاجِرَ إِلَى هَذِهِ الْأَصْنَامِ لِتَنْحَرَ لَهَا وَتَتَقَرَّبَ إِلَيْهَا لِتَرْزُقَهَا غُلَامًا، فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا عَقْلُهَا وَفِطْرَتُهَا فَأَجْدَرُ بِبَعْلِهَا الْمُصْطَفَى أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ عَدُوُّ الْوَثَنِيَّةِ وَالْأَصْنَامِ مِنْ طُفُولَتِهِ كَمَا يَعْتَرِفُ دِرِمِنْغَامْ، وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُنْسِي صَاحِبَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَاهُ لَوْلَاهُ.
(١٠) زَعَمَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَغَلْغُلِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَوْجَدَ فِيهَا حَالَةً نَفْسِيَّةً أَدَّتْ إِلَى زِيَادَةِ إِمْعَانِهِمْ فِيمَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ التَّحَنُّثَ أَوِ التَّحَنُّفَ وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ:
(وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَجِدُ فِي التَّحَنُّثِ طُمَأْنِينَةً لِنَفْسِهِ أَنْ كَانَ لَهُ بِالْوَحْدَةِ شَغَفٌ، وَأَنْ
كَانَ يَجِدُ فِيهَا الْوَسِيلَةَ إِلَى مَا بَرِحَ شَوْقُهُ يَشْتَدُّ إِلَيْهِ مِنْ نِشْدَانِ الْمَعْرِفَةِ وَاسْتِلْهَامِ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ أَسْبَابِهَا فَكَانَ يَنْقَطِعُ كُلَّ رَمَضَانَ طُولَ الشَّهْرِ فِي غَارِ حِرَاءَ بِجَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ مُكْتَفِيًا بِالْقَلِيلِ مِنَ الزَّادِ يُحْمَلُ إِلَيْهِ لِيَمْضِيَ أَيَّامًا بِالْغَارِ طَوِيلَةً فِي التَّأَمُّلِ وَالْعِبَادَةِ بَعِيدًا عَنْ ضَجَّةِ النَّاسِ وَضَوْضَاءِ الْحَيَاةِ)).
وَأَقُولُ: إِنَّ رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ تُفِيدُ أَنَّهُ حُبِّبَ إِلَيْهِ التَّحَنُّثُ فِي غَارِ حِرَاءَ فِي الْعَامِ الَّذِي جَاءَهُ فِيهِ الْوَحْيُ وَكَانَ هُوَ يَحْمِلُ الزَّادَ وَمَا كَانَ أَحَدٌ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ تَعَبُّدِهِ فِيهِ شَهْرَ رَمَضَانَ كُلَّ سَنَةٍ إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَنِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَمَا سَيَأْتِي:
وَهَاهُنَا وَصَلَ دِرِمِنْغَامْ إِلَى آخِرِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالنَّتِيجَةِ الْمَطْلُوبَةِ لَهُ فَأَرْخَى لِخَيَالِهِ الْعِنَانَ وَنَزَعَ مِنْ جَوَادِهِ اللِّجَامَ، وَنَخَسَهُ بِالْمَهَارَةِ، فَعَدَا بِهِ سَبْحًا، وَجَمَحَ بِهِ جَمْحًا، وَقَدَحَتْ حَوَافِرُهُ لَهُ قَدْحًا، وَأَثَارَتْ لَهُ نَقْعًا، وَأَذِنَ لِشَاعِرِيَّتِهِ الْفَرَنْسِيَّةِ أَنْ تَصِفَ مُحَمَّدًا عِنْدَ ذَلِكَ الْغَارِ بِمَا تُحْدِثُهُ فِي نَفْسِهِ مَشَاهِدُ نُجُومِ اللَّيْلِ وَمَا تُسْعِفُهُ بِهِ شَمْسُ النَّهَارِ، وَمَا تَصَوَّرَ أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ فِي تِلْكَ الْقُنَّةِ مِنَ الْجَبَلِ مِنْ صَحَارَى وَقِفَارٍ، وَخِيَامٍ وَآبَارٍ، وَرُعَاةٍ تَهُشُّ عَلَى غَنَمِهَا حَيْثُ لَا أَشْجَارَ، حَتَّى ذَكَرَ الْبِحَارَ عَلَى بُعْدِ الْبِحَارِ وَقَدْ أَتْقَنَ التَّخَيُّلَ الشِّعْرِيَّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ بِهِ الْوَصْفَ الْمَوْضِعِيَّ، ثُمَّ قَالَ مُصَوِّرًا لِمَا يَبْتَغِيهِ مِنْ مُشَاهَدَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((وَهَذِهِ النُّجُومُ فِي لَيَالِي صَيْفِ الصَّحْرَاءِ كَثِيرَةٌ شَدِيدَةُ الْبَرِيقِ حَتَّى لَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَسْمَعَ بَصِيصَ ضَوْئِهَا وَكَأَنَّهُ نَغَمُ نَارٍ مُوقَدَةٍ.
((حَقًّا! إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَشَارَاتٍ لِلْمُدْرِكِينَ. وَفِي الْعَالَمِ غَيْبٌ بَلِ الْعَالَمُ غَيْبٌ كُلُّهُ، لَكِنْ!
145
أَلَا يَكْفِي أَنْ يَفْتَحَ الْإِنْسَانُ عَيْنَيْهِ لِيَرَى، وَأَنْ يُرْهِفَ أُذُنَهُ لِيَسْمَعَ؟ لِيَرَى حَقًّا، وَلِيَسْمَعَ الْكَلِمَ الْخَالِدَ! لَكِنَّ لِلنَّاسِ عُيُونًا لَا تَرَى وَآذَانًا لَا تَسْمَعُ... أَمَّا هُوَ فَحَسْبٌ أَنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى وَهَلْ تَحْتَاجُ لِكَيْ تَسْمَعَ مَا وَرَاءَ السَّمَاءِ مِنْ أَصْوَاتٍ إِلَّا إِلَى قَلْبٍ خَالِصٍ وَنَفْسٍ مُخْلِصَةٍ وَفُؤَادٍ مُلِئَ إِيمَانًا؟
((وَمُحَمَّدٌ فِي رَيْبٍ مِنْ حِكْمَةِ النَّاسِ فَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ إِلَّا الْحَقَّ الْخَالِصَ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ بَاطِلٌ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَيْشَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ لَيْسَ فِيمَا يَرَى حَوْلَهُ، فَحَيَاةُ الْقُرَشِيِّينَ لَيْسَتْ حَقًّا، وَرِبَا الْمُرَابِينَ وَنَهْبُ الْبَدْوِ وَلَهْوُ
الْخُلَعَاءِ وَكُلُّ مَا إِلَى ذَلِكَ لَا شَيْءَ مِنَ الْحَقِّ فِيهِ، وَالْأَصْنَامُ الْمُحِيطَةُ بِالْكَعْبَةِ لَيْسَتْ حَقًّا وَهُبَلُ الْإِلَهُ الطَّوِيلُ الذَّقْنِ الْكَثِيرُ الْعُطُورِ وَالْمَلَابِسِ لَيْسَ إِلَهًا حَقًّا.
((إِذًا فَأَيْنَ الْحَقُّ وَمَا هُوَ)) ؟
((وَظَلَّ مُحَمَّدٌ يَتَرَدَّدُ عَلَى حِرَاءَ فِي رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ سَنَوَاتٍ مُتَتَالِيَةً وَهُنَاكَ كَانَ يَزْدَادُ بِهِ التَّأَمُّلُ ابْتِغَاءَ الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَكَانَ يَنْسَى نَفْسَهُ، وَيَنْسَى طَعَامَهُ، وَيَنْسَى كُلَّ مَا فِي الْحَيَاةِ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي يَرَى فِي الْحَيَاةِ لَيْسَ حَقًّا وَهُنَاكَ كَانَ يُقَلِّبُ فِي صُحُفِ ذِهْنِهِ كُلَّ مَا وَعَى، فَيَزْدَادُ عَمَّا يُزَاوِلُ النَّاسُ مِنْ أَلْوَانِ الظَّنِّ رَغْبَةً وَازْوِرَارًا، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَطْمَعُ فِي أَنْ يَجِدَ فِي قِصَصِ الْأَحْبَارِ وَفِي كُتُبِ الرُّهْبَانِ الْحَقَّ الَّذِي يَنْشُدُ، بَلْ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْمُحِيطِ بِهِ: فِي السَّمَاءِ وَنُجُومِهَا وَقَمَرِهَا وَشَمْسِهَا، وَفِي الصَّحْرَاءِ سَاعَاتِ لَهِيبِهَا الْمُحْرِقِ تَحْتَ ضَوْءِ الشَّمْسِ الْبَاهِرَةِ اللَّأْلَاءِ، وَسَاعَاتِ صَفْوِهَا الْبَدِيعِ إِذْ تَكْسُوهَا أَشِعَّةُ الْقَمَرِ أَوْ أَضْوَاءُ النُّجُومِ بِلِبَاسِهَا الرَّطْبِ النَّدِيِّ، وَفِي الْبَحْرِ وَمَوْجِهِ وَفِي كُلِّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْوُجُودِ وَتَشْمَلُهُ وَحْدَةُ الْوُجُودِ - فِي هَذَا الْكَوْنِ كَانَ يَلْتَمِسُ الْحَقِيقَةَ الْعُلْيَا، وَابْتِغَاءُ إِدْرَاكِهَا كَانَ يَسْمُو بِنَفْسِهِ سَاعَاتِ خَلْوَتِهِ لِيَتَّصِلَ بِهَذَا الْكَوْنِ وَلِيَخْتَرِقَ شِغَافَ الْحُجُبِ إِلَى مَكْنُونِ سِرِّهِ.
قَالَ دِرِمِنْغَامْ: فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ ٦١٠ م أَوْ نَحْوُهَا كَانَتِ الْحَالُ النَّفْسِيَّةُ الَّتِي يُعَانِيهَا (مُحَمَّدٌ) عَلَى أَشُدِّهَا فَقَدْ أَبْهَظَتْ عَاتِقَهُ الْعَقِيدَةُ بِأَنَّ أَمْرًا جَوْهَرِيًّا يَنْقُصُهُ وَيَنْقُصُ قَوْمَهُ، وَأَنَّ النَّاسَ نَسُوا هَذَا الْأَمْرَ الْجَوْهَرِيَّ وَتَشَبَّثَ كُلٌّ بِصَنَمِ قَوْمِهِ وَقَبِيلَتِهِ، وَخَشِيَ النَّاسُ الْجِنَّ وَالْأَشْبَاحَ وَالْبَوَارِحَ وَأَهْمَلُوا الْحَقِيقَةَ الْعُلْيَا، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوهَا وَلَكِنَّهُمْ نَسُوهَا نِسْيَانًا هُوَ مَوْتُ الرُّوحِ وَقَدْ خَلَصَتْ نَفْسُ ((مُحَمَّدٍ)) مَنْ كُلِّ هَذِهِ الْآرَاءِ التَّافِهَةِ، وَمِنْ كُلِّ الْقُوَى الَّتِي تَخْضَعُ لِقُوَّةِ غَيْرِهَا وَمِنْ كُلِّ كَائِنٍ لَيْسَ مَظْهَرًا لِلْكَائِنِ الْوَاحِدِ.
((وَمُحَمَّدٌ فِي رَيْبٍ مِنْ حِكْمَةِ النَّاسِ فَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ إِلَّا الْحَقَّ الْخَالِصَ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ بَاطِلٌ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَيْشَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ لَيْسَ فِيمَا يَرَى حَوْلَهُ، فَحَيَاةُ الْقُرَشِيِّينَ لَيْسَتْ حَقًّا، وَرِبَا الْمُرَابِينَ وَنَهْبُ الْبَدْوِ وَلَهْوُ
الْخُلَعَاءِ وَكُلُّ مَا إِلَى ذَلِكَ لَا شَيْءَ مِنَ الْحَقِّ فِيهِ، وَالْأَصْنَامُ الْمُحِيطَةُ بِالْكَعْبَةِ لَيْسَتْ حَقًّا وَهُبَلُ الْإِلَهُ الطَّوِيلُ الذَّقْنِ الْكَثِيرُ الْعُطُورِ وَالْمَلَابِسِ لَيْسَ إِلَهًا حَقًّا.
((إِذًا فَأَيْنَ الْحَقُّ وَمَا هُوَ)) ؟
((وَظَلَّ مُحَمَّدٌ يَتَرَدَّدُ عَلَى حِرَاءَ فِي رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ سَنَوَاتٍ مُتَتَالِيَةً وَهُنَاكَ كَانَ يَزْدَادُ بِهِ التَّأَمُّلُ ابْتِغَاءَ الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَكَانَ يَنْسَى نَفْسَهُ، وَيَنْسَى طَعَامَهُ، وَيَنْسَى كُلَّ مَا فِي الْحَيَاةِ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي يَرَى فِي الْحَيَاةِ لَيْسَ حَقًّا وَهُنَاكَ كَانَ يُقَلِّبُ فِي صُحُفِ ذِهْنِهِ كُلَّ مَا وَعَى، فَيَزْدَادُ عَمَّا يُزَاوِلُ النَّاسُ مِنْ أَلْوَانِ الظَّنِّ رَغْبَةً وَازْوِرَارًا، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَطْمَعُ فِي أَنْ يَجِدَ فِي قِصَصِ الْأَحْبَارِ وَفِي كُتُبِ الرُّهْبَانِ الْحَقَّ الَّذِي يَنْشُدُ، بَلْ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْمُحِيطِ بِهِ: فِي السَّمَاءِ وَنُجُومِهَا وَقَمَرِهَا وَشَمْسِهَا، وَفِي الصَّحْرَاءِ سَاعَاتِ لَهِيبِهَا الْمُحْرِقِ تَحْتَ ضَوْءِ الشَّمْسِ الْبَاهِرَةِ اللَّأْلَاءِ، وَسَاعَاتِ صَفْوِهَا الْبَدِيعِ إِذْ تَكْسُوهَا أَشِعَّةُ الْقَمَرِ أَوْ أَضْوَاءُ النُّجُومِ بِلِبَاسِهَا الرَّطْبِ النَّدِيِّ، وَفِي الْبَحْرِ وَمَوْجِهِ وَفِي كُلِّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْوُجُودِ وَتَشْمَلُهُ وَحْدَةُ الْوُجُودِ - فِي هَذَا الْكَوْنِ كَانَ يَلْتَمِسُ الْحَقِيقَةَ الْعُلْيَا، وَابْتِغَاءُ إِدْرَاكِهَا كَانَ يَسْمُو بِنَفْسِهِ سَاعَاتِ خَلْوَتِهِ لِيَتَّصِلَ بِهَذَا الْكَوْنِ وَلِيَخْتَرِقَ شِغَافَ الْحُجُبِ إِلَى مَكْنُونِ سِرِّهِ.
قَالَ دِرِمِنْغَامْ: فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ ٦١٠ م أَوْ نَحْوُهَا كَانَتِ الْحَالُ النَّفْسِيَّةُ الَّتِي يُعَانِيهَا (مُحَمَّدٌ) عَلَى أَشُدِّهَا فَقَدْ أَبْهَظَتْ عَاتِقَهُ الْعَقِيدَةُ بِأَنَّ أَمْرًا جَوْهَرِيًّا يَنْقُصُهُ وَيَنْقُصُ قَوْمَهُ، وَأَنَّ النَّاسَ نَسُوا هَذَا الْأَمْرَ الْجَوْهَرِيَّ وَتَشَبَّثَ كُلٌّ بِصَنَمِ قَوْمِهِ وَقَبِيلَتِهِ، وَخَشِيَ النَّاسُ الْجِنَّ وَالْأَشْبَاحَ وَالْبَوَارِحَ وَأَهْمَلُوا الْحَقِيقَةَ الْعُلْيَا، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوهَا وَلَكِنَّهُمْ نَسُوهَا نِسْيَانًا هُوَ مَوْتُ الرُّوحِ وَقَدْ خَلَصَتْ نَفْسُ ((مُحَمَّدٍ)) مَنْ كُلِّ هَذِهِ الْآرَاءِ التَّافِهَةِ، وَمِنْ كُلِّ الْقُوَى الَّتِي تَخْضَعُ لِقُوَّةِ غَيْرِهَا وَمِنْ كُلِّ كَائِنٍ لَيْسَ مَظْهَرًا لِلْكَائِنِ الْوَاحِدِ.
146
وَلَقَدْ عَرَفَ أَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ فِي الشَّامِ وَمَكَّةَ لَهُمْ دِينٌ أُوحِيَ بِهِ، وَأَنَّ أَقْوَامًا غَيْرَهُمْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا الْحَقَّ وَوَعَوْهُ أَنْ جَاءَهُمْ عِلْمٌ مِنْ أَنْبِيَاءَ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ بِهِ، وَكُلَّمَا ضَلَّ النَّاسُ بَعَثَتِ السَّمَاءُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يَهْدِيهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَيُذَكِّرُهُمْ
بِالْحَقِيقَةِ الْخَالِدَةِ.
وَهَذَا الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ دِينٌ وَاحِدٌ وَكُلَّمَا أَفْسَدَهُ النَّاسُ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّمُ عِوَجَهُمْ. وَقَدْ كَانَ الشَّعْبُ الْعَرَبِيُّ يَوْمَئِذٍ فِي أَشَدِّ تَيْهَاءِ الضَّلَالِ. أَفَمَا آنَ لِرَحْمَةِ اللهِ أَنْ تَظْهَرَ فِيهِمْ مَرَّةً أُخْرَى وَأَنْ تَهْدِيَهُمْ إِلَى الْحَقِّ)) ؟
((وَتَزَايَدَتْ رَغْبَةُ مُحَمَّدٍ عَنِ الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ، وَوَجَدَ فِي وَحْدَةِ غَارِ حِرَاءَ مَسَرَّةً تَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ عُمْقًا، وَجَعَلَ يَقْضِي الْأَسَابِيعَ وَمَعَهُ قَلِيلٌ مِنَ الزَّادِ وَرُوحُهُ تَزْدَادُ بِالصَّوْمِ وَالسَّهَرِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى تَقْلِيبِ فِكْرَتِهِ صِقَالًا وَحِدَّةً. وَنَسِيَ النَّهَارَ وَاللَّيْلَ وَالْحُلْمَ وَالْيَقَظَةَ، وَجَعَلَ يَقْضِي السَّاعَاتِ الطِّوَالَ جَاثِيًا فِي الْغَارِ، أَوْ مُسْتَلْقِيًا فِي الشَّمْسِ، أَوْ سَائِرًا بِخُطًى وَاسِعَةٍ فِي طُرُقٍ الصَّحْرَاءِ الْحَجَرِيَّةِ، وَكَأَنَّهُ يَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ تَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ أَحْجَارِهَا تُنَادِيهِ مُؤْمِنَةً بِرِسَالَتِهِ.
((وَقَضَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَتَّى خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ فَأَسَرَّ بِمَخَاوِفِهِ إِلَى خَدِيجَةَ فَطَمْأَنَتْهُ وَجَعَلَتْ تُحَدِّثُهُ بِأَنَّهُ الْأَمِينُ وَأَنَّ الْجِنَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَقْتَرِبَ مِنْهُ وَفِيمَا هُوَ يَوْمًا نَائِمٌ بِالْغَارِ جَاءَهُ مَلَكٌ فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ، قَالَ ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ)) وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ الْوَحْيِ وَأَوَّلَ النُّبُوَّةِ.
((وَهُنَا تَبْدَأُ حَيَاةٌ جِدَّةٍ رُوحِيَّةٍ قَوِيَّةٍ غَايَةَ الْقُوَّةِ، حَيَاةٌ تَأْخُذُ بِالْأَبْصَارِ وَالْأَلْبَابِ وَلَكِنَّهَا حَيَاةُ تَضْحِيَةٍ خَالِصَةٍ لِوَجْهِ اللهِ وَالْحَقِّ وَالْإِنْسَانِيَّةِ)).
أَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا هُنَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ جُلَّهُ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ هَذَا الْإِفْرَنْسِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا نَسِيَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالْحُلْمَ وَالْيَقَظَةَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقْضِي السَّاعَاتِ الطِّوَالَ جَاثِيًا فِي الْغَارِ أَوْ مُسْتَلْقِيًا فِي الشَّمْسِ إِلَخْ وَأَنَّهُ قَضَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ - قَدِ افْتَرَى فِي الْأَخْبَارِ لِيَسْتَنْبِطَ مِنْهَا أَنَّهُ صَارَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، غَائِبًا عَنْ حِسِّهِ. وَإِنَّنَا نَنْقُلُ هُنَا أَصَحَّ الْأَخْبَارِ فِي خَبَرِ تَحَنُّثِهِ فِي الْغَارِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ - مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَا فِيمَا قَبْلَهَا - لِتَفْنِيدِ مُفْتَرَيَاتِهِ وَلِلِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَمَّا نَقَلَهُ مِنَ الْخَلْطِ فِي صِفَةِ الْوَحْيِ مِنَ الْفَصْلِ الْآتِي - وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا وَهَذَا نَصُّ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.
بِالْحَقِيقَةِ الْخَالِدَةِ.
وَهَذَا الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ دِينٌ وَاحِدٌ وَكُلَّمَا أَفْسَدَهُ النَّاسُ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّمُ عِوَجَهُمْ. وَقَدْ كَانَ الشَّعْبُ الْعَرَبِيُّ يَوْمَئِذٍ فِي أَشَدِّ تَيْهَاءِ الضَّلَالِ. أَفَمَا آنَ لِرَحْمَةِ اللهِ أَنْ تَظْهَرَ فِيهِمْ مَرَّةً أُخْرَى وَأَنْ تَهْدِيَهُمْ إِلَى الْحَقِّ)) ؟
((وَتَزَايَدَتْ رَغْبَةُ مُحَمَّدٍ عَنِ الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ، وَوَجَدَ فِي وَحْدَةِ غَارِ حِرَاءَ مَسَرَّةً تَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ عُمْقًا، وَجَعَلَ يَقْضِي الْأَسَابِيعَ وَمَعَهُ قَلِيلٌ مِنَ الزَّادِ وَرُوحُهُ تَزْدَادُ بِالصَّوْمِ وَالسَّهَرِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى تَقْلِيبِ فِكْرَتِهِ صِقَالًا وَحِدَّةً. وَنَسِيَ النَّهَارَ وَاللَّيْلَ وَالْحُلْمَ وَالْيَقَظَةَ، وَجَعَلَ يَقْضِي السَّاعَاتِ الطِّوَالَ جَاثِيًا فِي الْغَارِ، أَوْ مُسْتَلْقِيًا فِي الشَّمْسِ، أَوْ سَائِرًا بِخُطًى وَاسِعَةٍ فِي طُرُقٍ الصَّحْرَاءِ الْحَجَرِيَّةِ، وَكَأَنَّهُ يَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ تَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ أَحْجَارِهَا تُنَادِيهِ مُؤْمِنَةً بِرِسَالَتِهِ.
((وَقَضَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَتَّى خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ فَأَسَرَّ بِمَخَاوِفِهِ إِلَى خَدِيجَةَ فَطَمْأَنَتْهُ وَجَعَلَتْ تُحَدِّثُهُ بِأَنَّهُ الْأَمِينُ وَأَنَّ الْجِنَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَقْتَرِبَ مِنْهُ وَفِيمَا هُوَ يَوْمًا نَائِمٌ بِالْغَارِ جَاءَهُ مَلَكٌ فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ، قَالَ ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ)) وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ الْوَحْيِ وَأَوَّلَ النُّبُوَّةِ.
((وَهُنَا تَبْدَأُ حَيَاةٌ جِدَّةٍ رُوحِيَّةٍ قَوِيَّةٍ غَايَةَ الْقُوَّةِ، حَيَاةٌ تَأْخُذُ بِالْأَبْصَارِ وَالْأَلْبَابِ وَلَكِنَّهَا حَيَاةُ تَضْحِيَةٍ خَالِصَةٍ لِوَجْهِ اللهِ وَالْحَقِّ وَالْإِنْسَانِيَّةِ)).
أَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا هُنَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ جُلَّهُ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ هَذَا الْإِفْرَنْسِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا نَسِيَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالْحُلْمَ وَالْيَقَظَةَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقْضِي السَّاعَاتِ الطِّوَالَ جَاثِيًا فِي الْغَارِ أَوْ مُسْتَلْقِيًا فِي الشَّمْسِ إِلَخْ وَأَنَّهُ قَضَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ - قَدِ افْتَرَى فِي الْأَخْبَارِ لِيَسْتَنْبِطَ مِنْهَا أَنَّهُ صَارَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، غَائِبًا عَنْ حِسِّهِ. وَإِنَّنَا نَنْقُلُ هُنَا أَصَحَّ الْأَخْبَارِ فِي خَبَرِ تَحَنُّثِهِ فِي الْغَارِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ - مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَا فِيمَا قَبْلَهَا - لِتَفْنِيدِ مُفْتَرَيَاتِهِ وَلِلِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَمَّا نَقَلَهُ مِنَ الْخَلْطِ فِي صِفَةِ الْوَحْيِ مِنَ الْفَصْلِ الْآتِي - وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا وَهَذَا نَصُّ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.
147
(بَابُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
افْتَتَحَ الْبَابَ بَلِ الْكِتَابَ كُلَّهُ بِرِوَايَتِهِ الْحَدِيثَ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ) قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: وَلَقَدْ
رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عَقِيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ
افْتَتَحَ الْبَابَ بَلِ الْكِتَابَ كُلَّهُ بِرِوَايَتِهِ الْحَدِيثَ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ) قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: وَلَقَدْ
رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عَقِيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ
148
الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمَثَلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ:
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (٩٦: ١ - ٣) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - فَقَالَ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)) فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (٩٦: ١ - ٣) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - فَقَالَ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)) فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ
149
فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: ((لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي)) فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي
الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَبَرِ مَا أَرَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا. لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَبَرِ مَا أَرَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا. لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
150
أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ. وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ
وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ ((بَيْنَا أَنَا مَاشٍ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٧٤: ١ - ٥) فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ اهـ.
(وَأَقُولُ) أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ مِنْ طُرُقٍ فِي بَعْضِهَا أَنَّ أَوَّلَهَا أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ مُطْلَقًا وَفِي الْبَعْضِ الْآخَرِ أَنَّهَا مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَالَّتِي هُنَا وَقَدْ عَبَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رُعْبِهِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ بِقَوْلِهِ: ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ
رُعْبًا)) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ)) أَيْ فَزِعْتُ وَخِفْتُ وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ بِالتَّاءِ لِلْمَفْعُولِ.
وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ ((بَيْنَا أَنَا مَاشٍ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٧٤: ١ - ٥) فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ اهـ.
(وَأَقُولُ) أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ مِنْ طُرُقٍ فِي بَعْضِهَا أَنَّ أَوَّلَهَا أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ مُطْلَقًا وَفِي الْبَعْضِ الْآخَرِ أَنَّهَا مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَالَّتِي هُنَا وَقَدْ عَبَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رُعْبِهِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ بِقَوْلِهِ: ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ
رُعْبًا)) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ)) أَيْ فَزِعْتُ وَخِفْتُ وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ بِالتَّاءِ لِلْمَفْعُولِ.
151
هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ أَوَّلِ الْمُدَّثِّرِ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ تَامَّةً وَبَعْدَهَا بَقِيَّةُ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ سُورَةُ (ن وَالْقَلَمِ) (٦٨: ١) وَهُوَ غَلَطٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَاعْتَمَدَهُ شَيْخُنَا فِي تَوْجِيهِ كَوْنِهَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ تَامَّةٍ بَعْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِالتَّمْهِيدِ التَّكْوِينِيِّ ثُمَّ بِالْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ الْإِجْمَالِيِّ وَتَلَاهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ وَنُزُولُ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ أَوْ نَزَلَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
(بَسْطُ مَا يُصَوِّرُونَ بِهِ الْوَحْيَ النَّفْسِيَّ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
هَأَنَذَا قَدْ بَسَطْتُ جَمِيعَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي اسْتَنْبَطُوهَا مِنْ تَارِيخِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَحَالَةِ قَوْمِهِ وَوَطَنِهِ، وَمَا تَصَوَّرُوا أَنَّهُ اسْتَفَادَهُ مِنْ أَسْفَارِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ خَلَوَاتِهِ وَتَحَنُّثِهِ وَتَفَكُّرِهِ فِيهَا، وَقَفَّيْتُ عَلَيْهَا بِأَصَحِّ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ صِفَةِ الْوَحْيِ وَكَيْفَ كَانَ بَدْؤُهُ وَفَتْرَتُهُ، ثُمَّ كَيْفَ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبْلِيغِهِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ وَكَيْفَ حَمِيَ وَتَتَابَعَ.
وَأُبَيِّنُ الْآنَ كَيْفَ يَسْتَنْبِطُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْوَحْيَ قَدْ نَبَعَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ وَأَفْكَارِهِ بِتَأْثِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي وِجْدَانِهِ وَعَقْلِهِ، بِمَا لَمْ أَرَ وَلَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهُ فِي تَقْرِيبِهِ إِلَى الْعَقْلِ، ثُمَّ أُقَفِّي عَلَيْهِ بِمَا يَنْقُضُهُ مِنْ أَسَاسِهِ بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالتَّارِيخِ وَالصَّحِيحِ مِنْ وَصْفِ حَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقُولُ:
يَقُولُونَ: إِنَّ عَقْلَ مُحَمَّدٍ الْهُيُولَانِيَّ قَدْ أَدْرَكَ بِنُورِهِ الذَّاتِيِّ بُطْلَانَ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا أَدْرَكَ ذَلِكَ أَفْرَادٌ آخَرُونَ مِنْ قَوْمِهِ - آمَنَّا وَصَدَّقْنَا - وَإِنَّ فِطْرَتَهُ الزَّكِيَّةَ قَدِ احْتَقَرَتْ مَا كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنْ جَمْعِ الْأَمْوَالِ بِالرِّبَا وَالْقِمَارِ - آمَنَّا وَصَدَّقْنَا - وَإِنَّ فَقْرَهُ وَفَقْرَ عَمِّهِ (أَبِي طَالِبٍ) الَّذِي كَفَلَهُ صَغِيرًا قَدْ حَالَ دُونَ انْغِمَاسِهِ فِيمَا كَانُوا يُسْرِفُونَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالشَّهَوَاتِ، مِنَ السُّكْرِ وَالتَّسَرِّي وَعَزْفِ الْقِيَانِ - الصَّحِيحُ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ احْتِقَارًا لَهُ لَا عَجْزًا عَنْهُ -
وَأَنَّهُ طَالَ تَفَكُّرُهُ فِي إِنْقَاذِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ الْقَبِيحِ وَتَطْهِيرِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ - لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ -، وَإِنَّهُ اسْتَفَادَ مِنْ أَسْفَارِهِ وَمِمَّنْ لَقِيَهُ فِيهَا وَفِي مَكَّةَ نَفْسِهَا مِنَ النَّصَارَى كَثِيرًا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ عَنِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ - هَذَا وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا وَلَا يَضُرُّنَا -، وَإِنَّ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ لَمْ تَكُنْ كُلُّهَا مَقْبُولَةً فِي عَقْلِهِ لِمَا عَرَضَ لِلنَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَبِمَا حَدَثَ فِيهَا مِنَ الْبِدَعِ - هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَهُوَ مَعْقُولٌ غَيْرُ مَنْقُولٍ - وَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَمِعَ أَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ نَبِيًّا مِثْلَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ قَدْ بَشَّرَ بِهِ
(بَسْطُ مَا يُصَوِّرُونَ بِهِ الْوَحْيَ النَّفْسِيَّ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
هَأَنَذَا قَدْ بَسَطْتُ جَمِيعَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي اسْتَنْبَطُوهَا مِنْ تَارِيخِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَحَالَةِ قَوْمِهِ وَوَطَنِهِ، وَمَا تَصَوَّرُوا أَنَّهُ اسْتَفَادَهُ مِنْ أَسْفَارِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ خَلَوَاتِهِ وَتَحَنُّثِهِ وَتَفَكُّرِهِ فِيهَا، وَقَفَّيْتُ عَلَيْهَا بِأَصَحِّ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ صِفَةِ الْوَحْيِ وَكَيْفَ كَانَ بَدْؤُهُ وَفَتْرَتُهُ، ثُمَّ كَيْفَ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبْلِيغِهِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ وَكَيْفَ حَمِيَ وَتَتَابَعَ.
وَأُبَيِّنُ الْآنَ كَيْفَ يَسْتَنْبِطُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْوَحْيَ قَدْ نَبَعَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ وَأَفْكَارِهِ بِتَأْثِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي وِجْدَانِهِ وَعَقْلِهِ، بِمَا لَمْ أَرَ وَلَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهُ فِي تَقْرِيبِهِ إِلَى الْعَقْلِ، ثُمَّ أُقَفِّي عَلَيْهِ بِمَا يَنْقُضُهُ مِنْ أَسَاسِهِ بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالتَّارِيخِ وَالصَّحِيحِ مِنْ وَصْفِ حَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقُولُ:
يَقُولُونَ: إِنَّ عَقْلَ مُحَمَّدٍ الْهُيُولَانِيَّ قَدْ أَدْرَكَ بِنُورِهِ الذَّاتِيِّ بُطْلَانَ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا أَدْرَكَ ذَلِكَ أَفْرَادٌ آخَرُونَ مِنْ قَوْمِهِ - آمَنَّا وَصَدَّقْنَا - وَإِنَّ فِطْرَتَهُ الزَّكِيَّةَ قَدِ احْتَقَرَتْ مَا كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنْ جَمْعِ الْأَمْوَالِ بِالرِّبَا وَالْقِمَارِ - آمَنَّا وَصَدَّقْنَا - وَإِنَّ فَقْرَهُ وَفَقْرَ عَمِّهِ (أَبِي طَالِبٍ) الَّذِي كَفَلَهُ صَغِيرًا قَدْ حَالَ دُونَ انْغِمَاسِهِ فِيمَا كَانُوا يُسْرِفُونَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالشَّهَوَاتِ، مِنَ السُّكْرِ وَالتَّسَرِّي وَعَزْفِ الْقِيَانِ - الصَّحِيحُ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ احْتِقَارًا لَهُ لَا عَجْزًا عَنْهُ -
وَأَنَّهُ طَالَ تَفَكُّرُهُ فِي إِنْقَاذِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ الْقَبِيحِ وَتَطْهِيرِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ - لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ -، وَإِنَّهُ اسْتَفَادَ مِنْ أَسْفَارِهِ وَمِمَّنْ لَقِيَهُ فِيهَا وَفِي مَكَّةَ نَفْسِهَا مِنَ النَّصَارَى كَثِيرًا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ عَنِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ - هَذَا وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا وَلَا يَضُرُّنَا -، وَإِنَّ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ لَمْ تَكُنْ كُلُّهَا مَقْبُولَةً فِي عَقْلِهِ لِمَا عَرَضَ لِلنَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَبِمَا حَدَثَ فِيهَا مِنَ الْبِدَعِ - هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَهُوَ مَعْقُولٌ غَيْرُ مَنْقُولٍ - وَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَمِعَ أَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ نَبِيًّا مِثْلَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ قَدْ بَشَّرَ بِهِ
152
عِيسَى الْمَسِيحُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - وَإِنَّ هَذَا عَلَقَ بِنَفْسِهِ فَتَعَلَّقَ رَجَاؤُهُ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ النَّبِيَّ الَّذِي آنَ أَوَانُهُ - وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ لَهُمْ مِمَّا قَبْلَهُ وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ - وَنَتِيجَةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَوَسَّلَ إِلَى ذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ بِغَارِ حِرَاءَ فَقَوِيَ هُنَالِكَ إِيمَانُهُ، وَسَمَا وِجْدَانُهُ، فَاتَّسَعَ مُحِيطُ تَفَكُّرِهِ، وَتَضَاعَفَ نُورُ بَصِيرَتِهِ، فَاهْتَدَى عَقْلُهُ الْكَبِيرُ إِلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ مُبْدِعِ الْوُجُودِ، وَسِرِّ النِّظَامِ السَّارِي فِي كُلِّ مَوْجُودٍ، بِمَا صَارَ بِهِ أَهْلًا لِهِدَايَةِ النَّاسِ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَا زَالَ يُفَكِّرُ وَيَتَأَمَّلُ، وَيَنْفَعِلُ وَيَتَمَلْمَلُ، وَيَتَقَلَّبُ بَيْنَ الْآلَامِ وَالْآمَالِ، حَتَّى أَيْقَنَ أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ، الَّذِي يَبْعَثُهُ اللهُ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ، فَتَجَلَّى لَهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ فِي الرُّؤَى الْمَنَامِيَّةِ، ثُمَّ قَوِيَ حَتَّى صَارَ يَتَمَثَّلُ لَهُ الْمَلَكُ يُلَقِّنُهُ فِي الْيَقَظَةِ.
وَأَمَّا الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي جَاءَتْهُ فِي هَذَا الْوَحْيِ فَهِيَ مُسْتَمَدَّةُ الْأَصْلِ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَمِمَّا هَدَاهُ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَتَفَكُّرُهُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَصِحُّ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَتَجَلَّى لَهُ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهَا خِطَابُ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ بِوَاسِطَةِ النَّامُوسِ الْأَكْبَرِ مَلَكِ الْوَحْيِ جِبْرِيلَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَالَ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ الْمِصْرِيِّينَ: إِنْ سُولُونَ الْحَكِيمَ الْيُونَانِيَّ وَضَعَ قَانُونًا وَشَرِيعَةً لِقَوْمِهِ فَلَيْسَ بِدْعًا فِي الْعَقْلِ أَنْ يَضَعَ مُحَمَّدٌ شَرِيعَةً أَيْضًا، وَسَأُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا الرَّأْيِ.
(تَفْنِيدُ تَصْوِيرِهِمْ لِلْوَحْيِ النَّفْسِيِّ وَإِبْطَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ)
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ أَكْثَرَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي أَخَذُوا مِنْهَا هَذِهِ النَّتِيجَةَ هِيَ آرَاءٌ مُتَخَيَّلَةٌ، أَوْ دَعَاوَى بَاطِلَةٌ، لَا قَضَايَا تَارِيخِيَّةٌ ثَابِتَةٌ، كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُقَدِّمَاتُ بَطَلَ التَّسْلِيمُ بِالنَّتِيجَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ خَبَرَ غَلَبِ الْفُرْسِ وَظُهُورِهِمْ عَلَى الرُّومِ ; لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ مَا جَاءَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِالْمَسْأَلَةِ وَبِأَنَّ الرُّومَ سَيَغْلِبُونَ الْفُرْسَ بَعْدَ ذَلِكَ - هُوَ مُسْتَمَدٌّ مِمَّا سَمِعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَصَارَى الشَّامِ. وَهَذَا مَرْدُودٌ بِدَلَائِلِ التَّارِيخِ وَالْعَقْلِ. فَأَمَّا التَّارِيخُ فَإِنَّهُ يُحَدِّثُنَا بِأَنَّ ظُهُورَ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ كَانَ فِي سَنَةِ ٦١٠م وَذَلِكَ بَعْدَ رِحْلَةِ مُحَمَّدٍ الْأَخِيرَةِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَبْلَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِسَنَةٍ. ثُمَّ إِنَّ التَّارِيخَ أَنْبَأَنَا أَنَّ دَوْلَةَ الرُّومِ كَانَتْ مُخْتَلَّةً مُعْتَلَّةً فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرْجُو أَنْ تَعُودَ لَهَا الْكَرَّةُ وَالْغَلَبُ عَلَى الْفَرَسِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْفُسَهُمْ هَزِئُوا بِالْخَبَرِ وَرَاهَنَ أَبُو بَكْرٍ أَحَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَجَازَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَبِحَ الرِّهَانَ
وَأَمَّا الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي جَاءَتْهُ فِي هَذَا الْوَحْيِ فَهِيَ مُسْتَمَدَّةُ الْأَصْلِ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَمِمَّا هَدَاهُ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَتَفَكُّرُهُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَصِحُّ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَتَجَلَّى لَهُ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهَا خِطَابُ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ بِوَاسِطَةِ النَّامُوسِ الْأَكْبَرِ مَلَكِ الْوَحْيِ جِبْرِيلَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَالَ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ الْمِصْرِيِّينَ: إِنْ سُولُونَ الْحَكِيمَ الْيُونَانِيَّ وَضَعَ قَانُونًا وَشَرِيعَةً لِقَوْمِهِ فَلَيْسَ بِدْعًا فِي الْعَقْلِ أَنْ يَضَعَ مُحَمَّدٌ شَرِيعَةً أَيْضًا، وَسَأُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا الرَّأْيِ.
(تَفْنِيدُ تَصْوِيرِهِمْ لِلْوَحْيِ النَّفْسِيِّ وَإِبْطَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ)
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ أَكْثَرَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي أَخَذُوا مِنْهَا هَذِهِ النَّتِيجَةَ هِيَ آرَاءٌ مُتَخَيَّلَةٌ، أَوْ دَعَاوَى بَاطِلَةٌ، لَا قَضَايَا تَارِيخِيَّةٌ ثَابِتَةٌ، كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُقَدِّمَاتُ بَطَلَ التَّسْلِيمُ بِالنَّتِيجَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ خَبَرَ غَلَبِ الْفُرْسِ وَظُهُورِهِمْ عَلَى الرُّومِ ; لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ مَا جَاءَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِالْمَسْأَلَةِ وَبِأَنَّ الرُّومَ سَيَغْلِبُونَ الْفُرْسَ بَعْدَ ذَلِكَ - هُوَ مُسْتَمَدٌّ مِمَّا سَمِعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَصَارَى الشَّامِ. وَهَذَا مَرْدُودٌ بِدَلَائِلِ التَّارِيخِ وَالْعَقْلِ. فَأَمَّا التَّارِيخُ فَإِنَّهُ يُحَدِّثُنَا بِأَنَّ ظُهُورَ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ كَانَ فِي سَنَةِ ٦١٠م وَذَلِكَ بَعْدَ رِحْلَةِ مُحَمَّدٍ الْأَخِيرَةِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَبْلَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِسَنَةٍ. ثُمَّ إِنَّ التَّارِيخَ أَنْبَأَنَا أَنَّ دَوْلَةَ الرُّومِ كَانَتْ مُخْتَلَّةً مُعْتَلَّةً فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرْجُو أَنْ تَعُودَ لَهَا الْكَرَّةُ وَالْغَلَبُ عَلَى الْفَرَسِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْفُسَهُمْ هَزِئُوا بِالْخَبَرِ وَرَاهَنَ أَبُو بَكْرٍ أَحَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَجَازَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَبِحَ الرِّهَانَ
153
وَأَمَّا الْفِعْلُ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِأَنَّ مِثْلَ مُحَمَّدٍ فِي سُمُوِّ إِدْرَاكِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْزِمَ بِأَنَّ الْغَلَبَ سَيَعُودُ لِلرُّومِ عَلَى الْفَرَسِ فِي مُدَّةِ بِضْعِ سِنِينَ - لَا مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ وَلَا مِنَ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ الْمُسْتَمَدِّ مِنَ الْأَخْبَارِ غَيْرِ الْمَوْثُوقِ بِهَا. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ انْتِصَارَ الرُّومِ حَصَلَ سَنَةَ ٦٢٢م وَكَانَ وَحْيُ التَّبْلِيغِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ ٦١٤م فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ سُورَةَ الرُّومِ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَكُونُ النَّصْرُ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ وَإِنْ كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَكُونُ الْمُدَّةُ سَبْعَ سِنِينَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْبِضْعُ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالتِّسْعِ. وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا النَّبَأِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (٣٠: ١ - ٤) وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ مَثَلًا - هِيَ إِفَادَةٌ أَنَّ الْغَلَبَ يَكُونُ فِي الْحَرْبِ الْمُمْتَدَّةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَأَنْبَاءُ الْوَحْيِ وَالْعِبَرِ لَا تَكُونُ بِأُسْلُوبِ التَّارِيخِ الَّذِي يُحَدِّدُ الْوَقَائِعَ بِالسِّنِينَ، وَلَيْسَ فِي وُعُودِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ذِكْرُ السِّنِينَ وَلَا الشُّهُورِ فَهَذِهِ الْآيَةُ فَرِيدَةٌ فِي بَابِهَا.
وَمِثَالٌ آخَرُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ مُرُورِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رِحْلَتِهِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْضِ مَدْيَنَ وَحَدِيثِهِ مَعَ أَهْلِهَا، الَّذِي أَرَادُوا بِهِ أَنْ يَجْعَلُوهُ أَصْلًا لِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِهَا، وَالْخَبَرُ بَاطِلٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ نَقْلِنَا إِيَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ مَا سَمِعَهُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ أُنَاسٍ مَجْهُولِينَ، وَمَعَارِفُهُمْ لَا يُوثَقُ بِهَا أَصْلًا لِلْوَحْيِ الَّذِي جَاءَهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) لَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّى عَنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى فِي الشَّامِ شَيْئًا أَوْ عَاشَرَهُمْ لَنَقَلَ ذَلِكَ إِلَى أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ لَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا عُلِمَ عَنْهُ أَوْ قِيلَ فِيهِ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا دَوَّنُوهُ وَوَكَلُوا أَمْرَ صِحَّتِهِ أَوْ عَدَمِهَا إِلَى إِسْنَادِهِ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) لَوْ وَقَعَ مَا ذَكَرَ لَاتَّخَذَهُ أَعْدَاؤُهُ مِنْ كِبَارِ الْمُشْرِكِينَ شُبْهَةً يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْوَحْيِ قَدْ تَعَلَّمَهُ فِي الشَّامِ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُورِدُونَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَضْعَفُ وَأَسْخَفُ مِنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَكَّةَ قَيْنٌ (حَدَّادٌ) رُومِيٌّ يَصْنَعُ السُّيُوفَ وَغَيْرَهَا فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقِفُ عِنْدَهُ أَحْيَانًا يُشَاهِدُ صَنْعَتَهُ فَاتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٦: ١٠٣).
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) نُصُوصُ الْقُرْآنِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَقِصَصِهِمْ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَكْذِبُ عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا عَنِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَعْدَى أَعْدَائِهِ أَبُو جَهْلٍ، كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَقِينِهِ بِكُلِّ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ.
وَمِثَالٌ آخَرُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ مُرُورِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رِحْلَتِهِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْضِ مَدْيَنَ وَحَدِيثِهِ مَعَ أَهْلِهَا، الَّذِي أَرَادُوا بِهِ أَنْ يَجْعَلُوهُ أَصْلًا لِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِهَا، وَالْخَبَرُ بَاطِلٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ نَقْلِنَا إِيَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ مَا سَمِعَهُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ أُنَاسٍ مَجْهُولِينَ، وَمَعَارِفُهُمْ لَا يُوثَقُ بِهَا أَصْلًا لِلْوَحْيِ الَّذِي جَاءَهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) لَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّى عَنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى فِي الشَّامِ شَيْئًا أَوْ عَاشَرَهُمْ لَنَقَلَ ذَلِكَ إِلَى أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ لَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا عُلِمَ عَنْهُ أَوْ قِيلَ فِيهِ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا دَوَّنُوهُ وَوَكَلُوا أَمْرَ صِحَّتِهِ أَوْ عَدَمِهَا إِلَى إِسْنَادِهِ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) لَوْ وَقَعَ مَا ذَكَرَ لَاتَّخَذَهُ أَعْدَاؤُهُ مِنْ كِبَارِ الْمُشْرِكِينَ شُبْهَةً يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْوَحْيِ قَدْ تَعَلَّمَهُ فِي الشَّامِ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُورِدُونَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَضْعَفُ وَأَسْخَفُ مِنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَكَّةَ قَيْنٌ (حَدَّادٌ) رُومِيٌّ يَصْنَعُ السُّيُوفَ وَغَيْرَهَا فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقِفُ عِنْدَهُ أَحْيَانًا يُشَاهِدُ صَنْعَتَهُ فَاتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٦: ١٠٣).
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) نُصُوصُ الْقُرْآنِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَقِصَصِهِمْ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَكْذِبُ عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا عَنِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَعْدَى أَعْدَائِهِ أَبُو جَهْلٍ، كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَقِينِهِ بِكُلِّ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ.
154
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى فِي مَدْيَنَ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٢٨: ٤٤، ٤٥) وَقَوْلُهُ بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (١١: ٤٩) وَنَحْوُهَا فِي قِصَّةِ يُونُسَ مِنْ سُورَتِهِ.
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَلَا الضَّعِيفَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كَانَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّبِيَّ الْمُنْتَظَرَ الَّذِي كَانَ يَتَحَدَّثُ عَنْهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَبْلَ بَعْثَتِهِ، وَلَوْ رُوِيَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَدَوَّنَهُ الْمُحَدِّثُونَ لِأَنَّهُمْ مَا تَرَكُوا شَيْئًا بَلَغَهُمْ عَنْهُ إِلَّا دَوَّنُوهُ كَمَا رَوَوْا مِثْلَهُ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ.
(الْوَجْهُ السَّادِسُ) أَنَّ حَدِيثَ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا رَأَى الْمَلَكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَمْ تَجِدْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ الْعَاقِلَةُ الْمُفَكِّرَةُ وَسِيلَةً يَطْمَئِنُّ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ وَتَطْمَئِنُّ هِيَ عَلَيْهِ إِلَّا اسْتِفْتَاءَ أَعْلَمِ الْعَرَبِ بِهَذَا الشَّأْنِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الَّذِي كَانَ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ كُتُبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
(الْوَجْهُ السَّابِعُ) لَوْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ أَمْرًا كَانَ يَرْجُوهُ مُحَمَّدٌ وَيَتَوَقَّعُهُ، وَكَانَ قَدْ تَمَّ اسْتِعْدَادُهُ لَهُ بِاخْتِلَائِهِ وَتَعَبُّدِهِ فِي الْغَارِ، وَمَا صَوَّرُوا بِهِ حَالَهُ فِيهِ مِنَ الْفِكْرِ الْمُضْطَرِبِ، وَالْوِجْدَانِ الْمُلْتَهِبِ، وَالْقَلْبِ الْمُتَقَلِّبِ، حَتَّى إِذَا كَمُلَ اسْتِعْدَادُهُ تَجَلَّى لَهُ رَجَاؤُهُ وَاعْتِقَادُهُ، بِمَا تَمَّ بِهِ مُرَادُهُ، لَظَهَرَ عَقِبَ ذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَتْ تَنْطَوِي عَلَيْهِ نَفْسُهُ الْوَثَّابَةُ، وَفِكْرَتُهُ الْوَقَّادَةُ، فِي سُورَةٍ أَوْ سُوَرٍ مِنْ أَبْلَغِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فِي بَيَانِ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَتَوْحِيدِ الدَّيَّانِ، وَاجْتِثَاثِ شَجَرَةِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنْذَارِ رُءُوسِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، مَا سَيَلْقَوْنَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، كَسُوَرِ الْمُفَصَّلِ وَلَا سِيَّمَا (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (٥٠: ١) وَالذَّارِيَاتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ. ثُمَّ الْحَاقَّةِ وَالنَّبَأِ - أَوْ فِي سُورَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْوُسْطَى الَّتِي تُقَرِّعُهُمْ بِالْحُجَجِ، وَتَأْخُذُهُمْ بِالْعِبَرِ، وَتَضْرِبُ لَهُمُ الْمَثَلَ بِسُنَنِ اللهِ فِي الرُّسُلِ، كَسُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحَجِّ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُ ظَلَّ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَتْلُ فِيهَا عَلَى النَّاسِ سُورَةً، وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا تَحَدَّثَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا إِلَى أَصْدِقَائِهِ بِمَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ الَّذِي تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلَا مِنْ ذَمِّ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ الَّذِي ضَاقَ بِهِ ذَرْعُهُ، إِذْ لَوْ تَحَدَّثَ بِذَلِكَ لَنَقَلُوهُ عَنْهُ، وَنَاهِيكَ بِأَلْصَقِ النَّاسِ بِهِ. خَدِيجَةُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي بَيْتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الَّذِي عَاشَرَهُ طُولَ عُمُرِهِ - فَهَذَا السُّكُوتُ وَحْدَهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَلَا الضَّعِيفَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كَانَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّبِيَّ الْمُنْتَظَرَ الَّذِي كَانَ يَتَحَدَّثُ عَنْهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَبْلَ بَعْثَتِهِ، وَلَوْ رُوِيَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَدَوَّنَهُ الْمُحَدِّثُونَ لِأَنَّهُمْ مَا تَرَكُوا شَيْئًا بَلَغَهُمْ عَنْهُ إِلَّا دَوَّنُوهُ كَمَا رَوَوْا مِثْلَهُ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ.
(الْوَجْهُ السَّادِسُ) أَنَّ حَدِيثَ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا رَأَى الْمَلَكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَمْ تَجِدْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ الْعَاقِلَةُ الْمُفَكِّرَةُ وَسِيلَةً يَطْمَئِنُّ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ وَتَطْمَئِنُّ هِيَ عَلَيْهِ إِلَّا اسْتِفْتَاءَ أَعْلَمِ الْعَرَبِ بِهَذَا الشَّأْنِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الَّذِي كَانَ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ كُتُبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
(الْوَجْهُ السَّابِعُ) لَوْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ أَمْرًا كَانَ يَرْجُوهُ مُحَمَّدٌ وَيَتَوَقَّعُهُ، وَكَانَ قَدْ تَمَّ اسْتِعْدَادُهُ لَهُ بِاخْتِلَائِهِ وَتَعَبُّدِهِ فِي الْغَارِ، وَمَا صَوَّرُوا بِهِ حَالَهُ فِيهِ مِنَ الْفِكْرِ الْمُضْطَرِبِ، وَالْوِجْدَانِ الْمُلْتَهِبِ، وَالْقَلْبِ الْمُتَقَلِّبِ، حَتَّى إِذَا كَمُلَ اسْتِعْدَادُهُ تَجَلَّى لَهُ رَجَاؤُهُ وَاعْتِقَادُهُ، بِمَا تَمَّ بِهِ مُرَادُهُ، لَظَهَرَ عَقِبَ ذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَتْ تَنْطَوِي عَلَيْهِ نَفْسُهُ الْوَثَّابَةُ، وَفِكْرَتُهُ الْوَقَّادَةُ، فِي سُورَةٍ أَوْ سُوَرٍ مِنْ أَبْلَغِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فِي بَيَانِ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَتَوْحِيدِ الدَّيَّانِ، وَاجْتِثَاثِ شَجَرَةِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنْذَارِ رُءُوسِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، مَا سَيَلْقَوْنَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، كَسُوَرِ الْمُفَصَّلِ وَلَا سِيَّمَا (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (٥٠: ١) وَالذَّارِيَاتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ. ثُمَّ الْحَاقَّةِ وَالنَّبَأِ - أَوْ فِي سُورَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْوُسْطَى الَّتِي تُقَرِّعُهُمْ بِالْحُجَجِ، وَتَأْخُذُهُمْ بِالْعِبَرِ، وَتَضْرِبُ لَهُمُ الْمَثَلَ بِسُنَنِ اللهِ فِي الرُّسُلِ، كَسُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحَجِّ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُ ظَلَّ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَتْلُ فِيهَا عَلَى النَّاسِ سُورَةً، وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا تَحَدَّثَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا إِلَى أَصْدِقَائِهِ بِمَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ الَّذِي تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلَا مِنْ ذَمِّ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ الَّذِي ضَاقَ بِهِ ذَرْعُهُ، إِذْ لَوْ تَحَدَّثَ بِذَلِكَ لَنَقَلُوهُ عَنْهُ، وَنَاهِيكَ بِأَلْصَقِ النَّاسِ بِهِ. خَدِيجَةُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي بَيْتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الَّذِي عَاشَرَهُ طُولَ عُمُرِهِ - فَهَذَا السُّكُوتُ وَحْدَهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ
155
مَا صَوَّرُوا بِهِ اسْتِعْدَادَهُ لِلْوَحْيِ الذَّاتِيَّ الَّذِي زَعَمُوهُ، وَاسْتِمْدَادَهُ لِعُلُومِهِ مِنَ التَّلَقِّي وَالِاخْتِبَارِ الَّذِي تَوَهَّمُوهُ.
(الْوَجْهُ الثَّامِنُ) أَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ تَرْتِيبِ نُزُولِ الْوَحْيِ بَعْدَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمُجْرَيَاتِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَقَدْ نَزَلَ مَا بَعْدَ صَدْرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ عَقِبَ قَوْلِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ الَّذِي قَالَهُ فِي الْقُرْآنِ - فَقَدْ أَرَادَهُ أَبُو جَهْلٍ أَنْ يَقُولَ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَهُ أَنَّهُ مُنْكِرٌ لَهُ وَأَنَّهُ كَارِهٌ لَهُ، بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَحَرَّى اسْتِمَاعَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُعْجِبَ بِهِ.
قَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالشِّعْرِ لَا بِرَجْزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُنِيرٌ أَعْلَاهُ، مُشْرِقٌ أَسْفَلُهُ وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. فَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ بِأَثَرِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) (٧٤: ١١) إِلَخْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
(الْوَجْهُ التَّاسِعُ) أَنَّ هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةَ الَّتِي تَصَوَّرَهَا هَؤُلَاءِ الْمُحَلِّلُونَ لِمَسْأَلَةِ الْوَحْيِ قَلِيلَةُ الْمَوَادِّ، ضَيِّقَةُ النِّطَاقِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا لِوَحْيِ الْقُرْآنِ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَأَعْلَى وَأَوْسَعُ وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ مِثْلُ بَحِيرَى وَنَسْطُورَ وَكُلِّ نَصَارَى الشَّامِ وَنَصَارَى الْأَرْضِ وَيَهُودِهَا، دَعِ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ كَانَ يَمُرُّ بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّرِيقِ إِلَى الشَّامِ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُصَدِّقًا لِكُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا فِي الْأَصْلِ مِنْ وَحْيِ اللهِ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ - وَنَزَلَ أَيْضًا مُهَيْمِنًا عَلَيْهَا أَيْ رَقِيبًا وَحَاكِمًا كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ (٤٨) مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (٥) وَمِمَّا حَكَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْيَهُودِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ (أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) (٤: ٤٤ و٥١) وَنَسُوا نَصِيبًا أَوْ حَظًّا آخَرَ مِنْهُ وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا وَغَيَّرُوا، وَبَدَّلُوا (٥: ١٣، ١٤) وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ الْكُبْرَى مِمَّا خَالَفُوا وَاخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْعُلْيَا عَلَيْهِمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَمَدَّةً مِنْ أَفْرَادٍ مِنَ الرُّهْبَانِ أَوْ غَيْرِ الرُّهْبَانِ، أَفَاضُوهَا عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَى رِحْلَتِهِ التِّجَارِيَّةِ إِلَى الشَّامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ
بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمُوسَوِيِّ وَالْعِيسَوِيِّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ بِهِ آرْيُوسُ وَأَتْبَاعُهُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ لَدَى بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي حَكَمَتِ الْكَنِيسَةُ الرَّسْمِيَّةُ بِعَدَمِ قَانُونِيَّتِهَا (أَبُو كَرِيفٍ) كَإِنْجِيلِ طُفُولَةِ الْمَسِيحِ وَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا أَمْ لَا، فَمُحَمَّدٌ
(الْوَجْهُ الثَّامِنُ) أَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ تَرْتِيبِ نُزُولِ الْوَحْيِ بَعْدَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمُجْرَيَاتِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَقَدْ نَزَلَ مَا بَعْدَ صَدْرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ عَقِبَ قَوْلِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ الَّذِي قَالَهُ فِي الْقُرْآنِ - فَقَدْ أَرَادَهُ أَبُو جَهْلٍ أَنْ يَقُولَ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَهُ أَنَّهُ مُنْكِرٌ لَهُ وَأَنَّهُ كَارِهٌ لَهُ، بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَحَرَّى اسْتِمَاعَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُعْجِبَ بِهِ.
قَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالشِّعْرِ لَا بِرَجْزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُنِيرٌ أَعْلَاهُ، مُشْرِقٌ أَسْفَلُهُ وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. فَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ بِأَثَرِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) (٧٤: ١١) إِلَخْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
(الْوَجْهُ التَّاسِعُ) أَنَّ هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةَ الَّتِي تَصَوَّرَهَا هَؤُلَاءِ الْمُحَلِّلُونَ لِمَسْأَلَةِ الْوَحْيِ قَلِيلَةُ الْمَوَادِّ، ضَيِّقَةُ النِّطَاقِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا لِوَحْيِ الْقُرْآنِ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَأَعْلَى وَأَوْسَعُ وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ مِثْلُ بَحِيرَى وَنَسْطُورَ وَكُلِّ نَصَارَى الشَّامِ وَنَصَارَى الْأَرْضِ وَيَهُودِهَا، دَعِ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ كَانَ يَمُرُّ بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّرِيقِ إِلَى الشَّامِ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُصَدِّقًا لِكُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا فِي الْأَصْلِ مِنْ وَحْيِ اللهِ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ - وَنَزَلَ أَيْضًا مُهَيْمِنًا عَلَيْهَا أَيْ رَقِيبًا وَحَاكِمًا كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ (٤٨) مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (٥) وَمِمَّا حَكَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْيَهُودِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ (أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) (٤: ٤٤ و٥١) وَنَسُوا نَصِيبًا أَوْ حَظًّا آخَرَ مِنْهُ وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا وَغَيَّرُوا، وَبَدَّلُوا (٥: ١٣، ١٤) وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ الْكُبْرَى مِمَّا خَالَفُوا وَاخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْعُلْيَا عَلَيْهِمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَمَدَّةً مِنْ أَفْرَادٍ مِنَ الرُّهْبَانِ أَوْ غَيْرِ الرُّهْبَانِ، أَفَاضُوهَا عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَى رِحْلَتِهِ التِّجَارِيَّةِ إِلَى الشَّامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ
بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمُوسَوِيِّ وَالْعِيسَوِيِّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ بِهِ آرْيُوسُ وَأَتْبَاعُهُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ لَدَى بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي حَكَمَتِ الْكَنِيسَةُ الرَّسْمِيَّةُ بِعَدَمِ قَانُونِيَّتِهَا (أَبُو كَرِيفٍ) كَإِنْجِيلِ طُفُولَةِ الْمَسِيحِ وَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا أَمْ لَا، فَمُحَمَّدٌ
156
لَمْ يَعْقِدْ فِي الشَّامِ وَلَا فِي مَكَّةَ مَجْمَعًا مَسِيحِيًّا كَمَجَامِعِ الْكَنِيسَةِ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَنَاجِيلِ وَالْمَذَاهِبِ الْمَسِيحِيَّةِ وَيَحْكُمُ بِصِحَّةِ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ.
إِنَّ وُقُوعَ مِثْلَ هَذَا مِنْهُ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ مِمَّا يَعْلَمُ وَاضِعُو هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ مَعَ عَدَمِ النَّقْلِ أَنَّهُ مُحَالٌ، وَعَلَى فَرْضِ وُقُوعِهِ يُقَالُ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ وَتِلْكَ الْمَذَاهِبِ بِرَأْيِهِ فِي تِلْكَ الْخِلْسَةِ التِّجَارِيَّةِ لِلنَّظَرِ فِيهَا وَيَأْمَنُ عَلَى حُكْمِهِ الْخَطَأَ؟ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ: ((لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ)) يَعْنِي فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ لِئَلَّا يَكُونَ مَا كَذَّبُوهُمْ فِيهِ مِمَّا حَفِظُوا، وَيَكُونَ مَا صَدَّقُوهُمْ بِهِ مِمَّا نَسُوا حَقِيقَتَهُ أَوْ حَرَّفُوا أَوْ بَدَّلُوا.
(الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَى الْآنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَ بِهِ، كَمُخَالَفَةِ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِيمَنْ تَبَنَّتْ مُوسَى فَفِيهِ أَنَّهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ وَفِي الْقُرْآنِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ - وَفِيمَا قَرَّرَهُ مِنْ عَزْوِ صُنْعِ الْعِجْلِ الَّذِي عَبَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَزْوِهِ إِيَّاهُ إِلَى السَّامِرِيِّ وَإِثْبَاتِهِ لِإِنْكَارِ هَارُونَ عَلَيْهِمْ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
بَلْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ مَا صَحَّ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَصِحَّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
رُوَيْدَكُمْ أَيُّهَا الْمُفْتَاتُونَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّ وَحْيَ الْقُرْآنِ أَعْلَى مِمَّا تَزْعُمُونَ، وَأَكْبَرُ مِمَّا تَتَصَوَّرُونَ، وَتُصَوِّرُونَ. وَإِنَّ مُحَمَّدًا أَقَلُّ عِلْمًا كَسْبِيًّا مِمَّا تَدَّعُونَ وَأَكْمَلُ اسْتِعْدَادًا لِتَلَقِّي كَلَامِ اللهِ عَنِ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِمَّا تَسْتَكْبِرُونَ.
وَإِذَا كَانَ وَحْيُ الْقُرْآنِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ جَمِيعِ مَا حُفِظَ عَنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ لِأَنَّهُ الْخَاتَمُ لَهُمُ الْمُكَمِّلُ لِشَرَائِعِهِمُ الْخَاصَّةِ الْمَوْقُوتَةِ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ مِمَّا وَضَعَهُ سُولُونُ الْفَيْلَسُوفُ الْيُونَانِيُّ الَّذِي شَبَّهَ مُحَمَّدًا بِهِ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ عَصْرِنَا فِي مِصْرِنَا، مَعَ بُعْدِ الشَّبَهِ بَيْنَ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَفَيْلَسُوفٍ نَشَأَ فِي أُمَّةِ حِكْمَةٍ وَتَشْرِيعٍ وَدَوْلَةٍ
وَسِيَاسَةٍ، وَدَخَلَ فِي كُلِّ أُمُورِ الْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ.
إِنَّ وُقُوعَ مِثْلَ هَذَا مِنْهُ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ مِمَّا يَعْلَمُ وَاضِعُو هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ مَعَ عَدَمِ النَّقْلِ أَنَّهُ مُحَالٌ، وَعَلَى فَرْضِ وُقُوعِهِ يُقَالُ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ وَتِلْكَ الْمَذَاهِبِ بِرَأْيِهِ فِي تِلْكَ الْخِلْسَةِ التِّجَارِيَّةِ لِلنَّظَرِ فِيهَا وَيَأْمَنُ عَلَى حُكْمِهِ الْخَطَأَ؟ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ: ((لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ)) يَعْنِي فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ لِئَلَّا يَكُونَ مَا كَذَّبُوهُمْ فِيهِ مِمَّا حَفِظُوا، وَيَكُونَ مَا صَدَّقُوهُمْ بِهِ مِمَّا نَسُوا حَقِيقَتَهُ أَوْ حَرَّفُوا أَوْ بَدَّلُوا.
(الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَى الْآنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَ بِهِ، كَمُخَالَفَةِ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِيمَنْ تَبَنَّتْ مُوسَى فَفِيهِ أَنَّهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ وَفِي الْقُرْآنِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ - وَفِيمَا قَرَّرَهُ مِنْ عَزْوِ صُنْعِ الْعِجْلِ الَّذِي عَبَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَزْوِهِ إِيَّاهُ إِلَى السَّامِرِيِّ وَإِثْبَاتِهِ لِإِنْكَارِ هَارُونَ عَلَيْهِمْ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
بَلْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ مَا صَحَّ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَصِحَّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
رُوَيْدَكُمْ أَيُّهَا الْمُفْتَاتُونَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّ وَحْيَ الْقُرْآنِ أَعْلَى مِمَّا تَزْعُمُونَ، وَأَكْبَرُ مِمَّا تَتَصَوَّرُونَ، وَتُصَوِّرُونَ. وَإِنَّ مُحَمَّدًا أَقَلُّ عِلْمًا كَسْبِيًّا مِمَّا تَدَّعُونَ وَأَكْمَلُ اسْتِعْدَادًا لِتَلَقِّي كَلَامِ اللهِ عَنِ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِمَّا تَسْتَكْبِرُونَ.
وَإِذَا كَانَ وَحْيُ الْقُرْآنِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ جَمِيعِ مَا حُفِظَ عَنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ لِأَنَّهُ الْخَاتَمُ لَهُمُ الْمُكَمِّلُ لِشَرَائِعِهِمُ الْخَاصَّةِ الْمَوْقُوتَةِ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ مِمَّا وَضَعَهُ سُولُونُ الْفَيْلَسُوفُ الْيُونَانِيُّ الَّذِي شَبَّهَ مُحَمَّدًا بِهِ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ عَصْرِنَا فِي مِصْرِنَا، مَعَ بُعْدِ الشَّبَهِ بَيْنَ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَفَيْلَسُوفٍ نَشَأَ فِي أُمَّةِ حِكْمَةٍ وَتَشْرِيعٍ وَدَوْلَةٍ
وَسِيَاسَةٍ، وَدَخَلَ فِي كُلِّ أُمُورِ الْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ.
157
الْقَوْلُ الْحَقُّ فِي اسْتِعْدَادِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ:
التَّحْقِيقُ فِي صِفَةِ حَالِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، وَإِعْدَادِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لِنَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، هُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْفِطْرَةِ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْعَقْلِ الِاسْتِعْدَادِيِّ الْهَيُولَانِيِّ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ الْعِلْمِيِّ، وَأَنَّهُ كَمَّلَهُ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ لِيَبْعَثَهُ مُتَمِّمًا لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنَّهُ بَغَّضَ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةَ وَخُرَافَاتِ أَهْلِهَا وَرَذَائِلَهُمْ مِنْ صِغَرِ سِنِّهِ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْعُزْلَةَ حَتَّى لَا تَأْنَسَ نَفْسُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، أَوْ مُنْكِرَاتِ الْوَحْشِيَّةِ، كَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْبَغْيِ عَلَى النَّاسِ، أَوِ الْمَطَامِعِ الدَّنِيئَةِ كَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ - لِيَبْعَثَهُ مُصْلِحًا لِمَا فَسَدَ مِنْ أَنْفُسِ النَّاسِ، وَمُزَكِّيًا لَهُمْ بِالتَّأَسِّي بِهِ، وَجَعَلَهُ الْمَثَلَ الْبَشَرِيَّ الْأَعْلَى، لِتَنْفِيذِ مَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرْعِ الْأَعْلَى، فَكَانَ مِنْ عِفَّتِهِ أَنْ سَلَخَ مِنْ سِنِي شَبَابِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مَعَ زَوْجِهِ خَدِيجَةَ كَانَتْ فِي ١٥ مِنْهَا عَجُوزًا يَائِسَةً مِنَ النَّسْلِ فَتُوُفِّيَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَالسِّتِّينَ وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَظَلَّ يَذْكُرُهَا وَيُفَضِّلُهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ تَزَوَّجَ بِهِنَّ مِنْ بَعْدِهَا، حَتَّى عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ عَلَى جَمَالِهَا وَحَدَاثَتِهَا وَذَكَائِهَا وَكَمَالِ اسْتِعْدَادِهَا لِلتَّبْلِيغِ عَنْهُ - وَظَلَّ طُولَ عُمُرِهِ يَكْرَهُ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَلَوْ بِالْحَقِّ فَكَانَ عَلَى شَجَاعَتِهِ
الْكَامِلَةِ يَقُودُ أَصْحَابَهُ لِقِتَالِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَائِهِ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ لِأَجْلِ صَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ (هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ) كَانَ مُوَطِّنًا نَفْسَهُ عَلَى قَتْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَجَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ بِالْحَدِيدِ مِنْ مِغْفَرٍ وَدِرْعٍ فَلَمْ يَجِدْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُدًّا مِنْ قَتْلِهِ فَطَعَنَهُ فِي تَرْقُوَتِهِ مِنْ خَلَلِ الدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ، وَظَلَّ طُولَ عُمْرِهِ وَبَعْدَ مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ يُؤْثِرُ الْقَشَفَ وَشَظَفَ الْعَيْشِ عَلَى نِعْمَتِهِ، مَعَ إِبَاحَةِ شَرْعِهِ لِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَنَهْيِهِ لِمَنْ كَانَ يَتْرُكُهَا تَدَيُّنًا، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، مَعَ إِبَاحَةِ دِينِهِ لِلزِّينَةِ وَأَمْرِهِ بِهَا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ لَا يَعِيبُ طَعَامًا قَطُّ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْرَبُ إِلَّا الْمَاءَ الْعَذْبَ النَّقِيَّ.
وَأَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى اسْتِعْدَادَهُ الذَّاتِيَّ ((لَا الْكَسْبِيَّ)) لِلْبَعْثَةِ بِإِكْمَالِ دِينِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَالتَّشْرِيعِ الْكَافِي الْكَافِلِ لِإِصْلَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، بِأَنْ أَنْشَأَهُ كَأَكْثَرِ قَوْمِهِ أُمِّيًّا وَصَرَفَهُ فِي أُمِّيَّتِهِ عَنِ اكْتِسَابِ أَيِّ شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ الْبَشَرِ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَدْنَى عِنَايَةٍ بِمَا يَتَفَاخَرُ بِهِ قَوْمُهُ مِنْ فَصَاحَةِ
التَّحْقِيقُ فِي صِفَةِ حَالِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، وَإِعْدَادِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لِنَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، هُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْفِطْرَةِ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْعَقْلِ الِاسْتِعْدَادِيِّ الْهَيُولَانِيِّ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ الْعِلْمِيِّ، وَأَنَّهُ كَمَّلَهُ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ لِيَبْعَثَهُ مُتَمِّمًا لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنَّهُ بَغَّضَ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةَ وَخُرَافَاتِ أَهْلِهَا وَرَذَائِلَهُمْ مِنْ صِغَرِ سِنِّهِ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْعُزْلَةَ حَتَّى لَا تَأْنَسَ نَفْسُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، أَوْ مُنْكِرَاتِ الْوَحْشِيَّةِ، كَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْبَغْيِ عَلَى النَّاسِ، أَوِ الْمَطَامِعِ الدَّنِيئَةِ كَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ - لِيَبْعَثَهُ مُصْلِحًا لِمَا فَسَدَ مِنْ أَنْفُسِ النَّاسِ، وَمُزَكِّيًا لَهُمْ بِالتَّأَسِّي بِهِ، وَجَعَلَهُ الْمَثَلَ الْبَشَرِيَّ الْأَعْلَى، لِتَنْفِيذِ مَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرْعِ الْأَعْلَى، فَكَانَ مِنْ عِفَّتِهِ أَنْ سَلَخَ مِنْ سِنِي شَبَابِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مَعَ زَوْجِهِ خَدِيجَةَ كَانَتْ فِي ١٥ مِنْهَا عَجُوزًا يَائِسَةً مِنَ النَّسْلِ فَتُوُفِّيَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَالسِّتِّينَ وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَظَلَّ يَذْكُرُهَا وَيُفَضِّلُهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ تَزَوَّجَ بِهِنَّ مِنْ بَعْدِهَا، حَتَّى عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ عَلَى جَمَالِهَا وَحَدَاثَتِهَا وَذَكَائِهَا وَكَمَالِ اسْتِعْدَادِهَا لِلتَّبْلِيغِ عَنْهُ - وَظَلَّ طُولَ عُمُرِهِ يَكْرَهُ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَلَوْ بِالْحَقِّ فَكَانَ عَلَى شَجَاعَتِهِ
الْكَامِلَةِ يَقُودُ أَصْحَابَهُ لِقِتَالِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَائِهِ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ لِأَجْلِ صَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ (هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ) كَانَ مُوَطِّنًا نَفْسَهُ عَلَى قَتْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَجَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ بِالْحَدِيدِ مِنْ مِغْفَرٍ وَدِرْعٍ فَلَمْ يَجِدْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُدًّا مِنْ قَتْلِهِ فَطَعَنَهُ فِي تَرْقُوَتِهِ مِنْ خَلَلِ الدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ، وَظَلَّ طُولَ عُمْرِهِ وَبَعْدَ مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ يُؤْثِرُ الْقَشَفَ وَشَظَفَ الْعَيْشِ عَلَى نِعْمَتِهِ، مَعَ إِبَاحَةِ شَرْعِهِ لِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَنَهْيِهِ لِمَنْ كَانَ يَتْرُكُهَا تَدَيُّنًا، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، مَعَ إِبَاحَةِ دِينِهِ لِلزِّينَةِ وَأَمْرِهِ بِهَا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ لَا يَعِيبُ طَعَامًا قَطُّ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْرَبُ إِلَّا الْمَاءَ الْعَذْبَ النَّقِيَّ.
وَأَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى اسْتِعْدَادَهُ الذَّاتِيَّ ((لَا الْكَسْبِيَّ)) لِلْبَعْثَةِ بِإِكْمَالِ دِينِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَالتَّشْرِيعِ الْكَافِي الْكَافِلِ لِإِصْلَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، بِأَنْ أَنْشَأَهُ كَأَكْثَرِ قَوْمِهِ أُمِّيًّا وَصَرَفَهُ فِي أُمِّيَّتِهِ عَنِ اكْتِسَابِ أَيِّ شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ الْبَشَرِ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَدْنَى عِنَايَةٍ بِمَا يَتَفَاخَرُ بِهِ قَوْمُهُ مِنْ فَصَاحَةِ
158
اللِّسَانِ، وَقُوَّةِ الْبَيَانِ، مِنْ شِعْرٍ وَخَطَابَةٍ، وَمُفَاخَرَةٍ وَمُنَافَرَةٍ، إِذْ كَانُوا يَؤُمُّونَ أَسْوَاقَ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَأَشْهَرُهَا عُكَاظُ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي لِإِظْهَارِ بَلَاغَتِهِمْ وَبَرَاعَتِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ لِارْتِقَاءِ لُغَتِهِمْ، وَلِوُجُودِ الْحِكْمَةِ فِي شِعْرِهِمْ، فَكَانَ مِنَ الْغَرِيبِ أَنْ يَزْهَدَ فِي مُشَارَكَتِهِمْ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَفِي رِوَايَتِهِ لِمَا عَسَاهُ يَسْمَعُهُ مِنْهُ، وَقَدْ سَمِعَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ زُهَاءَ مِائَةِ قَافِيَةٍ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ فَقَالَ: ((إِنْ كَادَ لَيُسْلِمُ)) وَقَالَ: ((آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ)) وَقَالَ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)) فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
قُلْنَا: إِنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَطَرِيٌّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَسْبِهِ بِعِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ لِسَانِيٍّ وَلَا نَفْسِيٍّ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْجُوهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، بَلْ رُوِيَ عَنْ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ مِنْ غُلَامِهَا مَيْسَرَةَ أَخْبَارَ أَمَانَتِهِ وَفَضَائِلِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَمَا قَالَ بَحِيرَى الرَّاهِبُ فِيهِ تَعَلَّقَ أَمَلُهَا بِأَنْ يَكُونَ
هُوَ النَّبِيَّ الَّذِي يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَا يَصِلُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ كَحَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يُقَوِّيهِ حَلِفُهَا بِاللهِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُخْزِيهِ أَبَدًا، قُلْنَا: إِنَّهَا عَلَّلَتْ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ فَضَائِلِهِ، وَرَأَتْ أَنَّهَا فِي حَاجَةٍ إِلَى اسْتِفْتَاءِ ابْنِ عَمِّهَا أُمَيَّةَ فِي شَأْنِهِ.
وَأَمَّا اخْتِلَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعَبُّدُهُ فِي الْغَارِ عَامَ الْوَحْيِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ كَانَ عَمَلًا كَسْبِيًّا مُقَوِّيًا لِذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ السَّلْبِيِّ مِنَ الْعُزْلَةِ وَعَدَمِ مُشَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ عِبَادَاتِهِمْ وَلَا عَادَاتِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ الِاسْتِعْدَادَ لِلنُّبُوَّةِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَجْلِهَا لَاعْتَقَدَ حِينَ رَأَى الْمَلِكَ أَوْ عَقِبَ رُؤْيَتِهِ حُصُولَ مَأْمُولِهِ وَتَحَقُّقِ رَجَائِهِ وَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَاعِثُ لِهَذَا الِاخْتِلَاءِ، وَالتَّحَنُّثِ اشْتِدَادَ الْوَحْشَةِ مِنْ سُوءِ حَالِ النَّاسِ وَالْهَرَبِ مِنْهَا إِلَى الْأُنْسِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالرَّجَاءِ فِي هِدَايَتِهِ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهَا، كَمَا بَسَطَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الضُّحَى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) (٩٣: ٧) وَمَا يُفَسِّرُهُ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الشُّورَى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٤٢: ٥٢ و٥٣) وَأَلَمَّ بِهِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ إِلْمَامًا مُخْتَصَرًا مُفِيدًا، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((مِنَ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ أَنْ يَتِيمًا فَقِيرًا أُمِّيًّا مِثْلَهُ تَنْطَبِعُ نَفْسُهُ بِمَا تَرَاهُ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى زَمَنِ كُهُولَتِهِ، وَيَتَأَثَّرُ عَقْلُهُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِمَّنْ يُخَالِطُهُ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ وَأَهْلِ عَصَبَتِهِ،
قُلْنَا: إِنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَطَرِيٌّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَسْبِهِ بِعِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ لِسَانِيٍّ وَلَا نَفْسِيٍّ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْجُوهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، بَلْ رُوِيَ عَنْ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ مِنْ غُلَامِهَا مَيْسَرَةَ أَخْبَارَ أَمَانَتِهِ وَفَضَائِلِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَمَا قَالَ بَحِيرَى الرَّاهِبُ فِيهِ تَعَلَّقَ أَمَلُهَا بِأَنْ يَكُونَ
هُوَ النَّبِيَّ الَّذِي يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَا يَصِلُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ كَحَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يُقَوِّيهِ حَلِفُهَا بِاللهِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُخْزِيهِ أَبَدًا، قُلْنَا: إِنَّهَا عَلَّلَتْ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ فَضَائِلِهِ، وَرَأَتْ أَنَّهَا فِي حَاجَةٍ إِلَى اسْتِفْتَاءِ ابْنِ عَمِّهَا أُمَيَّةَ فِي شَأْنِهِ.
وَأَمَّا اخْتِلَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعَبُّدُهُ فِي الْغَارِ عَامَ الْوَحْيِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ كَانَ عَمَلًا كَسْبِيًّا مُقَوِّيًا لِذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ السَّلْبِيِّ مِنَ الْعُزْلَةِ وَعَدَمِ مُشَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ عِبَادَاتِهِمْ وَلَا عَادَاتِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ الِاسْتِعْدَادَ لِلنُّبُوَّةِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَجْلِهَا لَاعْتَقَدَ حِينَ رَأَى الْمَلِكَ أَوْ عَقِبَ رُؤْيَتِهِ حُصُولَ مَأْمُولِهِ وَتَحَقُّقِ رَجَائِهِ وَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَاعِثُ لِهَذَا الِاخْتِلَاءِ، وَالتَّحَنُّثِ اشْتِدَادَ الْوَحْشَةِ مِنْ سُوءِ حَالِ النَّاسِ وَالْهَرَبِ مِنْهَا إِلَى الْأُنْسِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالرَّجَاءِ فِي هِدَايَتِهِ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهَا، كَمَا بَسَطَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الضُّحَى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) (٩٣: ٧) وَمَا يُفَسِّرُهُ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الشُّورَى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٤٢: ٥٢ و٥٣) وَأَلَمَّ بِهِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ إِلْمَامًا مُخْتَصَرًا مُفِيدًا، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((مِنَ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ أَنْ يَتِيمًا فَقِيرًا أُمِّيًّا مِثْلَهُ تَنْطَبِعُ نَفْسُهُ بِمَا تَرَاهُ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى زَمَنِ كُهُولَتِهِ، وَيَتَأَثَّرُ عَقْلُهُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِمَّنْ يُخَالِطُهُ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ وَأَهْلِ عَصَبَتِهِ،
159
وَلَا كِتَابَ يُرْشِدُهُ، وَلَا أُسْتَاذَ يُنَبِّهُهُ، وَلَا عَضُدَ إِذَا عَزَمَ يُؤَيِّدُهُ، فَلَوْ جَرَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى جَارِي السُّنَنِ لَنَشَأَ عَلَى عَقَائِدِهِمْ، وَأَخَذَ بِمَذَاهِبِهِمْ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، وَيَكُونَ لِلْفِكْرِ وَالنَّظَرِ مَجَالٌ، فَيَرْجِعُ إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ، إِذَا قَامَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ ضَلَالَاتِهِمْ، كَمَا فَعَلَ الْقَلِيلُ مِمَّنْ كَانُوا عَلَى عَهْدِهِ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَجْرِ عَلَى سُنَّتِهِ، بَلْ بُغِّضَتْ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةُ مِنْ مَبْدَأِ عُمُرِهِ، فَعَاجَلَتْهُ طَهَارَةُ الْعَقِيدَةِ، كَمَا بَادَرَهُ
حُسْنُ الْخَلِيقَةِ، وَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) (٩٣: ٧) لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى وَثَنِيَّةٍ قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ الْقَوِيمِ، قَبْلَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، حَاشَ لِلَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَهُوَ الْإِفْكُ الْمُبِينُ، وَإِنَّمَا هِيَ الْحَيْرَةُ تُلِمُّ بِقُلُوبِ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ، فِيمَا يَرْجُونَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَلَاصِ، وَطَلَبِ السَّبِيلِ إِلَى مَا هُدُوا إِلَيْهِ مِنْ إِنْقَاذِ الْهَالِكِينَ، وَإِرْشَادٍ لِلضَّالِّينَ، وَقَدْ هَدَى اللهُ نَبِيَّهُ إِلَى مَا كَانَتْ تَتَلَمَّسُهُ بَصِيرَتُهُ بِاصْطِفَائِهِ لِرِسَالَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ لِتَقْرِيرِ شَرِيعَتِهِ)) اهـ.
(أَقُولُ) وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ اللهِ تَعَالَى رُوحَهُ الْكَرِيمَةَ كَمِرْآةٍ صَقِيلَةٍ حِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ التَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ، وَالْآدَابِ الْوِرَاثِيَّةِ وَالْعَادَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ، إِلَى أَنْ تَجَلَّى فِيهَا الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ بِأَكْمَلِ مَعَانِيهِ، وَأَبْلَغِ مَبَانِيهِ، لِتَجْدِيدِ دِينِ اللهِ الْمُطْلَقِ الَّذِي كَانَ يُرْسِلُ بِهِ رُسُلَهُ إِلَى أَقْوَامِهِمْ خَاصَّةً بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُمْ وَاسْتِعْدَادَهُمْ، وَجَعَلَ بَعْثَةَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ بِهِ لِلْبَشَرِ عَامَّةً دَائِمَةً لَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَهَا إِلَى وَحْيٍ آخَرَ، فَكَانَ فِي فِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ وَرُوحِهِ الشَّرِيفَةِ، وَمَا نَزَلَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ، وَمَا أَشْرَقَ فِيهَا مِنْ نُورِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي تَلَوْتُهُ عَلَيْكَ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الشُّورَى، هُوَ مَضْرَبُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٤: ٣٥).
فَزَيْتُ مِصْبَاحِ الْمَعَارِفِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، يُوقَدُ مِنْ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، وَلَا يَهُودِيَّةٍ، وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، بَلْ هِيَ إِلَهِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ.
هَذَا مَا نَرَاهُ كَافِيًا لِتَفْنِيدِ مَزَاعِمِ مُصَوِّرِي الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ مِنْ نَاحِيَةِ شَخْصِ مُحَمَّدٍ وَاسْتِعْدَادِهِ، وَيَتْلُوهُ مَا هُوَ أَقْوَى دَلِيلًا، وَأَقْوَمُ قِيلًا، وَهُوَ تَفْنِيدُهُ بِمَوْضُوعِ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ آيَةُ نُبُوَّتِهِ الْخَالِدَةُ، وَحُجَّتُهُ النَّاهِضَةُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.
حُسْنُ الْخَلِيقَةِ، وَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) (٩٣: ٧) لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى وَثَنِيَّةٍ قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ الْقَوِيمِ، قَبْلَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، حَاشَ لِلَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَهُوَ الْإِفْكُ الْمُبِينُ، وَإِنَّمَا هِيَ الْحَيْرَةُ تُلِمُّ بِقُلُوبِ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ، فِيمَا يَرْجُونَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَلَاصِ، وَطَلَبِ السَّبِيلِ إِلَى مَا هُدُوا إِلَيْهِ مِنْ إِنْقَاذِ الْهَالِكِينَ، وَإِرْشَادٍ لِلضَّالِّينَ، وَقَدْ هَدَى اللهُ نَبِيَّهُ إِلَى مَا كَانَتْ تَتَلَمَّسُهُ بَصِيرَتُهُ بِاصْطِفَائِهِ لِرِسَالَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ لِتَقْرِيرِ شَرِيعَتِهِ)) اهـ.
(أَقُولُ) وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ اللهِ تَعَالَى رُوحَهُ الْكَرِيمَةَ كَمِرْآةٍ صَقِيلَةٍ حِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ التَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ، وَالْآدَابِ الْوِرَاثِيَّةِ وَالْعَادَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ، إِلَى أَنْ تَجَلَّى فِيهَا الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ بِأَكْمَلِ مَعَانِيهِ، وَأَبْلَغِ مَبَانِيهِ، لِتَجْدِيدِ دِينِ اللهِ الْمُطْلَقِ الَّذِي كَانَ يُرْسِلُ بِهِ رُسُلَهُ إِلَى أَقْوَامِهِمْ خَاصَّةً بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُمْ وَاسْتِعْدَادَهُمْ، وَجَعَلَ بَعْثَةَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ بِهِ لِلْبَشَرِ عَامَّةً دَائِمَةً لَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَهَا إِلَى وَحْيٍ آخَرَ، فَكَانَ فِي فِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ وَرُوحِهِ الشَّرِيفَةِ، وَمَا نَزَلَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ، وَمَا أَشْرَقَ فِيهَا مِنْ نُورِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي تَلَوْتُهُ عَلَيْكَ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الشُّورَى، هُوَ مَضْرَبُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٤: ٣٥).
فَزَيْتُ مِصْبَاحِ الْمَعَارِفِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، يُوقَدُ مِنْ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، وَلَا يَهُودِيَّةٍ، وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، بَلْ هِيَ إِلَهِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ.
هَذَا مَا نَرَاهُ كَافِيًا لِتَفْنِيدِ مَزَاعِمِ مُصَوِّرِي الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ مِنْ نَاحِيَةِ شَخْصِ مُحَمَّدٍ وَاسْتِعْدَادِهِ، وَيَتْلُوهُ مَا هُوَ أَقْوَى دَلِيلًا، وَأَقْوَمُ قِيلًا، وَهُوَ تَفْنِيدُهُ بِمَوْضُوعِ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ آيَةُ نُبُوَّتِهِ الْخَالِدَةُ، وَحُجَّتُهُ النَّاهِضَةُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.
160
آيَةُ اللهِ الْكُبْرَى - الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ
(الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، الْكِتَابُ الْعَزِيزُ)
الَّذِي: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)
هُوَ كِتَابٌ لَا كَالْكُتُبِ، هُوَ آيَةٌ لَا كَالْآيَاتِ، هُوَ مُعْجِزَةٌ لَا كَالْمُعْجِزَاتِ، هُوَ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، وَهُوَ سِرٌّ لَا كَالْأَسْرَارِ، هُوَ كَلَامٌ لَا كَالْكَلَامِ، هُوَ كَلَامُ اللهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لَيْسَ لِرُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ الْأَمِينِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُ إِلَّا نَقْلُهُ بِلَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ مِنْ سَمَاءِ الْأُفُقِ الْأَعْلَى إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ، وَلَا لِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - مِنْهُ إِلَّا تَبْلِيغُهُ لِلنَّاسِ لِيَهْتَدُوا بِهِ، فَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِلْخَلْقِ بِلَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَعُلُومِهِ وَهِدَايَتِهِ، لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِطَاعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةٍ مِنْ سُورِهِ بِكَسْبِهِ وَمَعَارِفِهِ، وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ عَالِمًا وَلَا بَلِيغًا مُمْتَازًا إِلَّا بِهِ، بَلْ فِيهِ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ فِي مُعَاتَبَتِهِ عَلَى بَعْضِ اجْتِهَادِهِ كَفِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ (رَاجِعْ ص ٧٢ و٨٢ و٤٠١ و٤٠٩ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ٢٣) أَهَمَّ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ بِالْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ، وَأَعُودُ هُنَا إِلَى الْكَلَامِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ الْمُصْلِحَةِ لِلْبَشَرِ بِمَا يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ مِنَ الْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَا حَفِظَهُ التَّارِيخُ عَنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، وَوَاضِعِي الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ، وَسَاسَةِ الشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ.
فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ رَبًّا عَلِيمًا حَكِيمًا رَحِيمًا مُرِيدًا فَاعِلًا مُخْتَارًا فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ وَلَا مَنَاصَ مِنَ الْإِيمَانِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنْ لَدُنْهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَهُ عَلَى خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ رَحْمَةً بِهِمْ لِيَهْتَدُوا بِهِ إِلَى تَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِصْلَاحِ مُجْتَمَعِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ أُمَمِهِمْ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ فَرْضًا إِلَهِيًّا لَازِبًا عَامًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٧: ١٥٨).
وَمَنْ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِوُجُودِ هَذَا الرَّبِّ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنِ الْجَزْمِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَأَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ مَنْ عُرِفَ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْحُكَمَاءِ الْهَادِينَ الْمَهْدِيِّينَ،
(الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، الْكِتَابُ الْعَزِيزُ)
الَّذِي: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)
هُوَ كِتَابٌ لَا كَالْكُتُبِ، هُوَ آيَةٌ لَا كَالْآيَاتِ، هُوَ مُعْجِزَةٌ لَا كَالْمُعْجِزَاتِ، هُوَ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، وَهُوَ سِرٌّ لَا كَالْأَسْرَارِ، هُوَ كَلَامٌ لَا كَالْكَلَامِ، هُوَ كَلَامُ اللهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لَيْسَ لِرُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ الْأَمِينِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُ إِلَّا نَقْلُهُ بِلَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ مِنْ سَمَاءِ الْأُفُقِ الْأَعْلَى إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ، وَلَا لِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - مِنْهُ إِلَّا تَبْلِيغُهُ لِلنَّاسِ لِيَهْتَدُوا بِهِ، فَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِلْخَلْقِ بِلَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَعُلُومِهِ وَهِدَايَتِهِ، لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِطَاعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةٍ مِنْ سُورِهِ بِكَسْبِهِ وَمَعَارِفِهِ، وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ عَالِمًا وَلَا بَلِيغًا مُمْتَازًا إِلَّا بِهِ، بَلْ فِيهِ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ فِي مُعَاتَبَتِهِ عَلَى بَعْضِ اجْتِهَادِهِ كَفِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ (رَاجِعْ ص ٧٢ و٨٢ و٤٠١ و٤٠٩ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ٢٣) أَهَمَّ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ بِالْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ، وَأَعُودُ هُنَا إِلَى الْكَلَامِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ الْمُصْلِحَةِ لِلْبَشَرِ بِمَا يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ مِنَ الْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَا حَفِظَهُ التَّارِيخُ عَنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، وَوَاضِعِي الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ، وَسَاسَةِ الشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ.
فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ رَبًّا عَلِيمًا حَكِيمًا رَحِيمًا مُرِيدًا فَاعِلًا مُخْتَارًا فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ وَلَا مَنَاصَ مِنَ الْإِيمَانِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنْ لَدُنْهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَهُ عَلَى خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ رَحْمَةً بِهِمْ لِيَهْتَدُوا بِهِ إِلَى تَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِصْلَاحِ مُجْتَمَعِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ أُمَمِهِمْ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ فَرْضًا إِلَهِيًّا لَازِبًا عَامًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٧: ١٥٨).
وَمَنْ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِوُجُودِ هَذَا الرَّبِّ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنِ الْجَزْمِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَأَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ مَنْ عُرِفَ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْحُكَمَاءِ الْهَادِينَ الْمَهْدِيِّينَ،
161
وَيَكُونُ الْوَاجِبُ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ سَيِّدُ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَوْلَاهُمْ بِالِاتِّبَاعِ بِعُنْوَانِ (سَيِّدِ الْبَشَرِ وَحَكِيمِهِمُ الْأَعْظَمِ).
وَإِنَّنَا رَأَيْنَا بَعْضَ الْمُنْصِفِينَ مِنَ الْوَاقِفِينَ عَلَى السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ فِي الْجُمْلَةِ يَعْتَرِفُونَ بِهَذَا قَوْلًا وَكِتَابَةً (مِنْهُمْ) الْأُسْتَاذُ مُولَرِ الْإِنْكِلِيزِيُّ الْمَشْهُورُ، وَمِنْهُمْ ذَلِكَ الْفَيْلَسُوفُ الطَّبِيبُ السُّورِيُّ الْكَاثُولِيكِيُّ النَّشْأَةِ الَّذِي رَأَى فِي مَجَلَّةِ الْمَنَارِ بَعْضَ الْمَنَاقِبِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَكَتَبَ إِلَيْنَا كِتَابًا يَقُولُ فِي أَوَّلِهِ: أَنْتَ تَنْظُرُ إِلَى مُحَمَّدٍ كَنَبِيٍّ فَتَرَاهُ عَظِيمًا، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ كَرَجُلٍ فَأَعُدُّهُ أَعْظَمَ، وَذَكَرَ أَبْيَاتًا فِي وَصْفِهِ وَوَصْفِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ مُحْكَمِ الْآيَاتِ، الْمَانِعَةِ لِمَنْ عَقَلَهَا مِنْ تَقْيِيدِ الْعُمْرَانِ بِالْعَادَاتِ، وَإِصْلَاحِهِ لِلْبَشَرِ بِحِكْمَةِ بَيَانِهِ وَقُوَّةِ بَنَانِهِ، وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ:
وَالْمُؤْمِنُونَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ مِنْ أَحْرَارِ مُفَكِّرِي الشُّعُوبِ كُلِّهَا كَثِيرُونَ، وَلَكِنَّ الْجَاحِدِينَ لِوُجُودِ رَبٍّ مُدَبِّرٍ لِلْعَالَمِينَ قَلِيلُونَ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحَجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي نَشْأَتِهِ وَتَرْبِيَتِهِ وَمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ صِدْقِهِ الْفِطْرِيِّ الْمَطْبُوعِ، ثُمَّ بِمَا جَاءَ بِهِ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ الْمُصْلِحَةِ لِجَمِيعِ شُئُونِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِذَا عَقَلُوهَا وَاهْتَدَوْا بِهَا، وَإِسْنَادِهِ إِيَّاهَا إِلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، فَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَزَايَاهُ هَذِهِ حُجَّةٌ وَبُرْهَانٌ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، بَلْ مَجْمُوعَةُ حُجَجٍ عَقْلِيَّةٍ وَطَبِيعِيَّةٍ - وَهَاكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ مَا أَزُفُّهُ إِلَيْكَ مِنْ قَوَاعِدِ تِلْكَ الْعُلُومِ الْإِصْلَاحِيَّةِ بَعْدَ تَمْهِيدٍ وَجِيزٍ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَحِكْمَةِ جَعْلِ تِلْكَ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ مُتَفَرِّقَةً فِي سُورِهِ بِأُسْلُوبِهِ الْغَرِيبِ الْعَجِيبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا نُعِيدُهُ مَعَ زِيَادَةٍ مُفِيدَةٍ وَإِيضَاحٍ اقْتِدَاءً بِأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ فِي تَكْرَارِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي الْمَوَاقِعِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ مِنْ إِيجَازٍ أَوْ إِسْهَابٍ، وَتَفْصِيلٍ أَوْ إِجْمَالٍ.
(أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الْخَاصِّ وَحِكْمَتُهُ وَإِعْجَازُهُ بِهِ)
لَوْ أَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ الْمُنَزَّلَةَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَدَارِ الثَّوَابِ وَدَارِ الْعِقَابِ جُمِعَتْ وَحْدَهَا مُرَتَّبَةً فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ مَثَلًا كَكُتُبِ الْعَقَائِدِ الْمُدَوَّنَةِ - وَلَوْ أَنَّ عِبَادَاتِهِ مِنَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالدُّعَاءِ وَالْأَذْكَارِ وُضِعَ كُلٌّ مِنْهَا فِي بِضْعِ سُوَرٍ أَيْضًا كَكُتُبِ الْفِقْهِ الْمُصَنَّفَةِ - وَلَوْ أَنَّ آدَابَهُ وَحِكَمَهُ وَفَضَائِلَهُ الْوَاجِبَةَ وَالْمَنْدُوبَةَ، وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الرَّذَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ، أُفْرِدَتْ هِيَ وَمَا يَقْتَضِيهِ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ وَالْأَمْثَالِ الْبَاعِثَةِ لِشُعُورَيِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فِي بِضْعِ سُوَرٍ أُخْرَى كَكُتُبِ
وَإِنَّنَا رَأَيْنَا بَعْضَ الْمُنْصِفِينَ مِنَ الْوَاقِفِينَ عَلَى السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ فِي الْجُمْلَةِ يَعْتَرِفُونَ بِهَذَا قَوْلًا وَكِتَابَةً (مِنْهُمْ) الْأُسْتَاذُ مُولَرِ الْإِنْكِلِيزِيُّ الْمَشْهُورُ، وَمِنْهُمْ ذَلِكَ الْفَيْلَسُوفُ الطَّبِيبُ السُّورِيُّ الْكَاثُولِيكِيُّ النَّشْأَةِ الَّذِي رَأَى فِي مَجَلَّةِ الْمَنَارِ بَعْضَ الْمَنَاقِبِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَكَتَبَ إِلَيْنَا كِتَابًا يَقُولُ فِي أَوَّلِهِ: أَنْتَ تَنْظُرُ إِلَى مُحَمَّدٍ كَنَبِيٍّ فَتَرَاهُ عَظِيمًا، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ كَرَجُلٍ فَأَعُدُّهُ أَعْظَمَ، وَذَكَرَ أَبْيَاتًا فِي وَصْفِهِ وَوَصْفِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ مُحْكَمِ الْآيَاتِ، الْمَانِعَةِ لِمَنْ عَقَلَهَا مِنْ تَقْيِيدِ الْعُمْرَانِ بِالْعَادَاتِ، وَإِصْلَاحِهِ لِلْبَشَرِ بِحِكْمَةِ بَيَانِهِ وَقُوَّةِ بَنَانِهِ، وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ:
| بِبَيَانِهِ أَرْبَى عَلَى أَهْلِ النُّهَى | وَبِسَيْفِهِ أَنْحَى عَلَى الْهَامَاتِ |
| مِنْ دُونِهِ الْأَبْطَالُ فِي كُلِّ الْوَرَى | مِنْ سَابِقٍ أَوْ حَاضِرٍ أَوْ آتٍ |
(أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الْخَاصِّ وَحِكْمَتُهُ وَإِعْجَازُهُ بِهِ)
لَوْ أَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ الْمُنَزَّلَةَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَدَارِ الثَّوَابِ وَدَارِ الْعِقَابِ جُمِعَتْ وَحْدَهَا مُرَتَّبَةً فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ مَثَلًا كَكُتُبِ الْعَقَائِدِ الْمُدَوَّنَةِ - وَلَوْ أَنَّ عِبَادَاتِهِ مِنَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالدُّعَاءِ وَالْأَذْكَارِ وُضِعَ كُلٌّ مِنْهَا فِي بِضْعِ سُوَرٍ أَيْضًا كَكُتُبِ الْفِقْهِ الْمُصَنَّفَةِ - وَلَوْ أَنَّ آدَابَهُ وَحِكَمَهُ وَفَضَائِلَهُ الْوَاجِبَةَ وَالْمَنْدُوبَةَ، وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الرَّذَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ، أُفْرِدَتْ هِيَ وَمَا يَقْتَضِيهِ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ وَالْأَمْثَالِ الْبَاعِثَةِ لِشُعُورَيِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فِي بِضْعِ سُوَرٍ أُخْرَى كَكُتُبِ
162
الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الْمُؤَلَّفَةِ - وَلَوْ أَنَّ قَوَاعِدَهُ التَّشْرِيعِيَّةَ وَأَحْكَامَهُ الشَّخْصِيَّةَ وَالسِّيَاسِيَّةَ وَالْحَرْبِيَّةَ وَالْمَدَنِيَّةَ وَحُدُودَهُ وَعُقُوبَاتِهِ التَّأْدِيبِيَّةَ رُتِّبَتْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ خَاصَّةٍ بِهَا كَأَسْفَارِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ - ثُمَّ لَوْ أَنَّ قِصَصَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ سُرِدَتْ فِي سُورِهَا مُرَتَّبَةً كَدَوَاوِينِ التَّارِيخِ - لَوْ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ الَّتِي أَرَادَ اللهُ بِهَا إِصْلَاحَ شُئُونِ الْبَشَرِ جُمِعَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا وَحْدَهُ كَتَرْتِيبِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ التَّارِيخِيِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مُرَتِّبَهُ، أَوْ كُتُبِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْقَوَانِينِ لَفَقَدَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ مَزَايَا هِدَايَتِهِ الْمَقْصُودَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ لِلْغَايَةِ الَّتِي انْتَهَتْ إِلَيْهَا، وَهُوَ التَّعَبُّدُ بِهِ وَاسْتِفَادَةُ كُلِّ حَافِظٍ لِلْقَلِيلِ مِنْ سُوَرِهِ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ الْمُنْبَثَّةِ فِي جَمِيعِ السُّورِ ; لِأَنَّ السُّورَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يُوجَدُ فِيهَا فِي هَذَا التَّرْتِيبِ إِلَّا مَقْصِدٌ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ، وَقَدْ يَكُونُ أَحْكَامُ الطَّلَاقِ أَوِ الْحَيْضِ، فَهُوَ يَتَعَبَّدُ بِهَا، وَلَاشَكَّ أَنَّهُ يَمَلُّهَا، وَأَمَّا سُوَرُهُ الْمُنَزَّلَةُ فَفِي كُلٍّ مِنْهَا حَتَّى أَقْصَرِهَا عِدَّةُ مَسَائِلَ مِنَ الْهِدَايَةِ فَتَرَى فِي سُورَتَيِ الْفِيلِ وَقُرَيْشٍ (الْمُتَعَلِّقَةُ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى حَتَّى فِي الْإِعْرَابِ) ذِكْرَ مَسْأَلَتَيْنِ تَارِيخِيَّتَيْنِ قَدْ جُعِلَتَا حُجَّةً عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ بِمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ عِنَايَتِهِ بِحِفْظِ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ عِزِّهِمْ وَفَخْرِهِمْ وَشَرَفِهِمْ وَتَأْمِينِ تِجَارَتِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ - وَلَفَقَدَ بِهَذَا التَّرْتِيبِ أَخَصَّ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ أَيْضًا.
يُعْلَمُ هَذَا وَذَاكَ مِمَّا نُبَيِّنُهُ مِنْ فَوَائِدِ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ بِهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَلِيمُ، الْحَكِيمُ، الرَّحِيمُ، وَهُوَ مَزْجُ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ كُلِّهَا بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَتَفْرِيقُهَا فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، الطَّوِيلَةِ مِنْهَا وَالْقَصِيرَةِ، بِالْمُنَاسَبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَكْرَارُهَا بِالْعِبَارَاتِ الْبَلِيغَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْقُلُوبِ، الْمُحَرِّكَةِ لِلشُّعُورِ، النَّافِيَةِ لِلسَّآمَةِ وَالْمَلَلِ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى تَرْتِيلِهَا بِنَغَمَاتِ نَظْمِهِ الْخَاصِّ بِهِ وَفَوَاصِلِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْقَابِلَةِ لِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّغَنِّي الَّذِي يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ وِجْدَانَ الْخُشُوعِ، وَخَشْيَةَ الْإِجْلَالِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَالرَّجَاءَ فِي رِضْوَانِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالْخَوْفَ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالِاعْتِبَارَ بِسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ مِنْ خَطَابَةٍ وَلَا شِعْرٍ وَلَا رَجْزٍ وَلَا سَجْعٍ، فَبِهَذَا الْأُسْلُوبِ الرَّفِيعِ فِي النَّظْمِ الْبَدِيعِ وَبَلَاغَةِ التَّعْبِيرِ السَّنِيعِ، كَانَ كَمَا وَرَدَ فِي وَصْفِهِ: لَا تَبْلَى جِدَّتُهُ وَلَا تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ التَّرْدِيدِ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ وَغَايَتُهُ تُعْلَمُ مِمَّا وَقَعَ بِالْفِعْلِ وَهَاكَ بَيَانَهُ بِالْإِجْمَالِ.
الثَّوْرَةُ وَالِانْقِلَابُ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْقُرْآنُ فِي الْبَشَرِ:
الْقُرْآنُ كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ أُمِّيٍّ نَشَأَ عَلَى الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ سَلِيمِ الْعَقْلِ صَقِيلِ النَّفْسِ طَاهِرِ الْأَخْلَاقِ لَمْ تَمْلِكْهُ تَقَالِيدُ دِينِيَّةٌ وَلَا أَهْوَاءُ دُنْيَوِيَّةٌ ; لِأَجْلِ إِحْدَاثِ ثَوْرَةٍ وَانْقِلَابٍ كَبِيرٍ فِي الْعَرَبِ، فَسَائِرُ الْأُمَمِ يَكْتَسِحُ مِنَ الْعَالِمِ الْإِنْسَانِيِّ مَا دَنُسَ فِطْرَتُهُ مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ
يُعْلَمُ هَذَا وَذَاكَ مِمَّا نُبَيِّنُهُ مِنْ فَوَائِدِ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ بِهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَلِيمُ، الْحَكِيمُ، الرَّحِيمُ، وَهُوَ مَزْجُ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ كُلِّهَا بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَتَفْرِيقُهَا فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، الطَّوِيلَةِ مِنْهَا وَالْقَصِيرَةِ، بِالْمُنَاسَبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَكْرَارُهَا بِالْعِبَارَاتِ الْبَلِيغَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْقُلُوبِ، الْمُحَرِّكَةِ لِلشُّعُورِ، النَّافِيَةِ لِلسَّآمَةِ وَالْمَلَلِ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى تَرْتِيلِهَا بِنَغَمَاتِ نَظْمِهِ الْخَاصِّ بِهِ وَفَوَاصِلِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْقَابِلَةِ لِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّغَنِّي الَّذِي يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ وِجْدَانَ الْخُشُوعِ، وَخَشْيَةَ الْإِجْلَالِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَالرَّجَاءَ فِي رِضْوَانِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالْخَوْفَ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالِاعْتِبَارَ بِسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ مِنْ خَطَابَةٍ وَلَا شِعْرٍ وَلَا رَجْزٍ وَلَا سَجْعٍ، فَبِهَذَا الْأُسْلُوبِ الرَّفِيعِ فِي النَّظْمِ الْبَدِيعِ وَبَلَاغَةِ التَّعْبِيرِ السَّنِيعِ، كَانَ كَمَا وَرَدَ فِي وَصْفِهِ: لَا تَبْلَى جِدَّتُهُ وَلَا تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ التَّرْدِيدِ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ وَغَايَتُهُ تُعْلَمُ مِمَّا وَقَعَ بِالْفِعْلِ وَهَاكَ بَيَانَهُ بِالْإِجْمَالِ.
الثَّوْرَةُ وَالِانْقِلَابُ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْقُرْآنُ فِي الْبَشَرِ:
الْقُرْآنُ كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ أُمِّيٍّ نَشَأَ عَلَى الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ سَلِيمِ الْعَقْلِ صَقِيلِ النَّفْسِ طَاهِرِ الْأَخْلَاقِ لَمْ تَمْلِكْهُ تَقَالِيدُ دِينِيَّةٌ وَلَا أَهْوَاءُ دُنْيَوِيَّةٌ ; لِأَجْلِ إِحْدَاثِ ثَوْرَةٍ وَانْقِلَابٍ كَبِيرٍ فِي الْعَرَبِ، فَسَائِرُ الْأُمَمِ يَكْتَسِحُ مِنَ الْعَالِمِ الْإِنْسَانِيِّ مَا دَنُسَ فِطْرَتُهُ مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ
163
الَّذِي هَبَطَ بِهَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ أُفُقِهِ الْأَعْلَى فِي عَالَمِ الْأَرْضِ إِلَى عِبَادَةِ مِثْلِهِ وَمَا هُوَ دُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَا أَفْسَدَ عَقْلَهُ وَذَهَبَ بِاسْتِقْلَالِ فِكْرِهِ مِنَ الْبِدَعِ الْكَنَسِيَّةِ، وَالتَّقَالِيدِ الْمَذْهَبِيَّةِ، الَّتِي أَحَالَتْ تَوْحِيدَ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ شِرْكًا وَحَقَّهُمْ بَاطِلًا، وَهِدَايَتَهُمْ غِوَايَةً - وَمَا أَفْسَدَ بَأْسَهُ، وَأَذَلَّ نَفْسَهُ، وَسَلَبَهُ إِرَادَتَهُ، مِنِ اسْتِبْدَادِ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ، وَالرُّؤَسَاءِ الْقَاهِرِينَ، ثَوْرَةٌ تُحَرِّرُ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ وَالْإِرَادَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ مِنْ رِقِّ الْمُنْتَحِلِينَ لِأَنْفُسِهِمْ صِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ أَوِ النِّيَابَةِ عَنْهَا فِي التَّحَكُّمِ فِي النَّاسِ وَاسْتِذْلَالِهِمْ، فَيَكُونُ كُلُّ امْرِئٍ اهْتَدَى بِهِ حُرًّا كَرِيمًا فِي نَفْسِهِ، عَبْدًا خَالِصًا لِرَبِّهِ وَإِلَهِهِ، يُوَجِّهُ قُوَاهُ الْعَقْلِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ إِلَى تَكْمِيلِ نَفْسِهِ وَجِنْسِهِ.
مَثَلُ هَذِهِ الثَّوْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ إِلَّا عَلَى قَاعِدَةِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ((إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (١٣: ١١) وَكَيْفَ يَكُونُ تَغْيِيرُ الْأَقْوَامِ
لِمَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ، الَّتِي طَبَعَتْهَا عَلَيْهَا الْعِبَادَاتُ الْمَوْرُوثَةُ وَالْعَادَاتُ الرَّاسِخَةُ؟
هَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ قِيَامُ مُصْلِحٍ فِيهِمْ يَضَعُ لَهُمْ كِتَابًا تَعْلِيمِيًّا جَافًّا كَكُتُبِ الْفُنُونِ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ضَالُّونَ فَاسِدُونَ، وَمُضِلُّونَ مُفْسِدُونَ، فَاعْمَلُوا بِهَذَا الْكِتَابِ تَهْتَدُوا وَتَصْلُحُوا أَوْ قَانُونًا مَدَنِيًّا يَقُولُ فِي مُقَدِّمَتِهِ: نَفِّذُوا هَذَا الْقَانُونَ تُحْفَظْ حُقُوقُكُمْ، وَتَعْتَزَّ أُمَّتُكُمْ وَتَقْوَ دَوْلَتُكُمْ؟ أَنَّى وَقَدْ عُهِدَ مِنَ النَّاسِ الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ سُوءُ التَّصَرُّفِ بِكُتُبِ أَنْبِيَائِهِمُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِهْمَالِ قَوَانِينِ حُكَمَائِهِمُ الْمُصْلِحِينَ، (كَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَأَخِّرُونَ) وَإِنَّمَا تُوضَعُ الْقَوَانِينُ لِلْحُكُومَاتِ الْمُنَظَّمَةِ ذَاتِ السُّلْطَةِ وَالْقُوَّةِ الَّتِي تَكْفُلُ تَنْفِيذَهَا، وَأَنَّى لِمُحَمَّدٍ فِعْلُ هَذَا فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَقَدْ بُعِثَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَرِيدًا وَحِيدًا لَا عُصْبَةَ لَهُ مِنْ قَوِمِهِ وَلَا سُلْطَانَ؟ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ بِأَعْدَلِ الْأُصُولِ الَّتِي تَبْنِي عَلَيْهَا أُمَّتُهُ قَوَانِينَهَا عِنْدَ تَكْوِينِ دَوْلَتِهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُلَائِمَةِ لَهَا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي.
كَلَّا إِنَّ هَذِهِ الثَّوْرَةَ مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ إِلَّا بِمَا حَدَثَتْ بِهِ وَهُوَ تَأْثِيرُ هَذَا الْقُرْآنِ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ أَشَدَّ الْأُمَمِ الْبَدَوِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ اسْتِعْدَادًا فِطْرِيًّا لِظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِيهَا بِالْإِقْنَاعِ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي كِتَابِنَا (خُلَاصَةِ السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ) وَسَنُلِمُّ بِهِ قَرِيبًا.
ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْمَعْرِفَةِ وَإِنْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ. إِنَّ مُجَرَّدَ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يَكْفِي فِي الْحَمْلِ عَلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ وَنَصْرِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلَا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ إِذَا عَارَضَ الْمُقْتَضَى الْعِلْمِيَّ لَهُمَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنَ الْمَوَانِعِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِنَ النَّاسِ دُونَ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ. بَلْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي تَثْبِيتِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فِي النَّفْسِ وَصُدُورِ آثَارِهِمَا عَنْهُمَا بِالْعَمَلِ، إِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صَيْرُورَةِ الْإِيمَانِ بِهِمَا إِذْعَانًا وِجْدَانِيًّا حَاكِمًا عَلَى الْقَلْبِ، رَاجِحًا عَلَى مَا يُخَالِفُهُ مِنْ رَغَبٍ وَرَهَبٍ
مَثَلُ هَذِهِ الثَّوْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ إِلَّا عَلَى قَاعِدَةِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ((إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (١٣: ١١) وَكَيْفَ يَكُونُ تَغْيِيرُ الْأَقْوَامِ
لِمَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ، الَّتِي طَبَعَتْهَا عَلَيْهَا الْعِبَادَاتُ الْمَوْرُوثَةُ وَالْعَادَاتُ الرَّاسِخَةُ؟
هَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ قِيَامُ مُصْلِحٍ فِيهِمْ يَضَعُ لَهُمْ كِتَابًا تَعْلِيمِيًّا جَافًّا كَكُتُبِ الْفُنُونِ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ضَالُّونَ فَاسِدُونَ، وَمُضِلُّونَ مُفْسِدُونَ، فَاعْمَلُوا بِهَذَا الْكِتَابِ تَهْتَدُوا وَتَصْلُحُوا أَوْ قَانُونًا مَدَنِيًّا يَقُولُ فِي مُقَدِّمَتِهِ: نَفِّذُوا هَذَا الْقَانُونَ تُحْفَظْ حُقُوقُكُمْ، وَتَعْتَزَّ أُمَّتُكُمْ وَتَقْوَ دَوْلَتُكُمْ؟ أَنَّى وَقَدْ عُهِدَ مِنَ النَّاسِ الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ سُوءُ التَّصَرُّفِ بِكُتُبِ أَنْبِيَائِهِمُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِهْمَالِ قَوَانِينِ حُكَمَائِهِمُ الْمُصْلِحِينَ، (كَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَأَخِّرُونَ) وَإِنَّمَا تُوضَعُ الْقَوَانِينُ لِلْحُكُومَاتِ الْمُنَظَّمَةِ ذَاتِ السُّلْطَةِ وَالْقُوَّةِ الَّتِي تَكْفُلُ تَنْفِيذَهَا، وَأَنَّى لِمُحَمَّدٍ فِعْلُ هَذَا فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَقَدْ بُعِثَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَرِيدًا وَحِيدًا لَا عُصْبَةَ لَهُ مِنْ قَوِمِهِ وَلَا سُلْطَانَ؟ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ بِأَعْدَلِ الْأُصُولِ الَّتِي تَبْنِي عَلَيْهَا أُمَّتُهُ قَوَانِينَهَا عِنْدَ تَكْوِينِ دَوْلَتِهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُلَائِمَةِ لَهَا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي.
كَلَّا إِنَّ هَذِهِ الثَّوْرَةَ مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ إِلَّا بِمَا حَدَثَتْ بِهِ وَهُوَ تَأْثِيرُ هَذَا الْقُرْآنِ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ أَشَدَّ الْأُمَمِ الْبَدَوِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ اسْتِعْدَادًا فِطْرِيًّا لِظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِيهَا بِالْإِقْنَاعِ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي كِتَابِنَا (خُلَاصَةِ السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ) وَسَنُلِمُّ بِهِ قَرِيبًا.
ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْمَعْرِفَةِ وَإِنْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ. إِنَّ مُجَرَّدَ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يَكْفِي فِي الْحَمْلِ عَلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ وَنَصْرِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلَا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ إِذَا عَارَضَ الْمُقْتَضَى الْعِلْمِيَّ لَهُمَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنَ الْمَوَانِعِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِنَ النَّاسِ دُونَ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ. بَلْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي تَثْبِيتِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فِي النَّفْسِ وَصُدُورِ آثَارِهِمَا عَنْهُمَا بِالْعَمَلِ، إِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صَيْرُورَةِ الْإِيمَانِ بِهِمَا إِذْعَانًا وِجْدَانِيًّا حَاكِمًا عَلَى الْقَلْبِ، رَاجِحًا عَلَى مَا يُخَالِفُهُ مِنْ رَغَبٍ وَرَهَبٍ
164
وَأَلَمٍ وَأَمَلٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا فِي الْأَحْدَاثِ بِالتَّرْبِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ لَهُمْ فِيمَنْ يَنْشَئُونَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْمُعَاشِرِينَ.
وَأَمَّا كِبَارُ السِّنِّ فَلَا سَبِيلَ إِلَى جَعْلِ الْإِيمَانِ بِالْحَقِّ الْمُطْلَقِ وَالْخَيْرِ الْعَامِّ إِذْعَانًا
وِجْدَانِيًّا لِجُمْهُورِهِمْ إِلَّا بِالْأُسْلُوبِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ فَقَلَبَ بِهِ طِبَاعَ الْكُهُولِ وَالشُّبَّانِ وَأَخْلَاقَهُمْ وَتَقَالِيدَهُمْ وَعَادَاتِهِمْ وَحَوَّلَهَا إِلَى ضِدِّهَا عِلْمًا وَعَمَلًا بِمَا لَمْ يُعْهَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْبَشَرِ، فَكَانَ الْقُرْآنُ آيَةً خَارِقَةً لِلْمَعْهُودِ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي تَأْثِيرِهِ، بِالتَّبَعِ لِكَوْنِهِ آيَةً مُعْجِزَةً لِلْبَشَرِ فِي لُغَتِهِ وَأُسْلُوبِهِ.
وَاعْتَبِرَ هَذَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ سُلَالَةِ النَّبِيِّينَ، فَإِنَّ كُلَّ مَا رَأَوْهُ بِمِصْرَ مِنْ آيَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ مَا رَأَوْهُ فِي بَرِّيَّةِ سِينَا مُدَّةَ التِّيهِ مِنْهَا، وَمِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ، وَمِنْ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى بِآذَانِهِمْ فِي لَهِيبِ النَّارِ الْمُشْتَعِلَةِ عَلَى مَا تَرْوِيهِ تَوْرَاتُهُمْ - وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا التَّكْلِيمُ إِلَّا لِنَبِيِّهِمْ - لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ مَا كَانَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَأْثِيرِ الْوَثَنِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ وَخُرَافَاتِهَا وَمَهَانَتِهَا وَأَخْلَاقِهَا، فَقَدْ عَذَّبُوا مُوسَى عَذَابًا نُكْرًا، وَعَانَدُوهُ فِي كُلِّ مَا كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَعَبَدُوا صَنَمَ الْعِجْلِ الذَّهَبِيِّ فِي أَثْنَاءِ مُنَاجَاتِهِ لِرَبِّهِ، حَتَّى وَصَفَهُمُ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ بِالشَّعْبِ الصُّلْبِ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَلَادَةِ وَالْعِنَادِ، وَعَصْلِ الطِّبَاعِ الْمَانِعِ مِنَ الِانْقِيَادِ، وَظَلَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ بَادَ ذَلِكَ الْجِيلُ الْفَاسِدُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً نَشَأَ فِيهِمْ جِيلٌ جَدِيدٌ مِمَّنْ كَانُوا أَطْفَالًا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ وَمِمَّنْ وُلِدَ فِي التِّيهِ أَمْكَنَ أَنْ يَعْقِلُوا التَّوْحِيدَ وَالشَّرِيعَةَ، وَأَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَيُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهَا وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَأَيْنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ تَرَبَّوْا بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَتَرْتِيلِهِ وَتَدَبُّرِهِ فِي رُسُوخِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَصَبْرِهِمْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَاضْطِهَادِهِمْ إِيَّاهُمْ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، ثُمَّ فِي مُجَاهَدَتِهِمْ لَهُمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْوَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (الْيَهُودِ) وَتَطْهِيرِهِمُ الْحِجَازَ وَسَائِرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنْ كُفْرِ الْفَرِيقَيْنِ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةُ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كُلِّهَا عِشْرِينَ سَنَةً أَيْ نِصْفَ مُدَّةِ التِّيهِ، وَكَانَ ذَهَبَ نِصْفُهَا فِي الدَّعْوَةِ وَتَبْلِيغِ الدِّينِ لِلْأَفْرَادِ بِمَكَّةَ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي تَمَّ فِيهِ الِانْقِلَابُ الْعَرَبِيُّ مِنْ تَشْرِيعٍ وَتَنْفِيذٍ وَجِهَادٍ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ مَا كَانَ مِنْ تَدَفُّقِهِمْ هُمْ أَنْفُسِهِمْ كَالسَّيْلِ الْآتِي عَلَى الْأَقْطَارِ مِنْ نَوَاحِي الْجَزِيرَةِ كُلِّهَا وَالظُّهُورِ عَلَى مَلِكَيْ قَيْصَرَ وَكِسْرَى أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَإِزَالَةِ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ مِنْهُمَا، وَنَشْرِ التَّوْحِيدِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِيهِمَا، وَدُخُولِ الْأُمَمِ فِي دِينِ اللهِ
أَفْوَاجًا مُخْتَارِينَ اهْتِدَاءً بِهِمْ،
وَأَمَّا كِبَارُ السِّنِّ فَلَا سَبِيلَ إِلَى جَعْلِ الْإِيمَانِ بِالْحَقِّ الْمُطْلَقِ وَالْخَيْرِ الْعَامِّ إِذْعَانًا
وِجْدَانِيًّا لِجُمْهُورِهِمْ إِلَّا بِالْأُسْلُوبِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ فَقَلَبَ بِهِ طِبَاعَ الْكُهُولِ وَالشُّبَّانِ وَأَخْلَاقَهُمْ وَتَقَالِيدَهُمْ وَعَادَاتِهِمْ وَحَوَّلَهَا إِلَى ضِدِّهَا عِلْمًا وَعَمَلًا بِمَا لَمْ يُعْهَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْبَشَرِ، فَكَانَ الْقُرْآنُ آيَةً خَارِقَةً لِلْمَعْهُودِ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي تَأْثِيرِهِ، بِالتَّبَعِ لِكَوْنِهِ آيَةً مُعْجِزَةً لِلْبَشَرِ فِي لُغَتِهِ وَأُسْلُوبِهِ.
وَاعْتَبِرَ هَذَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ سُلَالَةِ النَّبِيِّينَ، فَإِنَّ كُلَّ مَا رَأَوْهُ بِمِصْرَ مِنْ آيَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ مَا رَأَوْهُ فِي بَرِّيَّةِ سِينَا مُدَّةَ التِّيهِ مِنْهَا، وَمِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ، وَمِنْ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى بِآذَانِهِمْ فِي لَهِيبِ النَّارِ الْمُشْتَعِلَةِ عَلَى مَا تَرْوِيهِ تَوْرَاتُهُمْ - وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا التَّكْلِيمُ إِلَّا لِنَبِيِّهِمْ - لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ مَا كَانَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَأْثِيرِ الْوَثَنِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ وَخُرَافَاتِهَا وَمَهَانَتِهَا وَأَخْلَاقِهَا، فَقَدْ عَذَّبُوا مُوسَى عَذَابًا نُكْرًا، وَعَانَدُوهُ فِي كُلِّ مَا كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَعَبَدُوا صَنَمَ الْعِجْلِ الذَّهَبِيِّ فِي أَثْنَاءِ مُنَاجَاتِهِ لِرَبِّهِ، حَتَّى وَصَفَهُمُ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ بِالشَّعْبِ الصُّلْبِ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَلَادَةِ وَالْعِنَادِ، وَعَصْلِ الطِّبَاعِ الْمَانِعِ مِنَ الِانْقِيَادِ، وَظَلَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ بَادَ ذَلِكَ الْجِيلُ الْفَاسِدُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً نَشَأَ فِيهِمْ جِيلٌ جَدِيدٌ مِمَّنْ كَانُوا أَطْفَالًا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ وَمِمَّنْ وُلِدَ فِي التِّيهِ أَمْكَنَ أَنْ يَعْقِلُوا التَّوْحِيدَ وَالشَّرِيعَةَ، وَأَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَيُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهَا وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَأَيْنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ تَرَبَّوْا بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَتَرْتِيلِهِ وَتَدَبُّرِهِ فِي رُسُوخِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَصَبْرِهِمْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَاضْطِهَادِهِمْ إِيَّاهُمْ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، ثُمَّ فِي مُجَاهَدَتِهِمْ لَهُمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْوَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (الْيَهُودِ) وَتَطْهِيرِهِمُ الْحِجَازَ وَسَائِرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنْ كُفْرِ الْفَرِيقَيْنِ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةُ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كُلِّهَا عِشْرِينَ سَنَةً أَيْ نِصْفَ مُدَّةِ التِّيهِ، وَكَانَ ذَهَبَ نِصْفُهَا فِي الدَّعْوَةِ وَتَبْلِيغِ الدِّينِ لِلْأَفْرَادِ بِمَكَّةَ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي تَمَّ فِيهِ الِانْقِلَابُ الْعَرَبِيُّ مِنْ تَشْرِيعٍ وَتَنْفِيذٍ وَجِهَادٍ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ مَا كَانَ مِنْ تَدَفُّقِهِمْ هُمْ أَنْفُسِهِمْ كَالسَّيْلِ الْآتِي عَلَى الْأَقْطَارِ مِنْ نَوَاحِي الْجَزِيرَةِ كُلِّهَا وَالظُّهُورِ عَلَى مَلِكَيْ قَيْصَرَ وَكِسْرَى أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَإِزَالَةِ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ مِنْهُمَا، وَنَشْرِ التَّوْحِيدِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِيهِمَا، وَدُخُولِ الْأُمَمِ فِي دِينِ اللهِ
أَفْوَاجًا مُخْتَارِينَ اهْتِدَاءً بِهِمْ،
165
وَعِنَايَتِهِمْ بِتَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ بِالتَّبَعِ لِعِنَايَتِهِمْ بِالدِّينِ، حَتَّى فَتَحُوا لَهُمْ وَتَلَامِيذُهُمْ نِصْفَ كُرَةِ الْأَرْضِ فِي زُهَاءِ نِصْفِ قَرْنٍ، أَوْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ وَكَانُوا مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ وَمَوْضِعَ الْحَيْرَةِ لِعُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ وَقُوَّادِ الْحَرْبِ.
وَأَنَّى يَبْلُغُ الشَّعْبُ الَّذِي وَصَفَهُ رَبُّهُ فِي كِتَابِهِ بِالشَّعْبِ الصُّلْبِ الرَّقَبَةِ رُتْبَةَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِقَوْلِهِ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا) (٤٨: ٢٩) الْآيَاتِ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي طُبِعَ وَشَبَّ عَلَى الشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ يَطْبُخُ الطَّعَامَ هُوَ وَزَوْجُهُ لَيْلًا لِامْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ تَلِدُ وَبَعْلُهَا حَاضِرٌ لَا يُسَاعِدُهُمَا إِذْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
لَا جَرَمَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا كُلِّهِ تَأْثِيرُ الْقُرْآنِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ الَّذِي نَرَاهُ فِي الْمُصْحَفِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَاهِدُ بِهِ الْكَافِرِينَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (٢٥: ٢٥) ثُمَّ كَانَ بِهِ يُرَبِّي الْمُؤْمِنِينَ وَيُزَكِّيهِمْ، وَبِهِدَايَتِهِ وَالتَّأَسِّي بِمَبْلَغِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّوُا الْأُمَمَ وَهَذَّبُوهَا، وَقَلَّمَا يَقْرَؤُهُ أَحَدٌ كَمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ، إِلَّا وَيَهْتَدِي بِهِ كَمَا كَانُوا يَهْتَدُونَ، عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الِاسْتِعْدَادِ النَّفْسِيِّ وَاللُّغَوِيِّ وَاخْتِلَافِ الزَّمَانِ لَا يَخْفَى.
وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ بِأُسْلُوبِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ لَمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ الَّذِي غَيَّرَ مَا بِأَنْفُسِ الْعَرَبِ فَغَيَّرُوا بِهِ أُمَمَ الْعَجَمِ، فَكَانُوا كُلُّهُمْ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (٣: ١١٠).
وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَمِ وَإِدَارَتِهَا إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ، وَالْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ بِمُبَلِّغِهِ وَمُنَفِّذِهِ الْأَوَّلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَنْ يَعُودَ لِلْمُسْلِمِينَ مَجْدُهُمْ وَعِزُّهُمْ إِلَّا إِذَا عَادُوا إِلَى هِدَايَتِهِ، وَتَجْدِيدِ ثَوْرَتِهِ، وَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى مَنْ يَصُدُّونَهُمْ عَنْهُ زَاعِمِينَ اسْتِغْنَاءَهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ وَبِسُّنَةِ نَبِيِّهِ، بِكُتُبِ مَشَايِخِهِمُ الْجَافَّةِ الْخَاوِيَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُحْيِي الْإِيمَانَ وَيُنْهِضُ الْهِمَمَ، وَيُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَيَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ.
(فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهُ نَوْعَانِ)
بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ وَإِحْدَاثَهُ تِلْكَ الثَّوْرَةِ الْكُبْرَى فِيهِمْ قَدْ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَوَّلُهُمَا جَذْبُهُ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَثَانِيهِمَا تَزْكِيَتُهُمْ وَتَغْيِيرُ كُلِّ مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ جَهْلٍ وَفَسَادٍ إِلَى ضِدِّهِ، حَتَّى أَعْقَبَ مَا أَعْقَبَ مِنَ الْإِصْلَاحِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ. وَهَاكَ التَّفْصِيلَ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ لِذَلِكَ.
بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعَدَّ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ وَلَا سِيَّمَا قُرَيْشٍ وَمَنْ حَوْلَهَا لِمَا أَرَادَهُ
وَأَنَّى يَبْلُغُ الشَّعْبُ الَّذِي وَصَفَهُ رَبُّهُ فِي كِتَابِهِ بِالشَّعْبِ الصُّلْبِ الرَّقَبَةِ رُتْبَةَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِقَوْلِهِ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا) (٤٨: ٢٩) الْآيَاتِ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي طُبِعَ وَشَبَّ عَلَى الشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ يَطْبُخُ الطَّعَامَ هُوَ وَزَوْجُهُ لَيْلًا لِامْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ تَلِدُ وَبَعْلُهَا حَاضِرٌ لَا يُسَاعِدُهُمَا إِذْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
لَا جَرَمَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا كُلِّهِ تَأْثِيرُ الْقُرْآنِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ الَّذِي نَرَاهُ فِي الْمُصْحَفِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَاهِدُ بِهِ الْكَافِرِينَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (٢٥: ٢٥) ثُمَّ كَانَ بِهِ يُرَبِّي الْمُؤْمِنِينَ وَيُزَكِّيهِمْ، وَبِهِدَايَتِهِ وَالتَّأَسِّي بِمَبْلَغِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّوُا الْأُمَمَ وَهَذَّبُوهَا، وَقَلَّمَا يَقْرَؤُهُ أَحَدٌ كَمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ، إِلَّا وَيَهْتَدِي بِهِ كَمَا كَانُوا يَهْتَدُونَ، عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الِاسْتِعْدَادِ النَّفْسِيِّ وَاللُّغَوِيِّ وَاخْتِلَافِ الزَّمَانِ لَا يَخْفَى.
وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ بِأُسْلُوبِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ لَمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ الَّذِي غَيَّرَ مَا بِأَنْفُسِ الْعَرَبِ فَغَيَّرُوا بِهِ أُمَمَ الْعَجَمِ، فَكَانُوا كُلُّهُمْ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (٣: ١١٠).
وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَمِ وَإِدَارَتِهَا إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ، وَالْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ بِمُبَلِّغِهِ وَمُنَفِّذِهِ الْأَوَّلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَنْ يَعُودَ لِلْمُسْلِمِينَ مَجْدُهُمْ وَعِزُّهُمْ إِلَّا إِذَا عَادُوا إِلَى هِدَايَتِهِ، وَتَجْدِيدِ ثَوْرَتِهِ، وَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى مَنْ يَصُدُّونَهُمْ عَنْهُ زَاعِمِينَ اسْتِغْنَاءَهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ وَبِسُّنَةِ نَبِيِّهِ، بِكُتُبِ مَشَايِخِهِمُ الْجَافَّةِ الْخَاوِيَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُحْيِي الْإِيمَانَ وَيُنْهِضُ الْهِمَمَ، وَيُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَيَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ.
(فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهُ نَوْعَانِ)
بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ وَإِحْدَاثَهُ تِلْكَ الثَّوْرَةِ الْكُبْرَى فِيهِمْ قَدْ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَوَّلُهُمَا جَذْبُهُ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَثَانِيهِمَا تَزْكِيَتُهُمْ وَتَغْيِيرُ كُلِّ مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ جَهْلٍ وَفَسَادٍ إِلَى ضِدِّهِ، حَتَّى أَعْقَبَ مَا أَعْقَبَ مِنَ الْإِصْلَاحِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ. وَهَاكَ التَّفْصِيلَ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ لِذَلِكَ.
بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعَدَّ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ وَلَا سِيَّمَا قُرَيْشٍ وَمَنْ حَوْلَهَا لِمَا أَرَادَهُ
166
مِنَ الْإِصْلَاحِ الْعَامِّ لِلْبَشَرِ بِكَوْنِهِمْ كَانُوا أَقْرَبَ الْأُمَمِ إِلَى سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، وَأَرْقَاهُمْ لُغَةً وَأَقْوَاهُمُ اسْتِقْلَالًا فِي الْعَقْلِ وَالْإِرَادَةِ ; لِعَدَمِ وُجُودِ مُلُوكٍ مُسْتَبِدِّينَ وَرُؤَسَاءَ دِينٍ أُولِي سُلْطَانٍ رُوحِيٍّ يَتَحَكَّمُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَيُسَخِّرُونَهُمْ لِشَهَوَاتِهِمْ.
فَلَمَّا بُعِثَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْقُرْآنِ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ لِقَبُولِ دَعْوَتِهِ، وَلَكِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ كَانُوا عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ مُلُوكِ شُعُوبِ الْعَجَمِ فِي التَّمَتُّعِ بِالثَّرْوَةِ الْوَاسِعَةِ وَالْعَظَمَةِ الْكَاذِبَةِ وَالشَّهَوَاتِ الْفَاتِنَةِ وَالسَّرَفِ فِي التَّرَفِ، وَعَلَى حَظٍّ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْأَدْيَانِ فِيهَا مِنَ الْمَكَانَةِ الدِّينِيَّةِ بِسَدَانَتِهِمْ لِبَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ الَّذِي أَوْدَعَ اللهُ تَعْظِيمَهُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الدِّينَ يَسْلُبُهُمُ الِانْفِرَادَ بِهَذِهِ الْعَظَمَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَقَدْ يُفَضِّلُ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَوَالِي، وَأَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ يُفَاخِرُونَ بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَيُشَبِّهُهُمْ بِسَائِمَةِ الْأَنْعَامِ - فَوَجَّهُوا كُلَّ قُوَاهُمْ وَنُفُوذِهِمْ إِلَى صَدِّ مُحَمَّدٍ عَنْ دَعْوَتِهِ وَلَوْ بِتَمْلِيكِهِ عَلَيْهِمْ، وَجَعْلِهِ أَغْنَى رَجُلٍ فِيهِمْ، وَلَكِنْ تَعَذَّرَ إِقْنَاعُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهَا بِالتَّرْغِيبِ، حَتَّى التَّمْوِيلِ وَالتَّمْلِيكِ، فَقَدْ أَجَابَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ مَا أَرَادُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الْعُلْيَا: ((يَا عَمِّ وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلَكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ)) حِينَئِذٍ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى صَدِّهِ عَنْ تَبْلِيغِهَا بِالْقُوَّةِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَجَامِعِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَبِصَدِّ النَّاسِ عَنْهُ أَنْ يَأْتُوهُ وَيَسْتَمِعُوا لَهُ، وَبِاضْطِهَادِ مَنِ اتَّبَعَهُ بِالدَّعْوَةِ الْفَرْدِيَّةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْ يَحْمِيهِ مِنْهُمْ لِقَرَابَةٍ أَوْ
جِوَارٍ أَوْ ذِمَّةٍ، فَهَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءُ الْمُتْرَفُونَ الْمُسْرِفُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ كَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٦: ٣٣) فَقَدْ كَابَرُوا الْحَقَّ بَغْيًا وَاسْتِكْبَارًا لِلْحِرْصِ عَلَى رِيَاسَتِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَكَانُوا أَجْدَرَ الْعَرَبِ بِقَبُولِ دَعْوَةِ الْقُرْآنِ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (٢٧: ١٤) كَفِرْعَوْنَ وَقَارُونَ وَهَارُونَ.
فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ
قُلْنَا إِنَّ فِعْلَ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: فِعْلِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَفِعْلِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَالْأَوَّلُ تَأْثِيرُ رَوْعَةِ بَلَاغَتِهِ، وَدَهْشَةِ نَظْمِهِ، وَأُسْلُوبِهِ الْجَاذِبِ لِفَهْمِ دَعْوَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، إِذْ لَا يَخْفَى حُسْنُهَا عَلَى أَحَدٍ فَهِمَهَا، وَكَانُوا يَتَفَاوَتُونَ فِي هَذَا النَّوْعِ تَفَاوُتًا كَبِيرًا لِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ فِي بَلَاغَةِ اللُّغَةِ وَفَهْمِ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ.
فَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ بِكَلِمَتِهِ الْعَالِيَةِ فِيهِ لِأَبِي جَهْلٍ
فَلَمَّا بُعِثَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْقُرْآنِ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ لِقَبُولِ دَعْوَتِهِ، وَلَكِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ كَانُوا عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ مُلُوكِ شُعُوبِ الْعَجَمِ فِي التَّمَتُّعِ بِالثَّرْوَةِ الْوَاسِعَةِ وَالْعَظَمَةِ الْكَاذِبَةِ وَالشَّهَوَاتِ الْفَاتِنَةِ وَالسَّرَفِ فِي التَّرَفِ، وَعَلَى حَظٍّ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْأَدْيَانِ فِيهَا مِنَ الْمَكَانَةِ الدِّينِيَّةِ بِسَدَانَتِهِمْ لِبَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ الَّذِي أَوْدَعَ اللهُ تَعْظِيمَهُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الدِّينَ يَسْلُبُهُمُ الِانْفِرَادَ بِهَذِهِ الْعَظَمَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَقَدْ يُفَضِّلُ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَوَالِي، وَأَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ يُفَاخِرُونَ بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَيُشَبِّهُهُمْ بِسَائِمَةِ الْأَنْعَامِ - فَوَجَّهُوا كُلَّ قُوَاهُمْ وَنُفُوذِهِمْ إِلَى صَدِّ مُحَمَّدٍ عَنْ دَعْوَتِهِ وَلَوْ بِتَمْلِيكِهِ عَلَيْهِمْ، وَجَعْلِهِ أَغْنَى رَجُلٍ فِيهِمْ، وَلَكِنْ تَعَذَّرَ إِقْنَاعُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهَا بِالتَّرْغِيبِ، حَتَّى التَّمْوِيلِ وَالتَّمْلِيكِ، فَقَدْ أَجَابَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ مَا أَرَادُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الْعُلْيَا: ((يَا عَمِّ وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلَكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ)) حِينَئِذٍ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى صَدِّهِ عَنْ تَبْلِيغِهَا بِالْقُوَّةِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَجَامِعِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَبِصَدِّ النَّاسِ عَنْهُ أَنْ يَأْتُوهُ وَيَسْتَمِعُوا لَهُ، وَبِاضْطِهَادِ مَنِ اتَّبَعَهُ بِالدَّعْوَةِ الْفَرْدِيَّةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْ يَحْمِيهِ مِنْهُمْ لِقَرَابَةٍ أَوْ
جِوَارٍ أَوْ ذِمَّةٍ، فَهَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءُ الْمُتْرَفُونَ الْمُسْرِفُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ كَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٦: ٣٣) فَقَدْ كَابَرُوا الْحَقَّ بَغْيًا وَاسْتِكْبَارًا لِلْحِرْصِ عَلَى رِيَاسَتِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَكَانُوا أَجْدَرَ الْعَرَبِ بِقَبُولِ دَعْوَةِ الْقُرْآنِ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (٢٧: ١٤) كَفِرْعَوْنَ وَقَارُونَ وَهَارُونَ.
فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ
قُلْنَا إِنَّ فِعْلَ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: فِعْلِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَفِعْلِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَالْأَوَّلُ تَأْثِيرُ رَوْعَةِ بَلَاغَتِهِ، وَدَهْشَةِ نَظْمِهِ، وَأُسْلُوبِهِ الْجَاذِبِ لِفَهْمِ دَعْوَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، إِذْ لَا يَخْفَى حُسْنُهَا عَلَى أَحَدٍ فَهِمَهَا، وَكَانُوا يَتَفَاوَتُونَ فِي هَذَا النَّوْعِ تَفَاوُتًا كَبِيرًا لِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ فِي بَلَاغَةِ اللُّغَةِ وَفَهْمِ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ.
فَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ بِكَلِمَتِهِ الْعَالِيَةِ فِيهِ لِأَبِي جَهْلٍ
167
الَّتِي اعْتَرَفَ فِيهَا بِأَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَالَّذِي يُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ، وَكَانَتْ كَلِمَةً فَائِضَةً مِنْ نُورِ عَقْلِهِ وَصَمِيمِ وِجْدَانِهِ، وَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةً أُخْرَى فِي الصَّدِّ عَنْهُ بَعْدَ إِلْحَاحِ أَبِي جَهْلٍ عَلَيْهِ بِاقْتِرَاحِهَا إِلَّا بِتَكْلِيفٍ لِمُكَابَرَةِ عَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ، وَبَعْدَ أَنْ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، وَنَظَرَ وَعَبَسَ وَبَسَرَ، وَأَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ وَسَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) (٧٤: ١١) الْآيَاتِ مِنْهَا.
وَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْذِبُ رُءُوسَ أُولَئِكَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ لَيْلًا لِاسْتِمَاعِ تِلَاوَةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ نَهْيِهِمْ عَنْهُ وَنَأْيِهِمْ عَنْهُ، وَتَوَاصِيهِمْ وَتَقَاسُمِهِمْ لَا يَسْمَعُنَّ لَهُ، ثُمَّ كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ فُرَادَى مُسْتَخْفِينَ، وَيَتَلَاقَوْنَ فِي الطَّرِيقِ مُتَلَاوِمِينَ.
وَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى مَنْعِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْلًا لِمَا كَانَ لِتِلَاوَتِهِ وَبُكَائِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ التَّأْثِيرِ الْجَاذِبِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَفْتِنُ عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، فَاتَّخَذَ مَسْجِدًا لَهُ بِفِنَاءِ دَارِهِ فَطَفِقَ النِّسَاءُ وَالْأَوْلَادُ النَّاشِئُونَ يَنْسَلُّونَ إِلَى بَيْتِهِ لَيْلًا لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، فَنَهَاهُ أَشْرَافُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَزَالُ، وَأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ أَنْ يَغْلِبَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا أَلْجَئُوهُ إِلَى الْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ فَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ ابْنَ الدُّغُنَّةِ سَيِّدَ قَوْمِهِ
فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ هِجْرَتِهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَهُوَ يَعْرِفُ فَضَائِلَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فَأَجَارَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى مَكَّةَ بِجِوَارِهِ، فَعَادَ إِلَى قِرَاءَتِهِ، وَعَادَ النِّسَاءُ وَالنَّشْءُ الْحَدِيثُ إِلَى الِاسْتِمَاعِ لَهُ، حَتَّى اضْطَرَّ الْمُشْرِكُونَ ابْنَ الدُّغُنَّةِ إِلَى إِقْنَاعِهِ بِتَرْكِ رَفْعِ صَوْتِهِ بِالْقُرْآنِ أَوْ يَرُدُّ عَلَيْهِ جِوَارَهُ، فَرَدَّ أَبُو بَكْرٍ جِوَارَهُ اكْتِفَاءً بِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى، وَخَبَرُهُ هَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ وَأَوْرَدْنَاهُ بِطُولِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْغَارِ (ص ٣٧٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
بَلْ هَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى صَدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُوَّةِ عَنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَفِي أَسْوَاقِ الْمَوْسِمِ وَمَجَامِعِهِ، وَعَلَى تَوَاصِيهِمْ بِمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٤١: ٢٦).
وَقَدْ أَدْرَكَ هَذَا أَحَدُ فَلَاسِفَةِ فَرَنْسَةَ فَذَكَرَ فِي كِتَابٍ لَهُ قَوْلَ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَأْتِ بِآيَةٍ عَلَى ثُبُوتِهِ كَآيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى، وَقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: إِنْ مُحَمَّدًا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ خَاشِعًا أَوَّاهًا مُتَأَلِّهًا فَتَفْعَلُ قِرَاءَتُهُ فِي جَذْبِ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ مَا لَمْ تَفْعَلْهُ جَمِيعُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ (أَقُولُ) : وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كَكُتُبِ الْقَوَانِينِ الْمُرَتَّبَةِ وَكُتُبِ الْفُنُونِ الْمُبَوَّبَةِ، لَمَا كَانَ لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنَ التَّأْثِيرِ مَا كَانَ لِسُوَرِهِ الْمُنَزَّلَةِ.
كَانَ كُلُّ مَا يَطْلُبُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ بِتِلَاوَةِ
وَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْذِبُ رُءُوسَ أُولَئِكَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ لَيْلًا لِاسْتِمَاعِ تِلَاوَةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ نَهْيِهِمْ عَنْهُ وَنَأْيِهِمْ عَنْهُ، وَتَوَاصِيهِمْ وَتَقَاسُمِهِمْ لَا يَسْمَعُنَّ لَهُ، ثُمَّ كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ فُرَادَى مُسْتَخْفِينَ، وَيَتَلَاقَوْنَ فِي الطَّرِيقِ مُتَلَاوِمِينَ.
وَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى مَنْعِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْلًا لِمَا كَانَ لِتِلَاوَتِهِ وَبُكَائِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ التَّأْثِيرِ الْجَاذِبِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَفْتِنُ عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، فَاتَّخَذَ مَسْجِدًا لَهُ بِفِنَاءِ دَارِهِ فَطَفِقَ النِّسَاءُ وَالْأَوْلَادُ النَّاشِئُونَ يَنْسَلُّونَ إِلَى بَيْتِهِ لَيْلًا لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، فَنَهَاهُ أَشْرَافُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَزَالُ، وَأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ أَنْ يَغْلِبَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا أَلْجَئُوهُ إِلَى الْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ فَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ ابْنَ الدُّغُنَّةِ سَيِّدَ قَوْمِهِ
فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ هِجْرَتِهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَهُوَ يَعْرِفُ فَضَائِلَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فَأَجَارَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى مَكَّةَ بِجِوَارِهِ، فَعَادَ إِلَى قِرَاءَتِهِ، وَعَادَ النِّسَاءُ وَالنَّشْءُ الْحَدِيثُ إِلَى الِاسْتِمَاعِ لَهُ، حَتَّى اضْطَرَّ الْمُشْرِكُونَ ابْنَ الدُّغُنَّةِ إِلَى إِقْنَاعِهِ بِتَرْكِ رَفْعِ صَوْتِهِ بِالْقُرْآنِ أَوْ يَرُدُّ عَلَيْهِ جِوَارَهُ، فَرَدَّ أَبُو بَكْرٍ جِوَارَهُ اكْتِفَاءً بِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى، وَخَبَرُهُ هَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ وَأَوْرَدْنَاهُ بِطُولِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْغَارِ (ص ٣٧٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
بَلْ هَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى صَدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُوَّةِ عَنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَفِي أَسْوَاقِ الْمَوْسِمِ وَمَجَامِعِهِ، وَعَلَى تَوَاصِيهِمْ بِمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٤١: ٢٦).
وَقَدْ أَدْرَكَ هَذَا أَحَدُ فَلَاسِفَةِ فَرَنْسَةَ فَذَكَرَ فِي كِتَابٍ لَهُ قَوْلَ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَأْتِ بِآيَةٍ عَلَى ثُبُوتِهِ كَآيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى، وَقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: إِنْ مُحَمَّدًا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ خَاشِعًا أَوَّاهًا مُتَأَلِّهًا فَتَفْعَلُ قِرَاءَتُهُ فِي جَذْبِ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ مَا لَمْ تَفْعَلْهُ جَمِيعُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ (أَقُولُ) : وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كَكُتُبِ الْقَوَانِينِ الْمُرَتَّبَةِ وَكُتُبِ الْفُنُونِ الْمُبَوَّبَةِ، لَمَا كَانَ لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنَ التَّأْثِيرِ مَا كَانَ لِسُوَرِهِ الْمُنَزَّلَةِ.
كَانَ كُلُّ مَا يَطْلُبُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ بِتِلَاوَةِ
168
الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لَهُ: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (٦: ١٩) أَيْ وَأَنْذِرْ بِهِ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ مِنْ غَيْرِكُمْ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّمْلِ (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٧: ٩١ - ٩٣) إِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ عَرَفُوا مِنْ قُوَّةِ جَذْبِ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِوَقْعِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ غَيْرُهُمْ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِجُمْهُورِ الْعَرَبِ مِثْلُ مَا لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْجُحُودِ وَالْمُكَابَرَةِ، فَقَالَ لَهُمْ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ: خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ)) فَفَعَلُوا. وَكَانَ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى بَثِّ الدَّعْوَةِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى مَا أَفْضَى بِهِمْ إِلَى الِاضْطِهَادِ وَأَشَدِّ الْإِيذَاءِ لَهُ وَلِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، ثُمَّ إِجْمَاعُ الرَّأْيِ عَلَى قَتْلِهِ، حَتَّى
أَلْجَئُوهُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ صَارُوا يُقَاتِلُونَهُ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ وَمَا حَوْلَهَا، وَنَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، إِلَى أَنِ اضْطُرُّوا إِلَى عَقْدِ الصُّلْحِ مَعَهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ وَكَانَ أَهَمُّ شُرُوطِ الصُّلْحِ السَّمَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمُخَالَطَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ سَمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَدُخُولِهِمْ بِتَأْثِيرِهِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، فَكَانَ انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ بِالسِّلْمِ وَالْأَمَانِ أَضْعَافَ انْتِشَارِهِ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ
كَانَ كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يُلَقَّنُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ - لِيَعْبُدَ اللهَ بِتِلَاوَتِهِ - وَيَعْلَمَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُفْرَضْ فِي مَكَّةَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ غَيْرُهَا، فَيُرَتِّلُ مَا يَحْفَظُهُ فِي صَلَاتِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ التَّهَجُّدَ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ - الَّتِي قِيلَ إِنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَبَعْدَهَا الْمُدَّثِّرُ وَقِيلَ بِالْعَكْسِ - وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (٧٣: ١ - ٤) ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (٧٣: ٢٠) أَيْ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَعْذَارَ الْمَانِعَةَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ مَا كَانَ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَمَا سَيَكُونُ بَعْدَ سِنِينَ وَهُوَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي صِفَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَنَّ الَّذِي كَانَ يَمُرُّ بِبُيُوتِهِمْ لَيْلًا يَسْمَعُ مِنْهَا مِثْلَ دَوِيِّ النَّحْلِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ غَلَا بَعْضُهُمْ فَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى شَكَا مِنْهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ هُوَ يُصَلِّي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
أَلْجَئُوهُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ صَارُوا يُقَاتِلُونَهُ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ وَمَا حَوْلَهَا، وَنَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، إِلَى أَنِ اضْطُرُّوا إِلَى عَقْدِ الصُّلْحِ مَعَهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ وَكَانَ أَهَمُّ شُرُوطِ الصُّلْحِ السَّمَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمُخَالَطَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ سَمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَدُخُولِهِمْ بِتَأْثِيرِهِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، فَكَانَ انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ بِالسِّلْمِ وَالْأَمَانِ أَضْعَافَ انْتِشَارِهِ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ
كَانَ كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يُلَقَّنُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ - لِيَعْبُدَ اللهَ بِتِلَاوَتِهِ - وَيَعْلَمَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُفْرَضْ فِي مَكَّةَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ غَيْرُهَا، فَيُرَتِّلُ مَا يَحْفَظُهُ فِي صَلَاتِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ التَّهَجُّدَ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ - الَّتِي قِيلَ إِنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَبَعْدَهَا الْمُدَّثِّرُ وَقِيلَ بِالْعَكْسِ - وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (٧٣: ١ - ٤) ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (٧٣: ٢٠) أَيْ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَعْذَارَ الْمَانِعَةَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ مَا كَانَ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَمَا سَيَكُونُ بَعْدَ سِنِينَ وَهُوَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي صِفَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَنَّ الَّذِي كَانَ يَمُرُّ بِبُيُوتِهِمْ لَيْلًا يَسْمَعُ مِنْهَا مِثْلَ دَوِيِّ النَّحْلِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ غَلَا بَعْضُهُمْ فَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى شَكَا مِنْهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ هُوَ يُصَلِّي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
169
رَكْعَةً يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَمَا قَبْلَهَا مَثْنَى مَثْنَى، وَكَانَ هُوَ يُطِيلُ فِيهِنَّ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ مُرَفِّهًا وَمُسَلِّيًا (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (٢٠: ١ و٢).
فَتَرْبِيَةُ الصَّحَابَةِ الَّتِي غَيَّرَتْ كُلَّ مَا كَانَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ مَفَاسِدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَزَكَّتْهَا تِلْكَ التَّزْكِيَةَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا وَأَحْدَثَتْ أَعْظَمَ ثَوْرَةٍ رُوحِيَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ فِي التَّارِيخِ
إِنَّمَا كَانَتْ بِكَثْرَةِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَتَدَبُّرِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُومُ اللَّيْلَةَ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ يُكَرِّرُهَا مُتَدَبِّرًا لَهَا، وَكَانُوا يَقْرَءُونَهُ مُسْتَقِلِّينَ وَمُضْطَجِعِينَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (٣: ١٩١) وَأَعْظَمُ ذِكْرِ اللهِ تِلَاوَةُ كِتَابِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَحْكَامِهِ وَحِكَمِهِ، وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي تَدْبِيرِ مُلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كَكُتُبِ الْقَوَانِينِ وَالْفُنُونِ لَمَا كَانَ لِتِلَاوَتِهِ كُلُّ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ فِي قَلْبِ الطِّبَاعِ، وَتَغْيِيرِ الْأَوْضَاعِ، بَلْ لَكَانَتْ تِلَاوَتُهُ تُمَلُّ فَتُتْرَكُ، فَأُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ آنِفًا مَنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ اللُّغَوِيِّ، وَتَأْثِيرِهِ الرُّوحِيِّ، وَمَنِ ارْتَابَ فِي هَذَا فَلْيَنْظُرْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا السُّورَةُ مِنْهُ وَلِيُحَاوِلْ كِتَابَتَهَا نَفْسَهَا أَوْ مِثْلَهَا بِأُسْلُوبِ تِلْكَ السُّورَةِ وَنَظْمِهَا أَوْ أُسْلُوبِ سُورَةٍ أُخْرَى، كَالسُّوَرِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ فِيهَا الْمَوْضُوعُ الْوَاحِدُ بِالْإِجْمَالِ الْمُوجَزِ تَارَةً وَبِبَعْضِ التَّفْصِيلِ تَارَةً وَبِالْإِطْنَابِ فِيهِ أُخْرَى، - كَالِاعْتِبَارِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فِي سُورِ الْمُفَصَّلِ (كَالذَّارِيَاتِ وَالْقَمَرِ وَالْحَاقَّةِ) وَفِيمَا فَوْقَهَا (كَالْمُؤْمِنُونَ وَالشُّعَرَاءِ وَالنَّمْلِ) وَفِيمَا هُوَ أَطْوَلُ مِنْهَا (كَالْأَعْرَافِ وَهُودٍ) - ثُمَّ لِيَنْظُرْ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ عَجْزُهُ مِنَ السُّخْرِيَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ تَكْرَارَ الدَّعَوَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ هِيَ الَّتِي تُثِيرُ الْجَمَاعَاتِ وَتَدَعُّهُمْ إِلَى الِانْهِمَاكِ وَالتَّفَانِي فِيهَا دَعًّا، وَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ يَعْلَمُونَ هَذَا، وَلَكِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مِنْ طِبَاعِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ فَوْقَ مَا يَعْلَمُهُ حُكَمَاءُ عَصْرِنَا وَسَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ كَلَامُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ إِلَّا مَا لَهُ أَكْبَرُ الشَّأْنِ فِي انْقِلَابِ الْأَفْكَارِ، وَتَحْوِيلِ مَا فِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ إِلَى خَيْرٍ مِنْهَا، وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ الِانْقِلَابِ الْإِصْلَاحِيِّ بِدُونِهِ كَمَا تَعْلَمُ مِنَ التَّفْصِيلِ الْآتِي.
(مَقَاصِدُ الْقُرْآنِ، فِي تَرْقِيَةِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَمَا فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ).
إِنَّ مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ مِنْ إِصْلَاحِ أَفْرَادِ الْبَشَرِ وَجَمَاعَاتِهِمْ وَأَقْوَامِهِمْ وَإِدْخَالِهِمْ فِي طَوْرِ الرُّشْدِ وَتَحْقِيقِ أُخُوَّتِهِمُ الْإِنْسَانِيَّةِ وَوَحْدَتِهِمْ وَتَرْقِيَةِ عُقُولِهِمْ وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ مِنْهَا مَا يَكْفِي بَيَانُهُ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ مِرَارًا قَلِيلَةً، وَمِنْهَا مَا لَا تَحْصُلُ
الْغَايَةُ إِلَّا بِتَكْرَارٍ كَثِيرٍ لِأَجَلِ أَنْ يَجْتَثَّ مِنْ أَعْمَاقِ الْأَنْفُسِ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ آثَارِ الْوِرَاثَةِ وَالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ الضَّارَّةِ وَيَغْرِسُ فِي مَكَانِهَا أَضْدَادَهَا، وَيَتَعَاهَدُ هَذَا الْغَرْسَ بِمَا يُنَمِّيهِ حَتَّى يُؤْتِيَ أُكُلَهُ وَيَيْنَعَ ثَمَرُهُ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ
فَتَرْبِيَةُ الصَّحَابَةِ الَّتِي غَيَّرَتْ كُلَّ مَا كَانَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ مَفَاسِدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَزَكَّتْهَا تِلْكَ التَّزْكِيَةَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا وَأَحْدَثَتْ أَعْظَمَ ثَوْرَةٍ رُوحِيَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ فِي التَّارِيخِ
إِنَّمَا كَانَتْ بِكَثْرَةِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَتَدَبُّرِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُومُ اللَّيْلَةَ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ يُكَرِّرُهَا مُتَدَبِّرًا لَهَا، وَكَانُوا يَقْرَءُونَهُ مُسْتَقِلِّينَ وَمُضْطَجِعِينَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (٣: ١٩١) وَأَعْظَمُ ذِكْرِ اللهِ تِلَاوَةُ كِتَابِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَحْكَامِهِ وَحِكَمِهِ، وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي تَدْبِيرِ مُلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كَكُتُبِ الْقَوَانِينِ وَالْفُنُونِ لَمَا كَانَ لِتِلَاوَتِهِ كُلُّ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ فِي قَلْبِ الطِّبَاعِ، وَتَغْيِيرِ الْأَوْضَاعِ، بَلْ لَكَانَتْ تِلَاوَتُهُ تُمَلُّ فَتُتْرَكُ، فَأُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ آنِفًا مَنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ اللُّغَوِيِّ، وَتَأْثِيرِهِ الرُّوحِيِّ، وَمَنِ ارْتَابَ فِي هَذَا فَلْيَنْظُرْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا السُّورَةُ مِنْهُ وَلِيُحَاوِلْ كِتَابَتَهَا نَفْسَهَا أَوْ مِثْلَهَا بِأُسْلُوبِ تِلْكَ السُّورَةِ وَنَظْمِهَا أَوْ أُسْلُوبِ سُورَةٍ أُخْرَى، كَالسُّوَرِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ فِيهَا الْمَوْضُوعُ الْوَاحِدُ بِالْإِجْمَالِ الْمُوجَزِ تَارَةً وَبِبَعْضِ التَّفْصِيلِ تَارَةً وَبِالْإِطْنَابِ فِيهِ أُخْرَى، - كَالِاعْتِبَارِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فِي سُورِ الْمُفَصَّلِ (كَالذَّارِيَاتِ وَالْقَمَرِ وَالْحَاقَّةِ) وَفِيمَا فَوْقَهَا (كَالْمُؤْمِنُونَ وَالشُّعَرَاءِ وَالنَّمْلِ) وَفِيمَا هُوَ أَطْوَلُ مِنْهَا (كَالْأَعْرَافِ وَهُودٍ) - ثُمَّ لِيَنْظُرْ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ عَجْزُهُ مِنَ السُّخْرِيَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ تَكْرَارَ الدَّعَوَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ هِيَ الَّتِي تُثِيرُ الْجَمَاعَاتِ وَتَدَعُّهُمْ إِلَى الِانْهِمَاكِ وَالتَّفَانِي فِيهَا دَعًّا، وَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ يَعْلَمُونَ هَذَا، وَلَكِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مِنْ طِبَاعِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ فَوْقَ مَا يَعْلَمُهُ حُكَمَاءُ عَصْرِنَا وَسَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ كَلَامُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ إِلَّا مَا لَهُ أَكْبَرُ الشَّأْنِ فِي انْقِلَابِ الْأَفْكَارِ، وَتَحْوِيلِ مَا فِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ إِلَى خَيْرٍ مِنْهَا، وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ الِانْقِلَابِ الْإِصْلَاحِيِّ بِدُونِهِ كَمَا تَعْلَمُ مِنَ التَّفْصِيلِ الْآتِي.
(مَقَاصِدُ الْقُرْآنِ، فِي تَرْقِيَةِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَمَا فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ).
إِنَّ مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ مِنْ إِصْلَاحِ أَفْرَادِ الْبَشَرِ وَجَمَاعَاتِهِمْ وَأَقْوَامِهِمْ وَإِدْخَالِهِمْ فِي طَوْرِ الرُّشْدِ وَتَحْقِيقِ أُخُوَّتِهِمُ الْإِنْسَانِيَّةِ وَوَحْدَتِهِمْ وَتَرْقِيَةِ عُقُولِهِمْ وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ مِنْهَا مَا يَكْفِي بَيَانُهُ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ مِرَارًا قَلِيلَةً، وَمِنْهَا مَا لَا تَحْصُلُ
الْغَايَةُ إِلَّا بِتَكْرَارٍ كَثِيرٍ لِأَجَلِ أَنْ يَجْتَثَّ مِنْ أَعْمَاقِ الْأَنْفُسِ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ آثَارِ الْوِرَاثَةِ وَالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ الضَّارَّةِ وَيَغْرِسُ فِي مَكَانِهَا أَضْدَادَهَا، وَيَتَعَاهَدُ هَذَا الْغَرْسَ بِمَا يُنَمِّيهِ حَتَّى يُؤْتِيَ أُكُلَهُ وَيَيْنَعَ ثَمَرُهُ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ
170
بِهَا كَامِلَةً، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ كَمَالُهُ إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيُوضَعُ لَهُ بَعْضُ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ وَمِنْهَا مَا يَكْفِي فِيهِ الْفَحْوَى وَالْكِنَايَةِ.
وَالْقُرْآنُ كِتَابُ تَرْبِيَةٍ عَمَلِيَّةٍ وَتَعْلِيمٍ، لَا كِتَابُ تَعْلِيمٍ فَقَطْ، فَلَا يَكْفِي أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ كُلُّ مَسْأَلَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَاضِحَةً تَامَّةً كَالْمَعْهُودِ فِي كُتُبِ الْفُنُونِ وَالْقَوَانِينِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي مَوْضُوعِ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (٦٢: ٢) وَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا أُصُولَ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ كَمَا وَعَدْنَا عِنْدَ قَوْلِنَا إِنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْحُكَّامِ فَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ فَيْضِ اسْتِعْدَادِهِ الشَّخْصِيِّ، وَإِنَّنَا نُقَسِّمُ هَذِهِ الْمَقَاصِدَ إِلَى أَنْوَاعٍ وَنُبَيِّنُ حِكْمَةَ الْقُرْآنِ، وَمَا امْتَازَ بِهِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا بِالْإِجْمَالِ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا يَسَّرَ اللهُ لَنَا مَا وَعَدْنَا بِهِ مِنْ تَفْسِيرِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ كُلِّهَا فِي أَبْوَابٍ نُبَيِّنُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْهَا وَجْهَ حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى ذَلِكَ الْمَقْصِدِ وَكَوْنَ الْقُرْآنِ وَفَّى بِهَذِهِ الْحَاجَةِ بِمَا نَأْتِي بِهِ مِنْ جُمْلَةِ آيَاتِهِ فِيهِ.
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ مَقَاصِدِهِ الْإِصْلَاحُ الدِّينِيُّ لِأَرْكَانِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ).
إِنَّ أَرْكَانَ الدِّينِ الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي بُعِثَ بِهَا جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى وَنَاطَ بِهَا سَعَادَةَ الْبَشَرِ هِيَ الثَّلَاثَةُ الْمُبَيَّنَةُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢: ٦٢) وَهَاكَ الْكَلَامَ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا بِالْإِيجَازِ.
(الرُّكْنُ الْأَوَّلُ لِلدِّينِ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى)
فَالرُّكْنُ الْأَوَّلُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ - وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى - قَدْ ضَلَّ فِيهِ جَمِيعُ الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ حَتَّى أَقْرَبُهُمْ عَهْدًا بِهِدَايَةِ الرُّسُلِ، فَالْيَهُودُ جَعَلُوا اللهَ كَالْإِنْسَانِ يَتْعَبُ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ كَخَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِثْلَهُ. ((أَوْ مِثْلَ الْآلِهَةِ)) وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ فِي شَكْلِ الْإِنْسَانِ حَتَّى إِنَّهُ صَارَعَ إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّفَلُّتِ مِنْهُ حَتَّى بَارَكَهُ فَأَطْلَقَهُ! وَعَبَدُوا بَعْلًا وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَالنَّصَارَى جَدَّدُوا مِنْ عَهْدِ قُسْطَنْطِينَ الْوَثَنِيَّاتِ الْقَدِيمَةَ، فَغَمَرَ الشِّرْكُ بِاللهِ هَذِهِ الْأَرْضَ بِطُوفَانِهِ وَطَغَتِ الْوَثَنِيَّةُ عَلَى أَهْلِهَا، حَتَّى صَارَتْ كَنَائِسُ النَّصَارَى كَهَيَاكِلِ الْوَثَنِيَّةِ الْأُولَى مَمْلُوءَةً بِالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَعْبُودَةِ - عَلَى أَنَّ عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ وَالصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ هِيَ عَقِيدَةُ الْهُنُودِ فِي كَرْشَنَةَ وَثَالُوثُهُ فِي جُمْلَتِهَا وَتَفْصِيلِهَا، وَهِيَ مَدْعُومَةٌ بِفَلْسَفَةٍ خَيَالِيَّةٍ غَيْرِ مَعْقُولَةٍ، وَبِنِظَامٍ يَقُومُ بِتَنْفِيذِهِ الْمُلُوكُ وَالْقَيَاصِرَةُ، وَيُبْذَلُ فِي سَبِيلِهِ الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيُرَبَّى عَلَيْهِ الْأَحْدَاثُ مِنَ الصِّغَرِ تَرْبِيَةً وِجْدَانِيَّةً خَيَالِيَّةً لَا تَقْبَلُ حُجَّةً
وَالْقُرْآنُ كِتَابُ تَرْبِيَةٍ عَمَلِيَّةٍ وَتَعْلِيمٍ، لَا كِتَابُ تَعْلِيمٍ فَقَطْ، فَلَا يَكْفِي أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ كُلُّ مَسْأَلَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَاضِحَةً تَامَّةً كَالْمَعْهُودِ فِي كُتُبِ الْفُنُونِ وَالْقَوَانِينِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي مَوْضُوعِ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (٦٢: ٢) وَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا أُصُولَ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ كَمَا وَعَدْنَا عِنْدَ قَوْلِنَا إِنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْحُكَّامِ فَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ فَيْضِ اسْتِعْدَادِهِ الشَّخْصِيِّ، وَإِنَّنَا نُقَسِّمُ هَذِهِ الْمَقَاصِدَ إِلَى أَنْوَاعٍ وَنُبَيِّنُ حِكْمَةَ الْقُرْآنِ، وَمَا امْتَازَ بِهِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا بِالْإِجْمَالِ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا يَسَّرَ اللهُ لَنَا مَا وَعَدْنَا بِهِ مِنْ تَفْسِيرِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ كُلِّهَا فِي أَبْوَابٍ نُبَيِّنُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْهَا وَجْهَ حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى ذَلِكَ الْمَقْصِدِ وَكَوْنَ الْقُرْآنِ وَفَّى بِهَذِهِ الْحَاجَةِ بِمَا نَأْتِي بِهِ مِنْ جُمْلَةِ آيَاتِهِ فِيهِ.
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ مَقَاصِدِهِ الْإِصْلَاحُ الدِّينِيُّ لِأَرْكَانِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ).
إِنَّ أَرْكَانَ الدِّينِ الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي بُعِثَ بِهَا جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى وَنَاطَ بِهَا سَعَادَةَ الْبَشَرِ هِيَ الثَّلَاثَةُ الْمُبَيَّنَةُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢: ٦٢) وَهَاكَ الْكَلَامَ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا بِالْإِيجَازِ.
(الرُّكْنُ الْأَوَّلُ لِلدِّينِ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى)
فَالرُّكْنُ الْأَوَّلُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ - وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى - قَدْ ضَلَّ فِيهِ جَمِيعُ الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ حَتَّى أَقْرَبُهُمْ عَهْدًا بِهِدَايَةِ الرُّسُلِ، فَالْيَهُودُ جَعَلُوا اللهَ كَالْإِنْسَانِ يَتْعَبُ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ كَخَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِثْلَهُ. ((أَوْ مِثْلَ الْآلِهَةِ)) وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ فِي شَكْلِ الْإِنْسَانِ حَتَّى إِنَّهُ صَارَعَ إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّفَلُّتِ مِنْهُ حَتَّى بَارَكَهُ فَأَطْلَقَهُ! وَعَبَدُوا بَعْلًا وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَالنَّصَارَى جَدَّدُوا مِنْ عَهْدِ قُسْطَنْطِينَ الْوَثَنِيَّاتِ الْقَدِيمَةَ، فَغَمَرَ الشِّرْكُ بِاللهِ هَذِهِ الْأَرْضَ بِطُوفَانِهِ وَطَغَتِ الْوَثَنِيَّةُ عَلَى أَهْلِهَا، حَتَّى صَارَتْ كَنَائِسُ النَّصَارَى كَهَيَاكِلِ الْوَثَنِيَّةِ الْأُولَى مَمْلُوءَةً بِالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَعْبُودَةِ - عَلَى أَنَّ عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ وَالصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ هِيَ عَقِيدَةُ الْهُنُودِ فِي كَرْشَنَةَ وَثَالُوثُهُ فِي جُمْلَتِهَا وَتَفْصِيلِهَا، وَهِيَ مَدْعُومَةٌ بِفَلْسَفَةٍ خَيَالِيَّةٍ غَيْرِ مَعْقُولَةٍ، وَبِنِظَامٍ يَقُومُ بِتَنْفِيذِهِ الْمُلُوكُ وَالْقَيَاصِرَةُ، وَيُبْذَلُ فِي سَبِيلِهِ الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيُرَبَّى عَلَيْهِ الْأَحْدَاثُ مِنَ الصِّغَرِ تَرْبِيَةً وِجْدَانِيَّةً خَيَالِيَّةً لَا تَقْبَلُ حُجَّةً
171
وَلَا بُرْهَانًا، فَهَدْمُ مَعَاقِلِ هَذِهِ الْوَثَنِيَّةِ وَحُصُونِهَا الْمُشَيَّدَةِ فِي الْأَفْكَارِ وَالْقُلُوبِ مَا كَانَ لِيَتِمَّ بِإِقَامَةِ بُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ أَوْ عِدَّةِ بَرَاهِينَ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ فِيهِ مِنْ دَحْضِ الشُّبَهَاتِ وَتَفْصِيلِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالْخَطَابِيَّةِ بِالْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ ; لِذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ الْمَسَائِلِ تَكْرَارًا فِي الْقُرْآنِ مَسْأَلَةَ تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أُلُوهِيَّتِهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمْ مِلْكًا وَعَبِيدًا لَهُ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ دُونِهِ نَفْعًا وَلَا ضُرًّا لِأَحَدٍ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ إِلَّا فِيمَا سَخَّرَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِرَارًا.
وَأَمَّا تَكْرَارُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ انْفِرَادُهُ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ فَلَيْسَ سَبَبُهُ كَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ بِرُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى، بَلْ سَبَبُهُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِ الْعِبَادَةِ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءِ وَابْتِغَاءِ شَفَاعَتِهِمْ عِنْدَهُ، فَشَرُّ الشِّرْكِ وَأَعْرَقُهُ فِي الْكُفْرِ وَأَكْثَرُهُ فِي ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ إِنَّمَا هُوَ تَوَجُّهُ الْعَبْدِ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنْ كَشْفِ ضُرٍّ وَجَلْبِ نَفْعٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، فَقَدْ ذُكِرَ الدُّعَاءُ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً،
بَلْ زُهَاءَ سَبْعِينَ بَعْدَ سَبْعِينَ مَرَّةً ; لِأَنَّهُ رُوحُ الْعِبَادَةِ وَمَحْنُهَا، بَلْ هُوَ الْعِبَادَةُ الَّتِي هِيَ دِينُ الْفِطْرَةِ كُلُّهُ، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَوَضْعِيٌّ تَشْرِيعِيٌّ.
بَعْضُ آيَاتِ الدُّعَاءِ أَمْرٌ بِدُعَائِهِ تَعَالَى، وَبَعْضُهَا نَهْيٌ عَنْ دُعَاءِ غَيْرِهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهَا حُجَجٌ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ أَوْ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَمِنْهَا أَمْثَالٌ، تُصَوَّرُ كُلًّا مِنْهُمَا بِالصُّوَرِ اللَّائِقَةِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَمِنْهَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ دُعَاءَ غَيْرِهِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يُسْتَجَابُ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يُدْعَى مِنْ دُونِهِ تَعَالَى فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ وَأَنَّ أَفْضَلَهُمْ وَخِيَارَهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ يَدْعُونَهُ هُوَ وَيَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، وَأَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ - وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَلْخِيصُهُ.
وَثَمَّ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى تُغَذِّي التَّوْحِيدَ، وَتَصْعَدُ بِأَهْلِهِ دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةً فِي السُّمُوِّ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَالتَّأَلُّهِ وَالتَّوَلُّهِ فِي حُبِّهِ مِنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيحِ، وَذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مَمْزُوجَةً بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، حَتَّى أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْإِرْثِ وَالْأَمْوَالِ. وَبِحِكَمِ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ لِأُمُورِ الْعَالَمِ، وَسُنَنِهِ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَفِي شُئُونِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَوَضْعِ كُلِّ اسْمٍ مِنْهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمُنَاسِبِ لَهُ مِنْ رَحْمَةٍ وَعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَقُدْرَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَحِلْمٍ وَعَفْوٍ وَمَغْفِرَةٍ وَحُبٍّ وَرِضًا وَمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ فِي فَضْلِهِ إِلَخْ وَنَاهِيكَ بِمَا سَرَدَ مِنْهَا سَرْدًا لِجَذْبِ الْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ إِلَى كَمَالِهِ الْمُطْلَقِ وَفَنَائِهَا فِيهِ كَمَا تَرَاهُ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ فَتَأَمَّلْهَا، وَفِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣)
وَأَمَّا تَكْرَارُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ انْفِرَادُهُ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ فَلَيْسَ سَبَبُهُ كَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ بِرُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى، بَلْ سَبَبُهُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِ الْعِبَادَةِ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءِ وَابْتِغَاءِ شَفَاعَتِهِمْ عِنْدَهُ، فَشَرُّ الشِّرْكِ وَأَعْرَقُهُ فِي الْكُفْرِ وَأَكْثَرُهُ فِي ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ إِنَّمَا هُوَ تَوَجُّهُ الْعَبْدِ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنْ كَشْفِ ضُرٍّ وَجَلْبِ نَفْعٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، فَقَدْ ذُكِرَ الدُّعَاءُ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً،
بَلْ زُهَاءَ سَبْعِينَ بَعْدَ سَبْعِينَ مَرَّةً ; لِأَنَّهُ رُوحُ الْعِبَادَةِ وَمَحْنُهَا، بَلْ هُوَ الْعِبَادَةُ الَّتِي هِيَ دِينُ الْفِطْرَةِ كُلُّهُ، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَوَضْعِيٌّ تَشْرِيعِيٌّ.
بَعْضُ آيَاتِ الدُّعَاءِ أَمْرٌ بِدُعَائِهِ تَعَالَى، وَبَعْضُهَا نَهْيٌ عَنْ دُعَاءِ غَيْرِهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهَا حُجَجٌ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ أَوْ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَمِنْهَا أَمْثَالٌ، تُصَوَّرُ كُلًّا مِنْهُمَا بِالصُّوَرِ اللَّائِقَةِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَمِنْهَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ دُعَاءَ غَيْرِهِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يُسْتَجَابُ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يُدْعَى مِنْ دُونِهِ تَعَالَى فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ وَأَنَّ أَفْضَلَهُمْ وَخِيَارَهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ يَدْعُونَهُ هُوَ وَيَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، وَأَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ - وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَلْخِيصُهُ.
وَثَمَّ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى تُغَذِّي التَّوْحِيدَ، وَتَصْعَدُ بِأَهْلِهِ دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةً فِي السُّمُوِّ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَالتَّأَلُّهِ وَالتَّوَلُّهِ فِي حُبِّهِ مِنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيحِ، وَذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مَمْزُوجَةً بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، حَتَّى أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْإِرْثِ وَالْأَمْوَالِ. وَبِحِكَمِ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ لِأُمُورِ الْعَالَمِ، وَسُنَنِهِ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَفِي شُئُونِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَوَضْعِ كُلِّ اسْمٍ مِنْهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمُنَاسِبِ لَهُ مِنْ رَحْمَةٍ وَعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَقُدْرَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَحِلْمٍ وَعَفْوٍ وَمَغْفِرَةٍ وَحُبٍّ وَرِضًا وَمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ فِي فَضْلِهِ إِلَخْ وَنَاهِيكَ بِمَا سَرَدَ مِنْهَا سَرْدًا لِجَذْبِ الْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ إِلَى كَمَالِهِ الْمُطْلَقِ وَفَنَائِهَا فِيهِ كَمَا تَرَاهُ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ فَتَأَمَّلْهَا، وَفِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣)
172
وَمِنْهَا اسْتَمَدَّ الْأَوْلِيَاءُ الْعَارِفُونَ وَالْأَئِمَّةُ الرَّبَّانِيُّونَ تِلْكَ الْكُتُبَ الْعَالِيَةَ فِي مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَأَسْرَارِ خَلْقِهِ، بَعْدَ أَنْ تَرَبُّوا بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ، وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ.
بِهَذَا التَّكْرَارِ الَّذِي جَعَلَهُ أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ مَقْبُولًا غَيْرَ مَمْلُولٍ طَهَّرَ اللهُ عُقُولَ الْعَرَبِ وَقُلُوبَهُمْ مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَزَكَّاهَا بِالْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ وَالْفَضَائِلِ السَّامِيَةِ وَكَذَا غَيْرُ الْعَرَبِ مَنْ آمَنَ وَأَتْقَنَ لُغَةَ كِتَابِهِ وَصَارَ يُرَتِّلُهُ فِي عِبَادَتِهِ وَيَتَدَبَّرُ آيَاتِهِ، حَتَّى إِذَا دَبَّ فِي الْأُمَّةِ دَبِيبُ الْجَهْلِ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ وَقَلَّ
تَدَبُّرُهُ، وَاعْتَمَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي فَهْمِ عَقِيدَتِهِمْ عَلَى الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُصَنَّفَةِ، ضَعُفَ التَّوْحِيدُ وَابْتَغَوْا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا، وَتَأَوُّلًا وَجَدَلًا فَصَارَ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ يَتَأَوَّلُونَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ عَلَى التَّوْحِيدِ بِشُبَهَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ وَمَعْلُومٌ.
عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ قَدْ بَالَغُوا فِي التَّوْحِيدِ حَتَّى أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ تَأْثِيرَ الْأَسْبَابِ فِي مُسَبَّبَاتِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَانْتَهَى بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى بِدْعَةِ الْجَبْرِ الَّتِي أَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِهَا كُلَّ شَيْءٍ، بَيْدَ أَنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِمَا يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ النَّظَرُ الْعَقْلِيُّ، أَوْ رِيَاضَةُ النَّفْسِ وَمَا تُثْمِرُهُ مِنَ الشُّعُورِ الْوِجْدَانِيِّ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ الْبُرْهَانِ وَلَا مِنَ الْوِجْدَانِ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الْعَوَامَّ وَيَتَأَوَّلُونَ لَهُمْ بِكَلَامِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ الْجَاهِلِينَ وَلَوْ فَقِهُوا أَقْصَرَ سُورَةٍ فِي التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ كَمَا يَجِبُ - وَهِيَ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ - لَمَا وَجَدَ الشِّرْكُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ سَبِيلًا.
قَدْ كَانَ تَوْحِيدُ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ لِلَّهِ وَمَعْرِفَتُهُمْ بِهِ وَحُبُّهُمْ لَهُ وَتَوَكُّلُهُمْ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي زَكَّى أَنْفُسَهُمْ، وَأَعْلَى هِمَمَهُمْ، وَكَمَّلَهَمْ بِعِزَّةِ النَّفْسِ وَشِدَّةِ الْبَأْسِ، وَإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ فَتْحِ الْبِلَادِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَمِ، وَإِعْتَاقِهَا مِنْ رِقِّ الْكَهَنَةِ وَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَالْبُوذَاتِ وَالْمُوبَذَانَاتِ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ، وَتَحْرِيرِهِمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ وَاسْتِبْدَادِهِمْ، وَإِقَامَةِ دَعَائِمِ الْحَضَارَةِ، وَإِحْيَاءِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْمَيِّتَةِ وَتَرْقِيَتِهَا فِيهِمْ وَقَدْ تَمَّ لَهُمْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُقَارِبُهُ لِأُمَّةٍ مَنْ أَمَّمِ الْأَرْضِ، حَتَّى قَالَ الدُّكْتُورُ غُوسْتَافْ لُوبُونِ الْمُؤَرِّخُ الِاجْتِمَاعِيُّ الشَّهِيرُ: إِنَّ مَلَكَةَ الْفُنُونِ لَمْ يَتِمَّ تَكْوِينُهَا لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ النَّاهِضَةِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَجْيَالٍ، أَوَّلُهَا جِيلُ التَّقْلِيدِ، وَثَانِيهَا جِيلُ الْخَضْرَمَةِ وَثَالِثُهَا جِيلُ الِاسْتِقْلَالِ وَالِاجْتِهَادِ - قَالَ: إِلَّا الْعَرَبَ وَحْدَهُمْ فَقَدِ اسْتَحْكَمَتْ لَهُمْ مَلَكَةُ الْفُنُونِ فِي الْجِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي بَدَءُوا فِيهِ بِمُزَاوَلَتِهَا.
وَأَقُولُ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ تَرْبِيَةُ الْقُرْآنِ لَهُمْ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَاحْتِقَارِ التَّقْلِيدِ. وَتَوْطِينِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى إِمَامَةِ الْبَشَرِ وَقِيَادَتِهَا فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا، وَقَدْ خَفِيَ كُلُّ هَذَا عَلَى سَلَائِلِهَا بَعْدَ ذَهَابِ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَزَوَالِ النَّهْضَةِ الْعَرَبِيَّةِ،
وَتَحَوُّلِ السُّلْطَانِ إِلَى الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الظَّوَاهِرُ التَّقْلِيدِيَّةُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ.
بِهَذَا التَّكْرَارِ الَّذِي جَعَلَهُ أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ مَقْبُولًا غَيْرَ مَمْلُولٍ طَهَّرَ اللهُ عُقُولَ الْعَرَبِ وَقُلُوبَهُمْ مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَزَكَّاهَا بِالْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ وَالْفَضَائِلِ السَّامِيَةِ وَكَذَا غَيْرُ الْعَرَبِ مَنْ آمَنَ وَأَتْقَنَ لُغَةَ كِتَابِهِ وَصَارَ يُرَتِّلُهُ فِي عِبَادَتِهِ وَيَتَدَبَّرُ آيَاتِهِ، حَتَّى إِذَا دَبَّ فِي الْأُمَّةِ دَبِيبُ الْجَهْلِ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ وَقَلَّ
تَدَبُّرُهُ، وَاعْتَمَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي فَهْمِ عَقِيدَتِهِمْ عَلَى الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُصَنَّفَةِ، ضَعُفَ التَّوْحِيدُ وَابْتَغَوْا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا، وَتَأَوُّلًا وَجَدَلًا فَصَارَ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ يَتَأَوَّلُونَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ عَلَى التَّوْحِيدِ بِشُبَهَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ وَمَعْلُومٌ.
عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ قَدْ بَالَغُوا فِي التَّوْحِيدِ حَتَّى أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ تَأْثِيرَ الْأَسْبَابِ فِي مُسَبَّبَاتِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَانْتَهَى بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى بِدْعَةِ الْجَبْرِ الَّتِي أَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِهَا كُلَّ شَيْءٍ، بَيْدَ أَنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِمَا يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ النَّظَرُ الْعَقْلِيُّ، أَوْ رِيَاضَةُ النَّفْسِ وَمَا تُثْمِرُهُ مِنَ الشُّعُورِ الْوِجْدَانِيِّ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ الْبُرْهَانِ وَلَا مِنَ الْوِجْدَانِ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الْعَوَامَّ وَيَتَأَوَّلُونَ لَهُمْ بِكَلَامِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ الْجَاهِلِينَ وَلَوْ فَقِهُوا أَقْصَرَ سُورَةٍ فِي التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ كَمَا يَجِبُ - وَهِيَ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ - لَمَا وَجَدَ الشِّرْكُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ سَبِيلًا.
قَدْ كَانَ تَوْحِيدُ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ لِلَّهِ وَمَعْرِفَتُهُمْ بِهِ وَحُبُّهُمْ لَهُ وَتَوَكُّلُهُمْ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي زَكَّى أَنْفُسَهُمْ، وَأَعْلَى هِمَمَهُمْ، وَكَمَّلَهَمْ بِعِزَّةِ النَّفْسِ وَشِدَّةِ الْبَأْسِ، وَإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ فَتْحِ الْبِلَادِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَمِ، وَإِعْتَاقِهَا مِنْ رِقِّ الْكَهَنَةِ وَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَالْبُوذَاتِ وَالْمُوبَذَانَاتِ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ، وَتَحْرِيرِهِمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ وَاسْتِبْدَادِهِمْ، وَإِقَامَةِ دَعَائِمِ الْحَضَارَةِ، وَإِحْيَاءِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْمَيِّتَةِ وَتَرْقِيَتِهَا فِيهِمْ وَقَدْ تَمَّ لَهُمْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُقَارِبُهُ لِأُمَّةٍ مَنْ أَمَّمِ الْأَرْضِ، حَتَّى قَالَ الدُّكْتُورُ غُوسْتَافْ لُوبُونِ الْمُؤَرِّخُ الِاجْتِمَاعِيُّ الشَّهِيرُ: إِنَّ مَلَكَةَ الْفُنُونِ لَمْ يَتِمَّ تَكْوِينُهَا لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ النَّاهِضَةِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَجْيَالٍ، أَوَّلُهَا جِيلُ التَّقْلِيدِ، وَثَانِيهَا جِيلُ الْخَضْرَمَةِ وَثَالِثُهَا جِيلُ الِاسْتِقْلَالِ وَالِاجْتِهَادِ - قَالَ: إِلَّا الْعَرَبَ وَحْدَهُمْ فَقَدِ اسْتَحْكَمَتْ لَهُمْ مَلَكَةُ الْفُنُونِ فِي الْجِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي بَدَءُوا فِيهِ بِمُزَاوَلَتِهَا.
وَأَقُولُ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ تَرْبِيَةُ الْقُرْآنِ لَهُمْ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَاحْتِقَارِ التَّقْلِيدِ. وَتَوْطِينِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى إِمَامَةِ الْبَشَرِ وَقِيَادَتِهَا فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا، وَقَدْ خَفِيَ كُلُّ هَذَا عَلَى سَلَائِلِهَا بَعْدَ ذَهَابِ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَزَوَالِ النَّهْضَةِ الْعَرَبِيَّةِ،
وَتَحَوُّلِ السُّلْطَانِ إِلَى الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الظَّوَاهِرُ التَّقْلِيدِيَّةُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ.
173
(الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ عَقِيدَةُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ)
وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّانِي. وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَقَدْ كَانَ جُلُّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ يُنْكِرُونَهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَلَا يَكْمُلُ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى وَيَكُونُ بَاعِثًا لِلْأُمَّةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ بِدُونِهِ وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمِلَلِ الَّتِي كَانَ لَهَا كُتُبٌ وَتَشْرِيعٌ دِينِيٌّ وَمَدَنِيٌّ، ثُمَّ فُقِدَتْ كُتُبُهُمْ أَوْ حُرِّفَتْ وَاسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ - يُؤْمِنُونَ بِحَيَاةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَجَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلَكِنَّ إِيمَانَهُمْ هَذَا قَدْ شَابَهُ الْفَسَادُ بِبِنَائِهِ عَلَى بِدَعٍ ذَهَبَتْ بِجُلِّ فَائِدَتِهِ فِي إِصْلَاحِ النَّاسِ. وَأَسَاسُهَا عِنْدَ الْهُنُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُدَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ وَخَلْفِ النَّصَارَى - وُجُودُ الْمُخَلِّصِ الْفَادِي، الَّذِي يُخَلِّصُ النَّاسَ مِنْ عُقُوبَةِ الْخَطَايَا وَيَفْدِيهِمْ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ الْأُقْنُومُ الثَّانِي مِنَ الثَّالُوثِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنُ الْآخَرِ. وَكُلُّ مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى فِي فِدَاءِ الْمَسِيحِ لِلْبَشَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ نُسْخَةٌ مُطَابِقَةٌ لِمَا يَقُولُهُ الْهُنُودُ فِي (كَرْشَنَةَ) فِي اللَّفْظِ وَالْفَحْوَى كَمَا تَقَدَّمَ، لَا يَخْتَلِفَانِ إِلَّا فِي الِاسْمَيْنِ: كَرْشَنَةَ، وَيَسُوعَ.
وَأَمَّا الْيَهُودُ فَكُلُّ دِيَانَتِهِمْ خَاصَّةٌ بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ وَمُحَابَاةِ اللهِ تَعَالَى لَهُ عَلَى سَائِرِ الشُّعُوبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيُسَمُّونَهُ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ كَأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَحْدَهُمْ لَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَدِيَانَتُهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْمَادِّيَّةِ مِنْهَا إِلَى الرُّوحِيَّةِ. فَكَانَ فَسَادُ الْإِيمَانِ بِهَذَا الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ تَابِعًا لِفَسَادِ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتُهُ، وَمُحْتَاجًا إِلَى الْإِصْلَاحِ مِثْلَهُ.
جَاءَ الْقُرْآنُ لِلْبَشَرِ بِهَذَا الْإِصْلَاحِ، فَقَدْ أَعَادَ دِينَ النَّبِيِّينَ فِي الْجَزَاءِ إِلَى أَصْلِهِ الْمَعْقُولِ، وَهُوَ مَا كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْإِنْسَانَ مِنْ جَعْلِ سَعَادَتِهِ وَشَقَائِهِ مَنُوطَيْنِ بِإِيمَانِهِ
وَعَمَلِهِ، اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ كَسْبِهِ وَسَعْيِهِ لَا مَنْ عَمْلِ غَيْرِهِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي يَكُونُ بِعَدْلِ اللهِ تَعَالَى بَيْنَ جَمِيعِ خَلْقِهِ بِدُونِ مُحَابَاةِ شَعْبٍ عَلَى شَعْبٍ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَكُونُ بِمُقْتَضَى الْفَضْلِ، فَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَقَدْ يُضَاعِفُهَا اللهُ تَعَالَى أَضْعَافًا كَثِيرَةً.
وَمَدَارُ كُلِّ ذَلِكَ قَاعِدَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (٩١: ٧ - ١٠) أَيْ إِنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ النَّفْسَ وَسَوَّاهَا بِمَا وَهَبَهَا مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ. قَدْ جَعَلَهَا بِإِلْهَامِ الْفِطْرَةِ وَالْغَرِيزَةِ مُسْتَعِدَّةً لِلْفُجُورِ الَّذِي يُرْدِيهَا وَيُدَسِّيهَا، وَالتَّقْوَى الَّتِي تُنْجِيهَا وَتُعْلِيهَا، وَمُتَمَكِّنَةً مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِإِرَادَتِهَا، وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ خَوَاطِرِهَا وَمَطَالِبِهَا. وَمَنْحِهَا الْعَقْلَ وَالدِّينَ يُرَجِّحَانِ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، فَبِقَدْرِ طَهَارَةِ النَّفْسِ وَأَثَرِ تَزْكِيَتِهَا بِالْإِيمَانِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، يَكُونُ ارْتِقَاؤُهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَالضِّدُّ بِالضِّدِّ فَالْجَزَاءُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْعَمَلِ النَّفْسِيِّ وَالْبَدَنِيِّ الَّذِي يُزَكِّي
وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّانِي. وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَقَدْ كَانَ جُلُّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ يُنْكِرُونَهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَلَا يَكْمُلُ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى وَيَكُونُ بَاعِثًا لِلْأُمَّةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ بِدُونِهِ وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمِلَلِ الَّتِي كَانَ لَهَا كُتُبٌ وَتَشْرِيعٌ دِينِيٌّ وَمَدَنِيٌّ، ثُمَّ فُقِدَتْ كُتُبُهُمْ أَوْ حُرِّفَتْ وَاسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ - يُؤْمِنُونَ بِحَيَاةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَجَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلَكِنَّ إِيمَانَهُمْ هَذَا قَدْ شَابَهُ الْفَسَادُ بِبِنَائِهِ عَلَى بِدَعٍ ذَهَبَتْ بِجُلِّ فَائِدَتِهِ فِي إِصْلَاحِ النَّاسِ. وَأَسَاسُهَا عِنْدَ الْهُنُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُدَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ وَخَلْفِ النَّصَارَى - وُجُودُ الْمُخَلِّصِ الْفَادِي، الَّذِي يُخَلِّصُ النَّاسَ مِنْ عُقُوبَةِ الْخَطَايَا وَيَفْدِيهِمْ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ الْأُقْنُومُ الثَّانِي مِنَ الثَّالُوثِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنُ الْآخَرِ. وَكُلُّ مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى فِي فِدَاءِ الْمَسِيحِ لِلْبَشَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ نُسْخَةٌ مُطَابِقَةٌ لِمَا يَقُولُهُ الْهُنُودُ فِي (كَرْشَنَةَ) فِي اللَّفْظِ وَالْفَحْوَى كَمَا تَقَدَّمَ، لَا يَخْتَلِفَانِ إِلَّا فِي الِاسْمَيْنِ: كَرْشَنَةَ، وَيَسُوعَ.
وَأَمَّا الْيَهُودُ فَكُلُّ دِيَانَتِهِمْ خَاصَّةٌ بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ وَمُحَابَاةِ اللهِ تَعَالَى لَهُ عَلَى سَائِرِ الشُّعُوبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيُسَمُّونَهُ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ كَأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَحْدَهُمْ لَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَدِيَانَتُهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْمَادِّيَّةِ مِنْهَا إِلَى الرُّوحِيَّةِ. فَكَانَ فَسَادُ الْإِيمَانِ بِهَذَا الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ تَابِعًا لِفَسَادِ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتُهُ، وَمُحْتَاجًا إِلَى الْإِصْلَاحِ مِثْلَهُ.
جَاءَ الْقُرْآنُ لِلْبَشَرِ بِهَذَا الْإِصْلَاحِ، فَقَدْ أَعَادَ دِينَ النَّبِيِّينَ فِي الْجَزَاءِ إِلَى أَصْلِهِ الْمَعْقُولِ، وَهُوَ مَا كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْإِنْسَانَ مِنْ جَعْلِ سَعَادَتِهِ وَشَقَائِهِ مَنُوطَيْنِ بِإِيمَانِهِ
وَعَمَلِهِ، اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ كَسْبِهِ وَسَعْيِهِ لَا مَنْ عَمْلِ غَيْرِهِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي يَكُونُ بِعَدْلِ اللهِ تَعَالَى بَيْنَ جَمِيعِ خَلْقِهِ بِدُونِ مُحَابَاةِ شَعْبٍ عَلَى شَعْبٍ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَكُونُ بِمُقْتَضَى الْفَضْلِ، فَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَقَدْ يُضَاعِفُهَا اللهُ تَعَالَى أَضْعَافًا كَثِيرَةً.
وَمَدَارُ كُلِّ ذَلِكَ قَاعِدَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (٩١: ٧ - ١٠) أَيْ إِنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ النَّفْسَ وَسَوَّاهَا بِمَا وَهَبَهَا مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ. قَدْ جَعَلَهَا بِإِلْهَامِ الْفِطْرَةِ وَالْغَرِيزَةِ مُسْتَعِدَّةً لِلْفُجُورِ الَّذِي يُرْدِيهَا وَيُدَسِّيهَا، وَالتَّقْوَى الَّتِي تُنْجِيهَا وَتُعْلِيهَا، وَمُتَمَكِّنَةً مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِإِرَادَتِهَا، وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ خَوَاطِرِهَا وَمَطَالِبِهَا. وَمَنْحِهَا الْعَقْلَ وَالدِّينَ يُرَجِّحَانِ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، فَبِقَدْرِ طَهَارَةِ النَّفْسِ وَأَثَرِ تَزْكِيَتِهَا بِالْإِيمَانِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، يَكُونُ ارْتِقَاؤُهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَالضِّدُّ بِالضِّدِّ فَالْجَزَاءُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْعَمَلِ النَّفْسِيِّ وَالْبَدَنِيِّ الَّذِي يُزَكِّي
174
النَّفْسَ أَوْ يُدَسِّيهَا وَيُدَنِّسُهَا، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُثْبِتُهُ مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ، وَحِكْمَةَ الدَّيَّانِ وَهُوَ مِمَّا أَصْلَحَهُ الْقُرْآنُ مِنْ تَعَالِيمِ الْأَدْيَانِ.
فَإِذَا عَلِمْتَ مَا كَانَ مِنْ إِنْكَارِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَمِنْ فَسَادِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرِ الْمِلَلِ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَعَلِمْتَ أَنَّهَا مُكَمِّلَةٌ لِلْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ تَذَكُّرَهَا هُوَ الَّذِي يُقَوِّي الْوَازِعَ النَّفْسِيَّ الَّذِي يَصُدُّ الْإِنْسَانَ عَنِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ، وَيُرَغِّبُهُ فِي الْتِزَامِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَعَمَلِ الْبِرِّ - عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ لِيَفْعَلَ فِعْلَهُ الْعَاجِلَ فِي شَعْبٍ كَبِيرٍ إِلَّا بِتَكْرَارِهِ فِي الْقُرْآنِ بِالْأَسَالِيبِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْبَيَانِ، وَتَقْرِيبِ الْبَعِيدِ مِنَ الْأَذْهَانِ. تَارَةً بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَتَارَةً بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، لَعَلَّهَا تَبْلُغُ الْمِئَاتِ، وَمِنْ إِعْجَازِهِ أَنَّهَا لَا تُمَلُّ وَلَا تُسْأَمُ.
الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، مِنْ لَوَازِمَ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ الْمُتَّصِفِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، الْمُنَزَّهِ عَنِ الْبَعْثِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ أَظْهَرِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (٢٣: ١١٥) وَقَوْلُهُ: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (٧٥: ٣٦ - ٤٠) فَكُفْرُ الْإِنْسَانِ بِهَذَا الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ يَسْتَلْزِمُ كُفْرَهُ بِحِكْمَةِ رَبِّهِ وَعَدْلِهِ فِي خَلْقِهِ، وَكُفْرَهُ بِنِعْمَتِهِ بِخَلْقِهِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَتَفْضِيلِهِ عَلَى أَهْلِ عِلَلِهِ (الْأَرْضِ) حَيْثُ سَخَّرَهَا وَكُلَّ مَا فِيهَا لِمَنَافِعِهِ، وَعَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي وَعَدَهُ بِمَصِيرِهِ إِلَيْهِ وَجِهَادٍ بِمَا وَهَبَهُ مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْقُوَى وَالْعَقْلِ، وَجَهْلِهِ بِحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ مُسْتَعِدًّا لِمَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَنِهَايَةٌ مِنَ الْعِلْمِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ خُلِقَ لِحَيَاةٍ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا نِهَايَةَ - وَمِنْ لَوَازِمَ هَذَا الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ كُلِّهِ، احْتِقَارُهُ لِنَفْسِهِ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ خُلِقَ عَبَثًا لَا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَأَنَّ وُجُودَهُ فِي الْأَرْضِ مَوْقُوتٌ مَحْدُودٌ بِهَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، الْمُنَغَّصِ بِالْهُمُومِ وَالْمَصَائِبِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْآثَامِ، وَأَنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى لَا يُجْزَى كُلُّ ظَالِمٍ مِنْ أَفْرَادِهِ بِظُلْمِهِ، وَكُلُّ عَادِلٍ بِعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ، وَإِذْ كَانَ هَذَا الْجَزَاءُ غَيْرَ مُطَّرِدٍ فِي الدُّنْيَا لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ جَزَاءُ الْآخِرَةِ هُوَ الْمَظْهَرَ الْأَكْبَرَ لِلْعَدْلِ الْعَامِّ.
وَمِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مُخَالِفًا لِمَا عِنْدَ النَّصَارَى مِنْ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ يَكُونُ إِنْسَانًا كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الْأَنْفُسِ الزَّكِيَّةِ وَالْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ يَكُونُونَ أَكْمَلَ أَرْوَاحًا وَأَجْسَادًا مِمَّا كَانُوا بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَصْحَابَ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ وَالْأَرْوَاحِ السَّافِلَةِ يَكُونُونَ أَنْقَصَ وَأَخْبَثَ مِمَّا كَانُوا بِتَدْسِيَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُعْلَمُ مِمَّا ثَبَتَ
فَإِذَا عَلِمْتَ مَا كَانَ مِنْ إِنْكَارِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَمِنْ فَسَادِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرِ الْمِلَلِ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَعَلِمْتَ أَنَّهَا مُكَمِّلَةٌ لِلْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ تَذَكُّرَهَا هُوَ الَّذِي يُقَوِّي الْوَازِعَ النَّفْسِيَّ الَّذِي يَصُدُّ الْإِنْسَانَ عَنِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ، وَيُرَغِّبُهُ فِي الْتِزَامِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَعَمَلِ الْبِرِّ - عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ لِيَفْعَلَ فِعْلَهُ الْعَاجِلَ فِي شَعْبٍ كَبِيرٍ إِلَّا بِتَكْرَارِهِ فِي الْقُرْآنِ بِالْأَسَالِيبِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْبَيَانِ، وَتَقْرِيبِ الْبَعِيدِ مِنَ الْأَذْهَانِ. تَارَةً بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَتَارَةً بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، لَعَلَّهَا تَبْلُغُ الْمِئَاتِ، وَمِنْ إِعْجَازِهِ أَنَّهَا لَا تُمَلُّ وَلَا تُسْأَمُ.
الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، مِنْ لَوَازِمَ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ الْمُتَّصِفِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، الْمُنَزَّهِ عَنِ الْبَعْثِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ أَظْهَرِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (٢٣: ١١٥) وَقَوْلُهُ: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (٧٥: ٣٦ - ٤٠) فَكُفْرُ الْإِنْسَانِ بِهَذَا الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ يَسْتَلْزِمُ كُفْرَهُ بِحِكْمَةِ رَبِّهِ وَعَدْلِهِ فِي خَلْقِهِ، وَكُفْرَهُ بِنِعْمَتِهِ بِخَلْقِهِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَتَفْضِيلِهِ عَلَى أَهْلِ عِلَلِهِ (الْأَرْضِ) حَيْثُ سَخَّرَهَا وَكُلَّ مَا فِيهَا لِمَنَافِعِهِ، وَعَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي وَعَدَهُ بِمَصِيرِهِ إِلَيْهِ وَجِهَادٍ بِمَا وَهَبَهُ مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْقُوَى وَالْعَقْلِ، وَجَهْلِهِ بِحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ مُسْتَعِدًّا لِمَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَنِهَايَةٌ مِنَ الْعِلْمِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ خُلِقَ لِحَيَاةٍ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا نِهَايَةَ - وَمِنْ لَوَازِمَ هَذَا الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ كُلِّهِ، احْتِقَارُهُ لِنَفْسِهِ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ خُلِقَ عَبَثًا لَا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَأَنَّ وُجُودَهُ فِي الْأَرْضِ مَوْقُوتٌ مَحْدُودٌ بِهَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، الْمُنَغَّصِ بِالْهُمُومِ وَالْمَصَائِبِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْآثَامِ، وَأَنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى لَا يُجْزَى كُلُّ ظَالِمٍ مِنْ أَفْرَادِهِ بِظُلْمِهِ، وَكُلُّ عَادِلٍ بِعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ، وَإِذْ كَانَ هَذَا الْجَزَاءُ غَيْرَ مُطَّرِدٍ فِي الدُّنْيَا لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ جَزَاءُ الْآخِرَةِ هُوَ الْمَظْهَرَ الْأَكْبَرَ لِلْعَدْلِ الْعَامِّ.
وَمِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مُخَالِفًا لِمَا عِنْدَ النَّصَارَى مِنْ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ يَكُونُ إِنْسَانًا كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الْأَنْفُسِ الزَّكِيَّةِ وَالْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ يَكُونُونَ أَكْمَلَ أَرْوَاحًا وَأَجْسَادًا مِمَّا كَانُوا بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَصْحَابَ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ وَالْأَرْوَاحِ السَّافِلَةِ يَكُونُونَ أَنْقَصَ وَأَخْبَثَ مِمَّا كَانُوا بِتَدْسِيَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُعْلَمُ مِمَّا ثَبَتَ
175
عَنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقْدَمِينَ أَنَّ الْأَدْيَانَ الْقَدِيمَةَ كَانَتْ تُعْلِمُ النَّاسَ عَقِيدَةَ الْبَعْثِ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ.
وَلَوْ كَانَ الْبَعْثُ لِلْأَرْوَاحِ وَحْدَهَا لَنَقَصَ مِنْ مَلَكُوتِ اللهِ تَعَالَى هَذَا النَّوْعُ الْكَرِيمُ الْمُكَرَّمُ مِنَ الْخَلْقِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ رُوحٍ وَجَسَدٍ، فَهُوَ يُدْرِكُ اللَّذَّاتِ الرُّوحِيَّةَ وَاللَّذَّاتِ الْجُثْمَانِيَّةَ، وَيَتَحَقَّقُ بِحِكَمِ اللهِ (جَمْعُ حِكْمَةٍ) وَأَسْرَارِ صُنْعِهِ فِيهِمَا مَعًا، مِنْ حَيْثُ حَرَمَ الْحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ مِنَ الْأُولَى وَالْمَلَائِكَةَ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَمَا جَنَحَ مَنْ جَنَحَ مِنْ أَصْحَابِ النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةِ إِلَى الْبَعْثِ الرُّوحَانِيِّ الْمُجَرِّدِ، إِلَّا لِاحْتِقَارِهِمْ لِلَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ
وَتَسْمِيَتِهَا بِالْحَيَوَانِيَّةِ مَعَ شَغَفِ أَكْثَرِهِمْ بِهَا، وَإِنَّمَا تَكُونُ نَقْصًا فِي الْإِنْسَانِ إِذَا سَخَّرَ عَقَلَهُ وَقُوَاهُ لَهَا وَحْدَهَا، حَتَّى يَصْرِفَهُ اشْتِغَالُهُ بِهَا عَنِ اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ بِالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَأَصْلُ هَذَا الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ غُلُوُّ الْهُنُودِ فِي احْتِقَارِ الْجَسَدِ وَتَرْبِيَةِ النَّفْسِ بِالرِّيَاضَةِ وَتَعْذِيبِ الْجَسَدِ، وَتَبِعَهُمْ فِيهِ نُسَّاكُ النَّصَارَى كَمَا تَبِعُوهُمْ فِي عَقِيدَةِ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ وَالتَّثْلِيثِ، عَلَى أَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَرِبَ الْخَمْرَ مَعَ تَلَامِيذِهِ لَمَّا وَدَّعَهُمْ فِي الْفِصْحِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي مِنَ الْآنَ لَا أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هَذَا إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ أَبِي (مَتَّى ٢٦: ٢٩) وَجَرَى الْيَهُودُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ. وَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِالِاعْتِدَالِ فَأَعْطَى الْإِنْسَانَ جَمِيعَ حُقُوقِهِ، وَطَالَبَهُ بِمَا يَكُونُ بِهَا كَامِلًا فِي إِنْسَانِيَّتِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ جَمِيعِ أَطْرَافِهَا الْعِلْمِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَكَشْفِ شُبَهَاتِهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، الَّتِي هِيَ أَجْمَعُ سُوَرِ الْقُرْآنِ لِمَسَائِلِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْبَعْثِ وَالرِّسَالَةِ، وَدَحْضِ شُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهَا ص ٤١٧ - ٤٢٧ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ.
وَيُؤْخَذُ مِمَّا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ صِفَةِ حَيَاةِ الْآخِرَةِ أَنَّ الْقُوَى الرُّوحِيَّةَ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ وَالْمُتَصَرِّفَةَ فِي الْأَجْسَادِ، فَتَكُونُ قَادِرَةً عَلَى التَّشَكُّلِ بِالصُّوَرِ اللَّطِيفَةِ وَقَطْعِ الْمَسَافَاتِ الْبَعِيدَةِ فِي الْمُدَّةِ الْقَرِيبَةِ، وَالتَّخَاطُبِ بِالْكَلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ - وَإِنَّ تَرَقِّيَ الْبَشَرِ فِي عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ وَخَوَاصِّ الْكَهْرَبَاءِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْآلَاتِ فِي عَصْرِنَا قَدْ قَرَّبَ كُلَّ هَذَا مِنْ حِسِّ الْإِنْسَانِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَادِّيُّونَ الْمُلْحِدُونَ يُعِدُّونَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٧: ٤٤) مِنْ تَخَيُّلَاتِ مُحَمَّدٍ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نُخَاطِبُ مِنْ مِصْرَ أَهْلَ عَوَاصِمِ أُورُبَّةَ بِآلَةِ التِّلِيفُونِ، وَنَسْمَعُ خُطَبَهُمْ وَمَعَازِفَهُمْ بِآلَةِ الرَّادْيُو وَسَنَرَاهُمْ وَيَرَوْنَنَا بِآلَةِ التِّلِيفِزْيُونْ مَعَ التَّخَاطُبِ حِينَمَا يَعُمُّ انْتِشَارُهَا.
وَأَمَّا عُلَمَاءُ الرُّوحِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ فَقَدْ قَرَّرُوا أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ قَادِرَةٌ عَلَى التَّشَكُّلِ فِي أَجْسَادٍ تَأْخُذُهَا مِنْ مَادَّةِ الْكَوْنِ كَمَا يَقُولُ الصُّوفِيَّةُ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَوْ مَسَائِلُ قَدْ شَرَحْنَاهَا
وَلَوْ كَانَ الْبَعْثُ لِلْأَرْوَاحِ وَحْدَهَا لَنَقَصَ مِنْ مَلَكُوتِ اللهِ تَعَالَى هَذَا النَّوْعُ الْكَرِيمُ الْمُكَرَّمُ مِنَ الْخَلْقِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ رُوحٍ وَجَسَدٍ، فَهُوَ يُدْرِكُ اللَّذَّاتِ الرُّوحِيَّةَ وَاللَّذَّاتِ الْجُثْمَانِيَّةَ، وَيَتَحَقَّقُ بِحِكَمِ اللهِ (جَمْعُ حِكْمَةٍ) وَأَسْرَارِ صُنْعِهِ فِيهِمَا مَعًا، مِنْ حَيْثُ حَرَمَ الْحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ مِنَ الْأُولَى وَالْمَلَائِكَةَ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَمَا جَنَحَ مَنْ جَنَحَ مِنْ أَصْحَابِ النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةِ إِلَى الْبَعْثِ الرُّوحَانِيِّ الْمُجَرِّدِ، إِلَّا لِاحْتِقَارِهِمْ لِلَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ
وَتَسْمِيَتِهَا بِالْحَيَوَانِيَّةِ مَعَ شَغَفِ أَكْثَرِهِمْ بِهَا، وَإِنَّمَا تَكُونُ نَقْصًا فِي الْإِنْسَانِ إِذَا سَخَّرَ عَقَلَهُ وَقُوَاهُ لَهَا وَحْدَهَا، حَتَّى يَصْرِفَهُ اشْتِغَالُهُ بِهَا عَنِ اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ بِالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَأَصْلُ هَذَا الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ غُلُوُّ الْهُنُودِ فِي احْتِقَارِ الْجَسَدِ وَتَرْبِيَةِ النَّفْسِ بِالرِّيَاضَةِ وَتَعْذِيبِ الْجَسَدِ، وَتَبِعَهُمْ فِيهِ نُسَّاكُ النَّصَارَى كَمَا تَبِعُوهُمْ فِي عَقِيدَةِ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ وَالتَّثْلِيثِ، عَلَى أَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَرِبَ الْخَمْرَ مَعَ تَلَامِيذِهِ لَمَّا وَدَّعَهُمْ فِي الْفِصْحِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي مِنَ الْآنَ لَا أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هَذَا إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ أَبِي (مَتَّى ٢٦: ٢٩) وَجَرَى الْيَهُودُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ. وَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِالِاعْتِدَالِ فَأَعْطَى الْإِنْسَانَ جَمِيعَ حُقُوقِهِ، وَطَالَبَهُ بِمَا يَكُونُ بِهَا كَامِلًا فِي إِنْسَانِيَّتِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ جَمِيعِ أَطْرَافِهَا الْعِلْمِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَكَشْفِ شُبَهَاتِهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، الَّتِي هِيَ أَجْمَعُ سُوَرِ الْقُرْآنِ لِمَسَائِلِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْبَعْثِ وَالرِّسَالَةِ، وَدَحْضِ شُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهَا ص ٤١٧ - ٤٢٧ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ.
وَيُؤْخَذُ مِمَّا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ صِفَةِ حَيَاةِ الْآخِرَةِ أَنَّ الْقُوَى الرُّوحِيَّةَ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ وَالْمُتَصَرِّفَةَ فِي الْأَجْسَادِ، فَتَكُونُ قَادِرَةً عَلَى التَّشَكُّلِ بِالصُّوَرِ اللَّطِيفَةِ وَقَطْعِ الْمَسَافَاتِ الْبَعِيدَةِ فِي الْمُدَّةِ الْقَرِيبَةِ، وَالتَّخَاطُبِ بِالْكَلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ - وَإِنَّ تَرَقِّيَ الْبَشَرِ فِي عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ وَخَوَاصِّ الْكَهْرَبَاءِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْآلَاتِ فِي عَصْرِنَا قَدْ قَرَّبَ كُلَّ هَذَا مِنْ حِسِّ الْإِنْسَانِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَادِّيُّونَ الْمُلْحِدُونَ يُعِدُّونَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٧: ٤٤) مِنْ تَخَيُّلَاتِ مُحَمَّدٍ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نُخَاطِبُ مِنْ مِصْرَ أَهْلَ عَوَاصِمِ أُورُبَّةَ بِآلَةِ التِّلِيفُونِ، وَنَسْمَعُ خُطَبَهُمْ وَمَعَازِفَهُمْ بِآلَةِ الرَّادْيُو وَسَنَرَاهُمْ وَيَرَوْنَنَا بِآلَةِ التِّلِيفِزْيُونْ مَعَ التَّخَاطُبِ حِينَمَا يَعُمُّ انْتِشَارُهَا.
وَأَمَّا عُلَمَاءُ الرُّوحِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ فَقَدْ قَرَّرُوا أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ قَادِرَةٌ عَلَى التَّشَكُّلِ فِي أَجْسَادٍ تَأْخُذُهَا مِنْ مَادَّةِ الْكَوْنِ كَمَا يَقُولُ الصُّوفِيَّةُ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَوْ مَسَائِلُ قَدْ شَرَحْنَاهَا
176
مِنْ قَبْلُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَإِنَّمَا نَذْكُرُهَا هُنَا بِالْإِجْمَالِ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمِنْ عَقْلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلْهَامَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ.
وَيُنَاسِبُ هَذَا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَبَأِ خَرَابِ الْعَالِمِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ الَّتِي هِيَ بَدْءُ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَلَا هُوَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَكَائِهِ أَوْ نَظَرِيَّاتِهِ الْعَقْلِيَّةِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ قَارِعَةً - وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَوْكَبٌ - تَقْرَعُ الْأَرْضَ وَتَصُخُّهَا صَخًّا وَتَرُجُّهَا رَجًّا فَتَكُونُ هَبَاءً (غُبَارًا رَقِيقًا) مُنْبَثًّا فِي الْفَضَاءِ وَحِينَئِذٍ يَخْتَلُّ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ بِالْجَاذِبِيَّةِ لِلْعَامَّةِ فَتَتَنَاثَرُ الْكَوَاكِبُ إِلَخْ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَهُ مِنْ أَحَدٍ فِي بَلَدِهِ أَوْ فِي سَفَرِهِ وَلَا يَعْقِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ بِرَأْيِهِ وَفِكْرِهِ، فَهُوَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَدْحَضُ زَعْمَ الْقَائِلِينَ بِالْوَحْيِ النَّفْسِيِّ وَقَدْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْمُعَاصِرِينَ بِأَنَّ خَرَابَ الْعَالَمِ بِهَذَا السَّبَبِ هُوَ أَقْرَبُ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ لِخَرَابِهِ.
(الرُّكْنُ الثَّالِثُ لِلدِّينِ الْعَمَلُ الصَّالِحِ)
وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ مَقَاصِدِ بَعْثَةِ الرُّسُلِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَهُوَ مُكَرَّرٌ فِي الْقُرْآنِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ ; لِإِصْلَاحِ مَا أَفْسَدَهُ الْبَشَرُ فِيهِ بِجَعْلِهِ تَقْلِيدِيًّا غَيْرَ مُزَكٍّ النَّفْسَ وَلَا مُصْلِحٍ لِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنْ دُونَ تَكْرَارِ تَوْحِيدِ اللهِ وَتَقْدِيسِهِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَتْبَعُهُ، وَلَوْلَا الْحَاجَةُ إِلَى هَذَا التَّكْرَارِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْثِيرِ لَكَانَتْ سُورَةُ الْعَصْرِ كَافِيَةً فِي الْإِصْلَاحِ الْعِلْمِيِّ الْعَمَلِيِّ عَلَى قِصَرِهَا، كَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ فِي الرُّكْنِ الْأَوَّلِ الِاعْتِقَادِيِّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا تُكْتَبُ فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ، فَهُمَا مِنْ مُعْجِزَاتِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ بِاللهِ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى ; لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ عَرَفَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالْعِبَادَةِ وَالْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ، وَهُوَ مِنْ لَوَازِمَ الْإِيمَانِ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ وَرَجَاءً فِي الثَّوَابِ.
وَيَدْخُلُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْعِبَادَاتُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَسَائِرُ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي تُرْضِيهِ بِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي صَلَاحِ الْبَشَرِ كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِكْرَامِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. وَمِنْ أُصُولِهِ الْوَصَايَا الْجَامِعَةُ فِي آيَاتِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ:
(وَقَضَى رَبُّكَ) إِلَى قَوْلِهِ: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) (١٧: ٢٣ - ٣٩) إِلَخْ وَهِيَ أَجْمَعُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ. وَآيَاتُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) (٦: ١٥١) إِلَخْ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنَ الْحَثِّ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَالزَّجْرِ عَنِ الرَّذَائِلِ وَالْمَعَاصِي الضَّارَّةِ
وَيُنَاسِبُ هَذَا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَبَأِ خَرَابِ الْعَالِمِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ الَّتِي هِيَ بَدْءُ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَلَا هُوَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَكَائِهِ أَوْ نَظَرِيَّاتِهِ الْعَقْلِيَّةِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ قَارِعَةً - وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَوْكَبٌ - تَقْرَعُ الْأَرْضَ وَتَصُخُّهَا صَخًّا وَتَرُجُّهَا رَجًّا فَتَكُونُ هَبَاءً (غُبَارًا رَقِيقًا) مُنْبَثًّا فِي الْفَضَاءِ وَحِينَئِذٍ يَخْتَلُّ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ بِالْجَاذِبِيَّةِ لِلْعَامَّةِ فَتَتَنَاثَرُ الْكَوَاكِبُ إِلَخْ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَهُ مِنْ أَحَدٍ فِي بَلَدِهِ أَوْ فِي سَفَرِهِ وَلَا يَعْقِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ بِرَأْيِهِ وَفِكْرِهِ، فَهُوَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَدْحَضُ زَعْمَ الْقَائِلِينَ بِالْوَحْيِ النَّفْسِيِّ وَقَدْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْمُعَاصِرِينَ بِأَنَّ خَرَابَ الْعَالَمِ بِهَذَا السَّبَبِ هُوَ أَقْرَبُ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ لِخَرَابِهِ.
(الرُّكْنُ الثَّالِثُ لِلدِّينِ الْعَمَلُ الصَّالِحِ)
وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ مَقَاصِدِ بَعْثَةِ الرُّسُلِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَهُوَ مُكَرَّرٌ فِي الْقُرْآنِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ ; لِإِصْلَاحِ مَا أَفْسَدَهُ الْبَشَرُ فِيهِ بِجَعْلِهِ تَقْلِيدِيًّا غَيْرَ مُزَكٍّ النَّفْسَ وَلَا مُصْلِحٍ لِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنْ دُونَ تَكْرَارِ تَوْحِيدِ اللهِ وَتَقْدِيسِهِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَتْبَعُهُ، وَلَوْلَا الْحَاجَةُ إِلَى هَذَا التَّكْرَارِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْثِيرِ لَكَانَتْ سُورَةُ الْعَصْرِ كَافِيَةً فِي الْإِصْلَاحِ الْعِلْمِيِّ الْعَمَلِيِّ عَلَى قِصَرِهَا، كَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ فِي الرُّكْنِ الْأَوَّلِ الِاعْتِقَادِيِّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا تُكْتَبُ فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ، فَهُمَا مِنْ مُعْجِزَاتِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ بِاللهِ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى ; لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ عَرَفَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالْعِبَادَةِ وَالْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ، وَهُوَ مِنْ لَوَازِمَ الْإِيمَانِ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ وَرَجَاءً فِي الثَّوَابِ.
وَيَدْخُلُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْعِبَادَاتُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَسَائِرُ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي تُرْضِيهِ بِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي صَلَاحِ الْبَشَرِ كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِكْرَامِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. وَمِنْ أُصُولِهِ الْوَصَايَا الْجَامِعَةُ فِي آيَاتِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ:
(وَقَضَى رَبُّكَ) إِلَى قَوْلِهِ: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) (١٧: ٢٣ - ٣٩) إِلَخْ وَهِيَ أَجْمَعُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ. وَآيَاتُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) (٦: ١٥١) إِلَخْ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنَ الْحَثِّ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَالزَّجْرِ عَنِ الرَّذَائِلِ وَالْمَعَاصِي الضَّارَّةِ
177
بِالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ، وَمَثَارُهَا الْأَكْبَرُ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطَاعَةُ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. وَيُضَمِّدُهُمَا مَلَكَةُ التَّقْوَى، فَهِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَا يَقِي النَّفْسَ مِنْ كُلِّ مَا يُدَنِّسُهَا وَتَسُوءُ بِهِ عَاقِبَتُهَا فِي الدُّنْيَا أَوِ الْآخِرَةِ وَلِهَذَا تُذْكَرُ فِي الْمَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي (ص ٥٣٨ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ) وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِالشَّوَاهِدِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا.
وَسُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي الْإِرْشَادِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَيَانُ أُصُولِهَا وَمَجَامِعِهَا، وَتَكْرَارُ التَّذْكِيرِ بِهَا بِالْإِجْمَالِ، وَأَكْثَرُ مَا يَحُثُّ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ الْعِبَادَةُ الرُّوحِيَّةُ الْعُلْيَا وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ الْمُثْلَى، وَالزَّكَاةُ الَّتِي هِيَ الْعِبَادَةُ الْمَالِيَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الْكُبْرَى، كَرَّرَ الْأَمْرَ بِهِمَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَبَيَّنَ أَهَمَّ مَنَافِعِهِمَا بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (٢٩: ٤٥) وَقَوْلِهِ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٧٠: ١٩ - ٢٦) الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (٩: ١٠٣).
وَلَمْ يُكَرِّرْ مَا يُحْفَظُ بِالْعَمَلِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالرَّسُولِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ بَلْ لَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا إِلَّا لِمَا لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ خَاصَّةٌ، وَذُكِرَتْ فِيهِ أَحْكَامُ الصِّيَامِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ عَدَدُ الرَّكَعَاتِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَلَا عَدَدُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلَا نِصَابُ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ ; لِأَنَّ كُلَّ هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيَانِ الرَّسُولِ وَيُحْفَظُ بِالْعَمَلِ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ وَلَا تَغْذِيَةٌ لِلْإِيمَانِ.
تَرْجِيحُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَلَى فَضَائِلِ الْإِنْجِيلِ:
وَأَذْكُرُ فَضِيلَتَيْنِ مِنْ فَضَائِلِهِ يَزْعُمُ النَّصَارَى أَنَّ مَا هُوَ مَأْثُورٌ عِنْدَهُمْ فِيهَا أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ:
(الْأُولَى) قَوْلُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ. وَمَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ الْأَيْمَنِ
فَأَدِرْ لَهُ الْأَيْسَرَ)) وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ امْتِثَالَ هَذِهِ الْأَوَامِرِ يَتَعَذَّرُ عَلَى غَيْرِ الْأَذِلَّةِ الْمُسْتَعْبَدِينَ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ بِإِغْرَاءِ الْأَقْوِيَاءِ بِالضُّعَفَاءِ الْخَاضِعِينَ، وَإِنَّكَ لَتَجِدُ أُعْصَى النَّاسِ لَهَا مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَسِيحِيِّينَ.
أَمْثَالُ هَذِهِ الْأَوَامِرِ لَا تَأْتِي فِي دِينِ الْفِطْرَةِ الْعَامِّ ; لِأَنَّ امْتِثَالَهَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَطَاعِ.
وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (٢: ٢٨٦) وَإِنَّمَا قَرَّرَ الْقُرْآنُ فِي مَوْضُوعِهَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالْمَصْلَحَةِ. قَالَ تَعَالَى:
وَسُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي الْإِرْشَادِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَيَانُ أُصُولِهَا وَمَجَامِعِهَا، وَتَكْرَارُ التَّذْكِيرِ بِهَا بِالْإِجْمَالِ، وَأَكْثَرُ مَا يَحُثُّ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ الْعِبَادَةُ الرُّوحِيَّةُ الْعُلْيَا وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ الْمُثْلَى، وَالزَّكَاةُ الَّتِي هِيَ الْعِبَادَةُ الْمَالِيَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الْكُبْرَى، كَرَّرَ الْأَمْرَ بِهِمَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَبَيَّنَ أَهَمَّ مَنَافِعِهِمَا بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (٢٩: ٤٥) وَقَوْلِهِ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٧٠: ١٩ - ٢٦) الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (٩: ١٠٣).
وَلَمْ يُكَرِّرْ مَا يُحْفَظُ بِالْعَمَلِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالرَّسُولِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ بَلْ لَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا إِلَّا لِمَا لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ خَاصَّةٌ، وَذُكِرَتْ فِيهِ أَحْكَامُ الصِّيَامِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ عَدَدُ الرَّكَعَاتِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَلَا عَدَدُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلَا نِصَابُ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ ; لِأَنَّ كُلَّ هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيَانِ الرَّسُولِ وَيُحْفَظُ بِالْعَمَلِ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ وَلَا تَغْذِيَةٌ لِلْإِيمَانِ.
تَرْجِيحُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَلَى فَضَائِلِ الْإِنْجِيلِ:
وَأَذْكُرُ فَضِيلَتَيْنِ مِنْ فَضَائِلِهِ يَزْعُمُ النَّصَارَى أَنَّ مَا هُوَ مَأْثُورٌ عِنْدَهُمْ فِيهَا أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ:
(الْأُولَى) قَوْلُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ. وَمَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ الْأَيْمَنِ
فَأَدِرْ لَهُ الْأَيْسَرَ)) وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ امْتِثَالَ هَذِهِ الْأَوَامِرِ يَتَعَذَّرُ عَلَى غَيْرِ الْأَذِلَّةِ الْمُسْتَعْبَدِينَ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ بِإِغْرَاءِ الْأَقْوِيَاءِ بِالضُّعَفَاءِ الْخَاضِعِينَ، وَإِنَّكَ لَتَجِدُ أُعْصَى النَّاسِ لَهَا مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَسِيحِيِّينَ.
أَمْثَالُ هَذِهِ الْأَوَامِرِ لَا تَأْتِي فِي دِينِ الْفِطْرَةِ الْعَامِّ ; لِأَنَّ امْتِثَالَهَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَطَاعِ.
وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (٢: ٢٨٦) وَإِنَّمَا قَرَّرَ الْقُرْآنُ فِي مَوْضُوعِهَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالْمَصْلَحَةِ. قَالَ تَعَالَى:
178
(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٤٢: ٤٠ - ٤٣) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ لِلْمُسِيءِ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى الِانْتِصَارِ لِنَفْسِهِ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ فَضْلُهُ عَلَى مَنْ عَفَا عَنْهُ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِبْدَالِ الْمَوَدَّةِ بِالْعَدَاوَةِ، فِي مَكَانِ الْإِغْرَاءِ بِالتَّعَدِّي وَدَوَامِ الظُّلْمِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٤١: ٣٤، ٣٥) فَانْظُرْ كَيْفَ بَيَّنَ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ وَدَرَجَاتِهِ مِنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ. وَكَيْفَ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَحُكْمِ الْعَقْلِ، أَفَلَيْسَ هَذَا الْإِصْلَاحُ الْأَعْلَى عَلَى لِسَانِ أَفْضَلِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْشِدِينَ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ بِهِ الدِّينَ؟ بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَا يَجْحَدُهُ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فَكَانَ مِنَ الْجَاهِلِينَ.
(الثَّانِيَةُ) مُبَالَغَةُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا وَالْأَمْرِ بِتَرْكِهَا وَذَمِّ الْغَنِيِّ، حَتَّى جَعَلَ دُخُولَ الْجَمَلِ فِي ثُقْبِ الْإِبْرَةِ أَيْسَرَ مِنْ دُخُولِ الْغَنِيِّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. وَنَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَسَابِقَتَهَا إِنَّمَا كَانَتَا إِصْلَاحًا مُوَقَّتًا لِإِسْرَافِ الْيَهُودِ وَغُلُوِّهِمْ فِي عِبَادَةِ الْمَالِ حَتَّى أَفْسَدَ أَخْلَاقَهُمْ وَآثَرُوا دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ. وَالْغُلُوُّ يُقَاوَمُ مُوَقَّتًا بِضِدِّهِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ دَوْلَةُ الرُّومَانِ السَّالِبَةُ لِاسْتِقْلَالِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ دَوْلَةً مُسْرِفَةً فِي الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ.
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ دِينُ الْبَشَرِ الْعَامُّ الدَّائِمُ، فَلَا يُقَرَّرُ فِيهِ إِلَّا مَا هُوَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ذَمَّ اسْتِعْمَالَ الْمَالِ فِيمَا يَضُرُّ مِنَ الْإِسْرَافِ
وَالطُّغْيَانِ وَذَمَّ أَكْلَهُ بِالْبَاطِلِ وَمَنْعَ الْحُقُوقِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ، وَالْبُخْلَ بِهِ عَنِ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، وَمَدَحَ أَخْذَهُ بِحَقِّهِ، وَبَذْلَهُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْفَاقَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيُعِزُّ الْمِلَّةَ وَيُقَوِّي الْأُمَّةَ وَيَكُونُ عَوْنًا لَهَا عَلَى حِفْظِ حَقِيقَتِهَا وَاسْتِقْلَالِهَا - فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَا قَبْلَهَا مِمَّا أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الدِّينَ، فِيمَا أَوْحَاهُ مِنْ كِتَابِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَمَا كَانَ لِرَجُلٍ أُمِّيٍّ وَلَا مُتَعَلِّمٍ أَنْ يَصِلَ بِعَقْلِهِ إِلَى أَمْثَالِ هَذَا الْإِصْلَاحِ لِتَعَالِيمِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي يَتَعَبَّدُ بِهَا الْمَلَايِينُ مِنَ الْبَشَرِ وَلِكُتُبِ الْحُكَمَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ أَيْضًا، فَهَلِ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمْ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ !.
وَعَلَى ذِكْرِ الْفَلَاسِفَةِ أَذْكُرُ شُبْهَةً لِمُقَلِّدَتِهِمْ عَلَى الْفَضَائِلِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ الدِّينِيَّةِ، يَلُوكُونُهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَا يَعْقِلُونَ فَسَادَهَا، وَهِيَ أَنَّ الْكَمَالَ الْبَشَرِيَّ أَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ لِذَاتِهِ أَوْ لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَا لِعِلَّةٍ، وَيَعُدُّونَ مِنْ أَكْبَرِ الْعِلَلِ أَنْ يَعْمَلَهُ رَجَاءً فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ أَوْ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهَا، وَمَعْنَى هَذَا إِنْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أَنَّ مَنْ يَقْصِدُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ
(الثَّانِيَةُ) مُبَالَغَةُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا وَالْأَمْرِ بِتَرْكِهَا وَذَمِّ الْغَنِيِّ، حَتَّى جَعَلَ دُخُولَ الْجَمَلِ فِي ثُقْبِ الْإِبْرَةِ أَيْسَرَ مِنْ دُخُولِ الْغَنِيِّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. وَنَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَسَابِقَتَهَا إِنَّمَا كَانَتَا إِصْلَاحًا مُوَقَّتًا لِإِسْرَافِ الْيَهُودِ وَغُلُوِّهِمْ فِي عِبَادَةِ الْمَالِ حَتَّى أَفْسَدَ أَخْلَاقَهُمْ وَآثَرُوا دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ. وَالْغُلُوُّ يُقَاوَمُ مُوَقَّتًا بِضِدِّهِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ دَوْلَةُ الرُّومَانِ السَّالِبَةُ لِاسْتِقْلَالِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ دَوْلَةً مُسْرِفَةً فِي الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ.
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ دِينُ الْبَشَرِ الْعَامُّ الدَّائِمُ، فَلَا يُقَرَّرُ فِيهِ إِلَّا مَا هُوَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ذَمَّ اسْتِعْمَالَ الْمَالِ فِيمَا يَضُرُّ مِنَ الْإِسْرَافِ
وَالطُّغْيَانِ وَذَمَّ أَكْلَهُ بِالْبَاطِلِ وَمَنْعَ الْحُقُوقِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ، وَالْبُخْلَ بِهِ عَنِ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، وَمَدَحَ أَخْذَهُ بِحَقِّهِ، وَبَذْلَهُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْفَاقَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيُعِزُّ الْمِلَّةَ وَيُقَوِّي الْأُمَّةَ وَيَكُونُ عَوْنًا لَهَا عَلَى حِفْظِ حَقِيقَتِهَا وَاسْتِقْلَالِهَا - فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَا قَبْلَهَا مِمَّا أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الدِّينَ، فِيمَا أَوْحَاهُ مِنْ كِتَابِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَمَا كَانَ لِرَجُلٍ أُمِّيٍّ وَلَا مُتَعَلِّمٍ أَنْ يَصِلَ بِعَقْلِهِ إِلَى أَمْثَالِ هَذَا الْإِصْلَاحِ لِتَعَالِيمِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي يَتَعَبَّدُ بِهَا الْمَلَايِينُ مِنَ الْبَشَرِ وَلِكُتُبِ الْحُكَمَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ أَيْضًا، فَهَلِ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمْ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ !.
وَعَلَى ذِكْرِ الْفَلَاسِفَةِ أَذْكُرُ شُبْهَةً لِمُقَلِّدَتِهِمْ عَلَى الْفَضَائِلِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ الدِّينِيَّةِ، يَلُوكُونُهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَا يَعْقِلُونَ فَسَادَهَا، وَهِيَ أَنَّ الْكَمَالَ الْبَشَرِيَّ أَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ لِذَاتِهِ أَوْ لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَا لِعِلَّةٍ، وَيَعُدُّونَ مِنْ أَكْبَرِ الْعِلَلِ أَنْ يَعْمَلَهُ رَجَاءً فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ أَوْ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهَا، وَمَعْنَى هَذَا إِنْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أَنَّ مَنْ يَقْصِدُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ
179
وَتَرْقِيَةِ رُوحِهِ بِحَيْثُ تَكُونُ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ذِي الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ الْأَعْلَى - وَأَهْلًا لِجِوَارِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ يَكُونُ نَاقِصًا وَإِنَّمَا يَكُونُ كَامِلًا إِذَا خَرَجَ عَنْ طَبْعِهِ، وَقَصَدَ النَّفْعَ بِعَمَلِهِ لِغَيْرِهِ دُونَ نَفْسِهِ، وَدُونَ إِرْضَاءِ رَبِّهِ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَحِدُّ حَقِيقَةَ هَذَا الْخَيْرِ لِلْبَشَرِ وَيَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ؟
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَرْكَانَ الدِّينِ ثَلَاثَةٌ مَأْثُورَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْوَحْيُ وَهِدَايَةُ الرُّسُلِ، وَأَنَّهُ كَانَ قَدْ دَبَّ إِلَيْهَا الْفَسَادُ بِتَعَالِيمِ الْوَثَنِيَّةِ وَبِدَعِهَا، فَجَاءَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ بِهَذَا الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، فَأَصْلَحَ مَا كَانَ مِنْ فَسَادِهَا الَّذِي جَعَلَهَا غَيْرَ كَافِلَةٍ لِسَعَادَةِ الْبَشَرِ الْآخِذِينَ بِهَا، مِنْ شَوْبِ الْإِيمَانِ بِاللهِ بِالشِّرْكِ وَالتَّشْبِيهِ بِالْخَلْقِ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ بِالْمُحَابَاةِ وَالْفِدَاءِ، لَا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَجَعَلَ الْعِبَادَاتِ تَقَالِيدَ كَاللَّعِبِ وَاللهْوِ، غَيْرَ مُثْمِرَةٍ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَلَا رَاجِحَةً فِي مِيزَانِ الْعَقْلِ، وَعِبَادَاتُ الْإِسْلَامِ وَآدَابُهُ كُلُّهَا مَعْقُولَةٌ مُكَمِّلَةٌ لِفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ.
وَإِنَّنَا نُقَفِّي عَلَى هَذَا بِبَيَانِ الْقُرْآنِ لِمَا جَعَلَهُ الْبَشَرُ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ، ثُمَّ نَعُودُ إِلَى بَيَانِ مَا فِي وَحْيِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِصْلَاحِ الْعَامِّ الدَّائِمِ لِلْبَشَرِ، الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ مَعَارِفِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّابِعَةِ مِنْ نَفْسِهِ.
الْمَقْصِدُ الثَّانِي مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(بَيَانُ مَا جَهِلَ الْبَشَرُ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ)
كَانَتِ الْعَرَبُ تُنْكِرُ الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ إِلَّا أَفْرَادًا مِنْ بَقَايَا الْحُنَفَاءِ فِي الْحِجَازِ وَغَيْرِهِ، وَمَنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لِمُجَاوَرَتِهِ لِأَهْلِهِمَا وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وَكَانَتْ شُبْهَةُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْوَحْيِ اسْتِبْعَادَ اخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى بَعْضَ الْبَشَرِ بِهَذَا التَّفْضِيلِ عَلَى سَائِرِهِمْ، وَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ بِزَعْمِهِمْ، وَيَقْرُبُ مِنْهُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يُخْتَصَّ تَعَالَى بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ وَالْمِنَّةِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ أَنْ يَحْصُرَ النُّبُوَّةَ فِي شَعْبِ إِسْرَائِيلَ وَحْدَهُ، كَأَنَّ بَقِيَّةَ الْبَشَرِ لَيْسُوا مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ مَا أَعْطَاهُ لِلْيَهُودِ مِنْ هِدَايَةِ النُّبُوَّةِ. عَلَى أَنَّهُمْ وَصَفُوا الْأَنْبِيَاءَ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ وَالِاحْتِيَالِ عَلَى اللهِ وَمُصَارَعَتِهِ وَارْتِكَابِ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقَسَمِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ، وَوَافَقَهُمُ النَّصَارَى عَلَى حَصْرِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ، وَأَثْبَتُوا قَدَاسَةَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رُسُلِ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِمْ وَعَبَدُوهُمْ أَيْضًا، عَلَى أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ بَعْضِ خَوَاصِّ تَلَامِيذِهِ إِنْكَارَهُ إِيَّاهُ فِي وَقْتِ الشِّدَّةِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَسْلَمَهُ لِأَعْدَائِهِ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: ((كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَاتَّخَذَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ وَقُسُوسَهُمْ أَرْبَابًا
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَرْكَانَ الدِّينِ ثَلَاثَةٌ مَأْثُورَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْوَحْيُ وَهِدَايَةُ الرُّسُلِ، وَأَنَّهُ كَانَ قَدْ دَبَّ إِلَيْهَا الْفَسَادُ بِتَعَالِيمِ الْوَثَنِيَّةِ وَبِدَعِهَا، فَجَاءَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ بِهَذَا الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، فَأَصْلَحَ مَا كَانَ مِنْ فَسَادِهَا الَّذِي جَعَلَهَا غَيْرَ كَافِلَةٍ لِسَعَادَةِ الْبَشَرِ الْآخِذِينَ بِهَا، مِنْ شَوْبِ الْإِيمَانِ بِاللهِ بِالشِّرْكِ وَالتَّشْبِيهِ بِالْخَلْقِ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ بِالْمُحَابَاةِ وَالْفِدَاءِ، لَا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَجَعَلَ الْعِبَادَاتِ تَقَالِيدَ كَاللَّعِبِ وَاللهْوِ، غَيْرَ مُثْمِرَةٍ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَلَا رَاجِحَةً فِي مِيزَانِ الْعَقْلِ، وَعِبَادَاتُ الْإِسْلَامِ وَآدَابُهُ كُلُّهَا مَعْقُولَةٌ مُكَمِّلَةٌ لِفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ.
وَإِنَّنَا نُقَفِّي عَلَى هَذَا بِبَيَانِ الْقُرْآنِ لِمَا جَعَلَهُ الْبَشَرُ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ، ثُمَّ نَعُودُ إِلَى بَيَانِ مَا فِي وَحْيِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِصْلَاحِ الْعَامِّ الدَّائِمِ لِلْبَشَرِ، الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ مَعَارِفِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّابِعَةِ مِنْ نَفْسِهِ.
الْمَقْصِدُ الثَّانِي مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(بَيَانُ مَا جَهِلَ الْبَشَرُ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ)
كَانَتِ الْعَرَبُ تُنْكِرُ الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ إِلَّا أَفْرَادًا مِنْ بَقَايَا الْحُنَفَاءِ فِي الْحِجَازِ وَغَيْرِهِ، وَمَنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لِمُجَاوَرَتِهِ لِأَهْلِهِمَا وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وَكَانَتْ شُبْهَةُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْوَحْيِ اسْتِبْعَادَ اخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى بَعْضَ الْبَشَرِ بِهَذَا التَّفْضِيلِ عَلَى سَائِرِهِمْ، وَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ بِزَعْمِهِمْ، وَيَقْرُبُ مِنْهُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يُخْتَصَّ تَعَالَى بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ وَالْمِنَّةِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ أَنْ يَحْصُرَ النُّبُوَّةَ فِي شَعْبِ إِسْرَائِيلَ وَحْدَهُ، كَأَنَّ بَقِيَّةَ الْبَشَرِ لَيْسُوا مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ مَا أَعْطَاهُ لِلْيَهُودِ مِنْ هِدَايَةِ النُّبُوَّةِ. عَلَى أَنَّهُمْ وَصَفُوا الْأَنْبِيَاءَ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ وَالِاحْتِيَالِ عَلَى اللهِ وَمُصَارَعَتِهِ وَارْتِكَابِ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقَسَمِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ، وَوَافَقَهُمُ النَّصَارَى عَلَى حَصْرِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ، وَأَثْبَتُوا قَدَاسَةَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رُسُلِ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِمْ وَعَبَدُوهُمْ أَيْضًا، عَلَى أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ بَعْضِ خَوَاصِّ تَلَامِيذِهِ إِنْكَارَهُ إِيَّاهُ فِي وَقْتِ الشِّدَّةِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَسْلَمَهُ لِأَعْدَائِهِ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: ((كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَاتَّخَذَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ وَقُسُوسَهُمْ أَرْبَابًا
180
مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، بِأَنْ نَحَلُوهُمْ حَقَّ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ مِنْ وَضْعِ الْعِبَادَاتِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللهِ وَإِنْكَارِ عَدْلِهِ، وَعُمُومِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَمُفْسِدَاتِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَجَعْلِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُ مُسْتَعْبَدًا لِأَفْرَادٍ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، فَأَبْطَلَ اللهُ تَعَالَى كُلَّ ذَلِكَ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَأَثْبَتَ بَعْثَةَ الرُّسُلِ وَالْمُنْذِرِينَ لِجَمِيعِ شُعُوبِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) (١٦: ٣٦) وَقَوْلِهِ: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (٣٥: ٢٤) وَكَرَّمَ الْإِنْسَانَ بِجَعْلِ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ
مِنْ حُقُوقِ اللهِ وَحْدَهُ. وَإِنَّمَا النَّبِيُّونَ وَالرُّسُلُ مُبَلِّغُونَ عَنْهُ وَلَيْسُوا بِمُسَيْطِرِينَ عَلَى الْأَقْوَامِ، وَطَاعَتُهُمْ تَابِعَةٌ لِطَاعَتِهِ، فَقَدْ أَبْطَلَ مَا نَحَلَهُمُ النَّاسُ مِنْ رُبُوبِيَّةِ التَّشْرِيعِ، كَمَا أَبْطَلَ عِبَادَتَهُمْ وَعِبَادَةَ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْقِدِّيسِينَ، وَبِذَلِكَ تَحَرَّرَ الْإِنْسَانُ مِنَ الرِّقِّ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الَّذِي مُنِيَتْ بِهِ الْأُمَمُ الْمُتَدَيِّنَةُ وَلَا سِيَّمَا النَّصَارَى.
وَلِضَلَالِ جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ فِي ذَلِكَ، كَرَّرَ هَذَا الْإِصْلَاحَ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ بِالتَّصْرِيحِ بِأَنَّ الرُّسُلَ بَشَرٌ مِثْلُ سَائِرِ الْبَشَرِ يُوحَى إِلَيْهِمْ، وَبِأَنَّهُمْ لَيْسُوا إِلَّا مُبَلِّغِينَ لِدِينِ اللهِ تَعَالَى الْمُوحَى إِلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى لِخَاتَمِهِمُ الْمُكَمِّلِ لِدِينِهِمْ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (١٨: ١١٠) الْآيَةَ. وَقَالَ فِي جُمْلَتِهِمْ مِنْ وَسَطِهَا: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (١٨: ٥٦) وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ٤٨) وَفِي مَعْنَاهُمَا آيَاتٌ أُخْرَى. بَعَثَهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالتَّنْفِيذِ، وَبِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِلنَّاسِ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا هِدَايَةً وَلَا نَجَاةً مِنَ الْعِقَابِ عَلَى مُخَالَفَةِ شَرْعِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧: ١٨٨) وَسَيَأْتِي نَظِيرُهَا فِي الْآيَةِ ٤٩ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّوَاضُعِ بِمَا لَا يَدَعُ لِتَأْوِيلِ الْآيَاتِ سَبِيلًا حَتَّى فَطِنَ لِذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْأَحْرَارِ فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمَّا رَأَى خِزْيَ النَّصَارَى بِتَأْلِيهِ نَبِيِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ، لَمْ يَكْتَفِ بِتَلْقِيبِ نَفْسِهِ بِرَسُولِ اللهِ، حَتَّى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)).
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يُثْبِتُونَهَا لِمَعْبُودَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُثْبِتُونَهَا لِأَنْبِيَائِهِمْ وَقِدِّيسِيهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَدْ نَفَاهَا الْقُرْآنُ وَأَبْطَلَهَا، وَأَثْبَتَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَأَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ (يَعْلَمُ
مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢١: ٢٨، ٢٩)
مِنْ حُقُوقِ اللهِ وَحْدَهُ. وَإِنَّمَا النَّبِيُّونَ وَالرُّسُلُ مُبَلِّغُونَ عَنْهُ وَلَيْسُوا بِمُسَيْطِرِينَ عَلَى الْأَقْوَامِ، وَطَاعَتُهُمْ تَابِعَةٌ لِطَاعَتِهِ، فَقَدْ أَبْطَلَ مَا نَحَلَهُمُ النَّاسُ مِنْ رُبُوبِيَّةِ التَّشْرِيعِ، كَمَا أَبْطَلَ عِبَادَتَهُمْ وَعِبَادَةَ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْقِدِّيسِينَ، وَبِذَلِكَ تَحَرَّرَ الْإِنْسَانُ مِنَ الرِّقِّ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الَّذِي مُنِيَتْ بِهِ الْأُمَمُ الْمُتَدَيِّنَةُ وَلَا سِيَّمَا النَّصَارَى.
وَلِضَلَالِ جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ فِي ذَلِكَ، كَرَّرَ هَذَا الْإِصْلَاحَ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ بِالتَّصْرِيحِ بِأَنَّ الرُّسُلَ بَشَرٌ مِثْلُ سَائِرِ الْبَشَرِ يُوحَى إِلَيْهِمْ، وَبِأَنَّهُمْ لَيْسُوا إِلَّا مُبَلِّغِينَ لِدِينِ اللهِ تَعَالَى الْمُوحَى إِلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى لِخَاتَمِهِمُ الْمُكَمِّلِ لِدِينِهِمْ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (١٨: ١١٠) الْآيَةَ. وَقَالَ فِي جُمْلَتِهِمْ مِنْ وَسَطِهَا: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (١٨: ٥٦) وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ٤٨) وَفِي مَعْنَاهُمَا آيَاتٌ أُخْرَى. بَعَثَهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالتَّنْفِيذِ، وَبِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِلنَّاسِ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا هِدَايَةً وَلَا نَجَاةً مِنَ الْعِقَابِ عَلَى مُخَالَفَةِ شَرْعِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧: ١٨٨) وَسَيَأْتِي نَظِيرُهَا فِي الْآيَةِ ٤٩ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّوَاضُعِ بِمَا لَا يَدَعُ لِتَأْوِيلِ الْآيَاتِ سَبِيلًا حَتَّى فَطِنَ لِذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْأَحْرَارِ فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمَّا رَأَى خِزْيَ النَّصَارَى بِتَأْلِيهِ نَبِيِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ، لَمْ يَكْتَفِ بِتَلْقِيبِ نَفْسِهِ بِرَسُولِ اللهِ، حَتَّى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)).
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يُثْبِتُونَهَا لِمَعْبُودَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُثْبِتُونَهَا لِأَنْبِيَائِهِمْ وَقِدِّيسِيهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَدْ نَفَاهَا الْقُرْآنُ وَأَبْطَلَهَا، وَأَثْبَتَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَأَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ (يَعْلَمُ
مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢١: ٢٨، ٢٩)
181
وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهِ مِرَارًا (مِنْهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الثَّابِتَةَ فِي الْأَحَادِيثِ غَيْرُ الشَّفَاعَةِ الْوَثَنِيَّةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ). وَكَرَّرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ دُونَ تَكْرَارِ مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا فَرْعٌ لَهَا فَالْإِقْنَاعُ بِهَا أَسْهَلُ.
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَيَّنَ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ضَلَّ فِيهَا الْمَلَايِينُ مِنَ الْبَشَرِ، فَأَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، فَهَلْ كَانَ هَذَا مِمَّا اسْتَمَدَّهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَجَادُوا بِهِ عَلَيْهِ وَبَخِلُوا بِهِ عَلَى أَقْوَامِهِمْ؟ أَمْ هُوَ نَابِعٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا يَنْبُعُ مِنْهَا أَعْلَى مِنْ وَحْيِ اللهِ لِغَيْرِهِ عَلَى حَسَبِ دَعْوَى أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ؟ كَلَّا إِنَّمَا هِيَ مِنْ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى لَهُ:
الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ:
وَمِمَّا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِهِمْ وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ كَالْكُفْرِ بِهِمْ كُلِّهِمْ ; لِأَنَّ إِضَافَتَهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. وَوَظِيفَتُهُمْ فِي إِرْشَادِ الْمُكَلَّفِينَ تَبْلِيغُ رِسَالَتِهِ وَشَرْعِهِ وَاحِدَةٌ.
قَالَ تَعَالَى فِي خَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٢: ٢٨٥) وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ هُوَ الْكُفْرُ حَقُّ الْكَفْرِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَفْرِقَةٍ هُوَ الْإِيمَانُ حَقُّ الْإِيمَانِ، وَهُوَ فِي الْآيَاتِ (٤: ١٥٠ - ١٥٢).
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِيمَانِ بِأَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَاحِدٌ فِي مَقَاصِدِهِ مِنْ هِدَايَةِ الْبَشَرِ وَإِصْلَاحِهِمْ، وَإِعْدَادِهِمْ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ صُوَرُ الْعِبَادَاتِ وَالشَّرَائِعِ بِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَقْوَامِ وَمُقْتَضَيَاتِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. فَالْإِيمَانُ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى فِي الْإِيمَانِ، وَجَهْلٌ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْكُفْرِ.
وَقَدِ انْفَرَدَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْعَادِلَةِ الْمُسْلِمُونَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَبِيهِمْ وَجَدِّهِمْ عَلَى مَا يَذْكُرُونَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ عُيُوبٍ وَمُنْكَرَاتٍ وَفَوَاحِشَ يَرْمُونَهُمْ بِهَا.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَرْسَلَ فِي كُلِّ الْأُمَمِ رُسُلًا هَادِينَ مَهْدِيِّينَ، يُؤْمِنُونَ بِهِمْ إِجْمَالًا وَبِمَا قَصَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْصِيلًا، فَقَدْ كَرَّمَ الْإِسْلَامُ بِهَذَا نَوْعَ الْإِنْسَانِ، وَمَهَّدَ بِهِ السَّبِيلَ لِلْأُلْفَةِ وَالْأُخُوَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي نُبَيِّنُهَا بَعْدُ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ وَبِنَصِّ الْقُرْآنِ، أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ بِتَخْصِيصِ
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَيَّنَ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ضَلَّ فِيهَا الْمَلَايِينُ مِنَ الْبَشَرِ، فَأَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، فَهَلْ كَانَ هَذَا مِمَّا اسْتَمَدَّهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَجَادُوا بِهِ عَلَيْهِ وَبَخِلُوا بِهِ عَلَى أَقْوَامِهِمْ؟ أَمْ هُوَ نَابِعٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا يَنْبُعُ مِنْهَا أَعْلَى مِنْ وَحْيِ اللهِ لِغَيْرِهِ عَلَى حَسَبِ دَعْوَى أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ؟ كَلَّا إِنَّمَا هِيَ مِنْ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى لَهُ:
الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ:
وَمِمَّا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِهِمْ وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ كَالْكُفْرِ بِهِمْ كُلِّهِمْ ; لِأَنَّ إِضَافَتَهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. وَوَظِيفَتُهُمْ فِي إِرْشَادِ الْمُكَلَّفِينَ تَبْلِيغُ رِسَالَتِهِ وَشَرْعِهِ وَاحِدَةٌ.
قَالَ تَعَالَى فِي خَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٢: ٢٨٥) وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ هُوَ الْكُفْرُ حَقُّ الْكَفْرِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَفْرِقَةٍ هُوَ الْإِيمَانُ حَقُّ الْإِيمَانِ، وَهُوَ فِي الْآيَاتِ (٤: ١٥٠ - ١٥٢).
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِيمَانِ بِأَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَاحِدٌ فِي مَقَاصِدِهِ مِنْ هِدَايَةِ الْبَشَرِ وَإِصْلَاحِهِمْ، وَإِعْدَادِهِمْ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ صُوَرُ الْعِبَادَاتِ وَالشَّرَائِعِ بِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَقْوَامِ وَمُقْتَضَيَاتِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. فَالْإِيمَانُ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى فِي الْإِيمَانِ، وَجَهْلٌ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْكُفْرِ.
وَقَدِ انْفَرَدَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْعَادِلَةِ الْمُسْلِمُونَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَبِيهِمْ وَجَدِّهِمْ عَلَى مَا يَذْكُرُونَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ عُيُوبٍ وَمُنْكَرَاتٍ وَفَوَاحِشَ يَرْمُونَهُمْ بِهَا.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَرْسَلَ فِي كُلِّ الْأُمَمِ رُسُلًا هَادِينَ مَهْدِيِّينَ، يُؤْمِنُونَ بِهِمْ إِجْمَالًا وَبِمَا قَصَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْصِيلًا، فَقَدْ كَرَّمَ الْإِسْلَامُ بِهَذَا نَوْعَ الْإِنْسَانِ، وَمَهَّدَ بِهِ السَّبِيلَ لِلْأُلْفَةِ وَالْأُخُوَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي نُبَيِّنُهَا بَعْدُ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ وَبِنَصِّ الْقُرْآنِ، أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ بِتَخْصِيصِ
182
اللهِ تَعَالَى، وَبِمَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْ نَفْعِ الْعِبَادِ وَهِدَايَتِهِمْ وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ جِدًّا. قَالَ اللهُ تَعَالَى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٢: ٢٥٣).
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، وَأَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، هُوَ الَّذِي رَفَعَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ دَرَجَاتٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ بِالْإِجْمَالِ وَفَصَّلْنَاهُ فِي هَذَا الْبَحْثِ أَقْصَدَ التَّفْصِيلِ.
وَإِنَّكَ لَتَجِدُ مَعَ هَذَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَتْبَاعِهِ: ((لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ)) قَالَهُ إِنْكَارًا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَطَمَ يَهُودِيًّا لِأَنَّهُ قَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ. فَشَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا عَلَى صَاحِبِهِ الْمُسْلِمِ وَقَالَهُ.
وَبَيَّنَ مَزِيَّةً لِمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: ((وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى)) وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ: ((لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ)) وَفِي بَعْضِهَا ((لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى)) وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَنْعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَنْقِيصِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمِنَ التَّعَادِي بَيْنَ النَّاسِ، وَمِنَ الْغُلُوِّ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِلَّا فَهُوَ قَدْ قَالَ فِي تَعْلِيلِ نَهْيِهِ عَنْ سُؤَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ: ((وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي)) رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
فَصْلٌ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ بِهَا رُسُلَهُ
(وَمَا يُشْبِهُ بَعْضَهَا مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَمَا يُشْتَبَهُ بِهَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَضَلَالِ الْمَادِّيِّينَ وَالْخُرَافِيِّينَ فِيهَا)
تَكَلَّمْنَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّصَارَى بِالْعَجَائِبِ، وَيُسَمِّيهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ مِنَّا بِالْمُعْجِزَاتِ، وَيَعُدُّونَهَا قِسْمًا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي جَعَلُوهَا عِدَّةَ أَقْسَامٍ، وَنَقُولُ هُنَا كَلِمَةً وَجِيزَةً فِي إِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ لِضَلَالِ الْبَشَرِ فِيهَا، وَالصُّعُودِ بِهِمْ أَعْلَى مَرَاقِي الْإِيمَانِ، اللَّائِقِ بِطَوْرِ الرُّشْدِ الْعَقْلِيِّ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ بِسُنَنِ الْأَكْوَانِ، الَّذِي مَنَحُوهُ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَنَقُولُ:
آيَاتُ اللهِ نَوْعَانِ:
آيَاتُ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ نَوْعَانِ: (النَّوْعُ الْأَوَّلُ) الْآيَاتُ الْجَارِيَةُ عَلَى سُنَنِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَهِيَ أَكْثَرُهَا وَأَظْهَرُهَا وَأَدَلُّهَا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَسَعَةِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. (وَالنَّوْعُ الثَّانِي) الْآيَاتُ الْجَارِيَةُ عَلَى خِلَافِ السُّنَنِ
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، وَأَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، هُوَ الَّذِي رَفَعَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ دَرَجَاتٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ بِالْإِجْمَالِ وَفَصَّلْنَاهُ فِي هَذَا الْبَحْثِ أَقْصَدَ التَّفْصِيلِ.
وَإِنَّكَ لَتَجِدُ مَعَ هَذَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَتْبَاعِهِ: ((لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ)) قَالَهُ إِنْكَارًا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَطَمَ يَهُودِيًّا لِأَنَّهُ قَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ. فَشَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا عَلَى صَاحِبِهِ الْمُسْلِمِ وَقَالَهُ.
وَبَيَّنَ مَزِيَّةً لِمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: ((وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى)) وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ: ((لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ)) وَفِي بَعْضِهَا ((لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى)) وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَنْعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَنْقِيصِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمِنَ التَّعَادِي بَيْنَ النَّاسِ، وَمِنَ الْغُلُوِّ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِلَّا فَهُوَ قَدْ قَالَ فِي تَعْلِيلِ نَهْيِهِ عَنْ سُؤَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ: ((وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي)) رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
فَصْلٌ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ بِهَا رُسُلَهُ
(وَمَا يُشْبِهُ بَعْضَهَا مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَمَا يُشْتَبَهُ بِهَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَضَلَالِ الْمَادِّيِّينَ وَالْخُرَافِيِّينَ فِيهَا)
تَكَلَّمْنَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّصَارَى بِالْعَجَائِبِ، وَيُسَمِّيهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ مِنَّا بِالْمُعْجِزَاتِ، وَيَعُدُّونَهَا قِسْمًا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي جَعَلُوهَا عِدَّةَ أَقْسَامٍ، وَنَقُولُ هُنَا كَلِمَةً وَجِيزَةً فِي إِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ لِضَلَالِ الْبَشَرِ فِيهَا، وَالصُّعُودِ بِهِمْ أَعْلَى مَرَاقِي الْإِيمَانِ، اللَّائِقِ بِطَوْرِ الرُّشْدِ الْعَقْلِيِّ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ بِسُنَنِ الْأَكْوَانِ، الَّذِي مَنَحُوهُ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَنَقُولُ:
آيَاتُ اللهِ نَوْعَانِ:
آيَاتُ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ نَوْعَانِ: (النَّوْعُ الْأَوَّلُ) الْآيَاتُ الْجَارِيَةُ عَلَى سُنَنِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَهِيَ أَكْثَرُهَا وَأَظْهَرُهَا وَأَدَلُّهَا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَسَعَةِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. (وَالنَّوْعُ الثَّانِي) الْآيَاتُ الْجَارِيَةُ عَلَى خِلَافِ السُّنَنِ
183
الْمَعْرُوفَةِ لِلْبَشَرِ وَهِيَ أَقَلُّهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ أَدَلَّهَا عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى اخْتِيَارِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ وَمَا يَخْلُقُ، وَكَوْنِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ غَيْرَ مُقَيَّدَتَيْنِ بِسُنَنِ الْخَلْقِ الَّتِي قَامَ بِهَا نِظَامُ الْكَوْنِ، فَالسُّنَنُ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَإِتْقَانِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَقَدْ يَأْتِي بِمَا يُخَالِفُهَا لِحِكْمَةٍ أُخْرَى مِنْ حِكَمِهِ الْبَالِغَةِ، وَلَوْلَا هَذَا الِاخْتِيَارُ لَكَانَ الْعَالَمُ كَالْآلَاتِ الَّتِي تَتَحَرَّكُ بِنِظَامٍ دَقِيقٍ لَا عِلْمَ لَهَا وَلَا إِرَادَةَ وَلَا اخْتِيَارَ فِيهِ. كَآلَةِ السَّاعَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا أَوْقَاتُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَآلَاتِ الْبَوَاخِرِ وَالْمَعَامِلِ الْكَثِيرَةِ، وَالْمَادِّيُّونَ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْخَالِقِ وَالْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُ الْعِلَّةَ الْفَاعِلَةَ لِلْوُجُودِ يُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا النِّظَامِ بِنَظَرِيَّةِ (الْمِيكَانِيكِيَّةِ) وَهُمْ يَتَكَلَّفُونَ اخْتِرَاعَ الْعِلَلِ
وَالْأَسْبَابِ لِكُلِّ مَا يَرَوْنَهُ مُخَالِفًا لِسُنَنِهِ الْمَعْرُوفَةِ، وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمُخَالِفَةَ لَهَا بِفَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ، وَيَقِيسُونَ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ تَعْلِيلُهُ عَلَى مَا اقْتَنَعُوا بِتَعْلِيلٍ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُثْبِتُهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا الْيَوْمَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ لَنَا أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا غَدًا.
سُنَنُ اللهِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ:
وَنَحْنُ مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعَالَمِ الْغَيْبِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ جُنْدُ اللهِ الْأَكْبَرُ، وَمَا لَهُمْ مِنَ التَّأْثِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ الْمَادِّيِّ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ، نَعْتَقِدُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سُنَنًا فِي نِظَامِ ذَلِكَ الْعَالَمِ غَيْرَ سُنَنِهِ الْخَاصَّةِ بِعَالَمِ الْمَادَّةِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ حَلْقَةُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ.
فَجَسَدُهُ وَوَظَائِفُهُ الْحَيَوِيَّةُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَرُوحُهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَإِنَّهُ مَا دَامَ فِي عَالَمِ الْجَسَدِ الْمَادِّيِّ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَدَارِكِهِ تَكُونُ مَشْغُولَةً مِنَ الْمَادَّةِ وَسُنَنِهَا وَحَاجَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالنَّوْعِيَّةِ مِنْهَا بِمَا يَحْجُبُهُ عَنْ عَالَمِ الرُّوحِ الْغَيْبِيِّ حَتَّى رُوحِهِ الْمُتَمِّمِ لِحَقِيقَتِهِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ الظُّهُورُ وَالسُّلْطَانُ لِلرُّوحِ عَلَى الْجَسَدِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، إِلَّا مَنِ اصْطَفَى اللهُ تَعَالَى مِنْ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، فَأَعَدَّهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ لِلِاتِّصَالِ بِمَلَائِكَتِهِ وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ، وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ لِيُبَلِّغُوا عِبَادَهُ عَنْهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ.
الْغَيْبُ قِسْمَانِ حَقِيقِيٌّ وَإِضَافِيٌّ:
الْغَيْبُ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنِ النَّاسِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: غَيْبٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَغَيْبٌ إِضَافِيٌّ يُعْلِمُهُ بَعْضَ الْخَلْقِ دُونَ بَعْضٍ ; لِأَسْبَابٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ، وَمَنْ أَظْهَرَهُ اللهُ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ مِنْ رُسُلِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَسْبٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ غَيْرِ الْمُكْتَسَبَةِ.
وَمِنْ دُونِهِمْ أَفْرَادٌ مِنْ خَوَاصِّ أَتْبَاعِهِمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْإِشْرَافِ عَلَى ذَلِكَ الْعَالَمِ بِانْكِشَافِ
وَالْأَسْبَابِ لِكُلِّ مَا يَرَوْنَهُ مُخَالِفًا لِسُنَنِهِ الْمَعْرُوفَةِ، وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمُخَالِفَةَ لَهَا بِفَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ، وَيَقِيسُونَ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ تَعْلِيلُهُ عَلَى مَا اقْتَنَعُوا بِتَعْلِيلٍ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُثْبِتُهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا الْيَوْمَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ لَنَا أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا غَدًا.
سُنَنُ اللهِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ:
وَنَحْنُ مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعَالَمِ الْغَيْبِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ جُنْدُ اللهِ الْأَكْبَرُ، وَمَا لَهُمْ مِنَ التَّأْثِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ الْمَادِّيِّ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ، نَعْتَقِدُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سُنَنًا فِي نِظَامِ ذَلِكَ الْعَالَمِ غَيْرَ سُنَنِهِ الْخَاصَّةِ بِعَالَمِ الْمَادَّةِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ حَلْقَةُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ.
فَجَسَدُهُ وَوَظَائِفُهُ الْحَيَوِيَّةُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَرُوحُهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَإِنَّهُ مَا دَامَ فِي عَالَمِ الْجَسَدِ الْمَادِّيِّ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَدَارِكِهِ تَكُونُ مَشْغُولَةً مِنَ الْمَادَّةِ وَسُنَنِهَا وَحَاجَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالنَّوْعِيَّةِ مِنْهَا بِمَا يَحْجُبُهُ عَنْ عَالَمِ الرُّوحِ الْغَيْبِيِّ حَتَّى رُوحِهِ الْمُتَمِّمِ لِحَقِيقَتِهِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ الظُّهُورُ وَالسُّلْطَانُ لِلرُّوحِ عَلَى الْجَسَدِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، إِلَّا مَنِ اصْطَفَى اللهُ تَعَالَى مِنْ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، فَأَعَدَّهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ لِلِاتِّصَالِ بِمَلَائِكَتِهِ وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ، وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ لِيُبَلِّغُوا عِبَادَهُ عَنْهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ.
الْغَيْبُ قِسْمَانِ حَقِيقِيٌّ وَإِضَافِيٌّ:
الْغَيْبُ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنِ النَّاسِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: غَيْبٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَغَيْبٌ إِضَافِيٌّ يُعْلِمُهُ بَعْضَ الْخَلْقِ دُونَ بَعْضٍ ; لِأَسْبَابٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ، وَمَنْ أَظْهَرَهُ اللهُ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ مِنْ رُسُلِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَسْبٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ غَيْرِ الْمُكْتَسَبَةِ.
وَمِنْ دُونِهِمْ أَفْرَادٌ مِنْ خَوَاصِّ أَتْبَاعِهِمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْإِشْرَافِ عَلَى ذَلِكَ الْعَالَمِ بِانْكِشَافِ
184
مَا لِلْحِجَابِ، وَإِدْرَاكِ مَا لِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَارِ، كَانَ بِهَا إِيمَانُهُمْ بِرُسُلِهِمْ فَوْقَ إِيمَانِ أَهْلِ الْبُرْهَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُشِفَ الْحِجَابُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا.
وَمِنْ دُونِ هَؤُلَاءِ أَفْرَادٌ آخَرُونَ، قَدْ يَكُونُ مَنْ لَهُمْ سَلَامَةُ الْفِطْرَةِ، أَوْ مُعَالَجَةُ النَّفْسِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الرِّيَاضَةِ أَوْ مِنْ طُرُوءِ مَرَضٍ يَصْرِفُ قُوَى النَّفْسِ عَنِ الِاهْتِمَامِ بِشَهَوَاتِ الْجَسَدِ، أَوْ مِنْ سُلْطَانِ إِرَادَةٍ قَوِيَّةٍ عَلَى إِرَادَةٍ ضَعِيفَةٍ، تَصْرِفُهَا عَنْ حِسِّهَا، وَتُوَجِّهُ قُوَاهَا النَّفْسِيَّةَ إِلَى مَا شَاءَتْ أَنْ تُدْرِكَهُ لِقُوَّتِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا - قَدْ يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْ قُوَّةِ الرُّوحِ مَا يَلْمَحُونَ بِهِ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ أَوِ الْأَشْخَاصِ الْبَعِيدَةِ عَنْهُمْ، وَتَتَمَثَّلُ لَهُمْ بَعْضُ الْأُمُورِ قَبْلَ وُقُوعِهَا مُرْتَسِمَةً فِي خَيَالِهِمْ، فَيُخْبِرُونَ بِهَا فَتَقَعُ كَمَا أَخْبَرُوا.
الْخَوَارِقُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالصُّورِيَّةُ عِنْدَ الْأُمَمِ:
إِنَّ الْأُمُورَ الَّتِي تَأَتَّى فِي الظَّاهِرِ عَلَى غَيْرِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ، أَوِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ الْمَأْلُوفَةِ مَنْقُولَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا فِي جِنْسِهِ دُونَ أَفْرَادِ وَقَائِعِهِ وَلَيْسَتْ كُلُّهَا خَوَارِقَ حَقِيقِيَّةً، فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَهُ أَسْبَابٌ مَجْهُولَةٌ لِلْجُمْهُورِ، وَإِنَّ مِنْهَا لِمَا هُوَ صِنَاعِيٌّ يُسْتَفَادُ بِتَعْلِيمٍ خَاصٍّ، وَإِنَّ مِنْهَا لِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ قُوَى النَّفْسِ وَتَأْثِيرِ أَقْوِيَاءِ الْإِرَادَةِ، فِي ضُعَفَائِهَا وَيَدْخُلُ فِي هَذَيْنِ الْمُكَاشَفَةُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَالتَّنْوِيمُ الْمِغْنَاطِيسِيُّ، وَشِفَاءُ بَعْضِ الْمَرْضَى وَلَا سِيَّمَا الْمُصَابِينَ بِالْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الِاعْتِقَادُ وَالْوَهْمُ، وَمِنْهَا بَعْضُ أَنْوَاعِ الْعَمَى وَالْفَالِجِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَفْقِدُ بَصَرَهُ بِمَرَضٍ يَطْرَأُ عَلَى أَعْصَابِ عَيْنَيْهِ وَهُمَا صَحِيحَتَانِ تَلْمَعَانِ فِي وَجْهِهِ، أَوْ يَغْشَاهُمَا بَيَاضٌ عَارِضٌ مَعَ بَقَاءِ طَبَقَاتِهِمَا صَحِيحَةً. وَلَيْسَ مِنْهُ الْكَمَهُ وَالْعَمَى الَّذِي يَقَعُ بِطَمْسِ الْعَيْنَيْنِ وَغُئُورِهِمَا كَالَّذِي أَبْرَأَهُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْخَوَارِقِ الصُّورِيَّةِ فِي بَحْثِ السِّحْرِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِي الْمَقَالَاتِ الَّتِي عَقَدْنَاهَا لِلْكَرَامَاتِ وَأَنْوَاعِهَا وَتَعْلِيلِهَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّانِي مِنَ الْمَنَارِ وَأَتْمَمْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنْهُ.
إِنَّ عَوَامَّ الشُّعُوبِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ، وَمَا وُجِدَ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْغَرَائِبِ، وَمَا كَشَفَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ حِيَلٍ فِيهَا وَعِلَلٍ، يَغْتَرُّونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا، وَيَخْضَعُونَ
لِلدَّجَّالِينَ وَالْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَهَا، وَيُمَكِّنُونَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَيَسْلُبُونَهَا، وَيَأْتَمِنُونَهُمْ عَلَى أَعْرَاضِهِمْ فَيَنْتَهِكُونَهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا يَأْتُونَ مَا يَأْتُونَ مِنْهَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَعَجَائِبِ الْقِدِّيسِينَ، وَيَقِلُّ تَصْدِيقُ هَذَا وَالِانْقِيَادُ لِأَهْلِهِ حَيْثُ يَنْتَشِرُ تَعْلِيمُ التَّوَارِيخِ وَمَا عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ مِنْ ذَلِكَ
وَمِنْ دُونِ هَؤُلَاءِ أَفْرَادٌ آخَرُونَ، قَدْ يَكُونُ مَنْ لَهُمْ سَلَامَةُ الْفِطْرَةِ، أَوْ مُعَالَجَةُ النَّفْسِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الرِّيَاضَةِ أَوْ مِنْ طُرُوءِ مَرَضٍ يَصْرِفُ قُوَى النَّفْسِ عَنِ الِاهْتِمَامِ بِشَهَوَاتِ الْجَسَدِ، أَوْ مِنْ سُلْطَانِ إِرَادَةٍ قَوِيَّةٍ عَلَى إِرَادَةٍ ضَعِيفَةٍ، تَصْرِفُهَا عَنْ حِسِّهَا، وَتُوَجِّهُ قُوَاهَا النَّفْسِيَّةَ إِلَى مَا شَاءَتْ أَنْ تُدْرِكَهُ لِقُوَّتِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا - قَدْ يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْ قُوَّةِ الرُّوحِ مَا يَلْمَحُونَ بِهِ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ أَوِ الْأَشْخَاصِ الْبَعِيدَةِ عَنْهُمْ، وَتَتَمَثَّلُ لَهُمْ بَعْضُ الْأُمُورِ قَبْلَ وُقُوعِهَا مُرْتَسِمَةً فِي خَيَالِهِمْ، فَيُخْبِرُونَ بِهَا فَتَقَعُ كَمَا أَخْبَرُوا.
الْخَوَارِقُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالصُّورِيَّةُ عِنْدَ الْأُمَمِ:
إِنَّ الْأُمُورَ الَّتِي تَأَتَّى فِي الظَّاهِرِ عَلَى غَيْرِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ، أَوِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ الْمَأْلُوفَةِ مَنْقُولَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا فِي جِنْسِهِ دُونَ أَفْرَادِ وَقَائِعِهِ وَلَيْسَتْ كُلُّهَا خَوَارِقَ حَقِيقِيَّةً، فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَهُ أَسْبَابٌ مَجْهُولَةٌ لِلْجُمْهُورِ، وَإِنَّ مِنْهَا لِمَا هُوَ صِنَاعِيٌّ يُسْتَفَادُ بِتَعْلِيمٍ خَاصٍّ، وَإِنَّ مِنْهَا لِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ قُوَى النَّفْسِ وَتَأْثِيرِ أَقْوِيَاءِ الْإِرَادَةِ، فِي ضُعَفَائِهَا وَيَدْخُلُ فِي هَذَيْنِ الْمُكَاشَفَةُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَالتَّنْوِيمُ الْمِغْنَاطِيسِيُّ، وَشِفَاءُ بَعْضِ الْمَرْضَى وَلَا سِيَّمَا الْمُصَابِينَ بِالْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الِاعْتِقَادُ وَالْوَهْمُ، وَمِنْهَا بَعْضُ أَنْوَاعِ الْعَمَى وَالْفَالِجِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَفْقِدُ بَصَرَهُ بِمَرَضٍ يَطْرَأُ عَلَى أَعْصَابِ عَيْنَيْهِ وَهُمَا صَحِيحَتَانِ تَلْمَعَانِ فِي وَجْهِهِ، أَوْ يَغْشَاهُمَا بَيَاضٌ عَارِضٌ مَعَ بَقَاءِ طَبَقَاتِهِمَا صَحِيحَةً. وَلَيْسَ مِنْهُ الْكَمَهُ وَالْعَمَى الَّذِي يَقَعُ بِطَمْسِ الْعَيْنَيْنِ وَغُئُورِهِمَا كَالَّذِي أَبْرَأَهُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْخَوَارِقِ الصُّورِيَّةِ فِي بَحْثِ السِّحْرِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِي الْمَقَالَاتِ الَّتِي عَقَدْنَاهَا لِلْكَرَامَاتِ وَأَنْوَاعِهَا وَتَعْلِيلِهَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّانِي مِنَ الْمَنَارِ وَأَتْمَمْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنْهُ.
إِنَّ عَوَامَّ الشُّعُوبِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ، وَمَا وُجِدَ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْغَرَائِبِ، وَمَا كَشَفَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ حِيَلٍ فِيهَا وَعِلَلٍ، يَغْتَرُّونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا، وَيَخْضَعُونَ
لِلدَّجَّالِينَ وَالْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَهَا، وَيُمَكِّنُونَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَيَسْلُبُونَهَا، وَيَأْتَمِنُونَهُمْ عَلَى أَعْرَاضِهِمْ فَيَنْتَهِكُونَهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا يَأْتُونَ مَا يَأْتُونَ مِنْهَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَعَجَائِبِ الْقِدِّيسِينَ، وَيَقِلُّ تَصْدِيقُ هَذَا وَالِانْقِيَادُ لِأَهْلِهِ حَيْثُ يَنْتَشِرُ تَعْلِيمُ التَّوَارِيخِ وَمَا عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ مِنْ ذَلِكَ
185
عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ بِلَادِ أُورُبَّةَ وَأَمْرِيكَةَ، وَلَعَلَّهُ دُونَ مَا فِي بِلَادِ الشَّرْقِ وَلَا سِيَّمَا الْقُرَى وَهَمَجِ الزُّنُوجِ وَغَيْرِهِمْ.
بَيْدَ أَنَّ آيَاتِ اللهِ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي نُسَمِّيهَا الْمُعْجِزَاتِ، هِيَ فَوْقَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الصِّنَاعِيَّةِ الْغَرِيبَةِ لَا كَسْبَ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ وَلَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهَا، وَإِنَّ مَا أَيَّدَ بِهِ رُسُلَهُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ بِكَسْبِهِمْ وَلَا عَمَلِهِمْ وَلَا تَأْثِيرِهِمْ حَتَّى مَا يَكُونُ بَدْؤُهُ بِحَرَكَةٍ إِرَادِيَّةٍ يَأْمُرُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا، أَلَمْ يَهْدِ لَكَ كَيْفَ خَافَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ تَحَوَّلَتْ عَصَاهُ حَيَّةً تَسْعَى، فَوَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ لِشِدَّةِ خَوْفِهِ مِنْهَا، حَتَّى هَدَّأَ اللهُ رَوْعَهُ وَأَمَّنَ خَوْفَهُ؟ أَوَلَمْ تَقْرَأْ قَوْلَهُ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) (٨: ١٧) ؟ أَوَلَمْ تَفْهَمْ مَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَ مُقْتَرِحِي الْآيَاتِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) (١٧: ٩٣) وَقَوْلِهِ: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ) (٢٩: ٥٠) وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
جَهِلَ هَذَا الْأَصْلَ الْمُحْكَمَ مِنْ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ مِنْ سَدَنَةِ الْقُبُورِ الْمَعْبُودَةِ وَغَيْرِهِمْ فَظَنُّوا أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ أُمُورٌ كَسَبِيَّةٌ كَالصِّنَاعَاتِ الْعَادِيَّةِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ يَفْعَلُونَهَا بِاخْتِيَارِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ مَتَى شَاءُوا، وَيُغْرُونَ النَّاسَ بِإِتْيَانِ قُبُورِهِمْ وَلَوْ بِشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهَا لِدُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ وَالشَّدَائِدِ، الَّتِي يَعْجِزُونَ عَنْ دَفْعِهَا بِكَسْبِهِمْ وَكَسْبِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ بِالْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ كَالْأَطِبَّاءِ مَثَلًا، وَبِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالنُّذُورِ وَالْقَرَابِينِ كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى آلِهَتِهِمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا، وَهُمْ يَأْكُلُونَهَا سُحْتًا حَرَامًا، وَيُخْبِرُونَهُمْ بِأَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ بِأَجْسَادِهِمْ وَيَتَوَلَّوْنَ قَضَاءَ الْحَاجَاتِ، وَكَشْفَ الْكُرُبَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي كِتَابٍ مَطْبُوعٍ: إِنَّ فُلَانًا مِنَ الْأَقْطَابِ يُمِيتُ وَيُحْيِي، وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي، وَيُفْقِرُ وَيُغْنِي.
الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ:
أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُؤَيِّدْ رُسُلَهُ بِمَا أَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ إِلَّا لِتَكَوُّنَ حُجَّةً لَهُمْ عَلَى أَقْوَامِهِمْ يَهْدِي بِهَا الْمُسْتَعِدَّ لِلْهِدَايَةِ، وَتَحِقُّ بِهَا الْكَلِمَةُ عَلَى الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ فَتَقَعُ عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِظْهَارِهَا، فَهُوَ وَاجِبٌ لِإِتْمَامِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ الَّتِي أُرْسِلُوا لِتَبْلِيغِهَا، وَمَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ غَيْرِ حُجَّةِ الرِّسَالَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَكَانَ خَاتَمُهُمْ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى يَصْبِرُ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمَرَضِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلَا يَدْعُو لَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا يُزِيلُ ذَلِكَ إِلَّا نَادِرًا، وَقَدْ سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ تُصْرَعُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهَا بِالشِّفَاءِ فَأَرْشَدَهَا إِلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى مُصِيبَتِهَا خَيْرٌ لَهَا. فَشَكَتْ إِلَيْهِ أَنَّهَا تَتَكَشَّفُ عِنْدَ النَّوْبَةِ وَأَنْ يَدْعُوَ لَهَا أَلَّا تَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا وَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ.
بَيْدَ أَنَّ آيَاتِ اللهِ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي نُسَمِّيهَا الْمُعْجِزَاتِ، هِيَ فَوْقَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الصِّنَاعِيَّةِ الْغَرِيبَةِ لَا كَسْبَ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ وَلَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهَا، وَإِنَّ مَا أَيَّدَ بِهِ رُسُلَهُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ بِكَسْبِهِمْ وَلَا عَمَلِهِمْ وَلَا تَأْثِيرِهِمْ حَتَّى مَا يَكُونُ بَدْؤُهُ بِحَرَكَةٍ إِرَادِيَّةٍ يَأْمُرُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا، أَلَمْ يَهْدِ لَكَ كَيْفَ خَافَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ تَحَوَّلَتْ عَصَاهُ حَيَّةً تَسْعَى، فَوَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ لِشِدَّةِ خَوْفِهِ مِنْهَا، حَتَّى هَدَّأَ اللهُ رَوْعَهُ وَأَمَّنَ خَوْفَهُ؟ أَوَلَمْ تَقْرَأْ قَوْلَهُ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) (٨: ١٧) ؟ أَوَلَمْ تَفْهَمْ مَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَ مُقْتَرِحِي الْآيَاتِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) (١٧: ٩٣) وَقَوْلِهِ: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ) (٢٩: ٥٠) وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
جَهِلَ هَذَا الْأَصْلَ الْمُحْكَمَ مِنْ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ مِنْ سَدَنَةِ الْقُبُورِ الْمَعْبُودَةِ وَغَيْرِهِمْ فَظَنُّوا أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ أُمُورٌ كَسَبِيَّةٌ كَالصِّنَاعَاتِ الْعَادِيَّةِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ يَفْعَلُونَهَا بِاخْتِيَارِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ مَتَى شَاءُوا، وَيُغْرُونَ النَّاسَ بِإِتْيَانِ قُبُورِهِمْ وَلَوْ بِشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهَا لِدُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ وَالشَّدَائِدِ، الَّتِي يَعْجِزُونَ عَنْ دَفْعِهَا بِكَسْبِهِمْ وَكَسْبِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ بِالْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ كَالْأَطِبَّاءِ مَثَلًا، وَبِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالنُّذُورِ وَالْقَرَابِينِ كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى آلِهَتِهِمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا، وَهُمْ يَأْكُلُونَهَا سُحْتًا حَرَامًا، وَيُخْبِرُونَهُمْ بِأَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ بِأَجْسَادِهِمْ وَيَتَوَلَّوْنَ قَضَاءَ الْحَاجَاتِ، وَكَشْفَ الْكُرُبَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي كِتَابٍ مَطْبُوعٍ: إِنَّ فُلَانًا مِنَ الْأَقْطَابِ يُمِيتُ وَيُحْيِي، وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي، وَيُفْقِرُ وَيُغْنِي.
الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ:
أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُؤَيِّدْ رُسُلَهُ بِمَا أَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ إِلَّا لِتَكَوُّنَ حُجَّةً لَهُمْ عَلَى أَقْوَامِهِمْ يَهْدِي بِهَا الْمُسْتَعِدَّ لِلْهِدَايَةِ، وَتَحِقُّ بِهَا الْكَلِمَةُ عَلَى الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ فَتَقَعُ عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِظْهَارِهَا، فَهُوَ وَاجِبٌ لِإِتْمَامِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ الَّتِي أُرْسِلُوا لِتَبْلِيغِهَا، وَمَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ غَيْرِ حُجَّةِ الرِّسَالَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَكَانَ خَاتَمُهُمْ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى يَصْبِرُ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمَرَضِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلَا يَدْعُو لَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا يُزِيلُ ذَلِكَ إِلَّا نَادِرًا، وَقَدْ سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ تُصْرَعُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهَا بِالشِّفَاءِ فَأَرْشَدَهَا إِلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى مُصِيبَتِهَا خَيْرٌ لَهَا. فَشَكَتْ إِلَيْهِ أَنَّهَا تَتَكَشَّفُ عِنْدَ النَّوْبَةِ وَأَنْ يَدْعُوَ لَهَا أَلَّا تَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا وَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ.
186
وَالْأَصْلُ فِي الْكَرَامَةِ الْإِخْفَاءُ وَالْكِتْمَانُ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ ظُهُورُهَا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، وَمَا كَانَ أَهْلُهَا يُظْهِرُونَ مَا لَهُمْ كَسْبٌ فِيهِ مِنْهَا كَالْمُكَاشِفَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْعُلَمَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ خِلَافًا لِلْمَشْهُورِ بَيْنَ الْعَامَّةِ.
قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي سِيَاقِ حُجَجِ مُنْكِرِي جَوَازِ وُقُوعِ الْكَرَامَاتِ مِنْ طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ: (الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ) قَالُوا: لَوْ جَازَتِ الْكَرَامَةُ لَاشْتَبَهَتْ بِالْمُعْجِزَةِ، فَلَا تَدُلُّ الْمُعْجِزَةُ عَلَى ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ. وَالْجَوَابُ: مَنْعُ الِاشْتِبَاهِ، بِقَرْنِ الْمُعْجِزَةِ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ، دُونَ الْكَرَامَةِ فَهِيَ إِنَّمَا تَقْتَرِنُ بِكَمَالِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ مِنَ الْوَلِيِّ - وَأَيْضًا فَالْمُعْجِزَةُ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا الِاشْتِهَارُ، وَالْكَرَامَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْإِخْفَاءِ، وَلَا تَظْهَرُ إِلَّا عَلَى النُّدْرَةِ وَالْخُصُوصِ، لَا عَلَى الْكَثْرَةِ وَالْعُمُومِ، وَأَيْضًا فَالْمُعْجِزَةُ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ بِجَمِيعِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَالْكَرَامَةُ تَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَلَامِ الْقُشَيْرِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ اهـ. ثُمَّ قَالَ:
(الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ) قَالُوا: لَوْ جَازَ ظُهُورُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى أَيْدِي الصَّالِحِينَ لَمَا أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ بِظُهُورِهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ، لِجَوَازِ أَنْ تَظْهَرَ عَلَى يَدِ الْوَلِيِّ سِرًّا، فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ مُعْظَمِ جَمَاعَتِكُمْ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ لَا يُظْهِرُونَ الْكَرَامَاتِ وَلَا يَدْعُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ سِرًّا وَرَاءَ سُتُورٍ، وَيَتَخَصَّصُ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا آحَادُ النَّاسِ،
وَيَكُونُ ظُهُورُهَا سِرًّا مُسْتَمِرًّا بِحَيْثُ لَا يَلْتَحِقُ بِحُكْمِ الْمُعْتَادِ، فَإِذَا ظَهَرَ نَبِيٌّ وَتَحَدَّى بِمُعْجِزَةٍ، جَازَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا اعْتَادَهُ أَوْلِيَاءُ عَصْرِهِ مِنَ الْكَرَامَاتِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ خَرْقُ الْعَادَةِ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى تَصْدِيقِهِ مَعَ عَدَمِ تَحَقُّقِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ فِي حَقِّهِ؟ وَأَيْضًا تَكَرُّرُ الْكَرَامَةِ يُلْحِقُهَا بِالْمُعْتَادِ فِي حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَذَلِكَ يَصُدُّهُمْ عَنْ تَصْحِيحِ النَّظَرِ فِي الْمُعْجِزَةِ إِذَا ظَهَرَ نَبِيٌّ فِي زَمَنِهِمْ))
وَقَالَ فِي الْجَوَابِ: لِأَئِمَّتِنَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ مَنْعُ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ وَاسْتِمْرَارُهَا حَتَّى تَصِيرَ فِي حُكْمِ الْعَوَائِدِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ظُهُورُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا تَصِيرُ عَادَةً فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرُوهُ وَالثَّانِي - وَهُوَ لِمُعْظَمِ أَئِمَّتِنَا - قَالُوا: إِنَّهُ يَجُوزُ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِفَاءِ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ وَلَا يَشِيعُ وَلَا يُعْتَادُ، لِئَلَّا تَخْرُجَ الْكَرَامَاتُ عَنْ كَوْنِهَا كَرَامَاتٍ. انْتَهَى مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الثَّانِي.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ يُوَافِقُونَ عُلَمَاءَ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ عَلَى مَنْعِ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ وَتَكْرَارِهَا، وَمَنْعِ إِظْهَارِهَا، وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ: إِنَّ مَا يَتَكَرَّرُ لَا يَكُونُ كَرَامَةً لِأَنَّهُ يَكُونُ عَادَةً، وَإِنَّمَا الْكَرَامَةُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الرِّفَاعِيُّ إِنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَسْتَتِرُونَ مِنَ الْكَرَامَةِ كَمَا تَسْتَتِرُ الْمَرْأَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، فَأَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ مِمَّا عَلَيْهِ الدَّجَّالُونَ الْخُرَافِيُّونَ وَسَدَنَةُ الْقُبُورِ الْمُعْتَقِدَةُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ الْكَرَامَةَ الْوَاحِدَةَ تَتَكَرَّرُ لِأَوْلِيَاءَ كَثِيرِينَ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِرَارًا كَثِيرَةً وَكُلُّهَا ظَاهِرَةٌ ذَائِعَةٌ شَائِعَةٌ، بَلْ صِنَاعَةٌ ذَاتُ بِضَاعَةٍ رَابِحَةٍ؟
قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي سِيَاقِ حُجَجِ مُنْكِرِي جَوَازِ وُقُوعِ الْكَرَامَاتِ مِنْ طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ: (الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ) قَالُوا: لَوْ جَازَتِ الْكَرَامَةُ لَاشْتَبَهَتْ بِالْمُعْجِزَةِ، فَلَا تَدُلُّ الْمُعْجِزَةُ عَلَى ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ. وَالْجَوَابُ: مَنْعُ الِاشْتِبَاهِ، بِقَرْنِ الْمُعْجِزَةِ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ، دُونَ الْكَرَامَةِ فَهِيَ إِنَّمَا تَقْتَرِنُ بِكَمَالِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ مِنَ الْوَلِيِّ - وَأَيْضًا فَالْمُعْجِزَةُ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا الِاشْتِهَارُ، وَالْكَرَامَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْإِخْفَاءِ، وَلَا تَظْهَرُ إِلَّا عَلَى النُّدْرَةِ وَالْخُصُوصِ، لَا عَلَى الْكَثْرَةِ وَالْعُمُومِ، وَأَيْضًا فَالْمُعْجِزَةُ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ بِجَمِيعِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَالْكَرَامَةُ تَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَلَامِ الْقُشَيْرِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ اهـ. ثُمَّ قَالَ:
(الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ) قَالُوا: لَوْ جَازَ ظُهُورُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى أَيْدِي الصَّالِحِينَ لَمَا أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ بِظُهُورِهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ، لِجَوَازِ أَنْ تَظْهَرَ عَلَى يَدِ الْوَلِيِّ سِرًّا، فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ مُعْظَمِ جَمَاعَتِكُمْ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ لَا يُظْهِرُونَ الْكَرَامَاتِ وَلَا يَدْعُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ سِرًّا وَرَاءَ سُتُورٍ، وَيَتَخَصَّصُ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا آحَادُ النَّاسِ،
وَيَكُونُ ظُهُورُهَا سِرًّا مُسْتَمِرًّا بِحَيْثُ لَا يَلْتَحِقُ بِحُكْمِ الْمُعْتَادِ، فَإِذَا ظَهَرَ نَبِيٌّ وَتَحَدَّى بِمُعْجِزَةٍ، جَازَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا اعْتَادَهُ أَوْلِيَاءُ عَصْرِهِ مِنَ الْكَرَامَاتِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ خَرْقُ الْعَادَةِ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى تَصْدِيقِهِ مَعَ عَدَمِ تَحَقُّقِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ فِي حَقِّهِ؟ وَأَيْضًا تَكَرُّرُ الْكَرَامَةِ يُلْحِقُهَا بِالْمُعْتَادِ فِي حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَذَلِكَ يَصُدُّهُمْ عَنْ تَصْحِيحِ النَّظَرِ فِي الْمُعْجِزَةِ إِذَا ظَهَرَ نَبِيٌّ فِي زَمَنِهِمْ))
وَقَالَ فِي الْجَوَابِ: لِأَئِمَّتِنَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ مَنْعُ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ وَاسْتِمْرَارُهَا حَتَّى تَصِيرَ فِي حُكْمِ الْعَوَائِدِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ظُهُورُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا تَصِيرُ عَادَةً فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرُوهُ وَالثَّانِي - وَهُوَ لِمُعْظَمِ أَئِمَّتِنَا - قَالُوا: إِنَّهُ يَجُوزُ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِفَاءِ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ وَلَا يَشِيعُ وَلَا يُعْتَادُ، لِئَلَّا تَخْرُجَ الْكَرَامَاتُ عَنْ كَوْنِهَا كَرَامَاتٍ. انْتَهَى مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الثَّانِي.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ يُوَافِقُونَ عُلَمَاءَ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ عَلَى مَنْعِ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ وَتَكْرَارِهَا، وَمَنْعِ إِظْهَارِهَا، وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ: إِنَّ مَا يَتَكَرَّرُ لَا يَكُونُ كَرَامَةً لِأَنَّهُ يَكُونُ عَادَةً، وَإِنَّمَا الْكَرَامَةُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الرِّفَاعِيُّ إِنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَسْتَتِرُونَ مِنَ الْكَرَامَةِ كَمَا تَسْتَتِرُ الْمَرْأَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، فَأَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ مِمَّا عَلَيْهِ الدَّجَّالُونَ الْخُرَافِيُّونَ وَسَدَنَةُ الْقُبُورِ الْمُعْتَقِدَةُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ الْكَرَامَةَ الْوَاحِدَةَ تَتَكَرَّرُ لِأَوْلِيَاءَ كَثِيرِينَ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِرَارًا كَثِيرَةً وَكُلُّهَا ظَاهِرَةٌ ذَائِعَةٌ شَائِعَةٌ، بَلْ صِنَاعَةٌ ذَاتُ بِضَاعَةٍ رَابِحَةٍ؟
187
الْكَافِرُونَ بِالْآيَاتِ صِنْفَانِ. مُكَذِّبُونَ وَمُشْرِكُونَ، وَعِلَاجُ كُلٍّ مِنْهُمَا:
الْكَافِرُونَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى صِنْفَانِ: صِنْفٌ يُكَذِّبُهَا كُلَّهَا وَلَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَصِنْفٌ يُشْرِكُ بِاللهِ غَيْرَهُ فِيهَا، فَيَنْحَلُهُ مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَيُشَرِّعُ لِلنَّاسِ أَنْ يَعْبُدُوا هَؤُلَاءِ الْأَغْيَارَ بِدُعَائِهِمْ مِنْ دُونِهِ، وَاسْتِغَاثَتِهِمْ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، بِدَعْوَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ الْغَيْبِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ لِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَجَاهِهِمْ عِنْدَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي أَشْرَكَهُمْ مَعَهُ فَأَعْطَاهُمْ هَذَا التَّصَرُّفَ فِي عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَتَحَامَوْنَ أَلْفَاظَ الْعِبَادَةِ وَالشِّرْكِ وَالْخَلْقِ دُونَ مَعَانِيهَا، فَيَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَعَلَيْهِمْ بِمَا يُكَذِّبُهُمْ بِهِ كِتَابُهُ الْمُنَزَّلُ، وَنَبِيُّهُ الْمُرْسَلُ، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ
آيَاتِ الْكِتَابِ فَيَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى جَهْلِهِمْ، فَيَذْكُرُونَ أَنَّ اللهَ كَانَ يَرْزُقُ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَمَا كَانَ رِزْقُهَا مِنْ فِعْلِهَا، وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ كَيْفَ سَخَّرَهُ اللهُ لَهَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بِتَسْخِيرِ بَعْضِ النَّاسِ لَهَا، وَوَحْيِهِ إِلَى أُمِّ مُوسَى وَمَا هُوَ مِنْ فِعْلِهَا. وَقَدْ قِيلَ بِنُبُوَّتِهَا.
وَإِنَّ إِفْسَادَ هَؤُلَاءِ الْخُرَافِيِّينَ لِلْبَشَرِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ لَأَشَدُّ مِنْ إِفْسَادِ الْمُنْكِرِينَ لِلْآيَاتِ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا، بِأَنَّهُمْ أَكْبَرُ أَسْبَابِ هَذَا الْإِنْكَارِ وَالتَّكْذِيبِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْخَلْقِ بِمَا يُخَالِفُ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، أَوْ يُبَدِّلُهَا بِغَيْرِهَا وَيُحَوِّلُهَا عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ. وَزَعْمُهُمْ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي دَعَا النَّاسَ إِلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ وَجَعَلَهُ أَسَاسَ دِينِهِ، فَكَذَّبُوا بِالدِّينِ مِنْ أَسَاسِهِ، فَتَكُونُ فِتْنَتُهُمْ شَامِلَةً لِفَرِيقَيِ الْكَفَّارِ بِالْآيَاتِ - فَرِيقِ الْمُكَذِّبِينَ وَفَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مَعَ هَذَا قَوْلٌ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللهِ بِكَوْنِهِ شَرْعًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَهُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ بِاللهِ ; لِأَنَّ ضَرَرَهُ مُتَعَدٍّ بِمَا فِيهِ مِنْ إِضْلَالِ النَّاسِ بِاعْتِقَادٍ بَاطِلٍ يَتْبَعُهُ عِبَادَةٌ بَاطِلَةٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ.
عِلَاجُ خُرَافَةِ تَصَرُّفِ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْكَوْنِ:
أَمَّا الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِاللهِ فِي عِبَادَتِهِ بِجَهْلِهِمْ لِآيَاتِهِ، وَتَقْلِيدِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فِي خُرَافَاتِهِمْ فَلَا عِلَاجَ لَهُمْ إِلَّا تَعْلِيمُهُمْ تَوْحِيدَ اللهِ الْخَالِصَ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ، دُونَ نَظَرِيَّاتِ كُتُبِ الْكَلَامِ، وَتَعْلِيمُهُمْ وَظَائِفَ الرُّسُلِ وَكَوْنَهُمْ بَشَرًا، اخْتَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِوَحْيِهِ لِتَبْلِيغِ عِبَادِهِ مَا ارْتَضَاهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَحَصْرِ اخْتِصَاصِهِمْ بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ تَبْشِيرًا وَإِنْذَارًا وَتَنْفِيذِ أَحْكَامِ شَرْعِهِ فِيهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، وَلَمْ يُؤْتِهِمْ مِنَ التَّصَرُّفِ الْفِعْلِيِّ فِي خَلْقِهِ مَا يَقْدِرُونَ بِهِ عَلَى هِدَايَةِ أَقْرَبِ النَّاسِ وَأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِمْ بِالطَّبْعِ كَالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى، فَوَالِدُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَاشَ كَافِرًا وَمَاتَ كَافِرًا عَدُوًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ وَوَلَدُ نُوحٍ
الْكَافِرُونَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى صِنْفَانِ: صِنْفٌ يُكَذِّبُهَا كُلَّهَا وَلَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَصِنْفٌ يُشْرِكُ بِاللهِ غَيْرَهُ فِيهَا، فَيَنْحَلُهُ مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَيُشَرِّعُ لِلنَّاسِ أَنْ يَعْبُدُوا هَؤُلَاءِ الْأَغْيَارَ بِدُعَائِهِمْ مِنْ دُونِهِ، وَاسْتِغَاثَتِهِمْ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، بِدَعْوَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ الْغَيْبِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ لِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَجَاهِهِمْ عِنْدَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي أَشْرَكَهُمْ مَعَهُ فَأَعْطَاهُمْ هَذَا التَّصَرُّفَ فِي عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَتَحَامَوْنَ أَلْفَاظَ الْعِبَادَةِ وَالشِّرْكِ وَالْخَلْقِ دُونَ مَعَانِيهَا، فَيَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَعَلَيْهِمْ بِمَا يُكَذِّبُهُمْ بِهِ كِتَابُهُ الْمُنَزَّلُ، وَنَبِيُّهُ الْمُرْسَلُ، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ
آيَاتِ الْكِتَابِ فَيَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى جَهْلِهِمْ، فَيَذْكُرُونَ أَنَّ اللهَ كَانَ يَرْزُقُ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَمَا كَانَ رِزْقُهَا مِنْ فِعْلِهَا، وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ كَيْفَ سَخَّرَهُ اللهُ لَهَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بِتَسْخِيرِ بَعْضِ النَّاسِ لَهَا، وَوَحْيِهِ إِلَى أُمِّ مُوسَى وَمَا هُوَ مِنْ فِعْلِهَا. وَقَدْ قِيلَ بِنُبُوَّتِهَا.
وَإِنَّ إِفْسَادَ هَؤُلَاءِ الْخُرَافِيِّينَ لِلْبَشَرِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ لَأَشَدُّ مِنْ إِفْسَادِ الْمُنْكِرِينَ لِلْآيَاتِ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا، بِأَنَّهُمْ أَكْبَرُ أَسْبَابِ هَذَا الْإِنْكَارِ وَالتَّكْذِيبِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْخَلْقِ بِمَا يُخَالِفُ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، أَوْ يُبَدِّلُهَا بِغَيْرِهَا وَيُحَوِّلُهَا عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ. وَزَعْمُهُمْ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي دَعَا النَّاسَ إِلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ وَجَعَلَهُ أَسَاسَ دِينِهِ، فَكَذَّبُوا بِالدِّينِ مِنْ أَسَاسِهِ، فَتَكُونُ فِتْنَتُهُمْ شَامِلَةً لِفَرِيقَيِ الْكَفَّارِ بِالْآيَاتِ - فَرِيقِ الْمُكَذِّبِينَ وَفَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مَعَ هَذَا قَوْلٌ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللهِ بِكَوْنِهِ شَرْعًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَهُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ بِاللهِ ; لِأَنَّ ضَرَرَهُ مُتَعَدٍّ بِمَا فِيهِ مِنْ إِضْلَالِ النَّاسِ بِاعْتِقَادٍ بَاطِلٍ يَتْبَعُهُ عِبَادَةٌ بَاطِلَةٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ.
عِلَاجُ خُرَافَةِ تَصَرُّفِ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْكَوْنِ:
أَمَّا الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِاللهِ فِي عِبَادَتِهِ بِجَهْلِهِمْ لِآيَاتِهِ، وَتَقْلِيدِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فِي خُرَافَاتِهِمْ فَلَا عِلَاجَ لَهُمْ إِلَّا تَعْلِيمُهُمْ تَوْحِيدَ اللهِ الْخَالِصَ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ، دُونَ نَظَرِيَّاتِ كُتُبِ الْكَلَامِ، وَتَعْلِيمُهُمْ وَظَائِفَ الرُّسُلِ وَكَوْنَهُمْ بَشَرًا، اخْتَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِوَحْيِهِ لِتَبْلِيغِ عِبَادِهِ مَا ارْتَضَاهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَحَصْرِ اخْتِصَاصِهِمْ بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ تَبْشِيرًا وَإِنْذَارًا وَتَنْفِيذِ أَحْكَامِ شَرْعِهِ فِيهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، وَلَمْ يُؤْتِهِمْ مِنَ التَّصَرُّفِ الْفِعْلِيِّ فِي خَلْقِهِ مَا يَقْدِرُونَ بِهِ عَلَى هِدَايَةِ أَقْرَبِ النَّاسِ وَأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِمْ بِالطَّبْعِ كَالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى، فَوَالِدُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَاشَ كَافِرًا وَمَاتَ كَافِرًا عَدُوًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ وَوَلَدُ نُوحٍ
188
أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ مَاتَ كَافِرًا وَلَمْ يَأْذَنِ اللهُ تَعَالَى لَهُ بِحَمْلِهِ فِي السَّفِينَةِ فَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ الْمُغْرَقِينَ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ عَمُّ مُحَمَّدٍ حَبِيبِ اللهِ وَرَسُولِهِ أَشَدَّ أَعْدَائِهِ الصَّادِّينَ عَنْهُ الْمُؤْذِينَ لَهُ، وَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَمِّهِ وَوَعِيدِهِ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ يَتَعَبَّدُ بِهَا
الْمُؤْمِنُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَمْ يَنْزِلْ مِثْلُهَا فِي أَحَدٍ مِنْ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ كَانَ مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ عَمَّهُ الَّذِي كَفَلَهُ وَرَبَّاهُ وَكَفَّ عَنْهُ أَذَى الْمُشْرِكِينَ مَا اسْتَطَاعَ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) لِيَشْهَدَ لَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَامْتَنَعَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَوْضُوعَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) (٦: ٧٤) الْآيَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَّا فِي خُلَاصَةِ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) وَظَائِفَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِمَا يَحْسُنُ أَنْ يُرَاجِعَهُ مَنْ يُحِبُّ اسْتِيفَاءَ هَذَا الْمَوْضُوعِ وَإِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ لَمْ يُؤْتُوا الْقُدْرَةَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ فَكَيْفَ يُؤْتَاهُ الْأَوْلِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ؟
الْمُنْكِرُونَ لِلْمُعْجِزَاتِ وَشُبْهَةُ الْخَوَارِقِ الْكَسْبِيَّةِ عَلَيْهَا:
وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لَهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ مَا يَنْقُلُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ آيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهَا مِنَ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلَا يُسَلِّمُونَ صِحَّةَ تَوَاتُرِهَا، إِذْ يَقِيسُونَ نَقْلَهُمْ لَهَا عَلَى مَا يَنْقُلُهُ الْعَوَامُّ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَقِدِينَ فِي بِلَادِهِمْ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَادِعَةِ الَّتِي مَثَارُهَا الْوَهْمُ وَالتَّخَيُّلُ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ يُوسِيفُوسَ الْمُؤَرِّخَ الْيَهُودِيَّ الْمُعَاصِرَ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْقُلْ لِلنَّاسِ أَخْبَارَ عَجَائِبِهِ الَّتِي تَقُصُّهَا الْأَنَاجِيلُ الَّتِي أُلِّفَتْ بَعْدَهُ، وَيُعَلِّلُونَهَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ النَّقْلِ بِمَا يُعَلِّلُونَ بِهِ الْخَوَارِقَ الصُّورِيَّةَ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا تَعْلِيلَهَا قَالُوا: إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ كَسْبِيٍّ يَظْهَرُ لَنَا أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ فَاعِلُوهَا، كَمَا وَقَعَ فِي أَمْثَالِهَا مِنْ صُوفِيَّةِ الْهِنْدُوسِ (الْفُقَرَاءِ) كَالِارْتِفَاعِ فِي الْهَوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَغْرَبُ مِنْهُ.
رَوَتْ إِحْدَى الْجَرَائِدِ الْمِصْرِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ أَخْبَارِ سَائِحِي الْإِفْرِنْجِ فِي الْهِنْدِ حَادِثَةً لِفَقِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ اسْمُهُ سَارَجُوهَا رَدْيَاسْ وَقَعَتْ فِي سَنَةِ ١٨٣٧، وَخُلَاصَتُهَا أَنَّ هَذَا الْفَقِيرَ جَاءَ قَصْرَ الْمَهَرَاجَا رَانْجِيتْ سَنْجَا أَمِيرِ بَنْجَابَ وَعَرَضَ
عَلَيْهِ أَنْ يُرِيَهُ بَعْضَ كَرَامَاتِهِ، وَكَانَ الْمَهَرَاجَا لَا يُصَدِّقُ مَا يُنْقَلُ مِنْ خَوَارِقِ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ، فَسَأَلَهُ عَمَّا يُرِيدُ
الْمُؤْمِنُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَمْ يَنْزِلْ مِثْلُهَا فِي أَحَدٍ مِنْ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ كَانَ مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ عَمَّهُ الَّذِي كَفَلَهُ وَرَبَّاهُ وَكَفَّ عَنْهُ أَذَى الْمُشْرِكِينَ مَا اسْتَطَاعَ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) لِيَشْهَدَ لَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَامْتَنَعَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَوْضُوعَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) (٦: ٧٤) الْآيَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَّا فِي خُلَاصَةِ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) وَظَائِفَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِمَا يَحْسُنُ أَنْ يُرَاجِعَهُ مَنْ يُحِبُّ اسْتِيفَاءَ هَذَا الْمَوْضُوعِ وَإِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ لَمْ يُؤْتُوا الْقُدْرَةَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ فَكَيْفَ يُؤْتَاهُ الْأَوْلِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ؟
الْمُنْكِرُونَ لِلْمُعْجِزَاتِ وَشُبْهَةُ الْخَوَارِقِ الْكَسْبِيَّةِ عَلَيْهَا:
وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لَهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ مَا يَنْقُلُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ آيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهَا مِنَ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلَا يُسَلِّمُونَ صِحَّةَ تَوَاتُرِهَا، إِذْ يَقِيسُونَ نَقْلَهُمْ لَهَا عَلَى مَا يَنْقُلُهُ الْعَوَامُّ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَقِدِينَ فِي بِلَادِهِمْ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَادِعَةِ الَّتِي مَثَارُهَا الْوَهْمُ وَالتَّخَيُّلُ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ يُوسِيفُوسَ الْمُؤَرِّخَ الْيَهُودِيَّ الْمُعَاصِرَ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْقُلْ لِلنَّاسِ أَخْبَارَ عَجَائِبِهِ الَّتِي تَقُصُّهَا الْأَنَاجِيلُ الَّتِي أُلِّفَتْ بَعْدَهُ، وَيُعَلِّلُونَهَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ النَّقْلِ بِمَا يُعَلِّلُونَ بِهِ الْخَوَارِقَ الصُّورِيَّةَ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا تَعْلِيلَهَا قَالُوا: إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ كَسْبِيٍّ يَظْهَرُ لَنَا أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ فَاعِلُوهَا، كَمَا وَقَعَ فِي أَمْثَالِهَا مِنْ صُوفِيَّةِ الْهِنْدُوسِ (الْفُقَرَاءِ) كَالِارْتِفَاعِ فِي الْهَوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَغْرَبُ مِنْهُ.
رَوَتْ إِحْدَى الْجَرَائِدِ الْمِصْرِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ أَخْبَارِ سَائِحِي الْإِفْرِنْجِ فِي الْهِنْدِ حَادِثَةً لِفَقِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ اسْمُهُ سَارَجُوهَا رَدْيَاسْ وَقَعَتْ فِي سَنَةِ ١٨٣٧، وَخُلَاصَتُهَا أَنَّ هَذَا الْفَقِيرَ جَاءَ قَصْرَ الْمَهَرَاجَا رَانْجِيتْ سَنْجَا أَمِيرِ بَنْجَابَ وَعَرَضَ
عَلَيْهِ أَنْ يُرِيَهُ بَعْضَ كَرَامَاتِهِ، وَكَانَ الْمَهَرَاجَا لَا يُصَدِّقُ مَا يُنْقَلُ مِنْ خَوَارِقِ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ، فَسَأَلَهُ عَمَّا يُرِيدُ
189
إِظْهَارَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ يُدْفَنُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِمْ حَيًّا، فَأَحْضَرَ الْمَهَرَاجَا نَفَرًا مِنْ أَطِبَّاءِ الْإِنْكِلِيزِ وَالْفَرَنْسِيسِ وَأُمَرَاءِ بَنْجَابَ، فَجَلَسَ الْفَقِيرُ الْقُرْفُصَاءَ أَمَامَهُمْ فَكَفَّنُوهُ بَعْدَ أَنْ وَضَعُوا الْقُطْنَ وَالشَّمْعَ عَلَى أُذُنَيْهِ وَأَنْفِهِ - كَمَا أَوْصَاهُمْ - وَخَاطُوا عَلَيْهِ الْكَفَنَ وَوَضَعُوهُ فِي صُنْدُوقٍ مِنَ الْخَشَبِ السَّمِيكِ وَسَمَّرُوا غِطَاءَهُ وَوَضَعَ الْمَهَرَاجَا عَلَيْهِ خِتْمَهُ، وَدَفَنُوهُ فِي قَبْوٍ دَاخِلَ حُجْرَةٍ صَغِيرَةٍ فِي حَدِيقَةِ الْقَصْرِ وَأَقْفَلُوا بَابَهَا وَوَضَعَ الْمَهَرَاجَا خِتْمَهُ بِالشَّمْعِ عَلَى قُفْلِهَا، وَأَمَرَ اثْنَيْنِ مِنْ رِجَالِ حَرَسِهِ الْأُمَنَاءِ بِحِرَاسَتِهَا وَطَائِفَةً مِنْ جُنْدِهِ بِمُعَاوَنَتِهِمَا، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِمَشْهَدِ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ وَالْبَنْجَابِيِّينَ وَحَاشِيَةِ الْمَهَرَاجَا.
وَلَمَّا تَمَّتِ الْأَرْبَعُونَ حَضَرَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ قَصْرَ الْمَهَرَاجَا وَشَاهَدُوا خِتْمَ الْحُجْرَةِ كَمَا كَانَ، وَالْعُشْبَ أَمَامَهَا فِي الْحَدِيقَةِ لَمْ تَطَأْهُ قَدَمُ أَحَدٍ، ثُمَّ فَتَحُوا بَابَ الْحُجْرَةِ وَامْتَحَنُوا أَخْتَامَ الْقَبْوِ ثُمَّ أَخْرَجُوا الصُّنْدُوقَ وَامْتَحَنُوا أَخْتَامَهُ فَوَجَدُوهَا كُلَّهَا عَلَى حَالِهَا، فَفَتَحُوهُ، وَأَخْرَجُوا الْفَقِيرَ مِنْهُ فَإِذَا هُوَ كَمَا وَصَفَهُ أَحَدُ أُولَئِكَ مِنَ الْإِنْجِلِيزِ. قَالَ:
لَمَّا فَتَحُوا الصُّنْدُوقَ وَأَخْرَجُوا الْفَقِيرَ مِنْهُ وَجَدْتُ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ صُلْبَةً وَالرَّأْسَ مَائِلًا عَلَى إِحْدَى الْكَتِفَيْنِ، فَخِلْتُنِي أَمَامَ جُثَّةٍ هَامِدَةٍ فَارَقَتْهَا الْحَيَاةُ مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ، فَطَلَبْتُ مِنْ طَبِيبِي أَنْ يَفْحَصَهَا فَانْحَنَى عَلَيْهَا وَجَسَّ الْقَلْبَ وَالصُّدْغَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ أَثَرًا لِلنَّبْضِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ شَعَرَ بِحَرَارَةٍ فِي مِنْطَقَةِ الدِّمَاغِ إِلَخْ.
ثُمَّ نَفَّذَ مَا أَوْصَى الْفَقِيرُ أَنْ يُعْمَلَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ، فَغَسَلَ الْجِسْمَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فَرَدَّ عَلَى الْأَوْصَالِ لِينَهَا السَّابِقَ بِالتَّدْرِيجِ، وَأُزِيلَ الْقُطْنُ وَالشَّمْعُ عَنِ الْأُذُنَيْنِ وَالْأَنْفِ وَوُضِعَتْ أَكْيَاسٌ دَافِئَةٌ عَلَى الرَّأْسِ فَدَبَّتِ الْحَيَاةُ فِي الْجَسَدِ الْمُسَجَّى، وَتَقَلَّصَتِ الْأَعْصَابُ وَالْأَطْرَافُ ثُمَّ اضْطَرَبَتْ فَسَالَ مِنْهَا عَرَقٌ غَزِيرٌ وَعَادَتِ الْأَعْضَاءُ إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى، وَبَعْدَ دَقَائِقَ اتَّسَعَتْ حَدَقَتَا الْعَيْنَيْنِ وَعَادَ إِلَيْهِمَا لَوْنُهُمَا الطَّبِيعِيُّ، فَلَمَّا رَأَى الْفَقِيرُ الْمَهَرَاجَا شَاخِصًا إِلَيْهِ دَهِشًا مُتَحَيِّرًا قَالَ لَهُ: ((أَرَأَيْتَ يَا مَوْلَايَ صِدْقَ قَوْلِي وَفِعْلِي؟ وَبَعْدَ نِصْفِ سَاعَةٍ خَرَجَ مِنَ التَّابُوتِ وَأَنْشَأَ يُحَدِّثُ الْحَاضِرِينَ أَحْسَنَ حَدِيثٍ وَيُطْرِفُهُمْ بِمَا يُحَيِّرُ الْعُقُولَ. اهـ.
إِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ مِنْ آيَاتِ اللهِ الَّتِي أَظْهَرَتْهَا الرِّيَاضَةُ الْمُكْتَسَبَةُ، وَهِيَ أَعْجَبُ مِنْ رِوَايَةِ الْإِنْجِيلِ لِمَوْتِ لِيعَازِرَ ثُمَّ حَيَاتِهِ بِدُعَاءِ الْمَسِيحِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ عَجَائِبِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَغْرَبُ مِنْ حَادِثَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَيْضًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْفَقِيرَ الْهِنْدِيَّ قَدْ سُدَّ أَنْفُهُ وَلُفَّ فِي كَفَنٍ وَوُضِعَ فِي تَابُوتٍ دُفِنَ تَحْتَ الْأَرْضِ، فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهَوَاءِ الَّذِي لَا يَعِيشُ أَحَدٌ بِدُونِهِ عَادَةً، وَأَهْلُ الْكَهْفِ نَامُوا فِي فَجْوَةٍ وَاسِعَةٍ مِنْ كَهْفٍ بَابُهُ إِلَى الشِّمَالِ، مَهَبِّ الْهَوَاءِ اللَّطِيفِ، وَكَانَتِ الشَّمْسُ تُصِيبُ مَدْخَلَهُ مِنْ جَانِبَيْهِ عِنْدَ شُرُوقِهَا وَعِنْدَ غُرُوبِهَا مَائِلَةً
وَلَمَّا تَمَّتِ الْأَرْبَعُونَ حَضَرَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ قَصْرَ الْمَهَرَاجَا وَشَاهَدُوا خِتْمَ الْحُجْرَةِ كَمَا كَانَ، وَالْعُشْبَ أَمَامَهَا فِي الْحَدِيقَةِ لَمْ تَطَأْهُ قَدَمُ أَحَدٍ، ثُمَّ فَتَحُوا بَابَ الْحُجْرَةِ وَامْتَحَنُوا أَخْتَامَ الْقَبْوِ ثُمَّ أَخْرَجُوا الصُّنْدُوقَ وَامْتَحَنُوا أَخْتَامَهُ فَوَجَدُوهَا كُلَّهَا عَلَى حَالِهَا، فَفَتَحُوهُ، وَأَخْرَجُوا الْفَقِيرَ مِنْهُ فَإِذَا هُوَ كَمَا وَصَفَهُ أَحَدُ أُولَئِكَ مِنَ الْإِنْجِلِيزِ. قَالَ:
لَمَّا فَتَحُوا الصُّنْدُوقَ وَأَخْرَجُوا الْفَقِيرَ مِنْهُ وَجَدْتُ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ صُلْبَةً وَالرَّأْسَ مَائِلًا عَلَى إِحْدَى الْكَتِفَيْنِ، فَخِلْتُنِي أَمَامَ جُثَّةٍ هَامِدَةٍ فَارَقَتْهَا الْحَيَاةُ مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ، فَطَلَبْتُ مِنْ طَبِيبِي أَنْ يَفْحَصَهَا فَانْحَنَى عَلَيْهَا وَجَسَّ الْقَلْبَ وَالصُّدْغَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ أَثَرًا لِلنَّبْضِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ شَعَرَ بِحَرَارَةٍ فِي مِنْطَقَةِ الدِّمَاغِ إِلَخْ.
ثُمَّ نَفَّذَ مَا أَوْصَى الْفَقِيرُ أَنْ يُعْمَلَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ، فَغَسَلَ الْجِسْمَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فَرَدَّ عَلَى الْأَوْصَالِ لِينَهَا السَّابِقَ بِالتَّدْرِيجِ، وَأُزِيلَ الْقُطْنُ وَالشَّمْعُ عَنِ الْأُذُنَيْنِ وَالْأَنْفِ وَوُضِعَتْ أَكْيَاسٌ دَافِئَةٌ عَلَى الرَّأْسِ فَدَبَّتِ الْحَيَاةُ فِي الْجَسَدِ الْمُسَجَّى، وَتَقَلَّصَتِ الْأَعْصَابُ وَالْأَطْرَافُ ثُمَّ اضْطَرَبَتْ فَسَالَ مِنْهَا عَرَقٌ غَزِيرٌ وَعَادَتِ الْأَعْضَاءُ إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى، وَبَعْدَ دَقَائِقَ اتَّسَعَتْ حَدَقَتَا الْعَيْنَيْنِ وَعَادَ إِلَيْهِمَا لَوْنُهُمَا الطَّبِيعِيُّ، فَلَمَّا رَأَى الْفَقِيرُ الْمَهَرَاجَا شَاخِصًا إِلَيْهِ دَهِشًا مُتَحَيِّرًا قَالَ لَهُ: ((أَرَأَيْتَ يَا مَوْلَايَ صِدْقَ قَوْلِي وَفِعْلِي؟ وَبَعْدَ نِصْفِ سَاعَةٍ خَرَجَ مِنَ التَّابُوتِ وَأَنْشَأَ يُحَدِّثُ الْحَاضِرِينَ أَحْسَنَ حَدِيثٍ وَيُطْرِفُهُمْ بِمَا يُحَيِّرُ الْعُقُولَ. اهـ.
إِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ مِنْ آيَاتِ اللهِ الَّتِي أَظْهَرَتْهَا الرِّيَاضَةُ الْمُكْتَسَبَةُ، وَهِيَ أَعْجَبُ مِنْ رِوَايَةِ الْإِنْجِيلِ لِمَوْتِ لِيعَازِرَ ثُمَّ حَيَاتِهِ بِدُعَاءِ الْمَسِيحِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ عَجَائِبِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَغْرَبُ مِنْ حَادِثَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَيْضًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْفَقِيرَ الْهِنْدِيَّ قَدْ سُدَّ أَنْفُهُ وَلُفَّ فِي كَفَنٍ وَوُضِعَ فِي تَابُوتٍ دُفِنَ تَحْتَ الْأَرْضِ، فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهَوَاءِ الَّذِي لَا يَعِيشُ أَحَدٌ بِدُونِهِ عَادَةً، وَأَهْلُ الْكَهْفِ نَامُوا فِي فَجْوَةٍ وَاسِعَةٍ مِنْ كَهْفٍ بَابُهُ إِلَى الشِّمَالِ، مَهَبِّ الْهَوَاءِ اللَّطِيفِ، وَكَانَتِ الشَّمْسُ تُصِيبُ مَدْخَلَهُ مِنْ جَانِبَيْهِ عِنْدَ شُرُوقِهَا وَعِنْدَ غُرُوبِهَا مَائِلَةً
190
مُتَزَاوِرَةً عَنْهُمْ، فَتُلَطِّفُ هَوَاءَهُ مِنْ حَيْثُ لَا تُصِيبُهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ أَكْبَرُ الْغَرَابَةِ فِي نَوْمِهِمْ طُولَ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِيهِ وَكَانَتْ طَوِيلَةً جِدًّا حَتَّى عَلَى نَقْلِ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ) (١٨: ٢٥) الْآيَةَ - حِكَايَةٌ عَنْ بَعْضِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ السِّيَاقِ فَقَدْ يُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا: (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا) (١٨: ٢٦) وَاللهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ حَالٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنْ خَفِيَ سِرُّ آيَاتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ بِمُحَالٍ. وَقَدْ نَامَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَصْرِ بِمَرَضِ النَّوْمِ عِدَّةَ أَشْهُرٍ.
وَلَكِنْ مَا جَرَى لِلْفَقِيرِ الْهِنْدِيِّ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ فِي النَّاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَقَعَ بِطَرِيقَةٍ كَسَبِيَّةٍ مِنْ طَرَائِقَ رِيَاضَةِ هَؤُلَاءِ الصُّوفِيَّةِ لِأَبْدَانِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِمَا تَبْقَى بِهِ الْحَيَاةُ كَامِنَةً فِي أَجْسَادِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، مَعَ انْتِفَاءِ أَسْبَابِهَا الْعَامَّةِ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ الِاعْتِيَادِيَّةِ مِنْ دَوْرَةِ الدَّمِ وَالنَّفَسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِاتِّخَاذِ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِنْكَارَ كُلِّ مَا يُخَالِفُ السُّنَنَ الْعَامَّةَ قَاعِدَةً عَامَّةً وَلَا سِيَّمَا فِعْلِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ، وَوَاضِعُ نِظَامِ السُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ بِمَشِيئَتِهِ، وَأَكْثَرُ مُنْكِرِي الْخَوَارِقِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ وُقُوعَ شَيْءٍ مُخَالِفٍ لِسُنَنِهِ بِأَنَّهُ مُنَافٍ لِحِكْمَتِهِ، وَمَنْ ذَا الَّذِي أَحَاطَ بِحِكَمِهِ أَوْ بِسُنَنِهِ عِلْمًا؟ وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْضِي بِهِ الْعَقْلُ أَلَّا نُصَدِّقَ بِوُقُوعِ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ الْمَادَّةِ وَعُلَمَاءِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ خَوَاصِّ
الْكَهْرَبَاءِ وَغَيْرِهَا مَا لَوْ قِيلَ لِعُقَلَاءِ النَّاسِ وَحُكَمَائِهِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِالْفِعْلِ إِنَّهُ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، لَحَكَمُوا عَلَى مُدَّعِي إِمْكَانِهِ بِالْجُنُونِ لَا بِتَصْدِيقِ الْخُرَافَاتِ، كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ.
الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَوَارِقِ الْكَسْبِيَّةِ وَالْحَقِيقِيَّةِ:
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَسْرَارَ هَذَا الْكَوْنِ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا خَالِقُهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَقَائِعُ غَرِيبَةٌ تُعَدُّ مِنْ هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْجَارِيَةِ عَلَى غَيْرِ نِظَامِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ، بِحَسَبِ مَا يَتَرَاءَى لِلْجُمْهُورِ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَإِنَّ مَا يَتَنَاقَلُهُ الْجُمْهُورُ الْمُولَعُ بِالْغَرَائِبِ مِنْهَا - مِنْهُ مَا هُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَمِنْهُ مَا لَهُ أَسْبَابٌ عِلْمِيَّةٌ أَوْ صِنَاعِيَّةٌ خَفِيَّةٌ يَجْهَلُهَا الْأَكْثَرُونَ، وَمِنْهُ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَلَيْسَ مِنْهَا، وَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ الْوَهْمُ كَشِفَاءِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ، أَوِ انْخِدَاعِ الْبَصَرِ بِالتَّخَيُّيِلِ الَّذِي يَحْذَقُهُ الْمُشَعْوِذُونَ، وَمِنْهُ مَا فَعَلَهُ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ الْمُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (٢٠: ٦٦) وَمِنْهُ انْخِدَاعُ السَّمْعِ كَالَّذِي يَفْعَلُهُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اسْتِخْدَامَ الْجِنِّ، إِذْ يَتَكَلَّمُونَ لَيْلًا بِأَصْوَاتٍ غَرِيبَةٍ غَيْرِ أَصْوَاتِهِمُ الْمُعْتَادَةِ فَيَظُنُّ مُصَدِّقُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ صَوْتُ الْجِنِّيِّ، وَقَدْ يَتَكَلَّمُونَ نَهَارًا مِنْ بُطُونِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّكُوا شِفَاهَهُمْ، فَلَا يُوثَقُ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَلَا مِنْ نَقْلِهِمْ - وَمِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى كَذِبِ الْمُنْتَحِلِينَ
وَلَكِنْ مَا جَرَى لِلْفَقِيرِ الْهِنْدِيِّ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ فِي النَّاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَقَعَ بِطَرِيقَةٍ كَسَبِيَّةٍ مِنْ طَرَائِقَ رِيَاضَةِ هَؤُلَاءِ الصُّوفِيَّةِ لِأَبْدَانِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِمَا تَبْقَى بِهِ الْحَيَاةُ كَامِنَةً فِي أَجْسَادِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، مَعَ انْتِفَاءِ أَسْبَابِهَا الْعَامَّةِ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ الِاعْتِيَادِيَّةِ مِنْ دَوْرَةِ الدَّمِ وَالنَّفَسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِاتِّخَاذِ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِنْكَارَ كُلِّ مَا يُخَالِفُ السُّنَنَ الْعَامَّةَ قَاعِدَةً عَامَّةً وَلَا سِيَّمَا فِعْلِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ، وَوَاضِعُ نِظَامِ السُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ بِمَشِيئَتِهِ، وَأَكْثَرُ مُنْكِرِي الْخَوَارِقِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ وُقُوعَ شَيْءٍ مُخَالِفٍ لِسُنَنِهِ بِأَنَّهُ مُنَافٍ لِحِكْمَتِهِ، وَمَنْ ذَا الَّذِي أَحَاطَ بِحِكَمِهِ أَوْ بِسُنَنِهِ عِلْمًا؟ وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْضِي بِهِ الْعَقْلُ أَلَّا نُصَدِّقَ بِوُقُوعِ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ الْمَادَّةِ وَعُلَمَاءِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ خَوَاصِّ
الْكَهْرَبَاءِ وَغَيْرِهَا مَا لَوْ قِيلَ لِعُقَلَاءِ النَّاسِ وَحُكَمَائِهِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِالْفِعْلِ إِنَّهُ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، لَحَكَمُوا عَلَى مُدَّعِي إِمْكَانِهِ بِالْجُنُونِ لَا بِتَصْدِيقِ الْخُرَافَاتِ، كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ.
الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَوَارِقِ الْكَسْبِيَّةِ وَالْحَقِيقِيَّةِ:
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَسْرَارَ هَذَا الْكَوْنِ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا خَالِقُهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَقَائِعُ غَرِيبَةٌ تُعَدُّ مِنْ هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْجَارِيَةِ عَلَى غَيْرِ نِظَامِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ، بِحَسَبِ مَا يَتَرَاءَى لِلْجُمْهُورِ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَإِنَّ مَا يَتَنَاقَلُهُ الْجُمْهُورُ الْمُولَعُ بِالْغَرَائِبِ مِنْهَا - مِنْهُ مَا هُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَمِنْهُ مَا لَهُ أَسْبَابٌ عِلْمِيَّةٌ أَوْ صِنَاعِيَّةٌ خَفِيَّةٌ يَجْهَلُهَا الْأَكْثَرُونَ، وَمِنْهُ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَلَيْسَ مِنْهَا، وَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ الْوَهْمُ كَشِفَاءِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ، أَوِ انْخِدَاعِ الْبَصَرِ بِالتَّخَيُّيِلِ الَّذِي يَحْذَقُهُ الْمُشَعْوِذُونَ، وَمِنْهُ مَا فَعَلَهُ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ الْمُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (٢٠: ٦٦) وَمِنْهُ انْخِدَاعُ السَّمْعِ كَالَّذِي يَفْعَلُهُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اسْتِخْدَامَ الْجِنِّ، إِذْ يَتَكَلَّمُونَ لَيْلًا بِأَصْوَاتٍ غَرِيبَةٍ غَيْرِ أَصْوَاتِهِمُ الْمُعْتَادَةِ فَيَظُنُّ مُصَدِّقُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ صَوْتُ الْجِنِّيِّ، وَقَدْ يَتَكَلَّمُونَ نَهَارًا مِنْ بُطُونِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّكُوا شِفَاهَهُمْ، فَلَا يُوثَقُ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَلَا مِنْ نَقْلِهِمْ - وَمِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى كَذِبِ الْمُنْتَحِلِينَ
191
لِهَذِهِ الْغَرَائِبِ أَنَّهُمْ جَعَلُوهَا وَسِيلَةً لِمَعَايِشِهِمُ الدَّنِيئَةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيهَا لَتَنَافَسَ الْمُلُوكُ وَكِبَارُ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي صُحْبَتِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِمْ.
الْمُعْجِزَاتُ قِسْمَانِ: تَكْوِينِيَّةٌ وَرُوحَانِيَّةٌ تُشْبِهُ الْكَسْبِيَّةَ:
الْمُعْجِزَاتُ كُلُّهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَسْبِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلَكِنَّهَا بِحَسَبِ مَظْهَرِهَا قِسْمَانِ: قِسْمٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ يَجْرِي عَلَيْهَا فَهُوَ يُشْبِهُ الْأَحْكَامَ الِاسْتِثْنَائِيَّةَ فِي قَوَانِينِ الْحُكُومَاتِ أَوْ مَا يَكُونُ بِإِرَادَةٍ سَنِيَّةٍ مِنَ الْمُلُوكِ لِمَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ.
((وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)) وَقِسْمٌ يَقَعُ بِسُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ رُوحَانِيَّةٍ لَا مَادِّيَّةٍ.
أَمَّا الْمَأْثُورُ مِنْ آيَاتِ اللهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَثْبَتَهَا الْقُرْآنُ لَهُ، كَالْآيَاتِ التِّسْعِ بِمِصْرَ فَهِيَ مِنَ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا بِكَسْبٍ لَهُ حَقِيقِيٍّ وَلَا صُورِيٍّ وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الْأُخْرَى الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أَثْنَاءِ خُرُوجِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُدَّةَ التِّيهِ،
بَلْ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ بِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى بِدُونِ سَبَبٍ كَسْبِيٍّ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مَا يَأْمُرُهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْبَحْرِ أَوِ الْحَجَرِ بِعَصَاهُ الَّتِي هِيَ آيَتُهُ الْكُبْرَى، وَلَمْ يَرِدْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ آيَةٌ كَهَذِهِ الْآيَاتِ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ، وَلَا هِيَ مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِالرِّيَاضَةِ الرُّوحِيَّةِ أَوْ خَوَاصِّ الْمَادَّةِ وَقُوَاهَا.
وَأَمَّا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْآيَاتُ الَّتِي أَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا - عَلَى كَوْنِهَا خَارِقَةً لِلْعَادَاتِ الْكَسْبِيَّةِ وَعَلَى خِلَافِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ - قَدْ يَظْهَرُ فِيهَا أَنَّهَا كُلَّهَا أَوْ جُلَّهَا حَدَثَ عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، كَمَا كَانَ خَلْقُهُ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَمَلَتْ أُمُّهُ بِهِ بِنَفْخَةٍ مِنْ رُوحِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا - وَهُوَ الْمَلَكُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ سَبَبَ عُلُوقِهَا بِهِ بِفِعْلِهَا فِي الرَّحِمِ مَا يَفْعَلُ تَلْقِيحُ الرَّجُلِ بِقُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا غَرْوَ أَنْ كَانَتْ مَظَاهِرُ آيَاتِهِ أَعْظَمَ مِنْ مَظَاهِرِ سَائِرِ الرُّوحِيِّينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، كَالْكَشْفِ وَشِفَاءِ بَعْضِ الْمَرْضَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْمَادَّةِ الَّذِي اشْتُهِرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّوحَانِيِّينَ مِنْ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ رُوحَانِيَّتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْوَى وَأَكْمَلُ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِعَمَلٍ كَسْبِيٍّ مِنْهُ، بَلْ مِنْ أَصْلِ خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِآيَةٍ مِنْهُ كَمَا قَالَ: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) (٢١: ٩١) (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (٢٣: ٥٠) فَآيَتُهُمَا هِيَ الْحَمْلُ بِهِ وَخَلْقُهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ الْإِلَهِيِّ لَا بِسَبَبِ التَّلْقِيحِ الْبَشَرِيِّ، وَلَا بِمَا قِيلَ مِنِ احْتِمَالِ وُجُودِ مَادَّتَيِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي رَحِمِهَا.
وَأَعْظَمُ آيَاتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا لَهُ التَّنْزِيلُ وَلَمْ يَنْقُلْهَا مُؤَلِّفُو الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ (وَرُوِيَ أَنَّهَا
الْمُعْجِزَاتُ قِسْمَانِ: تَكْوِينِيَّةٌ وَرُوحَانِيَّةٌ تُشْبِهُ الْكَسْبِيَّةَ:
الْمُعْجِزَاتُ كُلُّهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَسْبِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلَكِنَّهَا بِحَسَبِ مَظْهَرِهَا قِسْمَانِ: قِسْمٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ يَجْرِي عَلَيْهَا فَهُوَ يُشْبِهُ الْأَحْكَامَ الِاسْتِثْنَائِيَّةَ فِي قَوَانِينِ الْحُكُومَاتِ أَوْ مَا يَكُونُ بِإِرَادَةٍ سَنِيَّةٍ مِنَ الْمُلُوكِ لِمَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ.
((وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)) وَقِسْمٌ يَقَعُ بِسُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ رُوحَانِيَّةٍ لَا مَادِّيَّةٍ.
أَمَّا الْمَأْثُورُ مِنْ آيَاتِ اللهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَثْبَتَهَا الْقُرْآنُ لَهُ، كَالْآيَاتِ التِّسْعِ بِمِصْرَ فَهِيَ مِنَ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا بِكَسْبٍ لَهُ حَقِيقِيٍّ وَلَا صُورِيٍّ وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الْأُخْرَى الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أَثْنَاءِ خُرُوجِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُدَّةَ التِّيهِ،
بَلْ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ بِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى بِدُونِ سَبَبٍ كَسْبِيٍّ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مَا يَأْمُرُهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْبَحْرِ أَوِ الْحَجَرِ بِعَصَاهُ الَّتِي هِيَ آيَتُهُ الْكُبْرَى، وَلَمْ يَرِدْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ آيَةٌ كَهَذِهِ الْآيَاتِ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ، وَلَا هِيَ مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِالرِّيَاضَةِ الرُّوحِيَّةِ أَوْ خَوَاصِّ الْمَادَّةِ وَقُوَاهَا.
وَأَمَّا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْآيَاتُ الَّتِي أَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا - عَلَى كَوْنِهَا خَارِقَةً لِلْعَادَاتِ الْكَسْبِيَّةِ وَعَلَى خِلَافِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ - قَدْ يَظْهَرُ فِيهَا أَنَّهَا كُلَّهَا أَوْ جُلَّهَا حَدَثَ عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، كَمَا كَانَ خَلْقُهُ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَمَلَتْ أُمُّهُ بِهِ بِنَفْخَةٍ مِنْ رُوحِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا - وَهُوَ الْمَلَكُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ سَبَبَ عُلُوقِهَا بِهِ بِفِعْلِهَا فِي الرَّحِمِ مَا يَفْعَلُ تَلْقِيحُ الرَّجُلِ بِقُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا غَرْوَ أَنْ كَانَتْ مَظَاهِرُ آيَاتِهِ أَعْظَمَ مِنْ مَظَاهِرِ سَائِرِ الرُّوحِيِّينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، كَالْكَشْفِ وَشِفَاءِ بَعْضِ الْمَرْضَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْمَادَّةِ الَّذِي اشْتُهِرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّوحَانِيِّينَ مِنْ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ رُوحَانِيَّتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْوَى وَأَكْمَلُ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِعَمَلٍ كَسْبِيٍّ مِنْهُ، بَلْ مِنْ أَصْلِ خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِآيَةٍ مِنْهُ كَمَا قَالَ: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) (٢١: ٩١) (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (٢٣: ٥٠) فَآيَتُهُمَا هِيَ الْحَمْلُ بِهِ وَخَلْقُهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ الْإِلَهِيِّ لَا بِسَبَبِ التَّلْقِيحِ الْبَشَرِيِّ، وَلَا بِمَا قِيلَ مِنِ احْتِمَالِ وُجُودِ مَادَّتَيِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي رَحِمِهَا.
وَأَعْظَمُ آيَاتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا لَهُ التَّنْزِيلُ وَلَمْ يَنْقُلْهَا مُؤَلِّفُو الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ (وَرُوِيَ أَنَّهَا
192
مَنْصُوصَةٌ فِي إِنْجِيلِ الطُّفُولِيَّةِ الَّذِي نَبَذَتْهُ الْمَجَامِعُ الْكَنَسِيَّةُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَفُقِدَ مِنَ الْعَالَمِ هِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ قِطْعَةً مِنَ الطِّينِ فَيَجْعَلُهَا بِهَيْئَةِ طَيْرٍ، فَيَنْفُخُ فِيهِ أَيْ مِنْ رُوحِهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَطِيرُ قَلِيلًا وَيَقَعُ مَيِّتًا. وَدُونَ هَذَا إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ الصَّحِيحِ الْجِسْمِ الْقَرِيبِ الْعَهْدِ بِالْحَيَاةِ، فَإِنَّ تَوْجِيهَ سَيَّالِ رُوحِهِ الْقَوِيِّ إِلَى جُثَّةِ الْمَيِّتِ مَعَ تَوْجِيهِ قَلْبِهِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَدُعَائِهِ، كَانَ يَكُونُ سَبَبًا رُوحَانِيًّا لِإِعَادَةِ رُوحِهِ إِلَيْهِ بِإِذْنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، كَمَا يَمَسُّ النُّورُ ذُبَالَ السِّرَاجِ الْمُنْطَفِئِ فَتَشْتَعِلُ أَوْ كَمَا يَتَّصِلُ السِّلْكُ الْحَامِلِ لِلْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيَّةِ بِالسِّلْكِ الْحَامِلِ لِلْكَهْرَبَائِيَّةِ السَّلْبِيَّةِ بَعْدَ انْقِطَاعِهَا فَيَتَأَلَّقُ النُّورُ مِنْهُمَا. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ أَطِبَّاءِ هَذَا الْعَصْرِ إِعَادَةُ الْحَيَاةِ
الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَى فَاقِدِهَا عَقِبَ فَقْدِهَا بِعَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ أَوْ مُعَالَجَةٍ لِلْقَلْبِ
وَمِنْ دُونِ هَذَا وَذَاكَ شِفَاءُ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ وَلَا سِيَّمَا الْعَصَبِيَّةُ، سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهَا مَسَّ الشَّيْطَانِ وَتَلَبُّسَهُ بِالْمَجْنُونِ كَمَا فِي الْأَنَاجِيلِ أَمْ غَيْرَهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ رُوحٌ خَبِيثٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَقَاءَ مَعَ تَوَجُّهِ الرُّوحِ الطَّاهِرِ الَّذِي هُوَ شُعْلَةٌ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاتِّصَالِهِ بِمَنْ تَلَبَّسَ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ، وَمَا مِنْ مَرَضٍ عَصَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا وَهُوَ ضَعْفٌ فِي الْحَيَاةِ بِأَنْ يَزُولَ بِاتِّصَالِ هَذَا الرُّوحِ بِالْمُصَابِ بِهِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَالْقُوَّةِ.
وَمِنْ دُونِ هَذَا وَذَاكَ الْمُكَاشَفَاتُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِيمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (٣: ٤٩) وَقَدْ أَنْبَأَ غَيْرُهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرُهُمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ وَلَا سِيَّمَا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّهَا دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَطُولِ الْمُدَّةِ وَقِصَرِهَا، وَالثِّقَةِ بِالْمَرْئِيِّ وَعَدَمِهَا، وَإِدْرَاكِ الْحَاضِرِ الْمَوْجُودِ، وَالْغَائِبِ الْمَفْقُودِ، وَمَا كَانَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَمَا يَأْتِي فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَأَعْلَاهَا خَاصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ، إِذْ لَمْ يُوجَدْ وَلَنْ يُوجَدَ بَشَرٌ يَعْلَمُ بِالْكَشْفِ مَا وَقَعَ مُنْذُ الْقُرُونِ الْأُولَى كَأَخْبَارِ الْقُرْآنِ عَنِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ مَعَ أَقْوَامِهِمْ أَوْ مَا يَقَعُ بَعْدَ سِنِينَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَإِخْبَارِهِ عَنْ عَوْدِ الْكَرَّةِ لِلرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ، وَإِخْبَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَتْحِ الْأَمْصَارِ وَاتِّبَاعِ الْأُمَمِ لِأُمَّتِهِ، ثُمَّ بِتَدَاعِيهِمْ عَلَيْهَا مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ الثَّابِتَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا يُسَمُّونَهُ قِرَاءَةَ الْأَفْكَارِ وَقَدْ شَاهَدْنَا مَنْ فَعَلَهُ، وَمِنْهَا مُرَاسَلَةُ الْأَفْكَارِ.
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا وَذَاكَ أَنَّ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الْمَشْهُورَةَ لِمُوسَى بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى دُونَ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ الظَّاهِرَةِ فِي قُوَاهُ الرُّوحِيَّةِ، وَأَنَّ آيَاتِهِ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ أَدَلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي أَفْعَالِهِ فِي نَظَرِ الْبَشَرِ، لِبُعْدِهَا عَنْ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا أَفْعَالُهُمْ.
الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَى فَاقِدِهَا عَقِبَ فَقْدِهَا بِعَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ أَوْ مُعَالَجَةٍ لِلْقَلْبِ
وَمِنْ دُونِ هَذَا وَذَاكَ شِفَاءُ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ وَلَا سِيَّمَا الْعَصَبِيَّةُ، سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهَا مَسَّ الشَّيْطَانِ وَتَلَبُّسَهُ بِالْمَجْنُونِ كَمَا فِي الْأَنَاجِيلِ أَمْ غَيْرَهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ رُوحٌ خَبِيثٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَقَاءَ مَعَ تَوَجُّهِ الرُّوحِ الطَّاهِرِ الَّذِي هُوَ شُعْلَةٌ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاتِّصَالِهِ بِمَنْ تَلَبَّسَ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ، وَمَا مِنْ مَرَضٍ عَصَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا وَهُوَ ضَعْفٌ فِي الْحَيَاةِ بِأَنْ يَزُولَ بِاتِّصَالِ هَذَا الرُّوحِ بِالْمُصَابِ بِهِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَالْقُوَّةِ.
وَمِنْ دُونِ هَذَا وَذَاكَ الْمُكَاشَفَاتُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِيمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (٣: ٤٩) وَقَدْ أَنْبَأَ غَيْرُهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرُهُمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ وَلَا سِيَّمَا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّهَا دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَطُولِ الْمُدَّةِ وَقِصَرِهَا، وَالثِّقَةِ بِالْمَرْئِيِّ وَعَدَمِهَا، وَإِدْرَاكِ الْحَاضِرِ الْمَوْجُودِ، وَالْغَائِبِ الْمَفْقُودِ، وَمَا كَانَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَمَا يَأْتِي فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَأَعْلَاهَا خَاصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ، إِذْ لَمْ يُوجَدْ وَلَنْ يُوجَدَ بَشَرٌ يَعْلَمُ بِالْكَشْفِ مَا وَقَعَ مُنْذُ الْقُرُونِ الْأُولَى كَأَخْبَارِ الْقُرْآنِ عَنِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ مَعَ أَقْوَامِهِمْ أَوْ مَا يَقَعُ بَعْدَ سِنِينَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَإِخْبَارِهِ عَنْ عَوْدِ الْكَرَّةِ لِلرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ، وَإِخْبَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَتْحِ الْأَمْصَارِ وَاتِّبَاعِ الْأُمَمِ لِأُمَّتِهِ، ثُمَّ بِتَدَاعِيهِمْ عَلَيْهَا مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ الثَّابِتَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا يُسَمُّونَهُ قِرَاءَةَ الْأَفْكَارِ وَقَدْ شَاهَدْنَا مَنْ فَعَلَهُ، وَمِنْهَا مُرَاسَلَةُ الْأَفْكَارِ.
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا وَذَاكَ أَنَّ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الْمَشْهُورَةَ لِمُوسَى بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى دُونَ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ الظَّاهِرَةِ فِي قُوَاهُ الرُّوحِيَّةِ، وَأَنَّ آيَاتِهِ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ أَدَلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي أَفْعَالِهِ فِي نَظَرِ الْبَشَرِ، لِبُعْدِهَا عَنْ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا أَفْعَالُهُمْ.
193
عِبَادَةُ بَعْضِ النَّاسِ لِلْمَسِيحِ وَلِلْأَوْلِيَاءِ دُونَ مُوسَى:
وَإِنَّمَا عَبَدَ بَعْضُ الْبَشَرِ عِيسَى وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَلَمْ يَعْبُدُوا مُوسَى كَذَلِكَ وَآيَاتُهُ أَعْظَمُ ; لِأَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّ آيَاتِ عِيسَى جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنٍ رُوحِيَّةٍ عَامَّةٍ قَدْ يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، فَظَنُّوا
أَنَّهُ يَفْعَلُهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ قُدْرَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ لِحُلُولِهِ فِيهِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ بِزَعْمِهِمْ وَآيَاتُ مُوسَى بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَفْطِنُوا لِاتِّبَاعِ عِيسَى لِمُوسَى فِي شَرْعِهِ - التَّوْرَاةِ - إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا نَسَخَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ إِحْلَالِ بَعْضِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ بِظُلْمِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَمِنْ تَحْرِيمِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي عِبَادَةِ الْمَالِ وَالشَّهَوَاتِ.
وَمِثْلُ النَّصَارَى فِي هَذَا مَنْ يَفْتَتِنُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِعِبَادَةِ الصَّالِحِينَ بِدُعَائِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُونَ لَهُمُ النَّفْعَ بِالتَّصَرُّفِ الْغَيْبِيِّ الْخَارِجِ عَنْ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، الدَّاخِلِ عِنْدَهُمْ فِي بَابِ الْكَرَامَاتِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالرَّبِّ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمُ اسْمَ الرَّبِّ وَلَا الْإِلَهِ وَلَا الْخَالِقِ، إِذِ الْأَسْمَاءُ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَإِنَّمَا الْفَرْقَانُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ، أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ لِمَنْ شَاءَ وَصَرْفِهِمَا عَمَّنْ شَاءَ بِمَا يُسَخِّرُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ وَبِدُونِهَا إِنْ شَاءَ - وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ الْمَرْبُوبَ هُوَ الْمُقَيَّدُ فِي أَفْعَالِهِ الْكَسْبِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الَّتِي سَخَّرَهَا تَعَالَى لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهَا كَمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لَهَا بِقُوَى الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ وَفِي وَسَائِلِهَا، وَقَدْ بَلَغَ الْبَشَرُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيَّيْنِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مَا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ قَبْلَهُمْ لَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يُبْعَثُوا لِهَذَا، وَإِنَّمَا بُعِثُوا لِهِدَايَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ بِهَا، فَمَنَافِعُ الدُّنْيَا لَا تُطْلَبُ مِنْهُمْ أَحْيَاءً وَلَا أَمْوَاتًا وَإِنَّمَا تُطْلَبُ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ قَتَلَ الظَّالِمُونَ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَآذَوْا بَعْضَهُمْ بِضُرُوبٍ مِنَ الْإِيذَاءِ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ; وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ نَفْيُ هَذَا النَّفْعِ وَالضُّرِّ عَنْ كُلِّ مَا عُبِدَ وَمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (١٠: ١٨) الْآيَةَ وَمِثْلُهَا آيَاتٌ، وَأَمَرَ خَاتَمَ رُسُلِهِ أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ فَقَالَ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧: ١٨٨) وَقَالَ:
(قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا) (٧٢: ٢١) الْآيَاتِ. وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِرَارًا.
وَإِنَّمَا عَبَدَ بَعْضُ الْبَشَرِ عِيسَى وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَلَمْ يَعْبُدُوا مُوسَى كَذَلِكَ وَآيَاتُهُ أَعْظَمُ ; لِأَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّ آيَاتِ عِيسَى جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنٍ رُوحِيَّةٍ عَامَّةٍ قَدْ يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، فَظَنُّوا
أَنَّهُ يَفْعَلُهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ قُدْرَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ لِحُلُولِهِ فِيهِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ بِزَعْمِهِمْ وَآيَاتُ مُوسَى بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَفْطِنُوا لِاتِّبَاعِ عِيسَى لِمُوسَى فِي شَرْعِهِ - التَّوْرَاةِ - إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا نَسَخَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ إِحْلَالِ بَعْضِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ بِظُلْمِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَمِنْ تَحْرِيمِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي عِبَادَةِ الْمَالِ وَالشَّهَوَاتِ.
وَمِثْلُ النَّصَارَى فِي هَذَا مَنْ يَفْتَتِنُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِعِبَادَةِ الصَّالِحِينَ بِدُعَائِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُونَ لَهُمُ النَّفْعَ بِالتَّصَرُّفِ الْغَيْبِيِّ الْخَارِجِ عَنْ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، الدَّاخِلِ عِنْدَهُمْ فِي بَابِ الْكَرَامَاتِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالرَّبِّ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمُ اسْمَ الرَّبِّ وَلَا الْإِلَهِ وَلَا الْخَالِقِ، إِذِ الْأَسْمَاءُ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَإِنَّمَا الْفَرْقَانُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ، أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ لِمَنْ شَاءَ وَصَرْفِهِمَا عَمَّنْ شَاءَ بِمَا يُسَخِّرُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ وَبِدُونِهَا إِنْ شَاءَ - وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ الْمَرْبُوبَ هُوَ الْمُقَيَّدُ فِي أَفْعَالِهِ الْكَسْبِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الَّتِي سَخَّرَهَا تَعَالَى لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهَا كَمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لَهَا بِقُوَى الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ وَفِي وَسَائِلِهَا، وَقَدْ بَلَغَ الْبَشَرُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيَّيْنِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مَا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ قَبْلَهُمْ لَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يُبْعَثُوا لِهَذَا، وَإِنَّمَا بُعِثُوا لِهِدَايَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ بِهَا، فَمَنَافِعُ الدُّنْيَا لَا تُطْلَبُ مِنْهُمْ أَحْيَاءً وَلَا أَمْوَاتًا وَإِنَّمَا تُطْلَبُ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ قَتَلَ الظَّالِمُونَ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَآذَوْا بَعْضَهُمْ بِضُرُوبٍ مِنَ الْإِيذَاءِ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ; وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ نَفْيُ هَذَا النَّفْعِ وَالضُّرِّ عَنْ كُلِّ مَا عُبِدَ وَمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (١٠: ١٨) الْآيَةَ وَمِثْلُهَا آيَاتٌ، وَأَمَرَ خَاتَمَ رُسُلِهِ أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ فَقَالَ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧: ١٨٨) وَقَالَ:
(قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا) (٧٢: ٢١) الْآيَاتِ. وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِرَارًا.
194
وَنُلَخِّصُ الْمَوْضُوعَ هُنَا فِي الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ:
(١) إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَجَعَلَهُ بِإِحْكَامٍ وَنِظَامٍ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَالَ، وَسُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ رَبَطَ فِيهَا الْأَسْبَابَ بِالْمُسَبِّبَاتِ. فَمَخْلُوقَاتُهُ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى هِيَ مَظْهَرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَلِهَذَا قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ: لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ أَبْدَعُ مِمَّا كَانَ. وَهَذَا النِّظَامُ الْمُطَّرِدُ فِي الْأَكْوَانِ، الثَّابِتُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ - هُوَ الْبُرْهَانُ الْأَعْظَمُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا) (٢١: ٢٢).
(٢) إِنَّ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي إِبْدَاعِ خَلْقِهِ وَنِظَامِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ فِيهِ لَا يُحِيطُ بِهَا عِلْمًا غَيْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْبَشَرُ فِيهَا نَظَرًا وَتَفَكُّرًا وَاخْتِبَارًا وَتَدَبُّرًا وَتَجْرِبَةً وَتَصَرُّفًا، ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ أَسْرَارِهَا وَعَجَائِبِهَا مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ وَلَا يَظُنُّونَ، وَمِنْ مَنَافِعِهَا مَا لَمْ يَكُونُوا يَتَخَيَّلُونَ وَلَا يَتَوَهَّمُونَ. وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَرَى مَرَاكِبَهُمُ الْهَوَائِيَّةَ مِنْ تِجَارِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ تُحَلِّقُ فِي الْأَجْوَاءِ، حَتَّى تَكَادَ تَتَجَاوَزُ مُحِيطَ الْهَوَاءِ، وَمَرَاكِبَهُمُ الْبَحْرِيَّةَ تَغُوصُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، وَنَرَاهُمْ يَتَخَاطَبُونَ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَقْطَارِ، كَمَا نَطَقَ الْوَحْيُ بِتَخَاطُبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَعَ أَهْلِ النَّارِ فَيَسْمَعُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَأَهْلُ الْجَنُوبِ حَدِيثَ أَهْلِ الشَّمَالِ وَخُطَبَهُمْ وَأَغَانِيَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبَلَدِ أَوِ الْمَكَانِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ الْكَلَامُ. وَقَدْ يَغْمِزُ أَحَدُهُمْ زِرًّا كَهْرَبَائِيًّا فِي قَارَّةِ أُورُبَّةَ فَتَتَحَرَّكُ بِغَمْزَتِهِ آلَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي قَارَّةٍ أُخْرَى فِي طَرْفَةِ عَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا الْمَهَامِهُ الْفِيَحُ وَالْجِبَالُ الشَّاهِقَةُ، وَمِنْ دُونِهِمَا الْبِحَارُ الْوَاسِعَةُ، وَالْجَاهِلُونَ بِهَذِهِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ، لَا يَزَالُونَ يَلْجَئُونَ فِي طَلَبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ - الَّتِي ضَيَّقَ الْجَهْلُ عَلَيْهِمْ سُبُلَهَا - إِلَى قُبُورِ الْمَوْتَى مِنَ الصَّالِحِينَ الْمَعْرُوفِينَ وَالْمَجْهُولِينَ لِيَقْضُوا لَهُمْ حَاجَتَهُمْ،
وَيَشْفُوا مَرْضَاهُمْ، وَيُعِينُوهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنْ زَوْجٍ وَقَرِيبٍ وَجَارٍ وَوَطَنِيٍّ، وَأَعْدَاؤُهُمْ مِنَ الْأَجَانِبِ قَدْ سَادُوا حُكُومَتَهُمْ، وَاسْتَذَلُّوا أُمَّتَهُمْ، وَاسْتَأْثَرُوا بِجُلِّ ثَرْوَتِهِمْ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءُ بِمَا يَدْفَعُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ ضَرَرَهُمْ وَتَحَكُّمَهُمْ.
(٣) إِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَسُنَنِ اللهِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْعِلْمُ، وَأَخْبَرَنَا الْوَحْيُ بِأَنَّهُ لَا تَغْيِيرَ فِيهَا وَلَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ فَكُلُّ خَبَرٍ عَنْ حَادِثٍ يَقَعُ مُخَالِفًا لِهَذَا النِّظَامِ وَالسُّنَنِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا اخْتَلَقَهُ الْمُخْبِرُ الَّذِي ادَّعَى شُهُودَهُ أَوْ خُدِعَ بِهِ وَلُبِّسَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَجْهَلُهَا الْمُخْبِرُ كَمَا حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي بَحْثِ الْخَبَرِ وَمَا يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ مِنْهُ.
(١) إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَجَعَلَهُ بِإِحْكَامٍ وَنِظَامٍ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَالَ، وَسُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ رَبَطَ فِيهَا الْأَسْبَابَ بِالْمُسَبِّبَاتِ. فَمَخْلُوقَاتُهُ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى هِيَ مَظْهَرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَلِهَذَا قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ: لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ أَبْدَعُ مِمَّا كَانَ. وَهَذَا النِّظَامُ الْمُطَّرِدُ فِي الْأَكْوَانِ، الثَّابِتُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ - هُوَ الْبُرْهَانُ الْأَعْظَمُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا) (٢١: ٢٢).
(٢) إِنَّ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي إِبْدَاعِ خَلْقِهِ وَنِظَامِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ فِيهِ لَا يُحِيطُ بِهَا عِلْمًا غَيْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْبَشَرُ فِيهَا نَظَرًا وَتَفَكُّرًا وَاخْتِبَارًا وَتَدَبُّرًا وَتَجْرِبَةً وَتَصَرُّفًا، ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ أَسْرَارِهَا وَعَجَائِبِهَا مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ وَلَا يَظُنُّونَ، وَمِنْ مَنَافِعِهَا مَا لَمْ يَكُونُوا يَتَخَيَّلُونَ وَلَا يَتَوَهَّمُونَ. وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَرَى مَرَاكِبَهُمُ الْهَوَائِيَّةَ مِنْ تِجَارِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ تُحَلِّقُ فِي الْأَجْوَاءِ، حَتَّى تَكَادَ تَتَجَاوَزُ مُحِيطَ الْهَوَاءِ، وَمَرَاكِبَهُمُ الْبَحْرِيَّةَ تَغُوصُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، وَنَرَاهُمْ يَتَخَاطَبُونَ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَقْطَارِ، كَمَا نَطَقَ الْوَحْيُ بِتَخَاطُبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَعَ أَهْلِ النَّارِ فَيَسْمَعُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَأَهْلُ الْجَنُوبِ حَدِيثَ أَهْلِ الشَّمَالِ وَخُطَبَهُمْ وَأَغَانِيَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبَلَدِ أَوِ الْمَكَانِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ الْكَلَامُ. وَقَدْ يَغْمِزُ أَحَدُهُمْ زِرًّا كَهْرَبَائِيًّا فِي قَارَّةِ أُورُبَّةَ فَتَتَحَرَّكُ بِغَمْزَتِهِ آلَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي قَارَّةٍ أُخْرَى فِي طَرْفَةِ عَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا الْمَهَامِهُ الْفِيَحُ وَالْجِبَالُ الشَّاهِقَةُ، وَمِنْ دُونِهِمَا الْبِحَارُ الْوَاسِعَةُ، وَالْجَاهِلُونَ بِهَذِهِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ، لَا يَزَالُونَ يَلْجَئُونَ فِي طَلَبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ - الَّتِي ضَيَّقَ الْجَهْلُ عَلَيْهِمْ سُبُلَهَا - إِلَى قُبُورِ الْمَوْتَى مِنَ الصَّالِحِينَ الْمَعْرُوفِينَ وَالْمَجْهُولِينَ لِيَقْضُوا لَهُمْ حَاجَتَهُمْ،
وَيَشْفُوا مَرْضَاهُمْ، وَيُعِينُوهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنْ زَوْجٍ وَقَرِيبٍ وَجَارٍ وَوَطَنِيٍّ، وَأَعْدَاؤُهُمْ مِنَ الْأَجَانِبِ قَدْ سَادُوا حُكُومَتَهُمْ، وَاسْتَذَلُّوا أُمَّتَهُمْ، وَاسْتَأْثَرُوا بِجُلِّ ثَرْوَتِهِمْ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءُ بِمَا يَدْفَعُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ ضَرَرَهُمْ وَتَحَكُّمَهُمْ.
(٣) إِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَسُنَنِ اللهِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْعِلْمُ، وَأَخْبَرَنَا الْوَحْيُ بِأَنَّهُ لَا تَغْيِيرَ فِيهَا وَلَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ فَكُلُّ خَبَرٍ عَنْ حَادِثٍ يَقَعُ مُخَالِفًا لِهَذَا النِّظَامِ وَالسُّنَنِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا اخْتَلَقَهُ الْمُخْبِرُ الَّذِي ادَّعَى شُهُودَهُ أَوْ خُدِعَ بِهِ وَلُبِّسَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَجْهَلُهَا الْمُخْبِرُ كَمَا حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي بَحْثِ الْخَبَرِ وَمَا يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ مِنْهُ.
195
(٤) إِنَّ آيَاتِ اللهِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى غَيْرِ سُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ فِي خَلْقِهِ لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَقَدْ كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ أَيَّدَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِإِقَامَةِ حُجَّتِهِمْ وَتَخْوِيفِ الْمُعَانِدِينَ لَهُمْ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِخَتْمِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَبَبُ ذَلِكَ أَوْ حِكْمَتُهُ خَتْمُ النُّبُوَّةِ بِرِسَالَتِهِ. وَجَعَلَ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ آيَةً دَائِمَةً وَهِدَايَةً عَامَّةً لِجَمِيعِ الْبَشَرِ مُدَّةَ بَقَائِهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (٢١: ١٠٧) لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَ هَذَا الْوَحْيِ إِلَى وَحْيٍ آخَرَ وَلَا إِلَى آيَةٍ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ نَفْسَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ دَلَالَتِهِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى.
خَتْمُ النُّبُوَّةِ وَانْقِطَاعُ الْخَوَارِقِ بِهَا وَمَعْنَى الْكَرَامَاتِ:
(٥) لَوْ كَانَ لِلْبَشَرِ حَاجَةٌ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْآيَاتِ، كَمَا يَدَّعِي الْمَفْتُونُونَ بِالْكَرَامَاتِ وَمُخْتَرِعُو الْأَدْيَانِ وَالنِّحَلِ الْجَدِيدَةِ لَمَا كَانَ لِخَتْمِ النُّبُوَّةِ مَعْنًى ; وَلِذَلِكَ يُنْكِرُ الْبَهَائِيَّةُ وَالْقَادْيَانِيَّةُ خَتْمَ النُّبُوَّةِ وَانْقِطَاعَ الْوَحْيِ، وَيَدَّعُونَهُمَا لِلْبَابِ وَالْبَهَاءِ، وَلِغُلَامِ أَحْمَدَ الْقَادْيَانِيِّ وَخُلَفَائِهِ بِلَا انْقِطَاعٍ، حَتَّى سَامَهَا الْمُرْتَزِقَةُ مِنْهُمْ وَالرَّعَاعُ.
وَقَدْ بَيَّنَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ كَيْفَ ارْتَقَى التَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ فِي الْأُمَمِ بِارْتِقَاءِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ، كَارْتِقَاءِ الْأَفْرَادِ مِنْ طُفُولَةٍ إِلَى شَبَابٍ إِلَى كُهُولَةٍ بَلَغَ فِيهَا رُشْدَهُ وَاسْتَوَى، وَصَارَ يُدْرِكُ بِعَقْلِهِ هَذِهِ الْهِدَايَةَ الْعَقْلِيَّةَ
الْعُلْيَا (هِدَايَةَ الْقُرْآنِ) بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى إِذْعَانِهِ لِتَعْلِيمِ الْوَحْيِ، إِلَّا مَا يُدْهِشُ حِسَّهُ وَيُعْيِي عَقْلَهُ مِنْ آيَاتِ الْكَوْنِ
بَيَّنَ فِي الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَى الرِّسَالَةِ أَنَّ سُمُوَّ عَقْلِ الْإِنْسَانِ وَسُلْطَانَهُ عَلَى قُوَى الْكَوْنِ الْأَعْظَمِ بِمَا هِيَ مُسَخَّرَةٌ لَهُ تُنَافِي خُضُوعَهُ وَاسْتِكَانَتَهُ لِشَيْءٍ مِنْهَا، إِلَّا مَا عَجَزَ عَنْ إِدْرَاكِ سَبَبِهِ وَمَنْشَئِهِ فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْأَعْلَى لِمُدَبِّرِ الْكَوْنِ وَمُسَخِّرِ الْأَسْبَابِ فِيهِ فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ أَنَّهُ أَتَاهُ مَنْ أَضْعَفِ الْجِهَاتِ فِيهِ وَهِيَ جِهَةُ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ، فَأَقَامَ لَهُ مِنْ بَيْنِ أَفْرَادِهِ مُرْشِدِينَ هَادِينَ، وَمَيَّزَهُمْ مِنْ بَيْنِهِمْ بِخَصَائِصَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْإِقْنَاعِ بِآيَاتٍ بَاهِرَاتٍ تَمْلِكُ النُّفُوسَ، وَتَأْخُذُ الطَّرِيقَ عَلَى سَوَابِقِ الْعُقُولِ فَيَسْتَخْذِي الطَّامِحُ وَيَذِلُّ الْجَامِحُ، وَيَصْطَدِمُ بِهَا عَقْلُ الْعَاقِلِ فَيَرْجِعُ إِلَى رُشْدِهِ وَيَنْبَهِرُ لَهَا بَصَرُ الْجَاهِلِ فَيَرْتَدُّ عَنْ غَيِّهِ)).
ثُمَّ قَالَ فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَبِيٌّ صَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الْإِقْنَاعِ بِرِسَالَتِهِ بِمَا يُلْهِي الْأَبْصَارَ أَوْ يُحَيِّرُ الْحَوَاسَّ أَوْ يُدْهِشُ الْمَشَاعِرَ، وَلَكِنْ طَالَبَ كُلَّ قُوَّةٍ بِالْعَمَلِ فِيمَا أُعِدَّتْ لَهُ، وَاخْتَصَّ الْعَقْلَ بِالْخِطَابِ، وَحَاكَمَ إِلَيْهِ الْخَطَأَ وَالصَّوَابَ، وَجَعَلَ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ، وَسُلْطَانِ الْبَلَاغَةِ، وَصِحَّةِ الدَّلِيلِ، مَبْلَغَ الْحُجَّةِ وَآيَةَ الْحَقِّ الَّذِي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١: ٤٢).
خَتْمُ النُّبُوَّةِ وَانْقِطَاعُ الْخَوَارِقِ بِهَا وَمَعْنَى الْكَرَامَاتِ:
(٥) لَوْ كَانَ لِلْبَشَرِ حَاجَةٌ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْآيَاتِ، كَمَا يَدَّعِي الْمَفْتُونُونَ بِالْكَرَامَاتِ وَمُخْتَرِعُو الْأَدْيَانِ وَالنِّحَلِ الْجَدِيدَةِ لَمَا كَانَ لِخَتْمِ النُّبُوَّةِ مَعْنًى ; وَلِذَلِكَ يُنْكِرُ الْبَهَائِيَّةُ وَالْقَادْيَانِيَّةُ خَتْمَ النُّبُوَّةِ وَانْقِطَاعَ الْوَحْيِ، وَيَدَّعُونَهُمَا لِلْبَابِ وَالْبَهَاءِ، وَلِغُلَامِ أَحْمَدَ الْقَادْيَانِيِّ وَخُلَفَائِهِ بِلَا انْقِطَاعٍ، حَتَّى سَامَهَا الْمُرْتَزِقَةُ مِنْهُمْ وَالرَّعَاعُ.
وَقَدْ بَيَّنَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ كَيْفَ ارْتَقَى التَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ فِي الْأُمَمِ بِارْتِقَاءِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ، كَارْتِقَاءِ الْأَفْرَادِ مِنْ طُفُولَةٍ إِلَى شَبَابٍ إِلَى كُهُولَةٍ بَلَغَ فِيهَا رُشْدَهُ وَاسْتَوَى، وَصَارَ يُدْرِكُ بِعَقْلِهِ هَذِهِ الْهِدَايَةَ الْعَقْلِيَّةَ
الْعُلْيَا (هِدَايَةَ الْقُرْآنِ) بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى إِذْعَانِهِ لِتَعْلِيمِ الْوَحْيِ، إِلَّا مَا يُدْهِشُ حِسَّهُ وَيُعْيِي عَقْلَهُ مِنْ آيَاتِ الْكَوْنِ
بَيَّنَ فِي الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَى الرِّسَالَةِ أَنَّ سُمُوَّ عَقْلِ الْإِنْسَانِ وَسُلْطَانَهُ عَلَى قُوَى الْكَوْنِ الْأَعْظَمِ بِمَا هِيَ مُسَخَّرَةٌ لَهُ تُنَافِي خُضُوعَهُ وَاسْتِكَانَتَهُ لِشَيْءٍ مِنْهَا، إِلَّا مَا عَجَزَ عَنْ إِدْرَاكِ سَبَبِهِ وَمَنْشَئِهِ فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْأَعْلَى لِمُدَبِّرِ الْكَوْنِ وَمُسَخِّرِ الْأَسْبَابِ فِيهِ فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ أَنَّهُ أَتَاهُ مَنْ أَضْعَفِ الْجِهَاتِ فِيهِ وَهِيَ جِهَةُ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ، فَأَقَامَ لَهُ مِنْ بَيْنِ أَفْرَادِهِ مُرْشِدِينَ هَادِينَ، وَمَيَّزَهُمْ مِنْ بَيْنِهِمْ بِخَصَائِصَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْإِقْنَاعِ بِآيَاتٍ بَاهِرَاتٍ تَمْلِكُ النُّفُوسَ، وَتَأْخُذُ الطَّرِيقَ عَلَى سَوَابِقِ الْعُقُولِ فَيَسْتَخْذِي الطَّامِحُ وَيَذِلُّ الْجَامِحُ، وَيَصْطَدِمُ بِهَا عَقْلُ الْعَاقِلِ فَيَرْجِعُ إِلَى رُشْدِهِ وَيَنْبَهِرُ لَهَا بَصَرُ الْجَاهِلِ فَيَرْتَدُّ عَنْ غَيِّهِ)).
ثُمَّ قَالَ فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَبِيٌّ صَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الْإِقْنَاعِ بِرِسَالَتِهِ بِمَا يُلْهِي الْأَبْصَارَ أَوْ يُحَيِّرُ الْحَوَاسَّ أَوْ يُدْهِشُ الْمَشَاعِرَ، وَلَكِنْ طَالَبَ كُلَّ قُوَّةٍ بِالْعَمَلِ فِيمَا أُعِدَّتْ لَهُ، وَاخْتَصَّ الْعَقْلَ بِالْخِطَابِ، وَحَاكَمَ إِلَيْهِ الْخَطَأَ وَالصَّوَابَ، وَجَعَلَ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ، وَسُلْطَانِ الْبَلَاغَةِ، وَصِحَّةِ الدَّلِيلِ، مَبْلَغَ الْحُجَّةِ وَآيَةَ الْحَقِّ الَّذِي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١: ٤٢).
196
لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا بِالْقُرْآنِ:
(٦) إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِحُجَّةٍ لَا يُمْكِنُ لِمَنْ عَقَلَهَا رَدُّهَا إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَمَا ثَبَتَ فِيهِ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ مِنْهَا، بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِ الْعُلَمَاءِ الْوَاقِفِينَ عَلَى كُتُبِ الْأَدْيَانِ الَّتِي قَبْلَ الْإِسْلَامِ - حَتَّى كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - وَعَلَى تَوَارِيخِهَا لِتَوَاتُرِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالِاشْتِبَاهِ فِي كَوْنِهَا خَوَارِقَ حَقِيقِيَّةً، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ التَّوَاتُرَ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي نَقْلِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَهُوَ نَقْلُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ الَّذِينَ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِخَبَرٍ أَدْرَكُوهُ بِالْحِسِّ، وَحَمَلَهُ عَنْهُمْ مِثْلُهُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ بِدُونِ انْقِطَاعٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِحَالَةُ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى
الْكَذِبِ بِأُمُورٍ، أَهَمُّهَا عَدَمُ التَّحَيُّزِ وَالتَّشَيُّعِ لِمَضْمُونِ الْخَبَرِ وَعَدَمُ تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيهِ، وَآيَةُ صِحَّةِ هَذَا التَّوَاتُرِ حُصُولُ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِهِ وَإِذْعَانُ النَّفْسِ لَهُ، وَعَدَمُ إِمْكَانِ رَدِّهِ اعْتِقَادًا وَوِجْدَانًا. وَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا آيَةُ الْقُرْآنِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ بِبَقَائِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ وَاقِفٍ عَلَى تَارِيخِ الْإِسْلَامِ يَعْلَمُ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ تَوَاتُرًا مُتَّصِلًا فِي كُلِّ عَصْرٍ، مِنْ عَصْرِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى الْآنَ، وَأَمَّا الَّذِي يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ فَهُوَ وُجُوهُ إِعْجَازِهِ، وَقَدْ شَرَحْنَا شُبْهَتَهُمْ عَلَيْهِ وَبَيَّنَّا بُطْلَانَهَا فِي هَذَا الْبَحْثِ، وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ بِذَلِكَ كَوْنُهُ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى فَقَدْ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ آيَاتِهِ فِي خُلُقِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِتَأْيِيدِ رُسُلِهِ وَإِقَامَةِ حُجَّتِهِمْ أَمْ لَا، وَكَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهَا، يَجِبُ أَنْ يُؤْمِنَ بِانْقِطَاعِ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ بَعْدَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَإِذْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ بِوُقُوعِ كَرَامَةٍ كَوْنِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ بَعْدَ ((مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) فَلَا يَضُرُّ مُسْلِمًا فِي دِينِهِ أَنْ يَعْتَقِدَ كَمَا يَعْتَقِدُ أَكْثَرُ عُقَلَاءِ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ مِنْ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ النَّاسُ مِنَ الْخَوَارِقِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ أَكْثَرُهُ كَذِبٌ وَبَعْضُهُ صِنَاعَةُ عِلْمٍ، أَوْ شَعْوَذَةُ سِحْرٍ، وَأَقَلُّهُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ الْغَالِيَةِ.
(٧) إِنَّ الثَّابِتَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الْمُعَيَّنَةِ قَلِيلٌ جِدًّا، فَمَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةً مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ فَصَرْفُهُ عَنْهَا بِالتَّحَكُّمِ فِي التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأْبَاهُ مَدْلُولَاتُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَيَنْقُضُ شَيْئًا مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْقَطْعِيَّةِ ارْتِدَادٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةً غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ مِثْلُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، فَإِنْ عَارَضَهُ فَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِالْأَدِلَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ ابْتِدَاعٌ.
(٦) إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِحُجَّةٍ لَا يُمْكِنُ لِمَنْ عَقَلَهَا رَدُّهَا إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَمَا ثَبَتَ فِيهِ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ مِنْهَا، بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِ الْعُلَمَاءِ الْوَاقِفِينَ عَلَى كُتُبِ الْأَدْيَانِ الَّتِي قَبْلَ الْإِسْلَامِ - حَتَّى كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - وَعَلَى تَوَارِيخِهَا لِتَوَاتُرِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالِاشْتِبَاهِ فِي كَوْنِهَا خَوَارِقَ حَقِيقِيَّةً، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ التَّوَاتُرَ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي نَقْلِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَهُوَ نَقْلُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ الَّذِينَ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِخَبَرٍ أَدْرَكُوهُ بِالْحِسِّ، وَحَمَلَهُ عَنْهُمْ مِثْلُهُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ بِدُونِ انْقِطَاعٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِحَالَةُ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى
الْكَذِبِ بِأُمُورٍ، أَهَمُّهَا عَدَمُ التَّحَيُّزِ وَالتَّشَيُّعِ لِمَضْمُونِ الْخَبَرِ وَعَدَمُ تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيهِ، وَآيَةُ صِحَّةِ هَذَا التَّوَاتُرِ حُصُولُ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِهِ وَإِذْعَانُ النَّفْسِ لَهُ، وَعَدَمُ إِمْكَانِ رَدِّهِ اعْتِقَادًا وَوِجْدَانًا. وَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا آيَةُ الْقُرْآنِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ بِبَقَائِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ وَاقِفٍ عَلَى تَارِيخِ الْإِسْلَامِ يَعْلَمُ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ تَوَاتُرًا مُتَّصِلًا فِي كُلِّ عَصْرٍ، مِنْ عَصْرِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى الْآنَ، وَأَمَّا الَّذِي يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ فَهُوَ وُجُوهُ إِعْجَازِهِ، وَقَدْ شَرَحْنَا شُبْهَتَهُمْ عَلَيْهِ وَبَيَّنَّا بُطْلَانَهَا فِي هَذَا الْبَحْثِ، وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ بِذَلِكَ كَوْنُهُ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى فَقَدْ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ آيَاتِهِ فِي خُلُقِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِتَأْيِيدِ رُسُلِهِ وَإِقَامَةِ حُجَّتِهِمْ أَمْ لَا، وَكَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهَا، يَجِبُ أَنْ يُؤْمِنَ بِانْقِطَاعِ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ بَعْدَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَإِذْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ بِوُقُوعِ كَرَامَةٍ كَوْنِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ بَعْدَ ((مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) فَلَا يَضُرُّ مُسْلِمًا فِي دِينِهِ أَنْ يَعْتَقِدَ كَمَا يَعْتَقِدُ أَكْثَرُ عُقَلَاءِ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ مِنْ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ النَّاسُ مِنَ الْخَوَارِقِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ أَكْثَرُهُ كَذِبٌ وَبَعْضُهُ صِنَاعَةُ عِلْمٍ، أَوْ شَعْوَذَةُ سِحْرٍ، وَأَقَلُّهُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ الْغَالِيَةِ.
(٧) إِنَّ الثَّابِتَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الْمُعَيَّنَةِ قَلِيلٌ جِدًّا، فَمَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةً مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ فَصَرْفُهُ عَنْهَا بِالتَّحَكُّمِ فِي التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأْبَاهُ مَدْلُولَاتُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَيَنْقُضُ شَيْئًا مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْقَطْعِيَّةِ ارْتِدَادٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةً غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ مِثْلُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، فَإِنْ عَارَضَهُ فَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِالْأَدِلَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ ابْتِدَاعٌ.
197
(خُلَاصَةُ الْخُلَاصَةِ لِهَذَا الْفَصْلِ)
إِنَّنَا نُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ، وَحِكْمَتِهِ وَأَنَّهُ (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٣٢: ٧) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ (آلم) السَّجْدَةِ، فَهُوَ: (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢٧: ٨٨) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ تَفَاوُتٌ وَلَا فُطُورٌ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ، الْآيَةِ (٣) وَأَنَّهُ خَلَقَهُ بِنِظَامٍ وَتَقْدِيرٍ لَا جُزَافًا وَلَا أُنُفًا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (٥٤: ٤٩) وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (٢٥: ٢) وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٥: ١٩) (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١٥: ٢١).
وَأَنَّ لَهُ تَعَالَى فِي نِظَامِ التَّكْوِينِ وَالْإِبْدَاعِ، وَفِيمَا هَدَى إِلَيْهِ الْبَشَرَ مِنْ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ سُنَنًا مُطَّرِدَةً تَتَّصِلُ فِيهَا الْأَسْبَابُ بِالْمُسَبَّبَاتِ، وَلَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ مُحَابَاةً لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهَا عَامَّةٌ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَعَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ هَذِهِ السُّنَنِ بِاللَّفْظِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ.
وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ لَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَأَنَّ لَهُ فِي آيَاتِهِ حِكَمًا جَلِيَّةً أَوْ خَفِيَّةً، وَأَنَّ مَا مَنَحَنَا إِيَّاهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ يَأْبَيَانِ عَلَيْنَا أَنْ نُثْبِتَ وُقُوعَ شَيْءٍ فِي الْخَلْقِ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ نِظَامِ التَّقْدِيرِ وَسُنَنِ التَّدْبِيرِ، إِلَّا بِبُرْهَانٍ قَطْعِيٍّ يَشْتَرِكُ الْعَقْلُ وَالْحِسُّ فِي إِثْبَاتِهِ وَتَمْحِيصِهِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لَا عَنْ خَلَلٍ وَلَا عَبَثٍ، وَأَنَّ مَا خَفِيَ عَلَيْنَا مِنْ حُكْمِهِ كَسَائِرِ مَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ، نَبْحَثُ عَنْهَا لِنُزَادَ عِلْمًا بِكَمَالِهِ وَنُكْمِلَ بِهِ أَنْفُسَنَا بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِنَا وَلَا نَتَّخِذَهَا حُجَّةً وَلَا عُذْرًا عَلَى الْكُفْرِ بِهِ لِجَهْلِنَا، وَقَدْ ثَبَتَ لِأَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ مِنَّا أَنَّ مَا نَجْهَلُ مِنْ هَذَا الْكَوْنِ أَكْثَرُ مِمَّا نَعْلَمُ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُحِيطَ الْبَشَرُ بِهِ عِلْمًا.
وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ مَنَحَنَا رُسُلًا هَدَوْنَا بِآيَاتِهِ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَضِيقِ مَدَارِكِ الْحِسِّ، وَمَا يَسْتَنْبِطُهُ الْفِكْرُ مِنْهَا بَادِيَ الرَّأْيِ، إِلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ سَعَةِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَلَوْلَا هِدَايَتُهُمْ لَظَلَّ الْبَشَرُ أُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنَ السِّنِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ مَا لَمْ يَكُونُوا يُدْرِكُونَهُ بِحَوَاسِّهِمْ مِنَ الْأَجْسَامِ وَأَعْرَاضِهَا، وَبِقِيَاسِهِمْ مَا جَهِلُوا عَلَى مَا عَلِمُوا مِنْهَا.
وَقَدْ عَلِمْنَا مِنَ التَّارِيخِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَبِآيَاتِهِ لِرُسُلِهِ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ هُوَ الَّذِي وَجَّهَ عُقُولَ الْبَشَرِ إِلَى الْبَحْثِ فِي أَسْرَارِ الْوُجُودِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الِارْتِقَاءِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ فِي الْأَجْيَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَمْ
إِنَّنَا نُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ، وَحِكْمَتِهِ وَأَنَّهُ (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٣٢: ٧) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ (آلم) السَّجْدَةِ، فَهُوَ: (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢٧: ٨٨) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ تَفَاوُتٌ وَلَا فُطُورٌ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ، الْآيَةِ (٣) وَأَنَّهُ خَلَقَهُ بِنِظَامٍ وَتَقْدِيرٍ لَا جُزَافًا وَلَا أُنُفًا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (٥٤: ٤٩) وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (٢٥: ٢) وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٥: ١٩) (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١٥: ٢١).
وَأَنَّ لَهُ تَعَالَى فِي نِظَامِ التَّكْوِينِ وَالْإِبْدَاعِ، وَفِيمَا هَدَى إِلَيْهِ الْبَشَرَ مِنْ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ سُنَنًا مُطَّرِدَةً تَتَّصِلُ فِيهَا الْأَسْبَابُ بِالْمُسَبَّبَاتِ، وَلَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ مُحَابَاةً لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهَا عَامَّةٌ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَعَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ هَذِهِ السُّنَنِ بِاللَّفْظِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ.
وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ لَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَأَنَّ لَهُ فِي آيَاتِهِ حِكَمًا جَلِيَّةً أَوْ خَفِيَّةً، وَأَنَّ مَا مَنَحَنَا إِيَّاهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ يَأْبَيَانِ عَلَيْنَا أَنْ نُثْبِتَ وُقُوعَ شَيْءٍ فِي الْخَلْقِ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ نِظَامِ التَّقْدِيرِ وَسُنَنِ التَّدْبِيرِ، إِلَّا بِبُرْهَانٍ قَطْعِيٍّ يَشْتَرِكُ الْعَقْلُ وَالْحِسُّ فِي إِثْبَاتِهِ وَتَمْحِيصِهِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لَا عَنْ خَلَلٍ وَلَا عَبَثٍ، وَأَنَّ مَا خَفِيَ عَلَيْنَا مِنْ حُكْمِهِ كَسَائِرِ مَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ، نَبْحَثُ عَنْهَا لِنُزَادَ عِلْمًا بِكَمَالِهِ وَنُكْمِلَ بِهِ أَنْفُسَنَا بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِنَا وَلَا نَتَّخِذَهَا حُجَّةً وَلَا عُذْرًا عَلَى الْكُفْرِ بِهِ لِجَهْلِنَا، وَقَدْ ثَبَتَ لِأَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ مِنَّا أَنَّ مَا نَجْهَلُ مِنْ هَذَا الْكَوْنِ أَكْثَرُ مِمَّا نَعْلَمُ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُحِيطَ الْبَشَرُ بِهِ عِلْمًا.
وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ مَنَحَنَا رُسُلًا هَدَوْنَا بِآيَاتِهِ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَضِيقِ مَدَارِكِ الْحِسِّ، وَمَا يَسْتَنْبِطُهُ الْفِكْرُ مِنْهَا بَادِيَ الرَّأْيِ، إِلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ سَعَةِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَلَوْلَا هِدَايَتُهُمْ لَظَلَّ الْبَشَرُ أُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنَ السِّنِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ مَا لَمْ يَكُونُوا يُدْرِكُونَهُ بِحَوَاسِّهِمْ مِنَ الْأَجْسَامِ وَأَعْرَاضِهَا، وَبِقِيَاسِهِمْ مَا جَهِلُوا عَلَى مَا عَلِمُوا مِنْهَا.
وَقَدْ عَلِمْنَا مِنَ التَّارِيخِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَبِآيَاتِهِ لِرُسُلِهِ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ هُوَ الَّذِي وَجَّهَ عُقُولَ الْبَشَرِ إِلَى الْبَحْثِ فِي أَسْرَارِ الْوُجُودِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الِارْتِقَاءِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ فِي الْأَجْيَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَمْ
198
يَكُنْ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ نَصِيبٌ فِي ذَلِكَ - فَهَذَا الْإِيمَانُ بِالْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْغَيْبِ هُوَ الَّذِي أَوْصَلَ الْبَشَرَ إِلَى عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ كَانَ يَعُدُّهَا غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ مِنْ مُحَالَاتِ الْعُقُولِ كَالْغَيْبِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ، حَتَّى لَمْ يُعَدَّ شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ بَعِيدًا عَنِ الْعَقْلِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.
فَتَبَيَّنَ لَنَا بِهَذَا وَبِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ كَانَ لِلْبَشَرِ بِآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ، هِيَ مِنْ حِكَمِ نَصْبِهِ تَعَالَى لِتِلْكَ الْآيَاتِ: (الْأُولَى) جَعْلُهَا دَلِيلًا حِسِّيًّا عَلَى اخْتِيَارِهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَكَوْنِ سُنَنِ النِّظَامِ فِي الْخَلْقِ خَاضِعَةً لَهُ لَا حَاكِمَةً عَلَيْهِ وَلَا مُقَيِّدَةً لِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. (الثَّانِيَةُ) جَعْلُهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا يُخْبِرُونَ عَنْهُ بِوَحْيِهِ وَنُذُرًا لِلْمُعَانِدِينَ لَهُمْ مِنَ الْكَفَّارِ، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ بِكَسْبِهِمْ أَوْ تَقَعُ مِنْهُمْ بِاسْتِعْدَادٍ رُوحِيٍّ لَمَا كَانَتْ آيَةً عَلَى صِدْقِهِمْ (الثَّالِثَةُ) هِدَايَةُ عُقُولِ الْبَشَرِ بِرُؤْيَتِهَا إِلَى سَعَةِ دَائِرَةِ الْمُمْكِنَاتِ وَضِيقِ نِطَاقِ الْمُحَالِ فِي الْمَعْقُولَاتِ، وَإِلَى أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ بَعِيدًا عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ وَالْأُمُورِ الْمَعْهُودَةِ وَالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ - لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُحَالًا يُجْزَمُ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، وَبِكَذِبِ الْمُخْبِرِ بِهِ، مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِيهِ عَدَمَ الثُّبُوتِ فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَلَا يَنْقُصُهُمْ لِتَكْمِيلِ عِلْمِهِمْ إِلَّا ثُبُوتُ آيَةٍ للَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِلَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْكَوْنِ.
وَلَكِنَّ الْأَمْرَ قَدِ انْقَلَبَ إِلَى ضِدِّهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْعُلُومِ
وَالْأَعْمَالِ الْمُقَرِّبَةِ لِآيَاتِ الرُّسُلِ وَمَا دَعَوْا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ مِنَ الْعُقُولِ، قَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ نَفْسُهَا سَبَبًا لِإِنْكَارِهِمْ مَا كَانَ سَبَبًا لَهُمْ وَمُوصِلًا إِلَيْهَا (وَهُوَ الْآيَاتُ وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ) - لَا إِنْكَارَ إِمْكَانِهِ بَلْ إِنْكَارَ ثُبُوتِهِ بِالْفِعْلِ، فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ قَدْ فَعَلَ مَا صَارُوا يَفْعَلُونَ بِإِقْدَارِهِ وَتَوْفِيقِهِ نَظِيرًا لَهُ فِي الْغَرَابَةِ، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ مُبَيِّنًا لِحَقِيقَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (٤١: ٥٣) وَلَكِنَّهُمْ كُلَّمَا أَرَاهُمْ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَوْ مِنْ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْآفَاقِ، الْتَمَسُوا لَهَا سُنَّةً بِقِيَاسِ مَا لَمْ يَعْرِفُوا عَلَى مَا عَرَفُوا، فَأَخْرَجُوهَا عَنْ كَوْنِهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ وَإِبْدَاعِهِ، وَظَلُّوا عَلَى لَبْسِهِمْ، كَالَّذِينِ طَلَبُوا أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا رَسُولًا فَقَالَ فِيهِمْ: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (٦: ٩) أَيْ لَمَّا كَانُوا لَا يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يُدْرِكُوا الْمَلَكَ وَيَتَلَقَّوْا عَنْهُ إِلَّا إِذَا كَانَ بِصُورَةِ رَجُلٍ مِثْلِهِمْ، وَهُوَ مَا اسْتَنْكَرُوهُ مِنْ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، وَلَوْ جَعَلَ اللهُ الْمَلَكَ رَجُلًا مِثْلَهُمْ لَالْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ بِمَا يُلْبِسُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنِ اسْتِنْكَارِ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، وَهَكَذَا يَفْعَلُونَ الْآنَ: ظَهَرَتْ لَهُمْ فِي عَصْرِنَا عِدَّةُ آيَاتٍ رُوحِيَّةٍ مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْمَادَّةِ فَشَبَّهُوهَا بِمَا عَرَفُوا مِنْ نَقْلِ الْكَلَامِ بِالسَّيَّالِ الْكَهْرَبَائِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَعْتَرِفُوا بِآيَةٍ إِبْدَاعِيَّةٍ مِنَ الْخَالِقِ لَا تَخْضَعُ لِعِلْمِهِمْ.
فَتَبَيَّنَ لَنَا بِهَذَا وَبِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ كَانَ لِلْبَشَرِ بِآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ، هِيَ مِنْ حِكَمِ نَصْبِهِ تَعَالَى لِتِلْكَ الْآيَاتِ: (الْأُولَى) جَعْلُهَا دَلِيلًا حِسِّيًّا عَلَى اخْتِيَارِهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَكَوْنِ سُنَنِ النِّظَامِ فِي الْخَلْقِ خَاضِعَةً لَهُ لَا حَاكِمَةً عَلَيْهِ وَلَا مُقَيِّدَةً لِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. (الثَّانِيَةُ) جَعْلُهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا يُخْبِرُونَ عَنْهُ بِوَحْيِهِ وَنُذُرًا لِلْمُعَانِدِينَ لَهُمْ مِنَ الْكَفَّارِ، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ بِكَسْبِهِمْ أَوْ تَقَعُ مِنْهُمْ بِاسْتِعْدَادٍ رُوحِيٍّ لَمَا كَانَتْ آيَةً عَلَى صِدْقِهِمْ (الثَّالِثَةُ) هِدَايَةُ عُقُولِ الْبَشَرِ بِرُؤْيَتِهَا إِلَى سَعَةِ دَائِرَةِ الْمُمْكِنَاتِ وَضِيقِ نِطَاقِ الْمُحَالِ فِي الْمَعْقُولَاتِ، وَإِلَى أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ بَعِيدًا عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ وَالْأُمُورِ الْمَعْهُودَةِ وَالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ - لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُحَالًا يُجْزَمُ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، وَبِكَذِبِ الْمُخْبِرِ بِهِ، مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِيهِ عَدَمَ الثُّبُوتِ فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَلَا يَنْقُصُهُمْ لِتَكْمِيلِ عِلْمِهِمْ إِلَّا ثُبُوتُ آيَةٍ للَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِلَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْكَوْنِ.
وَلَكِنَّ الْأَمْرَ قَدِ انْقَلَبَ إِلَى ضِدِّهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْعُلُومِ
وَالْأَعْمَالِ الْمُقَرِّبَةِ لِآيَاتِ الرُّسُلِ وَمَا دَعَوْا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ مِنَ الْعُقُولِ، قَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ نَفْسُهَا سَبَبًا لِإِنْكَارِهِمْ مَا كَانَ سَبَبًا لَهُمْ وَمُوصِلًا إِلَيْهَا (وَهُوَ الْآيَاتُ وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ) - لَا إِنْكَارَ إِمْكَانِهِ بَلْ إِنْكَارَ ثُبُوتِهِ بِالْفِعْلِ، فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ قَدْ فَعَلَ مَا صَارُوا يَفْعَلُونَ بِإِقْدَارِهِ وَتَوْفِيقِهِ نَظِيرًا لَهُ فِي الْغَرَابَةِ، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ مُبَيِّنًا لِحَقِيقَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (٤١: ٥٣) وَلَكِنَّهُمْ كُلَّمَا أَرَاهُمْ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَوْ مِنْ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْآفَاقِ، الْتَمَسُوا لَهَا سُنَّةً بِقِيَاسِ مَا لَمْ يَعْرِفُوا عَلَى مَا عَرَفُوا، فَأَخْرَجُوهَا عَنْ كَوْنِهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ وَإِبْدَاعِهِ، وَظَلُّوا عَلَى لَبْسِهِمْ، كَالَّذِينِ طَلَبُوا أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا رَسُولًا فَقَالَ فِيهِمْ: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (٦: ٩) أَيْ لَمَّا كَانُوا لَا يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يُدْرِكُوا الْمَلَكَ وَيَتَلَقَّوْا عَنْهُ إِلَّا إِذَا كَانَ بِصُورَةِ رَجُلٍ مِثْلِهِمْ، وَهُوَ مَا اسْتَنْكَرُوهُ مِنْ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، وَلَوْ جَعَلَ اللهُ الْمَلَكَ رَجُلًا مِثْلَهُمْ لَالْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ بِمَا يُلْبِسُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنِ اسْتِنْكَارِ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، وَهَكَذَا يَفْعَلُونَ الْآنَ: ظَهَرَتْ لَهُمْ فِي عَصْرِنَا عِدَّةُ آيَاتٍ رُوحِيَّةٍ مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْمَادَّةِ فَشَبَّهُوهَا بِمَا عَرَفُوا مِنْ نَقْلِ الْكَلَامِ بِالسَّيَّالِ الْكَهْرَبَائِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَعْتَرِفُوا بِآيَةٍ إِبْدَاعِيَّةٍ مِنَ الْخَالِقِ لَا تَخْضَعُ لِعِلْمِهِمْ.
199
الْخَطَرُ عَلَى الْبَشَرِ مِنِ ارْتِقَاءِ الْعِلْمِ بِدُونِ الدِّينِ:
إِنَّ حِرْمَانَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ بِآيَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ، قَدْ جَعَلَ حَظَّ الْبَشَرِ مِنْ هَذَا الِارْتِقَاءِ الْعَجِيبِ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُمُ ازْدَادُوا بِهِ شَقَاءً، حَتَّى صَارَتْ حَضَارَتُهُمْ مُهَدَّدَةً بِالتَّدْمِيرِ الْعِلْمِيِّ الصِّنَاعِيِّ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَجَمِيعُ عُلَمَائِهِمُ الْمُصْلِحِينَ وَسَاسَتِهِمُ الدَّهَاقِينَ فِي حَيْرَةٍ مِنْ تَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ، وَلَنْ يُتَلَافَى إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَهَذَا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ; وَلِأَجْلِهِ أَثْبَتَ الْآيَاتِ بِكِتَابِهِ وَفِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْضَعَ الْبَشَرُ إِلَّا لِمَا هُوَ فَوْقَ اسْتِطَاعَتِهِمْ، بِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْإِلَهِيِّ الَّذِي فَوْقَ اسْتِعْدَادِهِمْ، وَسَنُبَيِّنُ هَذَا الْجَمْعَ فِيمَا يَأْتِي مِنْ هَذَا الْبَحْثِ الْمُثْبِتِ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
الْمَقْصِدُ الثَّالِثُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(بَيَانُ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَالضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ).
قَدْ أَتَى عَلَى الْبَشَرِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَا يَعْرِفُونَ مِنَ الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالِيمُ خَارِجَةٌ عَنْ مُحِيطِ الْعَقْلِ، كُلِّفَ الْبَشَرُ بِهَا مُقَاوَمَةَ فِطْرَتِهِمْ، وَتَعْذِيبَ أَنْفُسِهِمْ، وَمُكَابَرَةَ عُقُولِهِمْ وَبَصَائِرِهِمْ، خُضُوعًا لِلرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ يُلَقِّنُونَهُمْ إِيَّاهَا، فَإِنِ انْقَادُوا لِسَيْطَرَتِهِمْ عَلَيْهِمْ بِهَا كَانُوا مِنَ الْفَائِزِينَ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ سِرًّا أَوْ جَهْرًا كَانُوا مِنَ الْهَالِكِينَ.
حَتَّى إِذَا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ - بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ دِينَ اللهِ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ، وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَالضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَأَنْ لَا سَيْطَرَةَ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ وَعَقْلِهِ وَضَمِيرِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَإِنَّمَا رُسُلُ اللهِ هُدَاةٌ مُرْشِدُونَ، مُبَشِّرُونَ وَمُنْذِرُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْمَقْصِدِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَنُبَيِّنُ هَذِهِ الْمَزَايَا بِالشَّوَاهِدِ الْمُخْتَصَرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَقُولُ:
(١) الْإِسْلَامُ دِينُ الْفِطْرَةِ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (٣٠: ٣٠) الْحَنِيفُ صِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِ (بِالتَّحْرِيكِ) وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْعِوَجِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ. وَعَنِ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَعَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَيُقَابِلُهُ الزَّيْغُ وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ إِلَخْ. وَفِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
إِنَّ حِرْمَانَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ بِآيَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ، قَدْ جَعَلَ حَظَّ الْبَشَرِ مِنْ هَذَا الِارْتِقَاءِ الْعَجِيبِ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُمُ ازْدَادُوا بِهِ شَقَاءً، حَتَّى صَارَتْ حَضَارَتُهُمْ مُهَدَّدَةً بِالتَّدْمِيرِ الْعِلْمِيِّ الصِّنَاعِيِّ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَجَمِيعُ عُلَمَائِهِمُ الْمُصْلِحِينَ وَسَاسَتِهِمُ الدَّهَاقِينَ فِي حَيْرَةٍ مِنْ تَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ، وَلَنْ يُتَلَافَى إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَهَذَا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ; وَلِأَجْلِهِ أَثْبَتَ الْآيَاتِ بِكِتَابِهِ وَفِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْضَعَ الْبَشَرُ إِلَّا لِمَا هُوَ فَوْقَ اسْتِطَاعَتِهِمْ، بِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْإِلَهِيِّ الَّذِي فَوْقَ اسْتِعْدَادِهِمْ، وَسَنُبَيِّنُ هَذَا الْجَمْعَ فِيمَا يَأْتِي مِنْ هَذَا الْبَحْثِ الْمُثْبِتِ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
الْمَقْصِدُ الثَّالِثُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(بَيَانُ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَالضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ).
قَدْ أَتَى عَلَى الْبَشَرِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَا يَعْرِفُونَ مِنَ الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالِيمُ خَارِجَةٌ عَنْ مُحِيطِ الْعَقْلِ، كُلِّفَ الْبَشَرُ بِهَا مُقَاوَمَةَ فِطْرَتِهِمْ، وَتَعْذِيبَ أَنْفُسِهِمْ، وَمُكَابَرَةَ عُقُولِهِمْ وَبَصَائِرِهِمْ، خُضُوعًا لِلرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ يُلَقِّنُونَهُمْ إِيَّاهَا، فَإِنِ انْقَادُوا لِسَيْطَرَتِهِمْ عَلَيْهِمْ بِهَا كَانُوا مِنَ الْفَائِزِينَ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ سِرًّا أَوْ جَهْرًا كَانُوا مِنَ الْهَالِكِينَ.
حَتَّى إِذَا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ - بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ دِينَ اللهِ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ، وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَالضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَأَنْ لَا سَيْطَرَةَ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ وَعَقْلِهِ وَضَمِيرِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَإِنَّمَا رُسُلُ اللهِ هُدَاةٌ مُرْشِدُونَ، مُبَشِّرُونَ وَمُنْذِرُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْمَقْصِدِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَنُبَيِّنُ هَذِهِ الْمَزَايَا بِالشَّوَاهِدِ الْمُخْتَصَرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَقُولُ:
(١) الْإِسْلَامُ دِينُ الْفِطْرَةِ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (٣٠: ٣٠) الْحَنِيفُ صِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِ (بِالتَّحْرِيكِ) وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْعِوَجِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ. وَعَنِ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَعَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَيُقَابِلُهُ الزَّيْغُ وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ إِلَخْ. وَفِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
200
عَلَيْهَا هِيَ الْجِبِلَّةُ الْإِنْسَانِيَّةُ، الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْحَيَاتَيْنِ: الْجِسْمَانِيَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَالرُّوحَانِيَّةِ الْمَلَكِيَّةِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِمَعْرِفَةِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ فِيهِمَا، وَمَا أُودِعَ فِيهَا مِنْ غَرِيزَةِ الدِّينِ الْمُطْلَقِ، الَّذِي هُوَ الشُّعُورُ الْوِجْدَانِيُّ بِسُلْطَانٍ غَيْبِيٍّ
فَوْقَ قُوَى الْكَوْنِ وَالسُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي قَامَ بِهِمَا نِظَامُ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ، فَرَبُّ هَذَا السُّلْطَانِ هُوَ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، وَالْمَصْدَرُ الذَّاتِيُّ لِلنَّفْعِ وَالضُّرِّ الْمُحَرِّكَيْنِ لِشُعُورِ التَّعَبُّدِ الْفِطْرِيِّ، وَطَلَبِ الْعِرْفَانِ الْغَيْبِيِّ، فَالْعِبَادَةُ الْفِطْرِيَّةُ هِيَ التَّوَجُّهُ الْوِجْدَانِيُّ إِلَى هَذَا الرَّبِّ الْغَيْبِيِّ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ مِنْ نَفْعٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَعْجِزُ عَنْهُ بِكَسْبِهِ، وَدَفْعِ ضُرٍّ يَمَسُّهُ أَوْ يَخَافُهُ وَيَرَى أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَفِي كُلِّ مَا تَشْعُرُ فِطْرَتُهُ بِاسْتِعْدَادِهَا لِمَعْرِفَتِهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ مِمَّا لَا نِهَايَةَ لَهُ.
وَأَعْنِي بِالْإِنْسَانِ جِنْسَهُ، فَمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ دُونَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ فَإِنَّهُ يَعُدُّهُ مِنْ مَقْدُورِهِ، وَيَعُدُّ مُسَاعَدَةَ غَيْرِهِ لَهُ مِنْ جِنْسِ كَسْبِهِ، فَطَلَبُهُ لِلْمُسَاعَدَةِ مِنْ أَمْثَالِهِ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّعَبُّدِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ - فَتَعْظِيمُ الْفَقِيرِ لِلْغَنِيِّ بِوَسَائِلِ اسْتِجْدَائِهِ، وَخُضُوعُ الضَّعِيفِ لِلْقَوِيِّ لِاسْتِنْجَادِهِ وَاسْتِعْدَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَخُنُوعُ السُّوقَةِ لِلْمَلِكِ أَوِ الْأَمِيرِ لِخَوْفِهِمْ مِنْهُ أَوْ رَجَائِهِ - لَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِبَادَةً فِي عُرْفِ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَلَا مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ، وَإِنَّمَا رُوحُ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ وَمُخُّهَا هُوَ دُعَاءُ ذِي السُّلْطَانِ الْعُلْوِيِّ وَالْقُدْرَةِ الْغَيْبِيَّةِ، الَّتِي هِيَ فَوْقَ مَا يَعْرِفُهُ الْإِنْسَانُ وَيَعْقِلُهُ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ، وَلَاسِيَّمَا الدُّعَاءَ عِنْدَ الْعَجْزِ وَالشَّدَائِدِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) هَكَذَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، أَيْ هُوَ الرُّكْنُ الْمَعْنَوِيُّ الْأَعْظَمُ فِيهَا لِأَنَّهُ رُوحُهَا الْمُفَسَّرُ بِرِوَايَةِ ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)) وَكُلُّ تَعْظِيمٍ وَتَقَرُّبٍ قَوْلِيٍّ أَوَعَمَلِيٍّ لِصَاحِبِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ فَهُوَ عِبَادَةٌ لَهُ - هَذَا أَصْلُ دِينِ الْفِطْرَةِ الْغَرِيزِيِّ فِي الْبَشَرِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى الدِّينُ التَّعْلِيمِيُّ التَّشْرِيعِيُّ، الَّذِي هُوَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ يُوحِيهِ اللهُ إِلَى رُسُلِهِ، لِئَلَّا يَضِلَّ عِبَادُهُ بِضِعْفِ اجْتِهَادِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى غَرِيزَةِ الدِّينِ كَمَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَلَا يَقْبَلُهُ الْبَشَرُ بِالْإِذْعَانِ وَالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُلَقِّنُ لَهُمْ إِيَّاهُ مُؤَيَّدًا فِي تَبْلِيغِهِ وَتَعْلِيمِهِ مِنْ صَاحِبِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْأَعْلَى، وَالتَّصَرُّفِ الذَّاتِيِّ الْمُطْلَقِ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ، الَّذِي تَخْضَعُ لَهُ الْأَسْبَابُ وَالسُّنَنُ فِيهِ وَهُوَ لَا يَخْضَعُ لَهَا، وَهُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ مِرَارًا، وَبَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنَ
التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ مَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ شُرِّعَ لِتَكْمِيلِ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِلرُّقِيِّ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَمَعْرِفَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمُعِدَّةِ إِيَّاهُمْ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يُصَادِمُهَا.
فَوْقَ قُوَى الْكَوْنِ وَالسُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي قَامَ بِهِمَا نِظَامُ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ، فَرَبُّ هَذَا السُّلْطَانِ هُوَ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، وَالْمَصْدَرُ الذَّاتِيُّ لِلنَّفْعِ وَالضُّرِّ الْمُحَرِّكَيْنِ لِشُعُورِ التَّعَبُّدِ الْفِطْرِيِّ، وَطَلَبِ الْعِرْفَانِ الْغَيْبِيِّ، فَالْعِبَادَةُ الْفِطْرِيَّةُ هِيَ التَّوَجُّهُ الْوِجْدَانِيُّ إِلَى هَذَا الرَّبِّ الْغَيْبِيِّ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ مِنْ نَفْعٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَعْجِزُ عَنْهُ بِكَسْبِهِ، وَدَفْعِ ضُرٍّ يَمَسُّهُ أَوْ يَخَافُهُ وَيَرَى أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَفِي كُلِّ مَا تَشْعُرُ فِطْرَتُهُ بِاسْتِعْدَادِهَا لِمَعْرِفَتِهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ مِمَّا لَا نِهَايَةَ لَهُ.
وَأَعْنِي بِالْإِنْسَانِ جِنْسَهُ، فَمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ دُونَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ فَإِنَّهُ يَعُدُّهُ مِنْ مَقْدُورِهِ، وَيَعُدُّ مُسَاعَدَةَ غَيْرِهِ لَهُ مِنْ جِنْسِ كَسْبِهِ، فَطَلَبُهُ لِلْمُسَاعَدَةِ مِنْ أَمْثَالِهِ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّعَبُّدِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ - فَتَعْظِيمُ الْفَقِيرِ لِلْغَنِيِّ بِوَسَائِلِ اسْتِجْدَائِهِ، وَخُضُوعُ الضَّعِيفِ لِلْقَوِيِّ لِاسْتِنْجَادِهِ وَاسْتِعْدَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَخُنُوعُ السُّوقَةِ لِلْمَلِكِ أَوِ الْأَمِيرِ لِخَوْفِهِمْ مِنْهُ أَوْ رَجَائِهِ - لَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِبَادَةً فِي عُرْفِ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَلَا مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ، وَإِنَّمَا رُوحُ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ وَمُخُّهَا هُوَ دُعَاءُ ذِي السُّلْطَانِ الْعُلْوِيِّ وَالْقُدْرَةِ الْغَيْبِيَّةِ، الَّتِي هِيَ فَوْقَ مَا يَعْرِفُهُ الْإِنْسَانُ وَيَعْقِلُهُ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ، وَلَاسِيَّمَا الدُّعَاءَ عِنْدَ الْعَجْزِ وَالشَّدَائِدِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) هَكَذَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، أَيْ هُوَ الرُّكْنُ الْمَعْنَوِيُّ الْأَعْظَمُ فِيهَا لِأَنَّهُ رُوحُهَا الْمُفَسَّرُ بِرِوَايَةِ ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)) وَكُلُّ تَعْظِيمٍ وَتَقَرُّبٍ قَوْلِيٍّ أَوَعَمَلِيٍّ لِصَاحِبِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ فَهُوَ عِبَادَةٌ لَهُ - هَذَا أَصْلُ دِينِ الْفِطْرَةِ الْغَرِيزِيِّ فِي الْبَشَرِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى الدِّينُ التَّعْلِيمِيُّ التَّشْرِيعِيُّ، الَّذِي هُوَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ يُوحِيهِ اللهُ إِلَى رُسُلِهِ، لِئَلَّا يَضِلَّ عِبَادُهُ بِضِعْفِ اجْتِهَادِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى غَرِيزَةِ الدِّينِ كَمَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَلَا يَقْبَلُهُ الْبَشَرُ بِالْإِذْعَانِ وَالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُلَقِّنُ لَهُمْ إِيَّاهُ مُؤَيَّدًا فِي تَبْلِيغِهِ وَتَعْلِيمِهِ مِنْ صَاحِبِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْأَعْلَى، وَالتَّصَرُّفِ الذَّاتِيِّ الْمُطْلَقِ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ، الَّذِي تَخْضَعُ لَهُ الْأَسْبَابُ وَالسُّنَنُ فِيهِ وَهُوَ لَا يَخْضَعُ لَهَا، وَهُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ مِرَارًا، وَبَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنَ
التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ مَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ شُرِّعَ لِتَكْمِيلِ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِلرُّقِيِّ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَمَعْرِفَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمُعِدَّةِ إِيَّاهُمْ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يُصَادِمُهَا.
201
فَهَذَا الدِّينُ التَّعْلِيمِيُّ حَاجَةٌ مِنْ حَاجِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَتِمُّ كَمَالُهَا النَّوْعِيُّ بِدُونِهِ، فَهُوَ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ كَالْعَقْلِ لِأَفْرَادِهِ كَمَا حَقَّقَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ.
(٢) الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ:
تَقْرَأُ قَامُوسَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ فَلَا تَجِدُ فِيهِ كَلِمَةَ ((الْعَقْلِ)) وَلَا مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَسْمَاءِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي فَضُلَ الْإِنْسَانُ بِهَا جَمِيعَ أَنْوَاعِ هَذَا الْجِنْسِ الْحَيِّ كَاللُّبِّ وَالنُّهَى، وَلَا أَسْمَاءَ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ فِي الْعَالَمِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَظَائِفِ الْعَقْلِ، وَلَا أَنَّ الدِّينَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِ، وَقَائِمٌ بِهِ وَعَلَيْهِ. أَمَّا ذِكْرُ الْعَقْلِ بِاسْمِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ فَيَبْلُغُ زُهَاءَ خَمْسِينَ مَرَّةً، وَأَمَّا ذِكْرُ ((أُولِي الْأَلْبَابِ)) فَفِي بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَأَمَّا كَلِمَةُ ((أُولِي النُّهَى)) أَيِ الْعُقُولِ فَقَدْ جَاءَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ آخِرِ سُورَةِ طه.
أَكْثَرُ مَا ذُكِرَ فِعْلُ الْعَقْلِ فِي الْقُرْآنِ قَدْ جَاءَ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ اللهِ، وَكَوْنِ الْمُخَاطَبِينَ وَالَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا وَيَهْتَدُونَ بِهَا الْعُقَلَاءُ، وَيُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْغَالِبِ آيَاتُ الْكَوْنِ الدَّالَّةُ عَلَى عِلْمِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢: ١٦٤) وَيَلِي ذَلِكَ فِي الْكَثْرَةِ آيَاتُ كِتَابِهِ التَّشْرِيعِيَّةُ وَوَصَايَاهُ، كَقَوْلِهِ فِي تَفْصِيلِ الْوَصَايَا الْجَامِعَةِ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦: ١٥١) وَكَرَّرَ قَوْلَهُ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ مِرَارٍ كَأَمْرٍ لِرَسُولِهِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى قَوْمِهِ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ عِنْدِهِ بِقَوْلِهِ: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (١٠: ١٦) وَجَعَلَ إِهْمَالَ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ سَبَبَ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ فِي أَهْلِ النَّارِ مِنْ سُورَةِ الْمُلْكِ: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (٦٧: ١٠) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ
آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (٧: ١٧٩) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) (٢٢: ٤٦) الْآيَةَ.
كَذَلِكَ آيَاتُ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّفْكِيرِ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَمَنْ تَأَمَّلَهَا عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ هَذَا الدِّينِ هُمْ أَهْلُ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَنَّ الْغَافِلِينَ الَّذِينَ يَعِيشُونَ كَالْأَنْعَامِ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا الظَّوَاهِرُ التَّقْلِيدِيَّةُ، الَّتِي لَا تُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَلَا تَصْعَدُ بِهَا فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ، بِعِرْفَانِ ذِي الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (٣٤: ٤٦)
(٢) الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ:
تَقْرَأُ قَامُوسَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ فَلَا تَجِدُ فِيهِ كَلِمَةَ ((الْعَقْلِ)) وَلَا مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَسْمَاءِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي فَضُلَ الْإِنْسَانُ بِهَا جَمِيعَ أَنْوَاعِ هَذَا الْجِنْسِ الْحَيِّ كَاللُّبِّ وَالنُّهَى، وَلَا أَسْمَاءَ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ فِي الْعَالَمِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَظَائِفِ الْعَقْلِ، وَلَا أَنَّ الدِّينَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِ، وَقَائِمٌ بِهِ وَعَلَيْهِ. أَمَّا ذِكْرُ الْعَقْلِ بِاسْمِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ فَيَبْلُغُ زُهَاءَ خَمْسِينَ مَرَّةً، وَأَمَّا ذِكْرُ ((أُولِي الْأَلْبَابِ)) فَفِي بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَأَمَّا كَلِمَةُ ((أُولِي النُّهَى)) أَيِ الْعُقُولِ فَقَدْ جَاءَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ آخِرِ سُورَةِ طه.
أَكْثَرُ مَا ذُكِرَ فِعْلُ الْعَقْلِ فِي الْقُرْآنِ قَدْ جَاءَ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ اللهِ، وَكَوْنِ الْمُخَاطَبِينَ وَالَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا وَيَهْتَدُونَ بِهَا الْعُقَلَاءُ، وَيُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْغَالِبِ آيَاتُ الْكَوْنِ الدَّالَّةُ عَلَى عِلْمِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢: ١٦٤) وَيَلِي ذَلِكَ فِي الْكَثْرَةِ آيَاتُ كِتَابِهِ التَّشْرِيعِيَّةُ وَوَصَايَاهُ، كَقَوْلِهِ فِي تَفْصِيلِ الْوَصَايَا الْجَامِعَةِ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦: ١٥١) وَكَرَّرَ قَوْلَهُ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ مِرَارٍ كَأَمْرٍ لِرَسُولِهِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى قَوْمِهِ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ عِنْدِهِ بِقَوْلِهِ: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (١٠: ١٦) وَجَعَلَ إِهْمَالَ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ سَبَبَ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ فِي أَهْلِ النَّارِ مِنْ سُورَةِ الْمُلْكِ: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (٦٧: ١٠) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ
آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (٧: ١٧٩) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) (٢٢: ٤٦) الْآيَةَ.
كَذَلِكَ آيَاتُ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّفْكِيرِ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَمَنْ تَأَمَّلَهَا عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ هَذَا الدِّينِ هُمْ أَهْلُ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَنَّ الْغَافِلِينَ الَّذِينَ يَعِيشُونَ كَالْأَنْعَامِ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا الظَّوَاهِرُ التَّقْلِيدِيَّةُ، الَّتِي لَا تُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَلَا تَصْعَدُ بِهَا فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ، بِعِرْفَانِ ذِي الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (٣٤: ٤٦)
202
وَقَوْلُهُ: (أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) (٣٠: ٨) وَقَوْلُهُ فِي صِفَاتِ الْعُقَلَاءِ أُولِي الْأَلْبَابِ: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (٣: ١٩١) وَقَوْلُهُ بَعْدَ نَفْيِ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالتَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ الْأَرْضِ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَصْرِ وَظِيفَتِهِ فِي اتِّبَاعِ الْوَحْيِ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) (٦: ٥٠).
وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْغَرْبِ، بِمَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ عَاقِلَانِ فِي الْأَرْضِ، مِنْ أَنَّ التَّفَكُّرَ هُوَ مَبْدَأُ ارْتِقَاءِ الْبَشَرِ، وَبِقَدْرِ جَوْدَتِهِ يَكُونُ تَفَاضُلُهُمْ فِيهِ اهـ. وَقَدْ كَانَتِ التَّقَالِيدُ الدِّينِيَّةُ حَجَّرَتْ حُرِّيَّةَ التَّفَكُّرِ وَاسْتِقْلَالَ الْعَقْلِ عَلَى الْبَشَرِ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَبْطَلَ بِكِتَابِهِ هَذَا الْحَجْرَ، وَأَعْتَقَهُمْ مِنْ هَذَا الرِّقِّ، وَقَدْ تَعَلَّمَ هَذِهِ الْحُرِّيَّةَ أُمَمُ الْغَرْبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نُكِسَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى عَادَ بَعْضُهُمْ يُقَلِّدُونَ فِيهَا مَنْ أَخَذُوهَا عَنْ أَجْدَادِهِمْ.
(٣) الْإِسْلَامُ دِينُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ:
ذُكِرَ اسْمُ الْعِلْمِ مَعْرِفَةً وَنَكِرَةً فِي عَشَرَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، وَذُكِرَتْ مُشْتَقَّاتُهُ أَضْعَافَ ذَلِكَ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى عُلُومِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِأَنْوَاعِهَا، فَمِنَ الْعِلْمِ الْمُطْلَقِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (١٧: ٣٦) قَالَ الرَّاغِبُ: أَيْ لَاتَحْكُمْ بِالْقِيَافَةِ وَالظَّنِّ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: وَلَا تَتَّبِعْ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ عِلْمُكَ تَقْلِيدًا أَوْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ فِي التَّارِيخِ: (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (٤٦: ٤) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي عُلُومِ
الْبَشَرِ الْمَادِّيَّةِ: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (٣٠: ٦ و٧) إِلَخْ. وَقَوْلُهُ فِيهَا دُونَ الْعِلْمِ الرُّوحِيِّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (١٧: ٨٥).
وَقَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) (٢٢: ٨) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ فِيهِ الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ، بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْهُدَى وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ وَهُوَ هُدَى الدِّينِ. وَقَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (٣٠: ٢٢) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ إِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ الْمُخْتَلِفِ أَلْوَانُهَا مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِ الطَّرَائِقِ فِي الْجِبَالِ وَأَلْوَانِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (٣٥: ٢٨)
وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْغَرْبِ، بِمَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ عَاقِلَانِ فِي الْأَرْضِ، مِنْ أَنَّ التَّفَكُّرَ هُوَ مَبْدَأُ ارْتِقَاءِ الْبَشَرِ، وَبِقَدْرِ جَوْدَتِهِ يَكُونُ تَفَاضُلُهُمْ فِيهِ اهـ. وَقَدْ كَانَتِ التَّقَالِيدُ الدِّينِيَّةُ حَجَّرَتْ حُرِّيَّةَ التَّفَكُّرِ وَاسْتِقْلَالَ الْعَقْلِ عَلَى الْبَشَرِ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَبْطَلَ بِكِتَابِهِ هَذَا الْحَجْرَ، وَأَعْتَقَهُمْ مِنْ هَذَا الرِّقِّ، وَقَدْ تَعَلَّمَ هَذِهِ الْحُرِّيَّةَ أُمَمُ الْغَرْبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نُكِسَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى عَادَ بَعْضُهُمْ يُقَلِّدُونَ فِيهَا مَنْ أَخَذُوهَا عَنْ أَجْدَادِهِمْ.
(٣) الْإِسْلَامُ دِينُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ:
ذُكِرَ اسْمُ الْعِلْمِ مَعْرِفَةً وَنَكِرَةً فِي عَشَرَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، وَذُكِرَتْ مُشْتَقَّاتُهُ أَضْعَافَ ذَلِكَ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى عُلُومِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِأَنْوَاعِهَا، فَمِنَ الْعِلْمِ الْمُطْلَقِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (١٧: ٣٦) قَالَ الرَّاغِبُ: أَيْ لَاتَحْكُمْ بِالْقِيَافَةِ وَالظَّنِّ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: وَلَا تَتَّبِعْ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ عِلْمُكَ تَقْلِيدًا أَوْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ فِي التَّارِيخِ: (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (٤٦: ٤) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي عُلُومِ
الْبَشَرِ الْمَادِّيَّةِ: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (٣٠: ٦ و٧) إِلَخْ. وَقَوْلُهُ فِيهَا دُونَ الْعِلْمِ الرُّوحِيِّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (١٧: ٨٥).
وَقَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) (٢٢: ٨) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ فِيهِ الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ، بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْهُدَى وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ وَهُوَ هُدَى الدِّينِ. وَقَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (٣٠: ٢٢) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ إِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ الْمُخْتَلِفِ أَلْوَانُهَا مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِ الطَّرَائِقِ فِي الْجِبَالِ وَأَلْوَانِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (٣٥: ٢٨)
203
الْآيَةَ. فَالْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ هُنَا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَسْرَارَ الْكَوْنِ وَأَسْبَابَ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ وَأَنْوَاعِهِ وَأَلْوَانِهَا وَآيَاتِ اللهِ وَحِكَمِهِ فِيهَا.
عَظَّمَ الْقُرْآنُ شَأْنَ الْعِلْمِ تَعْظِيمًا لَا تُعْلُوهُ عَظْمَةٌ أُخْرَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) (٣: ١٨) الْآيَةَ، فَبَدَأَ عَزَّ وَجَلَّ بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ، وَجَعَلَ أُولِي الْعِلْمِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْحُكَمَاءُ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَاتِ فِي قَوْلِهِ: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (٥٨: ١١) وَأَمَرَ أَكْرَمَ رُسُلِهِ وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنْ يَدْعُوَهُ بِقَوْلِهِ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (٢٠: ١١٤).
وَيُؤَيِّدُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةَ فِي مَدْحِ الْعِلْمِ وَالْحَثِّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ اتِّبَاعِ الظَّنِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (١٠: ٣٦) وَمِثْلُهُ: وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (٥٣: ٢٨) وَقَوْلُهُ فِي قَوْلِ النَّصَارَى بِصَلْبِ الْمَسِيحِ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ (٤: ١٥٧).
وَبَلَغَ مِنْ تَعْظِيمِهِ لِشَأْنِ الْعِلْمِ وَالْبُرْهَانِ أَنْ قَيَّدَ بِهِ الْحُكْمَ بِمَنْعِ الشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَهُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ وَأَقْصَى الْكُفْرِ فَقَالَ: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٧: ٣٣) السُّلْطَانُ الْبُرْهَانُ.
وَقَالَ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا
وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا (٢٩: ٨) وَمَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ لَا يَكُونُ بِعِلْمٍ وَلَا بِبُرْهَانٍ، لِأَنَّهُ ضَرُورِيُّ الْبُطَلَانِ، وَتَرَى تَفْصِيلَ هَذَا فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ وَمَا يَلِيهِ مِنْ ذَمِّ التَّقْلِيدِ.
وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِ شَأْنِهَا الْمُطْلَقِ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢: ٢٦٩) : وَقَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ مُرَادِهِ مِنْ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٦٢: ٢) وَفِي مَعْنَاهَا آيَتَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ. وَقَالَ لِرَسُولِهِ مُمْتَنًّا عَلَيْهِ: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (٤: ١١٣) وَقَالَ لَهُ: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (١٦: ١٢٥) وَقَالَ لَهُ فِي خَاتِمَةِ الْوَصَايَا بِأُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ وَالنَّهْيِ عَنْ كَبَائِرِ الرَّذَائِلِ، مَعَ بَيَانِ عِلَلِهَا وَمَا لَهَا مِنَ الْعَوَاقِبِ:
عَظَّمَ الْقُرْآنُ شَأْنَ الْعِلْمِ تَعْظِيمًا لَا تُعْلُوهُ عَظْمَةٌ أُخْرَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) (٣: ١٨) الْآيَةَ، فَبَدَأَ عَزَّ وَجَلَّ بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ، وَجَعَلَ أُولِي الْعِلْمِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْحُكَمَاءُ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَاتِ فِي قَوْلِهِ: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (٥٨: ١١) وَأَمَرَ أَكْرَمَ رُسُلِهِ وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنْ يَدْعُوَهُ بِقَوْلِهِ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (٢٠: ١١٤).
وَيُؤَيِّدُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةَ فِي مَدْحِ الْعِلْمِ وَالْحَثِّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ اتِّبَاعِ الظَّنِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (١٠: ٣٦) وَمِثْلُهُ: وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (٥٣: ٢٨) وَقَوْلُهُ فِي قَوْلِ النَّصَارَى بِصَلْبِ الْمَسِيحِ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ (٤: ١٥٧).
وَبَلَغَ مِنْ تَعْظِيمِهِ لِشَأْنِ الْعِلْمِ وَالْبُرْهَانِ أَنْ قَيَّدَ بِهِ الْحُكْمَ بِمَنْعِ الشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَهُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ وَأَقْصَى الْكُفْرِ فَقَالَ: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٧: ٣٣) السُّلْطَانُ الْبُرْهَانُ.
وَقَالَ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا
وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا (٢٩: ٨) وَمَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ لَا يَكُونُ بِعِلْمٍ وَلَا بِبُرْهَانٍ، لِأَنَّهُ ضَرُورِيُّ الْبُطَلَانِ، وَتَرَى تَفْصِيلَ هَذَا فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ وَمَا يَلِيهِ مِنْ ذَمِّ التَّقْلِيدِ.
وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِ شَأْنِهَا الْمُطْلَقِ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢: ٢٦٩) : وَقَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ مُرَادِهِ مِنْ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٦٢: ٢) وَفِي مَعْنَاهَا آيَتَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ. وَقَالَ لِرَسُولِهِ مُمْتَنًّا عَلَيْهِ: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (٤: ١١٣) وَقَالَ لَهُ: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (١٦: ١٢٥) وَقَالَ لَهُ فِي خَاتِمَةِ الْوَصَايَا بِأُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ وَالنَّهْيِ عَنْ كَبَائِرِ الرَّذَائِلِ، مَعَ بَيَانِ عِلَلِهَا وَمَا لَهَا مِنَ الْعَوَاقِبِ:
204
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ (١٧: ٣٩) وَقَالَ لِنِسَائِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ (٣٣: ٣٤).
وَقَدْ آتَى اللهُ جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ الْحِكْمَةَ، وَلَكِنْ أَضَاعَهَا أَقْوَامُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ بِالتَّقَالِيدِ وَالرِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ، وَنَسَخَهَا بُولَسْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَصٍّ صَرِيحٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٤: ٥٤) فَالْكِتَابُ أَعْلَى مَا يُؤْتِيهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَيَلِيهِ الْحِكْمَةُ وَيَلِيهَا الْمُلْكُ. وَقَالَ فِي نَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ (٢: ٢٥١) وَقَالَ لِنَبِيِّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٥: ١١٠) وَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (٣١: ١٢) وَذَكَرَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَصَايَاهُ لِابْنِهِ بِالْفَضَائِلِ وَمَنَافِعِهَا وَنَهْيَهُ عَنِ الرَّذَائِلِ مُعَلَّلَةً بِمَضَارِّهَا. فَالْحِكْمَةُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، هِيَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْعَمَلِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْفَلْسَفَةِ الْعَمَلِيَّةِ كَعِلْمِ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ وَأَسْرَارِ الْخَلْقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ (١٧: ٣٩) وَلَوْلَا اقْتِرَانُ تِلْكَ الْوَصَايَا بِحِكَمِهَا وَعِلَلِهَا وَمَنَافِعِهَا لَمَا سُمِّيَتْ حِكْمَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّى
فِيهَا الْمُبَذِّرِينَ لِلْمَالِ ((إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)) لِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ نِظَامَ الْمَعِيشَةِ بِإِسْرَافِهِمْ، وَيَكْفُرُونَ النِّعْمَةَ بِعَدَمِ حِفْظِهَا وَوَضْعِهَا فِي مَوَاضِعِهَا بِالِاعْتِدَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَقِبَهُ: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (١٧: ٢٧) ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (١٧: ٢٩) فَعَلَّلَ الْإِسْرَافَ فِي الْإِنْفَاقِ بِأَنَّ عَاقِبَةَ فَاعِلِهِ أَنْ يَكُونَ مَلُومًا مِنَ النَّاسِ وَمَحْسُورًا فِي نَفْسِهِ، وَالْمَحْسُورُ مَنْ حُسِرَ عَنْهُ سَتْرُهُ فَانْكَشَفَ مِنْهُ الْمُغَطَّى، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنِ انْحَسَرَتْ قُوَّتُهُ وَانْكَشَفَتْ عَنْ عَجْزِهِ، وَالْمَحْسُورُ الْمَغْمُومُ أَيْضًا. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي تَصِحُّ فِي وَصْفِ الْمُسْرِفِ فِي النَّفَقَةِ، يُوقِعُهُ إِسْرَافُهُ فِي الْعُدْمِ وَالْفَقْرِ إِلَخْ. وَحَسِيرُ الْبَصَرِ كَلَيْلُهُ وَقَصِيرُهُ.
وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْفَهْمُ الدَّقِيقُ لِلْحَقَائِقِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعَالِمُ حَكِيمًا.
(٤) الْإِسْلَامُ دِينُ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ:
قَالَ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (٤: ١٧٤) وَقَالَ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٢٣: ١١٧) قَيَّدَ الْوَعِيدَ عَلَى الشِّرْكِ بِكَوْنِهِ لَا بُرْهَانَ لِصَاحِبِهِ يَحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ الْأُمَمَ مَعَ رُسُلِهِمْ وَوَرَثَتِهِمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ وَيُطَالِبُهُمْ بِحَضْرَتِهِمْ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا خَالَفُوهُمْ فِيهِ كَمَا قَالَ:
وَقَدْ آتَى اللهُ جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ الْحِكْمَةَ، وَلَكِنْ أَضَاعَهَا أَقْوَامُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ بِالتَّقَالِيدِ وَالرِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ، وَنَسَخَهَا بُولَسْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَصٍّ صَرِيحٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٤: ٥٤) فَالْكِتَابُ أَعْلَى مَا يُؤْتِيهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَيَلِيهِ الْحِكْمَةُ وَيَلِيهَا الْمُلْكُ. وَقَالَ فِي نَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ (٢: ٢٥١) وَقَالَ لِنَبِيِّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٥: ١١٠) وَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (٣١: ١٢) وَذَكَرَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَصَايَاهُ لِابْنِهِ بِالْفَضَائِلِ وَمَنَافِعِهَا وَنَهْيَهُ عَنِ الرَّذَائِلِ مُعَلَّلَةً بِمَضَارِّهَا. فَالْحِكْمَةُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، هِيَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْعَمَلِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْفَلْسَفَةِ الْعَمَلِيَّةِ كَعِلْمِ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ وَأَسْرَارِ الْخَلْقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ (١٧: ٣٩) وَلَوْلَا اقْتِرَانُ تِلْكَ الْوَصَايَا بِحِكَمِهَا وَعِلَلِهَا وَمَنَافِعِهَا لَمَا سُمِّيَتْ حِكْمَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّى
فِيهَا الْمُبَذِّرِينَ لِلْمَالِ ((إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)) لِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ نِظَامَ الْمَعِيشَةِ بِإِسْرَافِهِمْ، وَيَكْفُرُونَ النِّعْمَةَ بِعَدَمِ حِفْظِهَا وَوَضْعِهَا فِي مَوَاضِعِهَا بِالِاعْتِدَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَقِبَهُ: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (١٧: ٢٧) ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (١٧: ٢٩) فَعَلَّلَ الْإِسْرَافَ فِي الْإِنْفَاقِ بِأَنَّ عَاقِبَةَ فَاعِلِهِ أَنْ يَكُونَ مَلُومًا مِنَ النَّاسِ وَمَحْسُورًا فِي نَفْسِهِ، وَالْمَحْسُورُ مَنْ حُسِرَ عَنْهُ سَتْرُهُ فَانْكَشَفَ مِنْهُ الْمُغَطَّى، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنِ انْحَسَرَتْ قُوَّتُهُ وَانْكَشَفَتْ عَنْ عَجْزِهِ، وَالْمَحْسُورُ الْمَغْمُومُ أَيْضًا. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي تَصِحُّ فِي وَصْفِ الْمُسْرِفِ فِي النَّفَقَةِ، يُوقِعُهُ إِسْرَافُهُ فِي الْعُدْمِ وَالْفَقْرِ إِلَخْ. وَحَسِيرُ الْبَصَرِ كَلَيْلُهُ وَقَصِيرُهُ.
وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْفَهْمُ الدَّقِيقُ لِلْحَقَائِقِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعَالِمُ حَكِيمًا.
(٤) الْإِسْلَامُ دِينُ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ:
قَالَ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (٤: ١٧٤) وَقَالَ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٢٣: ١١٧) قَيَّدَ الْوَعِيدَ عَلَى الشِّرْكِ بِكَوْنِهِ لَا بُرْهَانَ لِصَاحِبِهِ يَحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ الْأُمَمَ مَعَ رُسُلِهِمْ وَوَرَثَتِهِمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ وَيُطَالِبُهُمْ بِحَضْرَتِهِمْ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا خَالَفُوهُمْ فِيهِ كَمَا قَالَ:
205
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨: ٧٥).
وَأَقَامَ الْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا) (٢١: ٢٢٠) ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهِ بِمُطَالَبَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْآلِهَةِ مِنْ دُونِهِ مُطَالَبَةَ تَعْجِيزٍ فَقَالَ: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (٢١: ٢٤) الْآيَةَ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٧: ٦٤).
وَقَالَ فِي سِيَاقِ مُحَاجَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ وَإِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ الْعِلْمِيَّةِ لَهُمْ عَلَى بُطْلَانِ
شِرْكِهِمْ: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٦: ٨١) ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٦: ٨٣) فَالدَّرَجَاتُ هُنَا دَرَجَاتُ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ عَلَى الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الْحِكْمَةِ عَلَى الْعِلْمِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعِلْمِ آيَةُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِيهِ.
وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ الْبُرْهَانُ بِلَفْظِ السُّلْطَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٤٠: ٣٥) الْآيَةَ، وَفِي مَعْنَاهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) (٤٠: ٥٦) الْآيَةَ، وَفِي عِدَّةِ سُوَرٍ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ بِآيَاتِهِ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ.
(٥) الْإِسْلَامُ دِينُ الْقَلْبِ وَالْوِجْدَانِ وَالضَّمِيرِ:
قَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ: ضَمِيرُ الْإِنْسَانِ قَلْبُهُ وَبَاطِنُهُ، وَقَالَ: وَالْقَلْبُ مِنَ الْفُؤَادِ مَعْرُوفٌ - يَعْنِي أَنَّهُ ضَمِيرُهُ وَوِجْدَانُهُ الْبَاطِنُ (قَالَ) : وَيُطْلَقُ عَلَى الْعَقْلِ اهـ. وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَاهُ هَذَا وَطَرِيقَ اسْتِعْمَالِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي مِائَةِ آيَةٍ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً.
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٥٠: ٣٧) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٢٦: ٨٨، ٨٩) وَمَدْحُهُ لِخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ) (٣٧: ٨٤) وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْهُ (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٢: ٢٦) وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١٣: ٢٨)
وَأَقَامَ الْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا) (٢١: ٢٢٠) ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهِ بِمُطَالَبَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْآلِهَةِ مِنْ دُونِهِ مُطَالَبَةَ تَعْجِيزٍ فَقَالَ: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (٢١: ٢٤) الْآيَةَ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٧: ٦٤).
وَقَالَ فِي سِيَاقِ مُحَاجَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ وَإِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ الْعِلْمِيَّةِ لَهُمْ عَلَى بُطْلَانِ
شِرْكِهِمْ: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٦: ٨١) ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٦: ٨٣) فَالدَّرَجَاتُ هُنَا دَرَجَاتُ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ عَلَى الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الْحِكْمَةِ عَلَى الْعِلْمِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعِلْمِ آيَةُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِيهِ.
وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ الْبُرْهَانُ بِلَفْظِ السُّلْطَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٤٠: ٣٥) الْآيَةَ، وَفِي مَعْنَاهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) (٤٠: ٥٦) الْآيَةَ، وَفِي عِدَّةِ سُوَرٍ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ بِآيَاتِهِ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ.
(٥) الْإِسْلَامُ دِينُ الْقَلْبِ وَالْوِجْدَانِ وَالضَّمِيرِ:
قَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ: ضَمِيرُ الْإِنْسَانِ قَلْبُهُ وَبَاطِنُهُ، وَقَالَ: وَالْقَلْبُ مِنَ الْفُؤَادِ مَعْرُوفٌ - يَعْنِي أَنَّهُ ضَمِيرُهُ وَوِجْدَانُهُ الْبَاطِنُ (قَالَ) : وَيُطْلَقُ عَلَى الْعَقْلِ اهـ. وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَاهُ هَذَا وَطَرِيقَ اسْتِعْمَالِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي مِائَةِ آيَةٍ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً.
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٥٠: ٣٧) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٢٦: ٨٨، ٨٩) وَمَدْحُهُ لِخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ) (٣٧: ٨٤) وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْهُ (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٢: ٢٦) وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١٣: ٢٨)
206
وَقَوْلُهُ فِي صِفَاتِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) (٥٧: ٧٢) وَوَصَفَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخُشُوعِ وَالْإِخْبَاتِ لِلَّهِ وَتَمْحِيصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَقُلُوبِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالرِّجْسِ وَالْمَرَضِ وَالْقَسْوَةِ وَالزَّيْغِ. وَعَبَّرَ عَنْ فَقْدِهَا لِلِاسْتِعْدَادِ لِلْحَقِّ وَالْخَيْرِ بِالطَّبْعِ وَالْخَتْمِ وَالرَّيْنِ عَلَيْهَا، أَيْ أَنَّهَا كَالْمَخْتُومِ عَلَيْهِ فَلَا يَدْخُلُهُ شَيْءٌ جَدِيدٌ.
وَإِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ، وَحُرِّيَّةِ الضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، مَنَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ وَالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ وَالْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ لِمُخَالِفِيهِمْ فِيهِ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي مَحَلِّهَا، وَمِنْ دَلَائِلِهَا ذَمُّ الْقُرْآنِ لِلتَّقْلِيدِ وَتَضْلِيلُ أَهْلِهِ.
(٦) مَنْعُ التَّقْلِيدِ وَالْجُمُودِ عَلَى اتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَالْجُدُودِ:
كُلُّ مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ فِي مَدْحِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ وَاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَحُرِّيَّةِ الْوِجْدَانِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ التَّقْلِيدِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّهِ وَالنَّعْيِ عَلَى أَهْلِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ) (٢: ١٧٠) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ يَاأَيُّهَا) (٥: ١٠٤) ذَمَّهُمْ مِنْ نَاحِيَتَيْنِ: (إِحْدَاهُمَا) الْجُمُودُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ وَالِاكْتِفَاءُ بِهِ عَنِ التَّرَقِّي فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ الْعَاقِلِ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ تَقْتَضِي النُّمُوَّ وَالتَّوْلِيدَ، وَالْعَقْلُ يَطْلُبُ الْمَزِيدَ وَالتَّجْدِيدَ. (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ قَدْ فَقَدُوا مَزِيَّةَ الْبَشَرِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْحُسْنِ وَالْقَبِيحِ، بِطَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَطَرِيقِ الِاهْتِدَاءِ فِي الْعَمَلِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (٧: ٢٨) وَقَالَ تَعَالَى فِي عِبَادَةِ الْعَرَبِ لِلْمَلَائِكَةِ: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (٤٣: ٢٠ - ٢٣) وَقَدْ وَرَدَتِ الشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالصَّافَّاتِ.
فَالْقُرْآنُ قَدْ جَاءَ يَهْدِي جَمِيعَ مُتَّبِعِي الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ مَعَ ضَمَائِرِهِمْ لِلْوُصُولِ إِلَى الْعِلْمِ وَالْهُدَى فِي الدِّينِ، وَأَلَّا يَكْتَفُوا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ وَأَجْدَادُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ
وَإِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ، وَحُرِّيَّةِ الضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، مَنَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ وَالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ وَالْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ لِمُخَالِفِيهِمْ فِيهِ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي مَحَلِّهَا، وَمِنْ دَلَائِلِهَا ذَمُّ الْقُرْآنِ لِلتَّقْلِيدِ وَتَضْلِيلُ أَهْلِهِ.
(٦) مَنْعُ التَّقْلِيدِ وَالْجُمُودِ عَلَى اتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَالْجُدُودِ:
كُلُّ مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ فِي مَدْحِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ وَاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَحُرِّيَّةِ الْوِجْدَانِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ التَّقْلِيدِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّهِ وَالنَّعْيِ عَلَى أَهْلِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ) (٢: ١٧٠) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ يَاأَيُّهَا) (٥: ١٠٤) ذَمَّهُمْ مِنْ نَاحِيَتَيْنِ: (إِحْدَاهُمَا) الْجُمُودُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ وَالِاكْتِفَاءُ بِهِ عَنِ التَّرَقِّي فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ الْعَاقِلِ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ تَقْتَضِي النُّمُوَّ وَالتَّوْلِيدَ، وَالْعَقْلُ يَطْلُبُ الْمَزِيدَ وَالتَّجْدِيدَ. (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ قَدْ فَقَدُوا مَزِيَّةَ الْبَشَرِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْحُسْنِ وَالْقَبِيحِ، بِطَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَطَرِيقِ الِاهْتِدَاءِ فِي الْعَمَلِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (٧: ٢٨) وَقَالَ تَعَالَى فِي عِبَادَةِ الْعَرَبِ لِلْمَلَائِكَةِ: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (٤٣: ٢٠ - ٢٣) وَقَدْ وَرَدَتِ الشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالصَّافَّاتِ.
فَالْقُرْآنُ قَدْ جَاءَ يَهْدِي جَمِيعَ مُتَّبِعِي الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ مَعَ ضَمَائِرِهِمْ لِلْوُصُولِ إِلَى الْعِلْمِ وَالْهُدَى فِي الدِّينِ، وَأَلَّا يَكْتَفُوا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ وَأَجْدَادُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ
207
هَذَا جِنَايَةٌ عَلَى الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ
وَالْقَلْبِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا الْبَشَرُ، وَبِهَذَا الْعِلْمِ وَالْهُدَى امْتَازَ الْإِسْلَامُ وَدَخَلَ فِيهِ الْعُقَلَاءُ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ أَفْوَاجًا، ثُمَّ نُكِسَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَاتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ فِي التَّقْلِيدِ لِآبَائِهِمْ وَمَشَايِخِهِمُ الْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى بَعْضِ أَئِمَّةِ عُلَمَائِهِمْ، الَّذِينَ نَهَوْهُمْ عَنِ التَّقْلِيدِ وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِهِ، فَأَبْطَلُوا بِذَلِكَ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْأُمَمِ وَصَارُوا حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَدْعِيَاءَ الْعِلْمِ الرَّسْمِيِّ فِيهِمْ يُنْكِرُونَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ كِتَابِ اللهِ وَهَدْيِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ أَهْلِهِ وَنَحْنُ مَعَهُمْ فِي بَلَاءٍ وَعَنَاءٍ، نُقَاسِي مِنْهُمْ مَا شَاءَ الْجَهْلُ وَالْجُمُودُ مِنِ اسْتِهْزَاءٍ وَطَعْنٍ وَبِذَاءٍ، وَتَهَكُّمٍ بِلَقَبِ ((الْمُجْتَهِدِ)) الَّذِي احْتَكَرَهُ الْجَهْلُ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَلَوْ كَانَ فِينَا عُلَمَاءُ كَثِيرُونَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ فِي صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، لِدَخَلَ النَّاسُ الْمُسْتَقِلُّونَ فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ أَفْوَاجًا حَتَّى يَعُمَّ الدُّنْيَا، لِأَنَّ التَّعْلِيمَ الْعَصْرِيَّ فِي جَمِيعِ مَدَارِسِ الْأَرْضِ يَجْرِي عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِقْلَالِ فِي الْفَهْمِ وَاتِّبَاعِ الدَّلِيلِ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْأَفْرُعِ وَالْبِلَادِ الْمُقَلِّدَةِ لَهُمْ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ تَقْلِيدِيَّةً وَيَعْتَدُّونَهَا نُظُمًا أَدَبِيَّةً وَاجْتِمَاعِيَّةً لِلْأُمَمِ، فَلِهَذَا يَرَوْنَ الْأَوْلَى بِحِفْظِ نِظَامِهِمُ اتِّبَاعَ دِينِهِمُ التَّقْلِيدِيِّ، وَبِهَذَا يَعْسُرُ عَلَيْنَا أَنْ نُقْنِعَهُمْ بِامْتِيَازِ الْإِسْلَامِ عَلَى دِينِهِمْ، لِأَنَّهُ يَقِلُّ فِينَا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَصَّهُ بِهَا الْقُرْآنُ وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيرَةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
(دَحْضُ شُبْهَةٍ، وَإِقَامَةُ حُجَّةٍ)
يَتَوَهَّمُ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ فِي فَهْمِهِمَا الَّتِي اشْتُهِرَ الْمَنَارُ فِي عَصْرِنَا بِهَا، هِيَ الَّتِي جَرَّأَتْ بَعْضَ الْجَاهِلِينَ عَلَى دَعْوَى الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ تَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ وَالِانْتِقَادِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى اتِّبَاعِهِمْ بِمَا هُوَ ابْتِدَاعٌ جَدِيدٌ، وَاسْتِبْدَالٌ لِلْفَوْضَى بِالتَّقْلِيدِ، وَهُوَ وَهْمٌ سَبَبُهُ الْجَهْلُ بِالدِّينِ وَبِالتَّارِيخِ فَمَذَاهِبُ الِابْتِدَاعِ وَالْإِلْحَادِ قَدِيمَةٌ قَدْ نَجَمَتْ قُرُونُهَا فِي خَيْرِ الْقُرُونِ وَعَهْدِ أَكْبَرِ الْأَئِمَّةِ، وَكَانَ أَشَدَّهَا إِفْسَادًا لِلدِّينِ الدَّعْوَةُ إِلَى اتِّبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْمَعْصُومِينَ الَّذِينَ لَا يُسْأَلُونَ عَنِ الدَّلِيلِ، عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ اتِّبَاعِ أَحَدٍ لَذَّاتِهِ فِي الدِّينِ بَعْدَ
مُحَمَّدٍ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا مَعْصُومَ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنَّ الْمُقَلِّدِينَ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَرِّمِينَ لِلتَّقْلِيدِ قَدِ اتَّبَعُوا الْقَائِلِينَ بِعِصْمَةِ أَئِمَّتِهِمْ، حَتَّى مَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْهُمْ، فَهُمْ يَرُدُّونَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَقْوَالِ أَئِمَّتِهِمْ بَلْ بِأَقْوَالِ كُلِّ مَنْ يَنْتَمِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ. وَإِنَّمَا تَرُوجُ الْبِدَعُ فِي سُوقِ التَّقْلِيدِ الَّذِي يَتْبَعُ أَهْلُهُ كُلَّ نَاعِقٍ، لَا فِي سُوقِ الِاسْتِقْلَالِ وَالْأَخْذِ بِالدَّلَائِلِ
وَالْقَلْبِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا الْبَشَرُ، وَبِهَذَا الْعِلْمِ وَالْهُدَى امْتَازَ الْإِسْلَامُ وَدَخَلَ فِيهِ الْعُقَلَاءُ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ أَفْوَاجًا، ثُمَّ نُكِسَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَاتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ فِي التَّقْلِيدِ لِآبَائِهِمْ وَمَشَايِخِهِمُ الْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى بَعْضِ أَئِمَّةِ عُلَمَائِهِمْ، الَّذِينَ نَهَوْهُمْ عَنِ التَّقْلِيدِ وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِهِ، فَأَبْطَلُوا بِذَلِكَ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْأُمَمِ وَصَارُوا حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَدْعِيَاءَ الْعِلْمِ الرَّسْمِيِّ فِيهِمْ يُنْكِرُونَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ كِتَابِ اللهِ وَهَدْيِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ أَهْلِهِ وَنَحْنُ مَعَهُمْ فِي بَلَاءٍ وَعَنَاءٍ، نُقَاسِي مِنْهُمْ مَا شَاءَ الْجَهْلُ وَالْجُمُودُ مِنِ اسْتِهْزَاءٍ وَطَعْنٍ وَبِذَاءٍ، وَتَهَكُّمٍ بِلَقَبِ ((الْمُجْتَهِدِ)) الَّذِي احْتَكَرَهُ الْجَهْلُ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَلَوْ كَانَ فِينَا عُلَمَاءُ كَثِيرُونَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ فِي صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، لِدَخَلَ النَّاسُ الْمُسْتَقِلُّونَ فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ أَفْوَاجًا حَتَّى يَعُمَّ الدُّنْيَا، لِأَنَّ التَّعْلِيمَ الْعَصْرِيَّ فِي جَمِيعِ مَدَارِسِ الْأَرْضِ يَجْرِي عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِقْلَالِ فِي الْفَهْمِ وَاتِّبَاعِ الدَّلِيلِ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْأَفْرُعِ وَالْبِلَادِ الْمُقَلِّدَةِ لَهُمْ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ تَقْلِيدِيَّةً وَيَعْتَدُّونَهَا نُظُمًا أَدَبِيَّةً وَاجْتِمَاعِيَّةً لِلْأُمَمِ، فَلِهَذَا يَرَوْنَ الْأَوْلَى بِحِفْظِ نِظَامِهِمُ اتِّبَاعَ دِينِهِمُ التَّقْلِيدِيِّ، وَبِهَذَا يَعْسُرُ عَلَيْنَا أَنْ نُقْنِعَهُمْ بِامْتِيَازِ الْإِسْلَامِ عَلَى دِينِهِمْ، لِأَنَّهُ يَقِلُّ فِينَا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَصَّهُ بِهَا الْقُرْآنُ وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيرَةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
(دَحْضُ شُبْهَةٍ، وَإِقَامَةُ حُجَّةٍ)
يَتَوَهَّمُ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ فِي فَهْمِهِمَا الَّتِي اشْتُهِرَ الْمَنَارُ فِي عَصْرِنَا بِهَا، هِيَ الَّتِي جَرَّأَتْ بَعْضَ الْجَاهِلِينَ عَلَى دَعْوَى الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ تَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ وَالِانْتِقَادِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى اتِّبَاعِهِمْ بِمَا هُوَ ابْتِدَاعٌ جَدِيدٌ، وَاسْتِبْدَالٌ لِلْفَوْضَى بِالتَّقْلِيدِ، وَهُوَ وَهْمٌ سَبَبُهُ الْجَهْلُ بِالدِّينِ وَبِالتَّارِيخِ فَمَذَاهِبُ الِابْتِدَاعِ وَالْإِلْحَادِ قَدِيمَةٌ قَدْ نَجَمَتْ قُرُونُهَا فِي خَيْرِ الْقُرُونِ وَعَهْدِ أَكْبَرِ الْأَئِمَّةِ، وَكَانَ أَشَدَّهَا إِفْسَادًا لِلدِّينِ الدَّعْوَةُ إِلَى اتِّبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْمَعْصُومِينَ الَّذِينَ لَا يُسْأَلُونَ عَنِ الدَّلِيلِ، عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ اتِّبَاعِ أَحَدٍ لَذَّاتِهِ فِي الدِّينِ بَعْدَ
مُحَمَّدٍ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا مَعْصُومَ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنَّ الْمُقَلِّدِينَ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَرِّمِينَ لِلتَّقْلِيدِ قَدِ اتَّبَعُوا الْقَائِلِينَ بِعِصْمَةِ أَئِمَّتِهِمْ، حَتَّى مَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْهُمْ، فَهُمْ يَرُدُّونَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَقْوَالِ أَئِمَّتِهِمْ بَلْ بِأَقْوَالِ كُلِّ مَنْ يَنْتَمِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ. وَإِنَّمَا تَرُوجُ الْبِدَعُ فِي سُوقِ التَّقْلِيدِ الَّذِي يَتْبَعُ أَهْلُهُ كُلَّ نَاعِقٍ، لَا فِي سُوقِ الِاسْتِقْلَالِ وَالْأَخْذِ بِالدَّلَائِلِ
208
وَمِنْ بَابِ التَّقْلِيدِ دَخَلَ أَكْثَرُ الْخُرَافَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِانْتِسَابِ جَمِيعِ الدَّجَّالِينَ مِنْ أَهْلِ الطَّرَائِقِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُمْ فِي دَعْوَى اتِّبَاعِهِمْ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَنَحْنُ دُعَاةَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَحَقُّ مِنْهُمْ بِاتِّبَاعِ الْأَئِمَّةِ.
إِنَّ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَشُرُوحِ الْأَحَادِيثِ لِلْعُلَمَاءِ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْأَئِمَّةِ كَثِيرًا مِنَ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ الَّتِي يَتَبَرَّأُ مِنْهَا أَئِمَّةُ الْهُدَى، وَتَرَى عُلَمَاءَ الرُّسُومِ الْجَامِدِينَ يَحْتَجُّونَ بِذِكْرِهَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا وَعَلَى رَدِّ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ بِهَا، وَصَاحِبُ الْمَنَارِ قَدِ انْفَرَدَ دُونَ عُلَمَاءِ مِصْرَ بِالرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَعَلَى الْبَابِيَّةِ وَالْبَهَائِيَّةِ وَالْقَادَيَانِيَّةِ وَالتِّيجَانِيَّةِ وَالْقُبُورِيِّينَ وَسَائِرِ مُبْتَدَعَةِ عَصْرِنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
(٧) الْحُرِّيَّةُ الشَّخْصِيَّةُ فِي الدِّينِ بِمَنْعِ الْإِكْرَاهِ وَالِاضْطِهَادِ وَرِيَاسَةِ السَّيْطَرَةِ:
هَذِهِ الْمَزِيَّةُ مِنْ مَزَايَا الْإِسْلَامِ هِيَ نَتِيجَةُ الْمَزَايَا الَّتِي بَيَّنَّا بِهَا كَوْنَهُ دِينَ الْفِطْرَةِ، فَأَمَّا مَنْعُ الْإِكْرَاهِ فِيهِ وَعَلَيْهِ فَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) (١٠: ٩٩ - ١٠١) عَلَّمَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مِنْ سُنَنِهِ فِي الْبَشَرِ أَنْ تَخْتَلِفَ عُقُولُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِي فَهْمِ الدِّينِ، وَتَتَفَاوَتُ أَنْظَارُهُمْ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَيُؤْمِنُ بَعْضٌ وَيَكْفُرُ بَعْضٌ، فَمَا كَانَ يَتَمَنَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِيمَانِ جَمِيعِ النَّاسِ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ تَعَالَى فِي اخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ النَّاسِ لِلْإِيمَانِ، وَهُوَ مَنُوطٌ بِاسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَأَنْظَارِهِمْ فِي آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ هِدَايَةِ الدِّينِ وَضَلَالَةِ الْكُفْرِ.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ عِنْدَمَا أَرَادَ أَصْحَابُهُ أَخْذَ مَنْ كَانَ عِنْدَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ أَوْلَادِهِمْ
عِنْدَ إِجْلَائِهِمْ عَنِ الْحِجَازِ وَكَانَ قَدْ تَهَوَّدَ بَعْضُهُمْ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (٢: ٢٥٦) الْآيَةَ - فَأَمَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخَيِّرُوهُمْ، فَمَنِ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّةَ أُجْلِيَ مَعَ الْيَهُودِ وَلَا يُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ بَقِيَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَأَمَّا مَنْعُ الْفِتْنَةِ، وَهِيَ اضْطِهَادُ النَّاسِ لِأَجْلِ دِينِهِمْ حَتَّى يَتْرُكُوهُ، فَهُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ لِشَرْعِيَّةِ الْقِتَالِ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (٢: ١٩٣) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ ٣٩ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ الَّتِي بِلَفْظِهَا مَعَ زِيَادَةِ (كُلُّهُ) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي ص ٥٥٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ.
وَأَمَّا مَنْعُ رِيَاسَةِ السَّيْطَرَةِ الدِّينِيَّةِ كَالْمَعْهُودَةِ عِنْدَ النَّصَارَى فَفِيهَا آيَاتٌ مُبَيَّنَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ سِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا
إِنَّ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَشُرُوحِ الْأَحَادِيثِ لِلْعُلَمَاءِ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْأَئِمَّةِ كَثِيرًا مِنَ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ الَّتِي يَتَبَرَّأُ مِنْهَا أَئِمَّةُ الْهُدَى، وَتَرَى عُلَمَاءَ الرُّسُومِ الْجَامِدِينَ يَحْتَجُّونَ بِذِكْرِهَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا وَعَلَى رَدِّ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ بِهَا، وَصَاحِبُ الْمَنَارِ قَدِ انْفَرَدَ دُونَ عُلَمَاءِ مِصْرَ بِالرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَعَلَى الْبَابِيَّةِ وَالْبَهَائِيَّةِ وَالْقَادَيَانِيَّةِ وَالتِّيجَانِيَّةِ وَالْقُبُورِيِّينَ وَسَائِرِ مُبْتَدَعَةِ عَصْرِنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
(٧) الْحُرِّيَّةُ الشَّخْصِيَّةُ فِي الدِّينِ بِمَنْعِ الْإِكْرَاهِ وَالِاضْطِهَادِ وَرِيَاسَةِ السَّيْطَرَةِ:
هَذِهِ الْمَزِيَّةُ مِنْ مَزَايَا الْإِسْلَامِ هِيَ نَتِيجَةُ الْمَزَايَا الَّتِي بَيَّنَّا بِهَا كَوْنَهُ دِينَ الْفِطْرَةِ، فَأَمَّا مَنْعُ الْإِكْرَاهِ فِيهِ وَعَلَيْهِ فَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) (١٠: ٩٩ - ١٠١) عَلَّمَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مِنْ سُنَنِهِ فِي الْبَشَرِ أَنْ تَخْتَلِفَ عُقُولُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِي فَهْمِ الدِّينِ، وَتَتَفَاوَتُ أَنْظَارُهُمْ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَيُؤْمِنُ بَعْضٌ وَيَكْفُرُ بَعْضٌ، فَمَا كَانَ يَتَمَنَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِيمَانِ جَمِيعِ النَّاسِ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ تَعَالَى فِي اخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ النَّاسِ لِلْإِيمَانِ، وَهُوَ مَنُوطٌ بِاسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَأَنْظَارِهِمْ فِي آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ هِدَايَةِ الدِّينِ وَضَلَالَةِ الْكُفْرِ.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ عِنْدَمَا أَرَادَ أَصْحَابُهُ أَخْذَ مَنْ كَانَ عِنْدَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ أَوْلَادِهِمْ
عِنْدَ إِجْلَائِهِمْ عَنِ الْحِجَازِ وَكَانَ قَدْ تَهَوَّدَ بَعْضُهُمْ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (٢: ٢٥٦) الْآيَةَ - فَأَمَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخَيِّرُوهُمْ، فَمَنِ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّةَ أُجْلِيَ مَعَ الْيَهُودِ وَلَا يُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ بَقِيَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَأَمَّا مَنْعُ الْفِتْنَةِ، وَهِيَ اضْطِهَادُ النَّاسِ لِأَجْلِ دِينِهِمْ حَتَّى يَتْرُكُوهُ، فَهُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ لِشَرْعِيَّةِ الْقِتَالِ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (٢: ١٩٣) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ ٣٩ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ الَّتِي بِلَفْظِهَا مَعَ زِيَادَةِ (كُلُّهُ) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي ص ٥٥٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ.
وَأَمَّا مَنْعُ رِيَاسَةِ السَّيْطَرَةِ الدِّينِيَّةِ كَالْمَعْهُودَةِ عِنْدَ النَّصَارَى فَفِيهَا آيَاتٌ مُبَيَّنَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ سِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا
209
فِي الْكَلَامِ عَلَى وَظَائِفِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَحَسْبُكَ مِنْهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) (٨٨: ٢١، ٢٢).
الْمَقْصِدُ الرَّابِعُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(الْإِصْلَاحُ الِاجْتِمَاعِيُّ الْإِنْسَانِيُّ وَالسِّيَاسِيُّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِالْوَحَدَاتِ الثَّمَانِ)
وَحْدَةُ الْأُمَّةِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ - وَحْدَةُ الدِّينِ - وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ - وَحْدَةُ الْأُخُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي التَّعَبُّدِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ - وَحْدَةُ الْقَضَاءِ - وَحْدَّةُ اللُّغَةِ.
جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالْبَشَرُ أَجْنَاسٌ مُتَفَرِّقُونَ، يَتَعَادَوْنَ فِي الْأَنْسَابِ وَالْأَلْوَانِ وَاللُّغَاتِ وَالْأَوْطَانِ وَالْأَدْيَانِ، وَالْمَذَاهِبِ وَالْمَشَارِبِ، وَالشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ، وَالْحُكُومَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ، يُقَاتِلُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مُخَالِفَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرَّوَابِطِ الْبَشَرِيَّةِ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، فَصَاحَ الْإِسْلَامُ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً دَعَاهُمْ بِهَا إِلَى الْوَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَامَّةِ الْجَامِعَةِ وَفَرَضَهَا عَلَيْهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالتَّعَادِي وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وَبَيَانُ هَذَا التَّفْرِيقِ وَمَضَارِّهِ بِالشَّوَاهِدِ التَّارِيخِيَّةِ، وَبَيَانُ أُصُولِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ وَسُنَّةِ
خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي الْجَامِعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، لَا يُمْكِنُ بَسْطُهُمَا إِلَّا بِمُصَنَّفٍ كَبِيرٍ، فَنَكْتَفِي فِي هَذِهِ الْخُلَاصَةِ الِاسْتِطْرَادِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ، بِسَرْدِ الْأُصُولِ الْجَامِعَةِ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ الْإِنْسَانِيِّ الدَّاعِي إِلَى جَعْلِ النَّاسِ مِلَّةً وَاحِدَةً، وَدِينًا وَاحِدًا وَشَرْعًا وَاحِدًا، وَحُكْمًا وَاحِدًا وَلِسَانًا وَاحِدًا، كَمَا أَنَّ جِنْسَهُمْ وَاحِدٌ، وَرَبَّهُمْ وَاحِدٌ.
وَنَبْدَأُ بِالْأَصْلِ الْجَامِعِ فِي هَذَا وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِالْأُصُولِ وَالشَّوَاهِدِ الْمُفَصِّلَةِ لَهُ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ مُخَاطِبًا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٢١: ٩٢).
ثُمَّ بَيَّنَ لَهَا فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) أَنَّهُ خَاطَبَ جَمِيعَ النَّبِيِّينَ بِهَذِهِ الْوَحْدَةِ لِلْأُمَّةِ فَقَالَ: يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (٢٣: ٥١، ٥٢) وَلَكِنْ كَانَ لِكُلِّ نَبِيٍّ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ هُمْ قَوْمُهُ، وَأَمَّا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَأَمَّتُهُ جَمِيعُ النَّاسِ، وَقَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ رُسُلِهِ وَعَدَمَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْإِيمَانُ بِخَاتَمِهِمْ كَالْإِيمَانِ بِأَوَّلِهِمْ وَبِمَنْ بَيْنَهُمَا، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْمُلُوكِ أَوِ الْوُلَاةِ
الْمَقْصِدُ الرَّابِعُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(الْإِصْلَاحُ الِاجْتِمَاعِيُّ الْإِنْسَانِيُّ وَالسِّيَاسِيُّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِالْوَحَدَاتِ الثَّمَانِ)
وَحْدَةُ الْأُمَّةِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ - وَحْدَةُ الدِّينِ - وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ - وَحْدَةُ الْأُخُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي التَّعَبُّدِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ - وَحْدَةُ الْقَضَاءِ - وَحْدَّةُ اللُّغَةِ.
جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالْبَشَرُ أَجْنَاسٌ مُتَفَرِّقُونَ، يَتَعَادَوْنَ فِي الْأَنْسَابِ وَالْأَلْوَانِ وَاللُّغَاتِ وَالْأَوْطَانِ وَالْأَدْيَانِ، وَالْمَذَاهِبِ وَالْمَشَارِبِ، وَالشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ، وَالْحُكُومَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ، يُقَاتِلُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مُخَالِفَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرَّوَابِطِ الْبَشَرِيَّةِ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، فَصَاحَ الْإِسْلَامُ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً دَعَاهُمْ بِهَا إِلَى الْوَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَامَّةِ الْجَامِعَةِ وَفَرَضَهَا عَلَيْهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالتَّعَادِي وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وَبَيَانُ هَذَا التَّفْرِيقِ وَمَضَارِّهِ بِالشَّوَاهِدِ التَّارِيخِيَّةِ، وَبَيَانُ أُصُولِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ وَسُنَّةِ
خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي الْجَامِعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، لَا يُمْكِنُ بَسْطُهُمَا إِلَّا بِمُصَنَّفٍ كَبِيرٍ، فَنَكْتَفِي فِي هَذِهِ الْخُلَاصَةِ الِاسْتِطْرَادِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ، بِسَرْدِ الْأُصُولِ الْجَامِعَةِ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ الْإِنْسَانِيِّ الدَّاعِي إِلَى جَعْلِ النَّاسِ مِلَّةً وَاحِدَةً، وَدِينًا وَاحِدًا وَشَرْعًا وَاحِدًا، وَحُكْمًا وَاحِدًا وَلِسَانًا وَاحِدًا، كَمَا أَنَّ جِنْسَهُمْ وَاحِدٌ، وَرَبَّهُمْ وَاحِدٌ.
وَنَبْدَأُ بِالْأَصْلِ الْجَامِعِ فِي هَذَا وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِالْأُصُولِ وَالشَّوَاهِدِ الْمُفَصِّلَةِ لَهُ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ مُخَاطِبًا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٢١: ٩٢).
ثُمَّ بَيَّنَ لَهَا فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) أَنَّهُ خَاطَبَ جَمِيعَ النَّبِيِّينَ بِهَذِهِ الْوَحْدَةِ لِلْأُمَّةِ فَقَالَ: يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (٢٣: ٥١، ٥٢) وَلَكِنْ كَانَ لِكُلِّ نَبِيٍّ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ هُمْ قَوْمُهُ، وَأَمَّا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَأَمَّتُهُ جَمِيعُ النَّاسِ، وَقَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ رُسُلِهِ وَعَدَمَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْإِيمَانُ بِخَاتَمِهِمْ كَالْإِيمَانِ بِأَوَّلِهِمْ وَبِمَنْ بَيْنَهُمَا، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْمُلُوكِ أَوِ الْوُلَاةِ
210
فِي الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَمَثَلُ اخْتِلَافِ شَرَائِعِهِمْ بِنَسْخِ الْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا لِمَا قَبْلَهُ كَمَثَلِ تَعْدِيلِ الْقَوَانِينِ فِي الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ أَيْضًا إِلَى أَنْ كَمَلَ الدِّينُ.
(الْأَصْلُ الثَّانِي) الْوَحْدَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أَجْنَاسِ الْبَشَرِ وَشُعُوبِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ.
وَشَاهِدُهُ الْعَامُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (٤٩: ١٣) وَقَدْ بَلَّغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ يَوْمَ الْعِيدِ الْأَكْبَرِ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَهَذِهِ الْوَحْدَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ تَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّآلُفِ بِالتَّعَارُفِ، وَإِلَى تَرْكِ التَّعَادِي بِالتَّخَالُفِ.
(الْأَصْلُ الثَّالِثُ) وَحْدَةُ الدِّينِ بِاتِّبَاعِ رَسُولٍ وَاحِدٍ جَاءَ بِأُصُولِ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَكْمَلَ تَشْرِيعَهُ بِمَا يُوَافِقُ جَمِيعَ الْبَشَرِ، وَشَاهِدُهُ الْأَعَمُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (٧: ١٥٨) وَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْفِطْرَةِ وَحُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ وَالْوِجْدَانِ جُعِلَ الدِّينُ اخْتِيَارِيًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (٢: ٢٥٦).
(الْأَصْلُ الرَّابِعُ) وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَاضِعِينَ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الْحُقُوقِ الْمَدَنِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِيَّةِ بِالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمَلِكِ وَالسُّوقَةِ، وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ شَوَاهِدِهِ فِي إِصْلَاحِ التَّشْرِيعِ فِيهِ.
(الْأَصْلُ الْخَامِسُ) الْوَحْدَةُ الدِّينِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الدِّينِ، فِي أُخُوَّتِهِ الرُّوحِيَّةِ وَعِبَادَاتِهِ، وَفِي الِاجْتِمَاعِ لِلِاجْتِمَاعِيِّ مِنْهَا كَالصَّلَاةِ وَمَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَمُلُوكُ الْمُسْلِمِينَ وَأُمَرَاؤُهُمْ وَكِبَارُ عُلَمَائِهِمْ يَخْتَلِطُونَ بِالْفُقَرَاءِ وَالْعَوَّامِ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَسَائِرِ مَوَاطِنِ الْحَجِّ. لَا تَجِدُ شُعُوبَ الْإِفْرِنْجِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ يَرْضَوْنَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ لِلْعَمَلِ بِهَا مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (٤٩: ١٠) وَقَالَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارَبِينَ: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (٩: ١١).
(الْأَصْلُ السَّادِسُ) وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ، بِأَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْبِلَادِ الْخَاضِعَةِ لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ مُتَسَاوِيَةً فِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ، إِلَّا حَقَّ الْإِقَامَةِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَوِ الْحِجَازِ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ لِلْحَرَمَيْنِ وَسِيَاجِهِمَا مِنَ الْجَزِيرَةِ حُكْمَ الْمَعَابِدِ وَالْمَسَاجِدِ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي مَعَابِدِ الْمَلَلِ كُلِّهَا أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِأَهْلِهَا وَلَهَا حُرْمَتُهَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِهَا دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُمْ، الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ.
(الْأَصْلُ السَّابِعُ) وَحْدَةُ الْقَضَاءِ وَاسْتِقْلَالُهُ وَمُسَاوَاةُ النَّاسِ فِيهَا أَمَامَ الشَّرِيعَةِ الْعَادِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ الْأَحْكَامُ الشَّخْصِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُرَاعِي فِيهَا حُرِّيَّةَ الْعَقِيدَةِ وَالْوِجْدَانِ بِنَاءً عَلَى
(الْأَصْلُ الثَّانِي) الْوَحْدَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أَجْنَاسِ الْبَشَرِ وَشُعُوبِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ.
وَشَاهِدُهُ الْعَامُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (٤٩: ١٣) وَقَدْ بَلَّغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ يَوْمَ الْعِيدِ الْأَكْبَرِ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَهَذِهِ الْوَحْدَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ تَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّآلُفِ بِالتَّعَارُفِ، وَإِلَى تَرْكِ التَّعَادِي بِالتَّخَالُفِ.
(الْأَصْلُ الثَّالِثُ) وَحْدَةُ الدِّينِ بِاتِّبَاعِ رَسُولٍ وَاحِدٍ جَاءَ بِأُصُولِ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَكْمَلَ تَشْرِيعَهُ بِمَا يُوَافِقُ جَمِيعَ الْبَشَرِ، وَشَاهِدُهُ الْأَعَمُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (٧: ١٥٨) وَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْفِطْرَةِ وَحُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ وَالْوِجْدَانِ جُعِلَ الدِّينُ اخْتِيَارِيًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (٢: ٢٥٦).
(الْأَصْلُ الرَّابِعُ) وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَاضِعِينَ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الْحُقُوقِ الْمَدَنِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِيَّةِ بِالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمَلِكِ وَالسُّوقَةِ، وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ شَوَاهِدِهِ فِي إِصْلَاحِ التَّشْرِيعِ فِيهِ.
(الْأَصْلُ الْخَامِسُ) الْوَحْدَةُ الدِّينِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الدِّينِ، فِي أُخُوَّتِهِ الرُّوحِيَّةِ وَعِبَادَاتِهِ، وَفِي الِاجْتِمَاعِ لِلِاجْتِمَاعِيِّ مِنْهَا كَالصَّلَاةِ وَمَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَمُلُوكُ الْمُسْلِمِينَ وَأُمَرَاؤُهُمْ وَكِبَارُ عُلَمَائِهِمْ يَخْتَلِطُونَ بِالْفُقَرَاءِ وَالْعَوَّامِ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَسَائِرِ مَوَاطِنِ الْحَجِّ. لَا تَجِدُ شُعُوبَ الْإِفْرِنْجِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ يَرْضَوْنَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ لِلْعَمَلِ بِهَا مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (٤٩: ١٠) وَقَالَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارَبِينَ: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (٩: ١١).
(الْأَصْلُ السَّادِسُ) وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ، بِأَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْبِلَادِ الْخَاضِعَةِ لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ مُتَسَاوِيَةً فِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ، إِلَّا حَقَّ الْإِقَامَةِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَوِ الْحِجَازِ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ لِلْحَرَمَيْنِ وَسِيَاجِهِمَا مِنَ الْجَزِيرَةِ حُكْمَ الْمَعَابِدِ وَالْمَسَاجِدِ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي مَعَابِدِ الْمَلَلِ كُلِّهَا أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِأَهْلِهَا وَلَهَا حُرْمَتُهَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِهَا دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُمْ، الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ.
(الْأَصْلُ السَّابِعُ) وَحْدَةُ الْقَضَاءِ وَاسْتِقْلَالُهُ وَمُسَاوَاةُ النَّاسِ فِيهَا أَمَامَ الشَّرِيعَةِ الْعَادِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ الْأَحْكَامُ الشَّخْصِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُرَاعِي فِيهَا حُرِّيَّةَ الْعَقِيدَةِ وَالْوِجْدَانِ بِنَاءً عَلَى
211
أَسَاسِهِ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ يَسْمَحُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى عُلَمَاءِ مِلَّتِهِمْ وَإِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فَإِنَّنَا نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِعَدْلِ شَرِيعَتِنَا النَّاسِخَةِ لِشَرَائِعِهِمْ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٥: ٤٢) وَقَوْلُهُ بَعْدَ آيَاتٍ: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)
(٥: ٤٨).
(الْأَصْلُ الثَّامِنُ) وَحْدَةُ اللُّغَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ الِاتِّحَادُ وَالْإِخَاءُ بَيْنَ النَّاسِ، وَصَيْرُورَةُ الشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً إِلَّا بِوَحْدَةِ اللُّغَةِ. وَمَازَالَ الْحُكَمَاءُ الْبَاحِثُونَ فِي مَصَالِحِ الْبَشَرِ الْعَامَّةِ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ يَكُونُ لَهُمْ لُغَةٌ وَاحِدَةٌ مُشْتَرِكَةٌ، يَتَعَاوَنُونَ بِهَا عَلَى التَّعَارُفِ وَالتَّآلُفِ وَمَنَاهِجِ التَّعْلِيمِ وَالْآدَابِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَذِهِ الْأُمْنِيَةُ قَدْ حَقَّقَهَا الْإِسْلَامُ بِجَعْلِ لُغَةِ الدِّينِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْحُكْمِ لُغَةً لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْخَاضِعِينَ لِشَرِيعَتِهِ، إِذْ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ مَسُوقِينَ بِاعْتِقَادِهِمْ وَوِجْدَانِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ لُغَةِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لِفَهْمِهِمَا وَالتَّعَبُّدِ بِهِمَا وَالِاتِّحَادِ بِإِخْوَتِهِمْ فِيهِمَا، وَهُمَا مَنَاطُ سِيَادَتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِذَلِكَ كَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ بَيَانَ كَوْنِهِ كِتَابًا عَرَبِيًّا وَحُكْمًا عَرَبِيًّا، وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِتَدَبُّرِهِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ وَالِاتِّعَاظِ وَالتَّأَدُّبِ بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَتَعَلَّمُونَ لُغَةَ الشَّرْعِ الَّذِي يَخْضَعُونَ لِحُكْمِهِ، وَالْحُكُومَةِ الَّتِي يَتْبَعُونَهَا لِمَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْبَشَرِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كُلِّهَا.
وَقَدْ بَيَّنْتُ مِنْ قَبْلُ وُجُوبَ تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَوْنَهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَرَّرَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - فِي رِسَالَتِهِ، وَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، ثُمَّ خُلَفَاءِ الْأُمَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ، إِلَى أَنْ كَثُرَ الْأَعَاجِمُ وَقَلَّ الْعِلْمُ وَغَلَبَ الْجَهْلُ، فَصَارُوا يَكْتَفُونَ مِنْ لُغَةِ الدِّينِ بِمَا فَرَضَهُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ (فَرَاجِعْ ذَلِكَ فِي ص ٢٦٤ وَمَا بَعْدَهَا) ج ٩ ط الْهَيْئَةِ.
وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْكِرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّفَرُّقِ، الَّذِي يُنَافِي وَحْدَتَهُمْ وَجَعْلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ كَمَا شَبَّهَهُمْ بِقَوْلِهِ ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى لَهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَانَ يَخُصُّ بِمَقْتِهِ وَإِنْكَارِهِ التَّفَرُّقَ فِي الْجِنْسِ النِّسْبِيِّ أَوِ اللُّغَةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَشْهُورٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَجْمَعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ الشَّاهِدُ الْآتِي.
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ:
(٥: ٤٨).
(الْأَصْلُ الثَّامِنُ) وَحْدَةُ اللُّغَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ الِاتِّحَادُ وَالْإِخَاءُ بَيْنَ النَّاسِ، وَصَيْرُورَةُ الشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً إِلَّا بِوَحْدَةِ اللُّغَةِ. وَمَازَالَ الْحُكَمَاءُ الْبَاحِثُونَ فِي مَصَالِحِ الْبَشَرِ الْعَامَّةِ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ يَكُونُ لَهُمْ لُغَةٌ وَاحِدَةٌ مُشْتَرِكَةٌ، يَتَعَاوَنُونَ بِهَا عَلَى التَّعَارُفِ وَالتَّآلُفِ وَمَنَاهِجِ التَّعْلِيمِ وَالْآدَابِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَذِهِ الْأُمْنِيَةُ قَدْ حَقَّقَهَا الْإِسْلَامُ بِجَعْلِ لُغَةِ الدِّينِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْحُكْمِ لُغَةً لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْخَاضِعِينَ لِشَرِيعَتِهِ، إِذْ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ مَسُوقِينَ بِاعْتِقَادِهِمْ وَوِجْدَانِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ لُغَةِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لِفَهْمِهِمَا وَالتَّعَبُّدِ بِهِمَا وَالِاتِّحَادِ بِإِخْوَتِهِمْ فِيهِمَا، وَهُمَا مَنَاطُ سِيَادَتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِذَلِكَ كَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ بَيَانَ كَوْنِهِ كِتَابًا عَرَبِيًّا وَحُكْمًا عَرَبِيًّا، وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِتَدَبُّرِهِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ وَالِاتِّعَاظِ وَالتَّأَدُّبِ بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَتَعَلَّمُونَ لُغَةَ الشَّرْعِ الَّذِي يَخْضَعُونَ لِحُكْمِهِ، وَالْحُكُومَةِ الَّتِي يَتْبَعُونَهَا لِمَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْبَشَرِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كُلِّهَا.
وَقَدْ بَيَّنْتُ مِنْ قَبْلُ وُجُوبَ تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَوْنَهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَرَّرَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - فِي رِسَالَتِهِ، وَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، ثُمَّ خُلَفَاءِ الْأُمَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ، إِلَى أَنْ كَثُرَ الْأَعَاجِمُ وَقَلَّ الْعِلْمُ وَغَلَبَ الْجَهْلُ، فَصَارُوا يَكْتَفُونَ مِنْ لُغَةِ الدِّينِ بِمَا فَرَضَهُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ (فَرَاجِعْ ذَلِكَ فِي ص ٢٦٤ وَمَا بَعْدَهَا) ج ٩ ط الْهَيْئَةِ.
وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْكِرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّفَرُّقِ، الَّذِي يُنَافِي وَحْدَتَهُمْ وَجَعْلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ كَمَا شَبَّهَهُمْ بِقَوْلِهِ ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى لَهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَانَ يَخُصُّ بِمَقْتِهِ وَإِنْكَارِهِ التَّفَرُّقَ فِي الْجِنْسِ النِّسْبِيِّ أَوِ اللُّغَةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَشْهُورٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَجْمَعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ الشَّاهِدُ الْآتِي.
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ:
212
جَاءَ قَيْسُ بْنُ مُطَاطِيَّةَ إِلَى حَلْقَةٍ فِيهَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَصُهَيْبٌ الرُّومِيُّ، وَبِلَالٌ
الْحَبَشِيُّ، فَقَالَ: هَذَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَدْ قَامُوا بِنُصْرَةِ هَذَا الرَّجُلِ فَمَا بَالُ هَذَا (يَعْنِي هَذَا الْمُنَافِقُ بِالرَّجُلِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ يَنْصُرُونَهُ لِأَنَّهُمْ مِنْ قَوْمِهِ، فَمَا الَّذِي يَدْعُو الْفَارِسِيَّ وَالرُّومِيَّ وَالْحَبَشِيَّ إِلَى نَصْرِهِ؟).
فَقَامَ إِلَيْهِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ (أَيْ بِمَا عَلَى لَبَبِهِ وَنَحْرِهِ مِنَ الثِّيَابِ) ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَقَالَتِهِ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُغْضَبًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ ثُمَّ نُودِيَ: إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ، وَالْأَبَ وَاحِدٌ، وَإِنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ، وَلَيْسَتِ الْعَرَبِيَّةُ بِأَحَدِكُمْ مِنْ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَإِنَّمَا هِيَ اللِّسَانُ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ)) فَقَامَ مُعَاذٌ، فَقَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي بِهَذَا الْمُنَافِقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((دَعْهُ إِلَى النَّارِ)) فَكَانَ قَيْسٌ مِمَّنِ ارْتَدَّ فِي الرِّدَّةِ فَقُتِلَ.
أَرَأَيْتَ لَوْ ظَلَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَكَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْحُرُوبِ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاللُّغَةِ كُلُّ مَا وَقَعَ وَأَدَّى بِهِمْ إِلَى هَذَا الضَّعْفِ الْعَامِّ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ حَافَظُوا عَلَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَكَانَتْ هَذِهِ الْفِئَةُ مِنْ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ تَجِدُ سَبِيلًا لِاجْتِثَاثِ هَذِهِ الدَّوْحَةِ الْبَاسِقَةِ مِنْ جَنَّةِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَامْتِلَاخِ هَذَا السَّيْفِ الصَّارِمِ مِنْ غِمْدِهِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كِتَابِ اللهِ الْمَعْصُومِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْمُصْلِحِ لِشُعُوبِ الْبَشَرِ وَهِيَ بِالْعَرَبِيَّةِ، لِأَجْلِ تَكْوِينِ هَذَا الشَّعْبِ وَمَا أُدْغِمَ وَيُدْغَمُ فِيهِ مِنَ الشُّعُوبِ تَكْوِينًا جَدِيدًا، بِرَابِطَةِ لُغَةٍ تُخْلَقُ خَلْقًا جَدِيدًا، لِأَجْلِ أَنْ يَلْحَقَ بِالشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ دَعِيًّا، كَمَا يُلْصَقُ الْوَلَدُ بِغَيْرِ أَبِيهِ إِلْصَاقًا فَرِيًّا، فَيُقَالُ: إِنَّ رَجُلًا عَظِيمًا جَدَّدَ أَوْ أَوْجَدَ شَعْبًا وَلُغَةً وَدَوْلَةً وَدِينًا؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا يَبْغُونَ.
لَقَدْ كَانَ هَذَا الشَّعْبُ (التُّرْكُ) قَائِمًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى رِيَاسَةٍ رُوحِيَّةٍ، يَدِينُ لَهَا أَوْ بِهَا زُهَاءَ أَرْبَعِمِائَةِ مِلْيُونٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَوْ أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مَا يُحْسِنُ بِهِ الْقِيَامَةَ، وَمِنَ الْحَزْمِ وَالْعَزْمِ مَا يُعَزِّزُ بِهِ الْقِيَادَةَ، وَمِنَ النِّظَامِ مَا يُحْكِمُ بِهِ السِّيَاسَةَ، لَأَمْكَنُهُ أَنْ يَسُوسَ بِهَا الشَّرْقَ ثُمَّ يَسُودَ بِنُفُوذِهَا الْغَرْبَ، كَمَا كَانَ يَقْصِدُ نَابِلْيُونُ الْكَبِيرُ لَوْ تَمَّ لَهُ الْبَقَاءُ فِي مِصْرَ.
يَعْتَرِضُ بَعْضُ أُولِي النَّظَرِ الْقَصِيرِ وَالْبَصَرِ الْكَلِيلِ عَلَى تَوْحِيدِ اللُّغَةِ فِي الشُّعُوبِ الْمُخْتَلِفَةِ
الْحَبَشِيُّ، فَقَالَ: هَذَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَدْ قَامُوا بِنُصْرَةِ هَذَا الرَّجُلِ فَمَا بَالُ هَذَا (يَعْنِي هَذَا الْمُنَافِقُ بِالرَّجُلِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ يَنْصُرُونَهُ لِأَنَّهُمْ مِنْ قَوْمِهِ، فَمَا الَّذِي يَدْعُو الْفَارِسِيَّ وَالرُّومِيَّ وَالْحَبَشِيَّ إِلَى نَصْرِهِ؟).
فَقَامَ إِلَيْهِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ (أَيْ بِمَا عَلَى لَبَبِهِ وَنَحْرِهِ مِنَ الثِّيَابِ) ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَقَالَتِهِ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُغْضَبًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ ثُمَّ نُودِيَ: إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ، وَالْأَبَ وَاحِدٌ، وَإِنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ، وَلَيْسَتِ الْعَرَبِيَّةُ بِأَحَدِكُمْ مِنْ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَإِنَّمَا هِيَ اللِّسَانُ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ)) فَقَامَ مُعَاذٌ، فَقَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي بِهَذَا الْمُنَافِقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((دَعْهُ إِلَى النَّارِ)) فَكَانَ قَيْسٌ مِمَّنِ ارْتَدَّ فِي الرِّدَّةِ فَقُتِلَ.
أَرَأَيْتَ لَوْ ظَلَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَكَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْحُرُوبِ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاللُّغَةِ كُلُّ مَا وَقَعَ وَأَدَّى بِهِمْ إِلَى هَذَا الضَّعْفِ الْعَامِّ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ حَافَظُوا عَلَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَكَانَتْ هَذِهِ الْفِئَةُ مِنْ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ تَجِدُ سَبِيلًا لِاجْتِثَاثِ هَذِهِ الدَّوْحَةِ الْبَاسِقَةِ مِنْ جَنَّةِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَامْتِلَاخِ هَذَا السَّيْفِ الصَّارِمِ مِنْ غِمْدِهِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كِتَابِ اللهِ الْمَعْصُومِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْمُصْلِحِ لِشُعُوبِ الْبَشَرِ وَهِيَ بِالْعَرَبِيَّةِ، لِأَجْلِ تَكْوِينِ هَذَا الشَّعْبِ وَمَا أُدْغِمَ وَيُدْغَمُ فِيهِ مِنَ الشُّعُوبِ تَكْوِينًا جَدِيدًا، بِرَابِطَةِ لُغَةٍ تُخْلَقُ خَلْقًا جَدِيدًا، لِأَجْلِ أَنْ يَلْحَقَ بِالشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ دَعِيًّا، كَمَا يُلْصَقُ الْوَلَدُ بِغَيْرِ أَبِيهِ إِلْصَاقًا فَرِيًّا، فَيُقَالُ: إِنَّ رَجُلًا عَظِيمًا جَدَّدَ أَوْ أَوْجَدَ شَعْبًا وَلُغَةً وَدَوْلَةً وَدِينًا؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا يَبْغُونَ.
لَقَدْ كَانَ هَذَا الشَّعْبُ (التُّرْكُ) قَائِمًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى رِيَاسَةٍ رُوحِيَّةٍ، يَدِينُ لَهَا أَوْ بِهَا زُهَاءَ أَرْبَعِمِائَةِ مِلْيُونٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَوْ أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مَا يُحْسِنُ بِهِ الْقِيَامَةَ، وَمِنَ الْحَزْمِ وَالْعَزْمِ مَا يُعَزِّزُ بِهِ الْقِيَادَةَ، وَمِنَ النِّظَامِ مَا يُحْكِمُ بِهِ السِّيَاسَةَ، لَأَمْكَنُهُ أَنْ يَسُوسَ بِهَا الشَّرْقَ ثُمَّ يَسُودَ بِنُفُوذِهَا الْغَرْبَ، كَمَا كَانَ يَقْصِدُ نَابِلْيُونُ الْكَبِيرُ لَوْ تَمَّ لَهُ الْبَقَاءُ فِي مِصْرَ.
يَعْتَرِضُ بَعْضُ أُولِي النَّظَرِ الْقَصِيرِ وَالْبَصَرِ الْكَلِيلِ عَلَى تَوْحِيدِ اللُّغَةِ فِي الشُّعُوبِ الْمُخْتَلِفَةِ
213
بِأَنَّهُ خِلَافُ طَبِيعِيَّةِ الْبَشَرِ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ تَوْحِيدَ الدِّينِ أَبَعْدُ مِنْ تَوْحِيدِ اللُّغَةِ عَنْ طَبِيعَةِ
الْبَشَرِ إِنْ أُرِيدَ بِالْبَشَرِ جَمِيعُ أَفْرَادِهِمْ، وَأَنَّ الْحُكَمَاءَ، مَا زَالُوا يَسْعَوْنَ لِجَمْعِ الْبَشَرِ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ مُشْتَرَكَةٍ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ تَرَقِّيَ بَعْضِ اللُّغَاتِ بِتَرَقِّي أَهْلِهَا فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْقُوَّةِ يَسْتَحِيلُ مَعَهُ أَنْ يَرْغَبُوا عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَلَمْ يَسْعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِجَمْعِهِمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي شَرَعَ تَوْحِيدَ الدِّينِ مَعَ شَرْعِهِ وَلُغَتِهِ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، قَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ تَأْبَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً تَدِينُ بَدِينٍ وَاحِدٍ (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (١١: ١١٨، ١١٩) وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ لِيَقِلَّ الشَّقَاءُ الَّذِي يُثِيرُهُ الْخِلَافُ فِيهِمْ - هَذَا الْخِلَافُ الَّذِي جَعَلَ أَعْلَمَ شُعُوبِ الْأَرْضِ وَأَرْقَاهُمْ فِي الْعُمْرَانِ يَبْذُلُونَ فِي هَذَا الْعَهْدِ أَكْثَرَ مَا تَسْتَغِلُّهُ شُعُوبُهُمْ مِنْ ثَرْوَةِ الْعَالَمِ فِي سَبِيلِ الْحُرُوبِ الَّتِي تُنْذِرُ عُمْرَانَهُمْ بِالْخَرَابِ وَالدَّمَارِ.
دَعَا الْإِسْلَامُ الْبَشَرَ كُلَّهُمْ إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ اللُّغَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْأُمَمِ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ فِيهِ أَفْوَاجًا، حَتَّى امْتَدَّ فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ مَا بَيْنَ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ إِلَى الْهِنْدِ، وَلَوْلَا مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الِابْتِدَاعِ، وَعَلَى حُكُومَاتِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ، وَعَلَى شُعُوبِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْفَسَادِ، وَالتَّفَرُّقِ بِالِاخْتِلَافِ، لَدَخَلَ فِيهِ أَكْثَرُ الْبَشَرِ، وَلَصَارَتْ لُغَتُهُ لُغَةً لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي حَظِيرَتِهِ مِنَ الْأُمَمِ، فَمِنْ غَرَائِزِهِمُ اخْتِيَارُ الْأَفْضَلِ إِذَا عَرَفُوهُ.
قَالَ أَحَدُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ فِي الْأَسِتَانَةِ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمْ أَحَدُ شُرَفَاءِ مَكَّةَ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُقِيمَ تِمْثَالًا مِنَ الذَّهَبِ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِي مَيْدَانِ كَذَا مِنْ عَاصِمَتِنَا (بَرْلِينْ) قِيلَ لَهُ: لِمَاذَا؟ قَالَ: لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَوَّلَ نِظَامَ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ عَنْ قَاعِدَتِهِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ إِلَى عَصَبِيَّةِ الْغَلَبِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَمَّ الْإِسْلَامُ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَلَكُنَّا نَحْنُ الْأَلَمَانَ وَسَائِرَ شُعُوبِ أُورُبَّةَ عَرَبًا وَمُسْلِمِينَ.
فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي تُوَحِّدُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ، وَتُؤَلِّفُ بَيْنَهَا بِمَا يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ عَلَيْهَا بِالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ مِنَ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ الَّذِي نَبَعَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمِّيِّ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ فَفَاقَ بِهَا جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، أَمِ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ بِوَحْيِ اللهِ تَعَالَى أَفَاضَهُ عَلَيْهِ؟ !.
الْبَشَرِ إِنْ أُرِيدَ بِالْبَشَرِ جَمِيعُ أَفْرَادِهِمْ، وَأَنَّ الْحُكَمَاءَ، مَا زَالُوا يَسْعَوْنَ لِجَمْعِ الْبَشَرِ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ مُشْتَرَكَةٍ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ تَرَقِّيَ بَعْضِ اللُّغَاتِ بِتَرَقِّي أَهْلِهَا فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْقُوَّةِ يَسْتَحِيلُ مَعَهُ أَنْ يَرْغَبُوا عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَلَمْ يَسْعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِجَمْعِهِمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي شَرَعَ تَوْحِيدَ الدِّينِ مَعَ شَرْعِهِ وَلُغَتِهِ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، قَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ تَأْبَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً تَدِينُ بَدِينٍ وَاحِدٍ (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (١١: ١١٨، ١١٩) وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ لِيَقِلَّ الشَّقَاءُ الَّذِي يُثِيرُهُ الْخِلَافُ فِيهِمْ - هَذَا الْخِلَافُ الَّذِي جَعَلَ أَعْلَمَ شُعُوبِ الْأَرْضِ وَأَرْقَاهُمْ فِي الْعُمْرَانِ يَبْذُلُونَ فِي هَذَا الْعَهْدِ أَكْثَرَ مَا تَسْتَغِلُّهُ شُعُوبُهُمْ مِنْ ثَرْوَةِ الْعَالَمِ فِي سَبِيلِ الْحُرُوبِ الَّتِي تُنْذِرُ عُمْرَانَهُمْ بِالْخَرَابِ وَالدَّمَارِ.
دَعَا الْإِسْلَامُ الْبَشَرَ كُلَّهُمْ إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ اللُّغَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْأُمَمِ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ فِيهِ أَفْوَاجًا، حَتَّى امْتَدَّ فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ مَا بَيْنَ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ إِلَى الْهِنْدِ، وَلَوْلَا مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الِابْتِدَاعِ، وَعَلَى حُكُومَاتِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ، وَعَلَى شُعُوبِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْفَسَادِ، وَالتَّفَرُّقِ بِالِاخْتِلَافِ، لَدَخَلَ فِيهِ أَكْثَرُ الْبَشَرِ، وَلَصَارَتْ لُغَتُهُ لُغَةً لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي حَظِيرَتِهِ مِنَ الْأُمَمِ، فَمِنْ غَرَائِزِهِمُ اخْتِيَارُ الْأَفْضَلِ إِذَا عَرَفُوهُ.
قَالَ أَحَدُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ فِي الْأَسِتَانَةِ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمْ أَحَدُ شُرَفَاءِ مَكَّةَ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُقِيمَ تِمْثَالًا مِنَ الذَّهَبِ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِي مَيْدَانِ كَذَا مِنْ عَاصِمَتِنَا (بَرْلِينْ) قِيلَ لَهُ: لِمَاذَا؟ قَالَ: لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَوَّلَ نِظَامَ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ عَنْ قَاعِدَتِهِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ إِلَى عَصَبِيَّةِ الْغَلَبِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَمَّ الْإِسْلَامُ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَلَكُنَّا نَحْنُ الْأَلَمَانَ وَسَائِرَ شُعُوبِ أُورُبَّةَ عَرَبًا وَمُسْلِمِينَ.
فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي تُوَحِّدُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ، وَتُؤَلِّفُ بَيْنَهَا بِمَا يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ عَلَيْهَا بِالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ مِنَ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ الَّذِي نَبَعَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمِّيِّ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ فَفَاقَ بِهَا جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، أَمِ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ بِوَحْيِ اللهِ تَعَالَى أَفَاضَهُ عَلَيْهِ؟ !.
214
الْمَقْصِدُ الْخَامِسُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(تَقْرِيرُ مَزَايَا الْإِسْلَامِ الْعَامَّةِ فِي التَّكَالِيفِ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ)
(وَنُلَخِّصُ أَهَمَّهَا بِالْإِجْمَالِ فِي عَشْرِ جُمَلٍ)
(١) كَوْنُهُ وَسَطًا جَامِعًا لِحُقُوقِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (٢: ١٤٣) الْآيَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَسَطٌ بَيْنَ الَّذِينَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْحُظُوظُ الْجَسَدِيَّةُ وَالْمَنَافِعُ الْمَادِّيَّةُ كَالْيَهُودِ، وَالَّذِينَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّعَالِيمُ الرُّوحِيَّةُ، وَتَعْذِيبُ الْجَسَدِ وَإِذْلَالُ النَّفْسِ وَالزُّهْدُ كَالْهِنْدُوسِ وَالنَّصَارَى، وَإِنْ خَالَفَ هَذِهِ التَّعَالِيمَ أَكْثَرُهُمْ.
(٢) كَوْنُ غَايَتِهِ الْوُصُولَ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَمَعْرِفَةِ اللهِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، لَا بِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ وَالِاتِّكَالِ، وَلَا بِالشَّفَاعَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
(٣) كَوْنُ الْغَرَضِ مِنْهُ التَّعَارُفَ وَالتَّأْلِيفَ بَيْنَ الْبَشَرِ، لَا زِيَادَةَ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَتَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُهُ فِي كَوْنِهِ عَامًّا مُكَمِّلًا وَمُتَمِّمًا لِدِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الرُّسُلِ مِنَ الْمَقْصِدِ الثَّانِي.
وَإِنَّمَا تَفْصِيلُ أُصُولِهِ فِي تِلْكَ الْوَحَدَاتِ الثَّمَانِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي الْمَقْصِدِ الرَّابِعِ.
(٤) كَوْنُهُ يُسْرًا لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا عُسْرَ وَلَا إِرْهَاقَ وَلَا إِعْنَاتَ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (٢: ٢٨٦) وَقَالَ بَلَغَتْ حِكْمَتُهُ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) (٢: ٢٢٠) وَقَالَ عَظُمَتْ رَأْفَتُهُ: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢: ١٨٥) وَقَالَ جَلَّتْ مِنَّتُهُ: (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢٢: ٧٨) وَقَالَ عَمَّتْ رَحْمَتُهُ: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (٥: ٦).
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ، أَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَدَاؤُهُ وَيُحْرِجُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ إِلَى بَدَلٍ أَوْ مُطْلَقًا، كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَالَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ وَمِثْلُهُ الشَّيْخُ الْهَرِمُ - الْأَوَّلُ يَسْقُطُ عَنْهُ الصِّيَامُ وَيَقْضِيهِ كَالْمُسَافِرِ، وَالثَّانِي لَا يَقْضِي
بَلْ يُكَفِّرُ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ إِذَا قَدَرَ. وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَيُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُهُ أَوِ النَّهْيُ عَنْهُ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الْفَسَادِ فَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الرِّبَا وَآيَاتِ الصِّيَامِ، وَآيَةِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ يُسْرِ الْإِسْلَامِ الْعَامِّ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٥: ١٠١)
(تَقْرِيرُ مَزَايَا الْإِسْلَامِ الْعَامَّةِ فِي التَّكَالِيفِ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ)
(وَنُلَخِّصُ أَهَمَّهَا بِالْإِجْمَالِ فِي عَشْرِ جُمَلٍ)
(١) كَوْنُهُ وَسَطًا جَامِعًا لِحُقُوقِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (٢: ١٤٣) الْآيَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَسَطٌ بَيْنَ الَّذِينَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْحُظُوظُ الْجَسَدِيَّةُ وَالْمَنَافِعُ الْمَادِّيَّةُ كَالْيَهُودِ، وَالَّذِينَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّعَالِيمُ الرُّوحِيَّةُ، وَتَعْذِيبُ الْجَسَدِ وَإِذْلَالُ النَّفْسِ وَالزُّهْدُ كَالْهِنْدُوسِ وَالنَّصَارَى، وَإِنْ خَالَفَ هَذِهِ التَّعَالِيمَ أَكْثَرُهُمْ.
(٢) كَوْنُ غَايَتِهِ الْوُصُولَ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَمَعْرِفَةِ اللهِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، لَا بِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ وَالِاتِّكَالِ، وَلَا بِالشَّفَاعَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
(٣) كَوْنُ الْغَرَضِ مِنْهُ التَّعَارُفَ وَالتَّأْلِيفَ بَيْنَ الْبَشَرِ، لَا زِيَادَةَ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَتَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُهُ فِي كَوْنِهِ عَامًّا مُكَمِّلًا وَمُتَمِّمًا لِدِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الرُّسُلِ مِنَ الْمَقْصِدِ الثَّانِي.
وَإِنَّمَا تَفْصِيلُ أُصُولِهِ فِي تِلْكَ الْوَحَدَاتِ الثَّمَانِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي الْمَقْصِدِ الرَّابِعِ.
(٤) كَوْنُهُ يُسْرًا لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا عُسْرَ وَلَا إِرْهَاقَ وَلَا إِعْنَاتَ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (٢: ٢٨٦) وَقَالَ بَلَغَتْ حِكْمَتُهُ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) (٢: ٢٢٠) وَقَالَ عَظُمَتْ رَأْفَتُهُ: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢: ١٨٥) وَقَالَ جَلَّتْ مِنَّتُهُ: (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢٢: ٧٨) وَقَالَ عَمَّتْ رَحْمَتُهُ: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (٥: ٦).
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ، أَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَدَاؤُهُ وَيُحْرِجُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ إِلَى بَدَلٍ أَوْ مُطْلَقًا، كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَالَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ وَمِثْلُهُ الشَّيْخُ الْهَرِمُ - الْأَوَّلُ يَسْقُطُ عَنْهُ الصِّيَامُ وَيَقْضِيهِ كَالْمُسَافِرِ، وَالثَّانِي لَا يَقْضِي
بَلْ يُكَفِّرُ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ إِذَا قَدَرَ. وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَيُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُهُ أَوِ النَّهْيُ عَنْهُ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الْفَسَادِ فَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الرِّبَا وَآيَاتِ الصِّيَامِ، وَآيَةِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ يُسْرِ الْإِسْلَامِ الْعَامِّ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٥: ١٠١)
215
مِنَ الْجُزْءِ السَّابِعِ وَجُمِعَ فِي رِسَالَةٍ خَاصَّةٍ.
(٥) مَنْعُ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَإِبْطَالُ جَعْلِهِ تَعْذِيبًا لِلنَّفْسِ، بِإِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ بِدُونِ إِسْرَافٍ وَلَا كِبْرِيَاءَ، وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ وَفِي تَفْسِيرِ: (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٧: ٣١ و٣٢) وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) وَهُوَ فِي (٤: ١٧١) وَ (٥: ٧٧) وَفِي هَذَا النَّهْيِ اعْتِبَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالِانْتِهَاءِ عَنِ الْغُلُوِّ بِأَنَّ دِينَهُمْ دِينُ الرَّحْمَةِ وَالْيُسْرِ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْغُلُوِّ فِي الْعِبَادَةِ وَعَنْ تَرْكِ الطَّيِّبَاتِ وَعَنِ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالْخِصَاءِ مُبَيِّنَةٌ لِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَهِيَ مِصْدَاقُ تَسْمِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ.
(٦) قِلَّةُ تَكَالِيفِهِ وَسُهُولَةُ فَهْمِهَا، وَقَدْ كَانَ الْأَعْرَابِيُّ يَجِيءُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْبَادِيَةِ فَيُسْلِمُ، فَيُعْلِمُهُ مَا أَوْجَبَ اللهُ وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَيُعَاهِدُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَيَقُولُ: ((أَفْلَحَ الْأَعْرَابِيُّ إِنْ صَدَقَ)) وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ أَسْبَابِ قَبُولِ النَّاسِ لَهُ. وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ أَكْثَرُوا التَّكَالِيفَ بِآرَائِهِمُ الِاجْتِهَادِيَّةِ حَتَّى صَارَ الْعِلْمُ بِهَا مُتَعَسِّرًا، وَالْعَمَلُ بِهَا مُتَعَذِّرًا.
(٧) انْقِسَامُ التَّكْلِيفِ إِلَى عَزَائِمَ وَرُخَصٍ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرَجِّحُ جَانِبَ الرُّخَصِ، وَابْنُ عُمَرَ يُرَجِّحُ الْعَزَائِمَ. وَالنَّاسُ دَرَجَاتٌ فِي التَّقْصِيرِ وَالتَّشْمِيرِ
وَالِاعْتِدَالِ، فَيُوَافِقُ الْبَدَوِيَّ السَّاذَجَ وَالْفَيْلَسُوفَ الْحَكِيمَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الطَّبَقَاتِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٥: ٣٢).
(٨) نُصُوصُ الْكِتَابِ وَهَدْيُ السُّنَّةِ مُرَاعًى فِيهِمَا دَرَجَاتُ الْبَشَرِ فِي الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَضَعْفِهَا، فَالْقَطْعِيُّ مِنْهَا هُوَ الْعَامُّ، وَغَيْرُ الْقَطْعِيِّ تَتَفَاوَتُ فِيهِ الْأَفْهَامُ، فَيَأْخُذُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقِرُّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِ عَلَى اجْتِهَادِهِ، كَمَا فَعَلَ عِنْدَمَا نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا دَلَالَةً ظَنِّيَّةً فَتَرَكَهُمَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَأَقَرَّ كُلًّا عَلَى اجْتِهَادِهِ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَتَا الْمَائِدَةِ بِالتَّحْرِيمِ الْقَطْعِيِّ. قَالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (٢٩: ٤٣).
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرَائِضَ الدِّينِيَّةَ الْعَامَّةَ فِيهِ وَالْمُحَرَّمَاتِ الدِّينِيَّةَ الْعَامَّةَ لَا يَثْبُتَانِ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ التَّحْرِيمُ فَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ
(٥) مَنْعُ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَإِبْطَالُ جَعْلِهِ تَعْذِيبًا لِلنَّفْسِ، بِإِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ بِدُونِ إِسْرَافٍ وَلَا كِبْرِيَاءَ، وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ وَفِي تَفْسِيرِ: (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٧: ٣١ و٣٢) وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) وَهُوَ فِي (٤: ١٧١) وَ (٥: ٧٧) وَفِي هَذَا النَّهْيِ اعْتِبَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالِانْتِهَاءِ عَنِ الْغُلُوِّ بِأَنَّ دِينَهُمْ دِينُ الرَّحْمَةِ وَالْيُسْرِ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْغُلُوِّ فِي الْعِبَادَةِ وَعَنْ تَرْكِ الطَّيِّبَاتِ وَعَنِ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالْخِصَاءِ مُبَيِّنَةٌ لِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَهِيَ مِصْدَاقُ تَسْمِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ.
(٦) قِلَّةُ تَكَالِيفِهِ وَسُهُولَةُ فَهْمِهَا، وَقَدْ كَانَ الْأَعْرَابِيُّ يَجِيءُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْبَادِيَةِ فَيُسْلِمُ، فَيُعْلِمُهُ مَا أَوْجَبَ اللهُ وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَيُعَاهِدُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَيَقُولُ: ((أَفْلَحَ الْأَعْرَابِيُّ إِنْ صَدَقَ)) وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ أَسْبَابِ قَبُولِ النَّاسِ لَهُ. وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ أَكْثَرُوا التَّكَالِيفَ بِآرَائِهِمُ الِاجْتِهَادِيَّةِ حَتَّى صَارَ الْعِلْمُ بِهَا مُتَعَسِّرًا، وَالْعَمَلُ بِهَا مُتَعَذِّرًا.
(٧) انْقِسَامُ التَّكْلِيفِ إِلَى عَزَائِمَ وَرُخَصٍ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرَجِّحُ جَانِبَ الرُّخَصِ، وَابْنُ عُمَرَ يُرَجِّحُ الْعَزَائِمَ. وَالنَّاسُ دَرَجَاتٌ فِي التَّقْصِيرِ وَالتَّشْمِيرِ
وَالِاعْتِدَالِ، فَيُوَافِقُ الْبَدَوِيَّ السَّاذَجَ وَالْفَيْلَسُوفَ الْحَكِيمَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الطَّبَقَاتِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٥: ٣٢).
(٨) نُصُوصُ الْكِتَابِ وَهَدْيُ السُّنَّةِ مُرَاعًى فِيهِمَا دَرَجَاتُ الْبَشَرِ فِي الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَضَعْفِهَا، فَالْقَطْعِيُّ مِنْهَا هُوَ الْعَامُّ، وَغَيْرُ الْقَطْعِيِّ تَتَفَاوَتُ فِيهِ الْأَفْهَامُ، فَيَأْخُذُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقِرُّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِ عَلَى اجْتِهَادِهِ، كَمَا فَعَلَ عِنْدَمَا نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا دَلَالَةً ظَنِّيَّةً فَتَرَكَهُمَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَأَقَرَّ كُلًّا عَلَى اجْتِهَادِهِ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَتَا الْمَائِدَةِ بِالتَّحْرِيمِ الْقَطْعِيِّ. قَالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (٢٩: ٤٣).
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرَائِضَ الدِّينِيَّةَ الْعَامَّةَ فِيهِ وَالْمُحَرَّمَاتِ الدِّينِيَّةَ الْعَامَّةَ لَا يَثْبُتَانِ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ التَّحْرِيمُ فَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ
216
أَيْضًا، وَأَمَّا الْآيَاتُ الظَّنِّيَّةُ الدَّلَالَةِ، وَالْأَحَادِيثُ الْأُحَادِيَّةُ الظَّنِّيَّةُ الرِّوَايَةِ أَوِ الدَّلَالَةِ، فَهِيَ مَوْكُولَةٌ إِلَى اجْتِهَادِ مَنْ يَثْبُتُ عِنْدَهُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الشَّخْصِيَّةِ، وَإِلَى اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ السِّيَاسِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ.
(٩) مُعَامَلَةُ النَّاسِ بِظَوَاهِرِهِمْ وَجَعْلُ الْبَوَاطِنِ مَوْكُولَةً إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُكَّامِ وَلَا الرُّؤَسَاءِ الرَّسْمِيِّينَ وَلَا لِخَلِيفَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَاقِبَ أَحَدًا وَلَا أَنْ يُحَاسِبَهُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ أَوْ يُضْمِرُ فِي قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا الْعُقُوبَاتُ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ الْعَمَلِيَّةِ لِلْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ: بَرَاءَةٌ ((التَّوْبَةِ)).
(١٠) مَدَارُ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا عَلَى اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الظَّاهِرِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا رَأْيٌ شَخْصِيٌّ وَلَا رِيَاسَةٌ، وَمَدَارُهَا فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى وَصِحَّةِ النِّيَّةِ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي الْأَمْرَيْنِ كَثِيرَةٌ.
الْمَقْصِدُ السَّادِسُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ بَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الدَّوْلِيِّ
(بَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الدَّوْلِيِّ: نَوْعِهِ وَأَسَاسِهِ وَأُصُولِهِ الْعَامَّةِ)
الْإِسْلَامُ دِينُ هِدَايَةٍ وَسِيَادَةٍ وَسِيَاسَةٍ وَحُكْمٍ؛ لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ شُئُونِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَمَصَالِحِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى السِّيَادَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِحِمَايَةِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَفِيهِ أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ.
(الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ الْأُولَى لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ)
الْحُكْمُ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ، وَشَكْلُهُ شُورَى، وَرَئِيسُهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَوِ (الْخَلِيفَةُ) مُنَفِّذٌ لِشَرْعِهِ، وَالْأُمَّةُ هِيَ الَّتِي تَمْلِكُ نَصْبَهُ وَعَزْلَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (٤٢: ٣٨) وَقَالَ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (٣: ١٥٩) وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنْ سِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ مِمَّا لَا نَصَّ فِيهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِهَا حِكْمَةَ تَرْكِ الشُّورَى لِاجْتِهَادِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (٤: ١٥٩) وَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالرَّأْيِ الْحَصِيفِ فِي مَصَالِحِهَا، الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ وَتَتْبَعُهُمْ فِيمَا يُقِرُّونَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْآيَةِ مِنْ سُورَتِهَا: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٤: ٨٣) فَأُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الرَّسُولِ، وَكَانَ
(٩) مُعَامَلَةُ النَّاسِ بِظَوَاهِرِهِمْ وَجَعْلُ الْبَوَاطِنِ مَوْكُولَةً إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُكَّامِ وَلَا الرُّؤَسَاءِ الرَّسْمِيِّينَ وَلَا لِخَلِيفَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَاقِبَ أَحَدًا وَلَا أَنْ يُحَاسِبَهُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ أَوْ يُضْمِرُ فِي قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا الْعُقُوبَاتُ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ الْعَمَلِيَّةِ لِلْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ: بَرَاءَةٌ ((التَّوْبَةِ)).
(١٠) مَدَارُ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا عَلَى اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الظَّاهِرِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا رَأْيٌ شَخْصِيٌّ وَلَا رِيَاسَةٌ، وَمَدَارُهَا فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى وَصِحَّةِ النِّيَّةِ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي الْأَمْرَيْنِ كَثِيرَةٌ.
الْمَقْصِدُ السَّادِسُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ بَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الدَّوْلِيِّ
(بَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الدَّوْلِيِّ: نَوْعِهِ وَأَسَاسِهِ وَأُصُولِهِ الْعَامَّةِ)
الْإِسْلَامُ دِينُ هِدَايَةٍ وَسِيَادَةٍ وَسِيَاسَةٍ وَحُكْمٍ؛ لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ شُئُونِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَمَصَالِحِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى السِّيَادَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِحِمَايَةِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَفِيهِ أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ.
(الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ الْأُولَى لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ)
الْحُكْمُ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ، وَشَكْلُهُ شُورَى، وَرَئِيسُهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَوِ (الْخَلِيفَةُ) مُنَفِّذٌ لِشَرْعِهِ، وَالْأُمَّةُ هِيَ الَّتِي تَمْلِكُ نَصْبَهُ وَعَزْلَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (٤٢: ٣٨) وَقَالَ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (٣: ١٥٩) وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنْ سِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ مِمَّا لَا نَصَّ فِيهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِهَا حِكْمَةَ تَرْكِ الشُّورَى لِاجْتِهَادِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (٤: ١٥٩) وَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالرَّأْيِ الْحَصِيفِ فِي مَصَالِحِهَا، الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ وَتَتْبَعُهُمْ فِيمَا يُقِرُّونَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْآيَةِ مِنْ سُورَتِهَا: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٤: ٨٣) فَأُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الرَّسُولِ، وَكَانَ
217
الْأَمْرُ يُرَدُّ إِلَيْهِ وَإِلَيْهِمْ فِي الشُّئُونِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ مِنَ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَغَيْرِهِمَا، هُمُ الَّذِينَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَشِيرُهُمْ فِي الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ وَالسِّرِّيَّةِ الْمُهِمَّةِ. وَكَانَ يَسْتَشِيرُ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا لَهُمْ بِهِ عَلَاقَةٌ عَامَّةٌ وَيَعْمَلُ بِرَأْيِ الْأَكْثَرِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَهُ، كَاسْتِشَارَتِهِمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: الْحِصَارِ فِي الْمَدِينَةِ أَوِ
الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ. وَكَانَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ بَعْضِ كِبَارِ الْأُمَّةِ الْأَوَّلَ، وَرَأْيُ الْجُمْهُورِ الثَّانِيَ، فَنَفَّذَ رَأْيَ الْأَكْثَرِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَشَارَ فِي مَسْأَلَةِ أَسْرَى بَدْرٍ خَوَاصَّ أُولِي الْأَمْرِ وَعَمِلَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى (٤: ٥٩) مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِدِ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ وَكَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنَ الْحُكْمِ النِّيَابِيِّ الَّذِي عَلَيْهِ دُوَلُ هَذَا الْعَصْرِ.
وَمِنَ الدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيعَ الْقَضَائِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ هُوَ حَقُّ الْأُمَّةِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ بِالْجَمَاعَةِ، أَنَّ الْقُرْآنَ يُخَاطِبُ بِهَا جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْخَاصَّتَيْنِ بِالْحُكْمِ الْعَامِّ وَالدَّوْلَةِ وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ، كَقَوْلِهِ: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٩: ١) وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَالْحَرْبِ وَالصُّلْحِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٤٩: ٩) وَكَذَلِكَ خِطَابُهُ لَهُمْ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ كَالْغَنَائِمِ وَتَخْمِيسِهَا وَقِسْمَتِهَا وَأَحْكَامِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا (وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا كُلَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ التَّفْسِيرِ).
وَقَدْ صَرَّحَ كِبَارُ النُّظَّارِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ بِأَنَّ السُّلْطَةَ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ يَتَوَلَّاهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ عَلَيْهَا الْخُلَفَاءَ وَالْأَئِمَّةَ، وَيَعْزِلُونَهُمْ، إِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ عَزْلَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي تَعْرِيفِ الْخِلَافَةِ: هِيَ رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ. وَقَالَ فِي الْقَيْدِ الْأَخِيرِ (الَّذِي زَادَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ) هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ كُلِّ الْأُمَّةِ إِذَا عَزَلُوا الْإِمَامَ لِفِسْقِهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا التَّعْرِيفِ وَمَا عُلِّلَ بِهِ الْقَيْدَ الْأَخِيرَ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِكُلِّ الْأُمَّةِ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَاعْتَبَرَ رِئَاسَتَهُمْ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ أَوْ عَلَى كُلٍّ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ. اهـ، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَسْأَلَةَ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ فِي كِتَابِنَا (الْخِلَافَةُ أَوِ الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى).
فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِدَوْلَةِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ إِصْلَاحٍ سِيَاسِيٍّ لِلْبَشَرِ، قَرَّرَهَا
الْقُرْآنُ فِي عَصْرٍ
الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ. وَكَانَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ بَعْضِ كِبَارِ الْأُمَّةِ الْأَوَّلَ، وَرَأْيُ الْجُمْهُورِ الثَّانِيَ، فَنَفَّذَ رَأْيَ الْأَكْثَرِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَشَارَ فِي مَسْأَلَةِ أَسْرَى بَدْرٍ خَوَاصَّ أُولِي الْأَمْرِ وَعَمِلَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى (٤: ٥٩) مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِدِ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ وَكَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنَ الْحُكْمِ النِّيَابِيِّ الَّذِي عَلَيْهِ دُوَلُ هَذَا الْعَصْرِ.
وَمِنَ الدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيعَ الْقَضَائِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ هُوَ حَقُّ الْأُمَّةِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ بِالْجَمَاعَةِ، أَنَّ الْقُرْآنَ يُخَاطِبُ بِهَا جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْخَاصَّتَيْنِ بِالْحُكْمِ الْعَامِّ وَالدَّوْلَةِ وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ، كَقَوْلِهِ: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٩: ١) وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَالْحَرْبِ وَالصُّلْحِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٤٩: ٩) وَكَذَلِكَ خِطَابُهُ لَهُمْ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ كَالْغَنَائِمِ وَتَخْمِيسِهَا وَقِسْمَتِهَا وَأَحْكَامِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا (وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا كُلَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ التَّفْسِيرِ).
وَقَدْ صَرَّحَ كِبَارُ النُّظَّارِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ بِأَنَّ السُّلْطَةَ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ يَتَوَلَّاهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ عَلَيْهَا الْخُلَفَاءَ وَالْأَئِمَّةَ، وَيَعْزِلُونَهُمْ، إِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ عَزْلَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي تَعْرِيفِ الْخِلَافَةِ: هِيَ رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ. وَقَالَ فِي الْقَيْدِ الْأَخِيرِ (الَّذِي زَادَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ) هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ كُلِّ الْأُمَّةِ إِذَا عَزَلُوا الْإِمَامَ لِفِسْقِهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا التَّعْرِيفِ وَمَا عُلِّلَ بِهِ الْقَيْدَ الْأَخِيرَ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِكُلِّ الْأُمَّةِ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَاعْتَبَرَ رِئَاسَتَهُمْ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ أَوْ عَلَى كُلٍّ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ. اهـ، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَسْأَلَةَ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ فِي كِتَابِنَا (الْخِلَافَةُ أَوِ الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى).
فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِدَوْلَةِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ إِصْلَاحٍ سِيَاسِيٍّ لِلْبَشَرِ، قَرَّرَهَا
الْقُرْآنُ فِي عَصْرٍ
218
كَانَتْ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمَمِ مُرْهَقَةً بِحُكُومَاتٍ اسْتِبْدَادِيَّةٍ اسْتَعْبَدَتْهَا فِي أُمُورِ دِينِهَا وَدُنْيَاهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مُنْقِذٍ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَكُنْ يَقْطَعُ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السِّيَاسَةِ وَالْإِدَارَةِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ إِلَّا بِاسْتِشَارَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْأُمَّةِ؛ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِمَنْ بَعْدَهُ.
ثُمَّ جَرَى عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - فِي أَوَّلِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِبَ مُبَايَعَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِذَا اسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِذَا زِغْتُ فَقَوِّمُونِي. وَقَالَ الْخَلِيفَةُ الثَّانِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَنْ رَأَى مِنْكُمْ فِيَّ عِوَجًا فَلْيُقَوِّمْهُ فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: لَوْ رَأَيْنَا فِيكَ عِوَجًا لَقَوَّمْنَاهُ بِسُيُوفِنَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقَوِّمُ عِوَجَ عُمَرَ بِسَيْفِهِ. وَكَانَ يَجْمَعُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَيَسْتَشِيرُهُمْ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةٌ أَوْ قَضَاءٌ مِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الثَّالِثُ عُثْمَانُ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - أَمْرِي لِأَمْرِكُمْ تَبَعٌ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَلُ الْخَلِيفَةِ الرَّابِعِ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَرَّمَ وَجْهَهُ، وَلَا أَذْكُرُ لَهُ كَلِمَةً مُخْتَصَرَةً مِثْلَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْمِنْبَرِ.
وَإِذَا أَوْجَبَ اللهُ الْمُشَاوَرَةَ عَلَى رَسُولِهِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَدْنَى مِنْ حُكْمِ مَلِكَةِ سَبَأٍ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالشُّورَى، وَوُجِدَ ذَلِكَ فِي أُمَمٍ أُخْرَى، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ مَنْ جَهِلَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَلَكِنَّ مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ زَاغُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَشَايَعَهُمْ عُلَمَاءُ الرُّسُومِ الْمُنَافِقُونَ، وَخُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ الْجَاهِلُونَ، حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُونَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ لِحُكُومَةِ دِينِهِمْ، وَكَانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّ الْإِفْرِنْجِ فِي حَرْبِهِمُ الصَّلِيبِيَّةِ أَنْ كَانَ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي نَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ يَقْتَفِي فِي حُكْمِهِ أَثَرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ صَلَاحُ الدِّينِ الْأَيُّوبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ الَّذِي قَالَ لِأَحَدِ رِجَالِهِ الْمُتَمَيِّزِينَ عِنْدَهُ وَقَدِ اسْتَعْدَاهُ عَلَى رَجُلٍ غَشَّهُ: ((مَا عَسَى أَنْ أَصْنَعَ لَكَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ قَاضٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَالْحَقُّ الشَّرْعِيُّ مَبْسُوطٌ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ مُمْتَثِلَةٌ، وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ الشَّرْعِ وَشِحْنَتُهُ، فَالْحَقُّ يَقْضِي لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)) وَمَعْنَى عِبَارَةِ السُّلْطَانِ: أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا
مُنَفِّذًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ - كَالشِّحْنَةِ وَهُوَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ - وَأَنَّ الْقُضَاةَ مُسْتَقِلُّونَ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِالشَّرْعِ الْعَادِلِ الْمُسَاوِي بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدِ اقْتَبَسَ الصَّلِيبِيُّونَ مِنْهُ طَرِيقَةَ حُكْمِهِ، ثُمَّ دَرَسُوا تَارِيخَ الْإِسْلَامِ فَعَرَفُوا مِنْهُ مَا جَهِلَهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، حَتَّى أَسَّسُوا حُكْمَ دُوَلِهِمْ عَلَى قَاعِدَةِ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَصَارُوا يَدَّعُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَعِيبُونَ الْحُكُومَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ بِاسْتِبْدَادِهَا، ثُمَّ يُجْعَلُ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ سَبَبَ هَذَا الِاسْتِبْدَادِ وَالْحُكْمِ الشَّخْصِيِّ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ يُصَدِّقُونَهُمْ، وَيَرَى الْمُشْتَغِلُونَ
ثُمَّ جَرَى عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - فِي أَوَّلِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِبَ مُبَايَعَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِذَا اسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِذَا زِغْتُ فَقَوِّمُونِي. وَقَالَ الْخَلِيفَةُ الثَّانِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَنْ رَأَى مِنْكُمْ فِيَّ عِوَجًا فَلْيُقَوِّمْهُ فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: لَوْ رَأَيْنَا فِيكَ عِوَجًا لَقَوَّمْنَاهُ بِسُيُوفِنَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقَوِّمُ عِوَجَ عُمَرَ بِسَيْفِهِ. وَكَانَ يَجْمَعُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَيَسْتَشِيرُهُمْ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةٌ أَوْ قَضَاءٌ مِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الثَّالِثُ عُثْمَانُ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - أَمْرِي لِأَمْرِكُمْ تَبَعٌ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَلُ الْخَلِيفَةِ الرَّابِعِ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَرَّمَ وَجْهَهُ، وَلَا أَذْكُرُ لَهُ كَلِمَةً مُخْتَصَرَةً مِثْلَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْمِنْبَرِ.
وَإِذَا أَوْجَبَ اللهُ الْمُشَاوَرَةَ عَلَى رَسُولِهِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَدْنَى مِنْ حُكْمِ مَلِكَةِ سَبَأٍ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالشُّورَى، وَوُجِدَ ذَلِكَ فِي أُمَمٍ أُخْرَى، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ مَنْ جَهِلَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَلَكِنَّ مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ زَاغُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَشَايَعَهُمْ عُلَمَاءُ الرُّسُومِ الْمُنَافِقُونَ، وَخُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ الْجَاهِلُونَ، حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُونَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ لِحُكُومَةِ دِينِهِمْ، وَكَانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّ الْإِفْرِنْجِ فِي حَرْبِهِمُ الصَّلِيبِيَّةِ أَنْ كَانَ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي نَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ يَقْتَفِي فِي حُكْمِهِ أَثَرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ صَلَاحُ الدِّينِ الْأَيُّوبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ الَّذِي قَالَ لِأَحَدِ رِجَالِهِ الْمُتَمَيِّزِينَ عِنْدَهُ وَقَدِ اسْتَعْدَاهُ عَلَى رَجُلٍ غَشَّهُ: ((مَا عَسَى أَنْ أَصْنَعَ لَكَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ قَاضٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَالْحَقُّ الشَّرْعِيُّ مَبْسُوطٌ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ مُمْتَثِلَةٌ، وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ الشَّرْعِ وَشِحْنَتُهُ، فَالْحَقُّ يَقْضِي لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)) وَمَعْنَى عِبَارَةِ السُّلْطَانِ: أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا
مُنَفِّذًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ - كَالشِّحْنَةِ وَهُوَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ - وَأَنَّ الْقُضَاةَ مُسْتَقِلُّونَ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِالشَّرْعِ الْعَادِلِ الْمُسَاوِي بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدِ اقْتَبَسَ الصَّلِيبِيُّونَ مِنْهُ طَرِيقَةَ حُكْمِهِ، ثُمَّ دَرَسُوا تَارِيخَ الْإِسْلَامِ فَعَرَفُوا مِنْهُ مَا جَهِلَهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، حَتَّى أَسَّسُوا حُكْمَ دُوَلِهِمْ عَلَى قَاعِدَةِ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَصَارُوا يَدَّعُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَعِيبُونَ الْحُكُومَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ بِاسْتِبْدَادِهَا، ثُمَّ يُجْعَلُ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ سَبَبَ هَذَا الِاسْتِبْدَادِ وَالْحُكْمِ الشَّخْصِيِّ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ يُصَدِّقُونَهُمْ، وَيَرَى الْمُشْتَغِلُونَ
219
بِالسِّيَاسَةِ وَعِلْمِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِحُكُومَاتِهِمْ إِلَّا بِتَقْلِيدِهِمْ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ ضَيَاعِ أَعْظَمِ مَزَايَا الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيَّةِ التَّشْرِيعِيَّةِ وَذَهَابِ أَكْثَرِ مُلْكِهِ.
(أُصُولُ التَّشْرِيعِ فِي الْإِسْلَامِ)
الْمَعْرُوفُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ أُصُولَ التَّشْرِيعِ الْأَسَاسِيَّةَ أَرْبَعَةٌ:
(١) الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ أَنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةَ فِيهِ مِنْ دِينِيَّةٍ وَقَضَائِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ لَا تَبْلُغُ عُشْرَ آيَاتِهِ، وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ الصَّرِيحَ مِنْهَا وَأَكْثَرُهَا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أُمُورِ الدُّنْيَا مَوْكُولَةٌ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ وَاجْتِهَادِهِمْ.
(٢) مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعَمَلِ وَالْقَضَاءِ بِهِ مِنْ بَيَانٍ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَالُوا أَيْضًا إِنَّ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ الْأُصُولِ خَمْسُمِائَةِ حَدِيثٍ تَمُدُّهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ فِيمَا أَذْكُرُ.
(٣) إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي الدِّينِيَّاتِ، وَفِي إِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ بَعْدَهُمْ تَفْصِيلٌ.
(٤) اجْتِهَادُ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْقُوَّادِ فِي الْأُمُورِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَخَصَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (بِالْقِيَاسِ) وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الْقِيَاسَ وَقَيَّدَهُ آخَرُونَ كَمَا فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (٥: ١٠١).
وَوَرَدَ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ أَحَادِيثُ وَآثَارُ تَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ (مِنْهَا) حَدِيثُ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: ((كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟)) قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ)) ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ)) قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو. قَالَ مُعَاذٌ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرِي ثُمَّ
قَالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو وَفِيهِ مَقَالٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهَذَا التَّرْتِيبِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي مَحَلِّهِ وَبِهِ أَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَاضِيَهُ شُرَيْحًا فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ فِي الْقَضَاءِ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يُقَدِّمُونَ الْإِجْمَاعَ حَتَّى الْعُرْفِيَّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ - وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ - عَلَى النَّصِّ.
وَالْأَصْلُ فِي شَرْعِيَّةِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ لِلْحُكَّامِ حَدِيثُ ((إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ)) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ.
بَلْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي أُمَرَاءَ الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا حَقَّ الْحُكْمِ بِمَا يَرَوْنَ فِيهِ الْمَصْلَحَةِ بِقَوْلِهِ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ: ((وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ عَلَى أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ
(أُصُولُ التَّشْرِيعِ فِي الْإِسْلَامِ)
الْمَعْرُوفُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ أُصُولَ التَّشْرِيعِ الْأَسَاسِيَّةَ أَرْبَعَةٌ:
(١) الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ أَنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةَ فِيهِ مِنْ دِينِيَّةٍ وَقَضَائِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ لَا تَبْلُغُ عُشْرَ آيَاتِهِ، وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ الصَّرِيحَ مِنْهَا وَأَكْثَرُهَا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أُمُورِ الدُّنْيَا مَوْكُولَةٌ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ وَاجْتِهَادِهِمْ.
(٢) مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعَمَلِ وَالْقَضَاءِ بِهِ مِنْ بَيَانٍ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَالُوا أَيْضًا إِنَّ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ الْأُصُولِ خَمْسُمِائَةِ حَدِيثٍ تَمُدُّهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ فِيمَا أَذْكُرُ.
(٣) إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي الدِّينِيَّاتِ، وَفِي إِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ بَعْدَهُمْ تَفْصِيلٌ.
(٤) اجْتِهَادُ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْقُوَّادِ فِي الْأُمُورِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَخَصَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (بِالْقِيَاسِ) وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الْقِيَاسَ وَقَيَّدَهُ آخَرُونَ كَمَا فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (٥: ١٠١).
وَوَرَدَ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ أَحَادِيثُ وَآثَارُ تَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ (مِنْهَا) حَدِيثُ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: ((كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟)) قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ)) ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ)) قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو. قَالَ مُعَاذٌ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرِي ثُمَّ
قَالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو وَفِيهِ مَقَالٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهَذَا التَّرْتِيبِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي مَحَلِّهِ وَبِهِ أَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَاضِيَهُ شُرَيْحًا فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ فِي الْقَضَاءِ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يُقَدِّمُونَ الْإِجْمَاعَ حَتَّى الْعُرْفِيَّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ - وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ - عَلَى النَّصِّ.
وَالْأَصْلُ فِي شَرْعِيَّةِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ لِلْحُكَّامِ حَدِيثُ ((إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ)) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ.
بَلْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي أُمَرَاءَ الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا حَقَّ الْحُكْمِ بِمَا يَرَوْنَ فِيهِ الْمَصْلَحَةِ بِقَوْلِهِ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ: ((وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ عَلَى أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ
220
اللهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ. وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي إِنْزَالِهِمْ عَلَى ذِمَّةِ الْأَمِيرِ دُونَ ذِمَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ لِئَلَّا يَخْفِرَهَا.
(قَوَاعِدُ الِاجْتِهَادِ مِنَ النُّصُوصِ)
أَحْكَامُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِالْأَعْمَالِ وَالْوَقَائِعِ، وَمِنْهَا قَوَاعِدُ عَامَّةٌ لِلتَّشْرِيعِ، وَالْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ مِنْهَا مَا هُوَ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَلَا مَعْدِلَ عَنِ الْحُكْمِ بِهِ إِلَّا لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنْ فَوَاتِ شَرْطٍ كَدَرْءِ حَدٍّ بِشُبْهَةٍ أَوْ عُذْرِ ضَرُورَةٍ، وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْمَجَاعَةِ أَلَّا يُحَدَّ سَارِقٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ قَطْعِيٍّ يُعْمَلُ فِيهِ بِاجْتِهَادِ مَنْ يُنَاطُ بِهِ الْحُكْمُ وَالتَّنْفِيذُ مِنْ أَمِيرٍ أَوْ قَاضٍ أَوْ قَائِدِ جَيْشٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ.
وَأَمَّا الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ فَهِيَ مَا تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَهَمُّهَا فِي الْإِسْلَامِ تَحَرِّي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْحُقُوقِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَتَقْدِيرِ الْمَصَالِحِ، وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ، وَمُرَاعَاةُ الْعُرْفِ بِشَرْطِهِ، وَدَرْءُ الْحُدُودِ بِالشُّبَهَاتِ، وَكَوْنُ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَتَقْدِيرُ الضَّرُورَةِ بِقَدْرِهَا، وَدَوَرَانُ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ، وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ، وَنَكْتَفِي بِالشَّوَاهِدِ فِي الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ.
(نُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي إِيجَابِ الْعَدْلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ وَحَظْرِ الظُّلْمِ)
لَمَّا كَانَ الْعَدْلُ أَسَاسَ الْأَحْكَامِ، وَمِيزَانَ التَّشْرِيعِ وَقِسْطَاسَهُ الْمُسْتَقِيمَ، أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِهِ وَالْمُسَاوَاةَ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (١٦: ٩٠) وَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (٤: ٥٨) وَقَالَ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (٤: ١٣٥) أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ؛ فَإِنَّ الْقَوَّامَ (بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ لِلْفَاعِلِ بِالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِ التَّهَاوُنِ وَالتَّقْصِيرِ فِيهِ، وَبِأَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ فِي الْمُحَاكَمَاتِ وَغَيْرِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِهَوَى وَلَا مَصْلَحَةِ أَحَدٍ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ وَالِدَيْهِمْ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْهُمْ، وَأَلَّا يُحَابُوا فِيهَا غَنِيًّا لِغِنَاهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ أَوْ تَكْرِيمًا لَهُ، وَلَا فَقِيرًا لِفَقْرِهِ رَحْمَةً بِهِ وَشَفَقَةً عَلَيْهِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ أَوِ الشَّهَادَةِ كَرَاهَةً أَلَّا يَعْدِلُوا فِيهِمَا لِمُرَاعَاةِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ النَّاسِ، وَأَنْذَرَهُمْ عِقَابَهُ إِنْ لَوَوْا وَمَالُوا عَنِ الْحَقِّ أَوْ أَعْرَضُوا عَنْهُ.
(قَوَاعِدُ الِاجْتِهَادِ مِنَ النُّصُوصِ)
أَحْكَامُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِالْأَعْمَالِ وَالْوَقَائِعِ، وَمِنْهَا قَوَاعِدُ عَامَّةٌ لِلتَّشْرِيعِ، وَالْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ مِنْهَا مَا هُوَ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَلَا مَعْدِلَ عَنِ الْحُكْمِ بِهِ إِلَّا لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنْ فَوَاتِ شَرْطٍ كَدَرْءِ حَدٍّ بِشُبْهَةٍ أَوْ عُذْرِ ضَرُورَةٍ، وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْمَجَاعَةِ أَلَّا يُحَدَّ سَارِقٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ قَطْعِيٍّ يُعْمَلُ فِيهِ بِاجْتِهَادِ مَنْ يُنَاطُ بِهِ الْحُكْمُ وَالتَّنْفِيذُ مِنْ أَمِيرٍ أَوْ قَاضٍ أَوْ قَائِدِ جَيْشٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ.
وَأَمَّا الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ فَهِيَ مَا تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَهَمُّهَا فِي الْإِسْلَامِ تَحَرِّي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْحُقُوقِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَتَقْدِيرِ الْمَصَالِحِ، وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ، وَمُرَاعَاةُ الْعُرْفِ بِشَرْطِهِ، وَدَرْءُ الْحُدُودِ بِالشُّبَهَاتِ، وَكَوْنُ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَتَقْدِيرُ الضَّرُورَةِ بِقَدْرِهَا، وَدَوَرَانُ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ، وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ، وَنَكْتَفِي بِالشَّوَاهِدِ فِي الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ.
(نُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي إِيجَابِ الْعَدْلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ وَحَظْرِ الظُّلْمِ)
لَمَّا كَانَ الْعَدْلُ أَسَاسَ الْأَحْكَامِ، وَمِيزَانَ التَّشْرِيعِ وَقِسْطَاسَهُ الْمُسْتَقِيمَ، أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِهِ وَالْمُسَاوَاةَ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (١٦: ٩٠) وَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (٤: ٥٨) وَقَالَ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (٤: ١٣٥) أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ؛ فَإِنَّ الْقَوَّامَ (بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ لِلْفَاعِلِ بِالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِ التَّهَاوُنِ وَالتَّقْصِيرِ فِيهِ، وَبِأَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ فِي الْمُحَاكَمَاتِ وَغَيْرِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِهَوَى وَلَا مَصْلَحَةِ أَحَدٍ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ وَالِدَيْهِمْ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْهُمْ، وَأَلَّا يُحَابُوا فِيهَا غَنِيًّا لِغِنَاهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ أَوْ تَكْرِيمًا لَهُ، وَلَا فَقِيرًا لِفَقْرِهِ رَحْمَةً بِهِ وَشَفَقَةً عَلَيْهِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ أَوِ الشَّهَادَةِ كَرَاهَةً أَلَّا يَعْدِلُوا فِيهِمَا لِمُرَاعَاةِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ النَّاسِ، وَأَنْذَرَهُمْ عِقَابَهُ إِنْ لَوَوْا وَمَالُوا عَنِ الْحَقِّ أَوْ أَعْرَضُوا عَنْهُ.
221
وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (٥: ٨) فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَمِّمَةٌ لِمَا قَبْلَهَا فَهُنَاكَ يَأْمُرُ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ وَالشَّهَادَةِ بَيْنَ النَّفْسِ وَغَيْرِهَا، وَبَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَبَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَهَاهُنَا يَأْمُرُ بِالْمُسَاوَاةِ فِيهِمَا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَعْدَائِهِ مَهْمَا يَكُنْ سَبَبُ عَدَاوَتِهِمْ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ، فَالشَّنَآنُ: الْبُغْضُ وَالْعَدَاوَةُ، وَقِيلَ مَعَ الِاحْتِقَارِ وَقَدْ قَالَ (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) (٥: ٨) لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُهُمْ وَعَدَاوَتُهُمْ لَكُمْ أَوْ بُغْضُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ لَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، فَالْعَدْلُ بِالْمُسَاوَاةِ أَقْرُبُ إِلَى تَقْوَى اللهِ، وَأَنْذَرَ تَارِكَ الْعَدْلِ لِلشَّنَآنِ بِمِثْلِ مَا أَنْذَرَ تَارِكَهُ لِلْمُحَابَاةِ، أَنْذَرَ كُلًّا مِنْهُمَا بِأَنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَهُوَ يُحَاسِبُهُ عَلَى عَمَلِهِ وَعَلَى نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ مِنْهُ، فَيُثِيبُهُ أَوْ يُعَاقِبُهُ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِ.
فَالْعَدْلُ هُوَ الْمِيزَانُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (٤٢: ١٧) وَقَوْلِهِ: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (٥٧: ٢٥) الْآيَةَ: فَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَصُدُّهُمْ عَنِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ هِدَايَةُ الْقُرْآنِ، وَيَلِيهِمْ مَنْ يَصُدُّهُمُ الْعَدْلُ الَّذِي يُقِيمُهُ السُّلْطَانُ، وَشَرُّهُمْ مَنْ لَا عِلَاجَ لَهُ إِلَّا السَّيْفُ وَالسِّنَانُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيدِ.
فَقِوَامُ صَلَاحِ الْعَالَمِ بِالْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ الَّذِي يُحَرِّمُ الظُّلْمَ وَسَائِرَ الْمَفَاسِدِ، فَيَجْتَنِبُهَا الْمُؤْمِنُ خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَجَاءً فِي ثَوَابِهِ فِيهِمَا، وَبِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ الَّذِي يَرْدَعُ النَّاسَ عَنِ الظُّلْمِ بِعِقَابِ السُّلْطَانِ.
وَيُؤَيِّدُ قَاعِدَةَ إِقَامَةِ الْعَدْلِ مَا وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الظُّلْمِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ. فَقَدْ ذُكِرَ الظُّلْمُ فِي مِئَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَسْوَأَ الذِّكْرِ، وَقُرِنَ فِي بَعْضِهَا بِأَسْوَأِ الْعَوَاقِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهِمَا أَثَرٌ لَازِمٌ لَهُ لُزُومَ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ وَالْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ، وَأَنَّ النَّاسَ هُمُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (١٨: ٤٩) وَمِنْ أَثَرِهِ وَعَاقِبَتِهِ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ مُهْلِكُ الْأُمَمِ وَمُخَرِّبُ الْعُمْرَانِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (١١: ١١٧) أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ أَنْ يُهْلِكَ الْأُمَمَ بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهُمْ، أَوْ بِشِرْكٍ بِهِ يَقَعُ مِنْهُمْ، وَهُمْ مُصْلِحُونَ فِي سِيرَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، كَمَا قَالَ: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) (١٨: ٥٩) وَقَالَ فِي الْأَحْكَامِ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٥: ٤٥) وَرَدَ هَذَا فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ.
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) (٥: ٨) لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُهُمْ وَعَدَاوَتُهُمْ لَكُمْ أَوْ بُغْضُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ لَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، فَالْعَدْلُ بِالْمُسَاوَاةِ أَقْرُبُ إِلَى تَقْوَى اللهِ، وَأَنْذَرَ تَارِكَ الْعَدْلِ لِلشَّنَآنِ بِمِثْلِ مَا أَنْذَرَ تَارِكَهُ لِلْمُحَابَاةِ، أَنْذَرَ كُلًّا مِنْهُمَا بِأَنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَهُوَ يُحَاسِبُهُ عَلَى عَمَلِهِ وَعَلَى نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ مِنْهُ، فَيُثِيبُهُ أَوْ يُعَاقِبُهُ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِ.
فَالْعَدْلُ هُوَ الْمِيزَانُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (٤٢: ١٧) وَقَوْلِهِ: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (٥٧: ٢٥) الْآيَةَ: فَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَصُدُّهُمْ عَنِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ هِدَايَةُ الْقُرْآنِ، وَيَلِيهِمْ مَنْ يَصُدُّهُمُ الْعَدْلُ الَّذِي يُقِيمُهُ السُّلْطَانُ، وَشَرُّهُمْ مَنْ لَا عِلَاجَ لَهُ إِلَّا السَّيْفُ وَالسِّنَانُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيدِ.
فَقِوَامُ صَلَاحِ الْعَالَمِ بِالْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ الَّذِي يُحَرِّمُ الظُّلْمَ وَسَائِرَ الْمَفَاسِدِ، فَيَجْتَنِبُهَا الْمُؤْمِنُ خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَجَاءً فِي ثَوَابِهِ فِيهِمَا، وَبِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ الَّذِي يَرْدَعُ النَّاسَ عَنِ الظُّلْمِ بِعِقَابِ السُّلْطَانِ.
وَيُؤَيِّدُ قَاعِدَةَ إِقَامَةِ الْعَدْلِ مَا وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الظُّلْمِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ. فَقَدْ ذُكِرَ الظُّلْمُ فِي مِئَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَسْوَأَ الذِّكْرِ، وَقُرِنَ فِي بَعْضِهَا بِأَسْوَأِ الْعَوَاقِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهِمَا أَثَرٌ لَازِمٌ لَهُ لُزُومَ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ وَالْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ، وَأَنَّ النَّاسَ هُمُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (١٨: ٤٩) وَمِنْ أَثَرِهِ وَعَاقِبَتِهِ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ مُهْلِكُ الْأُمَمِ وَمُخَرِّبُ الْعُمْرَانِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (١١: ١١٧) أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ أَنْ يُهْلِكَ الْأُمَمَ بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهُمْ، أَوْ بِشِرْكٍ بِهِ يَقَعُ مِنْهُمْ، وَهُمْ مُصْلِحُونَ فِي سِيرَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، كَمَا قَالَ: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) (١٨: ٥٩) وَقَالَ فِي الْأَحْكَامِ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٥: ٤٥) وَرَدَ هَذَا فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ.
222
(قَوَاعِدُ مُرَاعَاةِ الْفَضَائِلِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمُعَامَلَاتِ)
مَنِ اسْتَقْرَأَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْوَاعِهَا مِنْ شَخْصِيَّةٍ وَمَدَنِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ يَرَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا كُلِّهَا قَاعِدَةُ مُرَاعَاةِ الْفَضَائِلِ فِيهَا مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ، وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ وَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْقَسْوَةِ وَالْغِشِّ وَالْخِدَاعِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَالسُّحْتِ وَشَرَهِ التِّجَارَةِ بِالدِّينِ وَالْخُرَافَاتِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْإِصْلَاحِ الْحَرْبِيِّ.
وَالْعِبْرَةُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ، الَّتِي فَضُلَ بِهَا الْإِسْلَامُ جَمِيعَ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَوَانِينِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، أَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ أُمِّيِّينَ، فَهَلْ كَانَتْ بِوَحْيٍ نَبَعَ بَعْدَ الْكُهُولَةِ مِنْ نَفْسِهِ، أَمْ هُوَ كَمَا بَلَغَنَا رُوحِيٌّ مِنْ رَبِّهِ؟.
الْمَقْصِدُ السَّابِعُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ
(الْإِرْشَادُ إِلَى الْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ)
(تَمْهِيدٌ) بَيِّنَّا مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ أَوْ أُصُولَ فِقْهِهِ فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ مِنْ طَرِيقِ التَّدَيُّنِ وَالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ وَالْإِذْعَانِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ وَالْفِكْرِ وَالْوِجْدَانِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ الْعَادِلِ وَالسُّلْطَانِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْإِفْرَادِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِوَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْأَجْنَاسِ، وَبَقِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِقْهِهِ فِي إِصْلَاحِ الْمَفَاسِدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْكُبْرَى الَّذِي يَتَوَقَّفُ كَمَالُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ وَهِيَ: - طُغْيَانُ الثَّرْوَةِ وَدَوْلَتِهَا. عُدْوَانُ الْحَرْبِ وَقَسْوَتُهَا. ظُلْمُ الْمَرْأَةِ وَاسْتِبَاحَتُهَا. ظُلْمُ الضَّعْفَةِ وَالْأَسْرَى وَسَلْبُ حُرِّيَّتِهِمْ، وَهُوَ الرِّقُّ الْمُطْلِقُ - ذَلِكَ بِأَنَّ جَمِيعَ حُظُوظِ الدُّنْيَا مَنُوطَةٌ - مِنْهَا، وَلَا يَتِمُّ الْإِصْلَاحُ فِيهَا إِلَّا بِتَعَاوُنِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ وَإِنَّنَا نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَالِ، مُبْتَدِئِينَ بِالْمَالِ، وَالْآيَاتُ فِيهِ تَدُورُ عَلَى سَبْعَةِ أَقْطَابٍ، فَنَقُولُ:
(١ - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي الْمَالِ كَوْنُهُ فِتْنَةً وَاخْتِبَارًا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ)
الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلْقُرْآنِ فِي الْمَالِ أَنَّهُ فِتْنَةٌ، أَيِ اخْتِبَارٌ وَامْتِحَانٌ لِلْبَشَرِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ مَعَايِشَ وَمَصَالِحَ، إِذْ هُوَ الْوَسِيلَةُ إِلَى الْإِصْلَاحِ وَالْإِفْسَادِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْبِرِّ وَالْفُجُورِ وَهُوَ مَثَارُ التَّنَازُعِ وَالتَّنَافُسِ فِي كَسْبِهِ وَإِنْفَاقِهِ، وَكَنْزِهِ وَاحْتِكَارِهِ وَجَعْلِهِ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَتَدَاوُلِهِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ بَيْنَ النَّاسِ.
قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (٣: ١٨٦) وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَأَى عَرْشَ مَلِكَةِ سَبَأٍ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكَرُ أَمْ أَكْفُرُ) (٢٧: ٤٠)
مَنِ اسْتَقْرَأَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْوَاعِهَا مِنْ شَخْصِيَّةٍ وَمَدَنِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ يَرَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا كُلِّهَا قَاعِدَةُ مُرَاعَاةِ الْفَضَائِلِ فِيهَا مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ، وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ وَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْقَسْوَةِ وَالْغِشِّ وَالْخِدَاعِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَالسُّحْتِ وَشَرَهِ التِّجَارَةِ بِالدِّينِ وَالْخُرَافَاتِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْإِصْلَاحِ الْحَرْبِيِّ.
وَالْعِبْرَةُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ، الَّتِي فَضُلَ بِهَا الْإِسْلَامُ جَمِيعَ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَوَانِينِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، أَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ أُمِّيِّينَ، فَهَلْ كَانَتْ بِوَحْيٍ نَبَعَ بَعْدَ الْكُهُولَةِ مِنْ نَفْسِهِ، أَمْ هُوَ كَمَا بَلَغَنَا رُوحِيٌّ مِنْ رَبِّهِ؟.
الْمَقْصِدُ السَّابِعُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ
(الْإِرْشَادُ إِلَى الْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ)
(تَمْهِيدٌ) بَيِّنَّا مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ أَوْ أُصُولَ فِقْهِهِ فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ مِنْ طَرِيقِ التَّدَيُّنِ وَالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ وَالْإِذْعَانِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ وَالْفِكْرِ وَالْوِجْدَانِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ الْعَادِلِ وَالسُّلْطَانِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْإِفْرَادِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِوَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْأَجْنَاسِ، وَبَقِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِقْهِهِ فِي إِصْلَاحِ الْمَفَاسِدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْكُبْرَى الَّذِي يَتَوَقَّفُ كَمَالُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ وَهِيَ: - طُغْيَانُ الثَّرْوَةِ وَدَوْلَتِهَا. عُدْوَانُ الْحَرْبِ وَقَسْوَتُهَا. ظُلْمُ الْمَرْأَةِ وَاسْتِبَاحَتُهَا. ظُلْمُ الضَّعْفَةِ وَالْأَسْرَى وَسَلْبُ حُرِّيَّتِهِمْ، وَهُوَ الرِّقُّ الْمُطْلِقُ - ذَلِكَ بِأَنَّ جَمِيعَ حُظُوظِ الدُّنْيَا مَنُوطَةٌ - مِنْهَا، وَلَا يَتِمُّ الْإِصْلَاحُ فِيهَا إِلَّا بِتَعَاوُنِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ وَإِنَّنَا نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَالِ، مُبْتَدِئِينَ بِالْمَالِ، وَالْآيَاتُ فِيهِ تَدُورُ عَلَى سَبْعَةِ أَقْطَابٍ، فَنَقُولُ:
(١ - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي الْمَالِ كَوْنُهُ فِتْنَةً وَاخْتِبَارًا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ)
الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلْقُرْآنِ فِي الْمَالِ أَنَّهُ فِتْنَةٌ، أَيِ اخْتِبَارٌ وَامْتِحَانٌ لِلْبَشَرِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ مَعَايِشَ وَمَصَالِحَ، إِذْ هُوَ الْوَسِيلَةُ إِلَى الْإِصْلَاحِ وَالْإِفْسَادِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْبِرِّ وَالْفُجُورِ وَهُوَ مَثَارُ التَّنَازُعِ وَالتَّنَافُسِ فِي كَسْبِهِ وَإِنْفَاقِهِ، وَكَنْزِهِ وَاحْتِكَارِهِ وَجَعْلِهِ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَتَدَاوُلِهِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ بَيْنَ النَّاسِ.
قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (٣: ١٨٦) وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَأَى عَرْشَ مَلِكَةِ سَبَأٍ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكَرُ أَمْ أَكْفُرُ) (٢٧: ٤٠)
223
الْآيَةَ. وَقَالَ: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضَّعْفِ بِمَا عَمِلُوا) (٣٤: ٣٧) الْآيَةَ. وَقَالَ: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (٣٠: ٣٩) وَقَالَ: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) (٣: ١٤) الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٨: ٢٨) وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ (٦٤: ١٥) وَيَلِيهَا التَّرْغِيبُ فِي الْإِنْفَاقِ وَقَصْرُ الْفَلَاحِ عَلَى الْوِقَايَةِ مِنْ شُحِّ النَّفْسِ، وَقَالَ تَعَالَى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) (١٨: ٤٦) انْظُرْ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ الْكَهْفُ: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (٧) وَالْمُرَادُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْعُمْرَانِ، وَأَحْسَنُهُ أَنْفَعُهُ لِلنَّاسِ وَأَرْضَاهُ لِلَّهِ بِشُكْرِهِ، ثُمَّ مَا ضَرَبَهُ مِنَ الْمَثَلِ بِصَاحِبَيِ الْجَنَّتَيْنِ، وَالْمَثَلِ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِنَبَاتِ الْأَرْضِ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ قِسْمَةِ الْفَيْءِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (٥٩: ٧) وَالدُّولَةُ بِضَمِّ الدَّالِّ الْمَالُ الْمُتَدَاوَلُ، أَيْ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَالُ مَحْصُورًا
فِي الْأَغْنِيَاءِ مُتَدَاوَلًا بَيْنَهُمْ وَحْدَهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (٩: ٣٤) إِلَخْ، الْكَنْزُ هُوَ الْمَنْعُ مِنَ التَّدَاوُلِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْمَالُ نَافِعًا لِلنَّاسِ.
وَالشَّوَاهِدُ فِي فِتْنَةِ الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ تَجِدُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ وَلَا سِيَّمَا الْجُزْءِ الْعَاشِرِ مِنْهُ فَمِنَ الْآيَاتِ فِي ارْتِبَاطِ السَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ وَالشَّقَاءِ بِمَنْعِهِ مَا هُوَ لِلتَّرْهِيبِ وَمَا هُوَ لِلتَّرْغِيبِ، وَجَمَعَ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِي قَوْلِهِ: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٢: ١٩٥) الْآيَةَ، أَيْ إِنَّ مَنْعَ إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّهْلُكَةِ، ثُمَّ قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٢: ١٩٥) وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ اللَّيْلِ: (٩٢: ٥ - ١١).
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ شَوَاهِدُ الْقُطْبِ الثَّانِي مِنْ آيَاتِ الْمَالِ وَهِيَ:
(٢ - الْآيَاتُ فِي ذَمِّ طُغْيَانِ الْمَالِ وَغُرُورِهِ وَصَدِّهِ عَنِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ)
قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَلَقِ: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لِيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (٩٦: ٦ و٧) أَيْ حَقًّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ غَنِيًّا بِالْمَالِ. وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا فِي أَبِي جَهْلٍ أَشَدِّ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ، وَهِيَ
وَقَالَ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ قِسْمَةِ الْفَيْءِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (٥٩: ٧) وَالدُّولَةُ بِضَمِّ الدَّالِّ الْمَالُ الْمُتَدَاوَلُ، أَيْ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَالُ مَحْصُورًا
فِي الْأَغْنِيَاءِ مُتَدَاوَلًا بَيْنَهُمْ وَحْدَهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (٩: ٣٤) إِلَخْ، الْكَنْزُ هُوَ الْمَنْعُ مِنَ التَّدَاوُلِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْمَالُ نَافِعًا لِلنَّاسِ.
وَالشَّوَاهِدُ فِي فِتْنَةِ الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ تَجِدُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ وَلَا سِيَّمَا الْجُزْءِ الْعَاشِرِ مِنْهُ فَمِنَ الْآيَاتِ فِي ارْتِبَاطِ السَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ وَالشَّقَاءِ بِمَنْعِهِ مَا هُوَ لِلتَّرْهِيبِ وَمَا هُوَ لِلتَّرْغِيبِ، وَجَمَعَ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِي قَوْلِهِ: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٢: ١٩٥) الْآيَةَ، أَيْ إِنَّ مَنْعَ إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّهْلُكَةِ، ثُمَّ قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٢: ١٩٥) وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ اللَّيْلِ: (٩٢: ٥ - ١١).
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ شَوَاهِدُ الْقُطْبِ الثَّانِي مِنْ آيَاتِ الْمَالِ وَهِيَ:
(٢ - الْآيَاتُ فِي ذَمِّ طُغْيَانِ الْمَالِ وَغُرُورِهِ وَصَدِّهِ عَنِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ)
قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَلَقِ: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لِيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (٩٦: ٦ و٧) أَيْ حَقًّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ غَنِيًّا بِالْمَالِ. وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا فِي أَبِي جَهْلٍ أَشَدِّ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ، وَهِيَ
224
أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ. وَمِثْلُهَا سُورَةُ الْمَسَدِ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) (١١١: ١ و٢) إِلَخْ وَمِثْلُهَا سُورَةُ الْهُمَزَةِ: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) (١٠٤: ٢ و٣) إِلَخْ. وَفِي مَعْنَاهُمَا آيَاتٌ مِنْ سُورَتَيِ الْمُدَّثِّرِ وَالْقَلَمِ وَغَيْرِهِمَا.
(٣ - ذَمُّ الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ بِهِ وَالرِّيَاءِ فِي إِنْفَاقِهِ).
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (٣: ١٨٠) وَقَالَ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (٢: ٢٦٨) الْآيَةَ، فَسَّرُوا الْفَحْشَاءَ بِالْبُخْلِ. أَيِ الشَّيْطَانُ
يَصُدُّكُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِتَخْوِيفِكُمْ مِنَ الْفَقْرِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْبُخْلِ الَّذِي فَحَشَ شَرُّهُ وَضَرَرُهُ، وَقَالَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجِيرَانِ: (وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) (٥٧: ٢٣ و٢٤) وَمِنَ الشَّوَاهِدِ آيَاتُ ٩: ٧٦ و٧٧ وَآيَةُ ٤٧: ٣٨ وَآيَةُ ٤: ٣٩ وَآيَةُ ٢: ١٨٨ وَآيَةُ ٤: ١٦١ وَآيَةُ ٤: ٢٩ وَآيَةُ: ٩: ٣٤ و٣٥.
(٤ - مَدْحُ الْمَالِ وَالْغِنَى بِكَوْنِهِ مِنْ نِعَمِ اللهِ وَجَزَائِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ)
قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنْهُ: (فَقَلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (٧١: ١٠ - ١٢) وَفِي مَعْنَاهُ مَا حَكَاهُ عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سُورَتِهِ (١١: ٥٢) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ (٧٢: ١٣ - ١٧) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَيَانُ نِعْمَتِهِ عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ وَذُرِّيَّتِهِمَا بِهِدَايَةِ الدِّينِ فِي آخِرِ قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ طه (٢٠: ١٢٢ و١٢٣) الْآيَاتِ.
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ، قَوْلُهُ تَعَالَى عَطْفًا عَلَى الْأَمْرِ بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ) (٩: ٢٨) أَيْ وَإِنْ خِفْتُمْ فَقْرًا يَعْرِضُ لَكُمْ بِحِرْمَانِ مَكَّةَ مِمَّا كَانَ يُنْفِقُهُ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ وَفُتُوحِهِ وَغَنَائِمِهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ لِلَّذِينِ أَعْطَوُا الْفِدَاءَ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ: (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) (٨: ٧٠) وَكَذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ أَغْنَى اللهُ الْعَرَبَ الْفُقَرَاءَ عَامَّةً وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أُولَئِكَ الْأَسْرَى بِالْإِسْلَامِ، فَجَعَلَهُمْ أَغْنَى الْأُمَمِ وَالْأَقْوَامِ.
وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ الْأَعْظَمِ بِقَوْلِهِ: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) (٩٣: ٨) وَامْتَنَّ عَلَى قَوْمِهِ بِتَوْفِيقِهِمْ لِلتِّجَارَةِ الْوَاسِعَةِ بِرِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فِي سُورَةٍ خَاصَّةٍ بِذَلِكَ، وَسَمَّى
(٣ - ذَمُّ الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ بِهِ وَالرِّيَاءِ فِي إِنْفَاقِهِ).
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (٣: ١٨٠) وَقَالَ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (٢: ٢٦٨) الْآيَةَ، فَسَّرُوا الْفَحْشَاءَ بِالْبُخْلِ. أَيِ الشَّيْطَانُ
يَصُدُّكُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِتَخْوِيفِكُمْ مِنَ الْفَقْرِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْبُخْلِ الَّذِي فَحَشَ شَرُّهُ وَضَرَرُهُ، وَقَالَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجِيرَانِ: (وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) (٥٧: ٢٣ و٢٤) وَمِنَ الشَّوَاهِدِ آيَاتُ ٩: ٧٦ و٧٧ وَآيَةُ ٤٧: ٣٨ وَآيَةُ ٤: ٣٩ وَآيَةُ ٢: ١٨٨ وَآيَةُ ٤: ١٦١ وَآيَةُ ٤: ٢٩ وَآيَةُ: ٩: ٣٤ و٣٥.
(٤ - مَدْحُ الْمَالِ وَالْغِنَى بِكَوْنِهِ مِنْ نِعَمِ اللهِ وَجَزَائِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ)
قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنْهُ: (فَقَلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (٧١: ١٠ - ١٢) وَفِي مَعْنَاهُ مَا حَكَاهُ عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سُورَتِهِ (١١: ٥٢) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ (٧٢: ١٣ - ١٧) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَيَانُ نِعْمَتِهِ عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ وَذُرِّيَّتِهِمَا بِهِدَايَةِ الدِّينِ فِي آخِرِ قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ طه (٢٠: ١٢٢ و١٢٣) الْآيَاتِ.
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ، قَوْلُهُ تَعَالَى عَطْفًا عَلَى الْأَمْرِ بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ) (٩: ٢٨) أَيْ وَإِنْ خِفْتُمْ فَقْرًا يَعْرِضُ لَكُمْ بِحِرْمَانِ مَكَّةَ مِمَّا كَانَ يُنْفِقُهُ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ وَفُتُوحِهِ وَغَنَائِمِهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ لِلَّذِينِ أَعْطَوُا الْفِدَاءَ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ: (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) (٨: ٧٠) وَكَذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ أَغْنَى اللهُ الْعَرَبَ الْفُقَرَاءَ عَامَّةً وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أُولَئِكَ الْأَسْرَى بِالْإِسْلَامِ، فَجَعَلَهُمْ أَغْنَى الْأُمَمِ وَالْأَقْوَامِ.
وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ الْأَعْظَمِ بِقَوْلِهِ: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) (٩٣: ٨) وَامْتَنَّ عَلَى قَوْمِهِ بِتَوْفِيقِهِمْ لِلتِّجَارَةِ الْوَاسِعَةِ بِرِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فِي سُورَةٍ خَاصَّةٍ بِذَلِكَ، وَسَمَّى
225
الْمَالَ الْكَثِيرَ خَيْرًا بِقَوْلِهِ فِي صِفَاتِ الْإِنْسَانِ: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لِشَدِيدٌ) (١٠٠: ٨) وَقَالَ: (إِنَّ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (٢: ١٨٠) الْآيَةَ.
(٥ - مَا أَوْجَبَ اللهُ مِنْ حِفْظِ الْمَالِ مِنَ الضَّيَاعِ وَالِاقْتِصَادِ فِيهِ).
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا) (٤: ٥) قِيَامُ الشَّيْءِ وَقِوَامُهُ (بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ) مَا يَسْتَقِيمُ بِهِ وَيُحْفَظُ وَيَثْبُتُ، أَيْ جَعَلَهَا قِوَامَ مَعَايِشِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ وَالسُّفَهَاءُ هُمُ الْمُسْرِفُونَ الْمُبَذِّرُونَ لَهَا لِصِغَرِ سِنِّهِمْ دُونَ الرُّشْدِ أَوْ لِفَسَادِ أَخْلَاقِهِمْ وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (٢٥: ٦٧) الْإِسْرَافُ: التَّبْذِيرُ وَالْإِفْرَاطُ وَالْقَتْرُ وَالْقُتُورُ وَالْإِقْتَارُ: الْإِقْلَالُ وَالتَّضْيِيقُ فِي النَّفَقَةِ.
(٦ - إِنْفَاقُ الْمَالِ آيَةُ الْإِيمَانِ وَالْوَسِيلَةِ لِحَيَاةِ الْأُمَّةِ وَعَزَّةِ الدَّوْلَةِ).
هَذَا هُوَ الْقُطْبُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَقْطَابِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْمَالِ وَأَكْثَرِهَا فِيهِ، وَمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَسَائِلُ لَهُ، وَمَا بَعْدَهُ بَيَانٌ لِلْعَمَلِ بِهِ، وَأَظْهَرُ الشَّوَاهِدِ فِيهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ هُوَ الْفَصْلَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ الْمُقْتَرِنِ بِالْإِذْعَانِ، الْمَبْنِيِّ عَلَى أَسَاسِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ دَعْوَى الْإِيمَانِ بِدُونِ شَهَادَتِهِ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى الْإِسْلَامِ تُقَبْلُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ الْعَمَلِيَّةَ تُبْنَى عَلَى الظَّوَاهِرِ وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ عَلَى السَّرَائِرِ.
وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) (٤٩: ١٤ و١٥) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، فَقَدَّمَ الْجِهَادَ بِالْمَالِ عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي تَحْقِيقِ صِحَّةِ الْإِيمَانِ. وَيَلِي هَذَا الشَّاهِدَ آيَةُ الْبِرِّ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ بِالِاخْتِيَارِ، أَوَّلُ آيَاتِ الْإِيمَانِ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (٢: ١٧٧) إِلَخْ.
وَمِنَ الْآيَاتِ فِي تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْفِقِينَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَتَفَاوُتِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) (٤: ٩٥) اقْرَأْ تَتِمَّةَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا. وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ
وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) (٥٧: ١٠) وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ كَثِيرَةٌ، وَيُرَاجَعُ تَفْصِيلُهَا فِي تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الثَّانِي وَالْجُزْءِ الْعَاشِرِ وَهَذَا الْجُزْءِ (١١) مِنَ التَّفْسِيرِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الْبَلِيغَةِ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَمُضَاعَفَةِ ثَوَابِهِ، وَبَيَانِ آدَابِهِ، عِشْرُونَ آيَةً
(٥ - مَا أَوْجَبَ اللهُ مِنْ حِفْظِ الْمَالِ مِنَ الضَّيَاعِ وَالِاقْتِصَادِ فِيهِ).
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا) (٤: ٥) قِيَامُ الشَّيْءِ وَقِوَامُهُ (بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ) مَا يَسْتَقِيمُ بِهِ وَيُحْفَظُ وَيَثْبُتُ، أَيْ جَعَلَهَا قِوَامَ مَعَايِشِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ وَالسُّفَهَاءُ هُمُ الْمُسْرِفُونَ الْمُبَذِّرُونَ لَهَا لِصِغَرِ سِنِّهِمْ دُونَ الرُّشْدِ أَوْ لِفَسَادِ أَخْلَاقِهِمْ وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (٢٥: ٦٧) الْإِسْرَافُ: التَّبْذِيرُ وَالْإِفْرَاطُ وَالْقَتْرُ وَالْقُتُورُ وَالْإِقْتَارُ: الْإِقْلَالُ وَالتَّضْيِيقُ فِي النَّفَقَةِ.
(٦ - إِنْفَاقُ الْمَالِ آيَةُ الْإِيمَانِ وَالْوَسِيلَةِ لِحَيَاةِ الْأُمَّةِ وَعَزَّةِ الدَّوْلَةِ).
هَذَا هُوَ الْقُطْبُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَقْطَابِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْمَالِ وَأَكْثَرِهَا فِيهِ، وَمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَسَائِلُ لَهُ، وَمَا بَعْدَهُ بَيَانٌ لِلْعَمَلِ بِهِ، وَأَظْهَرُ الشَّوَاهِدِ فِيهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ هُوَ الْفَصْلَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ الْمُقْتَرِنِ بِالْإِذْعَانِ، الْمَبْنِيِّ عَلَى أَسَاسِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ دَعْوَى الْإِيمَانِ بِدُونِ شَهَادَتِهِ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى الْإِسْلَامِ تُقَبْلُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ الْعَمَلِيَّةَ تُبْنَى عَلَى الظَّوَاهِرِ وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ عَلَى السَّرَائِرِ.
وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) (٤٩: ١٤ و١٥) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، فَقَدَّمَ الْجِهَادَ بِالْمَالِ عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي تَحْقِيقِ صِحَّةِ الْإِيمَانِ. وَيَلِي هَذَا الشَّاهِدَ آيَةُ الْبِرِّ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ بِالِاخْتِيَارِ، أَوَّلُ آيَاتِ الْإِيمَانِ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (٢: ١٧٧) إِلَخْ.
وَمِنَ الْآيَاتِ فِي تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْفِقِينَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَتَفَاوُتِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) (٤: ٩٥) اقْرَأْ تَتِمَّةَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا. وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ
وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) (٥٧: ١٠) وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ كَثِيرَةٌ، وَيُرَاجَعُ تَفْصِيلُهَا فِي تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الثَّانِي وَالْجُزْءِ الْعَاشِرِ وَهَذَا الْجُزْءِ (١١) مِنَ التَّفْسِيرِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الْبَلِيغَةِ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَمُضَاعَفَةِ ثَوَابِهِ، وَبَيَانِ آدَابِهِ، عِشْرُونَ آيَةً
226
مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ هِيَ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ يَتَخَلَّلُهَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا فَرَاجِعْهَا مِنْ آيَةِ ٢٦١ - ٢٨١ مَعَ تَفْسِيرِهَا مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ.
ثُمَّ رَاجِعْ فِي فِهْرِسِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ كَلِمَةَ (الْمَالُ: الْجِهَادُ بِهِ أَقْوَى آيَاتِ الْإِيمَانِ وَقِوَامُ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ) يُرْشِدْكَ إِلَى عَشْرِ صَفَحَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَصَّلْنَا فِيهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.
(٧ - الْحُقُوقُ الْمَفْرُوضَةُ وَالْمَنْدُوبَةُ فِي الْمَالِ وَالْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ فِي الْإِسْلَامِ)
قَدْ عَقَدْتُ لِتَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (٩: ١٠٣) فَصْلًا: ((فِي فَوَائِدِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ لِلْبَشَرِ وَامْتِيَازِ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ)) وَلَخَّصْتُ أُصُولَ هَذَا الْإِصْلَاحِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَصْلًا، فَرَاجِعْهَا فَمَا هِيَ مِنْكَ بِبَعِيدٍ.
وَمَوْضُوعُ بَحْثِنَا فِي هَذَا الِاسْتِطْرَادِ وَهُوَ ((دَلَائِلُ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ)) أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي عَرَفْنَا خُلَاصَةَ تَارِيخِهِ قَدِ اهْتَدَى بِعَقْلِهِ، أَوْ بِوَحْيٍ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، إِلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ الَّتِي فَاقَتْ وَعَلَتْ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْبَشَرِيَّةِ فِي أَرْقَى عُصُورِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْقَوَانِينِ، وَإِنَّمَا الْمَعْقُولُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بِوَحْيٍ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ أَفَاضَهُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فَلَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَهُ إِلَى وَحْيٍ آخَرَ.
الْمَقْصِدُ الثَّامِنُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ
(إِصْلَاحُ نِظَامُ الْحَرْبِ وَدَفْعُ مَفَاسِدِهَا وَقَصْرُهَا عَلَى مَا فِيهِ الْخَيْرُ لِلْبَشَرِ)
التَّنَازُعُ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ فِي مَرَافِقِ الْمَعِيشَةِ وَوَسَائِلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ غَرِيزَةٌ مِنْ غَرَائِزِ الْحَيَاةِ، وَإِفْضَاءُ التَّنَازُعِ إِلَى التَّعَادِي وَالِاقْتِتَالِ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ، سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، أَوَ ضَرُورَةٌ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ، فَإِنْ كَانَ
التَّنَازُعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَانَ الْفَلْجُ لِلْحَقِّ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ كَانَ الظَّفَرُ لِلْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ النِّظَامِ وَالِاخْتِلَالِ كَانَ النَّصْرُ لِلنِّظَامِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ كَانَ الْغَلَبُ لِلصَّلَاحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) (٢١: ١٨) وَقَالَ فِي بَيَانِ نَتِيجَةِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ لَهُمَا: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (١٣: ١٧).
وَأَمَّا التَّنَازُعُ وَالتَّعَادِي وَالتَّقَاتُلُ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالسُّلْطَةِ الظَّالِمَةِ، وَاسْتِبْعَادُ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ، وَالِاسْتِكْبَارُ وَالْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُ كَبِيرٌ، وَشَرَّهُ مُسْتَطِيرٌ، وَيَزِيدُ ضَرَاوَةَ الْبَشَرِ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَيُورِثُهُمُ الْحِقْدَ وَيُؤَرِّثُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ
ثُمَّ رَاجِعْ فِي فِهْرِسِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ كَلِمَةَ (الْمَالُ: الْجِهَادُ بِهِ أَقْوَى آيَاتِ الْإِيمَانِ وَقِوَامُ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ) يُرْشِدْكَ إِلَى عَشْرِ صَفَحَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَصَّلْنَا فِيهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.
(٧ - الْحُقُوقُ الْمَفْرُوضَةُ وَالْمَنْدُوبَةُ فِي الْمَالِ وَالْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ فِي الْإِسْلَامِ)
قَدْ عَقَدْتُ لِتَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (٩: ١٠٣) فَصْلًا: ((فِي فَوَائِدِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ لِلْبَشَرِ وَامْتِيَازِ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ)) وَلَخَّصْتُ أُصُولَ هَذَا الْإِصْلَاحِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَصْلًا، فَرَاجِعْهَا فَمَا هِيَ مِنْكَ بِبَعِيدٍ.
وَمَوْضُوعُ بَحْثِنَا فِي هَذَا الِاسْتِطْرَادِ وَهُوَ ((دَلَائِلُ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ)) أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي عَرَفْنَا خُلَاصَةَ تَارِيخِهِ قَدِ اهْتَدَى بِعَقْلِهِ، أَوْ بِوَحْيٍ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، إِلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ الَّتِي فَاقَتْ وَعَلَتْ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْبَشَرِيَّةِ فِي أَرْقَى عُصُورِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْقَوَانِينِ، وَإِنَّمَا الْمَعْقُولُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بِوَحْيٍ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ أَفَاضَهُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فَلَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَهُ إِلَى وَحْيٍ آخَرَ.
الْمَقْصِدُ الثَّامِنُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ
(إِصْلَاحُ نِظَامُ الْحَرْبِ وَدَفْعُ مَفَاسِدِهَا وَقَصْرُهَا عَلَى مَا فِيهِ الْخَيْرُ لِلْبَشَرِ)
التَّنَازُعُ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ فِي مَرَافِقِ الْمَعِيشَةِ وَوَسَائِلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ غَرِيزَةٌ مِنْ غَرَائِزِ الْحَيَاةِ، وَإِفْضَاءُ التَّنَازُعِ إِلَى التَّعَادِي وَالِاقْتِتَالِ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ، سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، أَوَ ضَرُورَةٌ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ، فَإِنْ كَانَ
التَّنَازُعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَانَ الْفَلْجُ لِلْحَقِّ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ كَانَ الظَّفَرُ لِلْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ النِّظَامِ وَالِاخْتِلَالِ كَانَ النَّصْرُ لِلنِّظَامِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ كَانَ الْغَلَبُ لِلصَّلَاحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) (٢١: ١٨) وَقَالَ فِي بَيَانِ نَتِيجَةِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ لَهُمَا: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (١٣: ١٧).
وَأَمَّا التَّنَازُعُ وَالتَّعَادِي وَالتَّقَاتُلُ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالسُّلْطَةِ الظَّالِمَةِ، وَاسْتِبْعَادُ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ، وَالِاسْتِكْبَارُ وَالْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُ كَبِيرٌ، وَشَرَّهُ مُسْتَطِيرٌ، وَيَزِيدُ ضَرَاوَةَ الْبَشَرِ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَيُورِثُهُمُ الْحِقْدَ وَيُؤَرِّثُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ
227
فِي هَذَا الزَّمَانِ، حَتَّى خِيفَ أَنْ تَقْضِيَ عَلَى هَذَا الْعُمْرَانِ الْعَظِيمِ فِي وَقْتٍ قَصِيرٍ، بِمَا اسْتَحْدَثَهُ الْعِلْمُ الْوَاسِعُ مِنْ وَسَائِلِ التَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ، كَالْغَازَاتِ السَّامَّةِ وَمَوَادِّ الْهَدْمِ وَالتَّحْرِيقِ تَقْذِفُهَا الطَّيَّارَاتُ الْمُحَلِّقَةُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، عَلَى الْمَدَائِنِ الْمُكْتَظَّةِ بِالْأُلُوفِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، فَتَقْتُلُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ سَاعَاتٍ مَعْدُودَةٍ.
وَقَدْ حَارَتِ الدُّوَلُ الْحَرْبِيَّةُ فِي تَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ، وَتَرَى دَهَاقِينَ السِّيَاسَةَ فِي كُلٍّ مِنْهَا يَتَفَاوَضُونَ مَعَ أَقْرَانِهِمْ لِوَضْعِ نِظَامٍ لِتَقْرِيرِ السَّلَامِ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِ الْخِصَامِ، بِمُعَاهَدَاتٍ يَعْقِدُونَهَا، وَأَيْمَانٍ يَتَقَاسَمُونَهَا، ثُمَّ يَنْفَضُّونَ خَائِبِينَ، أَوْ يَنْقُضُونَ مَا أَبْرَمُوا مُتَأَوِّلِينَ، وَيَعُودُونَ إِلَى مِثْلِهِ مُخَادِعِينَ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ سَبَبَ هَذِهِ الْخَيْبَةِ بِمَا وَجَدْنَا مِصْدَاقَهُ فِي هَذِهِ الدُّوَلِ بِأَظْهَرِ مِمَّا كَانَ فِي عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ نَزَلَ هَذَا الْبَيَانُ فِي عَهْدِهِمْ، كَأَنَّهُ نَزَلَ فِي هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْ عَجَائِبِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ بِعَهْدِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ نَقْضِهِ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) (١٦: ٩٢) وَالْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا فِي نَقْضِ عُهُودِكُمْ وَالْعَوْدِ إِلَى تَجْدِيدِهَا كَالْمَرْأَةِ الْحَمْقَاءِ الَّتِي تَنْقُضُ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةِ إِبْرَامِهِ نَقْضَ أَنْكَاثٍ (وَهُوَ جَمْعُ نِكْثٍ بِالْكَسْرِ: مَا نُقِضَ لِيُغْزَلَ مَرَّةً أُخْرَى) حَالَ كَوْنِكُمْ تَتَّخِذُونَ عُهُودَكُمْ دَخْلًا بَيْنَكُمْ
(وَالدَّخَلُ بِالتَّحْرِيكِ الْفَسَادُ وَالْغِشُّ الْخَفِيُّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ وَمَا هُوَ مِنْهُ) لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ أُخْرَى رِجَالًا، وَأَكْثَرَ رِبْحًا وَمَالًا، وَأَقْوَى أَسِنَّةً وَنِصَالًا.
وَالْمُرَادُ: أَنَّ مُعَاهَدَاتِ الصُّلْحِ وَالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْأُمَمِ، يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا الْإِصْلَاحُ وَالْعَدْلُ وَالْمُسَاوَاةُ، فَتُبْنَى عَلَى الْإِخْلَاصِ دُونَ الدَّخَلِ وَالدَّغَلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَا ذُكِرَ.
وَلَوْ طَلَبُوا الْمَخْرَجَ وَالسَّلَامَةَ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ لَوَجَدُوهُمَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ دِينُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالسَّلَامِ، وَهَاكَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا مِنْ قَوَاعِدِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ.
(أَهَمُّ قَوَاعِدِ الْحَرْبِ وَالسَّلَامِ وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهَا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ).
قَدِ اسْتَنْبَطْنَا مِنْ آيَاتِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ ٢٨ قَاعِدَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْحَرْبِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فِي الْقِتَالِ وَالصُّلْحِ وَالْمُعَاهَدَاتِ، أَجْمَلْنَاهَا فِي الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ (١٢٥ - ١٣٠ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ) وَأَحَلْنَا فِي تَفْصِيلِهَا عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهَا، ثُمَّ اسْتَنْبَطْنَا مِنْ آيَاتِ سُورَةِ التَّوْبَةِ ١٣ قَاعِدَةً حَرْبِيَّةً أَكْثَرُهَا فِي الْمُعَاهَدَاتِ وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا وَشَرْطِ نَبْذِهَا، وَفِي الْهُدْنَةِ وَتَأْمِينِ الْحَرْبِيِّ لِلدُّخُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ - و٢٠ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْحَرْبِ وَالْجِزْيَةِ سَرَدْنَاهَا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ أَتَيْنَا بِبِضْعِ قَوَاعِدَ مِنْهُمَا وَمَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ السُّورِ فِيمَا
وَقَدْ حَارَتِ الدُّوَلُ الْحَرْبِيَّةُ فِي تَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ، وَتَرَى دَهَاقِينَ السِّيَاسَةَ فِي كُلٍّ مِنْهَا يَتَفَاوَضُونَ مَعَ أَقْرَانِهِمْ لِوَضْعِ نِظَامٍ لِتَقْرِيرِ السَّلَامِ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِ الْخِصَامِ، بِمُعَاهَدَاتٍ يَعْقِدُونَهَا، وَأَيْمَانٍ يَتَقَاسَمُونَهَا، ثُمَّ يَنْفَضُّونَ خَائِبِينَ، أَوْ يَنْقُضُونَ مَا أَبْرَمُوا مُتَأَوِّلِينَ، وَيَعُودُونَ إِلَى مِثْلِهِ مُخَادِعِينَ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ سَبَبَ هَذِهِ الْخَيْبَةِ بِمَا وَجَدْنَا مِصْدَاقَهُ فِي هَذِهِ الدُّوَلِ بِأَظْهَرِ مِمَّا كَانَ فِي عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ نَزَلَ هَذَا الْبَيَانُ فِي عَهْدِهِمْ، كَأَنَّهُ نَزَلَ فِي هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْ عَجَائِبِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ بِعَهْدِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ نَقْضِهِ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) (١٦: ٩٢) وَالْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا فِي نَقْضِ عُهُودِكُمْ وَالْعَوْدِ إِلَى تَجْدِيدِهَا كَالْمَرْأَةِ الْحَمْقَاءِ الَّتِي تَنْقُضُ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةِ إِبْرَامِهِ نَقْضَ أَنْكَاثٍ (وَهُوَ جَمْعُ نِكْثٍ بِالْكَسْرِ: مَا نُقِضَ لِيُغْزَلَ مَرَّةً أُخْرَى) حَالَ كَوْنِكُمْ تَتَّخِذُونَ عُهُودَكُمْ دَخْلًا بَيْنَكُمْ
(وَالدَّخَلُ بِالتَّحْرِيكِ الْفَسَادُ وَالْغِشُّ الْخَفِيُّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ وَمَا هُوَ مِنْهُ) لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ أُخْرَى رِجَالًا، وَأَكْثَرَ رِبْحًا وَمَالًا، وَأَقْوَى أَسِنَّةً وَنِصَالًا.
وَالْمُرَادُ: أَنَّ مُعَاهَدَاتِ الصُّلْحِ وَالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْأُمَمِ، يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا الْإِصْلَاحُ وَالْعَدْلُ وَالْمُسَاوَاةُ، فَتُبْنَى عَلَى الْإِخْلَاصِ دُونَ الدَّخَلِ وَالدَّغَلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَا ذُكِرَ.
وَلَوْ طَلَبُوا الْمَخْرَجَ وَالسَّلَامَةَ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ لَوَجَدُوهُمَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ دِينُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالسَّلَامِ، وَهَاكَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا مِنْ قَوَاعِدِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ.
(أَهَمُّ قَوَاعِدِ الْحَرْبِ وَالسَّلَامِ وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهَا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ).
قَدِ اسْتَنْبَطْنَا مِنْ آيَاتِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ ٢٨ قَاعِدَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْحَرْبِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فِي الْقِتَالِ وَالصُّلْحِ وَالْمُعَاهَدَاتِ، أَجْمَلْنَاهَا فِي الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ (١٢٥ - ١٣٠ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ) وَأَحَلْنَا فِي تَفْصِيلِهَا عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهَا، ثُمَّ اسْتَنْبَطْنَا مِنْ آيَاتِ سُورَةِ التَّوْبَةِ ١٣ قَاعِدَةً حَرْبِيَّةً أَكْثَرُهَا فِي الْمُعَاهَدَاتِ وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا وَشَرْطِ نَبْذِهَا، وَفِي الْهُدْنَةِ وَتَأْمِينِ الْحَرْبِيِّ لِلدُّخُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ - و٢٠ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْحَرْبِ وَالْجِزْيَةِ سَرَدْنَاهَا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ أَتَيْنَا بِبِضْعِ قَوَاعِدَ مِنْهُمَا وَمَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ السُّورِ فِيمَا
228
أَفْرَدْنَاهُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ الْمُحَمَّلَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الْإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِيِّ مِنَ الْقُرْآنِ، لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الْعُلُومِ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مِنْ آرَاءِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، الَّذِي عَاشَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ عِيشَةَ الْعُزْلَةِ وَالِانْفِرَادِ، إِلَّا قَلِيلًا مِنْ رَعْيِ الْغَنَمِ فِي الصِّبَا وَالتِّجَارَةِ فِي الشَّبَابِ، وَقَدْ قَصَّرَتْ عَنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا كُتُبُ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ، وَكُتُبُ الْحِكْمَةِ وَالْقَوَانِينِ الْبَشَرِيَّةِ.
(الْقَاعِدَةُ الْأَوْلَى فِي الْحَرْبِ الْمَفْرُوضَةِ شَرْعًا)
وَرَدَ الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْمُعْتَدِّينَ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَتَوْطِيدِ الْمَصَالِحِ، مُقْتَرِنًا بِالنَّهْيِ عَنْ قِتَالِ الِاعْتِدَاءِ وَالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٢: ١٩٠) وَتَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنْ قِتَالِ الِاعْتِدَاءِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ مُطْلَقًا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ مُحْكَمٌ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّسَخِ، وَمِنْ ثَمَّ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي أَنَّ حُرُوبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْكُفَّارِ كَانَتْ كُلُّهَا دِفَاعًا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْعُدْوَانِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْغَرَضِ مِنَ الْحَرْبِ وَنَتِيجَتِهَا)
وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ الْإِيجَابِيَّةُ مِنَ الْقِتَالِ - بَعْدَ دَفْعِ الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ وَاسْتِتْبَابِ الْأَمْنِ - حِمَايَةَ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَعِبَادَةَ الْمُسْلِمِينَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَمَصْلَحَةَ الْبَشَرِ، وَإِسْدَاءَ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، لَا الِاسْتِعْلَاءَ عَلَيْهِمْ وَالظُّلْمَ لَهُمْ، وَالشَّاهِدُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ الْإِذْنِ الْأَوَّلِ بِالْقِتَالِ الدِّفَاعِيِّ لِلْمَظْلُومِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَجْلِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٢٢: ٤٠ و٤١).
ذَكَرَ فِي تَعْلِيلِ إِذْنِهِ لَهُمْ بِالْقِتَالِ الْمَذْكُورِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ.
(أَوَّلُهَا) كَوْنُهُمْ مَظْلُومِينَ مُعْتَدًى عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمُخْرَجِينَ نَفْيًا مِنْ أَوْطَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَهَذَا سَبَبٌ خَاصٌّ بِهِمْ بِقِسْمَيْهِ الشَّخْصِيِّ وَالْوَطَنِيِّ، أَوِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ.
(ثَانِيهَا) أَنَّهُ لَوْلَا إِذْنُ اللهِ لِلنَّاسِ بِمِثْلِ هَذَا الدِّفَاعِ، لَهُدِّمَتْ جَمِيعُ الْمَعَابِدِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا اسْمَ اللهِ تَعَالَى أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ، كَصَوَامِعِ الْعِبَادِ وَبِيَعِ النَّصَارَى وَصَلَوَاتِ الْيَهُودِ
(كَنَائِسِهِمَا) وَمَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ بِظُلْمِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَمُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا سَبَبٌ دِينِيٌّ عَامٌّ صَرِيحٌ فِي حُرِّيَّةِ الدِّينِ فِي الْإِسْلَامِ وَحِمَايَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا وَلِمَعَابِدِ أَهْلِهَا وَكَذَلِكَ كَانَ.
(الْقَاعِدَةُ الْأَوْلَى فِي الْحَرْبِ الْمَفْرُوضَةِ شَرْعًا)
وَرَدَ الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْمُعْتَدِّينَ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَتَوْطِيدِ الْمَصَالِحِ، مُقْتَرِنًا بِالنَّهْيِ عَنْ قِتَالِ الِاعْتِدَاءِ وَالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٢: ١٩٠) وَتَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنْ قِتَالِ الِاعْتِدَاءِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ مُطْلَقًا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ مُحْكَمٌ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّسَخِ، وَمِنْ ثَمَّ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي أَنَّ حُرُوبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْكُفَّارِ كَانَتْ كُلُّهَا دِفَاعًا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْعُدْوَانِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْغَرَضِ مِنَ الْحَرْبِ وَنَتِيجَتِهَا)
وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ الْإِيجَابِيَّةُ مِنَ الْقِتَالِ - بَعْدَ دَفْعِ الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ وَاسْتِتْبَابِ الْأَمْنِ - حِمَايَةَ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَعِبَادَةَ الْمُسْلِمِينَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَمَصْلَحَةَ الْبَشَرِ، وَإِسْدَاءَ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، لَا الِاسْتِعْلَاءَ عَلَيْهِمْ وَالظُّلْمَ لَهُمْ، وَالشَّاهِدُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ الْإِذْنِ الْأَوَّلِ بِالْقِتَالِ الدِّفَاعِيِّ لِلْمَظْلُومِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَجْلِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٢٢: ٤٠ و٤١).
ذَكَرَ فِي تَعْلِيلِ إِذْنِهِ لَهُمْ بِالْقِتَالِ الْمَذْكُورِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ.
(أَوَّلُهَا) كَوْنُهُمْ مَظْلُومِينَ مُعْتَدًى عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمُخْرَجِينَ نَفْيًا مِنْ أَوْطَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَهَذَا سَبَبٌ خَاصٌّ بِهِمْ بِقِسْمَيْهِ الشَّخْصِيِّ وَالْوَطَنِيِّ، أَوِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ.
(ثَانِيهَا) أَنَّهُ لَوْلَا إِذْنُ اللهِ لِلنَّاسِ بِمِثْلِ هَذَا الدِّفَاعِ، لَهُدِّمَتْ جَمِيعُ الْمَعَابِدِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا اسْمَ اللهِ تَعَالَى أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ، كَصَوَامِعِ الْعِبَادِ وَبِيَعِ النَّصَارَى وَصَلَوَاتِ الْيَهُودِ
(كَنَائِسِهِمَا) وَمَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ بِظُلْمِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَمُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا سَبَبٌ دِينِيٌّ عَامٌّ صَرِيحٌ فِي حُرِّيَّةِ الدِّينِ فِي الْإِسْلَامِ وَحِمَايَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا وَلِمَعَابِدِ أَهْلِهَا وَكَذَلِكَ كَانَ.
229
(ثَالِثُهَا) أَنْ يَكُونَ غَرَضَهُمْ مِنَ التَّمَكُّنِ فِي الْأَرْضِ وَالْحُكْمِ فِيهَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ الْمُزَكِّيَةِ لِلْأَنْفُسِ بِنَهْيِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا وَصَفَهَا تَعَالَى، وَالْمُرَبِّيَةِ لِلْأَنْفُسِ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ وَخَشْيَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الْمُصْلِحَةِ لِلْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالِاقْتِصَادِيَّةِ - وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الشَّامِلِ لِكُلِّ خَيْرٍ وَنَفْعٍ لِلنَّاسِ - وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الشَّامِلِ لِكُلِّ شَرٍّ وَضُرٍّ يَلْحَقُ صَاحِبَهُ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ إِيثَارُ السَّلْمِ عَلَى الْحَرْبِ)
هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَاعِدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا إِذَا عُلِمَ بِهِمَا أَنَّ الْحَرْبَ ضَرُورَةٌ يَقْتَضِيهَا مَا ذُكِرَ فِيهِمَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَأَنَّ السَّلْمَ هِي الْأَصْلُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا النَّاسُ؛ فَلِهَذَا أَمَرَنَا اللهُ بِإِيثَارِهَا عَلَى الْحَرْبِ إِذَا جَنَحَ الْعَدُوُّ لَهَا، وَرَضِيَ بِهَا، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٨: ٦١) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص ٥٩، ١٢٦ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ.
(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ الِاسْتِعْدَادُ التَّامُّ لِلْحَرْبِ لِأَجْلِ الْإِرْهَابِ الْمَانِعِ مِنْهَا)
إِنَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الدَّوْلَةُ قَبْلَ الْحَرْبِ، هُوَ إِعْدَادُ الْأُمَّةِ كُلَّ مَا تَسْتَطِيعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِحَسْبِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنْ ذَلِكَ إِرْهَابُ الْأَعْدَاءِ وَإِخَافَتُهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ التَّعَدِّي عَلَى بِلَادِ الْأُمَّةِ أَوْ مَصَالِحِهَا، أَوْ عَلَى أَفْرَادٍ مِنْهَا أَوْ مَتَاعٍ لَهَا حَتَّى فِي غَيْرِ بِلَادِهَا؛ لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ آمِنَةً فِي عُقْرِ دَارِهَا، مُطَمْئِنَةً عَلَى أَهْلِهَا وَمَصَالِحِهَا وَأَمْوَالِهَا، وَهَذَا يُسَمَّى فِي
عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالسِّلْمِ الْمُسَلَّحَةِ أَوِ التَّسْلِيحِ السِّلْمِيِّ، وَتَدَّعِيهِ الدُّوَلُ الْعَسْكَرِيَّةُ فِيهِ زُورًا وَخِدَاعًا فَتُكَذِّبُهَا أَعْمَالُهَا، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ امْتَازَ عَلَى الشَّرَائِعِ كُلِّهَا بِأَنْ جَعْلَهُ دِينًا مَفْرُوضًا، فَقَيَّدَ بِهِ الْأَمْرَ بِإِعْدَادِ الْقُوَى وَالْمُرَابَطَةِ لِلْقِتَالِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (٨: ٦٠).
(الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ الرَّحْمَةُ فِي الْحَرْبِ)
إِذَا كَانَ الْغَلَبُ وَالرُّجْحَانُ فِي الْقِتَالِ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُعَبَّرِ بِالْإِثْخَانِ فِي الْأَعْدَاءِ، وَأَمِنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ظُهُورَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ، فَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنِ الْقَتْلِ، وَيَكْتَفُوا بِالْأَسْرِ، ثُمَّ يُخْبِرُهُمْ فِي الْأُسَارَى إِمَّا بِالْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِإِطْلَاقِهِمْ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ، وَإِمَّا بِأَخْذِ الْفِدَاءِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (٤٧: ٤) الْآيَةَ. وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا وَبَيَّنَّا مَعْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (٨: ٦٧) الْآيَةَ: (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص ٧٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ إِيثَارُ السَّلْمِ عَلَى الْحَرْبِ)
هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَاعِدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا إِذَا عُلِمَ بِهِمَا أَنَّ الْحَرْبَ ضَرُورَةٌ يَقْتَضِيهَا مَا ذُكِرَ فِيهِمَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَأَنَّ السَّلْمَ هِي الْأَصْلُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا النَّاسُ؛ فَلِهَذَا أَمَرَنَا اللهُ بِإِيثَارِهَا عَلَى الْحَرْبِ إِذَا جَنَحَ الْعَدُوُّ لَهَا، وَرَضِيَ بِهَا، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٨: ٦١) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص ٥٩، ١٢٦ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ.
(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ الِاسْتِعْدَادُ التَّامُّ لِلْحَرْبِ لِأَجْلِ الْإِرْهَابِ الْمَانِعِ مِنْهَا)
إِنَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الدَّوْلَةُ قَبْلَ الْحَرْبِ، هُوَ إِعْدَادُ الْأُمَّةِ كُلَّ مَا تَسْتَطِيعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِحَسْبِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنْ ذَلِكَ إِرْهَابُ الْأَعْدَاءِ وَإِخَافَتُهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ التَّعَدِّي عَلَى بِلَادِ الْأُمَّةِ أَوْ مَصَالِحِهَا، أَوْ عَلَى أَفْرَادٍ مِنْهَا أَوْ مَتَاعٍ لَهَا حَتَّى فِي غَيْرِ بِلَادِهَا؛ لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ آمِنَةً فِي عُقْرِ دَارِهَا، مُطَمْئِنَةً عَلَى أَهْلِهَا وَمَصَالِحِهَا وَأَمْوَالِهَا، وَهَذَا يُسَمَّى فِي
عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالسِّلْمِ الْمُسَلَّحَةِ أَوِ التَّسْلِيحِ السِّلْمِيِّ، وَتَدَّعِيهِ الدُّوَلُ الْعَسْكَرِيَّةُ فِيهِ زُورًا وَخِدَاعًا فَتُكَذِّبُهَا أَعْمَالُهَا، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ امْتَازَ عَلَى الشَّرَائِعِ كُلِّهَا بِأَنْ جَعْلَهُ دِينًا مَفْرُوضًا، فَقَيَّدَ بِهِ الْأَمْرَ بِإِعْدَادِ الْقُوَى وَالْمُرَابَطَةِ لِلْقِتَالِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (٨: ٦٠).
(الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ الرَّحْمَةُ فِي الْحَرْبِ)
إِذَا كَانَ الْغَلَبُ وَالرُّجْحَانُ فِي الْقِتَالِ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُعَبَّرِ بِالْإِثْخَانِ فِي الْأَعْدَاءِ، وَأَمِنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ظُهُورَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ، فَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنِ الْقَتْلِ، وَيَكْتَفُوا بِالْأَسْرِ، ثُمَّ يُخْبِرُهُمْ فِي الْأُسَارَى إِمَّا بِالْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِإِطْلَاقِهِمْ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ، وَإِمَّا بِأَخْذِ الْفِدَاءِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (٤٧: ٤) الْآيَةَ. وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا وَبَيَّنَّا مَعْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (٨: ٦٧) الْآيَةَ: (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص ٧٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
230
(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ الْوَفَاءُ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَتَحْرِيمُ الْخِيَانَةِ فِيهَا)
وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ وَتَحْرِيمُ الْخِيَانَةِ فِيهِمَا سِرًّا أَوَ جَهْرًا، كَتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ مَادِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ، كِلَاهُمَا مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ مُحْكَمَةٌ لَا تَدَعُ مَجَالًا لِإِبَاحَةِ نَقْضِ الْعَهْدِ بِالْخِيَانَةِ فِيهِ وَقْتَ الْقُوَّةِ، وَعَدِّهِ قُصَاصَةَ وَرَقٍ عِنْدَ إِمْكَانِ نَقْضِهِ بِالْحِيلَةِ (مِنْهَا) وَالْآيَاتُ فِيهَا كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ أَهَمُّهَا فِي الْجُزْءِ الْعَاشِرِ مِنَ التَّفْسِيرِ.
(الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ الْجِزْيَةُ وَكَوْنُهَا غَايَةً لِلْقِتَالِ لَا عِلَّةً)
قُلْتُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ آيَةِ الْجِزْيَةِ: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (٩: ٢٩) مَا نَصُّهُ:
هَذِهِ غَايَةٌ لِلْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَنْتَهِي بِهَا إِذَا كَانَ الْغَلَبُ لَنَا، أَيْ قَالُوا مَنْ ذُكِرَ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِتَالِ، كَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْكُمْ أَوْ عَلَى بِلَادِكُمْ أَوِ اضْطِهَادِكُمْ وَفِتْنَتِكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أَوْ تَهْدِيدِ أَمْنِكُمْ وَسَلَامَتِكُمْ كَمَا فَعَلَ الرُّومُ فَكَانَ سَبَبًا لِغَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى تَأْمَنُوا عُدْوَانَهُمْ بِإِعْطَائِكُمُ الْجِزْيَةَ فِي الْحَالَيْنِ اللَّذَيْنِ قُيِّدَتْ بِهِمَا. (ثُمَّ قُلْتُ) :
هَذَا - وَإِنَّ الْجِزْيَةَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ تَكُنْ كَالضَّرَائِبِ الَّتِي يَضَعُهَا الْفَاتِحُونَ عَلَى مَنْ يَتَغَلَّبُونَ عَلَيْهِمْ فَضْلًا عَنِ الْمَغَارِمِ الَّتِي يُرْهِقُونَهُمْ بِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ جَزَاءٌ قَلِيلٌ عَلَى مَا تَلْتَزِمُهُ الْحُكُومَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِعَانَةٌ لِلْجُنْدِ الَّذِي يَمْنَعُهُمْ أَيْ يَحْمِيهِمْ مِمَّنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِمْ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سِيرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَأَعْدَلُهُمْ فِي تَنْفِيذِهَا. وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ أَوْرَدْنَا طَائِفَةً مِنْهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقِ الْإِسْلَامَ إِلَى مِثْلِهَا دِينٌ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَلَا قَانُونٌ دَوْلِيٌّ، وَلَا إِرْشَادٌ فَلْسَفِيٌّ أَوْ أَدَبِيٌّ، وَلَا تَبِعَتْهُ بِهَا أُمَّةٌ بِتَشْرِيعٍ وَلَا عَمَلٍ، أَفَلَيَسَ هَذَا وَحْدَهُ دَلِيلًا وَاضِحًا لَدَى مَنْ يُؤْمِنُ بِوُجُوبِ رَبٍّ لِلْبَشَرِ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، بِأَنَّ مُحَمَّدًا الْعَرَبِيَّ الْأُمِّيَّ قَدِ اسْتَمَدَّهَا بِوَحْيٍ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ عَقْلَهُ وَذَكَاءَهُ لَمْ يَكُنْ لِيَبْلُغَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ الْمُعْضِلَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بِدُونِ هَذَا الْوَحْيِ؟ فَكَيْفَ إِذَا أَضَفْنَا إِلَيْهَا مَا تَقَدَّمَ وَمَا يَأْتِي مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَنْبَاءِ الْغَيْبِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ !.
وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ وَتَحْرِيمُ الْخِيَانَةِ فِيهِمَا سِرًّا أَوَ جَهْرًا، كَتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ مَادِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ، كِلَاهُمَا مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ مُحْكَمَةٌ لَا تَدَعُ مَجَالًا لِإِبَاحَةِ نَقْضِ الْعَهْدِ بِالْخِيَانَةِ فِيهِ وَقْتَ الْقُوَّةِ، وَعَدِّهِ قُصَاصَةَ وَرَقٍ عِنْدَ إِمْكَانِ نَقْضِهِ بِالْحِيلَةِ (مِنْهَا) وَالْآيَاتُ فِيهَا كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ أَهَمُّهَا فِي الْجُزْءِ الْعَاشِرِ مِنَ التَّفْسِيرِ.
(الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ الْجِزْيَةُ وَكَوْنُهَا غَايَةً لِلْقِتَالِ لَا عِلَّةً)
قُلْتُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ آيَةِ الْجِزْيَةِ: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (٩: ٢٩) مَا نَصُّهُ:
هَذِهِ غَايَةٌ لِلْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَنْتَهِي بِهَا إِذَا كَانَ الْغَلَبُ لَنَا، أَيْ قَالُوا مَنْ ذُكِرَ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِتَالِ، كَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْكُمْ أَوْ عَلَى بِلَادِكُمْ أَوِ اضْطِهَادِكُمْ وَفِتْنَتِكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أَوْ تَهْدِيدِ أَمْنِكُمْ وَسَلَامَتِكُمْ كَمَا فَعَلَ الرُّومُ فَكَانَ سَبَبًا لِغَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى تَأْمَنُوا عُدْوَانَهُمْ بِإِعْطَائِكُمُ الْجِزْيَةَ فِي الْحَالَيْنِ اللَّذَيْنِ قُيِّدَتْ بِهِمَا. (ثُمَّ قُلْتُ) :
هَذَا - وَإِنَّ الْجِزْيَةَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ تَكُنْ كَالضَّرَائِبِ الَّتِي يَضَعُهَا الْفَاتِحُونَ عَلَى مَنْ يَتَغَلَّبُونَ عَلَيْهِمْ فَضْلًا عَنِ الْمَغَارِمِ الَّتِي يُرْهِقُونَهُمْ بِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ جَزَاءٌ قَلِيلٌ عَلَى مَا تَلْتَزِمُهُ الْحُكُومَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِعَانَةٌ لِلْجُنْدِ الَّذِي يَمْنَعُهُمْ أَيْ يَحْمِيهِمْ مِمَّنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِمْ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سِيرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَأَعْدَلُهُمْ فِي تَنْفِيذِهَا. وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ أَوْرَدْنَا طَائِفَةً مِنْهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقِ الْإِسْلَامَ إِلَى مِثْلِهَا دِينٌ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَلَا قَانُونٌ دَوْلِيٌّ، وَلَا إِرْشَادٌ فَلْسَفِيٌّ أَوْ أَدَبِيٌّ، وَلَا تَبِعَتْهُ بِهَا أُمَّةٌ بِتَشْرِيعٍ وَلَا عَمَلٍ، أَفَلَيَسَ هَذَا وَحْدَهُ دَلِيلًا وَاضِحًا لَدَى مَنْ يُؤْمِنُ بِوُجُوبِ رَبٍّ لِلْبَشَرِ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، بِأَنَّ مُحَمَّدًا الْعَرَبِيَّ الْأُمِّيَّ قَدِ اسْتَمَدَّهَا بِوَحْيٍ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ عَقْلَهُ وَذَكَاءَهُ لَمْ يَكُنْ لِيَبْلُغَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ الْمُعْضِلَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بِدُونِ هَذَا الْوَحْيِ؟ فَكَيْفَ إِذَا أَضَفْنَا إِلَيْهَا مَا تَقَدَّمَ وَمَا يَأْتِي مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَنْبَاءِ الْغَيْبِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ !.
231
الْمَقْصِدُ التَّاسِعُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ
(إِعْطَاءُ النِّسَاءِ جَمِيعَ الْحُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ)
كَانَ النِّسَاءُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَظْلُومَاتٍ مُمْتَهَنَاتٍ مُسْتَعْبَدَاتٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَفِي جَمِيعِ شَرَائِعِهَا وَقَوَانِينِهَا، حَتَّى عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَأَكْمَلَ اللهُ دِينَهُ بِبِعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فَأَعْطَى اللهُ النِّسَاءَ بِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، وَبِسُنَنِهِ الَّتِي بَيَّنَ بِهَا كِتَابَ اللهِ تَعَالَى بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، جَمِيعَ الْحُقُوقِ الَّتِي أَعْطَاهَا لِلرِّجَالِ، إِلَّا مَا يَقْتَضِيهِ اخْتِلَافُ طَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ وَوَظَائِفُهَا النِّسَوِيَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ، مَعَ مُرَاعَاةِ تَكْرِيمِهَا وَالرَّحْمَةِ بِهَا وَالْعَطْفِ عَلَيْهَا، حَتَّى كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ((مَا أَكْرَمَ النِّسَاءَ إِلَّا كَرِيمٌ، وَلَا أَهَانَهُنَّ إِلَّا لَئِيمٌ)) رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَإِنَّنِي أُشِيرُ هُنَا إِلَى أَهَمِّ أُصُولِ الْإِصْلَاحِ النِّسَوِيِّ الَّتِي بَسَطْتُهَا بِكِتَابٍ وَسِيطٍ فِي ((حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ)) بَيَّنْتُ فِي مُقَدِّمَتِهِ حَالَهُنَّ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عِنْدَ أُمَمِ الْأَرْضِ إِجْمَالًا بِقَوْلِي: ((كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُشْتَرَى وَتُبَاعُ، كَالْبَهِيمَةِ وَالْمَتَاعِ، وَكَانَتْ تُكْرَهُ عَلَى الزَّوَاجِ وَعَلَى الْبِغَاءِ، وَكَانَتْ تُورَثُ وَلَا تَرِثُ، وَكَانَتْ تُمْلَكُ وَلَا تَمْلِكُ، وَكَانَ أَكْثَرُ الَّذِينَ يَمْلِكُونَهَا يَحْجُرُونَ عَلَيْهَا التَّصَرُّفَ فِيمَا تَمْلِكُهُ بِدُونِ إِذْنِ الرَّجُلِ، وَكَانُوا يَرَوْنَ لِلزَّوْجِ الْحَقَّ فِي التَّصَرُّفِ بِمَالِهَا مِنْ دُونِهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الرِّجَالُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فِي كَوْنِهَا إِنْسَانًا ذَا نَفْسٍ وَرُوحٍ خَالِدَةٍ كَالرَّجُلِ أَمْ لَا؟ وَفِي كَوْنِهَا تُلَقَّنُ الدِّينَ وَتَصِحُّ مِنْهَا الْعِبَادَةُ أَمْ لَا؟ وَفِي كَوْنِهَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوِ الْمَلَكُوتَ فِي الْآخِرَةِ أَمْ لَا؟ فَقَرَّرَ أَحَدُ الْمَجَامِعِ فِي رُومِيَّةَ أَنَّهَا حَيَوَانٌ نَجِسٌ لَا رُوحَ لَهُ وَلَا خُلُودَ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِبَادَةُ وَالْخِدْمَةُ، وَأَنْ يُكَمَّ فَمُهَا كَالْبَعِيرِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ لِمَنْعِهَا مِنَ الضَّحِكِ وَالْكَلَامِ، لِأَنَّهَا أُحْبُولَةُ الشَّيْطَانِ، وَكَانَتْ أَعْظَمُ الشَّرَائِعِ تُبِيحُ لِلْوَالِدِ بَيْعَ ابْنَتِهِ، وَكَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَرَوْنَ أَنَّ لِلْأَبِ الْحَقَّ فِي قَتْلِ بِنْتِهِ بَلْ فِي وَأْدِهَا - دَفْنِهَا حَيَّةً - أَيْضًا. وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الرَّجُلِ فِي قَتْلِ الْمَرْأَةِ وَلَا دِيَةَ)).
وَكَتَبْتُ فِي مُقَدِّمَةِ الْكَلَامِ عَلَى حُقُوقِ النِّسَاءِ الْمَالِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مَا مُخْتَصَرُهُ:
((قَدْ أَبْطَلَ الْإِسْلَامُ كُلَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ مِنْ حِرْمَانِ النِّسَاءِ مِنَ التَّمَلُّكِ أَوِ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِنَّ فِي التَّصَرُّفِ بِمَا يَمْلِكْنَ، وَاسْتِبْدَادَ أَزْوَاجِ الْمُتَزَوِّجَاتِ مِنْهُنَّ بِأَمْوَالِهِنَّ، فَأَثْبَتَ لَهُنَّ حَقَّ الْمِلْكِ بِأَنْوَاعِهِ وَالتَّصَرُّفَ بِأَنْوَاعِهِ الْمَشْرُوعَةِ، فَشَرَعَ الْوَصِيَّةَ وَالْإِرْثَ لَهُنَّ كَالرِّجَالِ، وَزَادَهُنَّ مَا فُرِضَ لَهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ مَهْرِ الزَّوْجِيَّةِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَأَوْلَادِهَا وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً، وَأَعْطَاهُنَّ حَقَّ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَيَتْبَعُ ذَلِكَ حُقُوقُ الدِّفَاعِ عَنْ مَالِهَا كَالدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهَا بِالتَّقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَرَنْسِيَّةَ لَا تَزَالُ إِلَى الْيَوْمِ مُقَيَّدَةٌ بِإِرَادَةِ زَوْجِهَا فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْعُقُودِ الْقَضَائِيَّةِ))
(إِعْطَاءُ النِّسَاءِ جَمِيعَ الْحُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ)
كَانَ النِّسَاءُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَظْلُومَاتٍ مُمْتَهَنَاتٍ مُسْتَعْبَدَاتٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَفِي جَمِيعِ شَرَائِعِهَا وَقَوَانِينِهَا، حَتَّى عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَأَكْمَلَ اللهُ دِينَهُ بِبِعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فَأَعْطَى اللهُ النِّسَاءَ بِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، وَبِسُنَنِهِ الَّتِي بَيَّنَ بِهَا كِتَابَ اللهِ تَعَالَى بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، جَمِيعَ الْحُقُوقِ الَّتِي أَعْطَاهَا لِلرِّجَالِ، إِلَّا مَا يَقْتَضِيهِ اخْتِلَافُ طَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ وَوَظَائِفُهَا النِّسَوِيَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ، مَعَ مُرَاعَاةِ تَكْرِيمِهَا وَالرَّحْمَةِ بِهَا وَالْعَطْفِ عَلَيْهَا، حَتَّى كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ((مَا أَكْرَمَ النِّسَاءَ إِلَّا كَرِيمٌ، وَلَا أَهَانَهُنَّ إِلَّا لَئِيمٌ)) رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَإِنَّنِي أُشِيرُ هُنَا إِلَى أَهَمِّ أُصُولِ الْإِصْلَاحِ النِّسَوِيِّ الَّتِي بَسَطْتُهَا بِكِتَابٍ وَسِيطٍ فِي ((حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ)) بَيَّنْتُ فِي مُقَدِّمَتِهِ حَالَهُنَّ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عِنْدَ أُمَمِ الْأَرْضِ إِجْمَالًا بِقَوْلِي: ((كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُشْتَرَى وَتُبَاعُ، كَالْبَهِيمَةِ وَالْمَتَاعِ، وَكَانَتْ تُكْرَهُ عَلَى الزَّوَاجِ وَعَلَى الْبِغَاءِ، وَكَانَتْ تُورَثُ وَلَا تَرِثُ، وَكَانَتْ تُمْلَكُ وَلَا تَمْلِكُ، وَكَانَ أَكْثَرُ الَّذِينَ يَمْلِكُونَهَا يَحْجُرُونَ عَلَيْهَا التَّصَرُّفَ فِيمَا تَمْلِكُهُ بِدُونِ إِذْنِ الرَّجُلِ، وَكَانُوا يَرَوْنَ لِلزَّوْجِ الْحَقَّ فِي التَّصَرُّفِ بِمَالِهَا مِنْ دُونِهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الرِّجَالُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فِي كَوْنِهَا إِنْسَانًا ذَا نَفْسٍ وَرُوحٍ خَالِدَةٍ كَالرَّجُلِ أَمْ لَا؟ وَفِي كَوْنِهَا تُلَقَّنُ الدِّينَ وَتَصِحُّ مِنْهَا الْعِبَادَةُ أَمْ لَا؟ وَفِي كَوْنِهَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوِ الْمَلَكُوتَ فِي الْآخِرَةِ أَمْ لَا؟ فَقَرَّرَ أَحَدُ الْمَجَامِعِ فِي رُومِيَّةَ أَنَّهَا حَيَوَانٌ نَجِسٌ لَا رُوحَ لَهُ وَلَا خُلُودَ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِبَادَةُ وَالْخِدْمَةُ، وَأَنْ يُكَمَّ فَمُهَا كَالْبَعِيرِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ لِمَنْعِهَا مِنَ الضَّحِكِ وَالْكَلَامِ، لِأَنَّهَا أُحْبُولَةُ الشَّيْطَانِ، وَكَانَتْ أَعْظَمُ الشَّرَائِعِ تُبِيحُ لِلْوَالِدِ بَيْعَ ابْنَتِهِ، وَكَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَرَوْنَ أَنَّ لِلْأَبِ الْحَقَّ فِي قَتْلِ بِنْتِهِ بَلْ فِي وَأْدِهَا - دَفْنِهَا حَيَّةً - أَيْضًا. وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الرَّجُلِ فِي قَتْلِ الْمَرْأَةِ وَلَا دِيَةَ)).
وَكَتَبْتُ فِي مُقَدِّمَةِ الْكَلَامِ عَلَى حُقُوقِ النِّسَاءِ الْمَالِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مَا مُخْتَصَرُهُ:
((قَدْ أَبْطَلَ الْإِسْلَامُ كُلَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ مِنْ حِرْمَانِ النِّسَاءِ مِنَ التَّمَلُّكِ أَوِ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِنَّ فِي التَّصَرُّفِ بِمَا يَمْلِكْنَ، وَاسْتِبْدَادَ أَزْوَاجِ الْمُتَزَوِّجَاتِ مِنْهُنَّ بِأَمْوَالِهِنَّ، فَأَثْبَتَ لَهُنَّ حَقَّ الْمِلْكِ بِأَنْوَاعِهِ وَالتَّصَرُّفَ بِأَنْوَاعِهِ الْمَشْرُوعَةِ، فَشَرَعَ الْوَصِيَّةَ وَالْإِرْثَ لَهُنَّ كَالرِّجَالِ، وَزَادَهُنَّ مَا فُرِضَ لَهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ مَهْرِ الزَّوْجِيَّةِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَأَوْلَادِهَا وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً، وَأَعْطَاهُنَّ حَقَّ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَيَتْبَعُ ذَلِكَ حُقُوقُ الدِّفَاعِ عَنْ مَالِهَا كَالدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهَا بِالتَّقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَرَنْسِيَّةَ لَا تَزَالُ إِلَى الْيَوْمِ مُقَيَّدَةٌ بِإِرَادَةِ زَوْجِهَا فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْعُقُودِ الْقَضَائِيَّةِ))
232
وَإِنَّنِي أُلَخِّصُ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ الْمَسَائِلَ الْآتِيَةَ بِالْإِيجَازِ:
(١) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ يَعُدُّونَ الْمَرْأَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ أَوْ مِنَ الشَّيَاطِينِ لَا مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَبَعْضُهُمْ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ، فَجَاءَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتْلُو عَلَيْهِمْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) (٤٩: ١٣) الْآيَةَ: وَقَوْلَهُ: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً (٤: ١) وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
(٢) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ فِي أُورُبَّةَ وَغَيْرِهَا يَرَوْنَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهَا دِينٌ، حَتَّى كَانُوا يُحَرِّمُونَ عَلَيْهَا قِرَاءَةَ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ رَسْمِيًّا، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ يُخَاطِبُ بِالتَّكَالِيفِ الدِّينِيَّةِ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ مَعًا بِلَقَبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ.
كَانَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً، وَهِيَ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى مُبَايَعَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنِّسَاءِ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ ثُمَّ بَايَعَ الرِّجَالَ بِمَا جَاءَ فِيهَا، وَلَمَّا جُمِعَ الْقُرْآنُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ جَمْعًا رَسْمِيًّا وُضِعَ عِنْدَ امْرَأَةٍ هِيَ حَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَظَلَّ عِنْدَهَا مِنْ عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الْأَوَّلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الثَّالِثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - فَأُخِذَ مِنْ عِنْدِهَا وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهِ فِي نُسَخِ الْمَصَاحِفِ الرَّسْمِيَّةِ الَّتِي كُتِبَتْ وَأُرْسِلَتْ إِلَى الْأَمْصَارِ لِأَجْلِ النَّسْخِ عَنْهَا وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا.
(٣) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا رُوحٌ خَالِدَةٌ فَتَكُونَ مَعَ الرِّجَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَنَّةِ النَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ - وَهَذَا الزَّعْمُ أَصْلٌ لِعَدَمِ تَدَيُّنِهَا -
فَنَزَلَ الْقُرْآنُ يَقُولُ: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مَنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (٤: ١٢٣ و١٢٤) وَيَقُولُ: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (٣: ١٩٥) الْآيَةَ. وَفِيهَا الْوَعْدُ الصَّرِيحُ بِدُخُولِ الْفَرِيقَيْنِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
(٤) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ يَحْتَقِرُونَ الْمَرْأَةَ فَلَا يَعُدُّونَهَا أَهْلًا لِلِاشْتِرَاكِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَعَابِدِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَحَافِلِ الْأَدَبِيَّةِ، وَلَا فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِرْشَادَاتِ الْإِصْلَاحِيَّةِ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ يُصَارِحُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (٩: ٧١) الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩: ٧٢) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُمَا فِي ص ٤٦٦ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ.
(١) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ يَعُدُّونَ الْمَرْأَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ أَوْ مِنَ الشَّيَاطِينِ لَا مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَبَعْضُهُمْ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ، فَجَاءَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتْلُو عَلَيْهِمْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) (٤٩: ١٣) الْآيَةَ: وَقَوْلَهُ: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً (٤: ١) وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
(٢) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ فِي أُورُبَّةَ وَغَيْرِهَا يَرَوْنَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهَا دِينٌ، حَتَّى كَانُوا يُحَرِّمُونَ عَلَيْهَا قِرَاءَةَ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ رَسْمِيًّا، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ يُخَاطِبُ بِالتَّكَالِيفِ الدِّينِيَّةِ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ مَعًا بِلَقَبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ.
كَانَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً، وَهِيَ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى مُبَايَعَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنِّسَاءِ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ ثُمَّ بَايَعَ الرِّجَالَ بِمَا جَاءَ فِيهَا، وَلَمَّا جُمِعَ الْقُرْآنُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ جَمْعًا رَسْمِيًّا وُضِعَ عِنْدَ امْرَأَةٍ هِيَ حَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَظَلَّ عِنْدَهَا مِنْ عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الْأَوَّلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الثَّالِثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - فَأُخِذَ مِنْ عِنْدِهَا وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهِ فِي نُسَخِ الْمَصَاحِفِ الرَّسْمِيَّةِ الَّتِي كُتِبَتْ وَأُرْسِلَتْ إِلَى الْأَمْصَارِ لِأَجْلِ النَّسْخِ عَنْهَا وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا.
(٣) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا رُوحٌ خَالِدَةٌ فَتَكُونَ مَعَ الرِّجَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَنَّةِ النَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ - وَهَذَا الزَّعْمُ أَصْلٌ لِعَدَمِ تَدَيُّنِهَا -
فَنَزَلَ الْقُرْآنُ يَقُولُ: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مَنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (٤: ١٢٣ و١٢٤) وَيَقُولُ: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (٣: ١٩٥) الْآيَةَ. وَفِيهَا الْوَعْدُ الصَّرِيحُ بِدُخُولِ الْفَرِيقَيْنِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
(٤) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ يَحْتَقِرُونَ الْمَرْأَةَ فَلَا يَعُدُّونَهَا أَهْلًا لِلِاشْتِرَاكِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَعَابِدِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَحَافِلِ الْأَدَبِيَّةِ، وَلَا فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِرْشَادَاتِ الْإِصْلَاحِيَّةِ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ يُصَارِحُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (٩: ٧١) الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩: ٧٢) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُمَا فِي ص ٤٦٦ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ.
233
(٥) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ يَحْرِمُونَ النِّسَاءَ مِنْ حَقِّ الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّمَلُّكِ، وَبَعْضُهُمْ يُضَيِّقُ عَلَيْهِنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ فِيمَا يَمْلِكْنَ، فَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ هَذَا الظُّلْمَ وَأَثْبَتَ لَهُنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ بِأَنْفُسِهِنَّ فِي دَائِرَةِ الشَّرْعِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) (٤: ٧) وَقَالَ: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) (٤: ٣٢).
وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دَوْلَةَ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرِيكِيَّةِ لَمْ تَمْنَحِ النِّسَاءَ حَقَّ التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ إِلَّا مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ فِي عَصْرِنَا هَذَا، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَرَنْسِيَّةَ لَا تَزَالُ مُقَيَّدَةً بِإِرَادَةِ زَوْجِهَا فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْعُقُودِ الْقَضَائِيَّةِ، وَقَدْ مُنِحَتِ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ هَذِهِ الْحُقُوقَ مُنْذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنِصْفَ قَرْنٍ.
(٦) كَانَ الزَّوَاجُ فِي قَبَائِلِ الْبَدْوِ وَشُعُوبِ الْحَضَارَةِ ضَرْبًا مِنِ اسْتِرْقَاقِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ، فَجَعَلَهُ الْإِسْلَامُ عَقْدًا دِينِيًّا مَدَنِيًّا؛ لِقَضَاءِ حَقِّ الْفِطْرَةِ بِسُكُونِ النَّفْسِ مِنِ اضْطِرَابِهَا الْجِنْسِيِّ بِالْحُبِّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَوْسِيعِ دَائِرَةِ الْمَوَدَّةِ وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ الْعَشِيرَتَيْنِ، وَاكْتِمَالِ عَاطِفَةِ الرَّحْمَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَانْتِشَارِهَا مِنَ الْوَالِدَيْنِ إِلَى الْأَوْلَادِ، عَلَى مَا أَرْشَدَ
إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣٠: ٢١).
(٧) الْقُرْآنُ سَاوَى بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ بِاقْتِسَامِ الْوَاجِبَاتِ وَالْحُقُوقِ بِالْمَعْرُوفِ، مَعَ جَعْلِ حَقِّ رِيَاسَةِ الشَّرِكَةِ الزَّوْجِيَّةِ لِلرَّجُلِ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحِمَايَةِ بِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الزَّوْجَاتِ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (٢: ٢٢٨) وَقَدْ بَيَّنَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (٤: ٣٤) فَجَعَلَ مِنْ وَاجِبَاتِ هَذِهِ الْقِيَامَةِ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ لَا تُكَلَّفُ مِنْهُ شَيْئًا وَلَوْ كَانَتْ أَغْنَى مِنْهُ، وَزَادَهَا الْمَهْرَ فَالْمُسْلِمُ يَدْفَعُ لِامْرَأَتِهِ مَهْرًا عَاجِلًا مَفْرُوضًا عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ لَزِمَهُ فِيهِ مَهْرُ مِثْلِهَا فِي الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَلَهُمَا أَنْ يُؤَجِّلَا بَعْضَهُ بِالتَّرَاضِي، عَلَى حِينِ نَرَى بَقِيَّةَ الْأُمَمِ حَتَّى الْيَوْمِ تُكَلِّفُ الْمَرْأَةَ دَفْعَ الْمَهْرَ لِلرَّجُلِ.
وَكَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ يُجْبِرُونَهَا عَلَى التَّزَوُّجِ بِمَنْ تَكْرَهُ، أَوْ يَعْضُلُونَهَا بِالْمَنْعِ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ زَوْجَهَا وَطَلَّقَهَا فَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ، وَالنُّصُوصُ فِي هَذَا مَعْرُوفَةٌ فِي كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَسُنَّتِهِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ.
(٨) كَانَ الرِّجَالُ مِنَ الْعَرَبِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ يَتَّخِذُونَ مِنَ الْأَزْوَاجِ مَا شَاءُوا غَيْرَ مُقَيَّدِينَ بِعَدَدٍ، وَلَا مُشْتَرَطٍ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْعَدْلُ، فَقَيَّدَهُمُ الْإِسْلَامُ بِأَلَّا يَزِيدُوا
وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دَوْلَةَ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرِيكِيَّةِ لَمْ تَمْنَحِ النِّسَاءَ حَقَّ التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ إِلَّا مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ فِي عَصْرِنَا هَذَا، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَرَنْسِيَّةَ لَا تَزَالُ مُقَيَّدَةً بِإِرَادَةِ زَوْجِهَا فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْعُقُودِ الْقَضَائِيَّةِ، وَقَدْ مُنِحَتِ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ هَذِهِ الْحُقُوقَ مُنْذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنِصْفَ قَرْنٍ.
(٦) كَانَ الزَّوَاجُ فِي قَبَائِلِ الْبَدْوِ وَشُعُوبِ الْحَضَارَةِ ضَرْبًا مِنِ اسْتِرْقَاقِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ، فَجَعَلَهُ الْإِسْلَامُ عَقْدًا دِينِيًّا مَدَنِيًّا؛ لِقَضَاءِ حَقِّ الْفِطْرَةِ بِسُكُونِ النَّفْسِ مِنِ اضْطِرَابِهَا الْجِنْسِيِّ بِالْحُبِّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَوْسِيعِ دَائِرَةِ الْمَوَدَّةِ وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ الْعَشِيرَتَيْنِ، وَاكْتِمَالِ عَاطِفَةِ الرَّحْمَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَانْتِشَارِهَا مِنَ الْوَالِدَيْنِ إِلَى الْأَوْلَادِ، عَلَى مَا أَرْشَدَ
إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣٠: ٢١).
(٧) الْقُرْآنُ سَاوَى بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ بِاقْتِسَامِ الْوَاجِبَاتِ وَالْحُقُوقِ بِالْمَعْرُوفِ، مَعَ جَعْلِ حَقِّ رِيَاسَةِ الشَّرِكَةِ الزَّوْجِيَّةِ لِلرَّجُلِ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحِمَايَةِ بِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الزَّوْجَاتِ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (٢: ٢٢٨) وَقَدْ بَيَّنَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (٤: ٣٤) فَجَعَلَ مِنْ وَاجِبَاتِ هَذِهِ الْقِيَامَةِ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ لَا تُكَلَّفُ مِنْهُ شَيْئًا وَلَوْ كَانَتْ أَغْنَى مِنْهُ، وَزَادَهَا الْمَهْرَ فَالْمُسْلِمُ يَدْفَعُ لِامْرَأَتِهِ مَهْرًا عَاجِلًا مَفْرُوضًا عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ لَزِمَهُ فِيهِ مَهْرُ مِثْلِهَا فِي الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَلَهُمَا أَنْ يُؤَجِّلَا بَعْضَهُ بِالتَّرَاضِي، عَلَى حِينِ نَرَى بَقِيَّةَ الْأُمَمِ حَتَّى الْيَوْمِ تُكَلِّفُ الْمَرْأَةَ دَفْعَ الْمَهْرَ لِلرَّجُلِ.
وَكَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ يُجْبِرُونَهَا عَلَى التَّزَوُّجِ بِمَنْ تَكْرَهُ، أَوْ يَعْضُلُونَهَا بِالْمَنْعِ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ زَوْجَهَا وَطَلَّقَهَا فَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ، وَالنُّصُوصُ فِي هَذَا مَعْرُوفَةٌ فِي كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَسُنَّتِهِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ.
(٨) كَانَ الرِّجَالُ مِنَ الْعَرَبِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ يَتَّخِذُونَ مِنَ الْأَزْوَاجِ مَا شَاءُوا غَيْرَ مُقَيَّدِينَ بِعَدَدٍ، وَلَا مُشْتَرَطٍ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْعَدْلُ، فَقَيَّدَهُمُ الْإِسْلَامُ بِأَلَّا يَزِيدُوا
234
عَلَى أَرْبَعٍ، وَأَنَّ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَلَّا يَعْدِلَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ الزِّيَادَةَ لِمُحْتَاجِهَا الْقَادِرِ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ ضَرُورَةً مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ وَلَا سِيَّمَا حَيْثُ يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ.
وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّعَدُّدِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، ثُمَّ زِدْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ (حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ) مَا هُوَ مُقْنِعٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ مُنْصِفٍ بِأَنَّ مَا شَرَعَهُ الْإِسْلَامُ فِي التَّعَدُّدِ هُوَ عَيْنُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ.
(٩) الطَّلَاقُ قَدْ يَكُونُ ضَرُورَةً مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ وَحُقُوقِ الْإِحْصَانِ وَالنَّفَقَةِ
وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَكَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْوَثَنِيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ يَقَعُ عَلَى النِّسَاءِ مِنْهُ وَفِيهِ ظُلْمٌ كَثِيرٌ وَغَبْنٌ يَشُقُّ احْتِمَالُهُ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ فِيهِ بِالْإِصْلَاحِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ شَرْعٌ وَلَمْ يَلْحَقْهُ بِمِثْلِهِ قَانُونٌ، وَكَانَ الْإِفْرِنْجُ يُحَرِّمُونَهُ وَيَعِيبُونَ الْإِسْلَامَ بِهِ، ثُمَّ اضْطُرُّوا إِلَى إِبَاحَتِهِ، فَأَسْرَفُوا فِيهِ إِسْرَافًا مُنْذِرًا بِفَوْضَى الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ وَانْحِلَالِ رَوَابِطِ الْأُسْرَةِ وَالْعَشِيرَةِ.
جَعَلَ الْإِسْلَامُ عُقْدَةَ النِّكَاحِ بِيَدِ الرِّجَالِ، وَيَتْبَعُهُ حَقُّ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُمْ أَحْرَصُ عَلَى بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بِمَا تُكَلِّفُهُمْ مِنَ النَّفَقَاتِ فِي عَقْدِهَا وَحَلِّهَا، وَكَوْنِهِمْ أَثْبَتَ مِنَ النِّسَاءِ جَأْشًا وَأَشَدَّ صَبْرًا عَلَى مَا يَكْرَهُونَ، وَقَدْ أَوْصَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا بِمَا يَزِيدُهُمْ قُوَّةً عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ وَحَبْسِهَا عَلَى مَا يَكْرَهُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَقَالَ: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (٤: ١٩) عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ تُعْطِي الْمَرْأَةَ حَقَّ اشْتِرَاطِ جَعْلِ عِصْمَتِهَا بِيَدِهَا لِتُطَلِّقُ نَفْسَهَا إِذَا شَاءَتْ، وَأَعْطَتْهَا حَقَّ طَلَبِ فَسْخِ عَقْدِ الزَّوَاجِ مِنَ الْقَاضِي إِذَا وَجَدَ سَبَبَهُ مِنَ الْعُيُوبِ الْخِلْقِيَّةِ أَوِ الْمَرَضِيَّةِ كَالرَّجُلِ، وَكَذَا إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنِ النَّفَقَةِ. وَجَعَلَتْ لِلْمُطَلَّقَةِ عَلَيْهِ حَقَّ النَّفَقَةِ مُدَّةَ الْعِدَّةِ الَّتِي لَا يَحِلُّ لَهَا فِيهَا الزَّوَاجُ، وَذَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّلَاقَ بِأَنَّ اللهَ يَبْغَضُهُ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِيهَا، وَفِي كِتَابِنَا الْجَدِيدِ فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ.
(١٠) بَالَغَ الْإِسْلَامُ فِي الْوَصِيَّةِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ فَقَرَنَهُ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَأَكَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ حَقَّ الْأُمِّ فَجَعَلَ بِرَّهَا مُقَدَّمًا عَلَى بَرِّ الْأَبِ، ثُمَّ بَالَغَ فِي الْوَصِيَّةِ بِتَرْبِيَةِ الْبَنَاتِ وَكَفَالَةِ الْأَخَوَاتِ، بِأَخَصِّ مِمَّا وَصَّى بِهِ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ، بَلْ جَعْلَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ قَيِّمًا شَرْعِيًّا يَتَوَلَّى كِفَايَتَهَا وَالْعِنَايَةَ بِهَا وَمَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ مِنْ أَقَارِبِهَا وَجَبَ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَلَّوْا أَمْرَهَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ مَا وُجِدَ دِينٌ وَلَا شَرْعٌ وَلَا قَانُونٌ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ أَعْطَى النِّسَاءَ مَا أَعْطَاهُنَّ
وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّعَدُّدِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، ثُمَّ زِدْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ (حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ) مَا هُوَ مُقْنِعٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ مُنْصِفٍ بِأَنَّ مَا شَرَعَهُ الْإِسْلَامُ فِي التَّعَدُّدِ هُوَ عَيْنُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ.
(٩) الطَّلَاقُ قَدْ يَكُونُ ضَرُورَةً مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ وَحُقُوقِ الْإِحْصَانِ وَالنَّفَقَةِ
وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَكَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْوَثَنِيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ يَقَعُ عَلَى النِّسَاءِ مِنْهُ وَفِيهِ ظُلْمٌ كَثِيرٌ وَغَبْنٌ يَشُقُّ احْتِمَالُهُ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ فِيهِ بِالْإِصْلَاحِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ شَرْعٌ وَلَمْ يَلْحَقْهُ بِمِثْلِهِ قَانُونٌ، وَكَانَ الْإِفْرِنْجُ يُحَرِّمُونَهُ وَيَعِيبُونَ الْإِسْلَامَ بِهِ، ثُمَّ اضْطُرُّوا إِلَى إِبَاحَتِهِ، فَأَسْرَفُوا فِيهِ إِسْرَافًا مُنْذِرًا بِفَوْضَى الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ وَانْحِلَالِ رَوَابِطِ الْأُسْرَةِ وَالْعَشِيرَةِ.
جَعَلَ الْإِسْلَامُ عُقْدَةَ النِّكَاحِ بِيَدِ الرِّجَالِ، وَيَتْبَعُهُ حَقُّ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُمْ أَحْرَصُ عَلَى بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بِمَا تُكَلِّفُهُمْ مِنَ النَّفَقَاتِ فِي عَقْدِهَا وَحَلِّهَا، وَكَوْنِهِمْ أَثْبَتَ مِنَ النِّسَاءِ جَأْشًا وَأَشَدَّ صَبْرًا عَلَى مَا يَكْرَهُونَ، وَقَدْ أَوْصَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا بِمَا يَزِيدُهُمْ قُوَّةً عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ وَحَبْسِهَا عَلَى مَا يَكْرَهُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَقَالَ: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (٤: ١٩) عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ تُعْطِي الْمَرْأَةَ حَقَّ اشْتِرَاطِ جَعْلِ عِصْمَتِهَا بِيَدِهَا لِتُطَلِّقُ نَفْسَهَا إِذَا شَاءَتْ، وَأَعْطَتْهَا حَقَّ طَلَبِ فَسْخِ عَقْدِ الزَّوَاجِ مِنَ الْقَاضِي إِذَا وَجَدَ سَبَبَهُ مِنَ الْعُيُوبِ الْخِلْقِيَّةِ أَوِ الْمَرَضِيَّةِ كَالرَّجُلِ، وَكَذَا إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنِ النَّفَقَةِ. وَجَعَلَتْ لِلْمُطَلَّقَةِ عَلَيْهِ حَقَّ النَّفَقَةِ مُدَّةَ الْعِدَّةِ الَّتِي لَا يَحِلُّ لَهَا فِيهَا الزَّوَاجُ، وَذَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّلَاقَ بِأَنَّ اللهَ يَبْغَضُهُ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِيهَا، وَفِي كِتَابِنَا الْجَدِيدِ فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ.
(١٠) بَالَغَ الْإِسْلَامُ فِي الْوَصِيَّةِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ فَقَرَنَهُ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَأَكَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ حَقَّ الْأُمِّ فَجَعَلَ بِرَّهَا مُقَدَّمًا عَلَى بَرِّ الْأَبِ، ثُمَّ بَالَغَ فِي الْوَصِيَّةِ بِتَرْبِيَةِ الْبَنَاتِ وَكَفَالَةِ الْأَخَوَاتِ، بِأَخَصِّ مِمَّا وَصَّى بِهِ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ، بَلْ جَعْلَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ قَيِّمًا شَرْعِيًّا يَتَوَلَّى كِفَايَتَهَا وَالْعِنَايَةَ بِهَا وَمَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ مِنْ أَقَارِبِهَا وَجَبَ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَلَّوْا أَمْرَهَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ مَا وُجِدَ دِينٌ وَلَا شَرْعٌ وَلَا قَانُونٌ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ أَعْطَى النِّسَاءَ مَا أَعْطَاهُنَّ
235
الْإِسْلَامُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْعِنَايَةِ وَالْكَرَامَةِ، أَفَلَيَسَ هَذَا كُلُّهُ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِهِ مِنْ وَحْيِ اللهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ لِمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْمَبْعُوثِ فِي الْأُمِّيِّينَ؟ بَلَى وَأَنَا عَنْ ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الْمُبَرْهِنِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الْمَقْصَدُ الْعَاشِرُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ
إِنَّ اسْتِرْقَاقَ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ قَدِيمٌ فِي شُعُوبِ الْبَشَرِ، بَلْ هُوَ مَعْهُودٌ فِي الْحَشَرَاتِ الَّتِي تَعِيشُ عِيشَةَ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ أَيْضًا كَالنَّمْلِ، فَإِذَا حَارَبَتْ قَرْيَةٌ مِنْهُ أُخْرَى فَظَفِرَتْ بِهَا وَانْتَصَرَتْ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تَأْسِرُ مَا سَلِمَ مِنَ الْقِتَالِ وَتَسْتَعْبِدُهُ فِي خِدْمَةِ الظَّافِرِ مِنَ الْبِنَاءِ وَجَمْعِ الْمَئُونَةِ وَخَزْنِهَا فِي مَخَازِنِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
كَانَتْ شُعُوبُ الْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَابِلِيِّينَ وَالْفُرْسِ وَالْهُنُودِ وَالْيُونَانِ وَالرُّومِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهَا تَتَّخِذُ الرَّقِيقَ وَتَسْتَخْدِمُهُ فِي أَشَقِّ الْأَعْمَالِ، وَتُعَامِلُهُ بِمُنْتَهَى الْقَسْوَةِ وَالظُّلْمِ، وَقَدْ أَقَرَّتْهُ الدِّيَانَتَانِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَظَلَّ الرَّقِيقُ مَشْرُوعًا عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ إِلَى أَنْ حَرَّرَتِ الْوِلَايَاتُ الْأَمِيرِيكِيَّةُ الْمُتَّحِدَةُ رَقِيقَهَا فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ، وَتَلَتْهَا إِنْكِلْتِرَهْ بِاتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ لِمَنْعِهِ مِنَ الْعَالَمِ كُلِّهِ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُ كُلٍّ مِنْهُمَا خَالِصًا لِمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ وَجُنُوحًا لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّ الْأُولَى لَا تَزَالُ تُفَضِّلُ الْجِنْسَ الْأَبْيَضَ الْأُورُبِّيَّ الْمُتَغَلِّبَ عَلَى الْجِنْسِ الْأَحْمَرِ الْوَطَنِيِّ الْأَصْلِيِّ بِمَا يَقْرُبُ مِنَ الِاسْتِعْبَادِ السِّيَاسِيِّ الْمُبَاحِ عِنْدَ جَمِيعِ الْإِفْرِنْجِ لِلشُّعُوبِ، كَمَا أَنَّ إِنْكَلْتِرَهْ تَحْتَقِرُ الْهُنُودَ وَتَسْتَذِلُّهُمْ وَلَكِنَّ النَّهْضَةَ الْهِنْدِيَّةَ فِي هَذَا الْعَهْدِ قَدْ خَفَّضَتْ مِنْ غُلَوَائِهِمْ، وَطَامَنَتْ مِنْ إِشْنَاقِ كِبْرِيَائِهِمْ.
فَلَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ، وَأَشْرَقَ نُورُهُ الْمَاحِي لِكُلِّ ظَلَامٍ، كَانَ مِمَّا أَصْلَحَهُ مِنْ فَسَادِ الْأُمَمِ إِبْطَالُ ظُلْمِ الرَّقِيقِ وَإِرْهَاقُهُ، وَوَضْعُ الْأَحْكَامِ لِإِبْطَالِ الرِّقِّ بِالتَّدْرِيجِ السَّرِيعِ، إِذْ كَانَ إِبْطَالُهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً مُتَعَذِّرًا فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ مِنَ النَّاحِيَتَيْنِ: نَاحِيَةِ مَصَالِحِ السَّادَةِ الْمُسْتَرِقِّينَ، وَنَاحِيَةِ مَعِيشَةِ الْأَرِقَّاءِ الْمُسْتَعْبَدِينَ.
فَإِنَّ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةَ لَمَّا حَرَّرَتْ رَقِيقَهَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ يَلْتَمِسُ وَسِيلَةً لِلرِّزْقِ فَلَا يَجِدُهَا، فَيَحُورُ إِلَى سَادَتِهِ يَرْجُو مِنْهُمُ الْعَوْدَ إِلَى خِدْمَتِهِمْ كَمَا كَانَ.
وَكَذَلِكَ جَرَى فِي السُّودَانِ الْمِصْرِيِّ، فَقَدْ جَرَّبَ الْحُكَّامُ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ أَنْ يَجِدُوا لَهُمْ رِزْقًا بِعَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ مُسْتَقِلِّينَ فِيهِ مُكْتَفِينَ بِهِ فَلَمْ يُمْكِنْ، فَاضْطُرُّوا إِلَى الْإِذْنِ لَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى خِدْمَةِ الرِّقِّ السَّابِقَةِ، بِيَدَ أَنَّهَا لَا تَسْمَحُ لِلْمَخْدُومِينَ بِبَيْعِهِمْ وَالِاتِّجَارِ بِهِمْ.
الْمَقْصَدُ الْعَاشِرُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ
إِنَّ اسْتِرْقَاقَ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ قَدِيمٌ فِي شُعُوبِ الْبَشَرِ، بَلْ هُوَ مَعْهُودٌ فِي الْحَشَرَاتِ الَّتِي تَعِيشُ عِيشَةَ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ أَيْضًا كَالنَّمْلِ، فَإِذَا حَارَبَتْ قَرْيَةٌ مِنْهُ أُخْرَى فَظَفِرَتْ بِهَا وَانْتَصَرَتْ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تَأْسِرُ مَا سَلِمَ مِنَ الْقِتَالِ وَتَسْتَعْبِدُهُ فِي خِدْمَةِ الظَّافِرِ مِنَ الْبِنَاءِ وَجَمْعِ الْمَئُونَةِ وَخَزْنِهَا فِي مَخَازِنِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
كَانَتْ شُعُوبُ الْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَابِلِيِّينَ وَالْفُرْسِ وَالْهُنُودِ وَالْيُونَانِ وَالرُّومِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهَا تَتَّخِذُ الرَّقِيقَ وَتَسْتَخْدِمُهُ فِي أَشَقِّ الْأَعْمَالِ، وَتُعَامِلُهُ بِمُنْتَهَى الْقَسْوَةِ وَالظُّلْمِ، وَقَدْ أَقَرَّتْهُ الدِّيَانَتَانِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَظَلَّ الرَّقِيقُ مَشْرُوعًا عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ إِلَى أَنْ حَرَّرَتِ الْوِلَايَاتُ الْأَمِيرِيكِيَّةُ الْمُتَّحِدَةُ رَقِيقَهَا فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ، وَتَلَتْهَا إِنْكِلْتِرَهْ بِاتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ لِمَنْعِهِ مِنَ الْعَالَمِ كُلِّهِ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُ كُلٍّ مِنْهُمَا خَالِصًا لِمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ وَجُنُوحًا لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّ الْأُولَى لَا تَزَالُ تُفَضِّلُ الْجِنْسَ الْأَبْيَضَ الْأُورُبِّيَّ الْمُتَغَلِّبَ عَلَى الْجِنْسِ الْأَحْمَرِ الْوَطَنِيِّ الْأَصْلِيِّ بِمَا يَقْرُبُ مِنَ الِاسْتِعْبَادِ السِّيَاسِيِّ الْمُبَاحِ عِنْدَ جَمِيعِ الْإِفْرِنْجِ لِلشُّعُوبِ، كَمَا أَنَّ إِنْكَلْتِرَهْ تَحْتَقِرُ الْهُنُودَ وَتَسْتَذِلُّهُمْ وَلَكِنَّ النَّهْضَةَ الْهِنْدِيَّةَ فِي هَذَا الْعَهْدِ قَدْ خَفَّضَتْ مِنْ غُلَوَائِهِمْ، وَطَامَنَتْ مِنْ إِشْنَاقِ كِبْرِيَائِهِمْ.
فَلَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ، وَأَشْرَقَ نُورُهُ الْمَاحِي لِكُلِّ ظَلَامٍ، كَانَ مِمَّا أَصْلَحَهُ مِنْ فَسَادِ الْأُمَمِ إِبْطَالُ ظُلْمِ الرَّقِيقِ وَإِرْهَاقُهُ، وَوَضْعُ الْأَحْكَامِ لِإِبْطَالِ الرِّقِّ بِالتَّدْرِيجِ السَّرِيعِ، إِذْ كَانَ إِبْطَالُهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً مُتَعَذِّرًا فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ مِنَ النَّاحِيَتَيْنِ: نَاحِيَةِ مَصَالِحِ السَّادَةِ الْمُسْتَرِقِّينَ، وَنَاحِيَةِ مَعِيشَةِ الْأَرِقَّاءِ الْمُسْتَعْبَدِينَ.
فَإِنَّ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةَ لَمَّا حَرَّرَتْ رَقِيقَهَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ يَلْتَمِسُ وَسِيلَةً لِلرِّزْقِ فَلَا يَجِدُهَا، فَيَحُورُ إِلَى سَادَتِهِ يَرْجُو مِنْهُمُ الْعَوْدَ إِلَى خِدْمَتِهِمْ كَمَا كَانَ.
وَكَذَلِكَ جَرَى فِي السُّودَانِ الْمِصْرِيِّ، فَقَدْ جَرَّبَ الْحُكَّامُ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ أَنْ يَجِدُوا لَهُمْ رِزْقًا بِعَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ مُسْتَقِلِّينَ فِيهِ مُكْتَفِينَ بِهِ فَلَمْ يُمْكِنْ، فَاضْطُرُّوا إِلَى الْإِذْنِ لَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى خِدْمَةِ الرِّقِّ السَّابِقَةِ، بِيَدَ أَنَّهَا لَا تَسْمَحُ لِلْمَخْدُومِينَ بِبَيْعِهِمْ وَالِاتِّجَارِ بِهِمْ.
236
هِدَايَةُ الْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيرِ الرَّقِيقِ وَأَحْكَامِهِ
قَدْ شَرَعَ اللهُ تَعَالَى لِإِبْطَالِ الرِّقِّ طَرِيقَتَيْنِ: عَدَمُ تَجْدِيدِ الِاسْتِرْقَاقِ فِي الْمُسْتَقَبْلِ، وَتَحْرِيرُ الرَّقِيقِ الْقَدِيمِ بِالتَّدْرِيجِ الَّذِي لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِيهِ.
(الطَّرِيقَةُ الْأُولَى) مَنَعَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنِ اسْتِرْقَاقِ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ إِلَّا اسْتِرْقَاقَ الْأَسْرَى وَالسَّبَايَا فِي الْحَرْبِ، الَّتِي اشْتَرَطَ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ دَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْرِيرِ الْمَصَالِحِ وَمَنْعِ الِاعْتِدَاءِ وَمُرَاعَاةِ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَهِيَ شُرُوطٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلَهُ مَشْرُوعَةً عِنْدَ الْمِلِّيِّينَ، وَلَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَضَارَةِ فَضْلًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا شَرْعَ لَهُمْ وَلَا قَانُونَ، وَلَسْتُ أَعْنِي بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى شَرَعَ لَنَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاسْتِرْقَاقِ كُلَّ مَا كَانَتِ الْأُمَمُ تَفْعَلُهُ مُعَامَلَةً لَهُمْ بِالْمِثْلِ، بَلْ شَرَعَ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُرَاعَاةَ الْمَصْلَحَةِ لِلْبَشَرِ فِي إِمْضَائِهِ أَوْ إِبْطَالِهِ بِأَنْ خَيَّرَهُمْ فِي أَسْرَى الْحَرْبِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِيَّةِ، وَالْفِدَاءِ بِهِمْ، وَهُوَ نَوْعَانِ: فِدَاءُ الْمَالِ، وَفِدَاءُ الْأَنْفُسِ، إِذَا كَانَ لَنَا أُسَارَى أَوْ سَبْيٌ عِنْدَ قَوْمِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي قَوَاعِدِ الْحَرْبِ: (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مِنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) (٤٧: ٤) وَلَمَّا كُنَّا مُخَيَّرِينَ فِيهِمْ بَيْنَ إِطْلَاقِهِمْ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ وَالْفِدَاءِ بِهِمْ، جَازَ أَنْ يُعَدَّ هَذَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لِإِبْطَالِ اسْتِئْنَافِ الِاسْتِرْقَاقِ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ الْأَمْرَ الثَّالِثَ الَّذِي هُوَ الِاسْتِرْقَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ، لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الْمُتَّبَعُ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، فَمِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ وَالضَّرَرِ أَنْ يَسْتَرِقُّوا أَسْرَانَا وَنُطْلِقَ أَسْرَاهُمْ وَنَحْنُ أَرْحَمُ بِهِمْ وَأَعْدَلُ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي. وَلَكِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَصًّا فِي الْحَصْرِ، وَلَا صَرِيحَةً فِي النَّهْيِ عَنِ الْأَصْلِ، فَكَانَتْ دَلَالَتُهَا عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِرْقَاقِ مُطْلَقًا غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ، فَبَقِيَ حُكْمُهُ مَحَلَّ اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ، إِذَا وَجَدُوا الْمَصْلَحَةَ فِي إِبْقَائِهِ أَبْقَوْهُ، وَإِذَا وَجَدُوا الْمَصْلَحَةَ فِي تَرْجِيحِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِّيَّةِ - وَهُوَ إِبْطَالٌ اخْتِيَارِيٌّ لَهُ - أَوِ الْفِدَاءُ بِهِمْ عَمِلُوا بِهِ.
(الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ مَا شَرَعَهُ لِتَحْرِيرِ الرَّقِيقِ الْمَوْجُودِ وُجُوبًا وَنَدْبًا وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ).
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ أَحْكَامِ الرِّقِّ وَوَسَائِلِ تَحْرِيرِهِ اللَّازِبَةِ وَفِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ).
(١) إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ هُوَ الْحُرِّيَّةُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ. (٢) تَحْرِيمُ الِاسْتِرْقَاقِ وَبُطْلَانُهُ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ بِشَرْطِهِ. (٣) الْكِتَابَةُ: وَهِيَ شِرَاءُ الْمَمْلُوكِ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَالٍ يَكْسِبُهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِهَا لِمَنْ يَبْتَغِيهَا، وَأَمَرَ بِمُسَاعَدَتِهِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ مِنَ الْمَالِكِ نَفْسِهِ. (٤) إِذَا خَرَجَ الْأَرِقَّاءُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يَصِيرُونَ أَحْرَارًا. (٥) مَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ عُتِقَ كُلُّهُ عَلَيْهِ
قَدْ شَرَعَ اللهُ تَعَالَى لِإِبْطَالِ الرِّقِّ طَرِيقَتَيْنِ: عَدَمُ تَجْدِيدِ الِاسْتِرْقَاقِ فِي الْمُسْتَقَبْلِ، وَتَحْرِيرُ الرَّقِيقِ الْقَدِيمِ بِالتَّدْرِيجِ الَّذِي لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِيهِ.
(الطَّرِيقَةُ الْأُولَى) مَنَعَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنِ اسْتِرْقَاقِ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ إِلَّا اسْتِرْقَاقَ الْأَسْرَى وَالسَّبَايَا فِي الْحَرْبِ، الَّتِي اشْتَرَطَ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ دَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْرِيرِ الْمَصَالِحِ وَمَنْعِ الِاعْتِدَاءِ وَمُرَاعَاةِ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَهِيَ شُرُوطٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلَهُ مَشْرُوعَةً عِنْدَ الْمِلِّيِّينَ، وَلَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَضَارَةِ فَضْلًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا شَرْعَ لَهُمْ وَلَا قَانُونَ، وَلَسْتُ أَعْنِي بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى شَرَعَ لَنَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاسْتِرْقَاقِ كُلَّ مَا كَانَتِ الْأُمَمُ تَفْعَلُهُ مُعَامَلَةً لَهُمْ بِالْمِثْلِ، بَلْ شَرَعَ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُرَاعَاةَ الْمَصْلَحَةِ لِلْبَشَرِ فِي إِمْضَائِهِ أَوْ إِبْطَالِهِ بِأَنْ خَيَّرَهُمْ فِي أَسْرَى الْحَرْبِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِيَّةِ، وَالْفِدَاءِ بِهِمْ، وَهُوَ نَوْعَانِ: فِدَاءُ الْمَالِ، وَفِدَاءُ الْأَنْفُسِ، إِذَا كَانَ لَنَا أُسَارَى أَوْ سَبْيٌ عِنْدَ قَوْمِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي قَوَاعِدِ الْحَرْبِ: (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مِنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) (٤٧: ٤) وَلَمَّا كُنَّا مُخَيَّرِينَ فِيهِمْ بَيْنَ إِطْلَاقِهِمْ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ وَالْفِدَاءِ بِهِمْ، جَازَ أَنْ يُعَدَّ هَذَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لِإِبْطَالِ اسْتِئْنَافِ الِاسْتِرْقَاقِ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ الْأَمْرَ الثَّالِثَ الَّذِي هُوَ الِاسْتِرْقَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ، لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الْمُتَّبَعُ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، فَمِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ وَالضَّرَرِ أَنْ يَسْتَرِقُّوا أَسْرَانَا وَنُطْلِقَ أَسْرَاهُمْ وَنَحْنُ أَرْحَمُ بِهِمْ وَأَعْدَلُ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي. وَلَكِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَصًّا فِي الْحَصْرِ، وَلَا صَرِيحَةً فِي النَّهْيِ عَنِ الْأَصْلِ، فَكَانَتْ دَلَالَتُهَا عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِرْقَاقِ مُطْلَقًا غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ، فَبَقِيَ حُكْمُهُ مَحَلَّ اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ، إِذَا وَجَدُوا الْمَصْلَحَةَ فِي إِبْقَائِهِ أَبْقَوْهُ، وَإِذَا وَجَدُوا الْمَصْلَحَةَ فِي تَرْجِيحِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِّيَّةِ - وَهُوَ إِبْطَالٌ اخْتِيَارِيٌّ لَهُ - أَوِ الْفِدَاءُ بِهِمْ عَمِلُوا بِهِ.
(الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ مَا شَرَعَهُ لِتَحْرِيرِ الرَّقِيقِ الْمَوْجُودِ وُجُوبًا وَنَدْبًا وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ).
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ أَحْكَامِ الرِّقِّ وَوَسَائِلِ تَحْرِيرِهِ اللَّازِبَةِ وَفِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ).
(١) إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ هُوَ الْحُرِّيَّةُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ. (٢) تَحْرِيمُ الِاسْتِرْقَاقِ وَبُطْلَانُهُ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ بِشَرْطِهِ. (٣) الْكِتَابَةُ: وَهِيَ شِرَاءُ الْمَمْلُوكِ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَالٍ يَكْسِبُهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِهَا لِمَنْ يَبْتَغِيهَا، وَأَمَرَ بِمُسَاعَدَتِهِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ مِنَ الْمَالِكِ نَفْسِهِ. (٤) إِذَا خَرَجَ الْأَرِقَّاءُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يَصِيرُونَ أَحْرَارًا. (٥) مَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ عُتِقَ كُلُّهُ عَلَيْهِ
237
وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ الْآخَرُ لِغَيْرِهِ فَلَهُ أَحْكَامٌ. (٦) مَنْ عَذَّبَ مَمْلُوكَهُ أَوْ مَثَّلَ بِهِ كَأَنْ خَصَاهُ أَوْ جَبَّهُ عُتِقَ عَلَيْهِ وَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ. (٧) مَنْ آذَى مَمْلُوكَهُ بِمَا دُونَ التَّمْثِيلِ وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ، فَكَفَّارَةُ ذَنْبِهِ أَنْ يَعْتِقَهُ. (٨) التَّدْبِيرُ عِتْقٌ لَازِمٌ، وَهُوَ أَنْ يُعْتَقَ مَمْلُوكُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِأَنَّهُ صَارَ حُرًّا بَعْدَ مَوْتِهِ. (٩) إِذَا وَلَدَتِ الْجَارِيَةُ لِسَيِّدِهَا وَلَدًا مِنْهُ حَرُمَ عَلَيْهِ بَيْعُهَا وَهِبَتُهَا لِغَيْرِهِ، وَتَصِيرُ حُرَّةً بِمَوْتِهِ لَا تُورَثُ عَنْهُ. (١٠) مَنْ مَلَكَ أَحَدَ أَقَارِبِهِ عُتِقَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) الَّذِي بَسَطْنَا بِهِ هَذَا الْبَحْثَ مِنَ التَّفْسِيرِ.
(النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ وَسَائِلِ تَحْرِيرِ الرَّقِيقِ الْمَوْجُودِ الْكَفَّارَاتُ)
وَالْمُرَادُ بِهَا الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَمْحُو الذُّنُوبَ، وَأَعْظَمُهَا عِتْقُ الرِّقَابِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: (أَحَدُهَا) وَاجِبٌ حَتْمٌ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْعِتْقِ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ أَوْ ثَمَنِهَا، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ النَّفْسِ خَطَأً، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَهُوَ تَشْبِيهُ الرَّجُلِ زَوْجَهُ بِأُمِّهِ وَكَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَفَّارَةِ إِفْسَادِ الصِّيَامِ عَمْدًا بِشَرْطِهِ وَقَيْدِهِ الْمَعْرُوفَيْنِ فِي الْفِقْهِ.
(ثَانِيهَا) وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ فِيهِ وَهُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَحَنَثَ فِيهَا فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى، وَحِكْمَةُ التَّخْيِيرِ ظَاهِرَةٌ.
(ثَالِثُهَا) مَنْدُوبٌ وَهُوَ الْعِتْقُ لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مُكَفِّرَاتِهَا.
(النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ وَسَائِلِ إِلْغَاءِ الرِّقِّ الْمَوْجُودِ)
جَعْلُ سَهْمٍ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَفْرُوضَةِ (فِي الرِّقَابِ) بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهُوَ يَشْمَلُ الْعِتْقَ وَالْإِعَانَةَ عَلَى شِرَاءِ الْمَمْلُوكِ نَفْسِهِ (الْكِتَابَةُ) وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ زَكَاةَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَدْ تَبْلُغُ مِئَاتِ الْأُلُوفِ وَأُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَلَوْ نُفِّذَتْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَحْدَهَا لَأَمْكَنَ تَحْرِيرُ جَمِيعِ الرَّقِيقِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
(النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْهَا الْعِتْقُ الِاخْتِيَارِيُّ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى أَيِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ).
قَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْعِتْقِ مَا يَدْخُلُ تَدْوِينُهُ فِي سِفْرٍ كَبِيرٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَأُصُولِ الْبَرِّ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ١٧٧).
وَمِنْ أَشْهَرِ أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ فِي الْعِتْقِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ
(النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ وَسَائِلِ تَحْرِيرِ الرَّقِيقِ الْمَوْجُودِ الْكَفَّارَاتُ)
وَالْمُرَادُ بِهَا الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَمْحُو الذُّنُوبَ، وَأَعْظَمُهَا عِتْقُ الرِّقَابِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: (أَحَدُهَا) وَاجِبٌ حَتْمٌ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْعِتْقِ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ أَوْ ثَمَنِهَا، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ النَّفْسِ خَطَأً، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَهُوَ تَشْبِيهُ الرَّجُلِ زَوْجَهُ بِأُمِّهِ وَكَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَفَّارَةِ إِفْسَادِ الصِّيَامِ عَمْدًا بِشَرْطِهِ وَقَيْدِهِ الْمَعْرُوفَيْنِ فِي الْفِقْهِ.
(ثَانِيهَا) وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ فِيهِ وَهُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَحَنَثَ فِيهَا فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى، وَحِكْمَةُ التَّخْيِيرِ ظَاهِرَةٌ.
(ثَالِثُهَا) مَنْدُوبٌ وَهُوَ الْعِتْقُ لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مُكَفِّرَاتِهَا.
(النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ وَسَائِلِ إِلْغَاءِ الرِّقِّ الْمَوْجُودِ)
جَعْلُ سَهْمٍ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَفْرُوضَةِ (فِي الرِّقَابِ) بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهُوَ يَشْمَلُ الْعِتْقَ وَالْإِعَانَةَ عَلَى شِرَاءِ الْمَمْلُوكِ نَفْسِهِ (الْكِتَابَةُ) وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ زَكَاةَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَدْ تَبْلُغُ مِئَاتِ الْأُلُوفِ وَأُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَلَوْ نُفِّذَتْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَحْدَهَا لَأَمْكَنَ تَحْرِيرُ جَمِيعِ الرَّقِيقِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
(النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْهَا الْعِتْقُ الِاخْتِيَارِيُّ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى أَيِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ).
قَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْعِتْقِ مَا يَدْخُلُ تَدْوِينُهُ فِي سِفْرٍ كَبِيرٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَأُصُولِ الْبَرِّ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ١٧٧).
وَمِنْ أَشْهَرِ أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ فِي الْعِتْقِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ
238
((عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنَ النَّارِ حَتَّى فَرْجُهُ بِفَرْجِهِ)) وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((إِيمَانٌ بِاللهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ)) قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا)) الْحَدِيثَ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ إِلَّا مَالِكًا ((أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ)) وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا رَوَى قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لِلْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ)) قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا الْجِهَادُ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ.
(الْوَصِيَّةُ بِالْمَمَالِيكِ)
أَضِفْ إِلَى هَذَا وَصَايَا اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْمَمَالِيكِ، وَمِنْهَا تَخْفِيفُ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِمْ، وَجَعْلُ حَدِّ الْمَمْلُوكِ فِي الْعُقُوبَاتِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ، وَقَدْ قَرَنَ اللهُ الْوَصِيَّةَ بِهِمْ بِالْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْلِ السَّيِّدِ: ((عَبْدِي وَأَمَتِي)) وَأَمَرَهُ أَنْ
يَقُولَ: ((فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي)) وَأَمَرَ بِأَنْ يُطْعِمُوهُمْ مِمَّا يَأْكُلُونَ وَيُلْبِسُوهُمْ مِمَّا يَلْبَسُونَ وَيُعِينُوهُمْ عَلَى خِدْمَتِهِمْ إِنْ كَلَّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ يُوصِي بِالنِّسَاءِ وَمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ حَتَّى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إِلَى أَنِ الْتَحَقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسَأَلَهُ ابْنُ عُمَرَ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ قَالَ: ((اعْفُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً)) وَهَذَا مُبَالَغَةٌ، أَيْ كُلَّمَا أَذْنَبَ.
وَلِهَذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُبَالِغُونَ فِي تَكْرِيمِ الرَّقِيقِ وَمُعَامَلَتِهِمْ بِالْحِلْمِ حَتَّى صَارُوا يُقَصِّرُونَ فِي الْخِدْمَةِ. وَلَعَمْرُ الْحَقِّ إِنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلِ أَعَزُّ نَفْسًا وَأَطْيَبُ عَيْشًا مِنْ جَمِيعِ الْأَحْرَارِ الَّذِينَ ابْتُلُوا فِي هَذِهِ الْعُصُورِ بِحُكْمِ دُوَلِ الْإِفْرِنْجِ مَنْ غَيْرِهِمْ أَوْ نُفُوذِهِمْ، وَإِنَّ حُكُومَةَ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ لَتُعَامِلُ الْجِنْسَ الْأَحْمَرَ مِنْ سُكَّانِ الْبِلَادِ الْأَصْلِيِّينَ الَّذِينَ تَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِّيَّةِ بِغَيْرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُعَامِلُ بِهَا الْجِنْسَ الْأَبْيَضَ، حَتَّى إِنَّ مَنِ اعْتَدَى مِنْهُمْ عَلَى امْرَأَةٍ بَيْضَاءَ يُقْتَلُ شَرَّ قِتْلَةٍ - إِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ الْحُكُومَةُ قَتَلَهُ الشَّعْبُ - بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَلَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَقَامُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ.
خُلَاصَةُ الْبَحْثِ
رَاجِعْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ النَّصَارَى، وَمِنَ الْكَلَامِ فِي تَنْفِيذِ شُبْهَةِ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ، وَالْكَلَامِ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللُّغَوِيِّ وَالْعِلْمِيِّ، وَمَا أَحْدَثَهُ مِنَ الِانْقِلَابِ الْبَشَرِيِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، ثُمَّ أَضِفْ إِلَيْهَا هَذِهِ الْعَشْرَةَ الْأَنْوَاعَ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ وَتَكْمِيلِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِي التَّشْرِيعِ الرُّوحِيِّ وَالْأَدَبِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ
وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ إِلَّا مَالِكًا ((أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ)) وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا رَوَى قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لِلْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ)) قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا الْجِهَادُ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ.
(الْوَصِيَّةُ بِالْمَمَالِيكِ)
أَضِفْ إِلَى هَذَا وَصَايَا اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْمَمَالِيكِ، وَمِنْهَا تَخْفِيفُ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِمْ، وَجَعْلُ حَدِّ الْمَمْلُوكِ فِي الْعُقُوبَاتِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ، وَقَدْ قَرَنَ اللهُ الْوَصِيَّةَ بِهِمْ بِالْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْلِ السَّيِّدِ: ((عَبْدِي وَأَمَتِي)) وَأَمَرَهُ أَنْ
يَقُولَ: ((فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي)) وَأَمَرَ بِأَنْ يُطْعِمُوهُمْ مِمَّا يَأْكُلُونَ وَيُلْبِسُوهُمْ مِمَّا يَلْبَسُونَ وَيُعِينُوهُمْ عَلَى خِدْمَتِهِمْ إِنْ كَلَّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ يُوصِي بِالنِّسَاءِ وَمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ حَتَّى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إِلَى أَنِ الْتَحَقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسَأَلَهُ ابْنُ عُمَرَ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ قَالَ: ((اعْفُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً)) وَهَذَا مُبَالَغَةٌ، أَيْ كُلَّمَا أَذْنَبَ.
وَلِهَذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُبَالِغُونَ فِي تَكْرِيمِ الرَّقِيقِ وَمُعَامَلَتِهِمْ بِالْحِلْمِ حَتَّى صَارُوا يُقَصِّرُونَ فِي الْخِدْمَةِ. وَلَعَمْرُ الْحَقِّ إِنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلِ أَعَزُّ نَفْسًا وَأَطْيَبُ عَيْشًا مِنْ جَمِيعِ الْأَحْرَارِ الَّذِينَ ابْتُلُوا فِي هَذِهِ الْعُصُورِ بِحُكْمِ دُوَلِ الْإِفْرِنْجِ مَنْ غَيْرِهِمْ أَوْ نُفُوذِهِمْ، وَإِنَّ حُكُومَةَ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ لَتُعَامِلُ الْجِنْسَ الْأَحْمَرَ مِنْ سُكَّانِ الْبِلَادِ الْأَصْلِيِّينَ الَّذِينَ تَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِّيَّةِ بِغَيْرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُعَامِلُ بِهَا الْجِنْسَ الْأَبْيَضَ، حَتَّى إِنَّ مَنِ اعْتَدَى مِنْهُمْ عَلَى امْرَأَةٍ بَيْضَاءَ يُقْتَلُ شَرَّ قِتْلَةٍ - إِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ الْحُكُومَةُ قَتَلَهُ الشَّعْبُ - بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَلَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَقَامُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ.
خُلَاصَةُ الْبَحْثِ
رَاجِعْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ النَّصَارَى، وَمِنَ الْكَلَامِ فِي تَنْفِيذِ شُبْهَةِ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ، وَالْكَلَامِ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللُّغَوِيِّ وَالْعِلْمِيِّ، وَمَا أَحْدَثَهُ مِنَ الِانْقِلَابِ الْبَشَرِيِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، ثُمَّ أَضِفْ إِلَيْهَا هَذِهِ الْعَشْرَةَ الْأَنْوَاعَ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ وَتَكْمِيلِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِي التَّشْرِيعِ الرُّوحِيِّ وَالْأَدَبِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ
239
وَالْمَالِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ، وَهِي الَّتِي اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الشُّعُوبِ وَالدُّوَلِ فِي هَذَا الْعَصْرِ إِلَيْهَا، مُوَضَّحَةً بِأُصُولٍ وَقَوَاعِدَ هِيَ أَصَحُّ وَأَكْمَلُ وَأَكْفَلُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الْقَدِيمَةِ وَالطَّارِئَةِ، مِنْ كُلِّ مَا سَبَقَهَا مِنْ تَعَالِيمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفَلْسَفَةِ الْحُكَمَاءِ، وَقَوَانِينِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ، مَعَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ مِنْ تَارِيخِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا يُؤْثِرُ بِطَبْعِهِ عِيشَةَ الْعُزْلَةِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ وَالْقَوَانِينِ،
وَأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَبْحَثُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَلَا أَنَّهُ نَطَقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِهَا، وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ بِهَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ سِنِّ الْأَرْبَعِينَ وَهِيَ سِنٌّ لَمْ يُعْرَفْ فِي اسْتِعْدَادِ أَنْفُسِ الْبَشَرِ وَمُدْرَكَاتِ عُقُولِهِمْ، وَلَا فِي تَارِيخِهِمْ أَنَّ صَاحِبَهَا يَأْتَنِفُ مِثْلَهَا ائْتِنَافًا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ الْبَدْءُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي أَنْفِ عُمْرِهِ، وَآنِفَةِ شَبَابِهِ وَشَرْخِهِ، رَاجِعْ هَذَا كُلَّهُ وَتَأَمَّلْهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً تَجِدْ عَقْلَكَ مُضْطَرًّا إِلَى الْجَزْمِ بِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ بَشَرٍ أُمِّيٍّ أَوْ مُتَعَلِّمٍ، وَأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَسَرَّبَ إِلَى ذِهْنِهِ بَعْضُ مَسَائِلِهَا مِنْ أَفْوَاهِ عُقَلَاءِ قَوْمِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَقِيَ فِي أَسْفَارِهِ الْقَلِيلَةِ، أَوْ أَنَّهُ فَكَّرَ فِي حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى مِثْلِهَا مِمَّا أَدْرَكَهُ بِذَكَائِهِ الْفِطْرِيِّ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ. فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْفَلَتَاتُ الشَّارِدَةُ، وَهَذِهِ الْخَطَرَاتُ الْوَارِدَةُ، تَبْلُغُ هَذَا الْحَدَّ مِنَ التَّحْقِيقِ وَالْوَفَاءِ بِحَاجَةِ الْأُمَمِ كُلِّهَا، وَأَنْ تَظَلَّ كُلُّهَا مَكْتُومَةً مِنْ سِنِّ الصِّبَا وَعَهْدِ حُبِّ الظُّهُورِ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، بِهَذِهِ الرَّوْعَةِ مِنَ الْبَيَانِ، وَسُلْطَانِ الْبَلَاغَةِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَقُوَّةِ الْبُرْهَانِ فِي الْعُقُولِ، فَتُحْدِثَ هَذِهِ الثَّوْرَةَ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُغَيِّرَةِ لِطِبَاعِهَا، الْمُبَدِّلَةِ لِأَوْضَاعِهَا، بِحَيْثُ تَسُودُ بِهَا شُعُوبُ الْمَدَنِيَّةِ كُلِّهَا وَيَتْلُو ذَلِكَ مَا قَصَّهُ التَّارِيخُ مِنَ الِانْقِلَابِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ؟ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يَظْهَرَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ أُمَمَ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ الْعَجِيبَةِ أَشَدُّ حَاجَةً إِلَيْهَا مِمَّنْ قَبْلَهُمْ؟ كَلَّا إِنَّ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ مِثْلُهُ فِي الْبَشَرِ.
وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ هَذَا؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَهُ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَتْبَعَهُ وَيَهْتَدِيَ بِهِ لِتَكْمِيلِ إِنْسَانِيَّتِهِ وَإِعْدَادِهَا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَإِنِ اعْتَرَضَتْهُ شُبْهَةٌ عَلَيْهِ فَلْيَبْحَثْ عَنْهَا أَوْ لِيَنْبِذْهَا، فَمَا كَانَ لِعَاقِلٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ نَفْعُ عِلْمِ الطَّلَبِ أَنْ يَتْرُكَ مُرَاعَاتَهُ فِي حِفْظِ صِحَّتِهِ أَوْ مُدَاوَاةِ مَرَضِهِ لِشُبْهَةٍ فِي بَعْضِ مَسَائِلِهِ، أَوْ خَيْبَةِ الْأَطِبَّاءِ فِي بَعْضِ مُعَالَجَاتِهِمْ لِلْمَرْضَى، وَإِنَّ حَاجَةَ الْبَشَرِ إِلَى طِبِّ الْأَرْوَاحِ وَالِاجْتِمَاعِ، لَأَشَدُّ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى طِبِّ الْأَبْدَانِ. (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لِهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الْأَنْعَامِ ٦: ١٤٩).
((رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا وَرَسُولًا))
(وَنَعُودُ إِلَى نَسَقِ التَّفْسِيرِ بِاسْمِ اللهِ وَحَمْدِهِ).
وَأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَبْحَثُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَلَا أَنَّهُ نَطَقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِهَا، وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ بِهَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ سِنِّ الْأَرْبَعِينَ وَهِيَ سِنٌّ لَمْ يُعْرَفْ فِي اسْتِعْدَادِ أَنْفُسِ الْبَشَرِ وَمُدْرَكَاتِ عُقُولِهِمْ، وَلَا فِي تَارِيخِهِمْ أَنَّ صَاحِبَهَا يَأْتَنِفُ مِثْلَهَا ائْتِنَافًا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ الْبَدْءُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي أَنْفِ عُمْرِهِ، وَآنِفَةِ شَبَابِهِ وَشَرْخِهِ، رَاجِعْ هَذَا كُلَّهُ وَتَأَمَّلْهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً تَجِدْ عَقْلَكَ مُضْطَرًّا إِلَى الْجَزْمِ بِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ بَشَرٍ أُمِّيٍّ أَوْ مُتَعَلِّمٍ، وَأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَسَرَّبَ إِلَى ذِهْنِهِ بَعْضُ مَسَائِلِهَا مِنْ أَفْوَاهِ عُقَلَاءِ قَوْمِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَقِيَ فِي أَسْفَارِهِ الْقَلِيلَةِ، أَوْ أَنَّهُ فَكَّرَ فِي حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى مِثْلِهَا مِمَّا أَدْرَكَهُ بِذَكَائِهِ الْفِطْرِيِّ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ. فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْفَلَتَاتُ الشَّارِدَةُ، وَهَذِهِ الْخَطَرَاتُ الْوَارِدَةُ، تَبْلُغُ هَذَا الْحَدَّ مِنَ التَّحْقِيقِ وَالْوَفَاءِ بِحَاجَةِ الْأُمَمِ كُلِّهَا، وَأَنْ تَظَلَّ كُلُّهَا مَكْتُومَةً مِنْ سِنِّ الصِّبَا وَعَهْدِ حُبِّ الظُّهُورِ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، بِهَذِهِ الرَّوْعَةِ مِنَ الْبَيَانِ، وَسُلْطَانِ الْبَلَاغَةِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَقُوَّةِ الْبُرْهَانِ فِي الْعُقُولِ، فَتُحْدِثَ هَذِهِ الثَّوْرَةَ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُغَيِّرَةِ لِطِبَاعِهَا، الْمُبَدِّلَةِ لِأَوْضَاعِهَا، بِحَيْثُ تَسُودُ بِهَا شُعُوبُ الْمَدَنِيَّةِ كُلِّهَا وَيَتْلُو ذَلِكَ مَا قَصَّهُ التَّارِيخُ مِنَ الِانْقِلَابِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ؟ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يَظْهَرَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ أُمَمَ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ الْعَجِيبَةِ أَشَدُّ حَاجَةً إِلَيْهَا مِمَّنْ قَبْلَهُمْ؟ كَلَّا إِنَّ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ مِثْلُهُ فِي الْبَشَرِ.
وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ هَذَا؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَهُ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَتْبَعَهُ وَيَهْتَدِيَ بِهِ لِتَكْمِيلِ إِنْسَانِيَّتِهِ وَإِعْدَادِهَا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَإِنِ اعْتَرَضَتْهُ شُبْهَةٌ عَلَيْهِ فَلْيَبْحَثْ عَنْهَا أَوْ لِيَنْبِذْهَا، فَمَا كَانَ لِعَاقِلٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ نَفْعُ عِلْمِ الطَّلَبِ أَنْ يَتْرُكَ مُرَاعَاتَهُ فِي حِفْظِ صِحَّتِهِ أَوْ مُدَاوَاةِ مَرَضِهِ لِشُبْهَةٍ فِي بَعْضِ مَسَائِلِهِ، أَوْ خَيْبَةِ الْأَطِبَّاءِ فِي بَعْضِ مُعَالَجَاتِهِمْ لِلْمَرْضَى، وَإِنَّ حَاجَةَ الْبَشَرِ إِلَى طِبِّ الْأَرْوَاحِ وَالِاجْتِمَاعِ، لَأَشَدُّ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى طِبِّ الْأَبْدَانِ. (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لِهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الْأَنْعَامِ ٦: ١٤٩).
((رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا وَرَسُولًا))
(وَنَعُودُ إِلَى نَسَقِ التَّفْسِيرِ بِاسْمِ اللهِ وَحَمْدِهِ).
240
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).
افْتَتَحَ السُّورَةَ بِذِكْرِ آيَاتِ الْكِتَابِ، النَّاطِقِ بِالْحِكْمَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ وَأَنْكَرَ عَلَى النَّاسِ عَجَبَهُمْ أَنْ يُوحِيَ رَبُّهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ بِهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُهُمْ، مُنْذِرًا مَنْ كَفَرَ بِالْعِقَابِ، وَمُبَشِّرًا مَنْ آمَنَ بِالثَّوَابِ وَحَكَى عَنِ الْكَافِرِينَ وَصْفَهُمْ لِهَذَا الْكِتَابِ الْحَكِيمِ وَلِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ بِالسِّحْرِ؛ إِذْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْبَشَرِ مُشَعْوِذُونَ وَدَجَّالُونَ يَأْتُونَ بَعْضَ الْخَوَارِقِ الَّتِي لَا يَعْرِفُ الْجَمَاهِيرُ أَسْبَابَهَا، فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْمُعْجِزَ لِلْبَشَرِ بِأُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَبِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَبِتَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَوْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ مِنْ هَذَا السِّحْرِ الْمَعْهُودِ وَجُودُهُ، الْمَجْهُولِ سَبَبُهُ وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ قَبْلَهُ شَيْءٌ مِنْ بَلَاغَةِ الْقَوْلِ، وَلَا مِنْ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَالْعِلْمُ، يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مُنْتَحَلًا لِلسِّحْرِ، وَلَكِنَّ السِّحْرَ لَمْ يَكُنْ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ حَقَائِقَ عِلْمِيَّةً وَلَا هِدَايَةً نَافِعَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَالسَّحَرَةُ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أُنَاسًا مِنَ الْمُتَكَسِّبِينَ بِإِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَى غَرَائِبِهِمُ الْمَجْهُولَةِ لَهُمْ، فَأَيْنَ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، مِنْ حَقَائِقَ سَاطِعَةٍ، وَهُوَ لَا يَسْأَلُ عَلَيْهَا أَجْرًا وَلَا يَبْتَغِي بِهَا لِنَفْسِهِ نَفْعًا إِذْ هِيَ بَاقِيَةٌ بِنَفْسِهَا وَبِآثَارِهَا النَّافِعَةِ، وَالسِّحْرُ بَاطِلٌ لَا بَقَاءَ لَهُ؟ فَالْمُتَعَيَّنُ عِنْدَ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْعُلُوِّ عَلَى كَلَامِ الْبَشَرِ، وَالْإِعْجَازِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ بِالتَّحَدِّي، وَحْيًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَنِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، الَّذِي هُوَ لِجُمْلَتِهِمْ، كَالْعَقْلِ لِأَفْرَادِهِمْ، وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَذَا الرَّبِّ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، الْبَرِّ الرَّحِيمِ، أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا مِنْ حِكْمَةِ رُبُوبِيَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْعَالِمِينَ، وَإِلَّا كَانَتْ صِفَاتُهُ نَاقِصَةً بِحِرْمَانِ هَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْأَعْلَى مِنَ الْعِرْفَانِ، وَالْبَيِّنَاتِ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، وَلِذَلِكَ قَفَّى حِكَايَةَ عَجَبِهِمْ وَمَا عَلَّلُوهُ بِهِ، مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْحُجَّةِ الَّتِي تَنْقُضُهُ مِنْ أَسَاسِهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى تَفْنِيدِهِمْ فِي عَجَبِهِمْ مِنْ وَحْيِ الْقُرْآنِ، وَبَيَانٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي يَقْتَضِي كَمَالُهَا ثُبُوتَهُ وَبُطْلَانَ الشَّرَكِ، وَالْخِطَابُ فِيهَا لِلنَّاسِ الَّذِينَ عَجِبُوا أَنْ يُوحَى إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا فِيهِ هِدَايَتُهُمْ بِأُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ الْمُنَبِّهِ لِلذِّهْنِ، يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبَّكُمْ هُوَ اللهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَوَالِمَ السَّمَاوِيَّةَ الَّتِي
افْتَتَحَ السُّورَةَ بِذِكْرِ آيَاتِ الْكِتَابِ، النَّاطِقِ بِالْحِكْمَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ وَأَنْكَرَ عَلَى النَّاسِ عَجَبَهُمْ أَنْ يُوحِيَ رَبُّهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ بِهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُهُمْ، مُنْذِرًا مَنْ كَفَرَ بِالْعِقَابِ، وَمُبَشِّرًا مَنْ آمَنَ بِالثَّوَابِ وَحَكَى عَنِ الْكَافِرِينَ وَصْفَهُمْ لِهَذَا الْكِتَابِ الْحَكِيمِ وَلِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ بِالسِّحْرِ؛ إِذْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْبَشَرِ مُشَعْوِذُونَ وَدَجَّالُونَ يَأْتُونَ بَعْضَ الْخَوَارِقِ الَّتِي لَا يَعْرِفُ الْجَمَاهِيرُ أَسْبَابَهَا، فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْمُعْجِزَ لِلْبَشَرِ بِأُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَبِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَبِتَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَوْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ مِنْ هَذَا السِّحْرِ الْمَعْهُودِ وَجُودُهُ، الْمَجْهُولِ سَبَبُهُ وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ قَبْلَهُ شَيْءٌ مِنْ بَلَاغَةِ الْقَوْلِ، وَلَا مِنْ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَالْعِلْمُ، يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مُنْتَحَلًا لِلسِّحْرِ، وَلَكِنَّ السِّحْرَ لَمْ يَكُنْ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ حَقَائِقَ عِلْمِيَّةً وَلَا هِدَايَةً نَافِعَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَالسَّحَرَةُ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أُنَاسًا مِنَ الْمُتَكَسِّبِينَ بِإِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَى غَرَائِبِهِمُ الْمَجْهُولَةِ لَهُمْ، فَأَيْنَ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، مِنْ حَقَائِقَ سَاطِعَةٍ، وَهُوَ لَا يَسْأَلُ عَلَيْهَا أَجْرًا وَلَا يَبْتَغِي بِهَا لِنَفْسِهِ نَفْعًا إِذْ هِيَ بَاقِيَةٌ بِنَفْسِهَا وَبِآثَارِهَا النَّافِعَةِ، وَالسِّحْرُ بَاطِلٌ لَا بَقَاءَ لَهُ؟ فَالْمُتَعَيَّنُ عِنْدَ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْعُلُوِّ عَلَى كَلَامِ الْبَشَرِ، وَالْإِعْجَازِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ بِالتَّحَدِّي، وَحْيًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَنِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، الَّذِي هُوَ لِجُمْلَتِهِمْ، كَالْعَقْلِ لِأَفْرَادِهِمْ، وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَذَا الرَّبِّ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، الْبَرِّ الرَّحِيمِ، أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا مِنْ حِكْمَةِ رُبُوبِيَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْعَالِمِينَ، وَإِلَّا كَانَتْ صِفَاتُهُ نَاقِصَةً بِحِرْمَانِ هَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْأَعْلَى مِنَ الْعِرْفَانِ، وَالْبَيِّنَاتِ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، وَلِذَلِكَ قَفَّى حِكَايَةَ عَجَبِهِمْ وَمَا عَلَّلُوهُ بِهِ، مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْحُجَّةِ الَّتِي تَنْقُضُهُ مِنْ أَسَاسِهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى تَفْنِيدِهِمْ فِي عَجَبِهِمْ مِنْ وَحْيِ الْقُرْآنِ، وَبَيَانٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي يَقْتَضِي كَمَالُهَا ثُبُوتَهُ وَبُطْلَانَ الشَّرَكِ، وَالْخِطَابُ فِيهَا لِلنَّاسِ الَّذِينَ عَجِبُوا أَنْ يُوحَى إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا فِيهِ هِدَايَتُهُمْ بِأُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ الْمُنَبِّهِ لِلذِّهْنِ، يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبَّكُمْ هُوَ اللهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَوَالِمَ السَّمَاوِيَّةَ الَّتِي
241
فَوْقَكُمْ، وَهَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي يَعِيشُونَ عَلَيْهَا فِي سِتَّةِ أَزْمِنَةٍ ثُمَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا طَوْرٌ مِنْ أَطْوَارِهَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَحُدُّهُ حَدَثٌ يَحْدُثُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ أُلُوفَ السِّنِينَ مِنْ أَيَّامِ هَذِهِ الْأَرْضِ الْفَلَكِيَّةِ الَّتِي وُجِدَتْ بَعْدَ خَلْقِهَا، أَيْ أَوْجَدَهَا كُلَّهَا بِمَقَادِيرَ قَدَّرَهَا فَإِنَّ الْخَلْقَ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ الَّذِي جَعَلَهُ مَرْكَزَ التَّدْبِيرِ، لِهَذَا الْمُلْكِ الْكَبِيرِ، اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَتَنْزِيهِهِ وَكَمَالِهِ، يُدَبِّرُ أَمْرَ مُلْكِهِ، بِمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُهُ مِنَ النِّظَامِ، وَحِكْمَتُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَالِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ خَلْقِهِمَا، وَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ مِنْ قَبْلِهِمَا، شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ فِيمَا لَا نَعْلَمُ كُنْهَهُ وَلَا صِفَتَهُ مِنْ تَدْبِيرِ هَذَا الْمُلْكِ، وَكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، لَا يُدْرِكُ كُنْهَ شُئُونِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ.
وَالتَّدْبِيرُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّوْفِيقُ بَيْنَ أَوَائِلِ الْأُمُورِ وَمَبَادِئِهَا، وَأَدْبَارِهَا وَعَوَاقِبِهَا، بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَبَادِئُ مُؤَدِّيَةً إِلَى مَا يُرِيدُ مِنْ غَايَاتِهَا، كَمَا أَنَّ تَدَبُّرَ الْأَمْرِ أَوِ الْقَوْلِ هُوَ التَّفَكُّرُ فِي دُبُرِهِ وَهُوَ مَا وَرَاءَهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ الْمُدَبِّرَ لِجَمِيعِ أُمُورِ الْخَلْقِ، لَا يَسْتَنْكِرُ مِنْ تَرْبِيَتِهِ لِعِبَادِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِهِمْ، أَنْ يَفِيضَ مَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ عَلَى مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ، مَا يَهْدِيهِمْ بِهِ لِمَا فِيهِ كَمَالُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ مِنْ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ وَصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْعَالِمِ بِهَذَا التَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ آيَاتُهُ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا الْوَحْيَ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، إِذْ هُوَ مِنْ كَمَالِ تَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ (٧: ٥٤) الِاخْتِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ، وَأَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَثَرِ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَأَشْبَاهِهَا مِنْ آيَاتِ عُلُوِّ الْخَالِقِ تَعَالَى فَوْقَ خَلْقِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ الْجَامِعُ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ.
ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حُجَّةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ، فِي ضِمْنِ حَقِيقَةٍ نَاقِضَةٍ لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ، ذَلِكَ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَمُقَلِّدَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَعِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِمَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُ لَهُمُ النَّفْعَ فِي الدُّنْيَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يُثْبِتُونَ لَهُمُ الشَّفَاعَةَ فِي الْآخِرَةِ بِالْأَوْلَى، وَيُسَمُّونَ الْأَصْنَامَ الَّتِي وُضِعَتْ لِذِكْرَى أُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءِ شُفَعَاءَ أَيْضًا بِالتَّبَعِ، وَسَيَأْتِي فِي (الْآيَةِ ١٨) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ حِكَايَةُ مَا يَقُولُونَهُ فِي هَذِهِ الشَّفَاعَةِ. وَيُقَالُ فِي بَيَانِ وَجْهِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِيهَا: إِنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِلَّهِ شُفَعَاءَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُقَرِّبِينَ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ بِمَا يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَدْفَعُ عَنْكُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُ لَكُمُ النَّفْعَ - وَهُوَ قَوْلٌ مِنْكُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ - فَمَا لَكُمْ تُنْكِرُونَ وَتَعْجَبُونَ أَنْ يُوحِيَ تَعَالَى إِلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْطَفِيَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ مَنْ يُعَلِّمُكُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَهْدِيكُمْ إِلَى الْعَمَلِ
وَالتَّدْبِيرُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّوْفِيقُ بَيْنَ أَوَائِلِ الْأُمُورِ وَمَبَادِئِهَا، وَأَدْبَارِهَا وَعَوَاقِبِهَا، بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَبَادِئُ مُؤَدِّيَةً إِلَى مَا يُرِيدُ مِنْ غَايَاتِهَا، كَمَا أَنَّ تَدَبُّرَ الْأَمْرِ أَوِ الْقَوْلِ هُوَ التَّفَكُّرُ فِي دُبُرِهِ وَهُوَ مَا وَرَاءَهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ الْمُدَبِّرَ لِجَمِيعِ أُمُورِ الْخَلْقِ، لَا يَسْتَنْكِرُ مِنْ تَرْبِيَتِهِ لِعِبَادِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِهِمْ، أَنْ يَفِيضَ مَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ عَلَى مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ، مَا يَهْدِيهِمْ بِهِ لِمَا فِيهِ كَمَالُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ مِنْ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ وَصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْعَالِمِ بِهَذَا التَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ آيَاتُهُ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا الْوَحْيَ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، إِذْ هُوَ مِنْ كَمَالِ تَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ (٧: ٥٤) الِاخْتِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ، وَأَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَثَرِ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَأَشْبَاهِهَا مِنْ آيَاتِ عُلُوِّ الْخَالِقِ تَعَالَى فَوْقَ خَلْقِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ الْجَامِعُ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ.
ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حُجَّةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ، فِي ضِمْنِ حَقِيقَةٍ نَاقِضَةٍ لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ، ذَلِكَ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَمُقَلِّدَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَعِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِمَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُ لَهُمُ النَّفْعَ فِي الدُّنْيَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يُثْبِتُونَ لَهُمُ الشَّفَاعَةَ فِي الْآخِرَةِ بِالْأَوْلَى، وَيُسَمُّونَ الْأَصْنَامَ الَّتِي وُضِعَتْ لِذِكْرَى أُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءِ شُفَعَاءَ أَيْضًا بِالتَّبَعِ، وَسَيَأْتِي فِي (الْآيَةِ ١٨) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ حِكَايَةُ مَا يَقُولُونَهُ فِي هَذِهِ الشَّفَاعَةِ. وَيُقَالُ فِي بَيَانِ وَجْهِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِيهَا: إِنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِلَّهِ شُفَعَاءَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُقَرِّبِينَ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ بِمَا يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَدْفَعُ عَنْكُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُ لَكُمُ النَّفْعَ - وَهُوَ قَوْلٌ مِنْكُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ - فَمَا لَكُمْ تُنْكِرُونَ وَتَعْجَبُونَ أَنْ يُوحِيَ تَعَالَى إِلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْطَفِيَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ مَنْ يُعَلِّمُكُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَهْدِيكُمْ إِلَى الْعَمَلِ
242
الْمُوَصِّلِ إِلَى كُلِّ مَا تَطْلُبُونَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ بِاسْتِحْقَاقٍ بِدُونِ عَمَلٍ مِنْكُمْ وَلَا اسْتِحْقَاقٍ لِمَا تَطْلُبُونَ مِنْهُمْ؟.
وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ النَّاقِضَةُ لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ فِي الشَّفَاعَةِ، فَهِيَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ شَفِيعٌ يَشْفَعُ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ تَعَالَى إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢: ٢٥٥) وَلَيْسَ لِأَحَدٍ حَقٌّ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ تَعَالَى بِمَنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ وَمَنْ يَقَبْلُ شَفَاعَتَهُ إِلَّا بِإِعْلَامٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي وَحْيِ هَذَا الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ بِإِذْنِهِ إِلَّا مَنِ ارْتَضَاهُ لِلشَّفَاعَةِ (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) (٢٠: ١٠٩) وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَأْذُونَ لَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى رَاضِيًا عَنْهُ بِإِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ كَمَا قَالَ: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (٢١: ٢٨) مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) (٣٩: ٤٤).
(ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) احْتِجَاجٌ بِمَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِ
وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ النَّاقِضَةُ لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ فِي الشَّفَاعَةِ، فَهِيَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ شَفِيعٌ يَشْفَعُ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ تَعَالَى إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢: ٢٥٥) وَلَيْسَ لِأَحَدٍ حَقٌّ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ تَعَالَى بِمَنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ وَمَنْ يَقَبْلُ شَفَاعَتَهُ إِلَّا بِإِعْلَامٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي وَحْيِ هَذَا الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ بِإِذْنِهِ إِلَّا مَنِ ارْتَضَاهُ لِلشَّفَاعَةِ (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) (٢٠: ١٠٩) وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَأْذُونَ لَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى رَاضِيًا عَنْهُ بِإِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ كَمَا قَالَ: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (٢١: ٢٨) مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) (٣٩: ٤٤).
(ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) احْتِجَاجٌ بِمَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِ