تفسير سورة طه

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة طه من كتاب مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير .
لمؤلفه ابن باديس . المتوفي سنة 1359 هـ

حسن التلقي وطلب المزيد
" ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل رب زدني علما ".
من أدب المتعلم :
لا حياة إلا بالعلم، وإنما العلم بالتعلم، فلن يكون عالما إلا من كان متعلما.
كما لن يصلح معلما إلا من قد كان متعلما.
ومحمد - صلى الله عليه وآله وسلم – الذي بعثه الله معلما كان أيضا متعلما : علمه الله بلسان جبريل، فكان متعلما عن جبريل عن رب العالمين، ثم كان معلما للناس أجمعين.
أرأيت أصل العلم ومن معلموه و متعلموه ؟
ثم أرأيت شرف رتبة التعلم والتعليم ؟ !
لا جرم١كان لرتبة التعلم آدابها ولرتبة التعليم آدابها. وكان محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – أكمل الخلق في آدابها ؛ بما أدبه الله، وأنزل عليه من الآيات فيهما، مثل آيتنا اليوم وغيرها.
لزوم الصمت عند السماع :
كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – إذا أنزل عليه جبريل – عليه السلام – بالوحي وقرأه عليه، قرأ معه وساوقه في القراءة. وكان ذلك منه - صلى الله عليه وآله وسلم – لحرصه على حفظه وعدم نسيانه، حتى يبلغه كما أنزل عليه.
ولأن تعلق قلبه بما يسمع من جبريل، وامتلاءه به، واستيلاء ذلك المسموع على لبه، يدعوه إلى النطق به، لما بين القلب واللسان من الارتباط، ولأن شوقه إلى ذلك المسموع ومحبته ورغبته فيه، تبعثه على التعجل بقراءته.
غير أن القراءة عند السماع، وقبل تمام الإلقاء، تمنع تمام الوعي، لأن عمل اللسان بالنطق يضعف عمل القلب بالوعي والحفظ، فلهذا نهى الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم – عن أن يعجل بقراءة القرآن عند سماعه من جبريل، من قبل أن يقضي، ويتمم إليه وحيه، فقال تعالى :" ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه. "
تأكيد الصمت بكف اللسان :
لا يتم تفرغ القلب للوعي إلا بسكون اللسان، فلا يكفي في تفرغه ترك القراءة الجهرية عند السماع، حتى ينكف اللسان عن الحركة، فلا تكون قراءة لا جهرا ولا سرا، فلذا أكد الله تعالى طلب ترك القراءة بالنهي عن تحريك اللسان فقال تعالى :" لا تحرك به لسانك لتعجل به ".
ثم بين أن الله يجمعه في قلبه - صلى الله عليه وآله وسلم – بالحفظ، وأنه يطلق بقراءته لسانه بقوله " إن علينا جمعه وقرآنه " أي قراءتك إياه.
ثم أمره أن يتبع قراءة جبريل إذا قرأه عليه، فيقرأه كما قرأه جبريل وفرغ منه فاتبع قراءته فاقرأه كما قرأه. وإنه تعالى يبينه بأقوال نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم – وأفعاله بقوله :" ثم إنا علينا بيانه ".
هذا الأدب أدب عام.
أدب البحث والمناظرة :
إنما المقصود من الكلام البيان عن المراد، وإنما المقصود من السماع وعي الكلام، ليفهم المراد.
فكما كان على المتعلم أن يسكت حتى يفرغ معلمه من القدر المرتبط بعضه ببعض، مما يلقيه إليه المعلم، حتى يفرغ المعلم من لقائه، كذلك على المناظر أن يستمع لمناظره حتى يستوفي دعواه وحجته.
وعلى كل قارئ لكتاب أن يستوفي ما يرتبط بعضه ببعض منه، ثم يبدي رأيه فيه.
وعلى كل مستمع لمتكلم كذلك.
فبهذا الأدب يتم وعي المتعلم، فيحفظ، وفهم المناظرة فيرد ويقبل، وفهم القارئ فيعرف ما يأخذ وما يترك، وفهم السامع لتحصل فائدة الاستماع.
وبترك هذا الأدب كثيرا ما يقع سوء الوعي، أو سوء الفهم، وفوات القصد من المناظرة والقراءة أو الكلام.
دوام العلم للازدياد من العلم :
يتعلم الإنسان حتى يصير عالما، ويصير معلما، ولكنه مهما حاز من العلم وبلغ من درجة فيه، ومهما قضى من حياته في التعليم وتوسع فيه وتكمل، فلن يزال بحاجة إلى العلم، ولن تزال أمامه فيما علمه أشياء مجهولة، يحتاج إليها.
فعليه أبدا أن يتعلم، وأن يطلب المزيد، ولذا أمر الله نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو المعلم الأعظم – أن يطلب من الله – وهو الذي علمه ما لم يكن يعلم – أن يزيده علما فقال :" وقل رب زدني علما ".
تحذير واقتداء :
المغرور وأثره :
ما أكثر ما رأينا من قطعهم ما حصلوا عليه من علم، عن العلم ؛ فوقف بهم عندما انتهوا إليه، فجدوا وأكسبهم الغرور بما عندهم، فتعظموا وتكلموا فيما لم يعلموا، فضلوا وأضلوا، وكانوا على أنفسهم وعلى الناس شر فتنة وأعظم بلاء.
فبمثل هذه الآية الكريمة يداوي نفسه من ابتلى بهذا المرض، فيقلع عن جموده وغروره، ويزداد مما ليس عنده علم ما لم يعلم.
ويحذر من أن يقف على طلب العلم ما دام فيه زمن من الحياة ويقتدى بهذا النبي الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم – فلن يزال يطلب من الله تعالى أن يزيده علما بما ييسر له من خزائن رحمته، وما يلقيه في قلبه من نور، وما يجعل له من فرقان، وما يوفقه الله إليه من أصل ذلك كله، وهو تقوى الله، والعمل بما علمه٢.
نسأل الله لنا والمسلمين العلم النافع، والعمل الصالح. فهو ولي الهداية والتوفيق.
١ لا جرم : حقا..
٢ والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول :" إن يوما لا ازداد فيه علما فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم ".
وجاء في الأثر " منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال "..

Icon