ﰡ
في السورة حكاية لأقوال وعقائد الكفار، وفصول مناظرة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وإشارة إلى جهود الزعماء في التعطيل والصدّ واعتدادهم بالأولاد والأموال. وتنويه بالمؤمنين المخلصين. وإشارة إلى داوود وسليمان وما كان من إسباغ الله عليهما نعمه وشكرهما إيّاه. وإلى سبأ وما كان من رغدها وعدم شكرها ونقمة الله عليها، وفيها صور لما كان عليه الموقف في مكة بالنسبة للنبي ﷺ والمسلمين وزعماء الكفار وسوادهم ومعتدليهم ومتطرفيهم.
وفصول السورة مترابطة مما يسوّغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن الآية [٦] مدنية والرواية تتحمل التوقف لانسجام الآية الوثيق في السياق.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١ الى ٢]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢). (١) يلج: يدخل.
(٢) يعرج: يصعد.
الآيتان مطلع بارز للسورة، ومقدمة لما بعدهما. وقد احتوتا تقرير الحمد لله في كل وقت والتنويه بحكمته ورحمته وإحاطته ومطلق تصرفه في السموات
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣ الى ٥]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)
. (١) لا يعزب: لا يبتعد ولا يختفي.
(٢) كتاب مبين: كناية عن علم الله وشموله.
(٣) رجز: صفة لشدة العذاب وسوئه.
في الآيات حكاية لإنكار الكفار لمجيء الساعة، أي البعث والحياة الأخروية. وأمر للنبي ﷺ بالتوكيد بمجيئها مقسما على ذلك بالله الذي يعلم الغيب والذي لا يخفي عليه ولا يخرج عن شمول علمه وتصرفه مثقال ذرة في السموات والأرض ولا أكبر ولا أصغر من ذلك. وقد اقتضت حكمته وعدله أن تأتي الساعة ويبعث الناس للحساب ليجزي المؤمنين الذين عملوا الأعمال الصالحة بما يستحقون من المغفرة والرزق الكريم. والكافرين الذين يسعون في تعطيل دعوة الله وإطفاء نورها بما يستحقون من العذاب الشديد الموجع.
ومن المحتمل أن تكون الآيات ترديدا لقول قاله الكفار في موقف وجاهي، وهي على كل حال تحتوي مشهدا من مشاهد الجدل بين النبي ﷺ والكفار ومواقفهم منه. وتلهم أن مطلع السورة جاء كما قلنا مقدمة لحكاية هذا المشهد أو الموقف وما بعده من مشاهد ومواقف. وقد تكررت حكاية مثل هذا المشهد وحكاية إنكار الكفار للبعث وتوكيد القرآن له كثيرا حيث يدل كما قلنا قبل على أن
والتوكيد بالقسم نافذ والحجة على قدرة الله على تحقيق الوعد قوية. فعلم الله وقدرته وتصرفه المطلق في الكون، كل هذا مما يعترف به الكفار، وكل هذا مما يجعل تحقيق الوعد في نطاق قدرة الله تعالى. وحكمة ذلك ظاهرة لأنه مقتضى صفة العدل في الله عز وجل حتى ينال كل من المحسنين والمسيئين جزاء أعمالهم.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٦]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦)
. (١) يرى: هنا بمعنى يعلم أو يدرك.
الآية معطوفة على سابقاتها، وقد احتوت تقرير كون ما احتوته الآيات القرآنية من توكيد البعث الأخروي وقدرة الله تعالى عليه وحكمته فيه، شأنه أن يجعل الذين أوتوا العلم يتأكدون من أن ما أنزل إلى النبي ﷺ من ربّه هو الحق الهادي إلى صراط الله العزيز المستحق للحمد وحده.
تعليق على جملة وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وعلى رواية مدينة الآية [٦] التي جاءت فيها
وقد تعددت أقوال المفسرين للمقصود في جملة الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ حيث قال بعضهم: إنها عنت أهل الكتاب أو بعض مسلمي اليهود منهم، وبعضهم إنها عنت أولي العلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وبعضهم إنها عنت أولي العلم والفهم
وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية مدنية، وروى بعض المفسرين «٢» أنها نزلت في عبد الله بن سلام أو غيره من مسلمة يهود المدينة الذين شهدوا بصدق القرآن ونبوة النبي صلّى الله عليه وسلم. والروايات غير موثقة، والآية إلى ذلك منسجمة أشد الانسجام مع ما قبلها وما بعدها. وفي حالة انفرادها في النزول لا تؤدي المعنى الذي شرحناه شرحا نرجو أن يكون الصواب والحق. وحتى على فرض أن يكون المقصود من جملة الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أهل الكتاب، فإن هذا لا يقتضي أن يكون المقصودون هم مسلمة يهود المدينة. فقد كان في مكة يهود ونصارى، وقد أسلموا وشهدوا بصحة الرسالة المحمدية وصدق صلة القرآن بالله على ما ذكرته آيات مكية عديدة مرّ بعضها في السور المفسرة السابقة المذكورة آنفا.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٧ الى ٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
(٢) انظر تفسير الطبري.
(٢) جنة: الجن والجنون وهنا بمعنى الجنون.
في الآيات حكاية لأقوال أخرى للكفار حول البعث حيث كانوا حينما يكرر النبي صلّى الله عليه وسلم أخبار الآخرة وأهوالها وينذر بها ويؤكد حقيقية البعث يستنفرون الناس استنفار تشويش واستنكار وهزء قائلين لهم تعالوا ندلكم على الرجل الذي ينبىء الناس أنهم سيخلقون خلقا جديدا بعد أن يموتوا وتبلى أجسادهم وعظامهم وتتفتت وتنتثر في الأرض. وكانوا يتساءلون على سبيل التهويش والاستنكار عما إذا لم يكن النبي ﷺ فيما يقوله يفتري على الله الكذب أو أنه اعتراه الجنون. ورد عليهم بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين في حقيقة الأمر في ضلال وأن لهم من أجل ضلالهم هذا العذاب الشديد. ثم انتقل الكلام في الآيات إلى البرهنة على قدرة الله وعظمته، فكيف يشكون في ذلك وهم يرون مشاهد عظمة الله تعالى وقدرته ماثلة في السماء والأرض وبين أيديهم وخلفهم. ثم أنذرتهم الآية الأخيرة إنذارا رهيبا فلو شاء الله لعجل عليهم بلاءه القاصم فخسف بهم الأرض أو أسقط عليهم كسفا من السماء، وأهابت بأصحاب النوايا الحسنة ففي الكون من الآيات الدالة على قدرة الله براهين يدركها كل من حسنت نيته فأناب إلى الله واعترف بالعبودية له.
وصلة الآيات بسابقاتها واضحة من حيث إنها استمرار في حكاية إنكار المشركين للبعث أو استمرار في حكاية المشهد الجدلي والحجاجي حوله بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبينهم.
وأسلوب الآيات إجمالا يدل بصراحة أكثر من المناسبات السابقة على أن تساؤلهم هو تساؤل المستغرب المندهش وأن نسبتهم الجنون إلى النبي ﷺ كانت
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٠ الى ١٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
. (١) أوّبي: رجّعي. والقصد رجّعي التسبيح مع داود.
(٢) سابغات: دروع وافية كاملة لجميع الجسم.
(٣) قدر في السرد: التقدير بمعنى الحساب وحسن التدبير. والسرد صفة لنسج الحديد وقيل صفة للمسمار، والمقصود من الجملة أمر بإتقان عمل الدرع ونسجه. والدرع زرد وحلقات، ومن هنا يكون معنى النسج.
(٤) غدوّها شهر ورواحها شهر: الغدوّ من الصباح إلى منتصف النهار والرواح من بعد منتصف النهار إلى المساء. والغدوّ هو الذهاب في الصباح، والرواح هو العودة في المساء أيضا. ومعنى الجملة أن ما كان يسار في وقت الغدوّ على الريح من المسافة ذهابا يعدل مسيرة شهر وما كان يسار في وقت الرواح يعدل مسيرة شهر آخر.
(٥) عين القطر: قال المفسرون: إنها نبع نحاس ذائب أجراه الله لسليمان.
(٦) يزغ: يحيد ويتهرب.
(٧) محاريب: قيل إنها جمع محراب مكان العبادة، وقيل إنها القصور والمساكن عامة.
(٨) تماثيل: الهياكل المخلقة.
(٩) جفان: جمع جفنة وهي طبق الطعام الكبير.
(١٠) الجواب: جمع جابية وهي الحوض. وشبهت الجفان بالجواب للدلالة على عظمها.
(١١) قدور: جمع قدر. وهي آنية الطبخ.
(١٢) راسيات: ثابتات.
(١٣) دابة الأرض: اسم الدودة المعروفة بالسوس والتي تنخر الخشب وهي الأرضة.
(١٤) منسأته: عصاه.
(١٥) خرّ: وقع.
احتوت الآيات إشارة إلى ما كان من أفضال الله على داود وسليمان عليهما السلام حيث آتى الأول فضلا فأمر الجبال والطير بترجيع تسابيحه وترانيمه. وألان في يده الحديد وألهمه عمل الدروع السابغة أو أمره بإتقان صنعها، وبفعل الأعمال الصالحة، ونبهه إلى أنه بصير بما يعمله رقيب عليه فيه وحيث سخر للثاني الريح فكانت تقطع مسيرة شهر في الغدو ومسيرة شهر في الرواح. وأسال له عين القطر
تعليق على قصة داود وسليمان في السورة
والمتبادر الذي تلهمه روح الآيات أنها بسبيل التذكير بما كان من إخلاص داود وسليمان واعترافهما بفضل الله وشكرهما له مع ما كان لهما من سعة ملك وسلطان، وضرب المثل بهما للكفار الذين يقفون من آيات الله ونعمه موقف العناد والمكابرة والجحود والتكذيب. وعلى ذلك تكون الآيات استطرادية متصلة من ناحية التمثيل والتذكير بالآيات السابقة لها التي احتوت ذكر مواقف الكفار وجحودهم شأن القصص القرآنية عامة.
ولعله أريد بالآيات تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الكفار يقفون من دعوته إلى الله ذلك الموقف فإن من عباده من يشكره على نعمه ويقف منه موقف العابد الأواب المسبح دائما بحمده وهم من أعظم الناس شأنا وسلطانا كداود وسليمان عليهما السلام.
ولقد جاء في سورتي «ص» و «النمل» اللتين سبق تفسيرهما فصلان طويلان عن داود وسليمان في أعقاب ذكر ما كان من مواقف تكذيب الكفار ومكابرتهم وعنادهم. ولمحنا فيهما هذا القصد حيث تكون حكمة التنزيل اقتضت أن ينزل مثل ذلك مرة أخرى في مناسبة مماثلة متجددة.
وهذه الزيادات أيضا لم ترد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم التي تقص سيرة داود وسليمان عليهما السلام، غير أن هذا لا يعني أنها لم ترد في أسفار أخرى كانت متداولة وفقدت بل نحن نعتقد ذلك كما هو الأمر فيما ورد في القرآن مما لم يرد في الأسفار المتداولة من قصص بني إسرائيل وأنبيائهم على ما ذكرناه في المناسبات السابقة.
ولقد أورد المفسرون «١» في سياق هذه الآيات بيانات كثيرة في صدد هذه الزيادات منسوبة إلى علماء السير والأخبار. ولسنا نرى طائلا في إيرادها هنا لأن ذلك لا يتصل بأهداف القصص القرآنية فضلا عما فيها من تزيد ومفارقات، مع التنبيه إلى أن ذلك مما يدل على أن هذه الزيادات ليست غريبة عن سامعي القرآن، ومما كان متداولا بينهم، ومصدره على الأرجح بنو إسرائيل الذين كانوا بين ظهرانيهم.
ولقد كان من جملة ما أوردوه حديث أورده الطبري عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «كان سليمان نبيّ الله إذا صلّى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها ما اسمك فتقول كذا فيقول لأيّ شيء أنت فإن كانت تغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت فبينما هو يصلّي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك؟
قالت: الخروب. قال: لأيّ شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. فقال سليمان:
وهذه الأحاديث غير واردة في كتب الأحاديث الصحيحة، فإذا كانت صحيحة فيكون فيها توضيح لأمور مغيبة وردت الإشارة إليها في الآيات فيوقف عندها.
والله أعلم.
ولقد سبقت تقريرات قرآنية متنوعة عن الجنّ وعلقنا عليها بما فيه الكفاية فلا نرى ضرورة لزيادة شيء هنا إلّا تقرير واجب الإيمان بما يخبر به القرآن عنهم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى ومقتضى حكمته المغيبة عنا. وقد يكون في ذكر حالتهم بالأسلوب الذي ورد في الآيات وتقرير جهلهم ما غاب عنهم وتسخيرهم هذه السخرة وتكليفهم هذه الخدمات وإجبارهم عليها مع ما فيها لهم من عذاب مهين هدفا استهدفته الآيات للتنبيه إلى هوان شأن هذه المخلوقات التي كان لها صورة فخمة مفزعة في أذهان العرب حتى وصل أمرهم منها إلى عبادتها والاستعاذة بها والتقرب إليها مما مرّت أمثلة لها في السور المفسرة السابقة، وتقرير كونها ليست إلّا من عباد الله يسخرها لعباده المخلصين، وليس من شأنها أن تعلم الغيب أو تجرا على ملكوت الله، أو تطلع على أسراره أو تستحق عبادة وتزلفا والله أعلم.
هذا، ومما يجدر التنبيه إليه التناظر بين أوائل سورة لقمان السابقة وبين أوائل هذه السورة، وما يلهمه من وحدة الأهداف من جهة، ومن صحة ترتيب السورتين في النزول واحدة بعد أخرى من جهة ثانية.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٥ الى ١٩]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
(٢) الخمط والأثل والسدر: أشجار طبيعية تنبت في الصحارى ذات شوك.
وثمرها غير صالح تعافه النفس.
(٣) القرى التي باركنا فيها: قيل إنها بلاد الشام التي كان موسعا عليها برزقها ومناخها، وقيل إنها بلاد المقدس التي باركها الله كما جاء في سورة الإسراء، والعجيب ألّا يذكر القائلون بلاد الحجاز التي كانت هي الأخرى مباركة. فهي أقرب إلى بلاد سبأ أي اليمن من بلاد الشام، وبينها وبين سبأ قرى ومدن عديدة.
ونحن نرجح أنها هي المقصودة.
(٤) ظلموا أنفسهم: جنوا عليها بانحرافهم وكفرهم.
في الآيات إشارة إلى سبأ وما كان من أمر أهلها.
فقد يسّر الله لهم رغد العيش في مسكنهم، وكانت لهم جنات عن اليمين وعن الشمال ليأكلوا من رزق ربهم ويشكروا له نعمه، فبلدتهم طيبة الرزق وربهم غفور. ولكنهم أهملوا واجب الشكر وكفروا بنعمة الله فعاقبهم الله على جري عادته فأرسل عليهم سيل العرم فاجتاح جناتهم وخربها وبدلها بجنات من أشجار كريهة المنظر كثيرة الشوك مرة الطعم من الخمط والأثل والسدر. ولقد كان من نعمة الله عليهم أن جعل العمران متصلا بين بلادهم والبلاد التي بارك فيها بقرى ظاهرة متتابعة بحيث يستطيعون أن يسيروا ليالي وأياما آمنين شر أخطار الأسفار ومشاقها،
وقد انتهت الآيات بتقرير رباني بأن في كل ذلك آيات وعبرا لا يدرك مغزاها ولا ينتفع بها إلّا كل صبار ثابت على الإخلاص لله، شاكر لنعمه وأفضاله قولا وعملا.
تعليق على قصة سبأ وسيل العرم
والآيات كما هو المتبادر تحتوي مثلا ثانيا مضروبا لمشركي العرب وجاحدي النبوة المحمدية تعقيبا على المثل الأول، فداود وسليمان شكرا الله وعملا الصالحات على ما كان لهما من ملك وعظمة شأن، فأسبغ الله عليهما نعمه وأفضاله وسخر لهما قوى الكون المتنوعة.
وأهل سبأ انحرفوا عن جادة الحق وكفروا بنعمة الله فعاقبهم ومزقهم وجعلهم أحاديث للناس.
ومن هنا يظل الاتصال قائما مستمرا بين هذه الآيات والآيات السابقة. وروح الآيات ومضمونها يلهمان أن ما كان من أمر سبأ وما صاروا إليه ليس غريبا على السامعين، وهذا ما يجعل العبرة والمثل قويين وملزمين هنا أيضا.
وسيل العرم من الحوادث التي أطنبت فيها الكتب العربية القديمة بناء على الروايات المتداولة من عهد الجاهلية «١». وقد ذكرت فيما ذكرته أن السيل اقتلع السدّ وطغى على القرى والجنات فخربها فأدى ذلك إلى هجرة كثير من قبائل اليمن إلى شمال جزيرة العرب وسواحلها الشرقية وبلاد الشام والعراق، منهم الأوس والخزرج الذين نزلوا في يثرب «المدينة المنورة»، ومنهم الغساسنة الذين أنشئوا
ولقد سبق تعريف لسبأ في سياق آيات في سورة النمل ذكر فيها هذا الاسم، وإذا كان من شيء نقوله هنا زيادة على ذلك فهو أن النقوش اليمنية ذكرت خبر وقوع خراب وعطب على سد مأرب العظيم مرة بعد مرة خلال القرون الخمسة التي سبقت البعثة النبوية. إن اسم سبأ ظل على ما تلهم الآيات إلى حادث سيل العرم يطلق على البلاد التي كان يطلق عليها من القديم وإن هذه البلاد ظلت مزدهرة عامرة إلى ذلك الوقت يتصل عمرانها بالبلاد المباركة التي رجحنا أنها الحجاز أكثر من بلاد الشام إلى أن أحدث السيل فيها ما أحدثه من تخريب وتدمير.
ولقد أورد المفسرون «١» بيانات كثيرة في سياق الآيات عن بلاد سبأ وسدها وجناتها وقراها وعمرانها وسيل عرمها وما أحدثه من خراب وما أدى إلى ذلك من هجرة أهلها وتفرقهم في أنحاء الأرض وما نبت في أرض جناتها من أشجار الأثل والخمط والسدر معزوة إلى علماء التابعين فيها الغث والسمين لم نر ضرورة إلى إيرادها، وفيها دلالة على أن أخبار سبأ وسيل العرم مما كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلم وعصره في نطاق ما ورد في الآيات، فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بذلك على سبيل العبرة والتمثيل.
هذا، ولقد أورد ابن كثير في مناسبة جملة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم/ ٥] في الآية الأخيرة من الآيات حديثين أحدهما رواه الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن، إن أصابه خير حمد ربّه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربّه وصبر، يؤجر المؤمن في كلّ شيء حتّى في اللّقمة يرفعها إلى في امرأته». وثانيهما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عجبا
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
. (١) حفيظ: هنا بمعنى رقيب.
جاءت الآيتان معقبتين على الآيات السابقة حيث قررتا أن إبليس قد توسم فيهم قابلية الانحراف فوسوس لهم فتحقق ظنه وتوسمه فيهم فاتبعوه باستثناء فريق منهم كانوا مؤمنين فلم يؤثر عليهم. وأن إبليس لم يكن في الحقيقة له عليهم أي سلطان نافذ، وإنما كان امتحانا ربانيا ليظهر من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك. وأن الله رقيب على كل شيء من أعمال الناس.
وقد قال بعض المفسرين «١» : إن الضمير في «عليهم» عائد إلى أهل سبأ.
ومنهم من قال إنه عائد إلى الناس إطلاقا، ونحن نرجح أنه عائد إلى كفار مكة بقرينة الآيات التي جاءت بعدها وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم فيها بتوجيه الخطاب إلى كفار مكة ومشركيهم متحديا منددا، وعلى هذا فإن الآيتين تكونان بمثابة انتقال من حكاية الماضي وعظته إلى حكاية موقف الكفار وواقع أمرهم وتعليل لذلك بعد ما جاءهم من الموعظة ما جاءهم.
والتعليل والاستدراك في شأن إبليس وتسلطه على الناس وعدم استطاعته
وقد توهم الآية الثانية بأن الله لم يكن يعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك قبل امتحان الناس بإبليس، ولما كان علم الله شاملا لكل ما كان ويكون فالوجه في العبارة أن تؤول بأن المراد منها هو إظهار نتائج الوسوسة عيانا حتى تسقط حجة المحتج. وقد تكرر هذا في القرآن كثيرا. وهو من التعابير الأسلوبية المعتادة بين الناس في التخاطب أيضا، والفقرة الأخيرة من الآية نفسها من شأنها أن تزيل الوهم أيضا وتؤيد هذا التأويل.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٢ الى ٢٨]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨)
. (١) شرك: بمعنى شركة وشراكة.
(٢) ظهير: معين ومظاهر.
(٤) أجرمنا: من الإجرام وهو اقتراف الذنب.
(٥) يفتح: بمعنى يحكم ويقضي.
(٦) كافة للناس: أوّلها بعض المفسرين بمعنى مانع وكاف أي يمنع الناس ويكفّهم عن الكفر، وأوّلها بعضهم بمعنى جميع الناس. وكلا القولين وجيه ومؤيد بنصوص أخرى حيث يؤيد الأول جملة: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء/ ١٠٧]، ويؤيد الثاني جملة: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف/ ١٥٨] وإن كان أسلوب الآية يجعل الرجحان للقول الأول.
في الآيات:
١- أمر للنبي عليه السلام بتحدي الكفار بدعوة من يزعمون أنهم شركاء الله.
٢- وتقرير بكون أولئك الشركاء لا يملكون مثقال ذرة في السموات والأرض وليس لهم فيهما شركة ما، وليس لله منهم معين ومظاهر.
٣- وتقرير بأن الشفاعة عند الله لن تنفع أحدا إلا بإذن الله ورضائه.
٤- وتقرير ما سوف يكون من أمر الكفار يوم القيامة حينما يبعثون وتزول آثار الدهشة والفزع عنهم ويسألون عما وعدهم الله حيث يعترفون بأن ما وعد الله هو الحق وأن الله هو العلي الكبير الذي لا يدانيه أحد في علوّه وعظمته.
٥- وأمر آخر للنبي ﷺ بتحديهم بتعيين الشركاء الذين أشركوهم مع الله وألحقوهم به وجعلوا لهم صلة به أو جعلوهم جزءا منه. وبنفي ذلك عن الله عز وجل لأنه العزيز القوي الذي لا يحتاج إلى شريك، الحكيم الذي تكون كل أعماله وفقا لمقتضيات الحكمة.
٧- وأمر آخر بتوجيه الكلام إليهم على سبيل المساجلة والجدل بأنه لا بد من أن يكون أحد الفريقين (النبي والمؤمنون من ناحية، وهم أي الكفار من ناحية) ضالا وأحدهما على هدى وبأن كل فريق هو المسئول وحده عن عمله وما قد يقترفه، وبأن الله سيجمع بينهما معا ثم يقضي بينهما بالحق وهو الحاكم العادل العليم بأعمال الناس ونواياهم وأحوالهم.
٨- وانتهت الآيات بآية وجّه الخطاب فيها للنبي عليه السلام بأن الله إنما أرسله كافة للناس بشيرا ونذيرا ولو لم يدرك هذا أكثرهم.
والآيات بمجموعها احتوت- كما هو المتبادر- صورة لموقف من مواقف الجدل والمناظرة بين النبي صلّى الله عليه وسلم والمشركين الكفار. وهي قوية في لذعها وتحديها وتنديدها ومساجلتها وإنذارها، وتدل على أن موقف النبي صلّى الله عليه وسلم كان موقف الواثق المستعلي، أو هي بسبيل بثّ الوثوق والاستعلاء في نفسه.
ولم نطلع على رواية خاصة بسبب نزولها، ويتبادر لنا أنها ليست فصلا مستأنفا وإنما هي استمرار في السياق المستمر في حكاية مواقف الكفار.
والمتبادر أن الآية الأخيرة قد انطوت على تطمين للنبي عليه السلام وتسلية، فهو ليس مسؤولا عن موقف الجحود والعناد الذي يقفه الكفار وليس إلا بشيرا ونذيرا للناس. وهو ما تكرر كثيرا في المواقف المماثلة.
والآيات [٢٤ و ٢٥ و ٢٦] قد جاءت بالأسلوب الذي جاءت به على سبيل المساجلة، وليس من محل للشك في قصد تقريرها أن فريق النبي صلّى الله عليه وسلم وأتباعه هم الفريق المهتدي الفائز بحكم الله ورضائه، وهذا أسلوب مألوف في التخاطب وبخاصة في مواقف الجدل والمناظرة. ومع ذلك فقد يكون فيها مظهر من المبدأ القرآني المقرر لحرية التدين بالنسبة لمختلف الأطراف وفي نطاق ما قررته سورة
ولقد روى البخاري والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة في سياق جملة حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ حديثا جاء فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السّماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنّه سلسلة على صفوان فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربّكم؟ قالوا للذي قال الحقّ وهو العليّ الكبير فيسمعها مسترقو السّمع فيلقيها إلى من تحته ثمّ يلقيها الآخر إلى من تحته حتّى يلقيها على لسان السّاحر أو الكاهن فربّما أدركه الشّهاب قبل أن يلقيها وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدّق بتلك الكلمة التي سمعت من السّماء» «١».
ونحن في حيرة من هذا الحديث لأن مضمون الآية وسياقها وروح الآيات بصورة عامة تلهم أنها في صدد تحدي المشركين وشركائهم وحكاية مشهد من مشاهد البعث الأخروي أو نفي الشفاعة عند الله إلّا لمن أذن له. وليس لها صلة قريبة أو بعيدة باستماع الشياطين لكلام السماء وأوامر الله حين يقضي قضاءه في شؤون خلقه في الحياة الدنيا.
على أن الطبري والبغوي وابن كثير الذين أوردوا هذا الحديث وحديثا آخر من بابه رووا تأويلات أخرى للجملة القرآنية عن بعض علماء التابعين مثل مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير تفيد أن ما تضمنته الجملة هو ما يكون من أمر المشركين يوم القيامة أو حين ينزل فيهم الموت حيث يسألهم الملائكة سؤال التبكيت عن ما قال الله فيقروا أنه الحق حين لا ينفعهم الإقرار. وهذا التأويل متسق مع روح الجملة القرآنية أكثر كما هو المتبادر ويدل على أن هؤلاء العلماء لم يأخذوا الحديث على أنه تفسير للجملة.
وقد رأينا الزمخشري والخازن والطبرسي والنسفي والنيسابوري يؤولون
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)
والآيتان استمرار في حكاية مواقف الجدل والمناظرة بين النبي صلّى الله عليه وسلم والكفار ومعطوفتان على ما سبقهما. وقد تكررت حكاية سؤال الكفار الوارد في الآية الأولى مما يدل على أن الكفار كانوا كلما تكرر وعيدهم بالبعث والعذاب الأخرويين بادروا إلى هذا السؤال الذي ينطوي فيه تحد واستهانة واستهتار، وقد احتوت الآية جوابا رزينا فيه توكيد وقوة وإنذار معا. وهو ما تكرر مثله أيضا.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
. (١) الذي بين يديه: كناية عن كتب الله السابقة للقرآن.
(٢) أندادا: شركاء معادلين.
(٣) أسرّوا الندامة: قال بعض المفسرين: إن (أسروا) من الأضداد ومعناها هنا (أظهروا الندامة)، وقال بعضهم: إن كلا من الفريقين أخفى ندمه الذي شعر به
بدأت الآيات بحكاية قول للكفار، وهو توكيدهم القاطع بعدم تصديقهم وإيمانهم بالقرآن ولا بما جاء قبل القرآن من الكتب السماوية. وأعقبت حكاية قولهم بسرد ما سوف يكون من أمرهم في الآخرة حينما يقفون أمام الله ويرون يقين ما أوعدوا به من حساب وعذاب وأغلال في الأعناق حيث يستشعرون الندامة على ما كان منهم، وحيث تقع محاورة بين المستضعفين والمتكبرين أو التابعين من العامة والمتبوعين من الزعماء فيقول الأولون للآخرين لولا أنتم لكنا آمنا وصدقنا ويردّ الآخرون منكرين منعهم عن الهدى وملقين تبعة ضلالهم عليهم ومقررين أنهم كانوا مجرمين ضالين بطبيعتهم ويردّ التابعون مرة أخرى على الزعماء مذكّرين بما كان منهم من تحريض وتآمر واجتماعات في الليل والنهار وحثّ على التمسك بالشركاء والكفر بالله ورسوله. وقد انتهت الآيات بسؤال إنكاري فيه معنى التنديد والتقرير بأنهم إنما يجزون بما كانوا يعملون.
ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول هذه الآيات، والمتبادر أنها متصلة بموقف المناظرة والجدل الذي ما فتئت الآيات السابقة تشير إليه ثم بموقف إصرار الكفار على عنادهم وجحودهم وبمثابة ردّ تنديدي وإرهابي عليهم أولا.
وفيها إشارة إلى الدور الذي كان يلعبه الزعماء في الصدّ والتعطيل والتحريض ضدّ النبي صلّى الله عليه وسلم ودعوته، وما كان لهم من أثر فعال في بقاء الأكثرية الكبرى في صف الكفر والجحود في العهد المكي من السيرة النبوية ثانيا. وفيها أمارة ما على ما أثارته الدعوة المحمدية من حركة في أوساط مكة وأفكار أهلها على اختلاف فئاتهم ثالثا.
ويلحظ أن الآية الأولى قد حكت قول الكفار بأنهم لن يؤمنوا في حين أن من الثابت اليقيني أن كثيرا من الذين حكي عنهم هذا القول قد آمنوا وحسن إيمانهم قبل الهجرة وبعدها حيث يسوغ القول إن هذا من باب تسجيل واقع الكفار حين
تعليق على المحاورة بين الضعفاء والمستكبرين
والمحاورة التي حكت الآيات أنها ستقع بين الضعفاء والمستكبرين يوم القيامة جديرة بالتعليق. ولقد تكرر هذا في مواضع أخرى مثل آيات سورة غافر هذه: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وآية سورة إبراهيم هذه: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١).
والإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية واجب، مع ملاحظة أنه لا بدّ لذكره بالأسلوب الذي جاء به من حكمته، والحكمة الملموحة في هذا المشهد هي قصد إثارة الخوف والرهبة في نفوس الكفار وبخاصة التابعين الذين هم السواد الأعظم وفصلهم عن الزعماء.
وتدل الآيات التي نحن في صددها بخاصة على شدة جهد الزعماء ونشاطهم في التأثير على السواد الأعظم وحملهم على الإعراض والتصامم عن الدعوة النبوية. ولعل هذا نظير حكمة التنزيل فيما أنذرته للزعماء بالعذاب المضاعف في آيات عديدة منها آية النحل هذه: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨).
تعليق على جملة لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
ولقد قال بعض المفسرين: إن جملة وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مصروفة إلى
وهذا هو الأصح بقرينة ذكر القرآن قبل الجملة.
ولم نر مع ذلك أحدا من الذين صرفوا الجملة إلى الكتب السماوية علل صدورها عن الكفار في مقامها ويتبادر لنا تعليل لذلك وهو كون الكتب السماوية وأهلها كانوا موضوع استشهاد في آيات قرآنية عديدة سابقة على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم وصحة صلة القرآن بالوحي الرباني وإشادة بهم لإيمانهم بهما من جهة وكونهم من جهة ثانية مصدرا لمعارف العرب الدينية واعتقاد هؤلاء أن الكتب التي في أيديهم منزلة من عند الله على ما حكته آيات عديدة ورد بعضها في سور سابقة مثل آية سورة القصص هذه: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى إلخ [٤٨]. ومثل آيات سورة الأنعام هذه: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ... [١٥٥- ١٥٧] فمن المحتمل أن يكون الحديث في هذا الصدد قد تجدد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين بعضهم وأن النبي صلّى الله عليه وسلم ذكرهم بما كان منهم وما كان من الكتابيين. بل وفي الآية [٦] من آيات السورة ما يمكن أن يكون مناسبة جديدة لذلك حيث تذكر ما كان من تصديق أهل العلم بما يقوله القرآن ويعد به.
ولكنهم ظلوا مكابرين معاندين وقالوا ما حكته عنهم الآية الأولى غيظا واستكبارا.
وقد حكت عنهم ذلك آيات سورة فاطر: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ... [٤٢- ٤٣]. وفي كل هذا صورة لقوة ما كان عليه الزعماء الكفار من عناد ولجاج ومكابرة أمام الدعوة النبوية.
(٢) انظر تفسير الزمخشري والطبري والخازن.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٩]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨)قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)
. (١) مترفوها: كناية عن الزعماء والأغنياء وذوي الجاه.
(٢) ويقدر: هنا بمعنى يقبض أو يقتر.
(٣) زلفى: على وزن قربى وبمعناها.
(٤) جزاء الضعف: الجزاء المضاعف والقصد من الكلمة في الآية الزيادة.
(٥) الغرفات: البيوت العالية والعليات.
(٦) ويبسط: هنا بمعنى يوسع ويمد.
في الآيات تقرير رباني عن عادة الزعماء ذوي النعمة والترف في الأمم من الوقوف موقف الجحود والعناد من رسل الله، وحكاية لما يقولونه حيث كانوا يقولون: إننا الأكثر أموالا وأولادا، وإننا سنكون من أجل ذلك في نجوة من العذاب. وأمر رباني للنبي ﷺ بالرد عليهم بأن الله هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ويضيقه على من يشاء، وبأن أموالهم وأولادهم التي يزهون ويعتدون بها لن تفيدهم شيئا عند الله ولن تقربهم إليه، وبأن الذين يؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة في الحياة الدنيا هم وحدهم الذين ينالون جزاء أعمالهم مضاعفا ويكونون آمنين في غرفات الجنة. أما الذين يقفون من دعوة الله موقف المنكر المعطل المعجز والمكابر العنيد فلن ينجو من عذاب الله وهم محضرون إليه وواقعون فيه.
ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي رزين قال: «كان رجلان شريكين خرج أحدهما إلى السّاحل وبقي الآخر فلمّا بعث النبيّ ﷺ كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل فكتب إليه إنّه لم يتبعه أحد من قريش إنّما اتّبعه أراذل الناس ومساكينهم فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال: دلّني عليه وكان يقرأ الكتب فأتى النبيّ ﷺ فقال: إلى ما تدعو؟ قال: أدعو إلى كذا وكذا، قال: أشهد أنك رسول الله، قال: وما علمك بكذا؟ قال: إنّه لم يبعث نبيّ إلّا اتّبعه أراذل الناس ومساكينهم فنزلت الآية: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) فأرسل إليه النبيّ ﷺ إنّ الله عزّ وجلّ قد أنزل تصديق ما قلت».
وهذه الرواية لم ترد في مساند الصحاح وهي غريبة فليس صحيحا أن النبي ﷺ لم يتبعه في بدء أمره أحد من قريش ولم يتبعه إلا أراذل الناس ومساكينهم فقط.
والثابت اليقيني أن خديجة وأبا بكر وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير بن العوام وفاطمة بنت الخطاب زوجة سعيد رضي الله عنهم كانوا من الذين آمنوا بالنبي ﷺ بعد بعثته في برهة قصيرة»
. وهم من بيوتات قريش ثم تبعهم في السنين الثلاث الأولى عشرات الرجال والنساء من مختلف بيوتات قريش من بني أمية وبني هاشم وبني مخزوم وبني عبد الدار وبني التيم وبني عدي وبني جمح وبني سهم وبني عامر رضي الله عنهم بحيث يكفي هذا الواقع اليقيني لتفي الرواية كسبب لنزول الآية أو تصديقا لما روي من قول الرجل إنه لا يتبع الأنبياء إلّا أراذل الناس ومساكينهم.
تعليق على جملة نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥)
ويبدو أن الزعماء كانوا يوازنون في معرض التبجح بينهم وبين النبي وأتباعه في الأموال والبنين. ويجرون في هذا على ما اعتادوه من كون أصحاب الأموال والأولاد يكونون أكثر قوة وأضمن نصرا فاقتضت الحكمة الرد عليهم بالرد القوي الذي جاء في الآيات وبتكرار التوكيد بأن سعة الرزق لن تغني عن أصحابها شيئا عند الله. وأنها ليست اختصاصا لهم من الله مستمرا، فالله هو الذي يداول الرزق بين الناس بسطا وضيقا وفقا للنواميس التي أودعها في خلقه وكونه. وليس لذلك أثر في منازلهم عند الله التي إنما تكون حسب أعمالهم. وفي هذا المستلهم من فحوى الآيات وروحها وما فيه من تلقين مستمر المدى يضاف إلى ما فيها من تلقين بتقبيح الترف الذي يقود أصحابه إلى الوقوف من رسل الله والدعوة إليه موقف الجاحد المعطل والتنديد بهم والتحذير منهم.
أحاديث واردة في سياق الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ
ولقد أورد البغوي حديثا عن أبي هريرة رواه بطرقه في سياق الآية الأخيرة من
وحديثا ثانيا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله ﷺ قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم أنفق عليك» وأورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن حذيفة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده حذر الإنفاق ثم تلا هذه الآية: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩). حيث ينطوي في هذه الأحاديث صور من التطبيق والاستلهام النبوي للتقريرات القرآنية وحث للمسلمين على الإنفاق والإيمان بوعد الله تعالى بالإخلاف على المنفقين.
ولقد مرت آيات كثيرة في الحث على إطعام المساكين، وفي السور الآتية وبخاصة المدنية آيات كثيرة في الحث على الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء والمساكين ومنها ما جاء ذلك في سياق التشريعات المالية في الدولة الإسلامية. وهناك أحاديث كثيرة أخرى في ذلك حيث يبدو أن هذا الأمر قد شغل حيزا كبيرا في الدعوة الإسلامية لما له من خطورة بعيدة المدى في حياة المجتمع الإسلامي الذي وضع القرآن والحديث له أقوى الأسس ليكون المجتمع الفاضل المتعاون المتكافل الذي يجد فيه المحتاج والفقير ما يسد فيه عوزه وحاجته ويتيح له الحياة الكريمة. وأكثر الآيات والأحاديث بل جلها قد نزلت وصدرت في العهد المدني لأن هذا العهد قد فتح المجال لقيام المجتمع الإسلامي في ظل الدولة الإسلامية تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد رأينا أن نؤجل إيراد الأحاديث الأخرى واستيفاء التعليق على هذا الأمر إلى مناسبات الآيات المدينة والاكتفاء هنا بما تقدم.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢)
في هذه الآيات حكاية لمواجهة يجريها الله بين الكفار المشركين والملائكة ونتيجتها حيث يجمع الله بين الفريقين. ثم يسأل الملائكة عما إذا كان المشركون يعبدونهم فعلا فيجيبون منزهين الله تعالى عن الشركاء قائلين إنه هو وليهم من دونهم وإن المشركين إنما كانوا يعبدون الجن وإن أكثرهم كانوا مؤمنين بهم.
وحينئذ يقول الله عز وجل للمشركين إن أحدا منكم لا يملك للآخر ضرا ولا نفعا فذوقوا عذاب النار التي كنتم تكذبون بها.
والمتبادر أن الآيات استمرار لما احتوته الآيات السابقة من الرد على الكفار وتسفيههم وإنذارهم ووصف ما يكون من أمرهم في الآخرة وفيها صورة أخرى لما يكون فيها، وقد استهدفت بالإضافة إلى ذلك تقرير ضلال المشركين وإفكهم وتكذيبهم في عقائدهم في صدد الملائكة وتقرير كونهم إنما يعبدون الجن لا الملائكة وهم الذين يوسوسون لهم ويضلونهم. لأن الملائكة مخلصون لله عارفون لحدودهم ودائبون على تنزيهه وتقديسه. وهذا ينطوي في الوقت نفسه على هدف إفحام الكفار وحملهم على الارعواء والتدبر كما هو ظاهر. وهذه هي المرة الثانية التي تحكى فيها هذه الحكاية حيث حكيت في سورة الفرقان التي مر تفسيرها وحيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك بسبيل التحذير والتنديد والإفحام لأن عقيدة المشركين في الملائكة كانت واسعة النطاق.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٥]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥)
في الآيات حكاية لأقوال الكفار حينما كان النبي ﷺ يتلو عليهم آيات القرآن الواضحة وحججه البالغة حيث كانوا يقولون للناس إن النبي ﷺ ليس إلّا رجلا يريد أن يصرفكم عما كان يعبد آباؤكم، وإن القرآن ليس إلّا كذبا مفترى على الله، وإن يوم الحساب الحق الذي كانوا ينذرون به ليس إلّا من قبيل السحر والتخييل ولا حقيقة له. وتقرير ينطوي على التبكيت بأن الكفار يقولون هذا في حين أن الله لم ينزل إليهم قبل القرآن كتبا ولم يرسل إليهم قبل النبي رسلا حتى يكون كلامهم مستندا إلى علم وتجربة. وتذكير بالأمم السابقة لهم والتي كذبت رسلها مثلهم وما كان من تدمير الله لها في حين أن الكفار العرب لم يبلغوا في القوة والعظمة معشار ما بلغته.
ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة هذه الآيات، والسياق غير منقطع بينها وبين سابقاتها كما هو المتبادر من حيث تتابع الكلام عن الكفار ومواقفهم. فهي استمرار له، وفحواها يدل على أن الكلام المحكي عن الكفار صادر عن الزعماء وموجه إلى عامة الناس على سبيل الصد والتعطيل والحض على الجحود وعدم التصديق. وأسلوبه ينطوي على صورة لما كان هؤلاء الزعماء عليه من عناد، وما كانوا يبذلونه من جهد في ذلك السبيل.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٦ الى ٥٠]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)
(٢) أن تقوموا لله: أن تتفكروا بتجرد مخلصين لله.
(٣) مثنى وفرادى: اثنين اثنين أو واحدا واحدا.
(٤) ما يبدىء الباطل وما يعيد: معنى الجملة الحرفي أن الباطل لا يخلق أصلا ولا يعيد ثانية، ومعناها ليس للباطل أصل ولا دوام ولا بقاء.
في الآيات أوامر للنبي صلى الله عليه وسلم:
١- بمخاطبة الكفار وطلب شيء واحد منهم وهو: أن يخلصوا النية لله ويتجردوا عن الهوى والعناد، ثم يتفكروا كل واحد لنفسه أو كل اثنين لحدتهما معا فيما يدعوهم إليه حيث يتأكدون أن صاحبهم أي النبي ﷺ ليس مجنونا وأنه إنما هو نذير من الله بعذاب شديد إذا لم ينيبوا إليه ويسيروا في طريق الهدى.
٢- بالتوكيد لهم بأنه لا يطلب على إنذاره أجرا، فأجره ونفعه لهم وحدهم وأن أجره هو على الله الشهيد على كل شيء والعالم بكل شيء.
٣- وبالهتاف بأن الله هو الذي يقرر الحق ويؤيده وهو العليم بما هو خفي من نوايا الناس وضمائرهم، وبأن الحق قد جاء واضحا جليا كاسحا للباطل الذي لا أصل له ولا بقاء ولا قرار أمام الحق.
٤- وبالإعلان بأنه إذا كان ضالا فضلاله عائد إليه، وإن كان مهتديا فإنما ذلك بوحي ربّه السميع لكل شيء والقريب من كل شيء.
ولم نطلع على رواية عن سبب نزول هذه الآيات وهي غير منقطعة عن السياق واستمرار له فيما هو المتبادر. وقد جاءت بمثابة إنهاء لموقف المناظرة والجدل بين النبي ﷺ والكفار أو لما هو في مقامهما. وقد تكرر مثل هذه الخواتم
وقد جاء أسلوب الآيات هنا قويا أخاذا رائعا من شأنه أن ينفذ إلى الأعماق.
وقد خوطب به العقل والقلب معا. وفي الهتاف بالحق وقوته وضلال الباطل ومحقه بنوع خاص روعة لا تزال قائمة ما قام الجدل بين الحق والباطل، وتوطيد قرآني مستمر المدى والتلقين للحق ودعوة قرآنية مستمرة المدى ضد الباطل.
وأسلوب النفي لطلب النبي ﷺ أجرا في هذه المرة جاء أقوى من المرات السابقة حيث أمر بأن يهتف في الناس أن كل ما يرجوه من نفع من رسالته هو لهم، وأن أجره إنما هو على الله وحده.
ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن الآية الأخيرة لا تعني الشك في حقيقة الواقع من أمر الدعوة النبوية، وإنما جاءت بأسلوبها على سبيل المساجلة كما هو الأمر في آيات سابقة من هذه السورة نبهنا عليه، وكما تكرر غير مرة فيما مرّ من السور أيضا.
تعليق على جملة إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى
وفيما احتوته الآية الأولى حكمة اجتماعية عامة وصورة من صور ما كان عليه موقف النبي ﷺ من الكفار وموقفهم منه أيضا، فالاجتماعات العامة يختلط فيها الحابل والنابل، وتسود فيها الأهواء وتضعف فيها قوة المنطق، ولا يؤدي الجدال فيها إلى نتيجة حاسمة ومرضية.
والزعماء الذين تولوا كبر المعارضة والتعطيل بدافع الاستكبار والمكر السيء على ما ذكرته آيات سورة فاطر [٤٢- ٤٣] التي أوردناها قبل وغيرها كانوا يتوخون التشويش والتهويش على الناس. ولعلهم كانوا يعقدون الاجتماعات العامة للحث على التمسك بعقائد الآباء وللتحريض على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أشارت الآية [٣٣] من
والخطاب في الآية وإن كان موجها للناس عامة فلا يبعد أن يكون قد قصد فيه بنوع خاص ذلك الفريق المعتدل الذي كان يعترف في نفسه بصدق النبي ﷺ وكان خجله أو وجاهته أو مصلحته الخاصة أو مركزه في قومه وعشيرته أو سنّة تمنعه من الإسلام، وفي سورة القصص التي مرّ تفسيرها آيات تشير إلى بعض هؤلاء على ما نبهنا إليه في سياق تفسيرها. وقد وردت روايات عديدة تذكر ذلك أيضا وقد أوردنا بعضها في سياق تفسير بعض السور السابقة مثل القلم والمدثر والإسراء والقصص والأنعام وغيرها.
وكل ما انطوى في الآية من هذا مستمر التلقين في صدد مواقف التهويش والتشويش التي يقفها ذوو النيات السيئة والمآرب الخاصة من دعوة الإصلاح والحق كما هو المتبادر.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
. (١) فزعوا: خافوا واندهشوا.
(٢) فلا فوت: لن يفوت منهم أحد أو يقال لهم ذلك.
(٣) التناوش: التناول أو التمسك.
(٤) ويقذفون بالغيب: كناية عن الاندفاع وراء الظنون والتخمينات، وحكاية
(٥) حيل بينهم: بمعنى منعوا وحجبوا.
(٦) أشياعهم: بمعنى أمثالهم.
في الآيات إشارة إلى ما سوف يكون من حال الكفار حينما يحل فيهم وعد الله وقد بدأت بأسلوب فيه معنى التنبيه والإنذار ووجّه الخطاب فيه إلى السامع أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فحينما يحل وعد الله وعذابه سترى حال الكفار عجيبا وموقفهم رهيبا. حيث يعتريهم الفزع وتستولي عليهم الدهشة لأنهم يرون أنفسهم قد أخذوا بكل سرعة ومن أقرب مكان وآمنه في ظنهم. ودون أن يفوت أو يفلت منهم أحد. وحيث يهتفون بالإيمان ولكن هذا لا يكون مجديا لأن الأمر قد بعد عنهم وفرصة تناوله والانتفاع به قد ضاعت عليهم. فقد كفروا به من قبل وذهبوا في التخمين والظنون والرجم بالغيب في سياق التكذيب والجحود أبعد المذاهب. وسيحال بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأمثالهم الكافرين المكذبين من الأمم السابقة لهم، وحينئذ يرون حقيقة ما كانوا يشكون فيه شكهم الشديد المريب الذي لا يستندون فيه إلى عقل وحق وعلم.
وقد جاءت الآيات خاتمة للسورة، وهي في ذات الوقت استمرار للآيات السابقة لها بسبيل إنهاء موقف الجدل والمكابرة أو حكايته، وهي قوية نافذة، وقد استهدفت فيما استهدفته على ما يتبادر إثارة الخوف والندم في السامعين من المشركين وحملهم على الارعواء قبل فوات الفرصة.
ولقد أورد المفسرون تأويلا معزوا لبعض علماء التابعين لجملة وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) بأنها تعني أخذهم بعذاب دنيوي أو خسف أو انكسار في حرب أو في يوم بدر، وروح الآيات تلهم بقوة أنها بسبيل وصف مشهد الكفار يوم القيامة وتبكيتهم وإنذارهم.
ولقد أورد الطبري حديثا عن ربعي بن حراش قال: «سمعت حذيفة بن
قال: فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السّفيانيّ من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين جيشا إلى المشرق وجيشا إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ويبقرون بها أكثر من مائة امرأة ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها ثم يخرجون متوجّهين إلى الشام فتخرج راية هذا من الكوفة فتلحق ذلك الجيش منها على الفئتين فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السّبي والغنائم ويخلي جيشه التالي بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبريل فيقول يا جبرائيل اذهب فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم فذلك قوله في سورة سبأ: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ [٥١] الآية، ولا ينفلت منهم إلّا رجلان أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة فلذلك جاء القول وعند جهينة الخبر اليقين». وعقب الطبري على هذا برواية تفيد الشك في رواية الحديث عن سفيان الثوري الذي ذكر في سلسلة الرواة. والحديث متهافت ومحل شك بدون ريب وفيه صورة من صور التطبيق على الأحداث والأهواء والفتن التي كانت في الصدر الإسلامي وزمن الأمويين وبعدهم مما يقع المرء على كثير منه على هامش الآيات القرآنية. ولقد أورد الطبري بعد إيراده الحديث والرواية المشككة فيه أقوالا معزوة إلى عطاء ومجاهد وقتادة تفيد أن الجملة القرآنية هي في صدد مشهد المشركين يوم القيامة أو جهة خروجهم من قبورهم وهو ما تلهم روح الآيات على ما نبهنا عليه آنفا.