تفسير سورة سبأ

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(٣٤) سورة سبإ مكيّة وآياتها اربع وخمسون
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦)
60
اللغة:
(يَعْزُبُ:) في المصباح: «وعزب الشيء من بابي قتل وضرب غاب وخفي» وفي الأساس: «يقال: عزب عنه حلمه وأعزب حلمه كقولك أضل بعيره وأعزب الله عقلك وروض عازب وعزيب ومال عزب وجشر ولا يكون الكلأ العازب إلا بفلاة حيث لا زرع، وفلان معزاب ومعزابة لمن عزب بإبله، ويقال عزب ظهر المرأة إذا أغابت، ومن المستعار قول النابغة:
وصدر أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب
ولك أن تقول امرأة عزبة والمعزابة الذي طالت عزوبته وتمادت ويقال ليس لفلان امرأة تعذبه أي تذهب بعزوبته»
وفي القاموس:
«العزب محركة من لا أهل له كالمعزابة والعزيب ولا تقل أعزب أو قليل جمعه أعزاب وهي عزبة وعزب والاسم العزبة والعزوبة بضمتين والفعل كنصر وتعزّب ترك النكاح والعزوب الغيبة يعزب ويعزب والذهاب» ومن غريب أمر العين والزاي أنهما إذا كانتا فاء وعينا للكلمة دلت على معنى الذهاب والبعد والانفراد والغلبة وفي الحديث: من قرأ القرآن في أربعين ليلة فقد عزّب أي أبعد العهد بأوله. وعز الرجل صار عزيزا أي أبعد عن غيره بصفاته حتى سما عليهم وعز الشيء قلّ فكاد لا يوجد وعز عليّ أن أسوءك أي اشتد وغلب وتقول للرجل: أتحبني؟ فيقول لعزّما ولشدّما واستعزّ به المرض أي غلب واشتد. وتعزز لحم الناقة اشتد وصلب «فعززنا بثالث»
61
أي قوينا وعزّز بهم أي شدد عليهم ولم يرخّص ومنه حديث عمر رضي الله عنه: أن قوما اشتركوا في صيد فقالوا له: أعلى كلّ واحد منا جزاء أم جزاء واحد؟ فقال: إنه لمعزّز بكم إذن بل عليكم جزاء واحد. وعزف عن الشيء عافه وزهد فيه والعزف صوت الرياح وصوت الدف تقول: فلان ألهاه ضرب المعازف عن ضروب المعازف، وسلكت مفازة فيها للجن عزيف. وعزله يعزله من باب ضرب عن كذا نحاه عنه وعزل فلانا عن منصبه: نحاه عنه وصرفه وتقول: مالي أراك في معزل عن أصحابك؟ وأنا بمعزل عن هذا الأمر واعتزلت الباطل وتعزلته قال الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل... حذر العدا وبه الفؤاد موكل
وأعوذ بالله من الأعزل على الأعزل أي من الرجل الذي لا سلاح معه على الفرس المعوج العسيب فهو يميل ذنبه الى شق قال امرؤ القيس:
ضليع إذا استدبرته سدّ فرجه... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل
واعتزم الفرس في عنانه إذا مرّ جامحا لا ينثني، قال:
سبوح إذا اعتزمت في العنان... مروح ململمة كالحجر
وعزمت على الأمر واعتزمت عليه ولا يكون ذلك إلا عن شدة وغلبة وهو عزهاة عن اللهو والنساء إذا لم يردهنّ وابتعد عنهنّ، قال:
62
إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبا فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
وعزا الشيء أو فلانا الى فلان نسبه ورفعه إليه، وإن فلانا ليعزى الى الخير ويعتزي اليه وهذا الحديث يعزى الى رسول الله ﷺ ورأيتهم حوله عزين أي جماعات. وهذا من أسرار لغتنا الشريفة.
(رِجْزٍ) : بكسر الراء وضمها العذاب أو سيئه والإثم والذنب والقذر.
الإعراب:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الحمد مبتدأ ولله خبره والذي نعت وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) الواو عاطفة وله خبر مقدم والحمد مبتدأ مؤخر وفي الآخرة حال وهو مبتدأ والحكيم خبر أول والخبير خبر ثان. (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) لك أن تجعلها جملة خبرية فتكون خبرا ثالثا لهو كأنها تفصيل لبعض ما يحيط به علمه تعالى من الأمور المتعلقة بمصالح العباد الدينية والدنيوية ولك أن تجعلها حالا مؤكدة ولك أن تجعلها مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم. ويعلم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى وما مفعول به وجملة يلج صلة وفي الأرض متعلقان بيلج وما يخرج عطف على ما يلج في الأرض. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ
63
وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)
عطف على ما تقدم وضمن العروج معنى الاستقرار فعدّاه بفي دون إلى. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) الواو استئنافية وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولا نافية وتأتينا الساعة فعل مضارع ومفعول به وفاعل وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبلى حرف جواب لاثبات النفي أي ليس الأمر إلا إتيانها وربي: الواو حرف قسم وجر وربي مجرور بواو القسم، أكد إيجاب النفي بما هو الغاية في التأكيد والتشديد وهو القسم بالله عز وجل واللام جواب للقسم وتأتينكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والكاف مفعول به وهو تأكيد ثالث.
(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) عالم صفة لربي أو بدل ويجوز أن يرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره جملة لا يعزب وقد قرىء بهما وجملة لا يعزب إما خبر أو حال وعنه متعلقان بيعزب ومثقال ذرة فاعل وفي السموات حال ولا في الأرض عطف على في السموات. (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة ولا نافية وأصغر من ذلك مبتدأ ومن ذلك خبر ولا أكبر عطف على ولا أصغر وإلا أداة حصر وفي كتاب مبين خبر أصغر ولك أن تنسق الكلام فتعطف ولا أصغر على مثقال ويكون في كتاب في محل نصب على الحال والأول أولى. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ليجزي اللام للتعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجارّ والمجرور متعلقان بتأتينكم كأنه علة وبيان لما يقتضيه إتيانها أو بقوله لا يعزب فكأنه قال يحصي ذلك ليجزي والذين مفعول به وجملة آمنوا
64
صلة الذين وعملوا الصالحات عطف على آمنوا وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك ورزق عطف على مغفرة وكريم صفة.
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) الواو إما عاطفة فيكون الذين منسوقا على ما قبله أي ويجزي الذين سعوا ويجوز أن تكون استئنافية فيكون الذين مبتدأ وجملة سعوا صلة وفي آياتنا متعلقان بسعوا على تقدير مضاف أي في إبطال آياتنا بالطعن فيها أو وصفها بالسحر والشعر وغير ذلك ومعاجزين حال، قال الراغب: «أصل معنى العجز التأخر لكون المتأخر خلف عجز السابق أو عنده ثم تعورف فيما هو معروف ظاهرا فالمراد هنا بالمعاجزة التأخر المسبوق بتقدم السابق ومعنى المفاعلة غير مقصود هنا إذ المقصود السبق وعدم قدرة غيرهم عليهم لغلبتهم وذلك كله بناء على مزاعمهم الفاسدة وأهوائهم المتخيلة. وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية مستأنفة على الوجه الأول أو خبر الذين على الوجه الثاني ومن رجز صفة لعذاب وأليم صفة ثانية. (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) ويرى في موضع الرفع على أنه مستأنف أو في موضع النصب فهو منسوق على يجزي والذين فاعل يرى وجملة أوتوا العلم صلة والذي مفعول يرى الأول لأنها قلبية وجملة أنزل صلة وإليك متعلقان بأنزل ومن ربك حال أو متعلقان بأنزل أيضا وهو ضمير فصل لا محل له والحق هو المفعول الثاني ليرى.
(وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ويهدي عطف على الحق وساغ العطف لأن الفعل في تأويل الاسم كأنه قيل وهاديا ولك أن
65
تجعل الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون مستأنفة وفاعل يهدي ضمير مستتر يعود على الذي أنزل إليك وإلى صراط متعلقان بيهدي والعزيز مضاف الى صراط والحميد نعت.
البلاغة:
١- في قوله «الحمد لله» التعبير بالجملة الاسمية يفيد الاستمرار والثبوت، والحمد لغة الوصف بالجميل الاختياري على قصد التعظيم، والوصف لا يكون إلا باللسان فيكون مورده خاصا، وهذا الوصف يجوز أن يكون بإزاء نعمة وغيرها فيكون متعلقه عاما، والشكر اللغوي على العكس لكونه فعلا ينبىء عن تعظيم المنعم من حيث أنه منعم على الشاكر فيكون مورده اللسان والجنان والأركان ومتعلقه النعمة الواصلة الى الشاكر فكل منهما أعم وأخص من الآخر بوجه، ففي الفضائل حمد فقط وفي أفعال القلب والجوارح شكر فقط وفي فعل اللسان بإزاء الانعام حمد وشكر.
٢- شكر المنعم واجب أم لا:
قال الأشاعرة: شكر المنعم ليس بواجب أصلا ومثلوها بتمثيل فقالوا: ليس مثله إلا كمثل الفقير حضر مائدة ملك عظيم يملك البلاد شرقا وغربا، ويعم البلاد وهبا ونهبا، فتصدق عليه بلقمة خبز فطفق يذكره في المجامع ويشكره عليها بتحريك أنملته دائما لأجله فإنه يعد استهزاء بالملك فكذا هنا بل اللقمة بالنسبة الى الملك وما يملكه أكثر مما أنعم الله به على العبد بالنسبة الى الله، وشكر العبد أقل قدرا في جنب الله من شكر الفقير بتحريك أصابعه. وقالت المعتزلة: التمثيل
66
المناسب للحال أن يقال: إذا كان في زاوية الخمول وهاوية الذهول رجل أخرس اللسان مشلول اليدين والرجلين فاقد السمع والبصر بل جميع الحواس الظاهرة والمشاعر الباطنة فأخرجه الملك من تلك الهاوية وتلطف عليه بإطلاق لسانه وإزالة شلل أعضائه ووهب له الحواس لجلب المنافع ودفع المضار ورفع رتبته على كثير من أتباعه وخدمه ثم إن ذلك الرجل بعد وصول تلك النعم الجليلة اليه وفيضان تلك التكريمات عليه طوى عن شكر ذلك الملك كشحا وضرب عنه صفحا ولم يظهر منه ما ينبىء عن الاعتناء بشيء من غير فرق بين وجودها وعدمها فلا ريب أنه مذموم بكل لسان، مستحق للإهانة والخذلان.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٧ الى ٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
الإعراب:
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) الواو استئنافية وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة أي قال بعضهم لبعض وهل حرف استفهام وندلكم فعل مضارع وفاعل
67
مستتر ومفعول به وعلى رجل متعلقان بندلكم والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، وسيأتي سر تنكيره في باب البلاغة، وجملة ينبئكم صفة لرجل وإذا ظرف مستقبل متعلق بمحذوف تقديره تبعثون أو تحشرون خلفا جديدا ولا يجوز تعليقه بينبئكم لأن التنبئة لم تقع ذلك الوقت ولا بمزقتم لأنه مضاف اليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولا بجديد لأن إن ولام الابتداء يمنعان من ذلك لأن لهما الصدر، وأيضا فالصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف ولا يسوغ أن يقال قدرها خالية من معنى الشرط فتغني عن جوابها وتكون معمولة لما قبلها وهو قال أو ندلكم أو ينبئكم لأن هذه الأفعال لم تقع وقت التمزيق فلا تكون إذا ظرفا لها إذ لا يقال لهم بعد تمزيقهم وإنما وقعت حال حياتهم، وكان الرجل من الكفار يقول لأصحابه استهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم: هل أدلكم على رجل... إلخ. ومزقتم فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وكل ممزق مفعول مطلق لأن كلّا بحسب ما تضاف إليه وقد أضيفت الى ممزق وهو مصدر ميمي بمعنى تمزيق، وأجاز الزمخشري أن يكون اسم مكان قال: «فإن قلت قد جعلت الممزق مصدرا كبيت الكتاب:
ألم تعلم مسرحي القوافي فلا عيابهن ولا اجتلابا
فهل يجوز أن يكون مكانا؟ قلت نعم ومعناه ما حصل في بطون الطير وما مرت به السيول فذهبت به كل مذهب وما سفته الريح فطرحته في كل مطرح»
وعلى هذا يكون كل ظرف مكان. (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) إن وما بعدها سدت مسد مفعولي ينبئكم وإنما كسرت همزتها لدخول اللام المزحلقة في خبرها وان واسمها واللام المزحلقة
68
المؤكدة وفي خلق خبر إن وجديد صفة خلق وهو فعيل بمعنى فاعل وقيل بمعنى مفعول. (أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) الهمزة للاستفهام واستغنى بها عن همزة الوصل في التوصل للنطق بالساكن وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا مفعول افترى وأم حرف عطف معادل لهمزة الاستفهام وبه خبر مقدم وجنة مبتدأ مؤخر أي جنون.
(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) بل حرف عطف وإضراب والذين مبتدأ وجملة لا يؤمنون صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمنون وفي العذاب خبر المبتدأ والضلال عطف على العذاب والبعيد نعت للضلال وسيأتي معنى هذا النعت في باب البلاغة.
(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتهويل ما اجترءوا عليه وقالوه والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف يقدر بحسب المقام أي أعموا فلم يروا أو أن الهمزة مقدمة على حرف العطف وقد تقدم تقرير هذا، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والى ما متعلقان بيروا والظرف متعلق بمحذوف صلة ما وأيديهم مضاف إليه وما خلفهم عطف على ما بين أيديهم ومن السماء حال والأرض عطف على السماء.
(إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) إن شرطية ونشأ فعل الشرط ونخسف جوابه وبهم متعلقان بنخسف والأرض مفعول به وأو حرف عطف ونسقط عطف على نخسف وعليهم متعلقان بنسقط وكسفا مفعول به ومن السماء صفة لكسفا.
69
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسمها المؤخر ولكل عبد صفة لآية ومنيب صفة لعبد.
البلاغة:
المجاز العقلي في قوله «والضلال البعيد» لأن البعد وصف الضال إذا بعد عن الجادة المستقيمة وكلما أوغل في البعد عنها أوغل في الضلال.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٠ الى ١٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣)
70
اللغة:
(أَوِّبِي) : فعل أمر من التأويب والأوب أي رجعي معه التسبيح أو راجعي معه في التسبيح لأنه إذا رجعه فقد رجع فيه.
(سابِغاتٍ) : دروعا واسعة ضافية.
(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) : السرد نسج الدرع قال في الأساس:
«سرد النعل وغيرها خرزها، قال الشماخ يصف حمرا:
شككنا باحساء الذناب على هوى كما تابعت سرد العنان الخوارز
أي تتابعن على هوى الماء. وثقب الجلد بالمسرد والسّراد وهو الأشفى الذي في طرفه خرق وسرد الدرع إذا شك طرفي كل حلقتين وسمرهما ودرع مسرودة ولبوس مسرّد»
وقال أبو الطيب يصف قميصه:
مفرشي صهوة الحصان ولكن قميصي مسرودة من حديد
المسرودة المنسوجة من الحديد وهي الدروع. ومعنى التقدير في السرد أي لا تجعل المسامير دقاقا فتقلق ولا غلاظا فتفصم الحلق والمراد جعل السرد على قدر الحاجة، وذهب الخطيب في تفسيره مذهبا طريفا قال: «قوله تعالى: وقدر في السرد أي انك غير مأمور به أمر إيجاب وإنما هو اكتساب والكسب يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام
71
والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشتغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل فيه القوت فحسب» ولكن سياق الحديث يبعد هذا التأويل لأنه في صدد الحديث عن الدروع ونسجها وأحكامها وتقدير صنعها.
وفي المختار: «سرد الدرع أي نسجها وهو إدخال الحلق بعضها في بعض يقال سرد الدرع سردا من باب نصر».
(غُدُوُّها) : سيرها غدوة وهي ما بين الفجر وطلوع الشمس، يقال: غدا يغدو غدوا ذهب غدوة ويستعمل بمعنى صار فيرفع المبتدأ وينصب الخبر.
(رَواحُها) : سيرها في الرواح أي العشي.
(الْقِطْرِ) : بكسر القاف النحاس المذاب وسيأتي سر تسميته بعين القطر في باب البلاغة.
(مَحارِيبَ) : المحاريب: المساكن والابنية الشريفة المصونة عن الابتذال سميت محاريب لأنه يذب عنها ويحارب عليها ثم نقل الى الطاق التي يقف الامام فيها وهي مما أحدث في المساجد والمفرد محراب.
(تَماثِيلَ) : جمع تمثال وهو الصورة المصوّرة أو هو ما تصنعه وتصوره مشبها بخلق الله من ذوات الروح والصورة، روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما.
(جِفانٍ) : جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة.
72
(كَالْجَوابِ) جمع جابية وهي الحوض الكبير وسمي جابية لأن الماء يجبى فيه أي بجمع، قال الأعشى يمدح المحلق:
نفى الذم عن آل المحلق جفنة كجابية السيح العراقي تفهق
الجفنة قصعة الثريد والجابية الحوض يجبي الماء أي يجمعه الى الحوض والسيح الماء الكثير الجاري وفهق يفهق كفرح يفرح اتسح وامتلأ حتى يتصبب، قيل كان يقعد على الجفنة ألف رجل.
(قُدُورٍ راسِياتٍ) : القدور جمع قدر بكسر القاف وهو إناء يطبخ فيه، وراسيات ثابتات لها قوائم لا تتحرك عن أماكنها.
الإعراب:
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا داود فعل ماض وفاعل ومفعول به ومنا متعلقان بآتينا أو بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لفضلا وفضلا مفعول به ثان. (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) جملة النداء معمول قول محذوف أي وقلنا، وأجاز الزمخشري أن تكون بدلا من فضلا ويا حرف نداء وجبال منادى نكرة مقصودة وأوّبي فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل ومعه ظرف مكان متعلق بأوّبي والطير عطف على محل جبال وهو النصب وقرىء بالرفع عطفا على اللفظ وسيأتي حكم المنسوق على المنادى في باب الفوائد، وألنّا عطف على آتينا وألنّا فعل ماض وفاعل وله
73
متعلقان بألنّا والحديد مفعول به. (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أن مصدرية مؤولة بما بعدها بمصدر منصوب بنزع الخافض أي لأن أعمل واختار أبو البقاء أن تكون مفسرة وتبعه الجلال وهذا مردود لأن شرط أن المفسرة أن يتقدم عليها ما هو بمعنى القول دون حروفه وقدر بعضهم فعلا فيه معنى القول فقال: التقدير أمرناه أن اعمل، وسابغات صفة لمفعول به محذوف أي دروعا سابغات، والسابغات الكوامل الواسعات، وقدر فعل أمر وفي السرد متعلقان بقدر.
(وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) واعملوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وصالحا مفعول به أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي عملوا عملا صالحا وإن واسمها وبما تعملون متعلقان ببصير وبصير خبر إن. (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) الواو عاطفة ولسليمان متعلقان بالفعل المحذوف أي وسخرنا لسليمان الريح فالريح مفعول للفعل المحذوف وذلك على قراءة النصب وعلى قراءة الرفع هي مبتدأ مؤخر ولسليمان خبر مقدم وجملة غدوها شهر المؤلفة من المبتدأ والخبر حال من الريح وقيل هي مستأنفة وجملة ورواحها شهر عطف عليها. (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) عطف على سخرنا المقدرة وأسلنا فعل ماض وفاعل وله متعلقان بأسلنا وعين القطر مفعول به. (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) لك أن تعلق من الجن بفعل مقدر تقديره وسخرنا له فتكون من مفعولا به للفعل المقدر ولك أن تجعل الجار والمجرور خبرا مقدما فتكون مبتدأ مؤخرا وجملة يعمل صلة وبين يديه الظرف متعلق بيعمل وبإذن ربه متعلقان بمحذوف حال. (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ)
74
الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويزغ فعل الشرط ومنهم حال وعن أمرنا متعلقان بيزغ ونذقه فعل الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ ومن عذاب السعير متعلقان بنذقه.
(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) الجملة بدل من يعمل لتفصيل ما ذكر من عملهم وله متعلقان بيعملون وما مفعول به وجملة يشاء صلة ومن محاريب في موضع الحال من مفعول يشاء المحذوف أي يشاؤه ومنعت محاريب من الصرف لأنها جمع على صيغة منتهى الجموع وتماثيل عطف على محاريب وجفان عطف أيضا وكالجواب صفة لجفان وحذفت ياء الجواب في خط القرآن وقدور راسيات عطف أيضا. (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) كلام مستأنف مسوق للمنة على آل داود واعملوا فعل أمر وفاعل وآل داود منادى محذوف منه حرف النداء وشكرا مفعول لأجله أي لأجل الشكر وقيل مصدر من معنى اعملوا كأنه قيل اشكروا شكرا أو على الحال أي شاكرين وأجاز الزمخشري أن ينتصب باعملوا مفعولا به ومعناه إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكرا على طريق المشاكلة والواو حالية وقليل خبر مقدم والشكور مبتدأ مؤخر ومن عبادي صفة لقليل.
الفوائد:
لتابع المنادى أقسام أربعة:
١- ما يجب نصبه مراعاة لمحل المنادى وهو ما اجتمع فيه أمران أحدهما أن يكون التابع نعتا أو بيانا أو توكيدا، والثاني أن يكون التابع مضافا مجردا من ال.
75
٢- ما يجب رفعه مراعاة للفظ المنادى وهو تابع أي وتابع اسم الاشارة.
٣- ما يجوز رفعه ونصبه وهو نوعان أحدهما النعت المضاف المقرون بأل، والثاني ما كان مفردا من نعت أو بيان أو توكيد أو كان معطوفا مقرونا بأل ومنه الآية التي نحن بصددها.
٤- ما يعطي تابعا ما يستحقه إذا كان منادى مستقلا وهو البدل والمنسوق المجرد من أل فيضم ان كان مفردا وينصب ان كان مضافا.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ١٤]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
اللغة:
(مِنْسَأَتَهُ) : المنسأة مفعلة اسم آلة وهي العصا لأنه ينسأ بها أي يطرد ويؤخر كالمكنسة والمكسحة والمقعصة وقرأ نافع وأبو عمرو وجماعة منساته بألف.
الإعراب:
(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) الفاء استئنافية ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وجملة قضينا مضاف إليها الظرف على الوجه الأول ونا فاعل
76
وعليه متعلقان بقضينا والموت مفعول به وما نافية ودلهم فعل ماض ومفعول به وعلى موته متعلقان بدلهم وإلا أداة حصر ودابة الأرض فاعل دلهم والجملة لا محل لها لأنها جواب لما على الوجهين ودابة الأرض هي الدويبة التي يقال لها السرقة فأضيفت إليه يقال أرضت الخشبة أرضا إذا أكلتها الأرضة وجملة تأكل منسأته حال من دابة الأرض. (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) الفاء عاطفة ولما تقدم القول فيها قريبا وخرّ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على سليمان وجملة تبينت الجن جواب لما لا محل لها وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولو شرطية وجملة كانوا خبر أن وأن وما في حيزها بدل اشتمال من الجن على حد قولك تبين زيد جهله، وقدره أبو البقاء بدلا من محذوف أي تبين أمر الجن وهو أنهم لو كانوا يعلمون الغيب، وأجاز أيضا أن يكون موضع أن وصلتها النصب أي تبينت الجن جهلها ولا مانع من هذين التقديرين، وجملة يعلمون الغيب خبر كانوا وجملة ما لبثوا لا محل لها لأنها جواب لو وفي العذاب متعلقان بلبثوا والمهين صفة للعذاب.
الفوائد:
أفاض المفسرون في الحديث عن قصة وفاة سليمان مما يخرج بنا عن نطاق كتابنا ولكننا نورد بعضا مما قيل في دابة الأرض لعلاقته باللغة، ويتلخص مما أوردوه أن فيها وجهين: أظهرهما ما قدمناه في باب البلاغة من أنها الدويبة التي تأكل الخشب وفي القاموس والتاج:
«والدابة ما دبّ من الحيوان وغلب على ما يركب ويقع على المذكر، ودابة الأرض من أشراط الساعة أو أولها تخرج بمكة من جبل الصفا
77
ينصدع لها والناس سائرون الى منى أو من الطائف أو بثلاثة أمكنة ثلاث مرات معها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام تضرب المؤمن بالعصا وتطبع وجه الكافر بالخاتم فينتقش فيه هذا كافر» والثاني أن الأرض مصدر قولك أرضت الدابة الخشبة تأرضها أرضا بفتح عين المصدر وقد قرأ بها ابن عباس والعباس ابن الفضل وقد تقدم البحث في حركة عين فعل الثلاثي فجدد به عهدا.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٥ الى ١٩]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
اللغة:
(الْعَرِمِ) : لم نجد كلمة اختلف فيها المفسرون كهذه الكلمة
78
ولذلك، سنورد ما نختاره من أقوال ثم نعمد الى الترجيح بينها ونبدأ بما ذكره صاحب القاموس قال في مادة عرام: «عرام الجيش حدتهم وشدتهم وكثرتهم ومن العظم والشجر العراق وما سقط من قشر العوسج ومن الرجل الشراسة والأذى، عرم كنصر وضرب وكرم وعلم عرامة وعراما بالضم فهو عارم وعرم اشتد والصبي علينا أشر ومرح أو بطر أو فسد ويوم عارم نهاية في البرد وعرم العظم نزع ما عليه من لحم كتعرّمه والصبي أمه رضعها والإبل الشجر نالت منه وفلانا أصابه بعرام وعرم العظم كفرح فتر والعرم محركة والعرمة بالضم سواد مختلط ببياض في أي شيء كان أو هو تنقيط بهما من غير أن تتسع كل نقطة وبياض بمرمة الشاة وهو أعرم وهي عرماء وبيض القطا عرم والعرماء الحية الرّقشاء والأعرم المتلون والأبرش والقطيع من ضأن ومعزى والأقلف والجمع عرمان وجمع الجمع عرامين والعرمة محركة رائحة الطبيخ والكدس المدوس لم يذرّ ومجتمع الرمل وأرض صلبة تتاخم الدّهناء ويقابلها عارض اليمامة وكفرحه سد يعترض به الوادي والجمع عرم أو هو جمع بلا واحد أو هو الأحباس تبنى في الأودية والجرذ الذكر والمطر الشديد وواد وبكل فسر قوله تعالى: سيل العرم» واختار الجلال أن يكون العرم جمع عرمة وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره الى وقت حاجته وهذا ما نعبر عنه اليوم بالسدود وهو أولى ما تفسر به الآية وقد يحدث تصدع السدود وانهيارها بأسباب مختلفة.
(ذَواتا) : مثنى ذوات أو ذات ولفظ ذوات مفرد لأن أصله ذوية فالواو عين الكلمة والياء لامها لأنه مؤنث ذو وذو أصله ذوى فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا فصار ذوات ثم حذفت
79
الواو تخفيفا فعندما يراد تثنيته يجوز أن ينظر للفظه فيقال ذاتان ويجوز أن ينظر الى أصله فيقال ذواتان.
هذا وذات مؤنث ذو ومثناها ذواتان والجمع ذوات ويعرب المؤنث والمثنى والجمع إعراب نظيره من الأسماء المفردة والمثناة والمجموعة، يقال لقيته ذات يوم أو ذات ليلة أو ذات مرة أي يوما ما ومرة ما، وكان ذلك ذات العويم أي السنة الماضية وجلس ذات اليمين أي عن اليمين ولقيته أول ذات يدين أي بادىء بدء وذات الصدر الفكر أو السر وذات اليمين أي جهتها وذات البين: الحال يقال أصلحوا ذات بينكم أي حالكم التي تجتمعون عليها وذات شفة كلمة يقال: كلمته فماردّ عليّ ذات شفة وذات اليد ما تملكه يقال: قلّت ذات يده أي ما ملكت يده ويقال ألقت الدجاجة ذات بطنها أي باضت أو سلحت وذات الجنب عند الأطباء: التهاب يحدث في غلاف الرئة فيحدث منه سعال وحمى ونخس في الجنب وذات الرئة وذات الصدر وذات الكبد علل فيها، والذات أيضا: ما يصلح لأن يعلم ويخبر عنه وذات الشيء: نفسه وعينه وجوهره واسم الذات عند النحاة ما علق على ذات كالرجل والأسد ويقابله اسم المعنى كالعلم والشجاعة، والذوات عند المولدين:
أكابر القوم.
(أُكُلٍ خَمْطٍ) : الأكل بضمتين وبضم فسكون الثمر أو ما يؤكل والخمط المر والحامض يقال خمر خمطة: حامضة ولبن خامض:
قارص متغير وفي المختار: «الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل» وعن أبي عبيدة: «كل شجر ذي شوك» وقال الزجاج: «كل نبت أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله».
(أَثْلٍ) : الأثلة: السمرة وقيل شجر من العضاه طويلة
80
مستقيمة الخشبة تعمل منها القصاع والأقداح فوقعت مجازا في قولهم:
نحت أثلته إذا تنقّصه، وفلان لا تنحت أثلته، قال الأعشى:
ألست منتهيا عن نحت أثلتنا ولست ضائرها ما أطّت الإبل
ولفلان أثلة مال أي أصل مال ثم قالوا أثّلت مالا وتأثلته وشرف مؤثّل وأثيل.
(سِدْرٍ) : السدر: شجر النبق يطيب أكله ولذا يغرس في البساتين وقيل ان السدر صنفان صنف يؤكل ثمره وينتفع بورقه في غسل الأيدي وصنف له ثمرة غضة لا تؤكل أصلا وهو الضال.
الإعراب:
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص ولسبأ خبرها المقدم وفي مسكنهم حال من سبأ أي حال كونهم في مسكنهم وآية اسم كان المؤخر وقد تقدم القول مفصلا في سبأ في سورة النمل فجدد به عهدا.
(جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) جنتان بدل من آية أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره الآية جنتان وعن يمين وشمال صفة لجنتان ويبدو أن في بمعنى عند فإن المساكن محفوفة بالجنتين لا مظروفة لهما. (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) الجملة مقول قول محذوف أي وقيل لهم بلسان الحال أو بلسان المقال وكلوا فعل أمر وفاعل والمراد بهذا الأمر الإباحة ومن رزق ربكم متعلقان بكلوا وبلدة خبر لمبتدأ محذوف يعني هذه البلدة بلدة طيبة وطيبة صفة ورب غفور عطف على ما تقدم أي وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور.
(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) الفاء عاطفة وأعرضوا فعل ماض
81
وفاعل ومتعلقه محذوف أي عن شكره فأرسلنا عطف على فأعرضوا وعليهم متعلقان بأرسلنا وسيل العرم مفعول به.
(وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) وبدلناهم الواو عاطفة وبدلناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به وبجنتهم متعلقان ببدلناهم وجنتين مفعول به ثان وذواتى صفة وأكل مضاف إليه وخمط صفة كأنه قيل أكل بشع وقرىء بالإضافة وعبارة أبي البقاء: «أكل خمط: يقرأ بالتنوين والتقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف لأن الخمط شجر والأكل ثمره وقيل التقدير أكل ذي خمط وقيل هو بدل منه وجعل خمط أكلا لمجاورته إياه وكونه سببا له ويقرأ بالإضافة وهو ظاهر» وأثل عطف على أكل وشيء عطف أيضا ومن سدر صفة لشيء وقليل صفة ثانية. (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) ذلك مفعول ثان لجزيناهم مقدم عليه لأنه ينصب مفعولين أي جزيناهم ذلك التبديل وجزيناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وبما متعلقان بجزيناهم والباء للسببية وما مصدرية أي بسبب صبرهم وهل حرف استفهام بمنى النفي ونجازي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن وإلا أداة حصر والكفور مفعول به.
(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل وبينهم الظرف متعلق بمحذوف مفعول به ثان لجعلنا وبين القرى عطف على بينهم والتي صفة للقرى وجملة باركنا فيها صلة للموصول وقرى مفعول به أول وظاهرة نعت والجملة معطوفة على ما قبلها عطف قصة على قصة فقد ذكر أولا ما أسبغ
82
عليهم من نعمة الجنتين ثم تبديلهما بما سلف ذكره ثم جعل بلادهم متفاصلة متشتتة بعد أن كانت متواصلة ملمومة الشمل. (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) وقدرنا الواو عاطفة وقدرنا فعل ماض وفاعل وفيها متعلقان بقدرنا أو بالسير والسير مفعول به وجملة سيروا في محل نصب مقول قول محذوف وفيها متعلقان بسيروا وليالي وأياما ظرفان متعلقان بسيروا أيضا وآمنين حال ولم يتوجه معنا إعراب القرطبي لليالي وأياما فقد قال أنهما منصوبان على الحال وسيأتي سر تنكيرهما في باب البلاغة. (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) الفاء عاطفة وقالوا فعل وفاعل وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وباعد فعل أمر وبين ظرف متعلق بباعد وأسفارنا مضاف إليه وظلموا عطف على فقالوا وأنفسهم مفعول وذلك لأنهم بطروا وبشموا من طيب العيش وبلهنة الحال فطلبوا الكد والتعب والتنقل في البلاد، فجعلناهم عطف على ظلموا أنفسهم وأحاديث مفعول به ثان لجعلناهم.
(وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ومزقناهم عطف أيضا وكل ممزق نائب مفعول مطلق أي فرقناهم تفريقا لا التئام بعده. قال الشعبي «فلحقت الأنصار بيثرب وغسان بالشام والأزد بعمان وخزاعة بتهامة فكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول تفرقوا أيادي سبأ وقد تقدم معنى هذا المثل وإعرابه في النمل فجدد به عهدا. وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولكل صبار صفة لآيات وشكور صفة لصبار.
83
البلاغة:
١- المشاكلة:
في قوله «جنتين» فن المشاكلة وقد تقدم أنه ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته فقد سمى البدل جنتين للمشاكلة وفيه نوع من التهكم بهم، قال أبو تمام:
والدهر ألأم من شرقت بلؤمه إلا إذا أشرقته بكريم
أي اقتصرت عليه بكريم فقال أشرقته مشاكلة.
٢- التنكير:
وفي تنكير ليالي وأياما إلماع إلى قصر أسفارهم فقد كانت قصيرة لأنهم يرتعون في بحبوحة من العيش ورغد منه لا يحتاجون إلى مواصلة الكد وتجشم عناء الأسفار للحصول على ما يرفه عيشهم.
٣- التذييل:
وفي قوله: «ذلك جزيناهم» الآية فن التذييل وقد تقدم بحثه أيضا وهو قسمان الأول ما جرى مجرى المثل وقد تقدم بحثه أيضا، والثاني ما لم يخرج مخرج المثل وهو أن تكون الجملة الثانية متوفقة على الأولى في إفادة المراد أي وهل يجازى ذلك الجزاء المخصوص، ومضمون الجملة الأولى أن آل سبأ جزاهم الله تعالى بكفرهم ومضمون الثانية أن ذلك العقاب المخصوص لا يقع إلا للكفور وفرق بين قولنا
84
جزيته بسبب كذا وبين قولنا ولا يجزى ذلك الجزاء إلا من كان بذلك السبب ولتغايرهما يصح أن يجعل الثاني علة للأول ولكن اختلاف مفهومهما لا ينافي تأكيد أحدهما بالآخر للزوم معنى.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢)
الإعراب:
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة على ما تقدم أو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وصدق فعل ماض وعليهم متعلقان بصدق وإبليس فاعله وظنه مفعوله كأنه ظن فيهم أمرا وواعده نفسه فصدقه وقرىء صدق بالتخفيف على المعنى نفسه فيكون ظنه منصوبا بنزع الخافض ويصح أن يكون مفعولا به أيضا، وقرىء بنصب إبليس على المفعولية ورفع ظنه على الفاعلية وقرىء برفعهما معا على أن يكون ظنه بدل اشتمال من إبليس، فاتبعوه الفاء عاطفة واتبعوه فعل ماض وفاعل ومفعول به،
85
ويجوز أن يكون الكلام خاصا فالضمير يعود على أهل سبأ وأن يكون عاما فالضمير يعود على بني آدم، وإلا أداة استثناء وفريقا مستثنى يجوز أن يكون منقطعا ويجوز أن يكون متصلا ومن المؤمنين صفة لفريقا. (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وله خبرها المقدم وعليهم حال لأنه كان في الأصل نعت لسلطان ومن حرف جر زائد وسلطان مجرور لفظا اسم ليس المؤخر محلا.
(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) إلا أداة حصر واللام للتعليل وقيل للعاقبة والاستثناء مفرغ من أعم العلل فهو في محل نصب مفعول لأجله ونعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، ومن يجوز أن تكون استفهامية فتسد مسد مفعولي العلم وتكون في محل رفع مبتدأ وجملة يؤمن بالآخرة خبر، ويجوز أن تكون موصولة في محل نصب مفعول نعلم وهذا أرجح وجملة يؤمن صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمن وممن جار ومجرور متعلقان بنعلم لأنه متضمن معنى نميز وهو مبتدأ ومنها حال لأنه كان في الأصل صفة لشك وفي شك خبر والجملة صلة. (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) وربك مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بحفيظ وحفيظ خبر ربك. (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قل فعل أمر مبني على السكون وحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين وجملة ادعوا الذين مقول القول وجملة زعمتم صلة ومن دون الله صفة للمفعول الثاني المحذوف والمفعول الأول محذوف أيضا تقديره زعمتوهم آلهة فحذف الأول لطول الموصول بصلته وحذف الثاني لقيام صفته، أعني من دون الله مقامه. وهذا من أعجب الكلام وأوكده ونحن ننقل لك عبارة الزمخشري بنصها في هذا
86
الصدد قال: «فإن قلت أين مفعولا زعم؟ قلت: أحدهما الضمير المحذوف الراجع منه الى الموصول وأما الثاني فلا يخلو إما أن يكون من دون الله أو لا يملكون أو محذوفا فلا يصح الأول لأن قولك هم من دون الله لا يلتئم كلاما ولا الثاني لأنهم ما كانوا يزعمون ذلك فكيف يتكلمون بما هو حجة عليهم وبما لو قالوه قالوا ما هو حق وتوحيد فبقي أن يكون محذوفا تقديره: زعمتموهم آلهة من دون الله فحذف الراجع الى الموصول كما حذف في قوله: أهذا الذي بعث الله رسولا استخفافا لطول الموصول بصلته وحذف آلهة لأنه موصوف صفته من دون الله والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوما فإذن مفعولا زعم محذوفان جميعا بسببين مختلفين».
(لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) الجملة حال من الذين زعمتموهم آلهة ولك أن تجعلها مستأنفة مسوقة لبيان حالهم ولا نافية ويملكون فعل مضارع وفاعل ومثقال ذرة مفعول به وفي السموات والأرض متعلقان بيملكون أو بمحذوف حال. (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) الواو عاطفة وما نافية ولهم خبر مقدم وفيهما حال ومن حرف جر زائد وشرك مجرورا لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر أو اسم ما على رأي من يجيز تقدم خبرها على اسمها والواو عاطفة أيضا وما نافية وله خبر مقدم ومنهم حال ومن ظهير مبتدأ مؤخر كما تقدم.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٣ الى ٢٧]
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
87
اللغة:
(فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) : بالبناء للمجهول وفزّع عنه بالتشديد أذهب عنه الفزع والفزع بفتحتين: الذعر والمخافة والإغاثة، وفي الأساس:
«وفزع عن قلبه: كشف الفزع عنه» فالتضعيف هنا للسلب كما يقال:
قرّدت البعير أي أزلت قراده.
الإعراب:
(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) الكلام مستأنف مسوق لبيان المصير الذي لا تنفع فيه شفاعة الشافعين إلا لمن سبق القلم بالإذن له. ولا نافية وتنفع الشفاعة فعل مضارع وفاعل وعنده ظرف متعلق بتنفع أو بمحذوف حال وإلا أداة حصر ولمن متعلقان بالشفاعة إذ يقال شفعت له أو بتنفع، وللزمخشري بحث لطيف في متعلق هذه اللام نورده بنصه قال: «تقول الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع كما تقول:
الكرم لزيد وعلى معنى أنه المشفوع له كما تقول: القيام لزيد فاحتمل
88
قوله: ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يكون على أحد هذين الوجهين أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له أي لشفيعه أو هي اللام الثانية في قولك أذن لزيد لعمرو أي لأجله وكأنه قيل: إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وهذا وجه لطيف وهو الوجه» وأذن فعل ماض مبني للمعلوم والفاعل مستتر يعود على الله وله متعلقان بأذن وقرىء أذن بالبناء للمجهول.
(حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) حتى حرف غاية وجر والغاية لمحذوف يفهم من سياق الكلام كأنه قيل يتربصون ويتوفقون حائرين مشدوهين وجلين تتفارسهم المخاوف وتتقاذفهم الشكوك أيؤذن لهم أم لا حتى إذا فزع. وفزع بالبناء للمجهول ونائب الفاعل هو الجار والمجرور أي عن قلوبهم وقرىء بالبناء للمعلوم فيتعلق الجار والمجرور به أي فزع الله عن قلوبهم. (قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) قالوا جواب إذا وما اسم استفهام وذا اسم موصول خبر والجملة مقول قال مقدم عليه وقال ربكم فعل وفاعل والجملة مقول قالوا الأولى وقالوا فعل وفاعل والحق منصوب بقول مقدر أي قال ربنا القول الحق ولك أن تعرب القول مفعولا مطلقا أو مفعولا به والحق صفة وهو مبتدأ والعلي خبر أول والكبير خبر ثان وهو تتمة كلام الشفعاء. (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) قل فعل أمر والفاعل مستتر يعود على الرسول تبكيتا للمشركين وإلزاما لهم بالاعتراف بالعجز ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة يرزقكم خبر ومن السموات متعلقان يرزقكم والأرض عطف على السموات وقل فعل أمر والله مبتدأ خبره محذوف أي الله يرزقنا أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله.
89
(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة وان واسمها أو إياكم ضمير منفصل معطوف على اسم إن واللام المزحلقة وعلى هدى خبر إن وأو حرف عطف على بابها عند البصريين وليست للشك وسيأتي المزيد من بحث هذا التركيب في باب البلاغة أو في ضلال عطف على قوله لعلى هدى ومبين صفة. (قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) لا نافية وتسألون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وعما متعلقان بتسألون وما موصولة أو مصدرية وأجرمنا فعل وفاعل ولا نسأل عما تعملون عطف على لا تسألون عما أجرمنا وسيأتي المزيد من بحثه أيضا في باب البلاغة. (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) جملة يجمع مقول القول وبيننا ظرف متعلق بيجمع وربنا فاعل يجمع ثم يفتح بيننا عطف على ما تقدم وبالحق حال وهو مبتدأ والفتاح خبر أول والعليم خبر ثان.
(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أروني فعل أمر والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به أول لأن الرؤية علمية متعدية قبل النقل الى اثنين فلما جيء بهمزة النقل تعدت لثلاثة، والذين اسم موصول مفعول به ثان لأروني وجملة ألحقتم صلة والعائد محذوف أي ألحقتموهم وهو المفعول الثاني وبه متعلقان بألحقتم وشركاء مفعول به ثالث لأروني ويجوز أن تكون الرؤية بصرية متعدية قبل النقل الى واحد فلما جيء بهمزة النقل تعدت لاثنين أولهما ياء المتكلم والثاني الموصول وشركاء نصب على الحال من العائد المحذوف أي بصروني الملحقين به حال كونهم شركاء وسيأتي معنى الأمر هنا في باب البلاغة.
(كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كلا حرف ردع وزجر وبل حرف إضراب وهو ضمير الشأن مبتدأ والله مبتدأ ثان والعزيز الحكيم خبراه
90
والجملة خبر هو، ولك أن تجعل هو ضميرا عائدا على الله وتعربه مبتدأ خبره الله والعزيز الحكيم صفتان.
البلاغة:
حفلت هذه الآيات بضروب من البلاغة نوجزها فيما يلي:
١- الفرائد:
في قوله «حتى إذا فزع عن قلوبهم» فن طريف يسمى فن الفرائد وهو أن يأتي المتكلم في كلامه بلفظة تتنزل منزلة الفريدة من حب العقد وهي الجوهرة التي لا نظير لها بحيث لو سقطت من الكلام لم يسدّ غيرها مسدها وقد مرت نماذج منها، وفي لفظة فزع عن قلوبهم من غرابة الفصاحة ما لا مزيد عليه. ومن شواهد هذا الفن في الشعر قول أبي تمام:
ومعترك للشوق أهدى به الهوى إلى ذي الهوى نجل العيون ربائبا
فالفريدة في لفظة معترك وقد اقتبسها الشيخ عمر بن الفارض فقال:
91
٢- الاستدراج:
في قوله: «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» وهو فن يعتبر من البلاغة محورها الذي تدور عليه لأنه يستدرج الخصم ويضطره الى الإذعان والتسليم والعزوف عن المكابرة واللجاج فإنه لما ألزمهم الحجة خاطبهم بالكلام المنصف الذي يقول من سمعه للمخاطب به قد أنصفك صاحبك ونحوه قول الرجل لصاحبه:
مني ومنك وإن أحدنا لكاذب، ومنه قول الشاعر حسان بن ثابت:
ما بين معترك الأحداق والمهج أنا القتيل بلا إثم ولا حرج
أتهجوه ولست له بكفء فشر كما لخير كما الفداء
وهو من قصيدة طويلة يهجو بها أبا سفيان قبل إسلامه والهمزة للاستفهام التوبيخي والواو حال أي لا ينبغي ذلك وشر وخير من قبيل أفعل التفضيل واختصا بحذف همزتهما تخفيفا لكثرة استعمالهما لكن المراد بهما هنا أصل الوصف لا الزيادة فيه والشر أبو سفيان والجملة دعائية دعا عليه بأن يكون فداء لرسول الله وأبرزه في صورة الإبهام لأجل الإنصاف في الكلام ولذلك لما سمعه الحاضرون قالوا: هذا أنصف بيت قالته العرب.
٣- المخالفة في الحروف:
وفي هذه الآية مخالفة بين حرفي الجر فإنه إنما خولف بينهما في الدخول على الحق والباطل لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركض به حيث شاء وصاحب الباطل كأنه.
92
منغمس في ظلام منخفض فيه لا يدري أين يتوجه، وهذا معنى دقيق قلمّا يراعى مثله في الكلام وكثيرا ما سمعنا إذا كان الرجل يلوم أخاه أو يعاتب صديقه على أمر من الأمور فيقول له: أنت على ضلالك القديم كما أعهدك فيأتي بعلى في موضع في، وإن كان هذا جائزا إلا أن استعمال «في» هنا أولى لما أشرنا إليه والاستعارة التصريحية واضحة وقد تقدمت في غير هذا الموضع.
٤- معنى الأمر:
قوله «أروني» أمرهم بإراءته الأصنام مع كونها بمرأى منه إظهار لخطئهم واطلاعهم على بطلان رأيهم.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٨ الى ٣٣]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢)
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
93
الإعراب:
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الواو استئنافية وما نافية وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر وكافة حال من الكاف في أرسلناك أو من الناس أي للناس كافة على رأي من يجيز تقدم الحال على الجار والمجرور، أو صفة لمصدر محذوف أي إرسالة كافة للناس وسيأتي المزيد من بحث «كافة» في باب الفوائد وهو بحث ممتع. وللناس صفة لكافة أو بكافة وبشيرا ونذيرا حالان من الكاف ولكن حرف مشبه بالفعل وأكثر الناس اسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو استئنافية ويقولون فعل مضارع وفاعل ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية وهذا الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والوعد بدل وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) لكم خبر مقدم وميعاد يوم مبتدأ مؤخر وهو مصدر مضاف إلى الظرف وجملة لا تستأخرون صفة ليوم أو لميعاد وعنه متعلقان بتستأخرون وساعة ظرف متعلق بتستأخرون أيضا ولا تستقدمون عطف على لا تستأخرون.
94
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) قال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونؤمن فعل مضارع منصوب بلن والجملة مقول القول وبهذا متعلقان بنؤمن والقرآن بدل ولا بالذي عطف على بهذا القرآن وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة للذي ويديه مضاف الى الظرف والمراد بما بين يدي القرآن ما تقدمه من كتب الله عز وجل. (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) لو شرطية وترى فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت وهو فعل الشرط والجواب محذوف أي لرأيت العجب العجاب أو لرأيت حالا مذهلة وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري والظالمون مبتدأ وموقوفون خبر أي محبوسون جمع موقوف اسم مفعول من وقف الثلاثي المتعدي فقد جاء في المصباح ما يلي: «وقفت الدابة تقف وقفا ووقوفا سكنت ووقفتها أنا يتعدى ولا يتعدى ووقفت الرجل عن الشيء وقفا منعته عنه» وعند ربهم ظرف متعلق بموقوفون وجملة يرجع حال من ضمير موقوفون وبعضهم فاعل والى بعض متعلقان بيرجع والقول مفعول به ليرجع لأنه يتعدى (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) جملة يقول مفسرة ليرجع فلا محل لها والذين فاعل يقول وجملة استضعفوا صلة وللذين متعلقان بيقول وجملة استكبروا صلة.
(لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) لولا حرف امتناع لوجود وأنتم مبتدأ محذوف الخبر وجوبا أي موجودون واللام رابطة لجواب لولا وجملة كنا مؤمنين لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وكان واسمها ومؤمنين خبرها. (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) قال
95
الذين فعل وفاعل وجملة استكبروا صلة وللذين متعلقان بقال وجملة استضعفوا صلة وهو بالبناء للمجهول والجملة مستأنفة. (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري كأنهم أنكروا أن يكونوا هم الذين ارتكبوا جريرة صدهم عن الإيمان. ونحن مبتدأ وجملة صددناكم خبر وعن الهدى متعلقان بصددناكم وبعد ظرف متلعق بمحذوف حال لوقوعه بعد المعرفة وإذ ظرف أضيف الى مثله توسعا في الظروف وقيل: إذ بمعنى أن المصدرية وهو مفهوم تفسير الزمخشري وجملة جاءكم في محل جر بإضافة الظرف إليها وبل حرف إضراب وعطف وكنتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها ومجرمين خبرها. (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) تقدم إعرابها وأثبتت حرف العطف هنا بينما حذفها في الجملة الآنفة لأنه كلام آخر للمستضعفين (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بل حرف إضراب ومكر الليل مبتدأ خبره محذوف أي مكر الليل والنهار، صدنا أو خبر لمبتدأ محذوف أي سبب كفرنا مكر الليل والنهار، وإضافة المكر الى الليل والنهار من باب الاسناد المجازي وقد تقدمت له نظائر فهو مصدر مضاف لمرفوعه وقال الزمخشري: «ومعنى مكر الليل والنهار مكر كم في الليل والنهار فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر اليه أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي» وأصل المكر في كلام العرب: الخديعة والحيلة.
(إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) الظرف متعلق بمكر وجملة تأمروننا في محل جر بإضافة الظرف إليها وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض متعلق بتأمروننا ونجعل عطف على نكفر وله حال لأنه كان في الأصل صفة لأندادا وأندادا مفعول به ويجوز
96
أن يكون الجار والمجرور مفعول نجعل الثاني وأندادا مفعول نجعل الأول. (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) الواو حالية أو استئنافية وأسروا فعل وفاعل والندامة مفعول به والضمير راجع الى الفريقين أي أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر وأخفوها عن غيرهم أو أخفاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة ولما ظرفية حينية متعلقة بأسروا وجملة رأوا في محل جر بإضافة الظرف إليها والعذاب مفعول به. (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل والأغلال مفعول جعلنا الأول وفي أعناق الذين كفروا مفعوله الثاني والكلام من باب القلب والأصل وجعلنا أعناق الذين كفروا في الأغلال. (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الجملة حال من الذين كفروا وهل حرف استفهام والاستفهام بمعنى النفي ويجزون فعل مضارع مبني للمجهول ونائب فاعل وإلا أداة حصر وما مفعول يجزون الثاني وجملة كانوا صلة وجملة يعملون خبر كانوا.
الفوائد:
الأصل في الحال أن تتأخر عن صاحبها، وقد تتقدم عليه جوازا نحو: جاء راكبا علي، ومنه قول طرفة بن العبد:
فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمي
وقد تتقدم عليه وجوبا في موضعين:
١- أن يكون صاحبها نكرة غير مستوفية للشروط نحو:
لعليّ مهذبا غلام وقول الشاعر:
97
لمية موحشا طلل... يلوح كأنه خلل
وقول الآخر:
وفي الجسم مني بينا لو علمته... شحوب وإن تستشهدي العين تشهد
٢- أن يكون محصورا فيها نحو: ما جاء ناجحا إلا عليّ وإنما جاء ناجحا علي تقول ذلك إذا أردت أن تحصر المجيء بحالة النجاح في علي.
وتتأخر عنه وجوبا في ثلاثة مواضع:
١- أن تكون هي المحصورة نحو ما جاء خالد إلا ناجحا وإنما جاء خالد ناجحا تقول ذلك إذا أردت أن تحصر مجيء خالد في حالة النجاح ومنه قوله تعالى «وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين».
٢- أن يكون صاحبها مجرورا بالاضافة نحو يعجبني وقوف علي خطيبا، وسرني عملك مخلصا، أما المجرور بحرف جر أصلي فقد منع الجمهور تقديم الحال عليه فلا يقال مررت راكبا بعلي وأخذت عاثرا بيد خليل. وأجاز الفارسي وابن كيسان وابن جني وغيرهم التقديم، قال ابن مالك والتقديم هو الصحيح لوروده في الفصيح كقوله تعالى «وما أرسلناك إلا كافة للناس» فكافة حال من المجرور وهو الناس وقد تقدم على صاحبه المجرور، ونحو قول الشاعر:
98
تسليت طرا عنكم بعد بينكم بذكراكم حتى كأنكم عندي
وقال المانعون والحق أن هذا البيت ضرورة أو طرا حال من عنكم محذوفة مدلولا عليها بعنكم المذكورة وان كافة في الآية حال من الكاف في أرسلناك وأن التاء للمبالغة لا للتأنيث قاله الزجاج وردّه ابن مالك بأن إلحاق التاء للمبالغة مقصور على السماع ولا يتأتى غالبا إلا في أبنية المبالغة كعلاقة، وكافة خلاف ذلك.
هذا ولزيادة الفائدة نورد أقوالا لبعض الأعلام في صدد إعراب كافة قال الزمخشري «ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار وكم نرى من يرتكب مثل هذا الخطأ ثم لا يكتفي به حتى يضم اليه أن يجعل اللام بمعنى إلى فيرتكب الخطأين معا».
وقال أبو علي: «وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به وإذا جاز تقديمها على صاحبها وعلى العامل فيه فتقديمها على صاحبها وحده أجوز».
وقال الفيروز بادي صاحب القاموس: «وجاء الناس كافة أي كلهم ولا يقال جاءت الكافة لأنه لا يدخلها أل ووهم الجوهري، ولا تضاف». واستدرك عليه شارحه فقال في تاج العروس ما ملخصه:
«عبارة الجوهري: الكافة الجميع من الناس يقال لقيتهم كافة أي كلهم. وهذا كما ترى لا وهم فيه لأن النكرة، إذا أريد لفظها جاز تعريفها وما ذكره المصنف هو الذي أطبق عليه الجمهور وأورده
99
النووي في التهذيب وعاب على الفقهاء استعماله بأل أو الاضافة قال شيخنا: ويدل على أن الجوهري لم يرد ما قصده المصنف أنه إنما مثل بما هو موافق للجمهور على أن قولهم ذلك رده الشهاب في شرح الدرة وصحح انه يقال وإن كان قليلا» هذا وقد أطال الشهاب الخفاجي في تصحيح إدخال أل على كافة وإضافتها وقال شارح اللباب:
انه استعمل مجرورا واستدل له بقول عمر بن الخطاب: «قد جعلت لآل بني كاهلة على كافة بيت المسلمين لكل عام مئتي مثقال ذهبا إبريرا».
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٧]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧)
الإعراب:
(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم. وما أرسلنا فعل وفاعل وفي قرية
100
متعلقان بأرسلنا ومن حرف جر زائد ونذير مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به وإلا أداة حصر وجملة قال مترفوها حال من قرية وإن كانت نكرة لوقوعها في سياق النفي ومترفوها فاعل قال أي المتنعمون فيها. (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) الجملة مقول قولهم، وإن واسمها وبما متعلقان بكافرون وما موصولة وجملة أرسلتم صلة وأرسلتم بالبناء للمجهول والتاء نائب فاعل وبه متعلقان بأرسلتم وكافرون خبر إن والتقدير إننا كافرون بالذي أرسلتم به. (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل ونحن مبتدأ وأكثر خبر وأموالا تمييز وأولادا عطف على أموالا وما حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد ومعذبين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) إن واسمها وجملة يبسط الرزق خبرها ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يبسط ومعناه يضيقه، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الواو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها ومفعول يعلمون محذوف أي وجه الحكمة في ذلك فهو يبسط الرزق للعاصي بطريق الاستدراج والإملاء ويقدره على المطيع بطريق الاختبار والابتلاء.
(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) الواو عاطفة أو استئنافية وما حجازية وأموالكم اسمها ولا أولادكم عطف على أموالكم والباء حرف جر زائد والتي مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس ووصف الأموال والأولاد بالتي لأن جمع التكسير العاقل وغير العاقل يعامل معاملة المؤنثة الواحدة وجملة تقربكم صلة وعندنا ظرف متعلق بمحذوف حال وزلفى مصدر من معنى العامل فهو مفعول
101
مطلق على المعنى أي تقربكم قربة. (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) إلا بمعنى لكن فالاستثناء منقطع لأن الخطاب للكفار ومن آمن ليس منتظما في سلكهم ومن مستثنى ويجوز أن يكون متصلا مستثنى من المفعول في يقربكم ويجوز أن يعرب مبتدأ وما بعده الخبر وجملة آمن صلة وعمل عطف على آمن وصالحا مفعول به أو مفعول مطلق أي عملا صالحا. (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) الفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وأولئك اسم إشارة مبتدأ والاشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن افراد الفعلين باعتبار لفظها، ولهم خبر مقدم وجزاء الضعف مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك ومعنى جزاء الضعف أن تضاعف لهم حسناتهم الواحدة عشرا، والإضافة إما من إضافة المصدر الى مفعوله أو من إضافة الموصوف الى صفته والمعنى على الأول أن يجازيهم الله الضعف وعلى الثاني لهم الجزاء المضاعف وبما متعلقان بجزاء وما موصولة أو مصدرية.
(وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وفي الغرفات حال أو متعلقان بآمنون وآمنون خبرهم.
البلاغة:
في قوله «وما أموالكم ولا أولادكم الآية» التفات من الغيبة الى الخطاب والسرّ فيه المبالغة في تحقيق الخبر وأن ذلك الذي تسرون به وتحبرون من كثرة الأولاد والأموال لن يجديكم فتيلا، ولن يقربكم منّا ما دمتم مصرّين على ما أنتم فيه مسترسلين في تلبية دواعي الغي والضلال، وفي ذلك إشارة ضمنية إلى إنفاق الأموال في سبيل الله وأوجه الخير وتهذيب الأولاد وتأهيلهم لما يصلح دينهم ودنياهم. والزلفى القربى والزلفة القربة.
102

[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٨ الى ٤٢]

وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢)
الإعراب:
(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) الواو عاطفة على ما تقدم والذين مبتدأ وجملة يسعون صلة وفي آياتنا متعلقان بيسعون، والسعي فيها بإبطال أحكامها، ومعاجزين حال أي مقدرين عجزين وقد تقدمت في مكان آخر وجملة أولئك خبر الذين وأولئك مبتدأ وفي العذاب متعلقان بمحضرون ومحضرون خبر أولئك.
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) تقدم إعرابها وإنما أعادها لأنها سيقت هنا في شخص واحد بدليل قوله له وما سبق في شخصين فلا تكرار، وهبه كان تكرارا فهو للتأكيد. (وَما أَنْفَقْتُمْ
103
مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
يجوز في ما أن تكون شرطية وهو أظهر في محل نصب مفعول مقدم لأنفقتم وأنفقتم فعل الشرط ومن شيء حال والفاء رابطة للجواب، ويجوز أن تكون موصولة في موضع رفع بالابتداء ودخلت الفاء على الخبر لما في الموصول من رائحة الشرط وهو مبتدأ وجملة يخلفه خبر والجملة الاسمية إما في محل جزم على أنها جواب الشرط وإما في محل رفع على أنها خبر والواو عاطفة وهو مبتدأ وخير الرازقين خبر.
رفع على أنها خبر والواو عاطفة وهو مبتدأ وخير الرازقين خبر.
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) الواو استئنافية ويوم ظرف متعلق باذكر مضمرا وجملة يحشرهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجميعا حال وثم حرف عطف ويقول فعل مضارع مرفوع عطفا على يحشرهم وللملائكة متعلقان بيقول والهمزة للاستفهام التقريعي وهؤلاء مبتدأ وإياكم ضمير منفصل في محل نصب مفعول مقدم ليعبدون وجملة كانوا خبر المبتدأ والواو اسم كانوا وجملة يعبدون خبرها.
(قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) قالوا فعل ماض وفاعل وسبحانك مفعول مطلق وأنت مبتدأ وولينا خبر ومن دونهم حال.
(بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) بل حرف إضراب وكانوا كان واسمها وجملة يعبدون خبرها والجن مفعول به وأراد بالجن الشياطين التي كانت في اعتقادهم تتقمص الأصنام التي يعبدونها وأكثرهم مبتدأ وبهم متعلقان بمؤمنون ومؤمنون خبر والجملة بدل من جملة يعبدون الجن. (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) الفاء استئنافية واليوم ظرف متعلق بيملك ولا نافية ويملك فعل مضارع مرفوع وبعضكم فاعل ولبعض متعلقان بنفعا ونفعا مفعول
104
به ولا ضرا عطف على نفعا. (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) الواو عاطفة ونقول فعل مضارع معطوف على لا يملك وللذين متعلقان بنقول وجملة ظلموا صلة وذوقوا فعل أمر وفاعل والجملة مقول القول وعذاب النار مفعول به والتي صفة للنار وجملة كنتم صلة والتاء اسم كان وبها متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٥]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥)
اللغة:
(مِعْشارَ) : قال في القاموس: «والعشير جزء من عشرة كالمعشار والعشر» وتابعه من نقل عنه كالمنجد وغيره وقال في الكشاف:
«والمعشار كالمرباع وهما العشر والربع» وعبارة البحر: «المعشار مفعال من العشر ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير
105
المرباع ومعناهما العشر والربع وقال قوم المعشار عشر العشر» وقال الماوردي: «المعشار هنا هو عشر العشير والعشير هو عشر العشر فيكون جزءا من ألف» قال: وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل.
الإعراب:
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة تتلى في محل جر بإضافة الظرف إليها وهو مبني للمجهول وعليهم متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل وبينات حال من آياتنا والتالي هو النبي ﷺ وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وما نافية وهذا مبتدأ والاشارة الى التالي وهو النبي وإلا أداة حصر ورجل خبر هذا وجملة يريد صفة لرجل وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول يريد وعما متعلقان بيصدكم وجملة كان صلة واسم كان مستتر تقديره هو وجملة يعبد خبرها وآباؤكم فاعل والمسألة من باب التنازع وأعمل الثاني لقربه ولو أعمل الأول لقال يعبدونه. (وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل وما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وإفك خبر ومفترى صفة وسيأتي سر هذا التكرير في باب البلاغة.
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الواو عاطفة وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة وللحق متعلقان
106
بقال ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر هذا ومبين صفة.
(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) الواو عاطفة ويجوز جعلها حالية كما سيأتي في حلّ المعنى وما نافية وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به ومن حرف جر زائد وكتب مجرور لفظا في محل نصب مفعول ثان لآتيناهم وجملة يدرسونها صفة لكتب. (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) عطف على ما تقدم وإعرابها مماثل للجملة قبلها والمعنى: انتفاء العذر عن هؤلاء المشركين لأنهم لم يؤتوا كتبا يدرسونها ولم ترسل إليهم رسل بالنذر بخلاف أهل الكتاب فإنهم قد يتشبثون بما آتاهم وبما هم عاكفون عليه فلا يريدون تركه وان كان تشبثهم باطلا أما هؤلاء فليس لهم أدنى عذر وليس لها أي مبرر في جنوحهم الى التنطع ولجوئهم الى التكذيب. (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) الواو عاطفة وكذب الذين فعل وفاعل ومن قبلهم متعلقان بالصلة والواو حالية وما نافية وبلغوا فعل وفاعل ومعشار مفعول به وما اسم موصول مضاف اليه وجملة آتيناهم صلة.
(فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) الفاء عاطفة وكذبوا فعل وفاعل ورسلي مفعول به والفاء عاطفة وكيف اسم استفهام خبر مقدم لكان ونكيري اسمها واختار البيضاوي أن تكون جملة فكيف كان نكير معطوفة على محذوف قدره بقوله: «فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم أي عليهم فليحذر هؤلاء من مثله» ولا مانع من ذلك.
107
البلاغة:
في هذه الآيات تكرار يدل على الغضب والإنكار، فقد تكرر الفعل وهو قولهم وصرح باسمهم وهو «الذين كفروا» وجاء باللام المؤذنة بالقوة وصرح بقوله «لما جاءهم» للعجب من مبادهتهم بالكفر وذلك للدلالة على مدى السخط عليهم والزراية بأقدارهم والتعجب من ارتكاس عقولهم ونبوها عن الحق وطمسها لمعالمه، ثم أضفى على ذلك ما هو أبلغ في الدلالة على رسوخهم في الكفر وتماديهم في الباطل وهو أن من قبلهم من أصحاب الكتاب لم يؤتوا مثلما أوتوا، بل لم يبلغ ما أوتوه معشار ما أتاهم وهو جزء من عشرة بل من مائة على رأي بعضهم بل جزء من ألف على رأي آخرين. وللتكرار مواضع يحسن فيها ومواضع يقبح فيها فأكثر ما يقع التكرار في الألفاظ دون المعاني وهو في المعاني دون الألفاظ أقل، ومما ورد فيه التكرار على جهة الوعيد والتهديد قول الأعشى ليزيد بن مهر الشيباني:
أبا ثابت لا تعلقنك رماحنا أبا ثابت أقصر وعرضك سالم
وذرنا وقوما إن هم عمدوا لنا أبا ثابت واقعد فإنك طاعم
وسيأتي المزيد من بحث التكرار.
108

[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٦ الى ٤٩]

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩)
الإعراب:
(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإنما كافة ومكفوفة وأعظم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبواحدة متعلقان بأعظكم وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل جر عطف بيان لواحدة أو بدل منها أو رفع على تقدير هي أن تقوموا أو نصب على تقدير أعني، ومثنى وفرادى نصب على الحال وسيأتي السر في تقديم مثنى على فرادى في باب البلاغة.
(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وسيأتي سر العطف بثم في باب البلاغة، وتتفكروا معطوف على أن تقوموا وما نافية وبصاحبكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وجنة مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ والجملة مستأنفة ويجوز أن تتضمن تتفكروا معنى تعلموا فتكون من أفعال القلوب وما استفهامية
109
علقت تعلموا عن العمل فهي مبتدأ خبره بصاحبكم ومن جنة حال أي جنون.
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر ونذير خبر هو ولكم متعلقان بنذير وبين ظرف متعلق بمحذوف حال أو صفة لنذير ويدي مضاف اليه وشديد صفة.
(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) ما شرطية في محل نصب مفعول ثان مقدم لسألتكم وسألتكم فعل وفاعل ومفعول به أول وهو في محل جزم فعل الشرط ومن أجر حال والفاء رابطة لجواب الشرط وهو مبتدأ ولكم خبر والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، هذا ويحتمل أن تكون ما موصولة مبتدأ وجملة سألتكم صلة والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وجملة هو لكم خبر.
(إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) إن نافية وأجري مبتدأ وإلا أداة حصر وعلى الله خبر وهو مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بشهيد وشهيد خبر هو. (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) إن واسمها وجملة يقذف خبرها وبالحق متعلقان بيقذف وعلام الغيوب خبر ثان لإن أو خبر لمبتدأ محذوف واختار الزمخشري أن يكون مرفوعا على محل إن واسمها أو على المستكن في يقذف على أنه بدل منه، وقال ابن هشام: «فقدر علام نعتا للضمير المستتر في يقذف» وتعقبه الدسوقي قائلا: «وحمله الجمهور على البدل منه» (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) جملة جاء الحق مقول القول والواو عاطفة وما نافية ويبدىء الباطل فعل مضارع وفاعل وما يعيد عطف على ما يبدىء.
110
البلاغة:
١- الطباق:
في قوله «مثنى وفرادى» طباق بديع أتى به احترازا من القيام جماعة لأن في الاجتماع تشويشا للخواطر، وحئولا دون التأمل والاستغراق في التفكير، أما قيامهم مثنى وفرادى فيتيح لهم أن يفكروا ويعملوا الروية فإن تبين الحق للاثنين جنح كل فرد الى إعمال رأيه، وكثيرا ما يؤدي التعصب الى طمس الحقائق وضياع الفوائد إذ يصبح الفرد كالببغاء ينقاد للآخرين على حد قول شوقي:
يا له من ببغاء... عقله في أذنيه
٢- الكناية:
في قوله «وما يبدىء الباطل وما يعيد» كناية عن هلاكه والتطويح به لأنه إذا هلك لم يعد له إبداء أو إعادة، ومنه قول عبيد:
أفقر من أهله عبيد... فاليوم لا يبدي ولا يعيد
فقد كان المنذر بن ماء السماء يخرج في يوم من كل سنة فينعم على كل من يلقاه وفي آخر فيقتل أول من يلقاه فصادفه فيه عبيد فقيل له امدحه بشعر لعله يعفو عنك فقال: حال الجريض دون القريض.
فضرب مثلا وقال هذا البيت بعد ذلك تحسرا، وروي أن المنذر قال له: أنشدني أفقر من أهله ملحوب، فقال أقفر من أهله عبيد إلخ أي لا قدرة لي على إبداء شعر جديد ولا على إعادة شعر قديم وفي قوله يبدىء ويعيد أيضا طباق.
111
الفوائد:
قال النحاة: ويعطف على أسماء الأحرف المشبهة بالفعل بالنصب قبل مجيء الخبر وبعده كقول رؤبة:
إن الربيع الجود والخريف يدا أبي العباس والصيوفا
فعطف الخريف بالنصب على الربيع وقبل مجيء الخبر وهو يدا أبي العباس وعطف الصيوف جمع صيف على الربيع بالنصب بعد مجيء الخبر، والجود بفتح الجيم وسكون الواو وبالدال المطر الغزير ويروى الجون بالنون بدل الدال والمراد به السحاب الأسود. والمراد بالربيع والخريف والصيوف أمطارهن والمراد بأبي العباس السفاح أول الخلفاء من بني العباس، وهذا من عكس التشبيه مبالغة لأن الغرض تشبيه يديه بالأمطار الواقعة في الربيع والخريف والصيف، ويعطف بالرفع على محل هذه أسماء هذه الأحرف بشرطين: استكمال الخبر وكون العامل إن أو أن أو لكن مما لا يغير معنى الجملة نحو إن الله بريء من المشركين ورسوله فعطف رسوله على محل الجلالة بعد استكمال الخبر وهو بريء، والمحققون على أن الرفع في ذلك ونحوه على أنه مبتدأ حذف خبره لدلالة خبر الناسخ عليه.
قال اللقاني: «قال الرضي: والوصف وعطف البيان كالمنسوق عند الجرمي والزجاج والفراء في جواز الحمل على المحل ولم يذكر غيرهم في ذلك منعا ولا إجازة والأصل الجواز إذ لا فارق ولم يذكروا البدل والقياس كونه كسائر التوابع في جواز الرفع» وفي شرح المفصل لابن الحاجب: «أجاز الزجاج جعل ارتفاع علام الغيوب في
112
قوله تعالى: قل إن ربي الآية على أنه صفة لربي بالتأويل الذي في العطف قال: ويمكن حمله على غير ما ذكره بأن يكون علام الغيوب فاعلا بيقذف ولا ضمير فيه فاستغنى عن العائد بظاهر موافق للأول في المعنى» وارجع الى المطولات.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٥٠ الى ٥٤]
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
اللغة:
(التَّناوُشُ) : قال الزمخشري: «والتناوش والتناول اخوان إلا أن التناوش تناول سهل لشيء قريب يقال ناشه ينوشه وتناوشه القوم ويقال تناوشوا في الحرب: ناش بعضهم بعضا» وفي المصباح:
«ناشه نوشا من باب قال تناوله والتناوش التناول يهمز ولا يهمز وتناوشوا بالرماح تطاعنوا بها» وقال ابن السكيت: «يقال للرجل
113
إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته ناشه ينوشه نوشا ومنه المناوشة في القتال إذا تدانى الفريقان».
الإعراب:
(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) إن شرطية وضللت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة وأضل فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وعلى نفسي متعلقان بأضل وهي في قوة بنفسي فيصح مقابلتها مع ما بعدها.
(وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) عطف على ما سبق وما من قوله فيما يوحي إلي ربي يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة فعلى الأول يكون التقدير بسبب إيحاء ربي إليّ وعلى الثاني يكون التقدير: بسبب الذي يوحيه إلي ربي، وجملة يوحي لا محل لها على كل حال وإلي متعلقان بيوحي وربي فاعل يوحي وان واسمها وسميع خبرها الأول وقريب خبرها الثاني. (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) كلام مستأنف مسوق لتقرير حال الكفار عند نزول الموت واضطرارهم الى الإخلاد للحق والرجوع إليه. ولو شرطية وترى فعل مضارع وفعل مستتر تقديره أنت والخطاب لمحمد ﷺ وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري وجملة فزعوا بالبناء للمجهول في محل جر بإضافة الظرف إليها وجواب لو محذوف كما حذف مفعول ترى والتقدير: ولو ترى حالهم وقت فزعهم لرأيت أمرا عظيما مذهلا والفاء عاطفة أو استئنافية ولا نافية للجنس وفوت اسمها المبني على الفتح والخبر محذوف أي لهم والمعنى لا يفوتوننا ولا ينجيهم منا هرب أو ملجأ وقد كثر حذف
114
خبر لا النافية للجنس أو العاملة عمل ليس، حتى قيل أنه لا يذكر، وصيغ الماضي الواردة في إذ، وأخذوا أريد بها الاستقبال وأخذوا الواو عاطفة وأخذوا فعل ماضي مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومعناه الاستقبال أيضا ومن مكان متعلقان بأخذوا وقريب صفة ومعنى من مكان قريب أي من ظهر الأرض الى بطنها إذا ماتوا.
(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وقالوا عطف على ما تقدم وجملة آمنا مقول قولهم وبه متعلقان بآمنا وأنى اسم استفهام معناه من أين أو كيف في محل نصب خبر مقدم والتناوش مبتدأ مؤخر ولهم متعلقان بمحذوف حال ومن مكان متعلقان بالتناوش وبعيد صفة أي عن محله وهو الدنيا. (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وكفروا فعل وفاعل وبه متعلقان بكفروا ومن قبل متعلقان بمحذوف حال ويقذفون معطوف على قد كفروا على أنها حكاية حال ماضية أي وكانوا يتكلمون ويرجمون بالظن ومن مكان بعيد متعلقان به والبعد المكاني هنا معناه البعد المعنوي أي وهمهم الفاسد وظنهم الكاذب الذي هو بعيد عن الحقيقة والواقع كل البعد وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة. (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) الواو عاطفة وحيل فعل ماض مبني للمجهول ومعناه الاستقبال أيضا لأن ما يفعله الله في المستقبل بمثابة ما قد حصل والظرف نائب فاعل ولم يرفع لأنه أضيف إلى غير متمكن وهو الضمير، وفعل حال لازم لا يبنى للمجهول إلا مع الظرف أو الجار والمجرور وقيل نائب الفاعل هو ضمير المصدر المفهوم من الفعل كأنه قيل وحيل هو أي الحول والظرف متعلق بحيل، وبين عطف على الظرف الأول
115
وما موصولة أو مصدرية والتقدير وبين الذي يشتهونه أو وبين مشتهاهم، ويشتهون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة لا محل لها على كل حال والكاف نعت لمصدر محذوف أي فعل بهم فعلا كما فعل بأشياعهم أي أتباعهم، وشيعة الرجل أتباعه وأنصاره أو أشباههم لأن من أشبه الثاني تبعه، وبأشياعهم متعلقان بفعل ومن قبل حال. (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) إن واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وفي شك خبرها ومريب صفة.
البلاغة:
في قوله «وأنى لهم التناوش من مكان بعيد» استعارة تمثيلية وقد تقدم تعريف هذه الاستعارة ونقول في إجرائها هنا أنه شبه طلبهم ما لا يكون وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما ينفع المؤمنين إيمانهم بالدنيا بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة كما يتناوله الآخر من مقياس ذراع تناولا سهلا لا تعب فيه فقد كانوا يتكلمون بالغيب ويأتون به من مكان بعيد وهو قولهم في رسول الله ﷺ شاعر ساحر كذاب، وهذا رجم بالظن، وقذف بالباطل لأنهم لم يشاهدوا منه شعرا ولا سحرا ولا كذبا، ولو أنهم رجعوا الى قرارة نفوسهم يسألونها عن حقيقة ما يرجفون ويرجمون لكذبتهم وأدانتهم.
الفوائد:
تقدم في موضع آخر من هذا الكتاب أنه ينوب عن الفاعل واحد من أربعة: وهي المفعول به نحو وغيض الماء، والثاني المجرور نحو
116
ولما سقط في أيديهم، والثالث مصدر متصرف مختص بالصفة نحو فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وقد ينوب عن المصدر ضميره نحو قول طرفة بن العبد:
فيا لك من ذي حاجة حيل دونها وما كل ما يهوى امرؤ هو نائله
فيكون المعنى حيل هو أي الحول المعهود وليس النائب الظرف لأنه غير متصرف عند جمهور البصريين، وعن الأخفش أنه يجوز مع فتحه، قال أبو علي وتلميذه ابن جني فتحة اعراب، وقال غيرهما فتحة بناء، وعلى ذلك توجه الآية التي نحن بصددها، أما الرابع فهو ظرف مختص نحو صيم رمضان.
117
Icon