تفسير سورة التغابن

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة التغابن
آياتها ثماني عشرة وفيها ركوعان وهي مدنية

﴿ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ قد مر تشريحها ﴿ له الملك وله الحمد ﴾ قدم الظرفان للدلالة على الحصر والجملة الظرفية حال من الله ﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾ لأن نسبة ذات المقتضية للقدرة إلى كل ممكن على السواء
﴿ هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ﴾ يعني خلقكم الله تعالى ثم صار بعضكم كافرا وبعضكم مؤمنا يدل على ذلك فاء التعقيب كما في قوله تعالى :﴿ والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ﴾١ ﴿ والله بما تعملون ﴾ من الإيمان والكفر والطاعة والمعصية ﴿ بصير ﴾ فيجازيكم عليه ليس في هذه الآية دليل للمعتزلة على أن الإيمان والكفر ليسا بتقدير الله تعالى ولا مخلوقا له بل مخلوقا للعبد فإن الأشياء كلها مقدرة في الأزل قال الله تعالى :﴿ كل شيء خلقناه بقدر ﴾ ٢ وأفعال العباد التي فيه نوع اختيار للعبد حيث يسمى العبد كاسبا لها ويترتب عليها الثواب أو العذاب كلها مخلوقة لله تعالى قال الله تعالى :﴿ خلقكم وما تعملون ﴾ ٣ هذا هو المذهب الصحيح الذي انعقد عليه إجماع الصحابة ومن بعدهم لا يجوز تأويل الآيات على خلاف هذا المذهب فإنها مفضية إلى النار قال الله تعالى :﴿ ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم ﴾ ٤ عن أنس ابن مالك قال :( وكل الله بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه )٥ رواه البخاري وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعا نحو ذلك وفي آخره ( فوالذي لا إلاه غير إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيدخلها ) ٦ وروى مسلم عن عبد الله ابن عمرو مرفوعا ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال وعرشه على الماء ) ٧ وفي الباب أحاديث كثيرة وروى عن ابن عباس في تفسير الآية أنه قال إن الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا ثم يعيدهم كما خلقهم مؤمنا وكافرا يعني خلقهم مقدرا من بعضهم كفره موجها إليه ما يحمله عليه ومن بعضهم إيمان موفقا لما يدعوه إليه، روى البغوي عن ابن عباس عن أبي ابن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ) ٨ وقال الله تعالى ﴿ ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ﴾ ٩
١ سورة النور الآية: ٤٥.
٢ سورة القمر الآية ٤٩.
٣ سورة الصافات الآية: ٩٦.
٤ سورة النساء الآية: ١١٥.
٥ أخرجه البخاري في كتاب: القدر ﴿٦٥٩٥﴾.
٦ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق باب: ذكر الملائكة ﴿٣٢٠٨﴾ وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب: كيفية خلق الآدامي في بطن أمه ﴿٢٦٤٣﴾.
٧ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام ﴿٢٦٥٣﴾.
٨ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين ﴿٢٦٦١﴾ وأخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة الكهف ﴿٣١٥٠﴾ وأخرجه أبو داود في كتاب: السنة باب: في القدر ﴿٤٦٩٣﴾.
٩ سورة نوح الآية: ٢٧.
﴿ خلق السماوات والأرض بالحق ﴾ متلبسا بالحكمة البالغة دالة على صانع حكيم ﴿ وصوركم ﴾ أيها الناس ﴿ فأحسن صوركم ﴾ من سائر الحيوانات ظاهرا وباطنا وزينكم بأحسن أوصاف الكائنات صالحا للعلم والعقل والمعرفة ﴿ وإليه المصير ﴾ فلا تضيعوا استعدادكم باختيار الرذائل فتحشرون على أقبح الصور
﴿ يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ٤ ﴾ رأى بالأسرار والمعتقدات التي في الصدور ولا يخفى عليه ما يصلح أن يعلم كليا كان أو جزئيا لأن نسبته بكل شيء على السواء قدم ذكر القدرة على العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرة الخالق أولى بالذات وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الانحاء وتكرير ذكر العلم بمنزلة الوعيد على إتيان ما يخالف أمره ورضاه وقوله يعلم مع ما عطف عليه خبر ثالث لقوله هو في ﴿ هو الذي خلقكم ﴾.
﴿ ألم يأتكم ﴾ يا أيها الكفار ﴿ نبؤوا الذين كفروا من قبل ﴾ أي قبلكم قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وغيرهم فذاقوا عطف على كفروا والفاء للسببية ﴿ وبال أمرهم ﴾ أي ضرر كفرهم في الدنيا وأصله وأثقل ومنه الوبيل للطعام الثقيل والوابل للمطر الثقيل ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ في الآخرة
﴿ ذلك ﴾ العذاب في الدنيا والآخرة بأنه أي بسبب أنه ﴿ كانت تأتيهم رسلهم بالبينات ﴾ بالمعجزات والدلائل الواضحة ﴿ فقالوا أبشر يهدوننا ﴾ البشر اسم جنس يطلق على الواحد والكثير ولما كان المراد هاهنا الجمع قال يهدوننا ولم يقل يهدينا استفهام للإنكار أنكروا أو تعجبوا من كون البشر من الله هداة إليه ﴿ فكفروا وتولوا ﴾ عن التدبر في المبينات ﴿ واستغنى الله ﴾ عن كل شيء فضلا عن طاعتهم وإنما كان إرسال الرسل تفضلا ومنة من الله تعالى عليهم والراضي بالضرر لا يستحق النظر ﴿ والله غني ﴾ من كل شيء ﴿ حميد ﴾ في نفسه لا يحتاج إلى من يحمده
﴿ زعم الذين كفروا ﴾ من أهل مكة ﴿ أن لن يبعثوا ﴾ تقديره أنهم لن يبعثوا إن مع جملتها قائم مقام مفعول زعم والزعم ادعاء العلم ﴿ قل بلى وربي لتبعثن ﴾ بيان لقوله بلى أكد الجواب بالقسم ﴿ ثم لتنبئون بما عملتم ﴾ من الخير والشر يعني تحاسبون وتخبرون بأعمالكم ﴿ وذلك ﴾ البعث والحساب ﴿ على الله يسير ﴾ لإمكان الموعود وكمال القدرة
﴿ فآمنوا بالله ورسوله ﴾ محمد تفريع على وجوب البعث ﴿ والنور الذي أنزلنا ﴾ يعني القرآن فإنه بإعجازه ظاهر الحقيقة بنفسه مظهر لغيره من الشرائع والأحكام والأحبار ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ مجاز عليكم
﴿ يوم يجمعكم ﴾ الظرف لمضمون بما تعملون خبير يعني مجازيكم في ذلك اليوم أو لقوله تعالى لتنبئون أو مقدر باذكر قرأ يعقوب نجمعكم بصيغة المتكلم ﴿ ليوم الجمع ﴾ يعني يوم القيامة يجمع فيه الملائكة والثقلان كلهم أولهم وآخرهم واللام للتعليل والمعنى يجمعكم لأجل ما يكون في يوم الجمع من الحساب والجزاء ﴿ ذلك ﴾ ﴿ يوم التغابن ﴾ ذلك اليوم يوم التغابن تفاعل من الغبن يغبن فيه بعضهم بعضا لنزول السعداء في الجنة مكان الأشقياء لو كانوا سعداء ولإعطاء المظلوم من حسنات الظالم عوض مظلمته مستعاد من تغابن التجار اللام فيه للعهد يعني يوم التغابن الحقيقي دون التغابن الدنيوي أخرج عبد الرزاق وعبد ابن حميد وابن جرير والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال يرثون أي المؤمنون مساكنهم ومساكن إخوانهم يعني الأشقياء التي أعدت لهم لو أطاعوا الله وأخرج سعيد ابن منصور وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه البيهقي في البعث بسند صحيح، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار ) فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى أولئك هم الوارثون } ١ وفي الصحيحين من حديث أنس :( إن العبد إذ وضع في قبره أتاه ملكان فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدل الله به مقعدا من الجنة ) ٢ الحديث وأخرج ابن ماجه عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من فر من ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة ) ٣ وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أتدرون من المفلس ؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا أو سفك دم هذا أو ضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن قنت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم وطرحت عليهم ثم طرح في النار ) ٤ وروى البخاري عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من كان عنده مظلمة لأخيه فليحلله منها في الدنيا فإنه ليس ثمة دينار ولا درهم إن كان عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) ٥ وفي حديث أبي هريرة مرفوعا عند الطبراني :( ما يوجد ثمة دوانق ولا قراريط ولكن حسنات هذا يدفع إلى هذا ظلمه وسيئات هذا الذي ظلمه يوضع عليه ) ﴿ ومن يؤمن بالله ويعمل ﴾ عملا ﴿ صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ﴾ قرأ نافع وابن عامر نكفر وندخل بالنون على التكلم والباقون بالياء التحتية على الغيبة وكذا في سورة الطلاق يدخله سورة الطلاق يدخله ﴿ ذلك ﴾ أي مجموع الأمرين ﴿ الفوز العظيم ﴾ لأنه جامع لدفع المضار وجلب النفع
١ أخرجه ابن ماجه في كتابك الزهد باب: صفة الجنة ﴿٤٣٤١﴾.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز باب: الميت يسمع خفق النعال ﴿١٣٣٨﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه ﴿٢٨٧٠﴾.
٣ أخرجه ابن ماجه في كتاب: الوصايا باب: الحيف في الوصية ﴿٢٧٠٢﴾.
٤ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب باب: تحريم الظلم ﴿٢٥٨١﴾ وأخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص ﴿٢٤١٨﴾.
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الظالم باب: من كانت له كظلمة عند الرجل فحللها له هل يبين مظلمته ﴿٢٤٤٩﴾.
﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ﴾ النار كان الآيتين بيان التغابن وتفصيل له أو تفصيل لغاية الجمع المفهوم من يوم الجمعة تقسيم له.
﴿ ما أصاب من مصيبة ﴾ من زائدة ومصيبة في محل الرفع فاعل أصاب يعني ما أصاب مصيبة أحدا من الناس بشيء ﴿ إلا بإذن الله ﴾ أي بتقديره وإرادته ﴿ ومن يؤمن بالله ﴾ ويصدق إنه ما أصابه من مصيبة إلا بإذن الله ويعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطيك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ﴿ يهد ﴾ الله ﴿ قلبه ﴾ أي يوفقه للصبر والرضا والتسليم عن ابن الديلي قال أتيت أبي ابن كعب فقلت له قد وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني لعل الله يذهبه من قلبي فقال إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبه وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لدخلت النار ثم أتيت عبد الله ابن مسعود فقال مثل ذلك قال ثم أتيت حذيفة ابن اليماني فقال مثل ذلك أتيت زيد ابن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ) ١.
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ﴿ والله بكل شيء عليم ﴾ حتى القلوب وأحوالها
١ أخرجه أبو داود في كتاب: السنة باب: في القدر ﴿٤٦٨٧﴾ وأخرجه ابن ماجه في افتتاح الكتاب باب في القدر ﴿٧٧﴾.
﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾ عطف على قوله آمنوا بالله وما بينهما معترضات ﴿ فإن توليتم ﴾ عن طاعة الله ورسوله والفاء للسببية فإن تبلغ الأمر بالإيمان والطاعة سبب لقوله إن توليتم ﴿ فإنما على رسولنا ﴾ محمد ﴿ البلاغ المبين ﴾ يعني توليكم لا يضر محمدا شيئا إذ ليس الواجب عليه إلا التبليغ وقد بلغ وضرر التولي يعود عليكم
﴿ الله لا إلاه إلا هو ﴾ الجملة في محل التعليل للأمر بالإيمان والطاعة ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ عطف على آمنوا وأطيعوا أو فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة تقديره آمنوا وأطيعوا الله وعليه فليتوكلوا قدم الظرف للحصر فإن حصر الخير والشر كما كان بتقديره وجب حصر التوكل عليه دون غيره وغير الأسلوب للدلالة على أن الإيمان يقتضي التوكل لما ذكرنا هذا على تقدير كون الظرف متعلقا بما بعده وجواز تقديم الظرف على الفاء الجزائية لتوسع في الظرف وإلا فهو متعلق بفعل مقدر يفسره ما بعده وتقديره وإن كنتم متوكلين على أحد فتوكلوا على الله فليتوكل المؤمنون عليه فحينئذ تكرير الأمر بالتوكل تأكيد أو إشعار بأن الإيمان يقتضي التوكل.
أخرج الترمذي والحاكم وصححاه عن ابن عباس أن رجالا من أهل مكة أسلموا فأبوا أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يعني للهجرة إلى المدينة١ قال البغوي منعهم أزواجهم وأولادهم وقالوا صبرنا على إسلامكم ولا نصبر على فراقكم فأطاعوهم فتركوا الهجرة فأنزل الله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم ﴾ حيث يشغلكم عن طاعة الله ﴿ فاحذروهم ﴾ ولا نأمنهم غوايلهم وشرهم ولا تطيعوهم حتى تدعوا الهجرة قال ابن عباس فيما روى عنه الترمذي والحاكم ثم إنهم لما أتوا المدينة وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين فهموا أن يعاقبوهم يعني الأزواج والأولاد والذين ثبطوهم عن الهجرة فأنزل الله تعالى ﴿ وإن تعفوا ﴾ منهم إذا طلعتم على عداوة ولا تقاتلوهم بمثلهم ﴿ وتصفحوا ﴾ أي تعرضوا عن التوبيخ ﴿ وتغفروا ﴾ ذنوبهم وجملة إن تعفوا مع ما عطف عليه معطوفة على جملة إن من أزواجكم وأولادكم ﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾ يعني إن تعفوا وتغفروا الله لكم ويرحمكم، أخرج ابن جرير عن عطاء ابن يسار قال نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم نزلت في عوف ابن مالك الأشجع كان ذا أهل وولد وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه فقالوا إلى من تدعنا فرق ويقيم فنزلت هذه الآية وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة يعني أنهم أعداء لكم يحملك على ترك الطاعة والجاهد فأحذرهم أن تقبلوا منهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فلا تعاقبوهم على خلافهم إياكم يغفر الله إن الله غفور رحيم
١ أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة التغابن.
﴿ إنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾ يعني ابتلاء من الله تعالى واختبار لكم فمن أدى حقوق الله تعالى وحقوق الناس مع كثرة العلائق والعوائق بعثه الله تعالى على منازل الأبرار وكان أفضل ممن أذى بلا عوائق، ومن ثم راجع أهل السنة أن خواص البشر أعني الأنبياء أفضل من خواص الملائكة وعوامهم أعني الأولياء والصلحاء أفضل من عوامهم إذ لا عائق للملائكة عن طاعة الله تعالى ومكن شغله الأموال والأولاد عن طاعة الله تعالى وأداء الحقوق وبعثه على ارتكاب المعاصي وناول الحرام رده الله إلى أسفل السافلين ﴿ والله عنده أجر عظيم ﴾ فاطلبوه وآثروا محبته على محبة الأموال والأولاد والسعي لهم.
فائدة : ذكر الله سبحانه عداوة الأزواج والأولاد وأورد هناك من التبعيضية لأن بعض الأزواج والأولاد ليسوا كذلك ولم يورد من التبعيضية في كونهم فتنة واختبارا لأنها لا يخلو عن اشتغال القلب وقد ذكرنا في سورة الجمعة في حديث بريدة نزوله صلى الله عليه وسلم حين رأى الحسن والحسين يمشيان ويعتزان وحمله إياهما وقوله صدق الله :﴿ إنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير قال لما نزلت اتقوا الله حق تقاته اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفا للمسلمين ﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ عطف على آمنوا وأطيعوا والفاء للسببية فإن الإيمان سبب للتقوى يعني ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم ﴿ واسمعوا ﴾ مواعظه ﴿ وأطيعوا ﴾ أوامره ﴿ وأنفقوا ﴾ أموالكم في سبيله خالصة لوجهه ﴿ خيرا لأنفسكم ﴾ منصوب بفعل مقدر يعني افعلوا ما هو خير لأنفسكم من أموال وأولاد فهو تأكيد للحث على امتثال ما سبق من الأوامر أو منصوب على المفعولية أنفقوا الخير المال كما في قوله تعالى :﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية ﴾١ أو صفة لمصدر محذوف يعني إنفاقا أو خبر لكان المقدر جوابا بالأمر ﴿ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ﴾ سبق تفسيره في سورة الحشر
١ سورة البقرة الآية: ١٨٠.
﴿ إن تقرضوا الله ﴾ إما تقديره المضاف يعني إن تقرضوا عباد الله والمراد به صرف المال في طاعة الله ورجاء من الله تعالى الثواب والجزاء ﴿ قرضا حسنا ﴾ يعني مقرونا بالإخلاص وطيب النفس بريا من الريا والسمعة والمن والأذى منصوب على المصدرية ﴿ يضاعفه لكم ﴾ أي يجعله لكم عشرا إلى سبعة مئة أو أكثر قال الله تعالى :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ﴾ ١ قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعف من التفعيل والباقون من المفاعلة ﴿ ويغفر لكم ﴾ ببركة الإنفاق جملة إن تقرضوا تعليل الأمر بالاتفاق ﴿ والله شكور ﴾ يعطي الجزيل بالقليل ﴿ حليم ﴾ لا يعاجل بالعقوبة
١ سورة البقرة الآية: ٢٦١.
﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ يعني لا يخفى عليه شيء مما غاب عن الناس وما يشاهدون أو ما هو موجودا لأن ما وجد قبل ذلك وما سيوجد ولم يوجد بعد ﴿ العزيز ﴾ الغالب تام القدرة والعلم الأخبار الخمسة محمولة على اسم الله تعالى وجاز أن يكون عالم الغيب والشهادة خبر المبتدأ المحذوف أعني هو ﴿ الحكيم ﴾.
Icon