ﰡ
فإن قيل لك: الله موجود وأنت موجود، فنزّه الله أن يكون وجوده كوجودك؛ لأن وجودك من عدم، وليس ذاتياً فيك، ووجوده سبحانه ليس من عدم، وهو ذاتي فيه سبحانه.
فذاته سبحانه لا مثيلَ لها، ولا شبيه في ذوات خلقه. وكذلك إن قيل: سَمْع والله سمع. فنزِّه الله أنْ يُشابه سمعُه سمعَك، وإن قيل: لك فِعْل، ولله فِعْل فنزِّه الله أن يكون فعله كفعلك.
ومن معاني (سُبْحَان) أي: أتعجب من قدرة الله.
إذن: كلمة (سُبْحَان) جاءت هنا لتشير إلى أنَّ ما بعدها أمرٌ خارج عن نطاق قدرات البشر، فإذا ما سمعتَه إياك أنْ تعترضَ أو تقول: كيف يحدث هذا؟ بل نزِّه الله أن يُشابه فِعْلُه فِعْلَ البشر، فإن قال لك: إنه أسرى بنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة إلى بيتَ المقدس في ليلة، مع أنهم يضربون إليها أكباد الإبل شهراً، فإياك أن تنكر.
فربك لم يقُلْ: سَرَى محمد، بل أُسْرِي به. فالفعل ليس لمحمد ولكنه لله، وما دام الفعل لله فلا تُخضعْه لمقاييس الزمن لديك، ففِعْل الله ليس علاجاً ومزاولة كفعل البشر.
ولو تأملنا كلمة (سُبْحَان) نجدها في الأشياء التي ضاقتْ فيها العقول، وتحيَّرتْ في إدراكها وفي الأشياء العجيبة، مثل قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يس: ٣٦].
ومنها قوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: ١٧].
فمَنْ يطالع صفحة الكون عند شروق الشمس وعند غروبها، ويرى كيف يحُلُّ الظلام محلَّ الضياء، أو الضياء محل الظلام، لا يملك أمام هذه الآية إلا أن يقول: سبحان الله.
ومنها قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [الزخرف: ١٣].
هذه كلها أمور عجيبة، لا يقدر عليها إلا الله، وردتْ فيها كلمة (سبحان) في خلال السور وفي طيّات الآيات.
و (سُبْحَان) اسم يدلُّ على الثبوت والدوام، فكأن تنزيه الله موجود وثابت له سبحانه قبل أن يوجد المنزِّه، كما نقول في الخلق، فالله خالق ومُتصف بهذه الصفة قبل أنْ يخلق شيئاً.
وكما تقول: فلان شاعر، فهو شاعر قبل أن يقول القصيدة، فلو لم يكن شاعراً ما قالها.
وهل سبَّح وسكت وانتهى التسبيح؟ لا، بل: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ [الجمعة: ١].
على سبيل الدوام والاستمرار، وما دام الأمر كذلك والتسبيح ثابت له، وتُسبِّح له الكائنات في الماضي والحاضر، فلا تتقاعس أنت أيُّها المكلَّف عن تسبيح ربك، يقول تعالى: ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى﴾ [الأعلى: ١].
وقوله: (أُسْرِي) من السُّرى، وهو السير ليلاً، وفي الحِكَم: (عند الصباح يحمَدُ القوم السُّرى).
فالحق سبحانه أسرى بعبد، فالفعل لله تعالى، وليس لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا تَقِسْ الفعل بمقياس البشر، ونزِّه فِعْل الله عن فِعْلك، وقد استقبل أهل مكة هذا الحدث استقبال المكذِّب. فقالوا: كيف هذا ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً، وهم كاذبون في قولهم؛ لأن رسول الله لم يَدَّع أنه سَرَى بل قال: أُسْرِي بي.
ومعلوم أن قَطْع المسافات يأخذ من الزمن على قدر عكس القوة المتمثلة في السرعة. أي: أن الزمن يتناسب عكسياً مع القوة، فلو أردنا مثلاً الذهاب إلى الإسكندرية سيختلف الزمن لو سِرْنا على الأقدام عنه إذا ركبنا سيارة أو طائرة، فكلما زادت القوة قَلَّ الزمن،
فإنْ قال قائل: ما دام الفعل مع الله لا يحتاج إلى زمن، لماذا لم يَأْتِ الإسراء لمحةً فحسْب، ولماذا استغرق ليلة؟
نقول: لأن هناك فرْقاً بين قطْع المسافات بقانون الله سبحانه وبين مَرَاءٍ عُرِضَتْ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الطريق، فرأى مواقف، وتكلَّم مع أشخاص، ورأى آيات وعجائب، هذه هي التي استغرقت الزمن.
وقلنا: إنك حين تنسب الفعل إلى فاعله يجب أن تعطيه من الزمن على قَدْر قوة الفاعل. هَبْ أن قائلاً قال لك: أنا صعدتُ بابني الرضيع قمة جبل «إفرست»، هل تقول له: كيف صعد ابنك الرضيع قمة «إفرست» ؟
هذا سؤال إذن في غير محلِّه، وكذلك في مسألة الإسراء والمعراج يقول تعالى: أنا أسريتُ بعبدي، فمن أراد أنْ يُحيل المسألة ويُنكرها، فليعترض على الله صاحب الفعل لا على محمد.
لكن كيف فاتتْ هذه القضية على كفار مكة؟
ومن تكذيب كفار مكة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رحلة الإسراء والمعراج نأخذ رَدّاً جميلاً على هؤلاء الذين يخوضون في هذا الحادث بعقول ضيقة وبإيمانية سطحية في عصرنا الحاضر، فيطالعونا بأفكار سقيمة ما أنزل الله بها من سلطان.
ونسمع منهم مَنْ يقول: إن الإسراء كان منَاماً، أو كان بالروح دون الجسد.
إذن: في إنكار الكفار على رسول الله وتكذيبهم له دليل على أن الإسراء كان حقيقة تمت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ برُوحه وجسده، وكأن الحق سبحانه ادَّخر الموقف التكذيبي لمكذبي الأمس، ليردّ به على مُكذّبي اليوم.
وقوله سبحانه: ﴿بِعَبْدِهِ..﴾ [الإسراء: ١].
العبد كلمة تُطلق على الروح والجسد معاً، هذا مدلولها، لا يمكن أن تُطلَق على الروح فقط.
لكن، لماذا اختار الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الصفة بالذات؟
نقول: لأن الله تعالى جعل في الكون قانوناً عاماً للناس، وقد يُخرَق هذا القانون أو الناموس العام ليكون معجزةً للخاصة الذين ميَّزهم الله عن سائر الخَلْق، فكأن كلمة (عبده) هي حيثية الإسراء.
أي: أُسْرِي به؛ لأنه صادق العبودية لله، وما دام هو عبده فقد أخلص في عبوديته لربه، فاستحق أنْ يكون له مَيْزة وخصوصية عن غيره، فالإسراء والمعراج عطاء من الله استحقَّه رسوله بما حقّق من عبودية لله.
وَمِمّا زَادَني شَرَفاً وَعِزّاً | وكِدْتُ بأخْمُصِي أَطَأَ الثُّريَّا |
دُخُولِي تَحْتَ قولِكَ يَا عِبَادِي | وَأنْ صَيَّرت أحمدَ لِي نبيّاً |
لذلك، فالمتتبّع لآيات القرآن يجد أن العبودية لا تأتي إلا في المواقف العظيمة مثل:
﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ..﴾ [الإسراء: ١].
وقوله: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ..﴾ [الجن: ١٩].
ويكفيك عِزاً وكرامة أنك إذا أردتَ مقابلة سيدك أن يكون الأمر في يدك، فما عليكَ إلا أنْ تتوضأ وتنوي المقابلة قائلاً: الله أكبر، فتكون في معية الله عَزَّ وَجَلَّ في لقاء تحدد أنت مكانه ومُوعده ومُدّته، وتختار أنت موضوع المقابلة، وتظل في حضرة ربك إلى أن تنهي المقابلة متى أردتَ.
وما أحسنَ ما قال الشاعر:
حَسْبُ نَفْسِي عِزّاً بِأَنِّي عَبْدٌ | يَحْتَفِي بِي بِلاَ مَواعِيدَ رَبُّ |
هُو في قُدْسِه الأعَزِّ ولكِنْ | أنَا أَلْقَى متَى وَأَيْنَ أُحِبُّ |
وقوله: ﴿لَيْلاً.
.﴾ [الإسراء: ١].
سبق أن قُلْنا: إن السُّرى هو السير ليلاً، فكانت هذه كافية للدلالة على وقوع الحدث ليلاً، ولكن الحق سبحانه أراد أنْ يؤكد ذلك، فقد يقول قائل: لماذا لم يحدث الإسراء نهاراً؟
نقول: حدث الإسراء ليلاً، لتظلَّ المعجزة غَيْباً يؤمن به مَنْ يصدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلو ذهب في النهار لرآه الناس في الطريق ذهاباً وعودة، فتكون المسألة إذن حِسيّة مشاهدة لا مجالَ فيها للإيمان بالغيب.
لذلك لما سمع أبو جهل خبر الإسراء طار به إلى المسجد وقال: إن صاحبكم يزعم أنه أُسْرِي به الليلة من مكة إلى بيت المقدس، فمنهم مَنْ قلّب كفَّيْه تعجُّباً، ومنهم مَنْ أنكر، ومنهم مَن ارتد.
أما الصِّدِّيق أبو بكر فقد استقبل الخبر استقبالَ المؤمن المصدِّق، ومن هذا الموقف سُمِّي الصديق، وقال قولته المشهورة: «إن كان قال فقد صدق».
ثم قال: «إنَّا لَنُصدقه في أبعد من هذا، نُصدِّقه في خبر السماء (الوحي)، فكيف لا نُصدّقه في هذا» ؟
إذن: الحق سبحانه جعل هذا الحادث مَحكّاً للإيمان، ومُمحِّصاً ليقين الناس، حين يغربل مَنْ حول رسول الله، ولا يبقى معه إلا أصحاب الإيمان واليقين الثابت الذي لا يهتز ولا يتزعزع.
لذلك قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ..﴾ [الإسراء: ٦٠].
وهذا دليل آخر على أن الإسراء لم يكُنْ مناماً، فالإسراء لا يكون فتنة واختباراً إلا إذا كان حقيقة لا مناماً، فالمنام لا يُكذِّبه أحد ولا يختلف فيه الناس.
لكن لماذا قال عن الإسراء (رُؤْيَا) يعني المنامية، ولم يقُلْ «رؤية» يعني البصرية؟
قالوا: لأنها لما كانت عجيبة من العجائب صارت كأنها رؤيا منامية، فالرؤيا محل الأحداث العجيبة.
وورد في الإسراء أحاديث كثيرة تكلَّم فيها العلماء: أكان بالروح والجسد؟ أكان يقظة أم مناماً؟ أكان من المسجد الحرام أم من بيت أم هانيء؟ ونحن لا نختلف مع هذه الآراء، ونُوضِّح ما فيها من تقارب.
أما مَنْ ذهب إلى أن الإسراء كان رؤيا منام، فيجب أن نلاحظ أن أول الوحي لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان الرؤيا الصادقة، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يرى رُؤْيَا إلا وجاءت كفلَق الصبح، فرؤيا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليست كرؤيانا، بل هي صِدْق لا بُدَّ أن يتحقَّق. ومثال ذلك ما حدث، مَنْ إرادةِ اللهِ لهُ رؤْيا الفتح.
قال تعالى: ﴿لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ..﴾ [الفتح: ٢٧].
وقد أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صحابته هذا الخبر، فلما ردَّهم الكفار عند الحديبية، فقال الصحابة لرسول الله: ألم تُبشِّرنا بدخول المسجد الحرام؟ فقال: ولكن لم أَقُلْ هذا العام.
لذلك يسمون هذه الرُّؤى رؤى الإيناس، وهي أن يرى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
إذن: مَنْ قال: إن الإسراء كان مناماً نقول له: نعم كان رؤيا إيناس تحققتْ في الواقع، فلدينا رؤى الإيناس أولاً، ورؤى التذكير بالنعمة ثانياً، وواقع الحادث في الحقيقة ثالثاً، وبذلك نخرج من الخلاف حول: أكان الإسراء يقظة أم مناماً؟
وحتى بعد انتهاء حادث الإسراء كانت الرؤيا الصادقة نوعاً من التسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكان كلما اشتدتْ به الأهوال يُريه الله تعالى ما حدث له لِيُبيّن له حفاوة السماء والكون به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ليكون جَلْداً يتحمل ما يلاقي من التعنت والإيذاء.
أما من قال: إن الإسراء كان من بيت أم هانيء، فهذا أيضاً ليس محلاً للخلاف؛ لأن بيت أم هانيء كان مُلاصِقاً للمطاف من المسجد الحرام، والمطاف من المسجد.
إذن: لا داعي لإثارة الشكوك والخلافات حول هذه المعجزة؛ لأن الفعل فِعْل الحق سبحانه وتعالى، والذي يحكيه لنا هو الحق سبحانه وتعالى، فلا مجالَ للخلاف فيه.
وقوله تعالى:
﴿مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى... ﴾ [الإسراء: ١].
ويختلف المسجد الحرام عن غيره من المساجد، أنه بيت لله باختيار الله تعالى، وغيره من المساجد بيوت لله باختيار خَلْق الله؛ لذلك كان بيت الله باختيار الله قِبْلة لبيوت الله باختيار خَلْق الله.
وقد يُراد بالمسجد المكان الذي نسجد فيه، أو المكان الذي يصلح للصلاة، كما جاء في الحديث الشريف: «.. وجُعِلَتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً».
أي: صالحة للصلاة فيها.
ولا بُدَّ أن نُفرِّق بين المسجد الذي حُيِّز وخُصِّص كمسجد مستقل، وبين أرض تصلح للصلاة فيها ومباشرة حركة الحياة، فالعامل يمكن أن يصلي في مصنعه، والفلاح يمكن أن يصلي في مزرعته، فهذه أرض تصلح للصلاة ولمباشرة حركة الحياة.
أما المسجد فللصلاة، أو ما يتعلق بها من أمور الدين كتفسير آية، أو بيان حكم، أو تلاوة قرآن.
. إلخ ولا يجوز في المسجد مباشرة عمل من أعمال الدنيا.
وقال لمن جلس يعقد صفقة في المسجد:» لا بارك الله لك في صفقتك «.
ذلك لأن المسجد خُصِّص للعبادة والطاعة، وفيه يكون لقاء العبد بربه عَزَّ وَجَلَّ، فإياك أن تشغل نفسك فيه بأمور الدنيا، ويكفي ما أخذتْه منك، وما أنفقته في سبيلها من وقت.
والمسجد لا يُسمَّى مسجداً إلا إذا كان بناءً مستقلاً من الأرض إلى السماء، فأرضه مسجد، وسماؤه مسجد، لا يعلوه شيء من منافع الدنيا، كمَنْ يبني مسجداً تحت عمارة سكنية، ودَعْكَ من نيته عندما خَصَّص هذا المكان للصلاة: أكانت نيته لله خالصة؟ أم لمأرب دنيوي؟ وقد قال تعالى: ﴿وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً﴾ [الجن: ١٨].
فمثل هذا المكان لا يُسمّى مسجداً؛ لأنه لا تنطبق عليه شروط المسجد، ويعلوه أماكن سكنية يحدث فيها ما يتنافى وقدسية المسجد، وما لا يليق بحُرْمة الصلاة، فالصلاة في مثل هذا المكان كالصلاة في أي مكان آخر من البيت.
وقوله تعالى:
﴿إلى المسجد الأقصى..﴾ [الإسراء: ١].
في بُعْد المسافة نقول: هذا قصيّ. أي: بعيد. وهذا أقصى أي: أبعد، فالحق تبارك وتعالى كأنه يلفت أنظارنا إلى أنه سيوجد بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى مسجدٌ آخر قصيّ، وقد كان فيما بعد مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فالمسجد الأقصى: أي: الأبعد، وهو مسجد بيت المقدس.
وقوله سبحانه: ﴿بَارَكْنَا حَوْلَهُ..﴾ [الإسراء: ١].
البركة: أن يُؤتي الشيءُ من ثمره فوقَ المأمول منه، وأكثر مما يُظنّ فيه، كأن تُعِد طعاماً لشخصين، فيكفي خمسة أشخاص فتقول: طعام مبارَك.
وقول الحق سبحانه:
﴿بَارَكْنَا حَوْلَهُ... ﴾ [الإسراء: ١].
دليل على المبالغة في البركة، فإنْ كان سبحانه قد بارك ما حول الأقصى، فالبركة فيه من باب أَوْلى، كأن تقول: مَنْ يعيشون حول فلان في نعمة، فمعنى ذلك أنه في نعمة أعظم.
لكن بأيّ شيء بارك الله حوله؟
لقد بارك الله حول المسجد الأقصى ببركة دنيوية، وبركة دينية:
بركة دنيوية بما جعل حوله من أرض خِصْبة عليها الحدائق
وبركة دينية خاصة بالمؤمنين، هذه البركة الدينية تتمثل في أن الأقصى مَهْد الرسالات ومَهْبط الأنبياء، تعطَّرَتْ أرضه بأقدام إبراهيم وإسحق ويعقوب وعيسى وموسى وزكريا ويحيى، وفيه هبط الوحي وتنزلتْ الملائكة.
وقوله: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ... ﴾ [الإسراء: ١].
اللام هنا للتعليل.
كأن مهمة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس أن نُرِي رسول الله الآيات، وكلمة: الآيات لا تُطلق على مطلق موجود، إنما تطلق على الموجود العجيب، كما نقول: هذا آية في الحُسْن، آية في الشجاعة، فالآية هي الشيء العجيب.
ولله عَزَّ وَجَلَّ آيات كثيرة منها الظاهر الذي يراه الناس، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار..﴾ [فصلت: ٣٧]. ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام﴾ [الشورى: ٣٢].
والله سبحانه يريد أن يجعل لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خصوصية، وأن يُريه من آيات الغيب الذي لم يَرَهُ أحد، ليرى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حفاوة السماء به، ويرى مكانته عند ربه الذي قال له: ﴿وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: ١٢٧].
لأنك في سَعة من عطاء الله، فإن أهانك أهل الأرض فسوف يحتفل بك أهل السماء في الملأ الأعلى، وإنْ كنت في ضيق من الخَلْق فأنت في سَعة من الخالق.
أي: الحق سبحانه وتعالى.
السمع: إدراك يدرك الكلام. والبصر: إدراك يدرك الأفعال والمرائي، فلكل منهما ما يتعلق به.
لكن سميع وبصير لمن؟
جاء هذا في ختام آية الإسراء التي بيَّنَتْ أن الحق سبحانه جعل الإسراء تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد ما لاقاه من أذى المشركين وعنتهم، وكأن معركة دارت بين رسول الله والكفار حدثتْ فيها أقوال وأفعال من الجانبين.
ومن هنا يمكن أن يكون المعنى: (سَمِيعٌ) لأقوال الرسول (بَصِيرٌ) بأفعاله، حيث آذاه قومه وكذبوه وألجؤوه إلى الطائف، فكان أهلها أشدَّ قسوة من إخوانهم في مكة، فعاد مُنكَراً دامياً، وكان من دعائه: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».
فقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أشدِّ ظروفه حريصاً على دعوته، فقد قابل في طريق عودته من الطائف عبداً، فأعطاه عنقوداً من العنب، وأخذ يحاوره في النبوات ويقول: أنت من بلد نبي الله يونس بن متى.
أو يكون المعنى: سميع لأقوال المشركين، حينما آذوا سَمْع رسول الله وكذَّبوه وتجهَّموا له، وبصير بأفعالهم حينما آذوه ورَمَوْه بالحجارة.
الحق تبارك وتعالى تعرّض لحادث الإسراء في هذه الآية على سبيل الإجمال، فذكر بدايته من المسجد الحرام، ونهايته في المسجد الأقصى، وبين البداية والنهاية ذكر كلمة الآيات هكذا مُجْملة.
وجاء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ففسَّر لنا هذا المجمل، وذكر الآيات التي رآها، فلو لم يذكر لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما رأى من آيات الله لَقُلْنا: وأين هذه الآيات؟ فالقرآن يعطينا اللقطة الملزمة لبيان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٧ - ١٩].
إذن: كان لا بُدَّ لتكتمل صورة الإسراء في نفوس المؤمنين أن يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قال من أحاديث الإسراء.
فكان اعتراضهم أن هذه الأحداث في الآخرة، فكيف رآها محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
ونقول لهؤلاء: لقد قصُرَتْ أفهامكم عن إدراك قدرة الله في خَلْق الكون، فالكون لم يُخلَق هكذا، بل خُلِق بتقدير أزلي له، ولتوضيح هذه المسألة نضرب هذا المثل:
هَبْ أنك أردتَ بناء بيت، فسوف تذهب إلى المهندس المختص وتطلب منه رَسْماً تفصيلياً له، ولو كنت ميسور الحال تقول له: اعمل لي (ماكيت) للبيت، فيصنع لك نموذجاً مُصغّراً للبيت الذي تريده.
فالحق سبحانه خلق هذا الكون أزلاً، فالأشياء مخلوقة عند الله (كالماكيت)، ثم يبرزها سبحانه على وَفْق ما قدّره.
وتأمل قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢].
انظر: ﴿أَن يَقُولَ لَهُ﴾ كأن الشيء موجود والله تعالى يظهره فحسب، لا يخلقه بداية، بل هو مخلوق جاهز ينتظر الأمر ليظهر في عالم الواقع؛ لذلك قال أهل المعرفة: أمور يُبديها ولا يبتديها.
وإن كان الحق تبارك وتعالى قد ذكر الإسراء صراحة في هذه الآية، فقد ذكر المعراج بالالتزام في سورة النجم، في قوله تعالى:
ففي الإسراء قال تعالى:
﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ..﴾ [الإسراء: ١].
وفي المعراج قال: ﴿لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى﴾ [النجم: ١٨].
ذلك لأن الإسراء آية أرضية استطاع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما آتاه الله من الإلهام أنْ يُدلِّل على صِدْقه في الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ لأن قومه على علم بتاريخه، وأنه لم يسبق له أنْ رأى بيت المقدس أو سافر إليه، فقالوا له: صِفْه لنا وهذه شهادة منهم أنه لم يَرَهْ، فتحدَّوْهُ أن يصفه.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما يأتي بمثل هذه العملية، هل كان عنده استحفاظ كامل لصورة بيت المقدس، خاصة وقد ذهب إليه ليلاً؟
إذن: صورته لم تكن واضحة أمام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بكل تفاصيلها، وهنا تدخلتْ قدرة الله فجلاَّه الله له، فأخذ يصفه لهم كأنه يراه الآن.
كما أن الطريق بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى طريق مسلوك للعرب، فهو طريق تجارتهم إلى الشام، فأخبرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن عيراً لهم في الطريق، ووصفها لهم وصفاً دقيقاً، وأنها سوف تصلهم مع شروق الشمس يوم مُعين.
إذن: استطاع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُدلِّل على صدق الإسراء؛ لأنه آية أرضية يمكن التدليل عليها، بما يَعْلمه الناس عن بيت المقدس، وبما يعلمونه من عِيرهم في الطريق.
أما ما حدث في المعراج، فآيات كبرى سماوية لا يستطيع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التدليل عليها أمام قومه، فأراد الحق سبحانه أنْ يجعل ما يمكن الدليل عليه من آيات الأرض وسيلة لتصديق ما لا يوجد دليل عليه من آيات الصعود إلى السماء، وإلا فهل صعد أحد إلى سدرة المنتهى، فيصفها له رسول الله؟
إذن: آية الأرض أمكن أنْ يُدلّل عليها، فإذا ما قام عليها الدليل، وثبت للرسول خَرْق نواميس الكون في الزمن والمسافة، فإنْ حدّثكم عن شيء آخر فيه خَرْق للنواميس فصدِّقوه، فكأن آية الإسراء جاءت
فالذي خرق له النواميس في آيات الأرض من الممكن أنْ يخرق له النواميس في آيات السماء، فالله تعالى يُقرِّب الغيبيات، التي لا تدركها العقول بالمحسّات التي تدركها.
ومن ذلك ما ضربه إليه مثلاً محسوساً لمضاعفة النفقة في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف، فأراد الحق سبحانه أنْ يُبيّن ذلك ويُقرِّبه للعقول، فقال: ﴿مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٦١].
ومن لُطْف الله سبحانه بعقول خَلْقه أنْ جعل آيات الإسراء بالنصّ الملزم الصريح، لكن آيات المعراج جاءت بالالتزام في سورة النجم؛ لذلك قال العلماء: إن الذي يُكذِّب بالإسراء يكفر، أما مَنْ يكذِّب بالمعراج فهو فاسق.
لكن أهل التحقيق يذهبون إلى تكفير مَنْ يُكذِّب المعراج أيضاً؛ لأن المعراج وإنْ جاء بالالتزام فقد بيّنه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديثه الشريف، والحق سبحانه يقول: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا..﴾ [الحشر: ٧].
والمتأمل في الإسراء والمعراج يجده إلى جانب أنه تسلية لرسول الله وتخفيف عنه، إلا أن لهم هدفاً آخر أبعد أثراً، وهو بيان أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُؤيّد من الله، وله معجزات، وتُخرَق له القوانين
فالمعجزة: أمر خارق للعادة الكونية يُجريه الله على يد رسوله؛ ليكون دليلاً على صدقه، ومن ذلك ما حدث لإبراهيم الخليل عليه السلام حيث ألقاه قومه في النار، ومن خواص النار الإحراق، فهل كان المراد نجاة إبراهيم من النار؟
لو كان القصد نجاته من النار ما كان الله مكَّنهم من الإمساك به، ولو أمسكوا فيمكن أنْ يُنزِل الله المطر فيطفيء النار.
إذن: المسألة ليست نجاة إبراهيم، المسألة إثبات خَرْق النواميس لإبراهيم عليه السلام، فشاء الله أنْ تظلَّ النار مشتعلة، وأن يُمسكوا به ويرموه في النار، وتتوفر كل الأسباب لحرقه عليه السلام.
وهنا تتدخل عناية الله لتظهر المعجزة الخارقة للقوانين، فمن خواصّ النار الإحراق، وهي خَلْق من خَلْقِ الله، يأتمر بأمره، فأمر اللهُ النارَ ألاَّ تحرق، سلبها هذه الخاصية، فقال تعالى: ﴿قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩].
وربما يجد المشكِّكون في الإسراء والمعراج ما يُقرّب هذه المعجزة لأفهامهم بما نشاهده الآن من تقدُّم علمي يُقرِّب لنا المسافات، فقد تمكَّن الإنسان بسلطان العلم أنْ يغزوَ الفضاء، ويصعد إلى كواكب أخرى في أزمنة قياسية، فإذا كان في مقدور البشر الهبوط على سطح القمر، أتستبعدون الإسراء والمعراج، وهو فِعْل لله سبحانه؟!
وكذلك من الأمور التي وقفتْ أمام المعترضين على الإسراء
كيف ونحن نفعل مثل هذا الإعداد حينما نسافر من بلد إلى آخر، فيقولون لك: البس ملابس كذا. وخذ حقنة كذا لتساير طبيعة هذا البلد، وتتأقلم معه، فما بالك ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيلتقي بالملائكة وبجبريل وهم ذوو طبيعة غير طبيعة البشر، وسيلتقي بإخوانه من الأنبياء، وهم في حال الموت، وسيكون قاب قوسيْن أو أدنى من ربه عَزَّ وَجَلَّ؟
إذن: لا غرابة في أنْ يحدث له تغيير ما في تكوينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليستطيع مباشرة هذه المواقف.
وإذا استقرأنا القرآن الكريم فسوف نجد فيه ما يدلُّ على صدق رسول الله فيما أخبر به من لقائه بالأنبياء في هذه الرحلة، قال تعالى: ﴿وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ..﴾ [الزخرف: ٤٥].
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أمره ربّه أمراً نفّذه، فكيف السبيل إلى تنفيذ هذا الأمر: واسأل مَن سبقك من الرسل؟
لا سبيل إلى تنفيذه إلا في لقاء مباشر ومواجهة، فإذا حدَّثنا بذلك رسول الله في رحلة الإسراء والمعراج نقول له: صدقت، ولا يتسلل الشكّ إلا إلى قلوب ضعاف الإيمان واليقين.
فالفكرة في هذه القضية الإسراء والمعراج دائرة بين يقين
فما أكثر الأمور التي وقف فيها العقل ولم يفهم كُنْهَها، ومع مرور الزمن وتقدُّم العلوم رآها تتكشّف له تدريجياً، فما شاء الله أنْ يُظهره لنا من قضايا الكون يسَّر لنا أسبابه باكتشاف أو اختراع، وربما بالمصادفة.
وما العقل إلا وسيلة إدراك، كالعين والأذن، وله قوانين محددة لا يستطيع أنْ يتعداها، وإياك أنْ تظنَّ أن عقلك يستطيع إدراك كل شيء، بل هو محكوم بقانون.
ولتوضيح ذلك، نأخذ مثلاً العين، وهي وسيلة إدراك يحكمها قانون الرؤية، فإذا رأيت شخصاً مثلاً تراه واضح الملامح، فإذا ما ابتعد عنك تراه يصغُر تدريجياً حتى يختفي عن نظرك، كذلك السمع تستطيع بأذنك أنْ تسمعَ صوتاً، فإذا ما ابتعد عنك قَلَّ سمعك له، حتى يتوقف إدراك الأذن فلا تسمع شيئاً.
كذلك العقل كوسيلة إدراك له قانون، وليس الإدراك فيه مطلقاً.
ومن هنا لما أراد العلماء التغلُّب على قانون العيْن وقانون الأذن حينما تضعف هذه الحاسة وتعجز عن أداء وظيفتها صنعوا للعين النظارة والميكروسكوب والمجهر، وهذه وسائل حديثة تُمكِّن العين من رؤية ما لا تستطيع رؤيته. وكذلك صنعوا سماعة الأذن لتساعدها على السمع إذا ضعفت عن أداء وظيفتها.
إذن: فكل وسيلة إدراك لها قانونها، وكذلك العقل، وإياك أنْ تظنَّ
وهذا ما حدث مع الصِّدِّيق أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حينما حدثوه عن صاحبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأنه أُسرِي به من مكة إلى بيت المقدس، فما كان منه إلا أن قال: «إن كان قال فقد صدق».
فالحجة عنده إذن قول الرسول، وما دام الرسول قد قال ذلك فهو صادق، ولا مجال لعمل العقل في هذه القضية، ثم قال «كيف لا أُصدقه في هذا الخبر، وأنا أصدقه في أكثر من هذا، أصدقه في خبر الوحي يأتيه من السماء».
فآية الإسراء إذن كانت آية أرضية، يمكن أنْ يُقام عليها الدليل، ويمكن أن يفهم الناس عنها أن القانون قد خُرِق لمحمد في الإسراء، فإذا ما أتى المعراج وخرق له القانون فيما لا يعلم الناس كان أَدْعى لتصديقه.
والمتأمل في هذه السورة يجدها تسمى سورة الإسراء، وتسمى سورة بني إسرائيل، وليس فيها عن الإسراء إلا الآية الأولى فقط، وأغلبها يتحدث عن بني إسرائيل، فما الحكمة من ذِكْر بني إسرائيل بعد الإسراء؟
سبق أن قلنا: إن الحكمة من الكلام عن الإسراء بعد آخر النحل
فعندما يأتي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقول: أنا رسول للناس كافّة سيعترض عليه هؤلاء وسيقولون: إنْ كنتَ رسولاً فعلاً وسلَّمنا بذلك، فأنت رسول للعرب دون غيرهم، ولا دَخْل لك ببني إسرائيل، فَلَنا رسالتنا وبيت المقدس عَلَم لنا.
لذلك أراد الحق سبحانه أن يلفت إسرائيل إلى عموم رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومن هنا جعل بيت المقدس قبلةً للمسلمين في بداية الأمر، ثم أسرى برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليه: ليدلل بذلك على أن بيت المقدس قد دخل في مقدسات الإسلام، وأصبح منذ هذا الحدث في حَوْزة المسلمين.
ثم يبدأ الحديث عن موسى عليه السلام وعن بني إسرائيل، فيقول تعالى: ﴿وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب... ﴾.
و (الكتاب) هو التوراة، فلو اقترن بعيسى فهو الإنجيل، وإنْ أُطلِق دون أن يقترنَ بأحد ينصرف إلى القرآن الكريم.
والوَحْي قد يكون بمعاني الأشياء، ثم يُعبّر عنها الرسول بألفاظه، أو يعبر عنها رجاله وحواريوه بألفاظهم.
ومثال ذلك: الحديث النبوي الشريف، فالمعنى فيه من الحق سبحانه، واللفظ من عند الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهكذا كان الأمر في التوراة والإنجيل.
فإن قال قائل: ولماذا نزل القرآن بلفظه ومعناه، في حين نزلت التوراة والإنجيل بالمعنى فقط؟
نقول: لأن القرآن نزل كتاب منهج مثل التوراة والإنجيل، ولكنه نزل أيضاً كتاب معجزة لا يستطيع أحد أنْ يأتيَ بمثله، فلا دَخْلَ لأحد فيه، ولا بُدَّ أنْ يظلَّ لفظه كما نزل من عند الله سبحانه وتعالى.
فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُوحِيَ إليه لَفْظُ ومعنى القرآن الكريم، وأُوحِي إليه معنى الحديث النبوي الشريف.
والحق سبحانه يقول:
﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ..﴾ [الإسراء: ٢].
فهذا الكتاب لم ينزل لموسى وحده، بل لِيُبلِّغه لبني إسرائيل،
والهُدَى: هو الطريق الموصّل للغاية من أقصر وجه، وبأقلّ تكلفة، وهو الطريق المستقيم، ومعلوم عند أهل الهندسة أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين.
ثم أوضح الحق سبحانه وتعالى خلاصة هذا الكتاب، وخلاصة هذا الهُدى لبني إسرائيل في قوله تعالى:
﴿أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً﴾ [الإسراء: ٢].
ففي هذه العبارة خلاصة الهُدى، وتركيز المنهج وجِمَاعه.
والوكيل: هو الذي يتولَّى أمرك، وأنت لا تُولِّي أحداً أمرك إلا إذا كنتَ عاجزاً عن القيام به، وكان مَنْ تُوكِّله أحكمَ منك وأقوى، فإذا كنت ترى الأغيار تنتاب الناس من حولك وتستولي عليهم، فالغني يصير فقيراً، والقوي يصير ضعيفاً، والصحيح يصير سقيماً.
وكذلك ترى الموت يتناول الناس واحداً تِلْو الآخر، فاعلم أن هؤلاء لا يصلحون لِتولِّي أمرك والقيام بشأنك، فربما وَكَّلْتَ واحداً منهم ففاجأك خبر موته.
إذن: إذا كنتَ لبيباً فوكِّل مَنْ لا تنتابه الأغيار، ولا يدركه
وما دام الأمر كذلك، فإياك أنْ تتخذَ من دون الله وكيلاً، حتى لو كان هذا الوكيل هو الواسطة بينك وبين ربك كالأنبياء؛ لأنهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم، بل يناولونك ويُبلِّغونك عن الله سبحانه.
ولذلك الحق سبحانه يقول: ﴿وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ..﴾ [الإسراء: ٨٦].
ولو شئنا ما أوحينا إليك أبداً، فمن أين تأتي بالمنهج إذن؟
وقد تحدث العلماء طويلاً في (أن) في قوله:
﴿أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً﴾ [الإسراء: ٢].
فمنهم مَنْ قال: إنها ناهية. ومنهم من قال: نافية، وأحسن ما يُقال فيها: إنها مُفسّرة لما قبلها من قوله تعالى:
﴿وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى..﴾ [الإسراء: ٢].
ففسرت الكتاب والهدى ولخَّصتْه، كما في قوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى﴾ [طه: ١٢٠].
فقوله: ﴿قَالَ ياآدم﴾ تُفسّر لنا مضمون وسوسة الشيطان.
ومثله قوله تعالى:
(فأنْ) هنا مُفسِّرة لما قبلها. وكأن المعنى: وأوحينا إليه ألاَّ تتخذوا من دوني وكيلاً.
أو نقول: إن فيها معنى المصدرية، وأنْ المصدرية قد تُجرّ بحرف جر كما نقول: عجبت أنْ تنجحَ، أي: من أنْ تنجح، ويكون معنى الآية هنا: وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لنبي إسرائيل لأنْ لا تتخذوا من دوني وكيلاً.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا..﴾.
ذلك لأننا نجَّيْنَا الذين آمنوا معه من الطوفان والغرق، وحافظنا على حياتهم، وأنتم ذريتهم، فلا بُدَّ لكم أنْ تذكروا هذه النعمة لله تعالى، أن أبقاكم الآن من بقاء آبائكم.
فكأن الحق سبحانه يمتنّ عليهم بأنْ نجَّى آباءهم مع نوح، فليستمعوا إلى منهج الله الذي جَرَّبه آباؤهم، ووجدوا أن مَنْ يؤمن بالله تكون له النجاة والأمن من عذاب الله.
ويقول تعالى:
أي: أن الحق سبحانه أكرم ذريته؛ لأنه كان عبداً شكوراً، والعمل الصالح ينفع ذرية صاحبه؛ ولذلك سنلاحظ ذرية نوح بعنايتنا، ولن نتركهم يتخبّطون في متاهات الحياة، وسنرسل لهم الهدى الذي يرسم لهم الطريق القويم، ويُجنّبهم الزَّلل والانحراف.
ودائماً ما ينشغل الآباء بالأبناء، فإذا ما توفّر للإنسان قُوت يومه تطلّع إلى قُوت العام كله، فإذا توفّر له قوت عامه قال: أعمل لأولادي، فترى خير أولاده أكثر من خَيْره، وتراه ينشغل بهم، ويُؤثِرهم على نفسه، ويترقّى في طلب الخير لهم، ويودُّ لو حمل عنهم كل تعب الحياة ومشاقها.
ومع ذلك، فالإنسان عُرْضَة للأغيار، وقد يأتيه أجله فيترك وراءه كل شيء؛ ولذلك فالحق سبحانه يدلّنا على وَجْه الصواب الذي ينفع الأولاد، فيقول تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً﴾ [النساء: ٩].
والحق تبارك وتعالى حينما يُعلّمنا أن تقوى الله تتعدَّى بركتها إلى أولادك من بعدك، يعطينا مثلاً واقعياً في قصة موسى والخضر عليهما السلام التي حكاها لنا القرآن الكريم.
والشاهد فيها أنهما حينما مرّا على قرية، واستطعما أهلها فأبَوْا أنْ يُضيّفوهما، وسؤال الطعام يدل على صِدْق الحاجة، فلو طلب منك السائل مالاً فقد تتهمه بكَنْزِه، أما إذا طلب منك رغيفاً يأكله فلا شكّ
ومن هنا تعجَّبَ موسى عليه السلام من مبادرة الخِضْر إلى بناء الجدار الذي أوشك على السقوط دون أنْ يأخذ أَجْره من هؤلاء اللئام: ﴿فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ [الكهف: ٧٧].
وهنا يكشف الخضر لموسى حقيقة الأمر، ويُظهِر له ما أطلعه الله عليه من بواطن الأمور التي لا يدركها موسى عليه السلام، فيقول: ﴿وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ..﴾
[الكهف: ٨٢].
فالجدار مِلْك لغلامين صغيرين لا يقدران على حماية مالهما من هؤلاء اللئام، ولأن أباهما كان صالحاً سخّر الله لهما مَنْ يخدمهما، ويحافظ على مالهما.
إذن: فِعلّة هذا العمل أن أباهما كان صالحاً، فأكرمهم الله من أجله، وجعلهما في حيازته وحفظه.
وهنا قد يسأل سائل: ومن أين للغلامين أن يعلما بأمر هذا الكنز عند بلوغهما؟
والظاهر أن الخضر بما أعطاه الله من الحكمة بنى هذا الجدار بناءً موقوتاً، بحيث ينهدم بعد بلوغ الغلامين، فيكونان قادريْنِ على حمايته والدفاع عنه.
فكرامةً للآباء نلحق بهم الأبناء، حتى وإنْ قَصَّروا في العمل عن آبائهم، فنزيد في أجر الأبناء، ولا ننقص من أجر الآباء.
وقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً﴾ [الإسراء: ٣].
وشكور صيغة مبالغة في الشكر، فلم يقل شاكر؛ لأن الشاكر الذي يشكر مرة واحدة، أما الشكور فهو الدائب على الشكر المداوم عليه، وقالوا عن نوح عليه السلام: إنه كان لا يتناول شيئاً من مُقوّمات حياته إلا شكر الله عليها. ولا تنعَّم بنعمة من ترف الحياة إلا حمد الله عليها، فإذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني من غير حول مني ولا قوة، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني من غير حول مني ولا قوة، وهكذا في جميع أمره.
ونرى كثيراً من الناس قصارى جَهْدهم أن يقولوا: بسم الله في أول الطعام والحمد لله في آخره، ثم هم غافلون عن نعم كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، تستوجب الحمد والشكر.
لذلك حينما يعقل الإنسان ويفقه نِعَم الله عليه، ويعلم أن الحمد قَيْد للنعمة، تجده يعمل ما نُسميّه حَمْد القضاء مثل الصلاة القضاء أي: حمد الله على نعم فاتت لم يحمده عليها، فيقول: الحمد لله على كل نعمة أنعمتَها عليَّ يا ربّ، ونسيت أنْ أحمدَك عليها، ويجعل هذا الدعاء دَأَبه وديدنه.
وقد يتعدى حمدَ الله لنفسه، فيحمد الله عن الناس الذين أنعم الله عليهم ولم يحمدوه، فيقول: الحمد لله عن كل ذي نعمة أنعمتَ عليه، ولم يحمدك عليها.
ولذلك يقولون: إن النعمة التي تحمد الله عليها لا تُسأل عنها يوم القيامة؛ لأنك أدَّيْتَ حقها من حَمْد الله والثناء عليه.
والحمد والشكر وإنْ كان شكراً للمنعم سبحانه وثناء عليه، فهو أيضاً تجارة رابحة للشاكر؛ لأن الحق سبحانه يقول: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧].
فمَنْ أراد الخير لنفسه وأحب أن نواصل له النعم فليداوم على حمدنا وشكرنا.
﴿وَقَضَيْنَآ..﴾ [الإسراء: ٤].
أي: حكمنا حُكْماً لا رجعةَ فيه، وأعلنَّا به المحكوم عليه، والقاضي الذي حكم هنا هو الحق سبحانه وتعالى.
والقضاء يعني الفَصْل في نزاع بين متخاصمين، وهذا الفَصْل لا بُدَّ له من قاضٍ مُؤهَّل، وعلى علم بالقانون الذي يحكم به، ويستطيع الترجيح بين الأدلة.
إذن: لا بُدَّ أن يكون القاضي مُؤهّلاً، ولو عُرْف المتنازعين، ويمكن أن يكونوا جميعاً أميِّين لا يعرفون عن القانون شيئاً، ولكنهم واثقون من شخص ما، ويعرفون عنه قَوْل الحق والعدل في حكومته، فيرتضونه قاضياً ويُحكّمونه فيما بينهم.
ثم إن القاضي لا يحكم بعلمه فحسب، بل لا بُدَّ له من بينة على المدعي أن يُقدّمها أو اليمين على مَنْ أنكر، والبينة تحتاج إلى سماع الشهود، ثم هو بعد أن يحكم في القضية لا يملك تنفيذ حكمه، بل
وقد يستطيع الظالم أنْ يُعمِّي عليه الأمر، وقد يكون لبقاً متكلماً يستميل القاضي، فيحوّل الحكم لصالحه، كل هذا يحدث في قضاء الدنيا.
فما بالك إذا كان القاضي هو رب العزة سبحانه وتعالى؟
إنه سبحانه وتعالى القاضي العدل الذي لا يحتاج إلى بيّنة ولا شهود، ولا يقدر أحد أنْ يُعمِّي عليه أو يخدعه، وهو سبحانه صاحب كل السلطات، فلا يحتاج إلى قوة أخرى تنفذ ما حكم به، فكل حيثيات الأمور موكولة إليه سبحانه.
وقد حدث هذا فعلاً في قضاء قضاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهل القضاة أفضل من رسول الله؟!
ففي الحديث الشريف: «إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل أحدكم أن يكون ألحنَ بحجته فأقضي له، فمَنْ قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار».
فردَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الحكم إلى ذات المحكوم له، ونصحه أنْ يراجعَ نفسه وينظر فيما يستحق، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشر يقضي كما يقضي البشر، ولكن إنْ عمَّيْتَ على قضاء الأرض فلن تُعمِّي على قضاء السماء.
قالها ثلاثاً ليلفتنا إلى ضرورة أن يكون الإنسان واعياً مُميّزاً بقلبه بين الحلال والحرام، وعليه أن يُراجع نفسه ويتدبر أمره.
وقوله: ﴿فِي الكتاب..﴾ [الإسراء: ٤].
أي: في التوراة، كتابهم الذي نزل على نبيهم، وهم محتفظون به وليس في كتاب آخر، فالحق سبحانه قضى عليهم. أي: حكم عليهم حُكْماً وأعلمهم به، حيث أوحاه إلى موسى، فبلّغهم به في التوراة، وأخبرهم بما سيكون منهم من ملابسات استقبال منهج الله على ألسنة الرسل، أَيُنفذونه وينصاعون له، أم يخرجون عنه ويفسدون في الأرض؟
إذا كان رسولهم عليه السلام قد أخبرهم بما سيحدث منهم، وقد حدث منهم فعلاً ما أخبرهم به الرسول وهم مختارون، فكان عليهم أنْ يخجلوا من ربهم عَزَّ وَجَلَّ، ولا يتمادوا في تصادمهم بمنهج الله وخروجهم عن تعاليمه، وكان عليهم أن يصدقوا رسولهم فيما أخبرهم به، وأنْ يُطيعوا أمره.
﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ..﴾ [الإسراء: ٤].
جاءتْ هذه العبارة هكذا مُؤكّدة باللام، وهذا يعني أن في الآية قَسَماً دَلَّ عليه جوابه، فكأن الحق سبحانه يقول: ونفسي لتفسدن في الأرض، لأن القسَم لا يكون إلا بالله.
أو نقول: إن المعنى: ما دُمْنا قد قضينا وحكمنا حُكْماً مُؤكّداً، لا يستطيع أحد الفِكَاك منه، ففي هذا معنى القسَم، وتكون هذه العبارة جواباً ل «قضينا» ؛ لأن القسَم يجيء للتأكيد، والتأكيد حاصل في قوله تعالى:
﴿وَقَضَيْنَآ... ﴾ [الإسراء: ٤].
فما هو الإفساد؟
الإفساد: أن تعمد إلى الصالح في ذاته فتُخرجه عن صلاحه، فكُلُّ شيء في الكون خلقه الله تعالى لغاية، فإذا تركتَه ليؤديَ غايته فقد أبقيته على صلاحه، وإذا أخللْتَ به يفقد صلاحه ومهمته، والغاية التي خلقه الله من أجلها.
والحق سبحانه وتعالى قبل أنْ يخلقنا على هذه الأرض خلق لنا مُقوّمات حياتنا في السماء والأرض والشمس والهواء.. الخ وليس مقومات حياتنا فحسب، بل وأعدَّ لنا في كَوْنه ما يُمكِّن الإنسان بعقله وطاقته أن يَزيدَ الصالح صلاحاً، فعلى الأقل إنْ لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحاً فأبْقِ الصالح على صلاحه.
ولذلك الحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا﴾ [هود: ٦١].
أي: أنشأكم من الأرض، وجعل لكم فيها مُقوّمات حياتكم، فإنْ أحببتَ أنْ تُثري حياتك فأعمِلْ عقلك المخلوق لله ليفكر، والطاقة المخلوقة في أجهزتك لتعمل في المادة المخلوقة لله في الكون، فأنت لا تأتي بشيء من عندك، فقط تُعمِل عقلك وتستغل الطاقة المخلوقة لله، وتتفاعل مع الأرض المخلوقة لله، فتعطيك كل ما تتطلع إليه وكل ما يُثرِي حياتك، ويُوفِّر لك الرفاهية والترقي.
فالذين اخترعوا لنا صهاريج المياه أعملُوا عقولهم، وزادوا الصالح صلاحاً، وكم فيها من مَيْزات وفَّرت علينا عناء رفع المياه إلى الأدوار العليا، وقد استنبط هؤلاء فكرة الصهاريج من ظواهر الكون، حينما رأوا السيل ينحدر من أعلى الجبال إلى أسفل الوديان، فأخذوا هذه الفكرة، وأفلحوا في عمل يخدم البشرية.
وكما يكون الإفساد في الماديات كمَنْ أفسدوا علينا الماء والهواء بالملوِّثات، كذلك يكون في المعنويات، فالمنهج الإلهي الذي أنزله الله تعالى لهداية الخلق وألزمنا بتنفيذه، فكوْنُك لا تنفذ هذا المنهج، أو تكتمه، أو تُحرِّف فيه، فهذا كله إفساد لمنهج الله تعالى.
﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ..﴾ [الإسراء: ٤].
وهل أفسد بنو إسرائيل في الأرض مرتين فقط؟
والله إنْ كانوا كذلك فقد خلاهم ذم، والأمر إذن هَيِّن، لكنهم أفسدوا في الأرض إفساداً كثيراً متعدداً، فلماذا قال تعالى: مرتين؟
تحدّث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين، وفي أيّ فترات التاريخ حدثتا، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام، والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداثٌ حدثتْ منهم في حضْن الإسلام.
فالحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الإسراء ذكر قصة بني إسرائيل، فدلّ ذلك على أن الإسلام تعدّى إلى مناطق مُقدّساتهم، فأصبح بيت المقدس قِبْلة للمسلمين، ثم أُسْرِي برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليه، وبذلك دخل في حَوْزة الإسلام؛ لأنه جاء مهيمناً على الأديان السابقة، وجاء للناس كافة.
إذن: كان من الأوْلى أن يُفسِّروا هاتين المرتين على أنهما في
﴿وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً﴾ [الإسراء: ٤].
فإنْ كان الفساد مُطْلقاً. أي: قبل أن يأتي الإسلام فقد تعدَّد فسادهم، وهل هناك أكثر من قولهم بعد أن جاوز بهم البحر فرأوا جماعة يعكفون على عبادة العجل، فقالوا لموسى عليه السلام: ﴿اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨].
هل هناك فساد أكثر من أنْ قتلوا الأنبياء الذين جعلهم الله مُثُلاً تكوينية وأُسْوة سلوكية، وحرّفوا كتاب الله؟
والناظر في تحريف بني إسرائيل للتوراة يجد أنهم حرَّفوها من وجوه كثيرة وتحريفات متعددة، فمن التوراة ما نسوه، كما قال تعالى: ﴿وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ..﴾ [المائدة: ١٣].
والذي لم ينسَوْهُ لم يتركوه على حاله، بل كتموا بعضه، والذي لم يكتموه لم يتركوه على حاله، بل حرَّفوه، كما قال تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ..﴾ [المائدة: ١٣].
ولم يقف الأمر بهم عند هذا النسيان والكتمان والتحريف، بل تعدَّى إلى أن أَتَوا بكلام من عند أنفسهم، وقالوا هو من عند الله، قال تعالى:
فهل هناك إفساد في منهج الله أعظم من هذا الإفساد؟
ومن العلماء مَنْ يرى أن الفساد الأول ما حدث في قصة طالوت وجالوت في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ..﴾
[البقرة: ٢٤٦].
فقد طلبوا القتال بأنفسهم وارتضَوْه وحكموا به، ومع ذلك حينما جاء القتال تنصَّلوا منه ولم يقاتلوا.
ويرون أن الفساد الثاني قد حدث بعد أن قويَتْ دولتهم، واتسعتْ رقعتها من الشمال إلى الجنوب، فأغار عليهم بختنصَّر وهزمهم، وفعل بهم ما فعل.
وهذه التفسيرات على أن الفساديْن سابقان للإسلام، والأَوْلى أن
كيف ذلك؟
قالوا: لأن الإسلام حينما جاء كن يستشهد بأهل الكتاب على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونفس أهل الكتاب كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، فكان أهل الكتاب إذا جادلوا الكفار والمشركين في المدينة كانوا يقولون لهم: لقد أظلَّ زمان نبي يأتي فنتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
لذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنهم ينكرون عليك أن الله يشهد ومَنْ عنده علم الكتاب، فمَنْ عنده علم الكتاب منهم يعرف بمجيئك، وأنك صادق، ويعرف علامتك، بدليل أن الصادقين منهم آمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ويقول أحدهم: لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد، لأنه قد يشك في نسبة ولده إليه، ولكنه لا يشك في شخصية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِمَا قرأه في كتبهم، وما يعلمه من أوصافه، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موصوف في كتبهم، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
إذن: كانوا يستفتحون برسول الله على الذين كفروا، وكانوا
ومع ذلك: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ..﴾ [البقرة: ٨٩].
فلما كفروا به، ماذا كان موقفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أن هاجر إلى المدينة؟
في المدينة أبرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معهم معاهدة يتعايشون بموجبها، ووفّى لهم رسول الله ما وفّوا، فلما غدروا هم، واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم، جاس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خلال ديارهم، وقتل منهم مَنْ قَتل، وأجلاهم عن المدينة إلى الشام وإلى خيبر؛ وكان هذا بأمر من الله تعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال تعالى: ﴿هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار﴾ [الحشر: ٢].
وهذا هو الفساد الأول الذي حدث من يهود بني النضير، وبني قَيْنقاع، وبني قريظة، الذين خانوا العهد مع رسول الله، بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، ونصُّ الآية القادمة يُؤيِّد ما نذهب إليه من أن الإفسادتين كانتا بعد الإسلام.
وقوله: ﴿وَعْدُ﴾. والوعد كذلك لا يكون بشيء مضى، وإنما بشيء مستقبل. و ﴿أُولاهُمَا﴾ أي: الإفساد الأول.
وقوله: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ... ﴾ [الإسراء: ٥]
وفي هذه العبارة دليل آخر على أن الإفسادتين كانتا في حضن الإسلام؛ لأن كلمة ﴿عِبَاداً﴾ لا تطلق إلا على المؤمنين، أما جالوت الذي قتله طالوت، وبختنصر فهما كافران.
وقد تحدّث العلماء في قوله تعالى: ﴿عِبَاداً لَّنَآ..﴾ [الإسراء: ٥] فمنهم من رأى أن العباد والعبيد سواء، وأن قوله (عِبَاداً) تُقَال للمؤمن وللكافر، وأتوا بالأدلة التي تؤيد رأيهم حَسْب زعمهم.
ومن أدلتهم قول الحق سبحانه وتعالى في قصة عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن
والشاهر في قوله تعالى: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ..﴾ [المائدة: ١١٨]
فأطلق كلمة «عبادي» على الكافرين، وعلى هذا القول لا مانع يكون جالوت وبختنصر، وهما كافران قد سُلِّطا على بني إسرائيل.
ثم استدلوا بآية أخرى تحكي موقفاً من مواقف يوم القيامة، يقول تعالى للشركاء الذين اتخذوهم من دون الله: ﴿أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ..﴾ [الفرقان: ١٧]
فأطلق كلمة (عباد) على الكافرين أيضاً.
إذن: قوله تعالى: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ... ﴾ [الإسراء: ٥]
ليس من الضروري أن يكونوا مؤمنين، فقد يكونون من الكفار، وهنا نستطيع أن نقول: إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن ينتقم منهم، ويُسلِّط عليهم أمثالهم من الكفرة والظالمين، فإذا أراد سبحانه أن ينتقم من الظالم سلّط عليه مَنْ هو أكثر منه ظلماً، وأشدّ منه بطشاً، كما قال سبحانه: ﴿وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: ١٢٩]
وإذا كان أصحاب هذا الرأي لديهم من الأدلة ما يثبت أن كلمة
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾
[الفرقان: ٦٣ - ٦٧]
إلى آخر ما ذكرت الآيات من صفا المؤمنين الصادقين، فأطلق عليهم «عباد الرحمن».
دليل آخر في قول الحق سبحانه في نقاشه لإبليس: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ..﴾ [الحجر: ٤٢]
والمراد هنا المؤمنون.. وقد قال إبليس: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [ص: ٨٢ - ٨٣]
إذن: هنا إشكال، حيث أتى كُلٌ بأدلّته وما يُؤيّد قوله، وللخروج من هذا الإشكال نقول: كلمة «عباد» و «عبيد» كلاهما جمع ومفردهما واحد (عبد). فما الفرق بينهما؟
لو نظرتَ إلى الكون كله مؤمنه وكافره لوجدتهم جميعاً لهم اختيارات في أشياء، ومقهورين في أشياء أخرى، فهم جميعاً عبيد
ثم بعد ذلك نستطيع أن نُقسّمهم إلى قْسمين: عبيد يظلون عبيداً لا يدخلون في مظلة العباد، وعبيد تسمو بهم أعمالهم وانصياعهم لأمر الله فيدخلون في مظلة عباد الله. كيف ذلك؟
لقد جعل الله تعالى لك في أفعالك منطقة اختيار، فجعلك قادراً على الفِعْل ومقابله، وخلقك صالحاً للإيمان وصالحاً للكفر، لكنه سبحانه وتعالى يأمرك بالإيمان تكليفاً.
ففي منطقة الاختيار هذه يتمايز العبيد والعباد، فالمؤمنون بالله يخرجون عن اختيارهم إلى اختيار ربهم، ويتنازلون عن مُرادهم إلى مُراد ربهم في المباحات، فتراهم يُنفِّذون ما أمرهم الله به، ويجعلون الاختيار كالقهر. ولسان حالهم يقول لربهم: سمعاً وطاعة.
وهؤلاء هم العباد الذين سَلّموا جميع أمرهم لله في منطقة الاختيار، فليس لهم إرادة أمام إرادة الله عَزَّ وَجَلَّ.
إذن: كلمة عباد تُطلق على مَنْ تنازل عن منطقة الاختيار، وجعل نفسه مقهوراً لله حتى في المباحات.
أما الكفار الذين اختاروا مُرادهم وتركوا مُراد الله، واستعملوا اختيارهم، ونسوا اختيار ربهم، حيث خَيَّرَهم: تُؤمن أو تكفر قال: أكفر، تشرب الخمر أو لا تشرب قال: أشرب، تسرق أو لا تسرق، قال: أسرق. وهؤلاء هم العبيد، ولا يقال لهم «عباد» أبداً؛ لأنهم لا يستحقون شرف هذه الكلمة.
فإذا جاءت الآخرة فلا محلَّ للاختيار والتكليف، فالجميع مقهور لله تعالى، ولا مجالَ فيها للتقسيم السابق، بل الجميع عبيد وعباد في الوقت ذاته.
إذن: نستطيع أن نقول: إن الكل عباد في الآخرة، وليس الكل عباداً في الدنيا. وعلى هذا نستطيع فهم معنى (عباد) في الآيتين: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ..﴾ [المائدة: ١١٨]
وقوله: ﴿أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ..﴾ [الفرقان: ١٧]
فسمّاهم الحق سبحانه عباداً؛ لأنه لم يَعُدْ لهم اختيار يتمردون فيه، فاستوَوْا مع المؤمنين في عدم الاختيار مع مرادات الله عَزَّ وَجَلَّ.
إذن: فقول الحق سبحانه: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ..﴾ [الإسراء: ٥]
المقصود بها الإفساد الأول الذي حدث من اليهود في ظِلِّ الإسلام، حيث نقضوا عهدهم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والعباد هم رسول الله والذين آمنوا معه عندما جَاسُوا خلال ديارهم، وأخرجوهم من المدينة وقتلوا منهم مَنْ قتلوه، وسَبَوْا مَنْ سَبَوْه.
أي: قوة ومنَعة، وهذه كانت حال المؤمنين في المدينة، بعد أن أصبحت لهم دولة وشوكة يواجهون بها أهل الباطل، وليس حال ضعفهم في مكة.
وقوله سبحانه: ﴿فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار..﴾ [الإسراء: ٥]
جاسُوا من جاسَ أي: بحث واستقصى المكان، وطلب مَنْ فيه، وهذا المعنى هو الذي يُسمّيه رجال الأمن «تمشيط المكان».
وهو اصطلاح يعني دِقّة البحث عن المجرمين في هذا المكان، وفيه تشبيه لتمشيط الشعر، حيث يتخلل المشط جميع الشعر، وفي هذا ما يدل على دِقّة البحث، فقد يتخلل المشط تخلُّلاً سطحياً، وقد يتخلل بعمق حتى يصل إلى البشرة فيخرج ما لصق بها.
إذن: جاسُوا أي: تتبعوهم تتبعاً بحيث لا يخفي عليهم أحد منهم، وهذا ما حدث مع يهود المدينة: بني قينقاع، وبني قريظة، وبني النضير، ويهود خيبر.
ونلاحظ هنا أن القرآن آثر التعبير بقوله: ﴿بَعَثْنَا..﴾ [الإسراء: ٥]
والبعث يدل على الخير والرحمة، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن في حال اعتداء، بل في حالة دفاع عن الإسلام أمام مَنْ خانوا العهد ونقضوا الميثاق.
وكلمة: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ تفيد العلو والسيطرة.
أي: وَعْد صدق لابد أن يتحقق؛ لأنه وعد من قادر على الإنفاذ، ولا توجد قوة تحول بينه وبين إنفاذ ما وعد به، وإياك أن تظن أنه كأي وَعْد يمكن أنْ يَفِي به صاحبه أو لا يفي به؛ لأن الإنسان إذا وعد وَعْداً: سألقاك غداً مثلاً.
فهذا الوعد يحتاج في تحقيقه أن يكون لك قدرة على بقاء طاقة الإنفاذ، لكن قد يطرأ عليك من العوارض ما يحول بينك وبين إنفاذ ما وعدت به، إنما إذا كان الوعد ممَّنْ يقدر على الإنفاذ، ولا تجري عليه مِثْل هذه العوارض، فوعْدُه مُتَحقِّق النفاذ.
فإذا قال قائل: الوعد لا تُقال إلا في الخير، فكيف سمَىَّ القرآن هذه الأحداث: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ.
.﴾ [الإسراء: ٥]
قالوا: الوعيد يُطلَق على الشر، والوعد يُطلَق على الخير وعلى الشر، ذلك لأن الشيء قد يكون شراً في ظاهره، وهو خير في باطنه، وفي هذا الموقف الذي نحن بصدده، إذا أراد الحق سبحانه أنْ يُؤدِّبَ هؤلاء الذين انحرفوا عن منهجه، فقد نرى أن هذا شر في ظاهره، لكنه في الحقيقة خير بالنسبة لهم، إنْ حاولوا هم الاستفادة منه.
ونضرب لذلك مثلاً بالولد الذي يعاقبه والده على إهماله أو تقصيره، فيقسو عليه حِرْصاً على ما يُصلحه، وصدق الشاعر حين قال:
ولا بُدّ أنه قد حدث منهم شبه استقامة على منهج الله، أو على الأقل حدث من المسلمين انصراف عن المنهج وتنكُّب للطريق المستقيم، فانحلَّتْ الأمور الإيمانية في نفوس المسلمين، وانقسموا دُوَلاً، لكل منها جغرافياً، ولكل منها نظام حاكم ينتسب إلى الإسلام، فانحلّتْ عنهم صِفَة عباد الله.
فبعد قوتهم واستقامتهم على منهج الله، وبعد أن استحقوا أن يكونوا عباداً لله بحق تراجعت كِفتهم وتخلَّوْا عن منهج ربهم، وتحاكموا إلى قوانين وضعية، فسلَّط عليهم عدوهم ليؤدّبهم، فأصبحتْ الغلبة لليهود؛ لذلك يقول تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ..﴾ [الإسراء: ٦]
فلم يَقُل الحق سبحانه: فرددنا، بل ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا﴾ ذلك لأن بين الكَرَّة الأولى التي كانت للمسلمين في عهد رسول الله، وبين هذه الكَرَّة التي كانت لليهود وقتاً طويلاً.
فلم يحدث بيننا وبينهم حروب لعدة قرون، منذ عصر الرسول إلى أن حدث وَعْد بلفور، الذي أعطى لهم الحق في قيام دولتهم في فلسطين، وكانت الكَرَّة لهم علينا في عام ١٩٦٧، فناسب العطف ب «ثم» التي تفيد التراخي.
والحق سبحانه يقول: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ..﴾ [الإسراء: ٦]
أي: جعلنا لبني إسرائيل الغَلَبَة والقوة والنصر على المسلمين وسلّطناهم عليهم؛ لأنهم تخلوْا عن منهج ربهم، وتنازلوا عن الشروط التي جعلتْهم عباداً لله.
و (الكَرَّة) أي: الغلبة من الكَرِّ والفَرِّ الذي يقوم به الجندي في القتال، حيث يُقِدم مرة، ويتراجع أخرى.
وقوله تعالى: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً﴾ [الإسراء: ٦]
وفعلاً أمدّهم الله بالمال حتى أصبحوا أصحاب رأس المال في العالم كله، وأمدّهم بالبنين الذين يُعلِّمونهم ويُثقّفونهم على أعلى المستويات، وفي كل المجالات.
فالنفير مَنْ يستنفره الإنسان لينصره، والمراد هنا الدول الكبرى التي ساندت اليهود وصادمت المسلمين.
ومازالت الكَرَّة لهم علينا، وسوف تظل إلى أنْ نعود كما كُنَّا، عباداً لله مُسْتقيمين على منهجه، مُحكِّمين لكتابه، وهذا وَعْد سيتحقّق إنْ شاء الله، كما ذكرتْ الآية التالية: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا... ﴾.
فها هم اليهود لهم الغَلبة بما حدث منهم من شبه استقامة على
والدليل على ذلك ما أمسى فيه المسلمون بتخليهم عن منهج الله.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ..﴾ [الإسراء: ٧]
فيه إشارة إلى أنهم في شَكٍّ أنْ يُحسِنوا، وكأن أحدهم يقول للآخر: دَعْكَ من قضية الإحسان هذه.
فإذا كانت الكَرَّة الآن لليهود، فهل ستظل لهم على طول الطريق؟ لا.. لن تظل لهم الغَلبة، ولن تدوم لهم الكرّة على المسلمين، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة..﴾ [الإسراء: ٧]
أي: إذا جاء وقت الإفسادة الثانية لهم، وقد سبق أنْ قال الحق سبحانه عنهم: ﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ..﴾ [الإسراء: ٤]
وبينّا الإفساد الأول حينما نقضوا عهدهم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المدينة.
وفي الآية بشارة لنا أننا سنعود إلى سالف عهدنا، وستكون لنا يقظة وصَحْوة نعود بها إلى منهج الله وإلى طريقه المستقيم، وعندها ستكون لنا الغَلبة والقوة، وستعود لنا الكَرَّة على اليهود.
وقوله تعالى: ﴿لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ..﴾ [الإسراء: ٧]
أي: نُلحق بهم من الأذى ما يظهر أثره على وجوههم؛ لأن
وقوله تعالى: ﴿وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ..﴾ [الإسراء: ٧] أي: أن المسلمين سيدخلون المسجد الأقصى وسينقذونه من أيدي اليهود.
﴿كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ..﴾ [الإسراء: ٧]
المتأمل في هذه العبارة يجد أن دخولَ المسلمين للمسجد الأقصى أول مرة كان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، ولم يكن الأقصى وقتها في أيدي اليهود، بل كان في أيدي الرومان المسيحيين.
فدخوله الأول لم يكُنْ إساءةً لليهود، وإنما كان إساءة للمسيحيين، لكن هذه المرة سيكون دخول الأقصى، وهو في حوزة اليهود، وسيكون من ضمن الإساءة لوجوههم أن ندخل عليهم المسجد الأقصى، ونُطهِّره من رِجْسهم.
ونلحظ كذلك في قوله تعالى: ﴿كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ..﴾ [الإسراء: ٧] أن القرآن لم يقُلْ ذلك إلا إذا كان بين الدخولين خروج.
إذن: فخروجنا الآن من المسجد الأقصى تصديق لِنُبوءَة القرآن، وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يلفتنا: إنْ أردتُمْ أنْ تدخلوا المسجد الأقصى مرة أخرى، فعودوا إلى منهج ربكم وتصالحوا معه.
كلمة الآخرة تدلُّ على أنها المرة التي لن تتكرر، ولكن يكون لليهود غَلَبة بعدها.
وقوله تعالى: ﴿وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً..﴾ [الإسراء: ٧]
يتبروا: أي: يُهلكوا ويُدمِّروا، ويُخرِّبوا ما أقامه اليهود وما بنَوْهُ وشيَّدوه من مظاهر الحضارة التي نشاهدها الآن عندهم.
لكن نلاحظ أن القرآن لم يقُلْ: ما علوتُم، إنما قال ﴿مَا عَلَوْاْ﴾ ليدل على أن ما أقاموه وما شيدوه ليس بذاتهم، وإنما بمساعدة من وراءهم من أتباعهم وأنصارهم، فاليهود بذاتهم ضعفاء، لا تقوم لهم قائمة، وهذا واضح في قَوْل الحق سبحانه عنهم: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس..﴾ [آل عمران: ١١٢]
فهم أذلاء أينما وُجدوا، ليس لهم ذاتية إلا بعهد يعيشون في ظِلِّه، كما كانوا في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المدينة، أو عهد من الناس الذين يدافعون عنهم ويُعاونونهم.
واليهود قوم منعزلون لهم ذاتية وهُويّة لا تذوب في غيرهم من الأمم، ولا ينخرطون في البلاد التي يعيشون فيها؛ لذلك نجد لهم في كل بلد يعيشون به حارة تسمى «حارة اليهود»، ولم يكن لهم ميْلٌ للبناء والتشييد؛ لأنهم كما قال تعالى عنهم: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً..﴾ [الأعراف: ١٦٨]
ونحن الآن ننتظر وَعْد الله سبحانه، ونعيش على أمل أن تنصلح أحوالنا، ونعود إلى ساحة ربنا، وعندها سينجز لنا ما وعدنا من دخول المسجد الأقصى، وتكون لنا الكرّة الأخيرة عليهم، سيتحقق لنا هذا عندما ندخل معهم معركة على أسس إسلامية وإيمانية، لا على عروبة وعصبية سياسية، لتعود لنا صِفَة العباد، ونكون أَهْلاً لِنُصْرة الله تعالى:
إذن: طالما أن الحق سبحانه قال: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة..﴾ [الإسراء: ٧]
فهو وَعْد آتٍ لا شَكَّ فيه، بدليل أن هذه العبارة جاءت بنصِّها في آخر السورة في قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً﴾ [الإسراء: ١٠٤]
والمتأمل لهذه الآية يجد بها بشارة بتحقُّق وَعْد الله، ويجد أن ما يحدث الآن من تجميع لليهود في أرض فلسطين آية مُُرادة لله تعالى.
ومعنى الآية أننا قُلْنا لبني إسرائيل من بعد موسى:
اسكنوا الأرض وإذا قال لك واحد: اسكُنْ فلا بُدَّ أن يُحدد لك
أما أن يقول لك: اسكن الأرض!! فمعنى هذا أن الله تعالى أراد لهم أنْ يظلُّوا مبعثرين في جميع الأنحاء، مُفرِّقين في كل البلاد، كما قال عنهم:
﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً..﴾ [الأعراف: ١٦٨]
فتجدهم منعزلين عن الناس منبوذين بينهم، كثيراً ما تُثار بسببهم المشاكل، فيشكو الناس منهم ويقتلونهم، وقد قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب﴾ [الأعراف: ١٦٧]
وهكذا سيظل اليهود خميرة عكننة ونكَدٍ بين سكان الأرض إلى يوم القيامة، وهذه الخميرة هي في نفس الوقت عنصر إثارة وإهاجة للإيمان والخير؛ لأن الإسلام لا يلتفت إليه أهله إلا حين يُهَاج الإسلام، فساعة أنْ يُهَاجَ تتحرك النزعة الإيمانية وتتنبّه في الناس.
إذن: فوجود اليهود كعنصر إثارة له حكمة، وهي إثارة الحيوية الإيمانية في النفوس، فلو لم تُثَر الحيوية الإيمانية لَبهتَ الإسلام.
وهذه هي رسالة الكفر ورسالة الباطل، فلوجودهما حكمة؛ لأن الكفر الذي يشقي الناس به يُلفِت الناس إلى الإيمان، فلا يروْنَ راحة
وكذلك الباطل في الكون بعض الناس ويُزعجهم، فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه.
وبعد أن أسكنهم الله الأرض وبعثرهم فيها، أهاج قلوب أتباعهم من جنود الباطل، فأوحَوْا إليهم بفكرة الوطن القومي، وزيَّنُوا لهم أولى خطوات نهايتهم، فكان أن اختاروا لهم فلسطين ليتخذوا منها وطناً يتجمعون فيه من شتى البلاد.
وقد يرى البعض أن في قيام دولة إسرائيل وتجمّع اليهود بها نكاية في الإسلام والمسلمين، ولكن الحقيقة غير هذا، فالحق سبحانه وتعالى حين يريد أن نضربهم الضربة الإيمانية من جنود موصوفين بأنهم: ﴿عِبَاداً لَّنَآ..﴾ [الإسراء: ٥]
يلفتنا إلى أن هذه الضربة لا تكون وهم مُفرّقون مُبعْثرون في كل أنحاء العالم، فلن نحارب في العالم كله، ولن نرسل عليهم كتيبة إلى كل بلد لهم فيها حارة أو حي، فكيف لنا أن نتتبعهم وهم مبعثرون، في كل بلد شِرْذمة منهم؟
إذن: ففكرة التجمُّع والوطن القومي التي نادى بها بلفور وأيَّدتْها الدول الكبرى المساندة لليهود والمعادية للإسلام، هذه الفكرة في الحقيقة تمثل خدمة لقضية الإسلام، وتُسهِّل علينا تتبعهم وتُمكّننا من القضاء عليهم؛ لذلك يقول تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً﴾ [الإسراء: ١٠٤]
والمراد بقوله هنا: ﴿وَعْدُ الآخرة..﴾ [الإسراء: ٧]
هو الوعد الذي قال الله عنه: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ..﴾ [الإسراء: ٧]
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾.
وقوله: ﴿رَبُّكُمْ..﴾ [الإسراء: ٨]
لأن الربّ هو المتولّي للتربية والمتكفّل بضمان مُقومات الحياة، لا يضنّ بها حتى وإنْ كان العبد كافراً، فالكلُّ أمام عطاء الربوبية سواء: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي.
الجميع يتمتع بِنعَم الله: الشمس والهواء والطعام والشراب، فهو سبحانه لا يزال ربهم مع كل ما حدث منهم.
وقوله تعالى: ﴿أَن يَرْحَمَكُمْ..﴾ [الإسراء: ٨]
والرحمة تكون للإنسان إذا كان في موقف يستحق فيه الرحمة، واليهود لن تكون لهم دولة، ولن يكون لهم كيان، بل يعيشون في حِضْن الرحمة الإيمانية الإسلامية التي تُعطي لهم فرصة التعايش مع الإسلام معايشة، كالتي كانت لهم في مدينة رسول الله، يوم أن أكرمهم وتعاهد معهم.
وقد وصلتْ هذه المعايشة لدرجة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا أراد أنْ يقترضَ لا يقترض من مسلم، بل كان يقترض من اليهود، وفي هذا حكمة يجب أنْ نعيهَا، وهي أن المسلم قد يستحي أن يطالب رسول الله إذا نسى مثلاً، أما اليهودي فسوف يُلِحّ في طلب حقِّه وإذا نسى رسول الله سَيُذكّره.
لذلك كان اليهود كثيراً ما يجادلون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويُغالطونه مِرَاراً، وقد حدث أن وفَّى رسول الله لأحدهم دَيْنه، لكنه أنكره وأتى
ولم يكن لرسول الله شاهد وقت السداد، وهكذا تأزّم الموقف في حضور أحد الصحابة، واسمه خزيمة، فهَبَّ خزيمة قائلاً: أنا يا رسول الله كنت شاهداً، وقد أخذ هذا اليهودي دَيْنه، فسكت اليهودي ولم يرد ولم يجادل، فَدل ذلك على كذبه. ويكاد المريب أن يقول: خذوني.
لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما اختلى بخزيمة بعد أن انصرف الدائن قال: يا خزيمة ما حملك على هذا القول، ولم يكن أحد معنا، وأنا أقضي لليهودي دَيْنه؟ فضحك خزيمة وقال: يا رسول الله أَأُصدِّقُك في خبر السماء، وأُكذِّبك في عِدّة دراهم؟
فَسُرَّ رسول الله من اجتهاد الرجل، وقال: «مَنْ شهد له خزيمة فحَسْبه».
ثم يُهدِّد الحق سبحانه بني إسرائيل، فيقول: ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا..﴾ [الإسراء: ٨]
إنْ عُدتُّم للفساد، عُدْنا، وهذا جزاء الدنيا، وهو لا ينجيكم من جزاء الآخرة، فهذه مسألة وتلك أخرى حتى لا يفهموا أن العقاب على الذنوب في الدنيا يُبرّئهم من عذاب الآخرة.
فلو سرق إنسان وقُطِعَتْ يده، وسرق آخر ولم تُقطع يده، فلو استَووْا في عقوبة الآخرة، فقد زاد أحدهما عن الآخر في العقوبة، وكيف يستوي الذي قُطِعَتْ يده. وعاش بِذلّتها طوال عمره مع مَنْ أفلت من العقوبة؟
هذا إنْ كان المذنب مؤمناً.
أما إذا كان المذنب غير مؤمن فالأصل الذي بنينا عليه هذا الحكم ضائع لا وجودَ له، وعقوبة الدنيا هنا لا تُعفي صاحبها من عقوبة الآخرة؛ لذلك يقول تعالى بعدها: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾ [الإسراء: ٨]
﴿جَعَلْنَا﴾ فِعْل يفيد التحويل، كأن تقول: جعلت العجين خبزاً، وجعلت القطن ثوباً، أي: صيَّرْتُه وحوَّلْتُه. فماذا كانت جهنم أولاً فيُحوّلها الحق سبحانه حصيراً؟
قوله تعالى: ﴿جَعَلْنَا﴾ في هذه الآية لا تفيد التحويل، إنما هي بمعنى خَلَقْنا، أي: خلقناها هكذا، كما نقول: سبحان الذي جعل اللبن أبيض، فاللبن لم يكن له لون آخر فحوَّله الله تعالى إلى البياض، بل خلقه هكذا بداية.
ومعنى: ﴿حَصِيراً..﴾ [الإسراء: ٨]
الحصير فراش معروف يُصنع من القَشِّ أو من نبات يُسمى
لكن لماذا نفرش الحصير؟ نفرش الحصير؛ لأنه يحبس عَنّا القذَر والأوساخ، فلا تصيب ثيابنا. إذن: الحصر معناه المنع والحبس والتضييق.
والمتتبع لمادة (حصر) في القرآن الكريم يجدها بهذه المعاني، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم..﴾ [التوبة: ٥]
أي: ضَيِّقوا عليهم.
وقال تعالى في فريضة الحج: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي..﴾ [البقرة: ١٩٦] أي: حُبِسْتم ومَنعْتم من أداء الفريضة.
إذن: فقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾ [الإسراء: ٨]
أي: تحبسهم فيها وتحصرهم، وتمنعهم الخروج منها، فهي لهم سجن لا يستطيعون الفرار منه؛ لأنها تحيط بهم من كل ناحية، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا..﴾ [الكهف: ٢٩]
وفي قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾ [الإسراء: ٨]
إشارة إلى أنهم كانوا إذا أجرموا في الدنيا يحتمُون في أنصارهم وأتباعهم من الأقوياء، ويدخلون في حضانة أهل الباطل، أما في الآخرة فلن يجدوا ناصراً أو مدافعاً.
يقول تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ﴾
[الصافات: ٢٥ - ٢٦]
وبعد أن تكلّم الحق سبحانه عن الإسراء بالرسول الخاتم الرحمة، وجَعْله آيةً يمكن إقامة الدليل عليها، حيث خرق له الناموس في أمور يعلمها قومه، فإذا جاءت آية المعراج وخرَق له الناموس فيها لا يعلمه القوم كان أَدْعى إلى تصديقه.
ثم أوضح الحق سبحانه أن عبودية محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لربه هي التي أعطتْه هذه المنزلة، وكذلك كان نوح عليه السلام عبداً شكوراً، فهناك فَرْق بين عبودية الخَلْق للخالق، وعبودية الخَلْق للخَلْق؛ لأن العبودية للخَلْق مذمومة، حيث يأخذ السيد خيْر عبده، أما العبودية لله فالعبد يأخذ خَيْر سيده.
ثم تحدَّث الحق سبحانه عن بني إسرائيل، وما وقعوا فيه من إفساد في الأرض، فأعطانا بذلك نماذج للأعمال لمن أحسن ولمن أساء، وكُلٌّ له عمله دون ظُلْم أو جَوْر.
لذلك ينقلنا السياق القرآني إلى بيان المنهج الإلهي المنزّل من
والذي يرسم لنا الطريق ويُوضِّح لنا الحق من الباطل هو القرآن الكريم: ﴿إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ..﴾ [الإسراء: ٩]
قول الحق تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ هذا القرآن..﴾ [الإسراء: ٩]
هل عند نزول هذه الآية كان القرآن كله قد نزل، ليقول: إن هذا القرآن؟
نقول: لم يكن القرآن كله قد نزل، ولكن كل آية في القرآن تُسمّى قرآناً، كما قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٨]
فليس المراد القرآن كله، بل الآية من القرآن قرآن. ثم لما اكتمل نزول القرآن، واكتملتْ كل المسائل التي تضمن لنا استقامة الحياة، قال تعالى: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً..﴾ [المائدة: ٣]
قوله: ﴿يَِهْدِي..﴾ [الإسراء: ٩]
الهداية هي الطريق الموصِّل للغاية من أقرب وَجْه، وبأقل تكلفة وهي الطريق المستقيم الذي لا التواءَ فيه، وقلنا: إن الحق سبحانه يهدي الجميع ويرسم لهم الطريق، فمن اهتدى زاده هُدى، كما قال سبحانه: ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧]
ومعنى: ﴿أَقْوَمُ..﴾ [الإسراء: ٩]
أي: أكثر استقامة وسلاماً. هذه الصيغة تُسمّى أفعل التفضيل، إذن: فعندنا (أقوم) وعندنا أقل منه منزلة (قَيّم) كأن نقول: عالم وأعلم.
فقوله سبحانه: ﴿إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ..﴾ [الإسراء: ٩]
يدل على وجود (القيّم) في نُظم الناس وقوانينهم الوضعية، فالحق سبحانه لا يحرم البشر من أن يكون لهم قوانين وشرائع حينما تعضُّهم المظالم ويشْقُون بها، فيُقنّنون تقنيات تمنع هذا الظلم.
ولا مانع من ذلك إذا لم ينزل لهم منهج من السماء، فما وضعوه وإنْ كان قَيّماً فما وضعه الله أقوم، وأنت لا تضع القيم إلا بعد أن
أما منهج السماء فإنه يضع الوقاية، ويمنع المرض من أساسه، فهناك فَرْق بين الوقاية من المرض وبين العلاج للمرض، فأصحاب القوانين الوضعية يُعدّلون نُظمهم لعلاج الأمراض التي يَشْقَون بها.
أما الإسلام فيضع لنا الوقاية، فإن حَدثْت غفلة من المسلمين، وأصابتهم بعض الداءات نتيجة انصرافهم عن منهج ربهم نقول لهم: عودوا إلى المنهج: ﴿إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.
.﴾ [الإسراء: ٩]
ولتوضيح أن منهج الحق سبحانه أقوم نرى ما حدث معنا في مدينة «سان فرانسيسكو» فقد سألنا أحدُ المستشرقين عن قول الحق تبارك وتعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾ [التوبة: ٣٢]
وفي آية أخرى يقول: ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾ [التوبة: ٣٣]
فكيف يقول القرآن: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ..﴾ [التوبة: ٣٣]
في حين أن الإسلام محصور، وتظهر عليه الديانات الأخرى؟ فقلتُ له: لو تأملتَ الآية لوجدت فيها الردّ على سؤالك، فالحق سبحانه يقول: ﴿وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾ [التوبة: ٣٢]
ويقول: ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾ [التوبة: ٣٣]
إذن: فالكافرون والمشركون موجودون، فالظهور هنا ليس ظهور
ومعنى الظهور هنا ظهور حُجّة وظهور حاجة، ظهور نظم وقوانين، ستضرهم أحداث الحياة ومشاكلها إلى التخلّي عن قوانينهم والأخذ بقوانين الإسلام؛ لأنهم وجدوا فيها ضَالّتهم.
فنظام الطلاق في الإسلام الذي كثيراً ما هاجموه وانتقدوه، ورأوا فيه ما لا يليق بالعلاقة الزوجية، ولكن بمرور الزمن تكشفت لهم حقائق مؤلمة، وشقي الكثيرون منهم لعدم وجود هذا الحل في قوانينهم، وهكذا ألجاتهم مشاكل الحياة الزوجية لأنْ يُقنِّنوا للطلاق.
ومعلوم أن تقنينهم للطلاق ليس حُباً في الإسلام أو اقتناعاً به، بل لأن لديهم مشاكل لا حََّل لها إلا بالطلاق، وهذا هو الظهور المراد في الآيتين الكريمتين، وهو ظهور بشهادتكم أنتم؛ لأنكم ستلجأون في حل قضاياكم لقوانين الإسلام، أو قريباً منها.
ومن هذه القضايا أيضاً قضية تحريم الربا في الإسلام، فعارضوه وأنكروا هذا التحريم، إلى أن جاء «كِنز» وهو زعيم اقتصادي عندهم، يقول لهم: انتبهوا، لأن المال لا يؤدي وظيفته كاملة في الحياة إلا إذا انخفضتْ الفائدة إلى صفر.
سبحان الله، ما أعجب لجَجَ هؤلاء في خصومتهم مع الإسلام، وهل تحريم الربا يعني أكثر من أن تنخفض الفائدة إلى صفر؟ إنهم يعودون لمنهج الله تعالى رَغْماً عنهم، ومع ذلك لا يعترفون به.
ولا يخفي ما في التعامل الربوي من سلبيات، وهل رأينا دولة اقترضت من أخرى، واستطاعت على مَرّ الزمن أنْ تُسدد حتى أقساط
نقول لهم: كفاكم خداعاً، فألمانيا واليابان لم تأخذ قروضاً، وإنما أخذت معونة لا فائدة عليها، تسمى معونة (مارشال).
وأيضاً من هذه القضايا التي ألجأتهم إليها مشاكل الحياة قضية ميراث المرأة، فلما عَضَّتهم قَنَّنُوا لها.
فظهور دين الله هنا يعني ظهورَ نُظم وقوانين ستضطرهم ظروف الحياة إلى الأخذ بها، وليس المقصود به ظهور اتّباع.
إذن: فمنهج الله أقوم، وقانون الحق سبحانه أعظم من قوانين البشر وأَهْدى، وفي القرآن الكريم ما يُوضّح أن حكم الله وقانونه أقوم حتى من حكم رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وهذا في قصة مولاه «زيد بن حارثة»، وزيد لم يكن عبداً إلى أن خطفه بعض تجار الرقيق وباعوه، وانتهى به المطاف إلى السيدة خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها التي وهبتْه بدورها لخدمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فكان زيد في خدمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن علم أهله بوجوده في مكة فأتوا ليأخذوه، فما كان من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إلا أن خَيَّره بين البقاء معه وبين الذهاب إلى أهله، فاختار زيد البقاء في خدمة رسول
وفي هذه القصة دليل على أن الرقَّ كان مباحاً في هذا العصر، وكان الرقّ حضانةَ حنانٍ ورحمة، يعيش فيها العبد كما يعيش سيده، يأكل من طعامه، ويشرب من شرابه، يكسوه إذا اكتسى، ولا يُكلّفه ما لا يطيق، وإنْ كلّفه أعانه، فكانت يده بيده.
وهكذا كانت العلاقة بين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين زيد؛ لذلك آثره على أهله، وأحب البقاء في خدمته، فرأى رسول الله أن يُكافئ زيداً على إخلاصه له وتفضيله له على أهله، فقال: «لا تقولوا زيد بن حارثة، قولوا زيد بن محمد».
وكان التبني شائعاً في ذلك الوقت. فلما أراد الحق سبحانه أنْ يُحرِّم التبني، وأنْ يُحرِّم نسبة الولد إلى غير أبيه بدأ برسول
والشاهد هنا: ﴿هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله﴾ [الأحزاب: ٥]
فكأن الحكم الذي أنهى التبني، وأعاد زيداً إلى زيد بن حارثة هو الأقسط والأعدل، إذن: حكم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن جَوْراً، بل كان قِسْطاً وعدلاً، لكنه قسط بشري يَفْضُله ما كان من عند الحق سبحانه وتعالى.
وهكذا عاد زيد إلى نسبة الأصلي، وأصبح الناس يقولون «زيد ابن حارثة»، فحزن لذلك زيد، لأنه حُرِم من شرف الانتساب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعوَّضه الله تعالى عن ذلك وساماً لم يَنَلْه صحابي غيره، هذا الوسام هو أن ذُكِر اسمه في القرآن الكريم، وجعل الناس يتلونه، ويتعبدون به في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا..﴾ [الأحزاب: ٣٧]
إذن: عمل الرسول قسط، وعمل الله أقسط.
قوله تعالى: ﴿يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ..﴾ [الإسراء: ٩]
لأن المتتبع للمنهج القرآني يجده يُقدّم لنا الأقوم والأعدل والأوسط في كل شيء.
في العقائد، وفي الأحكام، وفي القصص.
ففي العقائد مثلاً، جاء الإسلام ليجابه مجتمعاً متناقضاً بين مَنْ ينكر وجود إله في الكون، وبين مَنْ يقول بتعدُّد الآلهة، فجاء الإسلام وَسَطاً بين الطرفين، جاء بالأقوم في هذه المسألة، جاء ليقول بإله واحد لا شريك له.
وبهذا المنهج الحكيم خرجنا مما وقع فيه المشبِّهة الذين شبّهوا صفات الله بصفات البشر، وخرجنا مما وقع فيه المعطّلة الذين أنكروا أن يكون لله تعالى هذه الصفات وأوّلوها على غير حقيقتها.
وكذلك في الخلق الاجتماعي العام، يلفتنا المنهج القرآني في قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف: ١٠٥] يلفتنا إلى ما في الكون من عجائب نغفل عنها، ونُعرِض عن تدبُّرها والانتفاع بها، ولو نظرنا إلى هذه الآيات بعين المتأمل لوجدنا فيها منافع شتى منها: أنها تُذّكرنا بعظمة الخالق سبحانه، ثم هي بعد ذلك ستفتح لنا الباب الذي يُثري حياتنا، ويُوفّر لنا ترف الحياة ومتعتها.
فالحق سبحانه أعطانا مُقوّمات الحياة، وضمن لنا برحمته ضروريات البقاء، فمَنْ أراد الكماليات فعليه أنْ يُعمِل عقله فيما أعطاه الله ليصل إلى ما يريد.
والأمثلة كثيرة على مشاهدات متأملة في ظواهر الكون، اهتدى بها أصحاب إلى اكتشافات واختراعات خدمت البشرية، وسَهَّلَتْ عليها كثيراً من المعاناة.
فالذي اخترع العجلة في نقل الأثقال بنى فكرتها على ثِقل وجده
والذي أدخل العالم عصر البخار استنبط فكرة البخار، وأنه يمكن أن يكون قوةً مُحرِّكة عندما شاهد القِدْر وهو يغلي، ولاحظ أن غطاءه يرتفع إلى أعلى، فاهتدى إلى استخدام البخار في تسيير القطارات والعربات.
والعالِم الذي اكتشف دواء «البنسلين» اهتدى إليه عندما شاهد طبقة خضراء نسميها «الريم» تتكون في أماكن استخدام الماء، وكان يشتكي عينه، فعندما وصلت هذه المادة إلى عينه ربما مصادفة، لاحظ أن عينه قد برئت، فبحث في هذه المسألة حتى توصّل إلى هذا الدواء.
إلى غير ذلك من الآيات والعجائب في كون الله، التي يغفل عنها الخَلْق، ويمرُّون عليها وهم معرضون.
أما هؤلاء العلماء الذين أثروا حياة البشرية بنظرتهم الثاقبة، فقد استخدموا عقولهم في المادة التي خلقها الله، ولم يأتوا بشيء من عند أنفسهم؛ لأن الحق سبحانه حينما استخلف الإنسان في الأرض أعدَّ له كُلَّ متطلبات حياته، وضمن له في الكون جنوداً إن أعمل عقله وطاقته يستطيع أن يستفيد منها، وبعد ذلك طلب منه أن يعمر الأرض:
﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا﴾ [هود: ٦١]
والاستعمار أنْ تجعلها عامرة، وهذا الإعمار يحتاج إلى مجهود، وإلى مواهب متعددة تتكاتف، فلا تستقيم الأمور إنْ كان هذا يبني
ولا يضمن لنا هذا التنظيم إلا منهج من السماء ينزل بالتي هي أقوم، وأحكم، وأعدل، كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان﴾ [الشورى: ١٧]
وإنْ كان الحق سبحانه وتعالى قد دعانا إلى النظر في ظواهر الكون، والتدبُّر في آيات الله في كونه، والبحث فيها لنصل إلى أسرار ما غُيّب عنا، فإنه سبحانه نهانا أن نفعل هذا مع بعضنا البعض، فقد حرَّم علينا التجسُّس وتتبُّع العورات، والبحث في أسرار الآخرين وغَيْبهم.
وفي هذا الأدب الإلهي رحمة بالخلق جميعاً؛ لأن الله تعالى يريد أن يُثري حياة الناس في الكون، وهَبْ أن إنساناً له حسنات كثيرة، وعنده مواهب متعددة، ولكن له سيئة واحدة لا يستطيع التخلّي عنها، فلو تتبعتَ هذه السيئة الواحد فربما أزهدتْك في كل حسناته، حرمتْك الانتفاع به، والاستفادة من مواهبه، أما لو تغاضيت عن هذه السيئة فيه لأمكنك الانتفاع به.
وهَبْ أن صانعاً بارعاً في صنعته وقد احتجْتَه ليؤديَ لك عملاً، فإذا عرفت عنه ارتكاب معصية ما، أو اشتهر عنه سيئة ما لأزهدك هذا في صَنْعته ومهارته، ولرغبت عنه إلى غيره، وإنْ كان أقلّ منه مهارة.
وهذا قانون عام للحق سبحانه وتعالى، فالذي نهاك عن تتبُّع
إذن: فالحق تبارك وتعالى يدعونا إلى أن نكون طُلَعة في استنباط أسرار الكون والبحث عن غيبه، وفي الوقت نفسه ينهانا أن نكون طُلَعة في تتبّع أسرار الناس والبحث عن غيبهم؛ لأنك إنْ تتبعتَ غيب الناس والتمسْتَ عيوبهم حرمْتَ نفسك من مصادر يمكن أنْ تنتفع بها.
فالحق سبحانه يريد في الكون حركة متبادلة، وهذه الحركة المتبادلة لا تنشأ إلا بوجود نوع من التنافس الشريف البنّاء، التنافس الذي يُثري الحياة، ولا يثير شراسة الاحتكاك، كما قال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون..﴾ [المطففين: ٢٦]
كما يتنافس طالب العلم مع زميله المجدّ ليكون مِثْله أو أفضل منه، وكأن الحق سبحانه يعطينا حافزاً للعمل والرُّقي، فالتنافس المقصود ليس تنافس الغِلِّ والحقد والكراهية، بل تنافس مَنْ يحب للناس ما يحب لنفسه، تنافس مَنْ لا يشمت لفشل الآخرين.
وقد يجد الإنسان هذا الحافز للمنافسة حتى في عدوه، ونحن
وهو مع ذلك لو استغل حكمة الله في إيجاد هذا العدو لا تنفع به انتفاعاً لا يجده في الصديق، لأن صديقك قد يُنافقك أو يُداهنك أو يخدعك.
أما عدوك فهو لك بالمرصاد، يتتبع سقطاتك، ويبحث عن عيوبك، وينتظر منك كَبْوة ليذيعها ويُسمّع بك، فيحملك هذا من عدوك على الاستقامة والبعد عما يشين.
ومن ناحية أخرى تخاف أن يسبقك إلى الخير، فتجتهد أنت في الخير حتى لا يسبقك إليه.
وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا المعنى:
فَقَسَا لِيزْدَجِرُوا وَمَنْ يَكُ حَازِماً | فَلْيَقْسُ أَحْيَاناً على مَنْ يَرْحَمُ |
عِدَايَ لَهُمْ فَضْلٌ عليَّ ومِنَّةٌ | فَلاَ أبعَدَ الرحْمَنُ عَنّي الأعَادِياَ |
هُمُو بحثُوا عَنْ زَلّتي فَاجْتنبْتُها | وهُمْ نَافَسُوني فاكْتَسبْتُ المعَالِيا |
أيضاً لكي يعيش المجتمع آمناً سالماً لا بُدّ له من قانون يحفظ توازنه، قانون يحمي الضعيف من بطش القوي، فجاء منهج الله تعالى لِيُقنّن لكل جريمة عقوبتها، ويضمن لصاحب الحق حَقّه، وبعد ذلك ترك الباب مفتوحاً للعفو والتسامح بين الناس.
وكأن الحق تبارك وتعالى يقول لنا: أنا أحمي الضعيف من قوتك الآن، لأحمي ضعفك من قوة غيرك غداً.
أليس في هذا كله ما هو أقوم؟
ونقف على جانب آخر من جوانب هذه القوامة لمنهج الله في مجال الإنفاق، وتصرُّف المرء في ماله، والمتأمل في هذا المنهج الأقوم يجده يختار لنا طريقاً وسطاً قاصداً لا تبذيرَ فيه ولا تقتير.
ولاشك أن الإنسان بطبعه يُحب أن يُثري حياته، وأن يرتقي بها، ويتمتع بترفها، ولا يُتاح له ذلك إنْ كان مُبذّراً لا يُبقي من دخله على شيء، بل لا بُدّ له من الاعتدال في الإنفاق حتى يجد في جعبته ما يمكنه أن يُثري حياته ويرتقي بها ويُوفّر لأسرته كماليات الحياة، فضلاً عن ضرورياتها.
جاء هذا المنهج الأقوم في قول الحق تبارك وتعالى: ﴿والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ [الفرقان: ٦٧]
وفي قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً﴾ [الإسراء: ٢٩]
وكما نهى الإسلام عن التبذير نهى أيضاً عن البُخْل والإمساك؛ لأن البُخْل مذموم، والبخيل مكروه من أهله وأولاده، كما أن البُخْل سبب من أسباب الركود والبطالة والكساد التي تصيب المجتمع، فالممسك لا يتعامل مع المجتمع في حركة البيع والشراء، فيسهم ببُخْله في تفاقم هذه المشاكل، ويكون عنصراً خاملاً يَشْقى به مجتمعه.
إذنْ: فالتبذير والإمساك كلاهما طرف مذموم، والخير في أوسط الأمور، وهذا هو الأقوم الذي ارتضاته لنا المنهج الإلهي.
وكذلك في مجال المأكل والمشرب، يرسم لنا الطريق المعتدل الذي يحفظ للمرء سلامته وصحته، ويحميه من أمراض الطعام والتُّخْمة، قال تعالى: ﴿وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين﴾ [الأعراف: ٣١]
فقد علَّمنا الإسلام أن الإنسان إذا أكل وشرب على قَدْر طاقة الوقود الذي يحتاجه جسمه لا يشتكي ما يشتكيه أصحاب الإسراف في المأكل والمشرب.
والمتأمل في حال هؤلاء الذين يأكلون كلّ مَا لَذَّل وطاب، ولا يَحْرمون أنفسهم مما تشتهيه، حتى وإن كان ضاراً، نرى هؤلاء عند كِبَرهم وتقدُّم السِّنِّ بهم يُحْرمون بأمر الطبيب من تناول هذه
لأنك أكلتها وأسرفتَ فيها في بداية الأمر، فلا بُدَّ أنْ تُحرَم منها الآن.
وصدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال: «كُلُوا واشربوا وتصدقوا، والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة»
وأيضاً من أسباب السلامة التي رسمها لنا المنهج القرآني، ألاَّ يأكل الإنسان إلا على جوع، فالطعام على الطعام يرهق المعدة، ويجرُّ على صاحبه العطب والأمراض، ونلاحظ أن الإنسان يجد لذة الطعام وحلاوته إذا أكل بعد جوع، فمع الجوع يستطيب كل شيء ولو كان الخبز الجاف.
وهكذا نجد المنهج الإلهي يرسم لنا الطريق الأقوم الذي يضمن لنا سلامة الحياة واستقامتها، فلو تدبرْتَ هذا المنهج لوجدته في أيِّ جانب من جوانب الحياة هو الأقوم والأنسب.
في العقائد، في العبادات، في الأخلاق الاجتماعية العامة، في العادات والمعاملات، إنه منهج ينتظم الحياة كلها، كما قال الحق سبحانه: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨]
هذا المنهج الإلهي هو أَقْوم المناهج وأصلحها؛ لأنه منهج الخالق سبحانه الذي يعلم مَنْ خلق، ويعلم مَا يصلحهم، كما قلنا سابقاً:
فإذا ما استعملْتَ الآلة حَسبْ قانون صانعها أدَّتْ مهمتها بدقة، وسلَمتْ من الأعطال، فالذي خلق الإنسان أعلم بقانون صيانته، فيقول له: افعل كذا ولا تفعل كذا:
﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ [الملك: ١٤]
فآفة الناس في الدنيا أنهم وهم صَنْعة الحق سبحانه يتركون قانونه، ويأخذون قانون صيانتهم من أمثالهم، وهي قوانين وضعية قاصرة لا تسمو بحال من الأحوال إلى قانون الحق سبحانه، بل لا وَجْهَ للمقارنة بينهما. إذن: لا تستقيم الحياة إلا بمنهج الله عَزَّ وَجَلَّ.
ثم يقول تعالى: ﴿وَيُبَشِّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾ [الإسراء: ٩]
فالمنفذ لهذا المنهج الإلهي يتمتع باستقامة الحياة وسلامتها، وينعم بالأمن الإيماني، وهذه نعمة في الدنيا، وإن كانت وحدها لكانت كافية، لكن الحق سبحانه وتعالى يُبشِّرنا بما هو أعظم منها، وبما ينتظرنا من نعيم الآخرة وجزائها، فجمع لنا ربنا تبارك وتعالى نَعيمَيْ الدنيا والآخرة.
نعيم الدنيا لأنك سِرْتَ فيها على منهج معتدل ونظام دقيق، يضمن لك فيها الاستقامة والسلام والتعايش الآمن مع الخَلْق.
ومن ذلك قول الحق سبحانه: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٣٨]
ويقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧]
وفي الجانب المقابل يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى﴾ [طه: ١٢٤ - ١٢٦]
فكما أن الحق تبارك وتعالى جمع لعباده الصالحين السائرين على منهجه خيري الدنيا والآخرة، ففي المقابل جمع لأعدائه المعرضين عن منهجه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، لا ظُلْماً منه، فهو سبحانه مُنَزَّه عن الظلم والجَوْر، بل عَدْلاً وقِسطاً بما نَسُوا آيات الله وانصرفوا عنها.
ومعنى: ﴿يَعْمَلُونَ الصالحات﴾ [الإسراء: ٩]
وعمل الصالحات يكون بأن تزيد الصالح صلاحاً، أو على الأقل تبقي الصالح على صلاحه، ولا تتدخل فيه بما يُفسده.
وقوله: ﴿أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾ [الإسراء: ٩]
نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وصف الأجر بأنه كبير، ولم يَأْتِ
أما لو قال: أكبر فغيره كبير، إذن: فاختيار القرآن أبلغ وأحكم.
كما قلنا سابقاً: إن من أسماء الحق تبارك وتعالى (الكبير)، وليس من أسمائه أكبر، إنما هي وصف له سبحانه. ذلك لأن (الكبير) كل ما عداه صغير، أما (أكبر) فيقابلها كبير.
ومن هنا كان نداء الصلاة (الله أكبر) معناه أن الصلاة وفَرْض الله علينا أكبر من أي عمل دنيويّ، وهذا يعني أن من أعمال الدنيا ما هو كبير، كبير من حيث هو مُعين على الآخرة.
فعبادة الله تحتاج إلى طعام وشراب وإلى مَلْبس، والمتأمل في هذه القضية يجد أن حركة الحياة كلها تخدم عمل الآخرة، ومن هنا كان عمل الدنيا كبيراً، لكن فَرْض الله أكبر من كل كبير.
ولأهمية العمل الدنيوي في حياة المسلم يقول تعالى عن صلاة الجمعة: ﴿ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: ٩ - ١٠]
والمتأمل في هذه الآيات يجد الحق تبارك وتعالى أمرنا قبل الجمعة أن نترك البيع، واختار البيع دون غيره من الأعمال؛ لأنه الصفقة السريعة الربح، وهي أيضاً الصورة النهائية لمعظم الأعمال،
إذن: فالحق سبحانه حينما يأمرنا بترك البيع، فتَرْك غيره من الأعمال أَوْلَى.
فإن ما قُضِيَت الصلاة أمرنا بالعودة إلى العمل والسعي في مناكب الأرض، فأخرجنا للقائه سبحانه في بيته من عمل، وأمرنا بعد الصلاة بالعمل.
إذن: فالعمل وحركة الحياة (كبير)، ولكن نداء ربك (أكبر) من حركة الحياة؛ لأن نداء ربك هو الذي سيمنحك القوة والطاقة، ويعطيك الشحنة الإيمانية، فتُقبِل على عملك بهِمّة وإخلاص.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾.
ثم عطف عليه: ﴿وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة..﴾ [الإسراء: ١٠]
إذن: فالآية داخلة في البشارة السابقة، ولكن كيف ذلك، والبشارة السابقة تُبشّر المؤمنين بأن لهم أجراً كبيراً، والبشارة إخبار بخيْر يأتي في المستقبل، فكيف تكون البشارة بالعذاب؟
قالوا: نعم، هذه بشارة على سبيل التهكُّم والاستهزاء بهم، كما
وكما قال الحق سبحانه متهكماً: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩]
وكما تقول للولد الذي أهمل فأخفق في الامتحان: مبروك عليك الفشل، أو تقول: بشِّر فلاناً بالرسوب.
وقد تكون البشارة للمؤمن بالجنة، وللكافر بالعذاب، كلاهما بشارة للمؤمن، فبشارة المؤمن بالجنة تسرُّه وتُسعده، وتجعله يستشرف ما ينتظره من نعيم الله في الآخرة.
وبشارة الكافر بالعذاب تسُرُّ المؤمن؛ لأنه لم يقع في مصيدة الكفر، وتزجر مَنْ لم يقع فيه وتُخيفه، وهذا رحمة به وإحسان إليه.
وهذا المعنى واضح في قول الحق سبحانه في سورة الرحمن: ﴿رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٧ - ٢٥]
فهذه كلها نِعَم من نعَم الله تعالى علينا، فناسب أن تُذيَّل بقوله
أما قوله تعالى: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ٣٥ - ٣٦]
فأيُّ نعمة في أنْ يُرسل الله عليهما شواظ من نار ونحاس فلا ينتصران؟
نعم، المتأمل في هذه الآية يجد فيها نعمة من أعظم نِعَم الله، ألا وهي زَجْر العاصي عن المعصية، ومسرّة للطائع.
ثم يقول الحق سبحانه عن طبيعة الإنسان البشرية: ﴿وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً﴾.
وأهل النحو يقولون. إن الفعل: ماضٍ ومضارع وأمر. فالأمر: طَلَبٌ من الأعلى إلى الأدنى، فكلّ طلب من الله لخلْقه فهو أمر، أو من الأعلى من البشر للأدنى. أما إنْ كان الطلب من مُسَاوٍ لك فهو التماس أو رجاء. فإنْ كان الطلب من الأدنى للأعلى، كطلب العبد من ربه فهو دعاء.
لذلك نجد التدقيق في الإعراب يحفظ لله تعالى مكانته ويُعظّمه، فنقول للطالب: أعرب: رب اغفر لي، فيقول: اغفر، فِعْل دالّ على الدعاء، لأنه لا يجوز في حَقِّ الموْلَى تبارك وتعالى أن نقول: فعل أمر، فالله لا يأمره أحد.
(بِالشَّرِّ) بالمكروه، والإنسان لا يدعو على نفسه، أو على ولده، أو على ماله بالشر إلا في حالة الحنَق والغضب وضيق الأخلاق، الذي يُخرِج الإنسان عن طبيعته، ويُفقِده التمييز، فيتسرّع في الدعاء بالشر، ويتمنى أن يُنّفذ الله له مَا دعا به.
ومن رحمة الله تعالى بعباده ألاَّ يستجيب لهم هذا الدعاء الذي إنْ دلَّ فإنما يدل على حُمْق وغباء من العبد.
وكثيراً ما نسمع أماً تدعو على ولدها بما لو استجاب الله له لكانت قاصمة الظهر لها، أو نسمع أباً يدعو على ولده أو على ماله، إذن: فمن رحمة الله بنا أنْ يفوت لنا هذا الحمق، ولا يُنفّذ لنا ما تعجّلناه من دُعاءٍ بالشر. قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾ [يونس: ١١]
أي: لو استجاب الله لهم في دعائهم بالشر لكانت نهايتهم.
وإن كنت تُُسَرّ وتسعد بأن ربك سبحانه وتعالى فوّتَ لك دعوة بالشر فلم يَسْتجب لها، وأن لعدم استجابته سبحانه حكمةً بالغةً.
فاعلم أن لله حكمة أيضاً حينما لا يستجيب لك في دعوة الخير، فلا تقُلْ: دعوتُ فلم يستجِبْ لي، واعلم أن لله حكمة في أن يمنعك
إذن: عليك أن تقيسَ الأمريْن بمقياس واحد، وترضى بأمر الله في دعائك بالخير، كما رضيت بأمره حين صرف عنك دعاء الشر، ولم يستجب لك فيه. فكما أن له سبحانه حكمة في الأولى، فلَه حكمة في الثانية.
وقد دعا الكفار على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أنفسهم، فقالوا: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء..﴾ [الأنفال: ٣٢]
وقالوا: ﴿أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً..﴾ [الإسراء: ٩٢]
ولو استجاب الله لهم هذا الدعاء لَقَضى عليهم، وقطع دابرهم، لكن لله تعالى حكمة في تفويت هذا الدعاء لهؤلاء الحَمْقى، وها هم الكفار باقون حتى اليوم، وإلى أن تقوم الساعة.
وكان المنتظر منهم أن يقولوا: اللهم إنْ كان هذا هو الحقّ من عندك فاهْدنا إليه، لكن المسألة عندهم ليست مسألة كفر وإيمان، بل مسألة كراهية لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولما جاء به، بدليل أنهم قَبلوا الموت في سبيل الكفر وعدم الإيمان برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ومن طبيعة الإنسان العجلة والتسرُّع، كما قال تعالى: ﴿خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءاياتي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ﴾ [الأنبياء: ٣٧]
إذن: أنت لا تعلم وَجْه الخير على حقيقته، فدع الأمر لربك عَزَّ وَجَلَّ، واجعل حظك من دعائك لا أنْ تُجابَ إلى ما دعوت، ولكن أن تظهر ضراعة عبوديتك لِعزّة ربك سبحانه وتعالى.
ومعنى: ﴿دُعَآءَهُ بالخير..﴾ [الإسراء: ١١]
أي: أن الإنسان يدعو بالشر في إلحاح، وكأنه يدعو بخير.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً... ﴾.
ولذلك أراد الله تعالى أن يُنظِّر بالليل والنهار في جنس الإنسان
فالليل والنهار كجنس واحد لهما مهمة، أما من حيث النوع فلكل منهما مهمة خاصة به، وإياك أن تخلط بين هذه وهذه.
وتأمل قول الحق سبحانه: ﴿والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى﴾ [الليل: ١ - ٤]
فلا تجعل الليل ضِداً للنهار، ولا النهار ضداً لليل، وكذلك لا تجعل الذكورة ضِداً للأنوثة، ولا الأنوثة ضداً للذكورة.
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ..﴾ [الإسراء: ١٢]
جعلنا: بمعنى خلقنا، والليل والنهار هما المعروفان لنا بالمعايشة والمشاهدة، ومعرفتنا هذه أوضح من أنْ نعرِّفهما، فنقول مثلاً: الليل هو مَغِيب الشمس عن نصف الكرة الأرضية، والنهار هو شروق الشمس على نصف الكرة الأرضية.
إذن: قد يكون الشي أوضح من تعريفه.
والحق سبحانه خلق لنا الليل والنهار، وجعل لكل منهما حكمة ومهمة، وحينما يتحدّث عنهما، يقول تعالى: ﴿والضحى والليل إِذَا سجى﴾ [الضحى: ١ - ٢]
ويقول: ﴿والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى﴾ [الليل: ١ - ٢] فبدأ بالليل.
ومرة يتحدث عن اللازم لهما، فيقول: ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ [الأنعام: ١]
في حين نرى الكثيرين يظنون أن الأضواء المبهرة التي نراها الآن مظهر حضاري، وهم غافلون عن الحكمة من الليل، وهي ظلمته.
والنور للحركة والعمل والسَّعْي، فمَن ارتاح في الليل يُصبح نشيطاً للعمل، ولا يعمل الإنسان إلا إذا أخذ طاقة جديدة، وارتاحت أعضاؤه، ساعتها تستطيع أن تطلب منه أن يعمل.
لذلك قال الحق سبحانه: ﴿وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار..﴾ [القصص: ٧٣]
لماذا؟ ﴿لِتَسْكُنُواْ فِيهِ..﴾ [القصص: ٧٣]
أي: في الليل. ﴿وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ..﴾ [القصص: ٧٣] أي: في النهار.
إذن: لليل مهمة، وللنهار مهمة، وإياك أنْ تخلط هذه بهذه، وإذا ما وُجد عمل لا يُؤدِّي إلا بالليل كالحراسة مثلاً، نجد الحق
فيقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار..﴾ [الروم: ٢٣]
فجعل النهار أيضاً محلاً للنوم، فأعطانا فُسْحة ورُخْصة، ولكن في أضيق نطاق، فَمَنْ لا يقومون بأعمالهم إلا في الليل، وهي نسبة ضئيلة لا تخرق القاعدة العامة التي ارتضاها الحق سبحانه لتنظيم حركة حياتنا.
فإذا خرج الإنسان عن هذه القاعدة، وتمرَّد على هذا النظام الإلهي، فإن الحق سبحانه يَردعه بما يكبح جماحه، ويحميه من إسرافه على نفسه، وهذا من لُطْفه تعالى ورحمته بخَلْقه.
هذا الردْع إما رَدْع ذاتيّ اختياري، وإما رَدْع قَهْريّ الردع الذاتي يحدث للإنسان حينما يسعى في حركة الحياة ويعمل، فيحتاج إلى طاقة، هذه الطاقة تحتاج إلى دم متدفق يجري في أعضائه، فإنْ زادتْ الحركة عن طاقة الإنسان يلهث وتتلاحق أنفاسه، وتبدو عليه أمارات التعب والإرهاق، لأن الدم المتوارد إلى رئته لا يكفي هذه الحركة.
وهذا نلاحظه مثلاً في صعود السُّلَّم، حيث حركة الصعود مناقضة لجاذبية الأرض لك، فتحتاج إلى قوة أكثر، وإلى دم أكثر وتنفس فوق التنفس العادي.
فكأن الحق سبحانه وتعالى جعل التعب والميل إلى الراحة رادعاً ذاتياً في الإنسان، إذا ما تجاوز حَدّ الطاقة التي جعلها الله فيه.
فالحق تبارك وتعالى لا يُسلِم الإنسان لاختياره، بل يُلقي عليه النوم وفقدان الوعي والحركة ليحميه من حماقته وإسرافه على نفسه.
لذلك نرى الواحد مِنّا إذا ما تعرّض لمناسبة اضطرته لعدم النوم لمدة يومين مثلاً، لا بُدَّ له بعد أن ينتهي من مهمته هذه أنْ ينَام مثل هذه المدة التي سهرها؛ ليأخذ الجسم حَقَّه من الراحة التي حُرم منها.
وقوله تعالى: ﴿آيَتَيْنِ..﴾ [الإسراء: ١٢]
قلنا: إن الآية هي الشيء العجيب الذي يدعو إلى التأمل، ويُظهِر قدرة الخالق وعظمته سبحانه، والآية تُطلَق على ثلاثة أشياء:
تُطلَق على الآيات الكونية التي خلقها الله في كونه وأبدعها، وهذه الآيات الكونية يلتقي بها المؤمن والكافر، ومنها كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر﴾ [فصلت: ٣٧]
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام﴾ [الشورى: ٣٢]
وهذه الآيات تلفتنا إلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى.
وهذه هي المعجزة، وتكون مما نبغ فيه قومه ومهروا؛ لتكون أوضح في إعجازهم وأدْعَى إلى تصديقهم.
قال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون..﴾ [الإسراء: ٥٩]
وتُطلق الآيات على آيات القرآن الكريم الحاملة للأحكام.
إذن: هذه أنواع ثلاثة في كل منها عجائب تدعوك للتأمل، ففي الأولى: هندسة الكون ونظامه العجيب البديع الدقيق، وفي الثانية: آيات الإعجاز، حيث أتى بشيء نبغ فيه القوم، ومع ذلك لم يستطيعوا الإتيان بمثله، وفي الثالثة: آيات القرآن وحاملة الأحكام؛ لأنها أقوم نظام لحركة الحياة.
فقول الحق سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ..﴾ [الإسراء: ١٢]
أي: كونيتين، ولا مانع أنْ تفسر الآياتُ الكونية آيات القرآن.
وقوله: ﴿فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل..﴾ [الإسراء: ١٢]
أي: بعد أنْ كان الضوء غابت الشمس فَحَلَّ الظلام، أو مَحوْناهَا: أي جعلناها هكذا، كما قلنا: سبحان مَنْ بيَّض اللبن.
أي خلقه هكذا، فيكون المراد: خلق الليل هكذا مظلماً.
﴿وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً..﴾ [الإسراء: ١٢]
أي: خلقنا النهار مضيئاً، ومعنى مبصرة أو مضيئة أي: نرى بها الأشياء؛ لأن الأشياء لا تُرى في الظلام، فإذا حَلَّ الضياء والنور رأيناها، وعلى هذا كان ينبغي أن يقول: وجعلنا آية النهار مُبْصَراً فيها، وليست هي مبصرة.
وهذه كما في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون: ﴿فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً..﴾ [النمل: ١٣]
فنسب البصر إلى الآيات، كما نسب البصر هنا إلى النهار.
وهذه مسألة حيَّرتْ الباحثين في فلسفة الكون وظواهره، فكانوا يظنون أنك ترى الأشياء إذا انتقل الشعاع من عينك إلى المرئي فتراه. إلى أن جاء العالم الإسلامي «ابن الهيثم» الذي نَوَّر الله بصيرته، وهداه إلى سِرِّ رؤية الأشياء، فأوضح لهم ما وقعوا فيه من الخطأ، فلو أن الشعاع ينتقل من العين إلى المرئي لأمكنك أن ترى الأشياء في الظُّلمة إذا كنتَ في الضوء.
إذن: الشعاع لا يأتي من العين، بل من الشيء المرئي، ولذلك نرى الأشياء إنْ كانت في الضوء، ولا نراها إن كانت في الظلام.
وعليه يكون الشيء المرئيّ هو الذي يبصرك من حيث هو الذي يتضح لك، ويساعدك على رؤيته، ولذلك نقول: هذا شيء يُلفت النظر أي: يرسل إليك مَا يجعلك تلتفت إليه.
إذن: التعبير القرآني: ﴿وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً..﴾ [الإسراء: ١٢]
وهذه هي العلة الأولى لآية الليل والنهار.
أي: أن السعي وطلب الرزق لا يكون إلا في النهار؛ لذلك أتى طلب فضل الله ورزقه بعد آية النهار، ومعلوم أن الإنسان لا تكون له حركة نشاطية وإقبال على السَّعي والعمل إلا إذا كان مرتاحاً ولا تتوفر له الراحة إلا بنوم الليل.
وبهذا نجد في الآية الكريمة نفس الترتيب الوارد في قوله تعالى: ﴿وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ..﴾
[القصص: ٧٣]
فالترتيب في الآية يقتضي أن نقول: ﴿لِتَسْكُنُواْ فِيهِ..﴾ [القصص: ٧٣]
أي: في الليل، ﴿وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ..﴾ [القصص: ٧٣] أي: في النهار، وعمل النهار لا يتم إلا براحة الليل، فهما إذن متكاملان.
والحق سبحانه وتعالى جعل النهار مَحلاً للحركة وابتغاء فضل الله؛ لأن الحركة أمرٌ ماديّ وتفاعل ماديّ بين الإنسان ومادة الكون من حوله، كالفلاح وتفاعله مع أرضه، والعامل تفاعله مع آلته.
هذا التفاعل المادي لا يتم إلا في ضوء؛ لأن الظلمة تغطي الأشياء وتُعميها، وهذا يتناسب مع الليل حيث ينام الناس، أما في السعي والحركة فلا بُدَّ من ضوء أتبين به الفاعل والمنفعل له، ففي الظلمة قد تصطدم بما هو أقوى منك فيحطمك، أو بما هو أضعف منك فتحطمه.
لأن النور محلٌّ للحركة، ولا يمكن للإنسان أن يعمل إلا بعد راحة، والراحة لا تكون إلا في ظُلْمة الليل.
وقوله تعالى: ﴿وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب..﴾ [الإسراء: ١٢]
وهذه هي العِلَّة الأخرى لليل والنهار، حيث بمرورهما يتمّ حساب السنين.
وكلمة ﴿عَدَدَ﴾ تقتضي شيئاً له وحدات، ونريد أن نعرف كمية هذه الوحدات؛ لأن الشيء إنْ لم تكُنْ له كميات متكررة فهو واحد.
وقوله: ﴿السنين والحساب..﴾ [الإسراء: ١٢]
لأنها من لوازم حركتنا في الحياة، فعن طريق حساب الأيام نستطيع تحديد وقت الزراعات المختلفة، أو وقت سقوط المطر، أو هبوب الرياح. وفي العبادات نحدد بها أيام الحج، وشهر الصوم، ووقت الصلاة، ويوم الجمعة، هذه وغيرها من لوازم حياتنا لا نعرفها إلا بمرور الليل والنهار.
ولو تأملتَ عظمة الخالق سبحانه لوجدتَ القمر في الليل، والشمس في النهار، ولكل منهما مهمة في حساب الأيام والشهور والسنين، فالشمس لا تعرف بها إلا اليوم الذي أنت فيه، حيث يبدأ اليوم بشروقها وينتهي بغروبها، أما بالقمر فتستطيع حساب الأيام والشهور؛ لأن الخالق سبحانه جعل فيه علامة ذاتية يتم الحساب على
إذن: نستطيع أن نحدد اليوم بالشمس والشهور بالقمر، ومن هنا تثبت مواقيت العبادة بالليل دون النهار، فتثبت رؤية رمضان ليلاً أولاً، ثم يثبت نهاراً، فنقول: الليلة أول رمضان، لذلك قال تعالى: ﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب﴾ [يونس: ٥]
فقوله: ﴿وَقَدَّرَهُ..﴾ [يونس: ٥] أي: القمر؛ لأن به تتبين أوائل الشهور، وهو أدقّ نظام حسابي يُعتمد عليه حتى الآن عند علماء الفلك وعلماء البحار وغيرهم.
و ﴿مَنَازِلَ..﴾ [يونس: ٥] هي البروج الاثنى عشر للقمر التي أقسم الله بها في قوله تعالى: ﴿والسمآء ذَاتِ البروج واليوم الموعود وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ [البروج: ١ - ٣]
ولأن حياة الخَلْق لا تقوم إلا بحساب الزمن، فقد جعل الخالق سبحانه في كَوْنه ضوابط تضبط لنا الزمن، وهذه الضوابط لا تصلح لضبط الوقت إلا إذا كانت هي في نفسها منضبطة، فمثلاً أنت لا تستطيع أن تضبط مواعيدك على ساعتك إذا كانت غير منضبطة (تُقدّم أو تُأخّر).
لذلك يقول الخالق المبدع سبحانه عن ضوابط الوقت في كَوْنه:
أي: بحساب دقيق لا يختلّ، وطالما أن الخالق سبحانه خلقها بحساب فاجعلوها ضوابط لحساباتكم.
وقوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً..﴾ [الإسراء: ١٢]
معنى التفصيل أن تجعل بَيْناً بين شيئين، وتقول: فصلْتُ شيئاً عن شيء، فالحق سبحانه فصَّل لنا كل ما يحتاج إلى تفصيل، حتى لا يلتبس علينا الأمر في كل نواحي الحياة.
ومثال ذلك في الوضوء مثلاً يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق﴾ [المائدة: ٦]
فأطلق غَسْل الوجه؛ لأنه لا يختلف عليه أحد، وحدَّد الأيدي إلى المرافق، لأن الأيدي يُختلف في تحديدها، فاليد قد تكون إلى الرُّسْغ، أو إلى المرفق، أو إلى الكتف، لذلك حددها الله تعالى، لأنه سبحانه يريدها على شكل مخصوص.
وكذلك في قوله تعالى: ﴿وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين﴾ [المائدة: ٦]
فالرأس يناسبها المسْح لا الغَسْل، والرِّجْلاَن كاليد لا بُدَّ أنْ تُحَدَّد. فإذا لم يوجد الماء أو تعذَّر استعماله شرع لنا سبحانه التيمم، فقال تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ..﴾ [النساء: ٤٣]
نقول: ليس المقصود بالوضوء أو التيمم الطهارة أو النظافة، بل المراد الاستعداد للصلاة وإظهار الطاعة والانصياع لشرع الله تعالى، وإلا كيف تتم الطهارة أو النظافة بالتراب؟
هذا الاستعداد للصلاة هو الذي جعل سيدنا علي زين العابدين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَصْفرّ وجهه عند الوضوء، وعندما سُئِل عن ذلك قال: أتعلمون على مَنْ أنا مُقبل الآن؟
فللقاء الحق سبحانه وتعالى رهبة يجب أن يعمل لها المؤمن حساباً، وأنْ يستعدّ للصلاة بما شرعه له ربه سبحانه وتعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ... ﴾.
إذن: كانوا يتفاءلون باليمين، ويتشاءمون باليسار، وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب الفأل الحسن، ولا يحب التشاؤم؛ لأن الفَأْل الطيب يُنشّط أجهزة الجسم انبساطاً للحركة، أما التشاؤم فيدعو للتراجع والإحجام، ويقضي على الحركة والتفاعل في الكون.
والحق سبحانه هنا يُوضّح: لا تقوِّلوا الطائر ولا تتهموه، بل طائرك أي: عملك في عنقك يلازمك ولا ينفكّ عنك أبداً، ولا يُسأل عنه غيره، كما أنه لا يُسأل عن عمل الآخرين، كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى..﴾ [الإسراء: ١٥]
فلا تُلقي بتبعة أفعالك على الحيوان الذي لا ذنب له.
وقوله تعالى: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً﴾ [الإسراء: ١٣]
وهو كتاب أعماله الذي سجَّلتْه عليه الحفظة الكاتبون، والذي قال الله عنه: ﴿وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ [الكهف: ٤٩]
هذا الكتاب سيلقاه يوم القيامة منشوراً. أي: مفتوحاً مُعدَّاً للقراءة.
فهذا موقف لا مجالَ فيه للعناد أو المكابرة، ولا مجالَ فيه للجدال أو الإنكار، فإن حدث منه إنكار جعل الله عليه شاهداً من جوارحه، فيُنطقها الحق سبحانه بقدرته:
يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٢٤]
ويقول سبحانه: ﴿وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: ٢١]
وقد جعل الخالق سبحانه للإنسان سيطرةً على جوارحه في الدنيا، وجعلها خاضعة لإرادته لا تعصيه في خير أو شر، فبيده يضرب ويعتدي، وبيده يُنفق ويقيل عثرة المحتاج، وبرجْله يسعى إلى بيت الله أو يسعى إلى مجلس الخمر والفساد.
وجوارحه في كل هذا مُسخَّرة طائعة لا تتأبى عليه، حتى وإن كانت كارهة للفعل؛ لأنها منقادة لمراداتك، ففِعْلها لك ليس دليلاً على
وقد ضربنا مثلاً لذلك بقائد السرية، فأمره نافذ على جنوده، حتى وإن كان خطئاً، فإذا ما فقد هذا القائد السيطرة وأصبح الجنود أمام القائد الأعلى باحوا له بكل شيء.
كذلك في الدنيا جعل الله للإنسان إرادة على جوارحه، فلا تتخلف عنه أبداً، لكنها قد تفعل وهي كارهة وهي لاعنةٌ له، وهي مُبغِضة له ولِفعْله، فإذا كان
القيامة وانحلَّت من إرادته، وخرجتْ من سجن سيطرته، شهدتْ عليه بما كان منه. ﴿كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ [الإسراء: ١٤]
أي: كفانا أن تكون أنت قارئاً وشاهداً على نفسك.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ..﴾.
لأن الحق سبحانه لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، وهو سبحانه الغنيّ عن عباده، وبصفات كماله وضع منهج الهداية للإنسان الذي جعله خليفة له في أرضه، وقبل أنْ يخلقه أعدَّ له مُقوّمات الحياة
فصفات الكمال ثابتة له سبحانه قبل أن يخلق الخَلْق، إذن: فطاعتهم لن تزيده سبحانه شيئاً، كما أن معصيتهم لن تضره سبحانه في شيء.
وهنا قد يسأل سائل: فلماذا التكليفات إذن؟
نقول: إن التكليف من الله لعباده من أجلهم وفي صالحهم، لكي تستمر حركة حياتهم، وتتساند ولا تتعاند؛ لذلك جعل لنا الخالق سبحانه منهجاً نسير عليه، وهو منهج واجب التنفيذ لأنه من الله، من الخالق الذي يعلم من خلق، ويعلم ما يصلحهم ويُنظم حياتهم، فلو كان منهج بشر لبشر لكان لك أنْ تتأبّى عليه، أما منهج الله فلا ينبغي الخروج عليه.
لذلك نسمع في الأمثال الدارجة عند أهل الريف يقولون: الأصبع الذي يقطعه الشرع لا ينزف، والمعنى أن الشرع هو الذي أمر بذلك، فلا اعتراض عليه، ولو كان هذا بأمر البشر لقامت الدنيا ولم تقعُدْ.
ومن كماله سبحانه وغِنَاهُ عن الخَلْق يتحمل عنهم ما يصدر عنهم من أحكام أو تجنٍّ أو تقصير؛ ذلك لأن كل شيء عنده بمقدار، ولا يُقضى أمر في الأرض حتى يُقضى في السماء، فإذا كلَّفْتَ واحداً بقضاء مصلحة لك، فقصّر في قضائها، أو رفض، أو سعى فيها ولم يُوفّق نجدك غاضباً عليه حانقاً.
وهنا يتحمّل الخالق سبحانه عن عباده، ويُعفيهم من هذا الحرج،
ومن هنا يُعلّمنا الإسلام قبل أن نَعِد بعمل شيء لا بُدَّ أنْ نسبقه بقولنا: إنْ شاء الله لنحمي أنفسنا، ونخرج من دائرة الحرج أو الكذب إذا لم نستطع الوفاء، فأنا إذن في حماية المشيئة الإلهية إنْ وُفِّقْتُ فبها ونِعمت، وإن عجزت فإن الحق سبحانه لم يشأ، وأخرج أنا من أوسع الأبواب.
إذن: تشريعات الله تريد أن تحمي الناس من الناس، تريد أن تجتث أسباب الضِّغن على الآخر، إذا لم تقض حاجتك على يديه، وكأن الحق سبحانه يقول لك: تمهل فكل شيء وقته، ولا تظلم الناس، فإذا ما قضيتَ حاجتك فاعلم أن الذي كلَّفْته بها ما قضاها لك في الحقيقة، ولكن صادف سَعْيُه ميلادَ قضاء هذه الحاجة، فجاءت على يديه، فالخير في الحقيقة من الله، والناس أسباب لا غير.
وتتضح لنا هذه القضية أكثر من مجال الطب وعلاج المرضى، فالطبيب سبب، والشفاء من الله، وإذا أراد الله لأحد الأطباء التوفيق والقبول عند الناس جعل مجيئه على ميعاد الشفاء فيلتقيان.
ومن هنا نجد بعض الأطباء الواعين لحقيقة الأمر يعترفون بهذه الحقيقة، فيقول أحدهم: ليس لنا إلا في (الخضرة).
والخضرة معناها: الحالة الناجحة التي حان وقت شفائها.
وصدق الشاعر حين قال:
والاهتداء: يعني الالتزام بمنهج الله، والتزامك عائد عليك، وكذلك التزام الناس بمنهج الله عائد عليك أيضاً، وأنت المنتفع في كل الأحوال بهذا المنهج؛ لذلك حينما ترى شخصاً مستقيماً عليك أن تحمد الله، وأن تفرحَ باستقامته، وإياك أن تهزأ به أو تسخر منه؛ لأن استقامته ستعود بالخير عليك في حركة حياتك.
وفي المقابل يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا..﴾ [الإسراء: ١٥]
أي: تعود عليه عاقبةُ انصرافه عن منهج الله؛ لأن شرَّ الإنسان في عدم التزامه بمنهج الله يعود عليك ويعود على الناس من حوله، فيشقى هو بشرّه، ويشقى به المجتمع.
ومن العجب أن نرى بعض الحمقى إذا رأى مُنحرفاً أو سيء السلوك ينظر إليه نظرة بُغْض وكراهية، ويدعو الله عليه، وهو لا يدري أنه بهذا العمل يزيد الطين بلة، ويُوسِّع الخُرْق على الراقع كما يقولون.
فهذا المنحرف في حاجة لمَنْ يدعو الله له بالهداية، حتى تستريح أولاً من شرِّه، ثم لتتمتع بخير هدايته ثانياً. أما الدعاء عليه فسوف يزيد من شرِّه، ويزيد من شقاء المجتمع به.
ومن هذا المنطلق علَّمنا الإسلام أن مَنْ كانت لديه قضية علمية تعود بالخير، فعليه أنْ يُعديها إلى الناس؛ لأنك حينما تُعدّي الخير
لذلك حرّم الإسلام كَتْم العلم لما يُسبِّبه من أضرار على الشخص نفسه وعلى المجتمع.
يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة».
وكذلك من الكمال الذي يدعونا إليه المنهج الإلهي أن يُتقِن كل صاحب مهنة مهنته، وكل صاحب صَنْعة صَنْعته، فالإنسان في حركة حياته يُتقِن عملاً واحداً، لكن حاجاته في الحياة كثيرة ومتعددة.
فالخياط مثلاً الذي يخيط لنا الثياب لا يتقن غير هذه المهنة، وهو يحتاج في حياته إلى مِهَن وصناعات كثيرة، يحتاج إلى: الطبيب والمعلم والمهندس والحداد والنجار والفلاح.. الخ.
فلو أتقن عمله وأخلص فيه لَسخّر الله له مَنْ يتقن له حاجته، ولو رَغْماً عنه، أو عن غير قصد، أو حتى بالمصادفة.
إذن: من كمالك أن يكون الناس في كمال، فإنْ أتقنتَ عملك فأنت المستفيد حتى إنْ كان الناس من حولك أشراراً لا يتقنون شيئاً فسوف يُيسِّر الله لهم سبيل إتقان حاجتك، من حيث لا يريدون ولا يشعرون.
أي: لا يحمل أحدٌ ذنبَ أحدٍ، ولا يُؤاخَذ أحدٌ بجريرة غيره، وكلمة: ﴿تَزِرُ وَازِرَةٌ..﴾ [الإسراء: ١٥]
من الوزر: وهو الحِمْل الثقيل، ومنها كلمة الوزير: أي الذي يحمل الأعباء الثقيلة عن الرئيس، أو الملك أو الأمير.
فعدْلُ الله يقتضي أنْ يُحاسب الإنسان بعمله، وأنْ يُسأل عن نفسه، فلا يرمي أحد ذنبه على أحد، كما قال تعالى: ﴿لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً..﴾ [لقمان: ٣٣]
وحول هذه القضية تحدَّث كثير من المستشرقين الذين يبحثون في القرآن عن مأخذ، فوقفوا عند هذه الآية: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى..﴾ [الإسراء: ١٥]
وقالوا: كيف نُوفِّق بينها وبين قوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ..﴾ [العنكبوت: ١٣]
وقوله تعالى: ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل: ٢٥]
ونقول: التوفيق بين الآية الأولى والآيتين الأخيرتين هيِّن لو فهموا الفرق بين الوِزْر في الآية الأولى، والوِزْر في الآيتين الأخيرتين.
ففي الأولى وزر ذاتيٌّ خاص بالإنسان نفسه، حيث ضَلَّ هو في نفسه، فيجب أنْ يتحمّل وزْر ضلاله. أما في الآية الثانية فقد أضلَّ
ويُوضِّح لنا هذه القضية الحديث النبوي الشريف: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: ١٥]
العذاب: عقوبة على مخالفة، لكن قبل أنْ تُعاقبني عليها لا بُدَّ أن تُعلِّمني أن هذه مخالفة أو جريمة (وهي العمل الذي يكسر سلامة المجتمع)، فلا جريمة إلا بنصٍّ ينصُّ عليها ويُقنّنها، ويُحدِّد العقاب عليها، ثم بعد ذلك يجب الإعلام بها في الجرائد الرسمية لكي يطلع عليها الناس، وبذلك تُقام عليهم الحجة إنْ خالفوا أو تعرَّضوا لهذه العقوبة.
لذلك حتى في القانون الوضعي نقول: لا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنصٍّ، ولا نصَّ إلا بإعلام.
فإذا ما اتضحت هذه الأركان في أذهان الناس كان للعقوبة معنى، وقامت الحجة على المخالفين، أما أنْ نعاقب شخصاً على جريمة هو لا يعلم بها، فله أن يعترضَ عليك من منطلق هذه الآية.
أما أنْ يُجرَّم هذا العمل، ويُعلَن عنه في الصحف الرسمية، فلا
فكأن قول الله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: ١٥] يجمع هذه الأركان السابقة: الجريمة، والعقوبة، والنص، والإعلام، حيث أرسل الله الرسول يُعلِّم الناس منهج الحق سبحانه، ويُحدّد لهم ما جرمه الشرع والعقوبة عليه.
لذلك يقول تعالى في آية أخرى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤]
ويقول: ﴿يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مِّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ..﴾ [المائدة: ١٩]
إذن: قد انقطعت حجتكم برسالة محمد البشير النذير صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقد وقف العلماء أمام هذه القضية فقالوا: إن كانت الحجة قد قامت على مَن آمن برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فما بال الكافر الذي لم يؤمن ولم يعلم منهج الله؟ وكأنهم يلتمسون له العذر بكفره.
نقول: لقد عرف الإنسان ربه عَزَّ وَجَلَّ أولاً بعقله، وبما ركّبه فيه خالقه سبحانه من ميزان إيماني هو الفطرة، هذه الفطرة هي المسئولة عن الإيمان بقوة قاهرة وراء الوجود، وإنْ لم يأتِ رسول، والأمثلة كثيرة لتوضيح هذه القضية:
هَبْ أنك قد انقطعتْ بك السُّبل في صحراء واسعة شاسعة لا تجد
بالله أَلاَ تفكِّر في أمرها قبل أن تمتدّ يدُك إليها؟ ألاَ تلفت انتباهك وتثير تساؤلاتك عَمَّنْ أتى بها إليك؟
وهكذا الإنسان بعقله وفطرته لا بُدَّ أنْ يهتديَ إلى أن للكون خالقاً مُبْدِعاً، ولا يمكن أن يكون هذا النظام العجيب المتقن وليدَ المصادفة، وهل عرف آدم ربه بغير هذه الأدوات التي خلقها الله فينا؟
لقد جئنا إلى الحياة فوجدنا عالماً مستوفياً للمقوِّمات والإمكانيات، وجدنا أمام أعيننا آياتٍ كثيرة دالّة على الخالق سبحانه، كل منها خيط لو تتبعته لأوصلك. خذ مثلاً الشمس التي تنير الكون على بُعْدها تطلع في الصباح وتغرب في المساء، ما تخلَّفتْ يوماً، ولا تأخرت لحظة عن موعدها، أَلاَ تسترعي هذه الآية الكونية انتباهك؟
وقد سبق أنْ ضربنا مثلاً ب «أديسون» الذي اكتشف الكهرباء، وكم أخذ من الاهتمام والدراسة في حين أن الإضاءة بالكهرباء تحتاج إلى أدوات وأجهزة وأموال، وهي عُرْضة للأعطال ومصدر للأخطار، فما بالنا نغفل عن آية الإضاءة الربانية التي لا تحتاج إلى مجهود أو أموال أو صيانة أو خلافه؟
والعربي القُحُّ الذي ما عرف غير الصحراء حينما رأى بَعْر البعير وآثار الأقدام استدلَّ بالأثر على صاحبه، فقال في بساطة العرب: البَعْرة تدلّ على البعير، والقدم تدلّ على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟
وحينما يأتي رسول من عند الله يساعده في الوصول إلى ما يبحث عنه، ويدلّه على ربه وخالقه، وأن هذه القوة الخفية التي حيَّرتْك هي (الله) خالقك وخالق الكون كله بما فيه ومَن فيه.
وهو سبحانه واحد لا شريك له، شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو ولم يعارضه أحد ولم يَدَّعِ أحد أنه إله مع الله، وبذلك سَلِمَتْ له سبحانه هذه الدعوى؛ لأن صاحب الدعوة حين يدَّعيها تسلم له إذا لم يوجد معارض لها.
وهذه الفطرة الإيمانية في الإنسان هي التي عنَاهَا الحق سبحانه في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى..﴾ [الأعراف: ١٧٢]
وهذا هو العَهْد الإلهي الذي أخذه الله على خَلْقه وهم في مرحلة الذَّرِّ، حيث كانوا جميعاً في آدم عليه السلام فالأنْسَال كلها تعود إليه، وفي كل إنسان إلى يوم القيامة ذرة من آدم، هذه الذرة هي التي شهدتْ هذا العهد، وأقرَّتْ أنه لا إله إلا الله، ثم ذابتْ هذه الشهادة في فطرة كل إنسان؛ لذلك نسميها الفطرة الإيمانية.
ونقول للكافر الذي أهمل فطرته الإيمانية وغفل عنها، وهي تدعوه
والعجيب أن ينصرف الإنسان العاقل عن ربه وخالقه في حين أن الكون كله من حوله بكل ذراته يُسبِّح بحمد ربّه، فذراتُ الكون وذراتُ التكوين في المؤمن وفي الكافر تُسبِّح بحمد ربها، كما قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..﴾ [الإسراء: ٤٤] فكيف بك يا سيد الكون تغفل عن الله والذرات فيك مُسبّحة، فإن كانت ذرات المؤمن حدث بينه وبين ذرات تكوينه انسجام واتفاق، وتجاوب تسبيحه مع تسبيح ذراته وأعضائه وتوافقت إرادته الإيمانية مع إيمان ذراته، فترى المؤمن مُنْسجماً مع نفسه مع تكوينه المادي.
ويظهر هذا الانسجام بين إرادة الإنسان وبين ذرّاته وأعضائه في ظاهرة النوم، فالمؤمن ذرّاته وأعضائه راضية عنه تُحبه وتُحب البقاء معه لا تفارقه؛ لأن إرادته في طاعة الله، فترى المؤمن لا ينام كثيراً مجرد أن تغفل عينه ساعةً من ليل أو نهار تكفيه ذلك؛ لأن أعضاءه في انسجام مع إرادته، وهؤلاء الذين قال الله فيهم: ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ..﴾ [الذاريات: ١٧]
وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تنام عينه ولا ينام قلبه، لأنه في انسجام تام مع إرادته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
على خلاف الكافر، فذراته مؤمنة وإرادته كافرة، فلا انسجام ولا توافق بين الإرادة والتكوين المادي له، لذا ترى طبيعته قلقة، ليس هناك تصالح بينه وبين ذراته، لأنها تبغضه وتلعنه، وتود مفارقته.
ولولا أن الخالق سبحانه جعلها مُنْقادةً له لما طاوعتْه، وإنها لتنتظر يوم القيامة يوم أنْ تفكّ من إرادته، وتخرج من سجنه، لتنطق بلسان مُبين، وتشهد عليه بما اقترف في الدنيا من كفر وجحود؛ لذلك ترى الكافر ينام كثيراً، وكأن أعضاءه تريد أن ترتاح من شره.
ولا بُدّ أن نعلم أن ذرات الكون وذرات الإنسان في تسبيحها للخالق سبحانه، أنه تسبيح فوق مدارك البشر؛ لذلك قال تعالى: ﴿ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..﴾ [الإسراء: ٤٤]
فلا يفقهه ولا يفهمه إلا مَنْ منحه الله القدرة على هذا، كما منح هذه الميزة لداود عليه السلام فقال: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٩]
وهنا قد يقول قائل: ما الميزة هنا، والجبال والطير تُسبّح الله بدون داود؟
والميزة هنا لداود عليه السلام أن الله تعالى أسمعه تسبيح الجبال وتسبيح الطير، وجعلها تتجاوب معه في تسبيحه وكأنه (
أي: رَجِّعي معه وردِّدي التسبيح.
ومن ذلك أيضاً ما وهبه الله تعالى لنبيه سليمان عليه السلام من معرفة منطق الطير أي لغته، فكان يسمع النملة وهي تخاطب بني جنسها ويفهم ما تريد، وهذا فضل من الله يهبه لمَنْ يشاء من عباده، لذلك لما فهم سليمان عليه السلام لغة النملة، وفهم ما تريده من تحذير غيرها تبسم ضاحكاً: ﴿وَقَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ..﴾ [النمل: ١٩]
إذن: لكل مخلوق من مخلوقات الله لغة ومنطق، لا يعلمها ولا يفهمها إلا مَنْ يُيسِّر الله له هذا العلم وهذا الفهم.
وحينما نقرأ عن هذه القضية نجد بعض كُتَّاب السيرة مثلاً يقولون: سبَّح الحصى في يد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نقول لهم: تعبيركم هذا غير دقيق، لأن الحصى يُسبِّح في يده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما يُسبِّح في يد أبي جهل، لكن الميزة أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سمع تسبيح الحصى في يده، وهذه من معجزاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فكل ما يُطلق عليه شيء مهما قَلَّ فهو هالك، والهلاك ضد الحياة؛ لأن الله تعالى قال: ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ..﴾ [الأنفال: ٤٢] فدلَّ على أن له حياة تُناسبه.
ونعود إلى قوله الحق سبحانه: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: ١٥]
فإن اهتدى الإنسان بفطرته إلى وجود الخالق سبحانه، فمن الذي يُعْلِمه بمرادات الخالق سبحانه منه، إذن: لا بُدَّ من رسول يُبلِّغ عن الله، ويُنبِّه الفطرة الغافلة عن وجوده تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾.
ولو كان هذا المنهج من عند البشر لكان هناك عُذْر لمَنْ خرج عنه، ولذلك يقولون: «من يأكل لقمتي يسمع كلمتي».
كما أن هذا المنعم سبحانه لم يفاجئك بالتكليف، بل كلفك في وقَت مناسب، في وقت استوت فيه ملكاتُكَ وقدراتُكَ، وأصبحتَ بالغاً صالحاً لحمل هذا التكليف، فتركك خمسة عشر عاماً تربع في نعمه وتتمتع بخيره، فكان الأَوْلَى بك أن تستمع إلى منهج ربك، وتُنفِّذه أمراً ونهياً؛ لأنه سبحانه أوجدك من دم وأمدَّك من عُدم.
والمتأمل في قضية التكليف يرى أن الحق سبحانه أمر بعضنا أن يُكلِّف بعضاً، كما قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا..﴾ [طه: ١٣٢]
وقد شرح لنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه القضية فقال: «مُرُوا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر».
وهذا التكليف وإنْ كان في ظاهره من الأهل لأولادهم، إلا أنه في حقيقته من الله تعالى فهو الآمر للجميع، ولكن أراد الحق سبحانه أن يكون التكليف الأول في هذه السن من القريب المباشر المحسّ أمام الطفل، فأبوه هو صاحب النعمة المحسّة حيث يوفر لولده الطعام والشراب، وكل متطلبات حياته، فإذا ما كلفه أبوه كان أَدْعَى إلى الانصياع والطاعة؛ لأن الولد في هذه السن المبكرة لا تتسع مداركه لمعرفة المنعم الحقيقي، وهو الله تعالى.
أما إن أخذتَ نِعم الله وانصرفتَ عن منهجه فطغيْتَ بالنعمة وبغيتَ فانتظر الانتقام، انتظر أَخْذه سبحانه وسنته التي لا تتخلف ولا تُردُّ عن القوم الظالمين في الدنيا قبل الآخرة.
واعلم أن هذا الانتقام ضروري لحفظ سلامة الحياة، فالناس إذا رأوا الظالمين والعاصين والمتكبرين يرتعُونَ في نعَم الله في أمن وسلامة، فسوف يُغريهم هذا بأن يكونوا مثلهم، وأنْ يتخذوهم قدوة ومثلاً، فيهم الفساد والظلم وينهار المجتمع من أساسه.
أما إنْ رَأوْا انتقام الحق سبحانه من هؤلاء، وشاهدوهم أذلاّء منكسِرينَ، فسوف يأخذون منهم عبرة وعظة، والعاقل مَنِ اعتبر بغيره، واستفاد من تجارب الآخرين.
فالانتقام من الله تعالى لحكمة أرادها سبحانه وتعالى، وكم رأينا من أشخاص وبلاد حاقَ بهم سوء أعمالهم حتى أصبحوا عِبرةً ومُثْلة ومَنْ لم يعتبر كان عبرة حتى لمَنْ لم يؤمن، وبذلك تعتدل حركة الحياة، حيث يشاهد الجميع ما نزل بالمفسدين من خراب ودمار، وإذا استقرأت البلاد في نواحي العالم المختلفة لتيسَّر لك الوقوف على هذه السُّنة الإلهية في بلاد بعينها، ولاستطعْتَ أن تعزو ما حدث لها إلى أسباب واضحة من الخروج عن منهج الحق سبحانه.
وإياك أن تظن أن الحق سبحانه يمكن أن يهمل الفسقة والخارجين عن منهجه، فلابد أن يأتي اليوم الذي يأخذهم فيه أخْذَ عزيز مُقْتدر، وإلاَّ لكانت أُسْوة سيئة تدعو إلى الإفساد في حركة الحياة.
قال تعالى: ﴿وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾ [الإسراء: ١٦]
الآفة أن الذين يستقبلون نصَّ القرآن يفهمون خطأ أن ﴿فَفَسَقُواْ﴾ مترتبة على الأمر الذي قبلها، فيكون المعنى أن الله تعالى هو الذي أمرهم بالفسق، وهذا فهم غريب لمعنى الآية الكريمة، وهذا الأمر صادر من الحق سبحانه إلى المؤمنين، فتعالوا نَرَ أوامر الله في القرآن: ﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين..﴾ [البينة: ٥]
﴿أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة..﴾ [النمل: ٩١]
﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين﴾ [يونس: ٧٢]
فأمْر الله تعالى لا يكون إلا بطاعة وخير، ولا يأمر سبحانه بفسق أو فحشاء، كما ذكر القرآن الكريم، وعلى هذا يكون المراد من الآية: أمرنا مترفيها بطاعتنا وبمنهجنا، ولكنهم خالفوا وعَصَوْا وفسقوا؛ لذلك حَقَّ عليهم العذاب.
قوله: ﴿وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً..﴾ [الإسراء: ١٦]
من الخطأ أن نفهم المعنى على أن الله أراد أولاً هلاكهم ففسقوا؛ لأن الفهم المستقيم للآية أنهم فسقوا فأراد الله إهلاكهم. و ﴿قَرْيَةً﴾ أي أهل القرية.
وقوله: ﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا القول..﴾ [الإسراء: ١٦]
أي: وجب لها العذاب، كما قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا..﴾ [يونس: ٣٣]
وقد أوجب الله لها العذاب لتسلَم حركة الحياة، وليحمي المؤمنين من أذى الذين لا يؤمنون بالآخرة.
وقوله تعالى: ﴿فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً..﴾ [الإسراء: ١٦]
أي: خربناها، وجعلناها أثراً بعد عَيْن، وليستْ هذه هي الأولى، بل إذا استقرأتَ التاريخ خاصة تاريخ الكفرة والمعاندين فسوف تجد قرى كثيرة أهلكها الله ولم يبقى منها إلا آثاراً شاخصة شاهدة عليهم، كما قال تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً﴾.
وقوله: ﴿مِن بَعْدِ نُوحٍ..﴾ [الإسراء: ١٧]
دَلَّ على أن هذا الأخذ وهذا العذاب لم يحدث فيما قبل نوح؛ لأن الناس كانوا قريبي عَهْد بخَلْق الله لآدم عليه السلام كما أنه كان يلقنهم معرفة الله وما يضمن لهم سلامة الحياة، أما بعد نوح فقد ظهر الفساد والكفر والجحود، فنزل بهم العذاب. الذي لم يسبق له مثيل.
قال تعالى: ﴿والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ والشفع والوتر واليل إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد﴾ [الفجر: ١ - ١٤]
ولنا وَقْفة سريعة مع هذه الآيات من سورة الفجر، فقد خاطب الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ [الفجر: ٦]
و ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ بمعنى: ألم تعلم؛ لأن النبي لم ير ما فعله الله بعاد، فلماذا عدل السياق القرآني عن: تعلم إلى تَرَ؟
حيث وُلِد رسول الله في عام الفيل، ولم يكن رأى شيئاً.
وفي آيات سورة (الفجر) ما يدلُّنا على أن حضارة عاد التي لا نكاد نعرف عنها شيئاً كانت أعظمَ من حضارة الفراعنة التي لفتتْ أنظار العالم كله؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى قال عن عاد: ﴿التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد﴾ [الفجر: ٨]
أي: لا مثيلَ لها في كل حضارات العالم، في حين قال عن حضارة الفراعنة: ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد﴾ [الفجر: ١٠] مجرد هذا الوصف فقط. وقوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون..﴾ [الإسراء: ١٧]
كَمْ: تدل على كثرة العدد.
والقرون: جمع قرن، وهو في الاصطلاح الزمني مائة عام، ويُطلَق على القوم المقترنين معاً في الحياة، ولو على مبدأ من المبادئ، وتوارثه الناس فيما بينهم.
وقد يُطلَق القرن على أكثر من مائة عام كما نقول: قرن نوح، قرن هود، قرن فرعون. أي: الفترة التي عاشها.
وقوله: ﴿وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً..﴾ [الإسراء: ١٧]
فلا يحتاج لمَنْ يخبره؛ لأنه خبير وبصير، هكذا بصيغة المبالغة.
وهنا قد يقول قائل: طالما أن الله تعالى يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية، فلماذا يسأل الناس يوم القيامة عن أعمالهم؟
نقول: لأن السؤال يَرِدُ لإحدى فائدتين:
الأولى: كأنْ يسألَ الطالب أستاذه عن شيء لا يعلمه، فالهدف أنْ يعلم ما جهل.
والأخرى: كأن يسأل الأستاذ تلميذه في الامتحان، لا ليعلم منه، ولكن ليقرره بما علم.
وهكذا الحق سبحانه ولله المثل الأعلى يسأل عبده يوم القيامة عن أعماله ليقرره بها، وليجعله شاهداً على نفسه، كما قال: ﴿اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ [الإسراء: ١٤]
وقوله تعالى: ﴿وكفى بِرَبِّكَ..﴾ [الإسراء: ١٧]
إذن: كفى به سبحانه حاكماً وقاضياً وشاهداً. ولأن الحق سبحانه خبير بصير بذنوب عباده، فعقابه عَدْل لا ظلمَ فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً﴾.
ومن مُقوّمات الحياة مَا لا ينفعل لك، إلا إذا تفاعلتَ معه،
والمتأمل في حضارات البشر وارتقاءاتهم في الدنيا يجدها نتيجة لتفاعل الناس مع مُقوّمات الحياة بجوارحهم وطاقاتهم، فتتفاعل معهم مُقوِّمات الحياة، ويحدث التقدم والارتقاء.
وقد يرتقي الإنسان ارتقاءً آخر، بأن يستفيد من النوع الأول من مُقوّمات الحياة، والذي يعطيه دون أنْ يتفاعل معه، استفادة جديدة، ومن ذلك ما توصّل إليه العلماء من استخدام الطاقة الشمسية استخدامات جديدة لم تكن موجودة من قبل.
إذن: فهذه نواميس في الكون، الذي يُحسِن استعمالها تُعطيه النتيجة المرجوة، وبذلك يُثري الإنسان حياته ويرتقي بها، وهذا ما أَسْمَيناه سابقاً عطاء الربوبية الذي يستوي فيه المؤمن والكافر، والطائع والعاصي.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة..﴾ [الإسراء: ١٨]
أي: عطاء الدنيا ومتعها ورُقيها وتقدّمها.
﴿عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ..﴾ [الإسراء: ١٨]
أجبْنَاهُ لما يريد من متاع الدنيا.
ولا بُدَّ لنا أنْ نتنبه إلى أن عطاء الربوبية الذي جعله الله للمؤمن
وهذا حال لا يليق بالمؤمن، ومذلة لا يقبلها الخالق سبحانه لعباده، فلا يكفي أن نأخذ عطاء الألوهية من أمر ونهي وتكليف وعبادة، ونغفل أسباب الحياة ومُقوّماتها المادية التي لا قِوامَ للحياة إلا بها.
في حين أن المؤمن أَوْلَى بمقوّمات الحياة التي جعلها الخالق في الكون من الكافر الذي لا يؤمن بإله.
إذن: فمن الدين ألاَّ تمكِّن أعداء الله من السيطرة على مُقوِّمات حياتك، وألاَّ تجعلَهم يتفوقون عليك.
وقوله: ﴿مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ..﴾ [الإسراء: ١٨]
أي: أن تفاعل الأشياء معك ليس مُطْلقاً، بل للمشيئة تدخُّلٌ في هذه المسألة، فقد تفعل، ولكن لا تأخذ لحكمة ومراد أعلى، فليس الجميع أمام حكمة الله سواء، وفي هذا دليل على طلاقة القدرة الإلهية.
ومعنى ﴿مَا نَشَآءُ..﴾ للمعجَّل و ﴿لِمَن نُّرِيدُ﴾ للمعجَّل له.
وما دام هذا يريد العاجلة، ويتطلع إلى رُقيِّ الحياة الدنيا وزينتها، إذن: فالآخرة ليستْ في باله، وليست في حُسْبانه؛ لذلك
قال تعالى: ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب﴾ [النور: ٣٩]
والسراب ظاهرة طبيعية يراها مَنْ يسير في الصحراء وقت الظهيرة، فيرى أمامه شيئاً يشبه الماء، حتى إذا وصل إليه لم يجدْهُ شيئاً، كذلك إنْ عمل الكافرُ خيراً في الدنيا فإذا أتى الآخرة لم يجدْ له شيئاً من عمله؛ لأنه أخذ جزاءه في الدنيا.
ثم تأتي المفاجأة: ﴿وَوَجَدَ الله عِندَهُ﴾ [النور: ٣٩]
وفي آية أخرى يصفه القرآن بقوله: ﴿مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد﴾ [إبراهيم: ١٨]
فمرة يُشبِّه عمل الكافر بالماء الذي يبدو في السراب، ومرة يُشبِّهه بالرماد؛ لأن الماء إذا اختلط بالرماد صار طيناً، وهو مادة الخِصْب والنماء، وهو مُقوِّم من مُقوِّمات الحياة.
ووصفه بقوله تعالى: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ
والحق تبارك وتعالى في هذه الآية يُجسِّم لنا خَيْبة أمل الكافر في الآخرة في صورة مُحسَّة ظاهرة، فمثَلُ عمل الكافر كحجر أملس أصابه المطر، فماذا تنتظر منه؟ وماذا وراءه من الخير؟
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً﴾ [الإسراء: ١٨]
أي: أعددناها له، وخلقناها من أجله يُقاسي حرارتها ﴿مَذْمُوماً﴾ أي: يذمُّه الناس، والإنسان لا يُذَمّ إلا إذا ارتكب شيئاً ما كان يصحّ له أنْ يرتكبه.
و ﴿مَّدْحُوراً﴾ [الإسراء: ١٨] وبعد أنْ أعطانا الحق سبحانه صورة لمن أراد العاجلة وغفل عن الآخرة، وما انتهى إليه من العذاب، يعطينا صورة مقابلة، صورة لمن كان أعقل وأكيس، ففضَّل الآخرة.
يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً﴾.
وهنا يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخرة..﴾ [الإسراء: ١٩] في مقابل: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة..﴾ [الإسراء: ١٨]
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا..﴾ [الإسراء: ١٩]
أي: أراد ثوابها وعمل لها.
﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ..﴾ [الإسراء: ١٩]
لأن الإيمان شَرْط في قبول العمل، وكُلُّ سعي للإنسان في حركة الحياة لا بُدَّ فيه من الإيمان ومراعاة الله تعالى لكي يُقبَل العمل، ويأخذ صاحبه الأجر يوم القيامة، فالعامل يأخذ أجره ممَّنْ عمل له.
فالكفار الذين خدموا البشرية باختراعاتهم واكتشافاتهم، حينما قدّموا هذا الإنجازات لم يكُنْ في بالهم أبداً العمل لله، بل للبشرية وتقدُّمها؛ لذلك أخذوا حقهم من البشرية تكريماً وشهرة، فأقاموا لهم التماثيل، وألّفوا فيهم الكتب.. الخ.
إذن: انتهت المسألة: عملوا وأخذوا الأجر ممن عملوا لهم.
وكذلك الذي يقوم ببناء مسجد مثلاً، وهذا عمل عظيم يمكن أن يُدخل صاحبه الجنة إذا توافر فيه الإيمان والإخلاص لله، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة».
وقوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً..﴾ [الإسراء: ١٩]
وهذا جزاء أهل الآخرة الذين يعملون لها، ومعلوم أن الشكر يكون لله استدراراً لمزيد نِعَمه، كما قال تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ..﴾ [إبراهيم: ٧]
فما بالك إنْ كان الشاكر هو الله تعالى، يشكر عبده على طاعته؟
وهذا يدل على أن العمل الإيماني يُصادف شُكْراً حتى من المخالف له، فاللص مثلاً إنْ كان لديه شيء نفيس يخاف عليه، فهل يضعه أمانة عند لصٍّ مثله، أم عند الأمين الذي يحفظه؟
فاللصّ لا يحترم اللص، ولا يثق فيه، في حين يحترم الأمين مع أنه مخالف له، وكذلك الكذاب يحترم الصادق، والخائن يحترم الأمين.
ومن هنا كان كفار مكة رغم عدائهم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكفرهم بما جاء به إلا أنهم كانوا يأتمنونه على الغالي والنفيس عندهم؛ لأنهم واثقون من أمانته، ويلقبونه «بالأمين»، رغم ما بينهما من خلاف عقديّ جوهري، فهم فعلاً يكذبونه، أما عند حفْظ الأمانات فلن يغشُّوا أنفسهم، لأن الأحفظ لأماناتهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
لذلك قالوا: مَنِ استعان بك في نقيصة فقد سقطْتَ من نظره، وإنْ أعنْتَه على أمره كشاهد الزور ترتفع الرأس على الخصم بشهادته وتدوس القدم على كرامته.
ثم يقول الحق سبحانه عن كلا الفريقين: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ... ﴾.
أي: أن الله تعالى يمدُّ الجميع بمُقوّمات الحياة، فمنهم مَنْ يستخدم هذه المقومات في الطاعة، ومنهم مَنْ يستخدمها في المعصية، كما لو أعطيتَ لرجلين مالاً، فالأول تصدّق بماله، والآخر شرب بماله خمراً.
إذن: فعطاء الربوبية مدَدٌ ينال المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، أما عطاء الألوهية المتمثل في منهج الله: افعل ولا تفعل، فهو عطاء خاصٌّ للمؤمنين دون غيرهم.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً..﴾ [الإسراء: ٢٠]
ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه اختار التعبير بقوله: ﴿مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ..﴾ [الإسراء: ٢٠]
لأن العطاء المراد هنا عطاء ربوبية، وهو سبحانه ربّ كلّ شيء. أي: مُربّيه ومتكفّل به، وشرف كبير أن يُنسبَ العطاء إلى الرب تبارك وتعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ... ﴾.
يقول تعالى: ﴿انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ..﴾ [الإسراء: ٢١]
والمتأمل يجد أن الله تعالى جعل التفضيل هنا عامّاً، فلم يُبيّن مَن المفضَّل ومَنِ المفضّل عليه، فلم يقُلْ: فضلت الأغنياء على الفقراء، أو: فضلت الأصحاء على المرضى.
إذن: فما دام في القضية عموم في التفضيل، فكلُّ بعض مُفضَّل
وهذه نظرة خاطئة فيجب أن ننظر للإنسان من كُلِّ زوايا الحياة وجوانبها؛ لأن الحق سبحانه لا يريدنا نماذج مكررة، ونُسَخاً مُعَادة، بل يُريدنا أُنَاساً متكاملين في حركة الحياة، ولو أن الواحد مِنّا أصبح مَجْمعاً للمواهب ما احتاج فينا أحدٌ لأحد، ولتقطعت بيننا العَلاقات.
فمن رحمة الله أن جعلك مُفضَّلاً في خَصْلة، وجعل غيرك مُفضَّلاً في خصال كثيرة، فأنت محتاج لغيرك فيما فُضِّل فيه، وهم محتاجون إليك فيما فُضِّلْتَ فيه، ومن هنا يحدث التكامل في المجتمع، وتسلَمْ للناس حركة الحياة.
ونستطيع أن نخرج من هذه النظرة بقضية فلسفية تقول: إن مجموع مواهب كل إنسان تساوي مجموع مواهب كل إنسان، فإنْ زِدْتَ عني في المال فربما أزيد عنك في الصحة، وهكذا تكون المحصّلة النهائية متساوية عند جميع الناس في مواهب الدنيا، ويكون التفاضل الحقيقي بينهم بالتقوى والعمل الصالح، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: ١٣]
لذلك يجب على المسلم أن يلتزمَ أدب الإسلام في حِفْظ مكانة الآخرين، فمهما كنت مُفضَّلاً فلا تحتقر غيرك، واعلم أن لهم أيضاً ما يفضلون به، وسوف يأتي اليوم الذي تحتاج إليهم فيه.
خُذ الخياط مثلاً، وهو صاحب حرفة متواضعة بين الناس، ولا يكاد يُجيد عملاً إلا أن يخيطَ للناس ثيابهم، فإذا ما كانت ليلة العيد وجدته من أهم الشخصيات، الجميع يقبلون عليه، ويتمنون أن يتكرم عليهم ويقضي حاجتهم من خياطة ثيابهم وثياب أولادهم.
وبهذا نستطيع أن نفهم قَوْل الحق تبارك وتعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾
[الزخرف: ٣٢]
فكل منا مُسخَّر لخدمة الآخرين فيما فُضِّل فيه، وفيما نبغ فيه.
وصدق الشاعر حين قال:
والناسُ يلْحون الطَّبيِبَ وإنَّما | خَطَأُ الطَّبِيبِ إصَابَةُ الأَقْدَارِ |
النَّاسُ لِلناسِ مِنْ بَدْوٍ ومِنْ حَضَرٍ | بَعْضٌ لبعْضٍ وإن لم يشعروا خَدَمُ |
فالعاقل حين ينظر في الحياة لا ينظر إلى تميُّزه عن غيره كموهبة، بل يأخذ في اعتباره مواهب الآخرين، وأنه محتاج إليها وبذلك يندكّ غروره، ويعرف مدى حاجته لغيره. وكما أنه نابغ في مجال من المجالات، فغيره نابغ في مجال آخر؛ لأن النبوغ يأتي إذا صادف العمل الموهبة، فهؤلاء البسطاء الذين تنظر إليهم نظرة احتقار، وترى أنهم دونك يمكن أن يكونوا نابغين لو صادف عملهم الموهبة.
وقوله تعالى: ﴿وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً..﴾ [الإسراء: ٢١]
فإنْ كان التفاضل بين الناس في الدنيا قائماً على الأسباب المخلوقة لله تعالى، فإن الأمر يختلف في الآخرة؛ لأنها لا تقوم بالأسباب، بل بالمسبب سبحانه، فالمفاضلة في الآخرة على حسبها.
ولو تأملتَ حالك في الدنيا، وقارنتَه بالآخرة لوجدتَ الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً، فعمرك في الدنيا موقوت، وسينتهي إلى الموت؛ لأن عمرك في الدنيا مدة بقائك فيها، فإنْ بقيْت من بعدك فهي لغيرك، وكذلك ما فُضِّلْتَ به من نعيم الدنيا عُرْضَة للزوال، حيث تناله الأغيار التي تطرأ على الإنسان.
وهَبْ أنك تنعَّمْتَ في الدنيا بأعلى درجات النعيم، فإن نعيمك هذا يُنغِّصه أمران: إما أن تفوت هذا النعيم بالموت، وإما أنْ يفوتَك هو بما تتعرّض له من أغيار الحياة.
أما الآخرة فعمرك فيها مُمتدّ لا ينتهي، والنعمة فيها دائمة لا تزول، وهي نعمة لا حدودَ لها؛ لأنها على قَدْر إمكانيات المنعِم عَزَّ وَجَلَّ، في دار خلود لا يعتريها الفناء، وهي مُتيقنة موثوق بها.
فأيهما أفضل إذن؟ لذلك الحق سبحانه يدعونا إلى التفكُّر والتعقُّل: ﴿انظر﴾ أيَّ الصفقتين الرابحة، فتاجر فيها ولا ترضى بها بديلاً.
إذن: فالآخرة أعظم واكبر، ولا وجهَ للمقارنة بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. وأذكر أننا سافرنا مرة إلى (سان فرانسيسكو) فأدخلونا أحد الفنادق، لا للإقامة فيه، ولكن لمشاهدة ما فيه من روعة وجمال ومظاهر الرقي والرفاهية.
وفعلاً كان هذا الفندق آية من آيات الإبداع والجمال، فرأيتُ رفاقي وكانوا من علية القوم مبهورين به، مأخوذين بروعته، فقلت لهم عبارة واحدة: هذا ما أعد البشر للبشر، فكيف بما أعدّه ربُّ البشر للبشر؟
ويجب ألاًّ نغفلَ الفرْق بين نعيم الدنيا الذي أعدّه البشر ونعيم الآخرة الذي أعدّه الله تعالى، فقصارى ما توصل إليه الناس في رفاهية الخدمة أن تضغط على زر فيأتي لك منه الشاي مثلاً، وتضغط على زر آخر فيأتي لك منه القهوة.
وهذه آلة تستجيب لك إنْ تفاعلتَ معها، لكن مهما ارتقى هؤلاء ومهما تقدَّمت صناعتهم فلن يصلوا إلى أنْ يقدموا لك الشيء بمجرد أن يخطر على بالك؛ لأن هذا من نعيم الجنة الذي أعده الخالق سبحانه لعباده الصالحين.
إذن: فما دام كذلك، وسلَّمنا بأن الآخرة افضل وأعظم، فما عليك إلاَّ أنْ تبادر وتأخذ الطريق القويم، وتسلك طريق ربك من أقصر اتجاه، وهو الاستقامة على منهج الله الواحد والالتزام به.
فيقول الحق سبحانه: ﴿لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً﴾.
وهذه هي الحيثيات التي ينبغي عليك بعدها أن تعرفه سبحانه، وتتوجّه إليه، وتلتحم به وتكون في معيته، ولا تجعل معه سبحانه إلهاً آخر؛ لأنك إنْ فعلتَ فلن تجد من هذا النعيم شيئاً، لن تجد إلا المذمّة والخُذْلان في الدنيا والآخرة.
وسوف تُفَاجأ في القيامة بربك الذي دعاك للإيمان به فكفرْتَ. ﴿وَوَجَدَ الله عِندَهُ..﴾ [النور: ٣٩]
ساعتها ستندم حين لا ينفعك الندم، بعد أن ضاعت الفرصة من يديك.
ويقول تعالى: ﴿فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً﴾ [الإسراء: ٢٢]
والقعود ليس أمراً عادياً هنا، بل هو أنكَى ما يصير إليه الإنسان؛ لأن الإنسان لا يقعد إلا إذا أصبح غيرَ قادر على القيام، ففيها ما يُشعر بإنهاك القوة، وكأنه سقط إلى الأرض، بعد أنْ أصبحتْ رِجلاه غير قادرتين على حَمْله، ولم تَعْد به قوة للحركة.
ونلاحظ في تعبير القرآن عن هذا الذي خارتْ قواه، وانتهت تماماً، أنه يختار له وَضْع القعود خاصة، ولم يَقُلْ مثلاً: تنام، لأن العذاب لا يكون مع النوم، ففي النوم يفقد الإنسان الوعي فلا يشعر بالعذاب، بل قال (فتقعد) هكذا شاخص يقاسي العذاب؛ لأن العذاب ليس للجوارح والمادة، بل للنفس الواعية التي تُحِسّ وتألم.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً﴾ [النساء: ٩٥]
وقال: ﴿والقواعد مِنَ النسآء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً..﴾ [النور: ٦٠]
فالقعود يدل على عدم القدرة، وفي الوقت نفسه لا يرتاح بالنوم، فهو في عذاب مستمر.
وفي مجال الذم قال الشاعر:
دَعِ المكَارِمَ لاَ ترحَلِ لِبُغْيِتهَا | وَاقْعُدْ فإنكَ أنتَ الطَّاعِمُ الكَاسي |
﴿مَّخْذُولاً..﴾ [الإسراء: ٢٢] من الخذلان، وهو عدم النُّصْرة، فالأبعد في موقف لا ينصره فيه أحد، ولا يدافع عنه أحد، لذلك يقول تعالى لهؤلاء: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ﴾ [الصافات: ٢٥ - ٢٦]
ثم ينتقل بنا الحق سبحانه إلى قضية يعطينا فيها نوعاً من الاستدلال، فيقول سبحانه:
أراد سبحانه أنْ يُبيّن لنا أن العقيدة والإيمان لا يكتملان إلا بالعمل، فلا يكفي أن تعرف الله وتتوجّه إليه، بل لا بُدَّ أنْ تنظر فيما فرضه عليك، وفيما كلّفك به؛ لذلك كثيراً ما نجد في آيات الكتاب الكريم الجمع بين الإيمان والعمل الصالح، كما في قوله تعالى: ﴿والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر﴾ [العصر: ٣]
لأن فائدة الإيمان وثمرته العمل الصالح، وما دُمْتَ ستسلك هذا الطريق فانتظر مواجهة أهل الباطل والفساد والضلال، فإنهم لن يدعُوك ولن يُسالموك، ولا بُدَّ أن تُسلِّح نفسك بالحق والقوة والصبر، لتستطيع مواجهة هؤلاء.
ودليل آخر على أن الدين ليس الإيمان القوليّ فقط، أن كفار مكة لم يشهدوا أن لا إله إلا الله، فلو كانت المسألة مسألةَ الإيمان بإله واحد وتنتهي القضية لَكانوا قالوا وشهدوا بها، إنما هم يعرفون
ومن هنا رفضوا الإيمان بإله واحد، ورفضوا الانقياد لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي جاء ليُبلِغهم مراد الله تعالى، وينقل إليهم منهجه، فمنهج الله لا ينزل إلا على رسول يحمله ويُبلّغه للناس، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: ٥١]
وهاهي أول الأحكام في منهج الله: ﴿وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ..﴾ [الإسراء: ٢٣]
وقد آثر الحق سبحانه الخطاب ب ﴿رَبُّكَ﴾ على لفظ (الله) ؛ لأن الربَّ هو الذي خلقك وربَّاك، ووالى عليك بنعمه، فهذا اللفظ أَدْعَى للسمع والطاعة، حيث يجب أن يخجل الإنسان من عصيان المنعِم عليه وصاحب الفضل.
﴿وقضى رَبُّكَ..﴾ [الإسراء: ٢٣]
الخطاب هنا مُوجّه إلى النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه هو الذي بلغ المرتبة العليا في التربية والأدب، وهي تربية حَقّة؛ لأن الله تعالى هو الذي ربَّاه، وأدَّبه احسن تأديب.
وفي الحديث الشريف: «أدّبني ربي فأحسن تأديبي».
وقد تأتي قضى بمعنى: خلق. كما في قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ..﴾ [فصلت: ١٢]
وتأتي بمعنى: بلغ مراده من الشيء، كما في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا..﴾ [الأحزاب: ٣٧]
وقد تدل على انتهاء المدة كما في:
﴿فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل..﴾ [القصص: ٢٩]
وتأتي بمعنى: أراد كما في: ﴿فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ﴾ [غافر: ٦٨]
إذن: قضى لها معانٍ مُتعدّدة، لكن تجتمع كلها لتدل على الشيء اللازم المؤكّد الذي لا نقصَ فيه.
وقوله: ﴿أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ..﴾ [الإسراء: ٢٣]
العبادة: هي إطاعة آمر في أمره ونهيه، فتنصاع له تنفيذاً للأمر، واجتناباً للنهي، فإنْ ترك لك شيئاً لا أمر فيه ولا نهي فاعلم أنه ترك لك الاختيار، وأباح لك: تفعل أو لا تفعل.
أَرَبٌّ يبولُ الثَّعلَبانُ برأْسِهِ | لَقدْ ذَلَّ مَنْ بَالَتْ عَليْه الثَّعَالِبُ |
وفي قوله تعالى: ﴿أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ..﴾ [الإسراء: ٢٣]
أسلوب يسمونه أسلوب قَصْر، يفيد قصر العبادة وإثباتها لله وحده، بحيث لا يشاركه فيها أحد. فلو قالت الآية: وقضى ربك أن تعبدوه.. فلقائل أن يقول: ونعبد غيره لأن باب العطف هنا مفتوح لم يُغْلَق، كما لو قُلْت: ضربتُ فلاناً وفلاناً وفلاناً.. هكذا باستخدام العطف. إنما لو قلت، ما ضربن إلا فلاناً فقد أغلقت باب العطف.
إذن: جاء التعبير بأسلوب القصر ليقول: اقصروا العبادة عليه سبحانه، وانفوها عن غيره.
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى التكليف والأمر الثاني بعد عبادته: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً..﴾ [الإسراء: ٢٣]
وقد قرن الله تعالى بين عبادته وبين الإحسان إلى الوالدين في
وقال: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً..﴾ [الأنعام: ١٥١]
وقال: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾ [العنكبوت: ٨]
لكن، لماذا قرن الله تعالى بين عبادته وبين الإحسان إلى الوالدين؟ أتريد أن نقرب الأولى بالثانية، أم نقرب الثانية بالأولى؟
نقول: لا مانع أن يكون الأمران معاً؛ لأن الله تعالى غَيْب، والإيمان به يحتاج إلى إعمال عقل وتفكير، لكن الوالدين بالنسبة للإنسان أمر حسيّ، فهما سِرُّ وجوده المباشر، وهما رَبَّياه ووفَّرا له كل متطلبات حياته، وهما مصدر العطف والحنان.
إذن: التربية والرعاية في الوالدين مُحسَّة، أما التربية والرعاية من الله فمعقولة، فأمْر الله لك بالإحسان إلى الوالدين دليل على وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، فهو سبحانه الذي خلقك، وهو سبب وجودك الأول، وهو مُربّيك وصاحب رعايتك، وصاحب الفضل عليك قبل الوالدين، وهل رباك الوالدان بما أوجداه هما، أما بما أوجده الله سبحانه؟
إذن: لابد أن يلتحم حَقُّ الله بحقِّ الوالدين، وأن نأخذ أحدهما دليلاً على الآخر.
ونلاحظ أن الحق تبارك وتعالى حين أمرنا بعبادته جاء بأسلوب النفي: ﴿أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ..﴾ [الإسراء: ٢٣]
قالوا: لأن فضل الوالدين واضح لا يحتاج إلى إثبات، ولا يحتاج إلى دليل عقليّ، وقولك: لا تسيئوا للوالدين يجعلهما مَظنَّة الإساءة، وهذا غير وارد في حَقَّهما، وغير مُتصوَّر منهما، وأنت إذا نفيتَ شيئاً عن مَنْ لا يصح أن ينفي عنه فقد ذَمَمتْه، كأن تنفي عن أحد الصالحين المشهورين بالتقوى والورع، تنفي عنه شرب الخمر مثلاً فهل هذا في حقه مدح أم ذم؟
لأنك ما قلتَ: إن فلاناً لا يشرب الخمر إلا إذا كان الناس تظنّ فيه ذلك. ومن هنا قالوا: نَفْي العيب عَمَّنْ لا يستحق العيب عَيْب.
إذن: لم يذكر الإساءة هنا؛ لأنها لا تَرِد على البال، ولا تُتصوّر من المولود لوالديه.
وبعد ذلك، ورغم ما للوالدين من فضل وجميل عليك فلا تنسَ أن فضل الله عليك أعظم؛ لأن والديك قد يَلِدانِك ويُسْلِمانك إلى الغير، أما ربك فلن يُسلمك إلى أحد.
وقوله تعالى: ﴿إِحْسَاناً..﴾ [الإسراء: ٢٣]
كأنه قال: أحْسِنوا إليهم إحساناً، فحذف الفعل وأتى بمصدره للتأكيد.
وقوله تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾ [الإسراء: ٢٣]
ومرّة يُعلِّل لهذه الوصية، فيقول: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ..﴾ [لقمان: ١٤]
والذي يتأمل الآيتين السابقتين يجد أن الحق سبحانه ذكر العِلّة في بِرِّ الوالدين، والحيثيات التي استوجبت هذا البِرّ، لكنها خاصة بالأم، ولم تتحدث أبداً عن فضل الأب، فقال: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ..﴾ [لقمان: ١٤]
فأين دَوْر الأب؟ وأين مجهوداته طوال سنين تربية الأبناء؟
المتتبع لآيات بر الوالدين يجد حيثية مُجْملة ذكرت دور الأب والأم معاً في قوله تعالى: ﴿كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً..﴾ [الإسراء: ٢٤]
لكن قبل أن يُربّي الأب، وقبل أن يبدأ دوره كان للأم الدور الأكبر؛ لذلك حينما تخاصم الأب والأم لدى القاضي على ولد لهما، قالت الأم: لقد حمله خِفّاً وحملتُه ثقلاً، ووضعه شهوة ووضعتُه كرهاً.
لذلك ذكر القرآن الحيثيات الخاصة بالأم؛ لأنها تحملتها وحدها لم يشاركها فيها الزوج؛ ولأنها حيثيات سابقة لإدراك الابن فلم
وذلك على خلاف دور الأب فهو محسوس ومعروف للابن، فأبوه الذي يوفر له كل ما يحتاج إليه، وكلما طلب شيئاً قالوا: حينما يأتي أبوك، فدَوْر الأب إذن معلوم لا يحتاج إلى بيان.
والآية هنا أوصتْ بالوالدين في حال الكِبَر، فلماذا خَصَّتْ هذه الحال دون غيرها؟
قالوا: لأن الوالدين حال شبابهما وقُوتهما ليسا مظنّة الإهانة والإهمال، ولا مجال للتأفف والتضجُّر منهما، فهما في حال القوة والقدرة على مواجهة الحياة، بل العكس هو الصحيح نرى الأولاد في هذه الحال يتقربون للآباء، ويتمنون رضاهما، لينالوا من خيرهما.
لكن حالة الكِبَر، ومظهر الشيخوخة هو مظهر الإعالة والحاجة والضعف، فبعد أنْ كان مُعْطياً أصبح آخذاً، وبعد أنْ كان عائلاً أصبح عالة.
لذلك، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديث الآمينات والمراغم، وكان على المنبر، فسمعه الصحابة يقول: آمين. ثم سكت برهة. وقال: آمين وسكت. ثم قال: آمين. فلما نزل قالوا: يا رسول الله سمعناك تقول: آمين ثلاثاً. فقال: «جاءني جبريل فقال: رغم أنف مَنْ ذُكِرْتَ عنده ولم يُصَلّ عليك، قل: آمين. فقلت: آمين، ورغم أنفس مَنْ أدرك رمضان فلم يُغفر له، قل: آمين. فقلت: آمين، ورغم أنف مَنْ أدرك والديه
فخصَّ الحق سبحانه حال الكِبَر، لأنه حال الحاجة وحال الضعف؛ لذلك قال أحد الفلاسفة: خَيْر الزواج مبكره، فلما سُئِل قال: لأنه الطريق الوحيد لإنجاب والد يعولك في طفولة شيخوختك، وشبَّه الشيخوخة بالطفولة لأن كليهما في حال ضعف وحاجة للرعاية والاهتمام.
وصدق الحق سبحانه حين قال: ﴿الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً..﴾ [الروم: ٥٤]
فَمنْ تزوّج مبكراً فسوف يكون له من أولاده مَنْ يُعينه ويساعده حال كِبَره.
والمتأمل في قوله تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر..﴾ [الإسراء: ٢٣]
لم تَأتِ صِفَة الكِبَر على إطلاقها، بل قيّدها بقوله: ﴿عِندَكَ﴾ فالمعنى: ليس لهما أحد غَيرك يرعاهما، لا أخ ولا أخت ولا قريب يقوم بهذه المهمة، وما دام لم يَعُدْ لهما غيرك فلتكُنْ على مستوى المسئولية، ولا تتنصَّل منها؛ لأنك أََوْلى الناس بها.
ويمتد البِرُّ بالوالدين إلى ما بعد الحياة بالاستغفار لهما، وإنجاز ما أحدثاه من عهد، ولم يتمكّنا من الوفاء به، وكذلك أن نصِلَ الرحم
وقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يودّ صاحبات السيدة خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وكان يستقبلهن ويكرمهن.
وانظر إلى سُمُوِّ هذا الخلق الإسلامي، حينما يُعدِّي هذه المعاملة حتى إلى الكفار، فقد جاءت السيدة أسماء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسأله في أمها التي أتتْها.
وأظهرت حاجة مع أنها كافرة، فقال لها: «صِليِ أمك».
بل وأكثر من ذلك، إنْ كان الوالدان كافرين ليس ذلك فحسب بل ويدعوان الابن إلى الكفر، ويجاهدانه عليه، ومع هذا كله يقول الحق سبحانه: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً..﴾ [لقمان: ١٥]
فهذه ارتقاءات ببرّ الوالدين تُوضّح عظمة هذا الدين ورحمة الخالق سبحانه بالوالدين حتى في حال كفرهما ولَدَدهما في الكفر.
وقد رأى المستشرقون لضيق أُفُقهم وقلّة فقْههم لأسلوب القرآن الكريم، رَأَوْا تناقضاً بين قوله تعالى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً..﴾ [لقمان: ١٥]
وبين قوله تعالى: ﴿لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: ٢٢]
فكيف يأمر القرآن بمصاحبة الوالدين وتقديم المعروف لهما، في حين ينهي عن مودّة مَنْ حَادّ الله ورسوله؟
ولو فَهِم هؤلاء مُعْطيات الأسلوب العربي الذي جاء به القرآن لعلموا أن المعروف غير الودّ؛ لأن المعروف يصنعه الإنسان مع من يحب، ومع من يكره، مع المؤمن ومع الكافر، تُطعمه إذا جاع، وتسقيه إذا عطش، وتستره إنْ كان عرياناً، أما المودة فلا تكون إلا لمَنْ تحب؛ لأنها عمل قلبيّ.
وهذا توجيه وأدب إلهيّ يُراعي الحالة النفسية للوالدين حال كِبَرهما، وينصح الأبناء أن يكونوا على قدر من الذكاء والفطْنة والأدب والرِّفْق في التعامل مع الوالدين في مثل هذا السن.
الوالد بعد أَنْ كان يعطيك وينفق عليك أصبح الآن مُحتاجاً إليك، بعد أنْ كان قوياً قادراً على السعي والعمل أصبح الآن قعيدَ البيت أو طريحَ الفراش، إذن: هو في وَضْع يحتاج إلى يقظة ولباقة وسياسة عالية، حتى لا نجرح مشاعره وهي مُرْهفة في هذا الحال. وتأمل قول الله تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ..﴾ [الإسراء: ٢٣]
وهي لفظة بسيطة أقلّ ما يقال، وهذه لفظة قَسْرية تخرج من صاحبها قهراً دون أن تمر على العقل والتفكير، وكثيراً ما نقولها عند الضيق والتبرُّم من شيء، فالحق سبحانه يمنعك من هذا التعبير القَسْري، وليس الأمر الاختياري.
و ﴿أُفٍّ﴾ اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر، وهذه الكلمة تدل على انفعال طبيعي، ولكن الحق سبحانه يُحذِّرك منه، ويأمرك بأن تتمالكَ مشاعرك، وتتحكّم في عواطفك، ولا تنطق بهذه اللفظة.
ومعلومة أنه سبحانه إذا نهاني عن هذه فقط نهاني عن غيرها من باب أَوْلى، وما دامتْ هي أقلّ لفظة يمكن أنْ تُقال. إذن: نهاني عن القول وعن الفعل أيضاً.
والنهر هو الزَّجْر بقسوة، وهو انفعال تَالٍ للتضجُّر وأشدّ منه قسوة، وكثيراً ما نرى مثل هذه المواقف في الحياة، فلو تصوَّرنا الابن يعطي والده كوباً من الشاي مثلاً فارتعشت يده فأوقع الكوب فوق سجادة ولده الفاخرة، وسريعاً ما يتأفّف الابن لما حدث لسجادته، ثم يقول للوالد من عبارات التأنيب ما يؤلمه ويجرح مشاعره.
إذن: كُنْ على حذر من التأفف، ومن أن تنهر والديك، كُنْ على حذر من هذه الألفاظ التي تسبق إلى اللسان دون فِكْر، ودون تعقّل.
ثم بعد أن هذا النهي المؤكد يأتي أمر جديد ليؤكد النهي السابق: ﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً..﴾ [الإسراء: ٢٣]
وفي هذا المقام تُرْوَى قصة الشاب الذي أوقع أبوه إناء الطعام على ثيابه، فأخذ الولد يلعق الطعام الذي وقع على ثوبه وهو يقول لوالده: أطعمك الله كما أطعمتني، فحوّل الإساءة إلى جميل يُحمَد عليه.
والآخر الذي ذهب يتمرّغ تحت أقدام أمه، فقال له: كفى يا بني، فقال: إنْ كنتِ تُحبِّينني حقاً فلا تمنعيني من عمل يُدخِلني الجنة.
والقول الكريم هنا نوع من التصرُّف واللباقة في معاملة الوالدين خاصة حال الشيخوخة التي قد تُقعِد صاحبها، أو المرض الذي يحتاج إلى مساعدة الغير، والأولاد هم أَوْلَى الناس بإعالة الوالدين في
وَهَبْ أن الوالد المريض أو الذي بلغ من الكِبَر عتياً يريد أنْ يقضي حاجته، ويحتاج لمن يحمله ويُقعِده ويُريحه، وينبغي هنا أن يقول الابن لأبيه: هَوِّن عليك يا والدي، وأعطني فرصة أردّ لك بعض جميلك عليّ، فلكَمْ فعلتَ معي أكثر من هذا.
وهو مع ذلك يكون مُحبّاً لوالده، رفيقاً به، حانياً عليه لا يتبرّم به، ولا يتضجر منه، هذا هو القول الكريم الذي ينتقيه الأبناء في المواقف المختلفة.
فمثلاً: قد يزورك أبوك في بيتك وقد يحدث منه أنْ يكسر شيئاً من لوازم البيت، فتقول له في هذا الموقف: فِدَاك يا والدي، أو تقول: لا عليك لقد كنت أفكر في شراء واحدة أحدث منها. أو غيره من القول الكريم الذي يحفظ للوالدين كرامتهما، ولا يجرح شعورهما.
وكثيراً ما يأتي المرض مع كِبَر السن، فترى الوالد طريحَ الفراش أو مشلولاً عافنا الله وإياكم لذلك فهو في أمس الحاجة لمن يُخفّف عنه ويُواسيه، ويفتح له باب الأمل في الشفاء ويُذكّره أن فلاناً كان مثله وشفاه الله، وفلاناً كان مثله وأخذ الله بيده، وهو الآن بخير، وهكذا.
ومع هذا، كُنْ على ذِكْر لفضل الوالدين عليك، ولا تَنْسَ ما كان عندهما حال طفولتك من عاطفة الحب لك والحنان عليك، وأن الله
إذن: نستطيع أن نأخذَ من هذا إشارة دقيقة يجب ألاَّ نغفل عنها، وهي: إنْ كان بر الوالدين واجباً عليك في حال القوة والشباب والقدرة، فهو أوجب حالَ كبرهما وعجزهما، أو حال مرضهما.
ثم يرشدنا الحق سبحانه إلى حسن معاملة الوالدين، فيقول: ﴿واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة... ﴾.
﴿جَنَاحَ الذل﴾ : الطائر معروف أنه يرفع جناحه ويُرفْرِف به، إنْ أراد أن يطير، ويخفضه إنْ أراد أن يحنوَ على صغاره، ويحتضنهم ويغذيهم.
وهذه صورة مُحسَّة لنا، يدعونا الحق سبحانه وتعالى أن نقتدي بها، وأن نعامل الوالدين هذه المعاملة، فنحنو عليهم، ونخفض لهم الجناح، كنايةً عن الطاعة والحنان والتواضع لهما، وإياك أن تكون كالطائر الذي يرفع جناحيه ليطير بهما مُتعالياً على غيره.
إذن: قوله تعالى: ﴿جَنَاحَ الذل..﴾ [الإسراء: ٢٤]
كناية عن الخضوع والتواضع، والذُّل قد يأتي بمعنى القهر والغلبة، وقد يأتي بمعنى العطف والرحمة، يقول تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين..﴾ [المائدة: ٥٤]
فلو كان الذلّة هنا بمعنى القهر لقال: أذلة للمؤمنين، ولكن المعنى: عطوفين على المؤمنين. وفي المقابل ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين..﴾ [المائدة: ٥٤]
أي: أقوياء عليهم قاهرين لهم.
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ..﴾ [الفتح: ٢٩]
لأن الخالق سبحانه لم يخلق الإنسان رحيماً على الإطلاق
ونرى وضوحَ هذه القضية في سيرة الصِّديق أبي بكر والفاروق عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، وقد عُرِف عن الصِّديق اللين ورِقَّة القلب والرحمة، وعُرِف عن عمر الشدة في الحق والشجاعة والقوة، فكان عمر كثيراً ما يقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا تصادم بأحد المعاندين: «إئذن لي يا رسول الله أضرب عنقه».
وعندما حدثت حروب الردة بعد وفاة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لكل منهما موقف مغاير لطبيعته، فكان مِنْ رأي عمر ألاّ يحاربهم في هذه الفترة الحرجة من عمر الدعوة، في حين رأى الصديق محاربتهم والأخْذ على أيديهم بشدة حتى يعودوا إلى ساحة الإسلام، ويُذعنوا لأمر الله تعالى فقال: «والله، لو منعوني عقالاً كانوا يُؤدُّونه لرسول الله لجالدتهم عليه بالسيف، والله لو لم يَبْق إلا الزرع».
وقد جاء هذا الموقف من الصِّديق والفاروق لحكمة عالية، فلو قال عمر مقالة أبي بكر لكان شيئاً طبيعياً يُنْسب إلى شدة عمر
وكأن الموقف هو الذي صنع أبا بكر، وتطلب منه هذه الشدة التي تغلبت على طابع اللين السائد في أخلاقه.
فيقول تعالى: ﴿واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة..﴾ [الإسراء: ٢٤]
إذن: الذلَّة هنا ذِلَّة تواضع ورحمة بالوالدين، ولكن رحمتك أنت لا تكفي، فعليك أن تطلب لهما الرحمة الكبرى من الله تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً..﴾ [الإسراء: ٢٤]
لأن رحمتك بهما لا تَفيِ بما قدّموه لك، ولا ترد لهما الجميل، وليس البادئ كالمكافئ، فهم أحسنوا إليك بداية وأنت أحسنتَ إليهما ردّاً؛ لذلك ادْعُ الله أنْ يرحمهما، وأنْ يتكفل سبحانه عنك برد الجميل، وأن يرحمهما رحمة تكافئ إحسانهما إليك.
وقوله تعالى: ﴿كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً..﴾ [الإسراء: ٢٤]
كما: قد تفيد التشبيه، فيكون المعنى: ارحمهما رحمة مثل رحمتهما بي حين ربياني صغيراً. أو تفيد التعليل: أي ارحمهما لأنهما ربياني صغيراً، كما قال تعالى: ﴿واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ..﴾ [البقرة: ١٩٨]
و ﴿رَبَّيَانِي﴾ هذه الكلمة أدخلت كل مُربٍّ للإنسان في هذا الحكم، وإنْ لم يكُنْ من الوالدين، لأن الولد قد يُربّيه غير والديه لأيِّ ظرف من الظروف، والحكم يدور مع العلة وجوداً وعَدماً، فإنْ ربّاك
وهذه بشرى لمن رَبَّى غير ولده، ولاسيما إنْ كان المربَّى يتيماً، أو في حكم اليتيم.
وفي: ﴿رَبَّيَانِي صَغِيراً..﴾ [الإسراء: ٢٤] اعتراف من الابن بما للوالدين من فضل عليه وجميل يستحق الرد.
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه في تذييل هذا الحكم بقضية تشترك فيها معاملة الابن لأبويه مع معاملته لربه عَزَّ وَجَلَّ، فيقول تعالى: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً﴾.
وهذه الآية تدعونا إلى الحديث عن النفاق؛ لأنه ظاهرة من الظواهر المصاحبة للإيمان بالله، وكما نعلم فإن النفاق لم يظهر في مكة التي صادمتْ الإسلام وعاندته، وضيقتْ عليه، بل ظهر في
نقول: النفاق ظاهرة صحية إلى جانب الإيمان؛ لأنه لا يُنافَق إلا القوي، والإسلام في مكة كان ضعيفاً، فكان الكفار يُجابهونه ولا ينافقونه، فلما تحوّل إلى المدينة اشتد عوده، وقويتْ شوكته وبدأ ضِعَاف النفوس ينافقون المؤمنين.
لذلك يقول أحدهم: كيف وقد ذَمَّ الله أهل المدينة، وقال عنهم: ﴿وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق﴾ [التوبة: ١٠١]
نقول: لقد مدح القرآن أهل المدينة بما لا مزيدَ عليه، فقال تعالى في حقهم: ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: ٩]
وكأنه جعل الإيمان مَحَلاً للنازلين فيه. ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩]
فإنْ قال بعد ذلك: ﴿وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق﴾ [التوبة: ١٠١]
ومن هنا جعل الله المنافقين في الدرْكِ الأسفل من النار، لأنه مُندَسٌّ بين المؤمنين كواحد منهم، يعايشهم ويعرف أسرارهم، ولا يستطيعون الاحتياط له، فهو عدو من الداخل يصعُب تمييزه. على خلاف الكافر، فعداوته واضحة ظاهرة معلنة، فيمكن الاحتياط له وأخذ الحذر منه.
ولكن لماذا الحديث عن النفاق ونحن بصدد الحديث عن عبادة الله وحده وبِرِّ الوالدين؟
الحق سبحانه وتعالى أراد أنْ يُعطينا إشارة دقيقة إلى أن النفاق كما يكون في الإيمان بالله، يكون كذلك في برِّ الوالدين، فنرى من الأبناء مَنْ يبرّ أبويْه نفاقاً وسُمْعة ورياءً، لا إخلاصاً لهما، أو اعترافاً بفضلهما، أو حِرْصاً عليهما.
ولهؤلاء يقول تعالى: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ..﴾ [الإسراء: ٢٥]
لأن من الأبناء مَنْ يبرّ أبويه، وهو يدعو الله في نفسه أنْ يُريحه منهما، فجاء الخطاب بصيغة الجمع: ﴿رَّبُّكُمْ﴾ أي: رب الابن، وربّ الأبوين؛ لأن مصلحتكم عندي سواء، وكما ندافع عن الأب ندافع أيضاً عن الابن، حتى لا يقعَ فيما لا تُحمد عُقباه.
وقوله: ﴿إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ..﴾ [الإسراء: ٢٥]
أيْ: إن توفّر فيكم شَرْط الصلاح، فسوف يُجازيكم عليه الجزاء الأوفى. وإنْ كان غَيْر ذلك وكنتم في أنفسكم غير صالحين غير
﴿فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً﴾ [الإسراء: ٢٥]
والأوابون هم الذين اعترفوا بذنوبهم ورجعوا تائبين إلى ربهم.
وقد سبق أنْ أوضحنا أن مشروعية التوبة من الله للمذنبين رحمةٌ من الخالق بالخلق؛ لأن العبد إذا ارتكب سيئة في غفلة من دينه أو ضميره، ولم تشرع لها توبة لوجدنا هذه السيئة الواحدة تطارده، ويشقى بها طِوَال حياته، بل وتدعوه إلى سيئة أخرى، وهكذا يشقى به المجتمع.
لذلك شرع الخالقُ سبحانه التوبة ليحفظ سلامة المجتمع وأَمْنه، وليُثرِي جوانب الخير فيه.
ثم يُوسّع القرآن الكريم دائرة القرابة القريبة وهي «الوالدان» إلى دائرة أوسع منها، فبعد أنْ حنَّنه على والديه لفتَ نظره إلى ما يتصل بهما من قرابة، فقال تعالى: ﴿وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً﴾.
﴿حَقَّهُ﴾ لأن الله تعالى جعله حَقّاً للأقارب إنْ كانوا في حاجة، وإلا فلو كانا غير محتاجين، فالعطاء بينهما هدية متبادلة، فكل قريب
لذلك كان بعض فقهاء الأندلس إذا منع الرجل زكاةً تقرُب من النِّصاب أمر بقطع يده، كأنه سرقه؛ لأن الله تعالى أسماه (حقاً) فَمْن منع صاحب الحق من حقه، فكأنه سرقه منه.
وقد سلك فقهاء الأندلس هذا المسلك، لأنهم في بلاد ترف وغنى، فتشدّدوا في هذه المسألة؛ لأنه لا عُذْر لأحد فيها.
لذلك، لما جاء أحد خلفائهم إلى المنذر بن سعيد، وقال: لقد حُلفت يميناً، وأرى أن أُكفِّر عنه فأفتاه بأن يصوم ثلاثة أيام، فقال أحدهم: لقد ضيّقتَ واسعاً فقد شرع الله للكفارة أيضاً إطعامَ عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فرد عليه المنذر قائلاً: أو مثلُ أمير المؤمنين يُزْجَر بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم؟ إنه يفعل ذلك في اليوم لألْف وأكثر، وإنما يزجره الصوم، وهكذا أخذوا الحكم بالروح لا بالنص؛ ليتناسب مع مقدرة الخليفة، ويُؤثِّر في رَدْعه وزَجْره.
وكلمة (حق) وردت في القرآن على معنيين:
الأول: في قوله تعالى: ﴿والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ﴾ [المعارج: ٢٤]
والحق المعلوم هو الزكاة.
ولم يقل: «معلوم» : لأنه إحسان وزيادة عَمَّا فرضه الله علينا.
ويجب على من يُؤْتِى هذا الحق أن يكون سعيداً به، وأن يعتبره مَغْنماً لا مَغْرماً؛ لأن الدنيا كما نعلم أغيار تتحول وتتقلب بأهلها، فالصحيح قد يصير سقيماً، والغني قد يصير فقيراً وهكذا، فإعطاؤك اليوم ضمانٌ لك في المستقبل، وضمان لأولادك من بعدك، والحق الذي تعطيه اليوم هو نفسه الذي قد تحتاجه غداً، إنْ دارتْ عليك الدائرة.
إذن: فالحق الذي تدفعه اليوم لأصحابه تأمين لك في المستقبل يجعلك تجابه الحياة بقوة، وتجابه الحياة بغير خور وبغير ضعف، وتعلم أن حقك محفوظ في المجتمع، وكذلك إنْ تركتَ أولادك في عوزٍ وحاجة، فالمجتمع مُتكفِّل بهم.
وصدق الله تعالى حين قال: ﴿وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً﴾ [النساء: ٩]
ولذلك، فالناس أصحاب الارتقاء والإثراء لورعهم لا يعطون الأقارب من أموال الزكاة، بل يخصُّون بها الفقراء الأباعد عنهم،
و ﴿المسكين﴾ هو الذي يملك وله مال، لكن لا يكفيه، بدليل قوله الحق سبحانه: ﴿أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر..﴾ [الكهف: ٧٩]
أما الفقير فهو الذي لا يملك شيئاً، وقد يعكس البعض في تعريف المسكين والفقير، وهذا فهم خاطئ.
و ﴿وابن السبيل..﴾ [الإسراء: ٢٦]
السبيل هو الطريق، والإنسان عادةً يُنْسَب إلى بلده، فنقول: ابن القاهرة، ابن بورسعيد، فإنْ كان منقطعاً في الطريق وطرأتْ عليه من الظروف ما أحوجه للعون والمساعدة، وإن كان في الحقيقة صاحب يسارٍ وَغِنىً، كأن يُضيع ماله فله حَقٌّ في مال المسلمين بقدر ما يُوصّله إلى بلده.
وابن السبيل إذا طلب المساعدة لا تسأله عن حقيقة حاله، لأن له حقاً واجباً فلا تجعله في وضع مذلّة أو حرج.
﴿وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً﴾ [الإسراء: ٢٦]
كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين﴾ [الأنعام: ١٤١]
فالتبذير هو الإسراف، مأخوذ من البذر، وهو عملية يقوم بها الفلاح فيأخذ البذور التي يريد زراعتها، وينثرها بيده في أرضه،
وبذلك يفلح الزرع ويعطي المحصول المرجو منه، أما إنْ بذرَ البذور بطريقة عشوائية وبدون نظام نجد البذور على مسافات غير متناسبة، فهي كثيرة في مكان، وقليلة في مكان آخر، وهذا ما نُسمِّيه تبذيراً، لأنه يضع الحبوب في موضع غير مناسب؛ فهي قليلة في مكان مزدحمة في آخر فَيُعاق نموّها.
لذلك، فالحق سبحانه آثر التعبير عن الإسراف بلفظ (التبذير) ؛ لأنه يضيع المال في غير موضعه المناسب، وينفق هكذا كلما اتفق دون نظام، فقد يعطي بسخاء في غير ما يلزم، في حين يمسك في الشيء الضروري.
إذن: التبذير: صَرْف المال في غير حِلِّه، أو في غير حاجة، أو ضرورة.
والنهي عن التبذير هنا قد يُراد منه النهي عن التبذير في الإيتاء، يعني حينما تعطي حَقّ الزكاة، فلا تأخذك الأريحية الإيمانية فتعطي أكثر مما يجب عليك، وربما سمعتَ ثناء الناس وشكرهم فتزيد في عطائك، ثم بعد ذلك وبعد أن تخلوَ إلى نفسك ربما ندمتَ على ما فعلتَ، ولُمْتَ نفسك على هذا الإسراف.
وقد يكون المعنى: أعْطِ ذا القربى والمساكين وابن السبيل،
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين... ﴾.
وإخوة: تدلّ على أُخوّة النسب، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ..﴾ [يوسف: ٥٨]
وتدل أيضاً على أخوة الخير والورع والتقوى، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ..﴾ [الحجرات: ١٠]
ومنها قوله تعالى عن السيدة مريم: ﴿ياأخت هَارُونَ..﴾ [مريم: ٢٨]
والمقصود: هارون أخو موسى عليهما السلام وبينهما زمن طويل يقارب أحد عشر جيلاً، ومع ذلك سماهما القرآن إخوة أي أخوّة الورع والتقوى.
أما: إخوان: فتدل على أن قوماً اجتمعوا على مبدأ واحد، خيراً كان أو شراً، فتدلّ على الاجتماع في الخير، كما في قوله تعالى:
وقد تدل على الاجتماع في الشر، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين﴾ [الإسراء: ٢٧]
فكأن المبذرين اجتمعوا مع الشياطين في هوية واحدة، ووُدٍّ واحد، وانتظمتهما صفات واحدة من الشر.
إذن: كلمة (إخْوَة) تدل على أُخُوّة النسب، وقد تتسامى لتدل على أُخوّة الإيمان التي تنهار أمام قوتها كل الأواصر. ونذكر هنا ما حدث في غزوة بدر بين أخويْنِ من أسرة واحدة هما «مصعب بن عمير» بعد أن آمن وهاجر إلى المدينة وخرج مع جيش المسلمين إلى بدر وأخوه «أبو عزيز» وكان ما يزال كافراً، وخرج مع جيش الكفار من مكة، والتقى الأخوان: المؤمن والكافر. «ومعلوم أن» مصعب بن عمير «كان من أغنى أغنياء مكة، وكان لا يرتدي إلا أفخر الثياب وألينها، ويتعطر بأثمن العطور حتى كانوا يسمونه مُدلَّل مكة، ثم بعد أنْ آمنَ تغيّر حاله وآثر الإيمان بالله على كل هذا الغنى والنعيم، ثم بعثه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة ليعلّم الناس أمور دينهم، وفي غزوة أحد رآه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرتدي جلد شاة، فقال:» انظروا ما فعل الإيمان بأخيكم «».
لما دارتْ المعركة نظر مصعب، فإذا بأخيه وقد أَسَرَهُ أحد المسلمين اسمه «أبو اليَسرَ» فالتفتَ إليه. وقال: يا أبا اليَسَر أشدد على أسيرك، فأُمّه غنية، وسوف تفديه بمال كثير.
فنظر إليه «أبو عزيز» وقال: يا مصعب، أهذه وصاتك بأخيك، فقال له مصعب: هذا أخي دونك.
فأخوة الدين والإيمان أقوى وأمتن من أخوة النسب، وصدق الله تعالى حين قال: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ..﴾ [الحجرات: ١٠] قوله: ﴿إِخْوَانَ الشياطين..﴾ [الإسراء: ٢٧]
أي: أن الحق تبارك وتعالى جعلهما شريكين في صفة واحدة هي التبذير والإسراف، فإنْ كان المبذّر قد أسرف في الإنفاق ووَضْع المال في غير حِلِّه وفي غير ضرورة. فإن الشيطانَ أسرف في المعصية، فلم يكتفِ بأن يكون عاصياً في ذاته، بل عدّى المعصية إلى غيره وأغوى بها وزيّنها؛ لذلك وصفه الحق سبحانه بقوله: ﴿وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾ [الإسراء: ٢٧]
ليس كافراً فحسب، بل (كفور) وهي صيغة مبالغة من الكفر؛ لأنه كَفر وعمل على تكفير غيره.
فالله تعالى في ذهنك، وتبتغي من وراء هذا الإعراض رحمة الله ورزقه وسِعَته. إذن: الإعراض هنا ليس معصية أو مخالفة. فماذا إذن الغرض من الإعراض هنا؟
نقول: قد يأتيك قريب أو مسكين أو عابر سبيل ويسألك حاجة وأنت لا تملكها في هذا الوقت فتخجل أنْ تواجهه بالمنع، وتستحي منه، فما يكون منك إلا أنْ تتوجه إلى ربّك عَزَّ وَجَلَّ وتطلب منه ما يسدُّ حاجتك وحاجة سائلك، وأن يجعل لك من هذا الموقف مَخْرجاً.
فالمعنى: إما تُعرضنّ عنهم خجلاً وحياءً أنْ تواجههم، وليس
وقوله تعالى: ﴿فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً﴾ [الإسراء: ٢٨]
كما قال في موضع آخر في مثل هذا الموقف: ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى..﴾ [البقرة: ٢٦٣]
فحتى في حال المنع يجب على المسلم أن يلتزم الأدب، ولا يجرح مشاعر السائل، وأنْ يردّه بلين ورِفْق، وأنْ يُظهر له الحياء والخجل، وألاّ يتكبر أو يتعالى عليه، وأن يتذكر نعمة الله عليه بأنْ جعله مسئولاً لا سائلاً.
إذن: فالعبارات والأعمال الصالحة في مثل هذا الموقف لا يكفي فيها أن تقول: ما عندي، فقد يتهمك السائل بالتعالي عليه، أو بعدم الاهتمام به، والاستغناء عنه، وهنا يأتي دور الارتقاءات الإيمانية والأريحية للنفس البشرية التي تسمو بصاحبها إلى أعلى المراتب.
وتأمل هذا الارتقاء الإيماني في قوله تعالى عن أصحاب الأعذار في الجهاد: ﴿وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: ٩٢]
هذه حكاية بعض الصحابة الذين أتوا رسول الله ليخرجوا معه
فماذا كان من هؤلاء النفر المؤمنين؟ هل انصرفوا ولسان حالهم يقول: لقد فعلنا ما علينا ويفرحون بما انتهوا إليه؟ لا، بل: ﴿تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: ٩٢]
وهكذا يرتقي الإيمان بأهله، ويسمو بأصحابه، فإذا لم يقدروا على الأعمال النزوعية، فالأعمال القولية، فإذا لم يقدروا على هذه أيضاً فلا أقلّ من الانفعال العاطفي المعبِّر عن حقيقة الإيمان الذي يفيض دمع الحزْن لضيق ذات اليد.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً﴾.
فقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ..﴾ [الإسراء: ٢٩]
واليد عادة تُستخدم في المنْح والعطاء، نقول: لفلان يد عندي، وله عليَّ أيادٍ لا تُعَد، أي: أن نعمه عليَّ كثيرة؛ لأنها عادة تُؤدّي باليد، فقال: لا تجعل يدك التي بها العطاء (مَغْلُولَة) أي: مربوطة
وفي المقابل: ﴿وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط..﴾ [الإسراء: ٢٩]
فالنهي هنا عن كل البَسْط، إذن: فيُباح بعض البسْط، وهو الإنفاق في حدود الحاجة والضرورة. وبَسْط اليد كناية عن البَذْل والعطاء، وهكذا يلتقي هذا المعنى بمعنى كل من بذَر ومعنى بذَّر الذي سبق الحديث عنه.
فبذّر: أخذ حفنة من الحبِّ، وبَسَط بها يده مرة واحدة، فأحدثتْ كومةً من النبات الذي يأكل بعضه بعضاً، وهذا هو التبذير المنهيّ عنه، أما الآخر صاحب الخبرة في عملية البذْر فيأخذ حفنة الحبِّ، ويقبض عليها بعض الشيء بالقدر الذي يسمح بتفلّت حبات التقاوي واحدة بعد الأخرى، وعلى مسافات متقاربة ومتساوية أي [بَذَرَ].
وهذا هو حدّ الاعتدال المرغوب فيه من الشرع الحكيم، وهو الوسط، وكلا طرفيه مذموم.
وقد أتى هذا المعنى أيضاً في قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ [الفرقان: ٦٧]
أي: اعتدال وتوسُّط.
إذن: لا تبسط يدك كل البَسْط فتنفق كل ما لديْك، ولكن بعض البَسْط الذي يُبقِى لك سيئاً تدخره، وتتمكن من خلاله أنْ ترتقيَ بحياتك.
إذن: لا بُدَّ من الإنفاق لكي تساهم في سَيْر عجلة الحياة، ولا بُد أن يكون الإنفاق معتدلاً حتى تُبقِي على شيء من دَخْلك، تستطيع أن ترتقي به، وترفع من مستواك المادي في دنيا الناس.
فالمبذر والمسْرف تجده في مكانه، لا يتقدم في الحياة خطوة واحدة، كيف وهو لا يُبقِي على شيء؟ وبهذا التوجيه الإلهي الحكيم نضمن سلامة الحركة في الحياة، ونُوفِّر الارتقاء الاجتماعي والارتقاء الفردي.
ثم تأتي النتيجة الطبيعية للإسراف والتبذير: ﴿فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً﴾ [الإسراء: ٢٩]
وسبق أنْ أوضحنا أن وَضْع القعود يدلّ على عدم القدرة على القيام ومواجهة الحياة، وهو وَضْع يناسب مَنْ أسرف حتى لم يَعُدْ لديه شيء.
وكلمة ﴿فَتَقْعُدَ﴾ تفيد انتقاص حركة الحياة؛ لأن حركة الحياة تنشأ من القيام عليها والحركة فيها؛ لذلك قال تعالى: ﴿لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله..﴾ [النساء: ٩٥]
﴿مَّحْسُوراً﴾ أي: نادماً على ما صِرْتَ فيه من العدم والفاقة، أو من قولهم: بعير محسور. أي: لا يستطيع القيام بحمله. وهكذا المسرف لا يستطيع الارتقاء بحياته أو القيام بأعبائها وطموحاتها المستقبل له ولأولاده من بعده.
فإنْ قبضتَ كل القَبْض فأنت مَلُوم، وإنْ بسطتَ كُلَّ البسْط فتقعد محسوراً عن طموحات الحياة التي لا تَقْوى عليها.
إذن: فكلا الطرفين مذموم، ويترتب عليه سوء لا تُحمد عُقْباه في حياة الفرد والمجتمع. إذن: فما القصد؟
القصد أن يسير الإنسان قواماً بين الإسراف والتقتير، كما قال تعالى: ﴿والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ [الفرقان: ٦٧]
فالقرآن يضع لنا دستوراً حاسماً وَسَطاً ينظّم الحركة الاقتصادية في حياة المجتمع، فابْسُط يدك بالإنفاق لكي تساهم في سَيْر عجلة الحياة وتنشيط البيع والشراء، لكن ليس كل البسط، بل تُبقِي من دخلك على شيء لتحقق طموحاتك في الحياة، وكذلك لا تمسك وتُقتّر على نفسك وأولادك فيلومونك ويكرهون البقاء معك، وتكون عضواً خاملاً في مجتمعك، لا تتفاعل معه، ولا تُسهم في إثراء حركته.
والحق سبحانه وتعالى وهو صاحب الخزائن التي لا تنفذ، وهو القائل: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ..﴾ [النحل: ٩٦]
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾.
إنما حركة الحياة تتطلب أنْ يحتاج صاحب المال إلى عمل، وصاحب العمل إلى مال، فتلتقي حاجات الناس بعضهم لبعض، وبذلك يتكامل الناس، ويشعر كل عضو في المجتمع بأهميته ودوره في الحياة.
فالغني صاحب المال الذي ربما تعالى بماله وتكبَّر به على الناس يُحوِجه الله لأقل المهن التي يستنكف أن يصنعها، ولا بُدّ له منها لكي يزاول حركة الحياة.
والحق سبحانه لا يريد في حركة الحياة أن يتفضّل الناس على الناس، بل لا بُدَّ أن ترتبط مصالح الناس عند الناس بحاجة بعضهم لبعض.
فإذا كان الحق تبارك وتعالى لا يبسط لعباده كل البَسْط، ولا يقبض عنهم كل القَبْض، بل يقبض ويبسط، فوراء ذلك حكمة لله تعالى بالغة؛ لذلك ارتضى هذا الاعتدال منهجاً لعباده ينظم حياتهم، وعلى العبد أن يرضى بما قُسِم له في الحالتين، وأن يسير في حركة حياته سَيْراً يناسب ما قدَّره الله له من الرزق.
يقول تعالى: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله..﴾ [الطلاق: ٧]
أي: مَنْ ضُيّق عليه الرزق فلينفق على قَدْره، ولا يتطلع إلى ما هو فوق قدرته وإمكاناته، وهذه نظرية اقتصادية تضمن للإنسان الراحة في الدنيا، وتوفر له سلامة العيش.
ورحم الله امرءاً عرف قَدْر نفسه؛ لأن الذي يُتْعِب الناس في الحياة ويُشقيهم أن ترى الفقير الذي ضُيِّق عليه في الرزق يريد أنْ
فلو تصورنا مثلاً زميلين في عمل واحد يتقاضيان نفس الراتب:
الأول: غنيٌّ وفي سَعَةٍ من العيش قد يأخذ من أبيه فوق راتبه.
والآخر: فقير ربما يساعد أباه في نفقات الأسرة.
فإذا دخلا محلاً لشراء شيء ما، فعلى الفقير ألاَّ ينظر إلى وَضْعه الوظيفي، بل إلى وضعه ومستواه المادي، فيشتري بما يتناسب معه، ولا يطمع أن يكون مثل زميله؛ لأن لكل منهما قدرةً وإمكانية يجب ألاَّ يخرج عنها.
هذه هي النظرية الاقتصادية الدقيقة، والتصرُّف الإيماني المتزن؛ لذلك فالذي يحترم قضاء الله ويَرْضَى بما قَسَمه له ويعيش في نطاقه غير متمرد عليه، يقول له الحق سبحانه: لقد رضيت بقدري فيك فسوف أرفعك إلى قدري عندك، ثم يعطيه ويُوسِّع عليه بعد الضيق.
وهذا مُشَاهَد لنا في الحياة، والأمثلة عليه واضحة، فكم من أُناس كانوا في فقر وضيق عيش، فلما رَضُوا بما قَسَمه الله ارتقتْ حياتهم وتبدّل حالهم إلى سَعَة وتَرَف.
فالحق سبحانه يبسط الرزق لمَنْ يشاء ويقدر؛ لأنه سبحانه يريد أن يضع الإنسانُ نفسه دائماً في مقام الخلافة في الأرض، ولا ينسى هذه الحقيقة، فيظن أنه أصيل فيها.
والخيبة كل الخيبة أن ينسى الإنسان أنه خليفة لله في الأرض، ويسير في حركة الحياة على أنه أصيل في الكون، فأنت فقط خليفة
فإن اعتبرتَ نفسك أصيلاً ضَلَّ الكون كله؛ لأن الله تعالى جعل الدنيا أغياراً وجعلها دُوَلاً، فالذي وُسِّع عليه اليوم قد يُضيَّق عليه غداً، والذي ضُيِّق عليه اليوم قد يُوسَّع عليه غداً.
وهذه سُنة من سُنَنَ الله في خَلْقه لِيَدكّ في الإنسان غرور الاستغناء عن الله.
فلو متَّع الُله الإنسانَ بالغنى دائماً لما استمتع الكون بلذة: يا رب ارزقني، ولو متَّعة بالصحة دائماً لما استمتع الكون بلذة: يا رب اشفني. لذلك يظل الإنسان موصولاً بالمنعِم سبحانه محتاجاً إليه داعياً إياه.
وقد قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى﴾ [العلق: ٦ - ٧]
فالحاجة هي التي تربط الإنسان بربه، وتُوصله به سبحانه.
فالبَسْط والتضييق من الله تعالى له حكمة، فلا يبسط لهم الرزق كل البسط، فيعطيهم كُلَّ ما يريدون، ولا يقبض عنهم كل القبض فيحرمهم ويُريهم ما يكرهون، بل يعطي بحساب وبقدر؛ لتستقيم حركة الحياة، كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ..﴾ [الشورى: ٢٧]
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾ [الإسراء: ٣٠]
لأن الحق سبحانه لو لم يوزع الرزق هذا التوزيع الحكيم لاختلَّ ميزان العالم، فَمنْ بُسِط له يستغني عن غيره فيما بُسِط له فيه، ومَنْ
إنما إذا علم الجميع أن هذا بقدر الله وحكمته فسوف يظل الكون المخلوق موصولاً بالمُكوِّن الخالق سبحانه.
وفي قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ..﴾ [الإسراء: ٣٠]
ملمح لطيف: أي ربك يا محمد وأنت أكرم الخلق عليه، ومع ذلك بَسَط لك حتى صِرْت تعطي عطاء مَنْ لا يخشى الفقر، وقبض عنك حتى تربط الحجر على بطنك من الجوع.
فإن كانت هذه حاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا يستنكف أحد منا إنْ ضيّق الله عليه الرزق، ومَنْ منّا ربط الحجر على بطنه من الجوع؟!
وبعد أنْ حدَّثنا الحق سبحانه عن فرع من فروع الحياة وهو المال، ورسم لنا المنهج الذي تستقيم الحياة به ويسير الإنسان به سيراً يُحقّق له العيش الكريم والحياة السعيدة، ويضمن له الارتقاءات والطموحات التي يتطلع إليها.
أراد سبحانه أن يُحدّثنا عن الحياة في أصلها، فأمر باستبقاء النسل، ونهى عن قتله فقال تعالى: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ... ﴾.
بل الخالق سبحانه هو الذي خلقكم وخلقهم، وهو الذي استدعاكم واستدعاهم إلى الوجود، وما دام هو سبحانه الذي خلق، وهو الذي استدعى إلى الوجود فهو المتكفّل برزق الجميع، فإياك أنْ تتعدَّى اختصاصك، وتُدخِل أنفك في هذه المسألة، وخاصة إذا كانت تتعلق بالأولاد.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ..﴾ [الإسراء: ٣١]
القتل: إزهاق الحياة، وكذلك الموت. ولكن بينهما فَرْق يجب ملاحظته:
فالقتل: إزهاق الحياة بنَقْض البِنْية؛ لأن الإنسان يتكوّن من بنية بناها الخالق سبحانه وتعالى، وهي أجهزة الجسم، ثم يعطيها الروح فتنشأ فيها الحياة.
فإذا ضرب إنسانٌ إنساناً آخر على رأسه مثلاً، فقد يتلف مخه فتنتهي حياته، لكن تنتهي بنقْض البنية التي بها الحياة، لأن الروح لا تبقى إلا في جسم له مواصفات خاصة، فإذا ما تغيرت هذه الصفات فارقتْه الروح.
أما الموت: فيبدأ بمفارقة الروح للجسد، ثم تُنقَض بنيته بعد ذلك. وتتلَفُ أعضاؤه، فالموت يتم في سلامة الأعضاء.
لأنك نقضتَ شيئاً أساسياً في عملية الإنارة هذه. وكذلك إذا صَوَّب واحد رصاصة مثلاً في قلب الآخر فإنه يموت وتفارقه الروح؛ لأنك نقضْتَ عنصراً أساسياً من بنية الإنسان، ولا تستمر الروح في جسده بدونها.
لذلك ليس في الشرع عقوبة على الموت ونقصد به هنا الموت الطبيعي الذي يبدأ بخروج الروح من الجسد لكن توجد عقوبة على القتل، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ملعون من هدم بنيان الله».
لأن حياة كل منا هي بناء أقامه الخالق تبارك وتعالى، وهو مِلْك لخالقه لا يجوز حتى لصاحبه أن ينقضه، وإلا فلماذا حرَّم الإسلامُ الانتحار، وجعله كفراً بالله؟!
إذن: المنهي عنه في الآية القتل؛ لأنه من عمل البشر، وليس الموت. وقد أوضح القرآن الكريم هذه المسألة في قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٤٤]
فالقتل غير الموت، القتل اعتداء على بِنْية إنسان آخر وهَدْم لها. وقوله تعالى: ﴿أَوْلادَكُمْ..﴾ [الإسراء: ٣١]
الأولاد تُطلق على الذكَر والأنثى، ولكن المشهور في استقصاء
لأنهم في هذه العصور كانوا يعتبرون الذكور عَوْناً وعُدّةً في مُعْترك الحياة، وما يملؤها من هجمات بعضهم على بعض، كما يَروْن فيهم العِزْوة والامتداد.
في حين يعتبرون البنات مصدراً للعار، خاصة في ظِلّ الفقر والعَوَزِ والحاجة، فلربما يستميل البنت ذو غِنىً إلى شيء من المكروه في عِرْضها، وبهذا الفهم يؤول المعنى إلى الرزق أيضاً.
وقوله: ﴿خَشْيَةَ إِمْلاقٍ..﴾ [الإسراء: ٣١]
وقوله: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم..﴾ [الإسراء: ٣١]
وفي هذه الآية مَلْمح لطيف يجب التنّبه إليه وفَهْمه لنتمكن من الردِّ على أعداء القرآن الذين يتهمونه بالتناقض.
الحق سبحانه وتعالى يقول هنا: ﴿خَشْيَةَ إِمْلاقٍ..﴾ [الإسراء: ٣١]
أي: خَوْفاً من الفقر، فالفقر إذن لم يَأْتِ بعد، بل هو مُحْتمل الحدوث في مستقبل الأيام، فالرزق موجود وميسور، فالذي يقتل أولاده في هذه الحالة غير مشغول برزقه، بل مشغول برزق أولاده في المستقبل؛ لذلك جاء الترتيب هكذا: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ..﴾ [الإسراء: ٣١]
أولاً: لأن المولود يُولَد ويُولَد معه رزقه، فلا تنشغلوا بهذه المسألة؛ لأنها ليستْ من اختصاصكم.
ثم: ﴿وَإِيَّاكُم..﴾ [الإسراء: ٣١]
أي: أن رِزْق هؤلاء الأبناء مُقدَّم على رزقكم أنتم، ويمكن أن يُفْهَم المعنى على أنه: لا تقتلوا أولادكم خَوْفاً من الفقر، فنحن نرزقكم من خلالهم، ومن أجلهم.
ونهتمّ بتوضيح هذه المسألة؛ لأن أعداء الدين الذين يُنقِّبون في القرآن عن مَأْخذ يروْنَ تعارضاً أو تكراراً بين هذه الآية التي معنا وبين آية أخرى تقول: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ..﴾ [الأنعام: ١٥١]
ونقول لهؤلاء: لقد استقبلتم الأسلوب القرآني بغير الملَكَة العربية في فَهْمه، فأسلوب القرآن ليس صناعة جامدة، بل هو أسلوب بليغ يحتاج في فَهْمه وتدبُّره إلى ذَوْق وحِسٍّ لُغويٍّ.
وإذا استقبلتم كلام الله استقبالاً سليماً فلن تجدوا فيه تعارضاً ولا تكراراً، فليست الأولى أبلغَ من الثانية، ولا الثانية أبلغَ من الأولى، بل كل آية بليغة في موضوعها؛ لأن الآيتين وإنْ تشابهتَا في
وقد أوضحنا الحكمة من هذا الترتيب: نرزقهم وإياكم.
أما في آية الأنعام: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ..﴾ [الأنعام: ١٥١]
فلا بُدَّ أن نلاحظَ أن للآية صدراً وعَجُزاً، ولا يصح أن تفهم أحدهما دون الآخر، بل لا بُدَّ أن تجمع في فَهْم الآية بين صدرها وعجزها، وسوف يستقيم لك المعنى ويُخرجك من أي إشكال.
وما حدث من هؤلاء أنهم نظروا إلى عَجُزَيْ الآيتين، وأغفلوا صَدريهما، ولو كان الصدر واحداً في الآيتين لكان لهم حق فيما ذهبوا إليه، ولكنّ صَدْري الآيتين مختلفان:
الأولى: ﴿خَشْيَةَ إِمْلاقٍ..﴾ [الإسراء: ٣١]
والأخرى:
﴿مِّنْ إمْلاَقٍ..﴾ [الأنعام: ١٥١]
والفرْق واضح بين التعبيرين: فالأول: الفقر غير موجود؛ لأن الخشية من الشيء دليل أنه لم يحدث، ولكنه مُتوقَّع في المستقبل، وصاحبه ليس مشغولاً برزقه هو، بل برزق مَنْ يأتي من أولاده.
أما التعبير الثاني: ﴿مِّنْ إمْلاَقٍ..﴾ [الأنعام: ١٥١]
فالفقر موجود وحاصل فعلاً، والإنسان هنا مشغول برزقه هو لا برزق المستقبل، فناسب هنا أنْ يُقدِّم الآباء في الرزق عن الأبناء.
وما دام الصَّدْر مختلفاً، فلا بُدَّ أن يختلف العَجُز، فأيْنَ التعارضُ
فالفاعل جمع، والمفعول به جمع، وسبق أن قلنا: إن الجمع إذا قُوبل بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، فالمعنى: لا يقتل كل واحد منكم ولده. كما يقول المعلم للتلاميذ: أخرجوا كُتبكم، والمقصود أنْ يُخرج كل تلميذ كتابه.
فإنْ قال قائل: إن الآية تنهي أنْ يقتلَ الأب ولده خَوْفاً من الفقر، لكنها لا تمنع أنْ يقتل الأبُ ولد غيره مجاملةً له، وهو الآخر يقتل ولد غيره مجاملة له.
نقول: لا.. لأن معنى الآية ألاَّ يقتل كل الآباء كل الأولاد، فينسحب المعنى على أولادي وأولاد غيري، وهذا هو المراد بمقابلة الجمع بالجمع. أما لو قُلْنا: إن المعنى: تجاملني وتقتل لي ابني، وأجاملك وأقل لك ابنك، فهذا لا يستقيم؛ لأن المقابلة هنا ليس مقابلة جمع بجمع.
وقوله تعالى: ﴿إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً﴾ [الإسراء: ٣١]
خِطْئاً مثل خطأ، وهو الإثم والذنب العظيم. وتأتي بالكسر وبالفتح كما نقول: خُذوا حِذْركم، وخذوا حَذرَكم.
وكلمة: ﴿خِطْئاً..﴾ [الإسراء: ٣١]
الخاء والطاء والهمزة تدل على عدم موافقة الصواب، لكن مرة يكون عدم موافقة الصواب لأنك لم تعرف الصواب، ومرة أخرى لم توافق الصواب لأنك عرفتَ الصواب، ولكنك تجاوزْتَه.
وهنا لا مانع أنْ نُصوِّب له خَطَأه ونُرشده؛ لأنه ما يزال في زمن الدرس والتعلُّم والترويض والتدريب.
لكن الأمر يختلف إنْ كانت هذه الأسئلة في امتحان آخر العام، فالمعلِّم يُبيِّن الخطأ، ولكنه لا يُصحِّحه، بل يُقدِّره بالدرجات التي تُحسَب على التلميذ، وتنتهي المسألة بالنجاح لِمَنْ أصاب، وبالفشل لمن أخطأ؛ لأن آخر العام أصبح لديه قواعد مُلْزمة، عليه أنْ يسيرَ عليها.
وكلمة (خطْئاً أو خطأ) مأخوذة من خطا خطوة، وتعني الانتقال بالحركة، فإذا كان الصواب هو الشيء الثابت الذي استُقِرَّ عليه وتعارف الناس عليه، ثم تجاوزتَه وانتقلتَ عنه إلى غيره، فهذا هو الخطأ أي: الخطوة التي جعلتك تتجاوز الصواب.
ومنه قوله تعالى:
﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان..﴾ [البقرة: ١٦٨]
لأنه ينقلكم عن الشيء الثابت المستقر في شريعة الله.
حتى لو أخذنا بقول مَنْ ذهب إلى أن ﴿أَوْلادَكُمْ﴾ المراد بها البنون دون البنات، وسَلَّمنا معه جدلاً أنك تُميت البنات، وتُبقى على الذكور، فما الحال إذا كَبِر هؤلاء الذكور وطلبوا الزواج؟ ﴿وكيف يستمر النسل بذكر دون أنثى؟﴾
إذن: هذا فََهْمٌ لا يستقيم مع الآية الكريمة، لأن النهي هنا عن قتل الأولاد، وهم البنون والبنات معاً.
وقد وصف الحق سبحانه الخطأ هنا بأنه كبير، فقال: ﴿خِطْئاً كَبِيراً﴾ [الإسراء: ٣١]
ذلك لأنه خطأ من جوانب مُتعدِّدة:
أولهما: أنك بالقتل هدمتَ بنيان الله، ولا يهدم بنيان الله إلا الله.
ثانيها: أنك قطعت سلسلة التناسل في الأرض، وقضيتَ على الخلافة التي استخلفها الله في الأرض.
ثالثها: أنك تعديتَ على غريزة العطف والحنان؛ لأن ولدك بعض مِنْك، وقتله يُجرِّدك من كل معاني الأُبُوة والرحمة، بل والإنسانية.
وهكذا وضع الحق سبحانه لنا ما يضمن بقاء النسل واستمرار
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً﴾.
إنما أَوْلاَدُنَا أكبادُناَ | تمشي عَلَى الأَرْضِ |
إنْ هَبَّتْ الريحُ على بَعْضهِم | امتنعَتْ عَيْني عَنِ الغُمْضِ |
لذلك يُحذِّرنا الحق تبارك وتعالى من هذه الجريمة النكْراء؛
فيقول تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى..﴾ [الإسراء: ٣٢]
والمتأمل في آي القرآن الكريم يجد أن الحق سبحانه حينما يُكلِّمنا عن الأوامر يُذيِّل الأمر بقوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا..﴾ [البقرة: ٢٢٩]
والحديث هنا عن أحكام الطلاق، فقد وضع له الحق سبحانه حدوداً، وأمرنا أن نقف عندها لا نتعداها، فكأنه سبحانه أوصلنا إلى هذا الحد، والممنوع أن نتعداه.
وأما في النواهي، فيُذيلها بقوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا..﴾ [البقرة: ١٨٧]
والنهي هنا عن مباشرة النساء حال الاعتكاف، وكأن الحق سبحانه يريد ألاّ نصلَ إلى الحدِّ المنهي عنه، وأنْ يكون بيننا وبينه مسافة، فقال ﴿فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ لنظلّ على بُعْدٍ من النواهي، وهذا احتياط واجب حتى لا نقتربَ من المحظور فنقع فيه.
وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه».
نقول: لأن الله تعالى يريد أنْ يرحَم عواطفك في هذه المسألة بالذات، مسألة الغريزة الجنسية، وهي أقوى غرائز الإنسان، فإنْ حُمْتَ حولها توشك أن تقعَ فيها، فالابتعاد عنها وعن أسبابها أسلَمُ لك.
وحينما تكلًّم العلماء عن مظاهر الشعور والعلم قسَّموها إلى ثلاث مراحل: الإدراك، ثم الوجدان، ثم النزوع.
فلو فرضنا أنك تسير في بستان فرأيتَ به وردة جميلة، فلحظة أنْ نظرتَ إليها هذا يُسمَّى «الإدراك» ؛ لأنك أدركتَ وجودها بحاسة البصر، ولم يمنعك أحد من النظر إليها والتمتُّع بجمالها.
فإذا ما أعجبتك وراقك منظرها واستقر في نفسك حُبُّها فهذا يسمى «الوجدان» أي: الانفعال الداخلي لما رأيتَ، فإذا مددتَ يدك لتقطفها فهذا «نزوع» أي: عمل فعلي.
ففي أي مرحلة من هذه الثلاث يتحكَّم الشرع؟
الشرع يتحكم في مرحلة النزوع، ولا يمنعك من الإدراك، أو من الوجدان، إلا في هذه المسألة «مسألة الغريزة الجنسية» فلا يمكن فيها فَصْل النزوع عن الوجدان، ولا الوجدان عن الإدراك، فهي
فإذا رأى الرجل امرأة جميلة، فإن هذه الرؤية سرعان ما تُولِّد إعجاباً وميلاً، ثم عِشْقاً وغريزة عنيفة تدعوه أنْ تمتدَّ يده، ويتولد النزوع الذي نخافه، وهنا إما أنْ ينزعَ ويُلبي نداء غريزته، فيقع المحرم، وإما أنْ يعف ويظل يعاني مرارة الحرمان.
والخالق سبحانه أعلم بطبيعة خَلْقه، وبما يدور ويختلج داخلهم من أحاسيس ومشاعر؛ لذلك لم يُحرِّم الزنا فحسب، بل حرَّم كل ما يؤدي إليه بداية من النظر، فقال تعالى: ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ..﴾ [النور: ٣٠]
لأنك لو أدركتَ لوجدتَ، ولو وجدتَ لنزعتَ، فإنْ أخذتََ حظَّك من النزوع أفسدتَ أعراض الناس، وإنْ عففتَ عِشْتَ مكبوتاً تعاني عِشْقاً لن تناله، وليس لك صبر عنه.
إذن: الأسلم لك وللمجتمع، والأحفظ للأعراض وللحرمات أنْ تغُضَّ بصرك عن محارم الناس فترحم أعراضهم وترحم نفسك.
لكن هذه الحقيقة كثيراً ما تغيب عن الأذهان، فيغشّ الإنسانُ نفسه بالاختلاط المحرم، وإذا ما سُئل ادَّعى البراءة وحُسْن النية وأخذ من صلة الزمالة إلى القرابة أو الجوار ذريعة للمخالطة والمعاشرة وهو لا يدري أنه واهم في هذا كله، وأن خالقه سبحانه أدرى به
لذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «النظرة سَهْم مسموم من سهام إبليس، مَنْ تركها من مخافتي أبدلتُه إيماناً يجد حلاوته في قلبه».
ومن هنا نفهم مراده سبحانه من قوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى..﴾ [الإسراء: ٣٢]
ولم يقل: لا تزنوا. لأن لهذه الجريمة مقدمات تؤدي إليها فاحذر أنْ تجعلَ نفسك على مقربة منها؛ لأن مَنْ حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ودَعْكَ ممَّنْ يُنادون بالاختلاط والإباحية؛ لأن الباطل مهما عَلاَ ومهما كَثُر أتباعه فلن يكون حقاً في يوم من الأيام.
وأحذر ما يشيع على الألسنة من قولهم هي بنت عمه، وهو ابن خالها، وهما تربَّيا في بيت واحد، إلى آخر هذه المقولات الباطلة التي لا تُغيّر من وجه الحرام شيئاً، فطالما أن الفتاة تحل لك فلا يجوز لك الخلوة بها.
وفي الحديث النبوي: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما».
ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى في تحريم الخمر: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ٩٠]
ومع ذلك يخرج علينا مَنْ يقول: ليس في القرآن آية واحدة تحرم شرب الخمر.. سبحان الله، فأيُّهما أبلغ وأشدّ في التحريم أن نقول لك: لا تشرب الخمر، أم اجتنب الخمر؟
لا تشرب الخمر: نَهْي عن الشُّرْب فقط. إذن: يُبَاحُ لك شراؤها وبيعُها وصناعتها ونقلها.. الخ. أما الاجتناب فيعني: البعد عنها كُلية، وعدم الالتقاء بها في أي مكان، وعلى أية صورة.
فالاجتناب إذن أشدّ من مجرد التحريم.
وكيف نقول بأن الاجتناب أقل من التحريم، وقد قال تعالى في مسألة هامة من مسائل العقيدة: ﴿والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا﴾ [الزمر: ١٧]
فهل تقول في هذه: إن الاجتناب أقلّ من التحريم؟ وهل عبادة الطاغوت ليست محرمة؟!
ثم يقول تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً..﴾ [الإسراء: ٣٢]
والمراد من الأصول التي يلتقي عليها الزوجان عقد القِران الذي يجعهما بكلمة الله وعلى سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وهَبْ أن لك بنتاً بلغت سنَّ الزواج، وعلمتَ أن شاباً ينظر إليها، أو يحاول الاقتراب منها، أو ما شابه ذلك، ماذا سيكون موقفك؟ لا شكَّ أن نار الغيرة ستشتعل بداخلك، وربما تعرَّضْتَ لهذا الشاب، وأقمْتَ الدنيا ولم تُقعِدْها.
لكن إذا ما طرق هذا الشاب بابَك، وتقدَّم لخطبة ابنتك فسوف تقابله بالترْحَاب وتسعد به، وتدعو الأهل، وتقيم الزينات والأفراح.
إذن: فما الذي حدث؟ وما الذي تغيَّر؟ وما الفرق بين الأولى والثانية؟
الفرق بينهما هو الفرق بين الحلال والحرام؛ لذلك قيل: «جدع الحلال أنف الغيرة».
فالذي يغَارُ على بناته من لمسة الهواء تراه عند الزواج يُجَهِز ابنته، ويُسلمها بيده إلى زوجها؛ لأنهما التقيا على كلمة الله، هذه الكلمة المقدسة التي تفعل في النفوس الأعاجيب.
ومن آثار كلمة الله التي يلتقي عليها الزوجان، أنها تُحدِث سيالاً بينهما، هو سِيَال الاستقبال الحسن، وعدم الضَّجَر، وعدم الغيرة والشراسة، فيلتقيان على خير ما يكون اللقاء.
ولذلك حينما يُشرِّع لنا الحق تبارك وتعالى العِدَّة، نجد عدة المطلقة غير عِدَّة المتوفَّى عنها زوجها، وفي هذا الاختلاف حكمة؛ لأن الحق سبحانه يعلم طبيعة النفس البشرية وما يُؤثّر فيها.
ولو كانت الحكمة من العدة مجرد استبراء الرحم لكفى شهر واحد وحَيْضة واحدة، إنما الأمر أبعد من ذلك، فعند المرأة اعتبارات أخرى ومازالت تحت تأثير الزواج السابق؛ لأن سيال الحال فيه التقاء الإيجاب والسلب من الرجل والمرأة، وقد تعودتْ المرأة على الإيجاب الحلال والسلب الحلال.
فإذا طُلِّقَت المرأة فلا يحلّ لها الزواج قبل انقضاء العدة التي حددها الشرع بثلاثة أشهر، وهي المدة التي يهدأ فيها سِيَال الحلال في نفسها ويجمد، وبذلك تكون صالحة للالتقاء بزوج آخر.
والحق سبحانه هنا يُراعِي طبيعة المرأة ومشاعرها، وعواطف الميل والرغبة في زوجها، ويعلم سبحانه أن هذا الميلَ وهذه الرغبة تحتاج إلى وقت ليهدأ هذه العواطف لدى المرأة، وتستعد نفسياً للالتقاء بزوج آخر؛ لأن لقاء الزوج بزوجته مسألة لا يحدث الانسجام فيها بالتكوين العقلي، بل الانسجام فيها بالتكوين العاطفي الغريزي الذي يعتمد بالدرجة الأولى على توافق الذرات بين الذكر والأنثى.
هذا التوافق هو الذي يُولّد ذرات موجبة، وذرات سالبة، فيحدث التوافق، ويحدث الحب والعِشْق الذي يجمعهما ويمتزجان من خلاله.
وهذا كما قلنا أثر من آثار كلمة الله التي اجتمعا عليها وتحت ظلها.
وهكذا يلتقي الزوجان في راحة وهدوء نفسي، ويسكن كل منهما للآخر؛ لأن ذراتهما انسجمت وتآلفت؛ ويفرح الأهل ويسعد الجميع،
وهذه الكلمة من الله تعالى الذي خلق الإنسان ويعلم ما يُصلحه ولك أنْ تتصورَ الحال إنْ تَمَّ هذا اللقاء فيما حَرَّم الله، وبدون هذه الكلمة وما يحدث فيه من تنافر الذرات وعدم انسجام ونكَدٍ ومرارة لا تنتهي، ما بقيتْ فيهما أنفاس الحياة.
لذلك سمَّاه القرآن فاحشةً، والدليل على فُحْشه أن الموصوم به يحب ألاَّ يُعرف، وأن تظل جرائمه خِلْسة من المجتمع، وأن الذي يقترف هذه الفاحشة يكره أن تُفعلَ في محارمه، ويكفيها فُحْشاً أن الله تعالى سماها فاحشة، وشرع لها حداً يُقام على مرتكبها علانية أمام أعين الجميع.
وقد عالج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الداء، حينما أتاه شاب يشتكي ضعفه أمام غريزته الجنسية، ويقول له: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتى بقضايا دينيه عامة للجميع، ولكن حين يعالج داءات المجتمع يعالج كل إنسان بما يناسبه، وعلى حَسْب ما فيه من داءات الضعف أمام شهوات نفسه.
ويتضح لنا هذا المنهج النبوي في جواب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد سُئِلَ كثيراً عن أفضل الأعمال، فقال لأحدهم: «الصلاة لوقتها».
وقال لآخر: «أن تبر أخاك».
وهكذا تعددتْ الإجابات، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يصف مزيجاً عاماً يعطيه للجميع، بل يعطي لكل سائل الجرعة التي تُصلِح خللاً في إيمانه، كالطبيب الذي يهتم بعلاج مريضه، فيُجرى له التحاليل والفحوصات اللازمة؛ ليقف على موضع المرض ويصِف العلاج المناسب.
فكيف استقبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الشاب الذي جاءه يقول: يا رسول الله إني أصلي وأصوم، وأفعل كل أوامر الدين إلا أنني لا أقدر على مقاومة هذه الغريزة؟
هل نهره واعتبره شاذاً، وأغلق الباب في وجهه؟ لا والله، بل اعتبره مريضاً جاء يطلب العلاج بعد أن اعترف بمرضه، والاعتراف بالمرض أولى خطوات الشفاء والعافية.
وهذا الشاب ما جاء لرسول الله إلا وهو كاره لمرضه، وأول ظاهرة في العافية أن تعترف بمرضك، ولا تتكبر عليه، فإنْ تكبَّرتَ عليه استفحلَ واستعصى على العلاج.
وقد اعتبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شكوى هذا الشاب ظاهرة صحية في إيمانه؛ لأنه ما جاء يشكو إلا وهو كاره لهذه الجريمة، ويجد لها شيئاً في نفسه، وانظر كيف عالجه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «
ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم ولا لأخواتهم ولا لزوجاتهم ولا لبناتهم «ثم وضع يده الشريفة على صدر هذا الشاب ودعا له:» اللهم نَقِّ صدره، وحَصِّن فَرْجه «».
وانصرف الشاب وهو يقول: لقد خرجتُ من عند رسول الله وليس أكرَه عندي من الزنا، ووالله ما همَمْتُ بشيء من ذلك إلا وذكرْتُ أمي وأختي وزوجتي وبناتي.
وما أشبه طريقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في علاج هذا الشاب بما يفعله أهل الصيدلة، فعندهم مصطلح يسمونه «برشمة المر»، فإن كان الدواء مُرّاً ولا يستسيغه المريض غَلَّفوه بمادة سكرية حتى يمرَّ من منطقة التذوق، فلا يشعر المريض بمرارته.
وقد جعل الخالق سبحانه منطقة التذوق في اللسان فحسب، دون غيره من الأعضاء التي يمرُّ بها الطعام، واللسان آية من آيات الله في خَلْق الإنسان، ومظهر من مظاهر قدرته سبحانه، حيث جعل فيه حلمات دقيقة يختصُّ كل منها بتذوُّق نوع من الطعام: فهذه للحلو، وهذه للمر، وهذه للحرِّيف، وهكذا، مع أنها مُتراصّة ومُلْتصقة بعضها ببعض.
وقالوا: الحقائق مُرّة، فلا ترسلوها جبلاً، ولا تجعلوها جدلاً.
وعلى الناصح أن يراعي حال المنصوح، وأنْ يرفقَ به، فلا يجمع عليه قسوة الحرمان مما أَلِف مع قسوة النصيحة. وقد وضع لنا الحق سبحانه المنهج الدعوي الذي يجب أن نسير عليه في قوله تعالى: ﴿ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة..﴾ [النحل: ١٢٥]
ومن أدب النصيحة أيضاً الذي تعلَّمناه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تكون سِرَّاً، فليس من مصلحة أحد أنْ تُذاعَ الأسرار؛ لأن لها أثراً سلبياً في حياة المجتمع كله وفي المنصوح نفسه، فإنْ سترْتَ عليه في نصيحتك له كان أدعى إلى قبوله لما تقوله، وقديماً قالوا: مَنْ نصح أخاه سراً فقد ستره وَزَانَه، ومَنْ نصحه جَهْراً فقد فضحه وشَانَهُ.
ثم يقول تعالى: ﴿وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٢]
والسبيل هو الطريق الموصل لغاية، وغاية الحياة أننا مُسْتخلفون في الأرض، خلقنا الله لعمارتها والسعي فيها بما يُسعدنا جميعاً، ويعود علينا بالخير والصلاح، فإذا ضَلَّ الإنسانُ وانحرف عَمّا رسمه له ربه أفسد هذه الخلافة، وأشقى الدنيا كلها بدل أنْ يُسعدها.
وأعتقد أن ما نشاهده الآن في بيئات الانحلال والانحراف،
ويكفي أنك إذا خرجتَ من بيتك في مهمة تستلزم المبيت تأخذ جميع لوازمك وأدواتك الشخصية، وتخاف من شبح العدوى الذي يطاردك في كل مكان، في الحجرة التي تدخلها، وفي السرير الذي تنام عليه، وفي دورة المياه التي تستعملها، الجميع في رُعْب وفي هلع، والإيدز ينتشر انتشار النار في الهشيم، وأصبح لا يسلَم منه حتى الأسوياء الأطهار.
وما حدث هذا الفزع إلا نتيجة لخروج الإنسان عن منهج الله خروجاً جعل هذه المسألة فوضى لا ضابطَ لها، فأحدث الله لهم من الأمراض والبلايا بقدْر فجورهم وعصيانهم، وما داموا لم يأتُوا بالحسنى فليأتوا راغمين مُفزَّعين.
لذلك العالم كله الآن يباشر مشروعات عِفَّة وطهارة، لا عن إيمان بشرع الله، ولكن عن خَوْف وهَلَع من أمراض شتَّى لا ترحم ولا تُفرِّق بين واحد وآخر.
إذن: الزنا فاحشة وساء سبيلاً، وهاهي الأحداث والوقائع تُثبت صِدْق هذه الآية، وتثبت أن أيّ خروج من الخَلْق عن منهج الخالق لن يكون وراءه إلا نَكَدُ الدنيا قبل أن ينتظرهم في الآخرة.
والآن وقد ضمنَّا سلامة الأعراض، وضمنَّا طهارة النسل، وأصبح لدينا مجتمع طاهر سليم، يأْمَنُ فيه الإنسان على هذا
كان القياس أنْ يُقابل الجمع بالجمع، فيقول: لا تقتلوا النفوس التي حرَّم الله، لكن الحق سبحانه وتعالى يريد أن قَتْل النفس الواحد مسئوليةُ الجميع، لا أنْ يسأل القاتل عن النفس التي قتلها، بل المجتمع كله مسئول عن هذه الجريمة.
﴿التي حَرَّمَ الله..﴾ [الإسراء: ٣٣] أي: جعلها محرّمة لا يجوز التعدي عليها؛ لأنها بنيان الله وخلْقته وصناعته، وبنيان الله لا يهدمه أحد غيره. أو نقول: ﴿النفس التي حَرَّمَ الله..﴾ [الإسراء: ٣٣] أي: حرَّم الله قتلها.
﴿إِلاَّ بالحق﴾ [الإسراء: ٣٣] هذا الاستثناء من الحكم السابق الذي قال: لا تقتلوا النفس التي حرم الله ﴿إِلاَّ بالحق﴾ أي: ولكن اقتلوها بالحق، والحق هنا المراد به ثلاثة أشياء:
القصَاص من القاتل.
الردَّة عن الإسلام.
وهذه أسباب ثلاثة تُوجِب قَتْل الإنسان، والقتْل هنا يكون بالحق أي: بسبب يستوجب القتل.
وقد أثار أعداء الإسلام ضَجَّة كبيرة حول هذه الحدود وغيرها، واتهموا الإسلام بالقسوة والوحشية، وحُجَّتهم أن هذه الحدود تتنافى وإنسانية الإنسان وآدميته، وتتعارض مع الحرية الدينية التي يقول بها الإسلام في قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين..﴾ [البقرة: ٢٥٦]
ففي القصاص قالوا: لقد خَسِر المجتمع واحداً بالقتل، فكيف نُزِيد من خسارته بقتْل الآخر؟
نقول: لا بُدَّ أن نستقبلَ أحكام الله بفْهمٍ وَاع ونظرة متأمّلة، فليس الهدف من تشريع الله للقصاص كثرة القتل، إنما الهدف ألاّ يقع القتل، وألاَّ تحدثَ هذه الجريمة من البداية.
فحين يُخبرك الحق سبحانه أنك إنْ قتلتَ فسوف تُقتَل، فهو يحمي حياتك وحياة الآخرين. وليس لدى الإنسان أغلى من حياته، حتى القاتل لم يقتل إلا لأنه يحب الحياة، وقتل من أجلها مَنْ قتل؛ لأنه ربما خدش عِزَّته أو كرامته، وربما لأنه عدو له أقوى منه.
ولا شكَّ أن حياته أغلى من هذا كله، فحين نقول له: إنْ قتلتَ ستُقتل، فنحن نمنعه أنْ يُقدِم على هذه الجريمة، ونُلوّح له بأقسى ما يمكن من العقوبة. ولذلك قالوا: القتْلُ أنْفَى للقتل.
وهذا نداء لأصحاب الأفهام والعقول الواعية، ليس القصاص كما يظنُّ البعض، بل فيه الحياة وفيه سلامة المجتمع وحَقْن الدماء.
ويجب أن يكون عندنا يقظةُ استقبال لأحكام الله؛ لأن القاتل ما قتل إلا حينما غفل عن الحكم، ويجب أيضاً أن ننظر إلى حكم القصاص نظرة موضوعية، لأنه كما حَمى غيري من قَتْلِي له حماني أيضاً من قَتْل غيري لي، وما دامت المسألة: لك مثل ما عليك، وحظك منها كحظِّ الناس جميعاً، فلماذا الاعتراض؟
وكذلك في السرقة، حينما يقول لك: لا تسرق، فأنت ترى أن هذا الأمر قد قيَّد حريتك أنت، لكن الحقيقة أنه أيضاً قيَّد حرية الآخرين بالنسبة للسرقة منك.
والذي يتأمل هذه الحدود يجدها في صالح الفرد؛ لأنها تُقيِّد حريته وهو فرد واحد، وتُقيِّد من أجله حرية المجتمع كله.
وفي الزكاة، حينما يُوجِب عليك الشارع الحكيم أنْ تُخرِج قَدْراً معلوماً من مالك للفقراء، فلا تَقُلْ: هذا مالي جمعتُه بجَهْدي وعَرقي. ونقول لك: نعم هو مالك، ولكن لا تنسَ أن الأيام دُوَلٌ وأغيار، والغنيّ اليوم قد يفتقر غداً، فحين تعضّك الأيام فسوف تجد مَنْ يعطيك، ويَكيل لك بنفس الكَيْل الذي كِلْتَ به للناس.
إذن: يجب أن نكون على وَعْي في استقبال الأحكام عن الله تعالى، وأن ننظر إليها نظرة شمولية، فنرى ما لنا فيها وما علينا،
وحُكْم القصاص يجعل الإنسان حريصاً على نفسه، ويمنعه أنْ يُقدِم على القَتْل، فإنْ غفل عن هذا الحكم وارتكب هذه الجريمة فلا بُدَّ أن يقتصَّ منه؛ فإن أخذتنا الشهامة وتشدَّقْنا بالإنسانية والكرامة والرحمة الزائفة، وعارضنا إقامة الحدود فليكُنْ معلوماً لدينا أن مَنْ يعارض في إعدام قاتل فسوف يتسبب في إعدام الملايين، وسوف يفتح الباب لفوضى الخلافات والمنازعات، فكلّ من اختلف مع إنسان سارع إلى قَتْله؛ لأنه لا يوجد رادع يُردِعه عن القتل.
إذن: لكي نمنع القتل لا بُدَّ أن نُنفِّذَ حكم الله ونُقيم شَرعه ولو على أقرب الناس؛ لأن هذه الأحكام ما نزلتْ لتكون كلاماً يُتلَى وفقط؛ بل لتكون منهجاً عملياً يُنظِّم حياتنا، ويحمي سلامة مجتمعنا.
لذلك جعل الحق سبحانه وتعالى تنفيذ هذه الأحكام علانية أمام الجميع، وعلى مَرْأى ومَسْمع المجتمع كله؛ ليعلموا أن أحكام الله ليست شفوية، بل ها هي تُطبِّق أمامهم، وصدق الله تعالى حين قال: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين﴾ [النور: ٢]
والذين اعترضوا على القصاص اعترضوا أيضاً على إقامة حَدّ الردَّة، ورأوا فيه وحشية وكَبْتاً للحرية الدينية التي كفَلها الإسلام في قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين..﴾ [البقرة: ٢٥٦]
والحقيقة أن الإسلام حينما شرع حَدَّ الردة، وقال بقتل المرتد عن الدين أراد أن يُصعِّب على غير المسلمين الدخول في الإسلام، وأن يُضيِّق عليهم هذا الباب حتى لا يدخل في الإسلام إلا مَنْ أخلص له،
فهذه تُحسَب للإسلام لا عليه؛ لأنه اشترط عليك أولاً، وأوضح لك عاقبة ما أنت مُقدِم عليه.
أما حرية الدين والعقيدة فهي لك قبل أن تدخل الإسلام دخولاً أولياً، لا يجبرك أحد عليه، فلك أنْ تظلَّ على دينك كما تحب، فإنْ أردتَ الإسلام فتفكّر جيداً وتدبّر الأمر وابحثه بكل طاقات البحث لديك.
فليس في دين الله مجالٌ للتجربة، إنْ أعجبكَ تظلّ في ساحته، وإنْ لم يَرُق لك تخرج منه، فإنْ علمتَ هذه الشروط فليس لك أنْ تعترضَ على حدِّ الردّة بعد ذلك. ولتعلم أن دين الله أعزّ وأكرم من أنْ يستجدي أحداً للدخول فيه.
ثم يقول تعالى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً..﴾ [الإسراء: ٣٣]
وهذا حكم نفي، المفروض ألاَّ يحدث. ومعنى ﴿مَظْلُوماً﴾ أي: قُتِل دون سبب من الأسباب الثلاثة السابقة أي: دون حق، فعلى فَرْض أن هذا القتل وقع بالفعل، فما الحكم؟
يقول تعالى: ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل..﴾ [الإسراء: ٣٣]
وليه: أي وليّ المقتول، وهو مَنْ يتولّى أمره من قرابته: الأب أو الأخ أو الابن أو العم.. الخ فهو الذي يتولّى أمر المطالبة بدمه.
أي: شرعنا له، وأعطيناه الحقَّ والقوة في أنْ يقتل القاتل، والسلطان يكون في خدمة التنفيذ، ويُمكّنه منه، وكذلك المؤمنون أيضاً يقفون إلى جواره، ويساعدونه في تنفيذ هذا الحكم؛ لأن الأمر من الله قد يكون رادعه في ذات النفس، لكن إنْ ضعُفَتْ النفس فلا بُدَّ لرادع من الخارج، وهنا يأتي دور السلطان ودور المجتمع الإيماني الذي يُعين على إقامة هذا الحكم.
إذن: جعل الحق سبحانه وتعالى سلطان القصاص لوليّ الدم، فإنْ لم يكن له وليّ فإن السلطان ينتقل للحاكم العام ليتولى إقامة هذا الحكم، لكن ما يُتعِب الدنيا حينما ينتقل حَقُّ القصاص إلى الحاكم العام طُول الإجراءات التي تُخرج الحكم عن المراد منه، وتُذْكِي نار الحقد والغِلِّ والتِّرَة في نفسِ وليَّ الدم.
فوليّ الدم وحده الذي يُعاني طول فترة التقاضي مع أناس لا يعنيهم أن تطولَ هذه الفترة أو تقصُر؛ لأن طول فترة التقاضي تأتي في صالح القاتل، حيث بمرور الأيام بل والسنين تبْرُد شراسة الجريمة في نفوس الناس، وتأخذ طريقاً إلى طيّات النسيان.
وبهذا تبهت الجريمة وتُنسَى بشاعتها، وبدلَ أن يقف المجتمع ويفكر في القاتل وفي القصاص منه، تتحول الأنظار والعواطف إلى النفس الجديدة التي ستُقتل، وبذلك يتعاطف الناس معه بدل أن يتعاطفوا في إقامة القصاص عليه.
لكن يجب أنْ يُقامَ القصاص قبل أنْ تبُردَ شراسة الجريمة في النفوس، وتبهت وتفقد حرارتها.
ففي جَوِّ القتل وثورة الدماء التي تغلي بالثأر يتكلم الحق سبحانه عن العفو والأخوة والمعروف والإحسان، فمهما كان الأمر فالمؤمنون إخوة، وباب العفو والإحسان مفتوح. ولوليّ الدم بعد أن أعطيناه حَقَّ القصاص ندعوه إلى العفو، وله أن يأخذ الدية وتنتهي المسألة، وله أن يعفوَ عن بعضها أو عنها كلها.
إذن: فإعطاء الحق مَنع عن المقتول له ذِلّة التسلُّط من القاتل؛ لأن الله تعالى أعطاه حَقَّ القصاص منه، فإذا ما عفا عنه علم القاتل أن حياته أصبحت هبة من ولي الدم، وما دام الأمر كذلك فسوف تتلاشى بينهما الضغائن والأحقاد، ويحل محلها الوفاق والمحبة والسلام، ونُنهي تسلسل الثارات الذي لا ينتهي.
وقد اشتهر في صعيد مصر وكان مثالاً للأخْذ بالثأر أن القاتل يأخذ كفنه في يده، ويذهب به إلى وليّ الدم ويُسلِّم نفسه إليه معترفاً بجريمته، معطياً لولي الدم حرية التصرف فيه. فما يكون من ولي الدم أمام هذا الاستسلام إلاّ أن يعفوَ ويصفح، وبذلك تُقتلَع الضغائن من جذورها.
أي: طالما أن الله أعطاك حَقَّ القصاص فليكُنْ القصاص بقَدْره دون زيادة أو تعدٍّ أو مجاوزة للحدِّ، والإسراف في القتل يكون بأوجه عدة:
فقد يكون القاتل غير ذي شأن في قومه، فلا يرضى وليّ الدم بقتْله، بل يتطلع إلى قتل إنسان آخر ذي مكانة وذي شأن، فيقتل إنساناً بريئاً لا ذنبَ له، وهذا من الإسراف في القتل، وهو إسرافٌ في ذات المقتول.
وقد يكون الإسراف في الكَمِّ، فإنْ قُتِل واحد فلا يكتفي وليّ الدم بأن يقتل القاتل، بل يحمله الغِلّ وثورة الدم إلى أنْ يقتل به أكثر من واحد.
وقد يكون الإسراف بأنْ يُمثّل بجثة المقتول، ولا يكفيه قتله، والمفروض ألاَّ يحملك الغضب على تجاوز الحدِّ المشروع لك. وقد أراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يفعلها في قاتل حمزة، فنهاه الله عن ذلك.
ثم يقول تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾ [الإسراء: ٣٣]
أي: لا يجوز له أنْ يُسرف في القتل؛ لأننا لم نتخلّ عنه، بل وقفنا بجانبه وأعطيناه حقّ القصاص ومكنَّاه منه، إذن: فهو منصور
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ... ﴾.
ولم يقل: ولا تأكلوا مال اليتيم ليحذرنا من مجرد الاقتراب، أو التفكير في التعدِّي عليه؛ لأن اليُتْم مظهر من مظاهر الضعف لا صح أنْ تجترئَ عليه.
و ﴿اليتيم﴾ هو مَنْ مات أبوه وهو لم يبلغَ مبلغ الرجال وهو سِنْ الرُّشْد، وما دام قد فقد أباه ولم يَعُدْ له حاضن يرعاه، فسوف يضجر ويتألم ساعة أنْ يرى غيره من الأولاد له أب يحنو عليه، وسوف يحقد على القدَر الذي حرمه من أبيه.
فيريد الحق سبحانه وتعالى أولاً أنْ يستلِّ من قلب اليتيم وفكره هذه المشاعر؛ لذلك يُوصِي المجتمع به ليشعر أنه وإنْ فقد أباه فالمؤمنون جميعاً له آباء، وفي حُنوِّهم وعطفهم عِوَض له عن وفاة والده.
إذن: إنْ وجد اليتيم في المجتمع عِوَضاً عن أبيه عَطْفاً وحناناً ورعاية يرضى بما قُدِّر له، ولا يتأبَّى على قدر الله، وكذلك تطمئن النفس البشرية إنْ قُدِّر عليها اليُتْم في أولادها.
ثم يقول تعالى: ﴿إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ..﴾ [الإسراء: ٣٤]
أي: لا تنتهز يُتْم اليتيم، وأنه ما يزال صغيراً ضعيف الجانب فتطمع في ماله، وتأخذه دون وجه حق.
وقوله: ﴿إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ..﴾ [الإسراء: ٣٤] استثناء من الحكم السابق ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ..﴾ يبيح لنا أن نقرب مال اليتيم، ولكن بالتي هي أحسن.
و ﴿أَحْسَنُ﴾ أفعل تفضيل تدل على الزيادة في الإحسان فكأن لدينا صفتين ممدوحتين: حسنة وأحسن، وكأن المعنى: لا تقربوا مال اليتيم بالطريقة الحسنة فحسب، بل بالطريقة الأحسن. فما الطريقة الحسنة؟ وما الطريقة الأحسن؟
الطريقة الحسنة: أنك حين تقرب مال اليتيم لا تُبدده ولا تتعدَّى عليه. لكن الأحسن: أنْ تُنمي له هذا المال وتُثمّره وتحفظه له، إلى أن يكون أَهْلاً للتصرّف فيه.
ولم يقل: وارزقوهم منها؛ لأن الرزق منها يُنقِصها، لكن معنى: ﴿وارزقوهم فِيهَا﴾ [النساء: ٥] أي: من ريعها وربحها، وليس من رأس المال.
وإلاَّ لو تصوّرنا أن أحد الأوصياء على الأيتام عنده مال ليتيم، وأخذ ينفق عليه من هذا المال، ويُخرج منه الزكاة وخلافه، فسوف ينتهي هذا المال ويبلغ اليتيم مبلغ الرُّشْد فَلا يجد من ماله شيئاً يُعتَدُّ به.
وكأن الحق تبارك وتعالى يقول: حقِّقوا الحسن أولاً بالمحافظة على مال اليتيم، ثم قدِّموا الأحسن بتنميته له وزيادته زيادة تتسع لنفقات حياته، وإلاَّ فسوف يشبّ الصغير، وليس أمامه من ماله شيء.
والحق سبحانه وتعالى يريد ألاَّ يحرم اليتيم من خبرة أصحاب الخبرة والصلاحية الاقتصادية وإدارة الأموال، فقد يكون من هؤلاء مَنْ ليس لديه مال يعمل فيه، فليعمل في مال اليتيم ويُديره له ويُنمّيه، وليأكل منه بالمعروف، وإنْ كان غنياً فليستعفف عنه؛ لأنه لا يحلّ له، يقول تعالى: ﴿وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف..﴾ [النساء: ٦]
لأن الإنسان إذا كان عنده خبرة في إدارة الأموال ولديْه الصلاحية فلا نُعطِّل هذه الخبرة، ولا نحرم منها اليتيم، وهكذا نوفر نفقة
ثم يقول تعالى: ﴿حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ..﴾ [الإسراء: ٣٤]
أي: حتى يكبر ويبلغ مبلغ الرجال، ولكن هل هذه الصفة كافية لكي نُعطِي لليتيم ماله وقد بلغ سِنّ الرُّشْد والتكليف؟
في الحقيقة أن هذه الصفة غير كافية لنُسلّم له ماله يتصرف فيه بمعرفته؛ لأنه قد يكون مع كِبَر سِنّه سفيهاً لا يُحسِن التصرُّف، فلا يجوز أن نتركَ له المال لِيُبدّده، بدليل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ..﴾ [النساء: ٦]
وقال في آية أخرى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء: ٥]
ولم يقل: أموالهم، لأن السفيه ليس له مال، وليس له ملكية، والمال مال وليه الذي يحافظ عليه ويُنمّيه له.
إذن: فالرُّشْد وهو سلامة العقل وحُسْن التصرُّف، شرط أساسي في تسليم المال لليتيم؛ لأنه أصبح بالرُّشْد أهْلاً للتصرُّف في ماله.
وكلمة: ﴿أَشُدَّهُ..﴾ [الإسراء: ٣٤] أي: يبلغ شِدّة تكوينه، ويبلغ الأشدّ أي: تستوي ملكاته استواءً لا زيادة عليه، فأعضاء الإنسان تنمو وتتربى مع نموه على مَرِّ الزمن، إلى أن يصل سِنّ الرشد ويصبحَ قادراً على إنجاب مثله، وهذه سِنّ الأشُدّ أي: الاستواء.
ثم يقول تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء: ٣٤] ﴿العهد﴾ ما تعاقد الإنسان عليه مع غيره عقداً اختيارياً يلتزم هو بنتائجه ومطلوباته، وأول عقد أُبرٍمَ هو العَقْد الإيماني الذي أخذه الله تعالى علينا جميعاً، وأنت حُرٌّ في أن تدخل على الإيمان بذاتك مختاراً أو لا تدخل، لكن حين تدخل إلى الإيمان مُخْتاراً يجب أن تلتزم بعهد الإيمان؛ لأن الله لا يريد منّا قوالب تخضع، ولكن يريد مِنّا قلوباً تخشع، ولو أراد الله منّا قوالب تخضع ما استطاع واحد مِنّا أنْ يشذّ عن الإيمان بالله.
لذلك خاطب الحق تبارك وتعالى رسوله بقوله:
﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٣ - ٤]
فالله لا يريد أعناقاً، وإنما يريد قلوباً، لكن يخلط كثير من الناس إنْ أمرته بأمر من أمور الدين فيقول: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين..﴾ [البقرة: ٢٥٦]
نقول له: أنت لم تحسن الاستدلال، المراد: لا إكراه في أنْ تدخل الدين، ولكن إذا دخلتَ فعليك الالتزام بمطلوباته.
ومن باطن هذا العهد الإيماني تنشأ كل العقود، لذلك يجب الوفاء بالعهود؛ لأن الوفاء بها جزء من الإيمان، فأنت حُرٌّ أن تقابل فلاناً
وهذه صفة لا تليق أبداً بالمؤمنين، وقد جعلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من صفات المنافقين.
وقوله: ﴿إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء: ٣٤]
قد يكون المعنى: أي مسئولاً عنه، فيسأل كل إنسان عن عهده أوفَّى به أم أخلفه؟
وقد يراد ﴿مَسْؤُولاً﴾ أي: مسئول ممَّنْ تعاقد عليه أنْ يُنقّذه، وكأنه عدَّى المسئولية إلى العهد نفسه، فأنا حُرٌّ وأنت حُرٌّ، والعهد هو المسئول.
والحق سبحانه وتعالى يستعمل اسم المفعول في مواضع تقول للوهلة الأولى أنه في غير موضعه، ولكن إذا دققتَ النظر تجده في موضعه بليغاً غايةَ البلاغة، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً﴾ [الإسراء: ٤٥]
هكذا بصيغة اسم المفعول، والحجاب في الحقيقة ساتر وليس مستوراً، ولكن الحق سبحانه يريد أنْ يجعلَ الحجاب صفيقاً، كأنه
وانظر إلى حال المجتمع إذا لم تُرَاعَ فيه العهود، ولم تُحترمَ المواثيق، مجتمع يستهين أهله بالوفاء وشرف الكلمة، فسوف تجده مجتمعاً مُفكّكاً فُقِدت فيه الثقة بين الناس، وإذا ما فُقِدت الثقة وضاع الوفاء وشرف الكلمة الذي تُدار به حركة الحياة فاعلم أنه مجتمع فاشل، وليس أَهْلاً لرقيٍّ أو تقدُّم.
ولأهمية العهد في الإسلام نجده ينعقد بمجرد الكلمة، وليس من الضروري أن يُسجَّل في سجلات رسمية؛ لأن المؤمن تثق في كلمته حتى إن لم تُوثَّق وتكتب.
ومن هنا وُجِد ما يسمونه بالحق القضائي وبالحق الديني، فيقولون: هذا قضاءً وهذا ديانة، والفرق واضح بينهما، ويمكن أن نضرب له هذا المثل:
هَبْ أنك أخذتَ دَيْناً من صديق لك، وكتب له مستنداً بهذا الدين ليطمئن قلبه، ثم قابلته بعد أن تيسَّر لك السداد ووفَّيت له بدَيْنه. لكنه اعتذر لعدم وجود المستند معه الآن، فقلت له: لا عليك أرسله لي متى شئتَ، فلو تصوَّرنا أنه أراد الغدر بك وأنكر سداد الدين، فالقضاء يقول: له الحق في أخذ دَيْنه، أما ديانة فليس له شيء.
إذن: العهد الذي نعقده مع الناس يدخل تحت المسئولية الدينية وليس القضائية.
وبذلك ييأس الكسول الخامل، ويعلم أنه ليس له مكان في مجتمع عامل نشيط، وأنه إنْ تمادى في خموله فلن يجد لقمة العيش فيأخذ من ذلك دافعاً للعمل، وبذلك تزداد طاقة العمل ويَرْقى المجتمع ويسعد أفراده.
صحيح في المجتمع الإيماني إيثار، لكنه الإيثار الإيجابي النابع من الفرد ذاته، أما الخطف والسرقة والاختلاس والغَصب فلا مجال لها في هذا المجتمع؛ لأنه يريد لحركة الحياة أن تستوعب الجميع فلا يتطفل أحد على أحد.
وإن كنا نحارب الأمراض الطفيلية التي تتغذى على دماء الإنسان فإن محاربة الطفيليات الآدمية أَوْلَى بهذه المحاربة. فما دُمْتَ قادراً
لذلك نقول للغني الذي يسهم في سَدَّ حاجة الفقير: لا تتأفف ولا تضجر إنْ أخذنا منك اليوم؛ لأن الطاقة التي عملت بها واجتهدتَ وجمعتَ هذا المال طاقة وقدرة ليست ذاتية فيك، بل هي هِبَة من الله يمكن أنْ تُنزعَ منك في أي وقت، وتتبدَّل قوتك ضعفاً وغِنَاك حاجة، فإنْ حدث لك ذلك فسوف نعطيك ونُؤمِّن لك مستقبلك.
لذلك على الإنسان أن يعيش في الحياة إيجابياً، يعمل ويكدح ويُسهِم في رُقيّ الحياة وإثرائها، ولا يرضى لنفسه التقاعس والخمول؛ لأن المجتمع الإيماني لا يُسوِّي بين العامل والقاعد، ولا بين النشيط والمتكاسل.
وهَبْ أن شقيقين اقتسما ميراثاً بينهما بالتساوي؛ الأول عاش في ماله باقتصاد وأمانة وسَعَى فيه بجدّ وعمل على تنميته، أما الآخر فكان مُسْرفاً مُنحرفاً بدَّد كل ما يملك وقعد مُتحسّراً على ما مضى، فلا يجوز أنْ نُسوِّي بين هذا وذاك، أو نأخذ من الأول لنُعطيَ للآخر، إياك أن تفعل هذا لأن الإنسان وكذلك الدول إذا أخذتْ ما ليس لها حمّلها الله ما ليس عليها.
ولذلك لا يجوز أن نحقد على الغني طالما أن غِنَاه ثمرة عمله وكَدِّه ونتيجة سعيه، وطالما أنه يسير في ماله سَيْراً معتدلاً ويؤدي ما عليه من حقوق للمجتمع، ولندعه يعمل بكل ما يملك من طاقات
لنفرض أن أحد هؤلاء الأغنياء أراد أن يبني مصنعاً أو عمارة أو مشروعاً كبيراً، فكم من العمال والصناع، وكم من الموظفين والمهندسين سيستفيدون من هذا المشروع؟ إن الغني لن يملك مثل هذه الإنجازات إلا بعد أن يصبح ثمنها قُوتاً في بطون الفقراء وكسوة على أجساد الفقراء.
إذن: علينا أنْ ندعَ الغني يجتهد ويسعى؛ لأن المجتمع سوف يستفيد من سَعْيه واجتهاده، وما عليك إلا أن تراقبه، فإنْ كان سعيُه في الحق فبها ونعمتْ، وإنْ كان في غير الحق فلتضرب على يده.
وإليك ما يضمن لك سعادة الحياة وسلامة الحركة فيها، يقول تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ..﴾ [الإسراء: ٣٥]
والحديث هنا لا يخصُّ الكيْل فقط، بل جميع المقادير المستخدمة في حركة الحياة مثل المقادير الطولية مثلاً، والتي تُقدّر بالملليمتر أو السنتيمتر أو المتر أو الكيلو متر وتُقاسُ بها الأشياء كُلٌّ على حَسْبه، فالكتاب مثلاً يُقَاس بالسنتيمتر، والحجرة تُقَاس بالمتر، أما الطريق فيُقاس بالكيلومتر وهكذا.
إذن: فالتقدير الطُّولي يجب أن تتناسب وحدة القياس فيه مع الشيء الذي نقيسه. هذا في الطوليات، أما في المساحات فيأتي
إذن: فالحياة محكومة في تقديرات الأشياء بالكيْل الذي يُبيِّن الأحجام، وبالميزان الذي يُبيّن الكتلة؛ لأن الكيْل لا دخلَ له في الكتلة، إنما الكتلة تُعرف بالميزان، بدليل أن كيلو القطن مثلاً أكبر بكثير من كيلو الحديد.
ومعنى ذلك أن ميزان التقدير يجب أن يكون سليماً؛ لذلك يقول تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ..﴾ [الإسراء: ٣٥] يعني: أعطوا المقادير على قدر المطلوب من الطرفين دون نقص.
وقد قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: ١ - ٣]
ومعنى المطففين الذين يزيدون، وهؤلاء إذا اكتالوا على الناس، أي: أخذوا منهم. أخذوا حَقَّهم وافياً، وهذا لا لَوْم عليه، وإنما اللوم على: ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: ٣]
أي: إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم ﴿يُخْسِرُونَ﴾ أي: ينقصون. هذا هو موضع الذمِّ ومجال اللوْم في الآية؛ لأن الإنسان لا يُلام على أنه استوفى حَقَّه، بل يُلام على أنه لم يُسَوِّ بينه وبين الآخرين، ولم يعامل الناس بمثل ما يحب أنْ يُعاملوه به.
ونلاحظ أن الكثيرين يفهمون أن التطفيف يكون في الكَيْل والميزان
ثم يقول تعالى: ﴿وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم..﴾ [الإسراء: ٣٥] أي: اجعلوا الوزن دقيقاً مستقيماً لا جَوْرَ فيه.
والمتأمل يجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما أراد دقة الأحجام في تعاملات الناس أمرهم بإيفاء الكيل حَقَّه، هكذا: ﴿وَأَوْفُوا الكيل..﴾ [الإسراء: ٣٥]
أما في الوزن فقد ركز على دِقَّته، وجَعَله بالقسطاس، ليس القسطاس فحسب بل المستقيم، إذن: لماذا هذه الدِّقة في الميزان بالذات؟
لو نظرتَ إلى عملية الكيْل لوجدتها واضحة مكشوفة، قَلَّما يستطيع الإنسان الغِشَّ فيها، وكثيراً ما ينكشف أمره ويُعلَم تلاعبه؛ لأن الكيْل أمام الأعين والتلاعب فيه مكشوف.
أما الوزن فغير ذلك، الوزن مجال واسع للتلاعب، ولدى التجار ألف طريقة وطريقة يبخسون بها الوزن دون أن يدري بهم أحد؛ لأن الميزان كما نعلم رافعة من النوع الأول، عبارة عن محور ارتكاز في الوسط، وكِفَّة القوة في ناحية، وكِفَّة المقاومة في الناحية الأخرى، فأيُّ نَقْص في الذراعين يفسد الميزان، وأيُّ تلاعب في كِفة القوة أو المقاومة يفسد الميزان.
ولو تحدثنا عن ألاعيب البائعين في أسواقنا لطال بنا المقام؛ لذلك أكد الحق سبحانه وتعالى على الدقة في الميزان خاصة؛
وسبق أن أوضحنا أن ميزان كُلِّ شيء بحسبه، ويتناسب مع قيمته ونفاسته، فالذي يزن الجير مثلاً غير الذي يزن اللوز، غير الذي يزن الذهب أو الألماس؛ لذلك من معاني (القسطاس المستقيم) أن يتناسب الميزان مع قيمة الموزون، فالذي يبيع الذهب مثلاً يزن أشياء ثمينة مهما كانت قليلة في الميزان؛ فإنها تساوي الكثير من المال.
لذلك فإن أهل الخبرة في هذه المسألة يقولون: احذر أن يُدخِل البائع رأسه قريباً من الميزان؛ لأنه قد ينفخ في كِفَّة الميزان، ولاشكَّ أنك ستخسر كثيراً من جَرَّاء هذه النفخة!!
لذلك نقول لهؤلاء الذين أخذت أيديهم على الغش والخداع في البيع والشراء: أنت تبيع للناس شيئاً واحداً وتغشهم فيها، وفي الوقت نفسه تشتري أشياء كثيرة من متطلبات الحياة، فاعلم جيداً أنك إنْ غششْتَ الناس في سلعة واحدة فسوف تُغشّ في مئات السلع، وأنت بذلك خاسر لا محالة. مهما دارت بك الأوهام والظنون فحسبت أن المسألة في صالحك.
ولا تنسَ أن فوقك قيُّوماً، لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا تخفي عليه من أمرك خافية، وسوف يُسلِّط عليك مَنْ يسقيك بنفس كأسك إلى أنْ تتبينَ لك حقيقة هذه الصفقة الخاسرة؛ لأنك إن عَمَّيْتَ على قضاء الأرض فلن تُعمِّي على قضاء السماء، وسوف تذهب هذه الأموال التي اختلستها من أقوات الناس من حيث أتت، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من
وكذلك في المقابل: مَنْ صدق الناس، ووفّى لهم في بيعه وشرائه وتعاملاته يسَّر الله له مَنْ يُوفِّي له ويصدُق معه.
ثم يقول تعالى: ﴿ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٥]
﴿ذلك﴾ أي: الوزن بالقسطاس المستقيم خير وأحسن ﴿تَأْوِيلاً﴾ أي: عاقبة، ومعنى ذلك أن المقابل له ليس خيراً ولا أحسن عاقبة. فالذي يغش الناس ويخدعهم يظن أنه بغشِّه يزيد في ماله ويجلب الخير لنفسه.
نقول له: أنت واهم، فليس في الغش والبخس خير سيُجرِّئ الناس عليك فيغشوك، هذه واحدة ثم لا يلبث الناس أن يكتشفوا تلاعبك في الكيل والميزان فينصرفون عنك ويقاطعونك.
إذن: عدم الوزن بالقِسْطاس المستقيم لا هو خَيْر، ولا هو أحسن عاقبة.
أما التاجر الصادق الذي يُوفِي الكَيْل والميزان، فإن الله تعالى ييسر له من يوفي له الكيل والميزان، وكذلك يشتهر بين الناس بصدقه وأمانته، فيقبلون عليه ويحرصون على التعامل معه. وهذا هو المراد بقوله تعالى: ﴿ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٥] أي: احسن عاقبة..
وبعد أنْ تكفّل له بالضروريات، دَلّه على الترقِّي في الحياة بالبحث والفكر، واستخدام العقل المخلوق لله، والمادة المخلوقة لله بالطاقات المخلوقة لله، فيُرقِّي ويُثري حياته ومجتمعه.
وحركة الترقِّي والإثراء هذه لا تتمّ إلا على قضية ثابتة واضحة، فإذا تحركتَ في الحياة بناءً على هذه القضية فسوف تصل إلى النتيجة المرجوّة.
فمثلاً، الطالب الذي يرغَب في دخول كلية الحقوق مثلاً، لديه قضية واضحة مجزوم بها، فعندما يلتحق بالحقوق يجتهد، ويصل من خلالها إلى طموحاته؛ لأنه سار على ضَوْء قضية اقتنع بها.
إذن: لا بُدَّ أن تُبْنَى حركة الحياة على قضايا ثابتة، هذه القضايا الثابتة تجعل المتحرِّك في أيِّ حركة واثقاً من أن حركته ستُؤدِّي إلى النتيجة المطلوبة، فلو أردتَ مثلاً الذهاب إلى الإسكندرية أو إلى
وقد سبق أن أوضحنا معنى القضية، وأنها المقولة التي يُحكَم على قائلها بالصدق أو الكذب، كأن نقول: الأرض كُروية، أو الشمس مضيئة، أو القمر منير، وهذه القضايا تعطيني قضية علمية مجزوماً بها وواقعة، ويمكن أنْ نُدلِّل عليها. وهذا هو العلم.
أما الجهل فأنْ تجزم بقضية ليست واقعية فهي قضية كاذبة، وليس الجهل عدم العلم كما يعتقد البعض؛ لأن عدم العلم أمية، والأميّ ليس عنده قضية لا صادقة ولا كاذبة.
لذلك تجد الأميّ أطوعَ في التعلم من الجاهل؛ لأن الأمي بمجرد أنْ تُعلِّمه قضية ما يأخذها ويتعلمها، أما الجاهل فيلزمك أولاً أن تُخرِج من ذهنه القضية المخالفة، ثم تُعلّمه القضية الصادقة.
وقضايا الحياة يمكن أنْ تُقسِّم إلى قسمين:
قضايا تختلف فيها الأهواء.
وقضايا تتفق فيها الأهواء.
فالقضايا التي تختلف فيها الأهواء: هي القضية التي يخدم بها كل قائل لها فكرةً عنده فقط، وإنْ كانت ضارة بغيره، فما دام الأمر قائماً على الأهواء فلا بُدَّ أنْ تختلفَ، فكُلٌّ له هواه الخاص، فلو أن لكل واحد قضية ما التقينا على شيء أبداً.
إذن: فما المخرج من هذا الاختلاف والتبايُن؟ المخرَج أن يخرج كل واحد مِنَّا من هوى نفسه أولاً، ثم نرد القضية التي اختلفتْ فيها أهواؤنا إلى مَنْ لا هوى له.
وربُّكَ سبحانه وتعالى هو وحده الذي لا هَوى له، ونحن جميعاً خَلْقه، وكلنا عنده سواء، ليس منا مَنْ بينه وبين الله نسب أو قرابة، فشرع الله واحد للجميع، ولا غضاضة فالكل خاضع لهذا الشرع مُتّبِع له؛ لأنه شَرْع الخالق سبحانه لا شَرْع أحد من الناس.
لذلك اشتهر قولهم: «اللي الشرع يقطع صباعه مَيْخُرش دم».
فأنا لم أخضع لك، وأنت لم تخضع لي، بل الجميع خاضع لله تعالى مُنصَاع لأمره. إذن: اتركوا قضايا الأهواء لله تعالى يُشرّعها لكم لكي ترتاحوا من تسلُّط بعضكم على بعض.
أما القضايا التي تتفق فيها الأهواء فهي القضايا المادية القائمة على المادة الصمَّاء التي لا تُجامِل أحداً على حساب أحد، ولا مانعَ أن تتبعوا الآخرين فيها؛ لأنكم سوف تلتقون عليها قَهْراً ورَغْماً عنكم، فالمعمل الذي تدخله لتجري التجارب التي توصلك لقضية ما مادية أو كيماوية معمل محايد لا يجامل أحداً.
وقد سبق أن قلنا: إن الكهرباء أو الكيمياء ليس فيها روسي وأمريكي؛ لأن هذه أشياء مادية لا خلافَ عليها، أما الذي جعل المعسكر الشرقي يختلف والمعسكر الغربي هي القضايا الأهوائية، فهذا شيوعي، وهذا رأسمالي.
يأتي هذا مِمَّنْ؟ من محمد بن عبد الله نبي الله ورسوله، الذي يحرص على أن تأتي كل قضاياه صادقة صائبة، وما كان منه إلا أن قال: «أنتم أعلم بشئون دنياكم».
ليضع بذلك أُسْوة لعلماء الدين ألاَّ يضعوا أنوفهم في قضايا الماديات، وقد قال الحق تبارك وتعالى: ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ﴾ [البقرة: ٦٠]
ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».
فإنْ أردتَ أنْ تتحرَّك في الحياة حركة سليمة مجدية، وحركة متساندة مع إخوانك غير متناقضة؛ فالحق سبحانه يقول: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ..﴾ [الإسراء: ٣٦] لكي تسير في حركة الحياة على هُدىً وبصيرة.
ومن هنا قال أهل الفقه: مَنْ قال لا أدري فقد أفتى؛ لأنه بإعلان عدم معرفته صرف السائل إلى مَنْ يعلم، أما لو أجاب خطأ، فسوف يترتّب على إجابته مَا لا تُحمد عُقْباه، والذي يسلك هذا المسلك في حياته تكون حركته في الحياة حركة فاشلة.
والفعل (يَقفْو) مأخوذ من القفا وهو المؤخرة، وقد قال تعالى في آية أخرى: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا﴾ [الحديد: ٢٧] أي: أتبعناهم.
ويقفو أثره أي: يسير خَلْفه.
وحينما نصح أحدهم رجلاً يريد أنْ يتزوج قال له: لا تتخذها حنَّانة، ولا منَّانة، ولا عُشْبة الدار، ولا كبة القفا. فالحنانة التي لها ولد من غيرك يذكرها دائماً بأبيه فتحِنّ إليه، والمنّانة التي لديها مال تَمنُّ به عليك، وعُشْبة الدار هي المرأة الحسناء في المنبَتِ السوء والمستنقع القذر، وكبَّة القفا هي التي لا تعيب الإنسان في حضوره، وتعيبه وتذمه في غيبته.
والعلم هنا يُراد به العلم المطلق؛ لأن الكثير من الناس كان يعتقد أن العلم يعني العلم الديني فقط، لكن العلم هو كل ما يُثري حركة الحياة، والعلم علمان:
علم ديني، وهو الذي يقضي على الأهواء، ويُوحِّدهَا إلى هوىً واحد هو الهَوى الإيماني.
وكما أنك لا تذهب إلى الجزار ليضع لك قانون صيانة الإنسان إلا من خالقه عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ [الملك: ١٤]
وهذا النوع من العلم قال الله تعالى عنه: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا..﴾ [الحشر: ٧]
فليس لنا أنْ نتدخَّلَ فيه، أو نزيد عليه؛ لأنه منهج الله الذي جاء ب «افعل ولا تفعل»، وهو منهج لا يقبل الزيادة أو التعديل، فما كان فيه أمر ونهي فعليك الالتزام به، وإلا لو خرجت عن هذا الإطار الذي رسمه لك ربك وخالقك فسوف تحدث في الكون فساداً بترك الأمر أو بإتيان النهي. أما الأمور التي تركها الخالق سبحانه ولم يرد في شأنها أمر أو نهي فأنت حر فيها، تفعل أو لا تفعل.
والمتأمل في شرع الخالق سبحانه يجد أمور التكليف بافعل ولا تفعل قليلة إذا ما قيست بالأمور التي ترك لك الحرية فيها، إذن: فدع لربك وخالقك والأعلم بك مجالاً يحكم من خلاله حياتك وينظمها لك، ألا يجد بنا ونحن عباده وصنعته أن نُحكّمه في أمور ديننا، ونُخرِج أنوفنا مما اختص به سبحانه؟
أما النوع الآخر من العلم، فهو العلم المادي التجريبي الذي لا يخضع للأهواء، فقد جعله الخالق سبحانه مجالاً للبحث والتسابق،
فذكر الحق سبحانه أجناس الوجود كلها: الإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد. ثم ختم ذلك بقوله:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء..﴾ [فاطر: ٢٨]
فهذه ظواهر الكون، ارْبَع فيها كما شئت بحثاً ودراسة، وإنْ أحسنتَ الإمعان فيها فسوف تُوصِّلك إلى ظواهر أخرى تُثري حياتك وتُرقّيها، فالذي اكتشف عصر البخار، والذي اكتشف العجلة والكهرباء والجاذبية وغيرها لم يخلق جديداً في كَوْن الله، إنما أحسن النظر والتأمّل فتوصّل إلى ما يُريح المجتمع ويُسعده.
لذلك، فالحق سبحانه وتعالى يُحذّرنا أن نمرَّ على ظواهر الكون في إعراض وغفلة ودون تمعُّن فيها: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف: ١٠٥]
والذين عبَّروا عن هذه الإنجازات العلمية بكلمة (الاكتشافات) كانوا أمناء في التعبير عن الواقع الفعلي، فهم لم يخلقوا جديداً في الكون، فكلُّ هذه الأشياء موجودة، والفضل لهم في الاهتداء إليها
فإذا كان الحق سبحانه نهانا عن تتبُّع ما ليس لنا به علم، فماذا نتبع؟ نتبع ما نعلمه وما نتيقن منه من علوم، فإنْ كانت في الدين تركناها للخالق سبحانه يُقنّنها لنا، وإنْ كانت في أمور الدنيا أعملنا فيها عقولنا بما ينفعنا ويُثرِي حياتنا؛ لذلك تكلّم الحق سبحانه بعد ذلك عن وسائل إدراك العلم، فقال: ﴿إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء: ٣٦]
وما دام الحق سبحانه قد نهانا عن تتبع مَا لا نعلم، وأمرنا أن نسير على ضوء ما نعلم من العلم اليقيني فلا بُدّ أنْ يسأل المرءُ عن وسائل العلم هذه، لأنه لولا وسائل الإدراك هذه ما عَلم الإنسانُ شيئاً، وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ٧٨]
وهل يشكر الإنسان إلا على حصيلة أخذها؟ هذه الحصيلة هي العلم.
وهذه الحواس تُؤدِّي عملها في الإنسان بمجرد أنْ تنشأ فيه، وبعد أنْ يخرجَ إلى الحياة، والبعض يظنّ أن الطفل الصغير لا يفهم إلا عندما يكبر ويستطيع الكلام والتفاهم مع الآخرين، والحقيقة أن الطفل يدرك ويعي من الأيام الأولى لولادته.
ولذلك، فإن علماء وظائف الأعضاء يقولون: إن الطفل يُولَد
وإنْ كانت حواس الإنسان كثيرة فإن أهمها: السمع والبصر، وقد وردت في القرآن بهذا الترتيب، السمع أولاً، ثم البصر لأن السمع يسبق البصر، فالإنسان بمجرد أنْ يُولَد تعمل عنده حاسّة السمع، أما البصر فإنه يتخلّف عن السمع لعدة أيام من الولادة، إذن: فهو أسبق في أداء مهمته، هذه واحدة.
الأخرى: أن السمع هو الحاسَّة الوحيدة التي تُؤدّي مهمتها حتى حال النوم، وفي هذا حكمة بالغة للخالق سبحانه، فبالسمع يتم الاستدعاء من النوم.
وقد أعطانا الخالق سبحانه صورة واضحة لهذه المسألة في قصة أهل الكهف، فلما أراد سبحانه أن يناموا هذه السنين الطوال ضرب على آذانهم وعطّل حاسة السمع لديهم، وإلاّ لَمَا تمكَّنوا من النوم الطويل، ولأزعجتهم الأصوات من خارج الكهف. فقال تعالى: ﴿فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً﴾ [الكهف: ١١]
ولم يسبق البصر السمع إلا في آية واحدة في كتاب الله تعالى وهي: ﴿رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا..﴾ [السجدة: ١٢]
والحديث هنا ليس عن الدنيا، بل عن الآخرة، حيث يفزع الناس من هَوْلها فيقولون: ﴿رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً..﴾ [السجدة: ١٢] لأنهم في الآخرة أبصروا قبل أن يسمعوا.
والذي يتتبع الآيات التي ورد فيها السمع والبصر سيجدها جاءت بإفراد السمع وجمع البصر، مثل قوله سبحانه: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار..﴾ [السجدة: ٩]
إلا في هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها جاءت: ﴿إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء: ٣٦]
لماذا؟ وما الحكمة من إفرادها هنا بالذات؟
وقبل أن نُوضِّح الحكمة هنا يجب أن نعي أن المتكلم هو الله تعالى، وما دام المتكلم هو الله فلا بُدَّ أن تجد كل كلمة دقيقة في موضعها، بليغة في سياقها.
فالسمع جاء بصيغة الإفراد؛ لأنه لا يتعدد فيه المسموع بالنسبة للسامع، فإذا حدث الآن صوت نسمعه جميعاً، فهو واحد في جميع الآذان.
أما البصر فهو خلاف ذلك؛ لأن أمامنا الآن مرائيَ متعددة ومناظر مختلفة، فأنت ترى شيئاً، وأنا أرى شيئاً آخر، فَوحْدة السمع لا تنطبق على البصر؛ لذلك أفرد السمع وجاء البصر بصيغة الجمع.
أما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ السمع والبصر..﴾ [الإسراء: ٣٦] فقد
فالإنسان إذن مسئول عن سَمْعه وبصره وفؤاده من حيث التلقِّي، تلقّي القضايا العلمية التي سنسير عليها في حركة حياتنا، وكذلك من حيث الإعطاء، فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول للأذن: لا تسمعي إلا خيراً، ولا تتلقيْ إلا طيّباً، ويا مُربِّي النشء لا تُسْمِعه إلا ما يدعو إلى فضيلة، ولا تعط لأذنه إلا ما يصلح حياته ويُثريها.
ويقول للعين: لا ترَىْ إلا الحلال لا يهيج غرائزك إلى الشهوات، ويا مُربِّي النشء احجب عنه ما يثير الغرائز ويفسد الحياة؛ وبذلك نربي في المجتمع المعلومات الصحيحة التي تنبني عليها حركة حياته.
وما دُمْتَ مسئولاً عن أعضائك هذه المسئولية، ومحاسباً عنها، فإياك أنْ تقولَ: سمعت وأنت لم تسمع، وإياك أنْ تقولَ: رأيت وأنت لم تَرَ، إياك أنْ تتعرّض لشهادة تُدلي فيها بغير ما تعلم وتتيقن. أو تتبنّى قضية خاطئة وتبني عليها حركة حياتك؛ لأن المبنّي على مقدمات فاسدة ينتج عنه نتائج فاسدة، وما بُنِي على مقدمات صحيحة أنتج النتيجة الصحيحة.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً﴾.
والمتتبع لهذه الآيات يجد بها منهجاً قويماً لبناء مجتمع متماسك ومتوازن، يبدأ بقوله تعالى: ﴿لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ..﴾ [الإسراء: ٢٢]
وهذه قضية القمة التي لا تنتظم الأمور إلا في ظلّها، ثم قسّم المجتمع إلى طبقات، فأوصى بالطبقة الكبيرة التي أدَّت مهمتها في الحياة، وحان وقت إكرامها وردِّ الجميل لها، فأوصى بالوالدين وأمر ببّرهما.
ثم توجّه إلى الطبقة الصغيرة التي تحتاج إلى رعاية وعناية، فأوصى بالأولاد، ونهى عن قتلهم خَوْفَ الفقر والعَوز، وخَصَّ بالوصية اليتيم؛ لأنه ضعيف يحتاج إلى مزيد من الرعاية والعناية والحنو والحنان.
ثم تحدث عمَّا يحفظ للإنسان ماله، ويحمي تعبه ومجهوداته، فأمر بتوفية الكيل والميزان، ونهى عن الغش فيهما والتلاعب بهما، ثم حَثَّ الإنسان على الأمانة العلمية، حتى لا يقول بما لا يعلم، وحتى لا يبني حياته على نظريات خاطئة.
ألم تَرَ أنه منهج وأسلوب حياة يضمن سلامة المجتمع، وسلامة المجتمع ناشئة من سلامة حركة الإنسان فيه، إذن: الإنسان هو مدار هذه الحركة الخلافية في الأرض؛ لذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أنْ يضع له توازناً اجتماعياً.
وأوّل شيء في هذا التوازن الاجتماعي أننا جميعاً عند الله سواء، وكلنا عبيده، وليس منا مَنْ بينه وبين الله قرابة أو نَسَب، فالجميع عند الله عبيد كأسنان المشط، لا فَرْق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح.
وإنْ تفاوتت أقدارنا في الحياة فهو تفاوت ظاهري شكلي؛ لأنك حينما تنظر إلى هذا التفاوت لا تنظر إليه من زاوية واحدة فتقول مثلاً: هذا غني، وهذا فقير.
وما دام المجتمع الإيماني على هذه الصورة فلا يصح لأحد أنْ يرفعَ رأسه في المجتمع ليعطي لنفسه قداسةً أو منزلة فوق منزلة الآخرين، فقال تعالى: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً..﴾ [الإسراء: ٣٧]
أي: فخراً واختيالاً، أو بَطَراً أو تعالياً؛ لأن الذي يفخر بشيء ويختال به، ويظن أنه أفضل من غيره، يجب أن يضمن لنفسه بقاء مَا افتخر به، بمعنى أن يكون ذاتياً فيه، لا يذهب عنه ولا يفارقه، لكن من حكمة الله سبحانه أنْ جعل كل ما يمكن أن يفتخر به الإنسان هِبةً له، وليست أصيلة فيه.
كل أمور الإنسان بداية من إيجاده من عدم إلى الإمداد من عُدم هي هبة يمكن أنْ تسترد في يوم من الأيام، وكيف الحال إذا تكبَّرْتَ بمالك، ثم رآك الناس فقيراً، أو تعاليت بقوتك ثم رآك الناس عليلاً؟
إذن: فالتواضع والأدب أليَقُ بك، والتكبُّر والتعالي لا يكون إلا للخالق سبحانه وتعالى، فكيف تنازعه سبحانه صفة من صفاته؟ وقد نهانا الحق سبحانه عن ذلك؛ لأنه لا يستحق هذه الصفة إلا هو سبحانه وتعالى، وكَوْنُ الكبرياء لله تعالى يعصمنا من الاتضاع للكبرياء الكاذب من غيرنا.
والأهم من هذا أن الرئيس أو الكبير لا يأنف، ولا يرى غضاضة في أن يراه مرؤوسه وهو في هذا الموقف وفي هذا الخضوع والتذلُّل، لماذا؟ لأن الخضوع هنا والتذلُّل لله، وهذا عين العِزَّة والشرف والكرامة.
ثم يقول تعالى: ﴿إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً﴾ [الإسراء: ٣٧]
في هذه العبارة نلحظ إشارة توبيخ وتقريع، كأن الحق سبحانه وتعالى يقول لهؤلاء المتكبرين، ولأصحاب الكبرياء الكاذب: كيف تتكبرون وتسيرون فخراً وخيلاء بشيء موهوب لكم غير ذاتي فيكم؟
فأنتم بهذا التكبُّر والتعالي لن تخرقوا الأرض، بل ستظل صلبة تتحداكم، وهي أدنى أجناس الوجود وتُدَاس بالأقدام، وكذلك الجبال وهي أيضاً جماد ستظل أعلى منكم قامةً ولن تطاولوها. والحق
وحينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يُوبِّخ أهل التكبُّر الكاذب أتى بأَدْنى أجناس الوجود بالأرض والجبال وهي جماد؛ لكنه قد يسمو على الإنسان ويفضُل عليه.
والناظر لأجناس الكون: الجماد والنبات والحيوان والإنسان، يجد الإنسان ينتفع بكل هذه الأجناس، فالجماد ينفع النبات، والحيوان والنبات ينفع الحيوان والإنسان، والحيوان ينفع الإنسان، وهكذا جميع الأجناس ُمُسخّرة في خدمة الإنسان، فما وظيفتك أنت أيها الإنسان؟ ومَنْ تخدم؟
لا بُدَّ أنْ يكون لك دَوْر في الكون ووظيفة في الحياة، وإلا كانت الأرض والحجر أفضل منك، فابحثْ لك عن مهمة في الوجود.
وفي فلسفة الحج أمر عجيب، فالجماد الذي هو أَدْنى الأجناس نجد له مكانة ومنزلة، فالكعبة حجر يطوف الناس من حوله، وفي ركنها الحجر الأسعد الذي سَنَّ لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تقبيله وهو حجر، وعليه يتزاحم الناس ويتشرَّفون بتقبيله والتمسُّح به.
وهذا مظهر من مظاهر استطراق العبودية في الكون، فالإنسان المخدوم الأعلى لجميع الأجناس يرى الشرف والكرامة في تقبيل حجر.
وكذلك النبات يحْرُم قطعة، وإياك أن تمتدَّ يدك إليه، وكذلك الحيوان يحرُم صيْدَه، فهذه الأشياء التي تخدمني أتى الوقت الذي أخدمها وأُقدِّسها، وجعلها الحق سبحانه وتعالى مرة في العمر لنلمح
فإياك أنها الإنسان أن تخدش هذا الاستطراق العبوديّ في الكون بمرح أو خُيَلاء أو تعالٍ.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً﴾.
وهذه الأمور التي تقدَّمَتْ، والتي تحفظ للمجتمع توازنه وسلامته فيها السيئ وفيها الحسن، والسيئ هو المكروه من الله تعالى، والله تعالى لا يكره إلا ما خالف منهج العبودية له سبحانه، أما الإنسان فيكره ما يخالف هواه، ولا يتفق ومزاجه.
وهذه الأوامر والنواهي التي تقدَّمتْ يقولون: إنها الوصايا العَشْر التي نزلت على موسى عليه السلام والمقصود في قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا..﴾ [الأعراف: ١٤٥]
ولذلك يقول الحق سبحانه:
﴿الحكمة﴾ هي: وَضعْ الشيء في مَوْضِعه المؤدّي للغاية منه، لِتظلَّ الحكمة سائدة في المجتمع تحفظه من الخلل والحمْق والسَّفَه والفساد.
وقوله: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ..﴾ [الإسراء: ٣٩]
لسائل أنْ يسأل: لماذا كرَّر هذا النهي، وقد سبق أنْ ذُكِر في استهلال المجموعة السابقة من الوصايا؟
الحق سبحانه وتعالى وضع لنا المنهج السليم الذي يُنظِّم حياة المجتمع، وقد بدأه بأن الإله واحد لا شريكَ له، ثم عدّل نظام المجتمع كله بطبقاته وطوائفه وأَرْسى قواعد الطُّهْر والعِفّة ليحفظ سلامة النسل، ودعا إلى تواضع الكُلِّ للكُلِّ.
فالحصيلة النهائية لهذه الوصايا أنْ يستقيم المجتمع، ويسعد أفراده بفضل هذا المنهج الإلهي.
إذن: فإياك أنْ تجعلَ معه إلهاً آخر، وكرَّر الحق سبحانه هذا النهي: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ..﴾ [الإسراء: ٣٩]
لأنه قد يأتي على الناس وقتٌ يُحْسنون الظن بعقول بعض المفكرين، فيأخذون بأقوالهم ويسيرون على مناهجهم، ويُفضّلونها
إذن: لا يكفي أن تؤمن أولاً، ولكن احذر أنْ يُزحزك أحد عن دينك فلا تجعل مع الله إلهاً آخر يفتنك عن دينك، فتكون النتيجة: ﴿فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً﴾ [الإسراء: ٣٩] ﴿مَلُوماً﴾ : لأنك أتيتَ بما تُلاَم عليه، ﴿مَّدْحُوراً﴾ : أي: مطرود مُبْعَداً من رحمة الله، وهذا الجزاء في الآخرة.
أما الذي لا يؤمن بها، فلا بُدَّ لكي نستطيع العيش معه في الدنيا، أن يُذيقه الله بعض العذاب، ويُعجِّله له في الدنيا قبل عذاب الآخرة، كما قال تعالى: ﴿فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً..﴾ [طه: ١٢٣ - ١٢٤] أي: في الدنيا.
وقد ذكر الحق سبحانه وتعالى في قصة ذي القرنين: ﴿حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً﴾ [الكهف: ٨٦ - ٨٧]
فقوله: ﴿فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ..﴾ [الكهف: ٨٧] لأنه مُمكَّن في الأرض، ومَنُوط به حِفْظ ميزان الحياة واستقامتها، حتى عند الذين لا يُؤمنون
ولذلك لا يموت ظلوم في الكون حتى ينتقمَ الله منه، ويذيقه عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، ولا بُدَّ أنْ يراه المظلوم ليعلم أن عاقبة الظلم وخيمة، في حين أن المظلوم في رعاية الله وتأييده ينصره بما يشاء من نعمه وفضله، حتى أن الظالم لو علم بما أعدَّه الله للمظلوم لَضَنَّ عليه بالظلم.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً... ﴾.
أي: قسمة جائرة ظالمة.
قوله: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ..﴾ [الإسراء: ٤٠] أي: اصطفاكم واختار لكم البنين، وأخذ لنفسه البنات؟
لذلك قال تعالى بعدها: ﴿إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً﴾ [الإسراء: ٤٠] فوصف قولهم بأنه عظيم في القُبْح والافتراء على الله، كما قال في آية أخرى: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً﴾ [مريم: ٨٨ - ٨٩]
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً﴾.
يعني تغييرها من حال إلى حال، فمرة: تراها سَكْسكَاً عليلة هادئة، ومرّة تجدها رُخَاءً أي: قوية، ومرة: تجدها إعصاراً مدمراً. والرياح قد تكون لواقح تأتي بالخير والنماء، وقد تكون عقيماً لا خير فيها. هذا هو المراد بالتصريف.
فمعنى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن﴾ [الإسراء: ٤١]
أي: صرف مسألة ادعاء اتخاذ الله الأبناء في القرآن، وعالجها في كثير من المسائل؛ لأنه أمر مهم عالجه القرآن علاجاتٍ متعددة في مقامات مختلفة من سُوره، فتكرر ذِكْر هذه المسألة. والتكرار قد يكون في
وقوله: ﴿وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً﴾ [الإسراء: ٤١]
أي: بدلَ أنْ يذكروا ويعودوا إلى جَادّة الصواب ازدادوا إعراضاً ونفوراً. ولنا أن نسأل: لماذا الإعراض والنفور منهم؟
لأنهم أرادوا الاحتفاظ بالسلطة الزمنية التي كانت لهم قبل الإسلام، ولكي نوضح المقصود بالسلطة الزمنية نقول:
لو درسنا تواريخ القوانين في العالم نجد أن القانون الوضعيّ الذي وضعه البشر لم يَأْتِ أول الأمر، بل جاء نتيجة تسلُّط الكهنة، وكانوا هم أصحاب القانون يضعونَه باسم الدين، ويلزمون الناس به، ولكن لُوحِظ عليهم أنهم يحكمون في قضية ما بحكم، ثم بعد فترة يحكمون في نفس القضية بحكم مخالف للأول، فانصرف الناس عن أحكام الكهنة، ووضعوا لأنفسهم هذه القوانين الوضعية، وبذلك أصبح لهؤلاء ما يُسمَّى بالسلطة الزمنية.
وهذه السُّلْطة الزمنية هي التي منعتْ يهود المدينة من الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد كانوا على علم ومعرفة بأوصافه وبرسالته ومن زمن بعثته، وكانوا حينما يروْنَ عُبّاد الأصنام في مكة يقولون لهم: سيأتي زمان يُبعث فيه نبي في هذا البلد، وسوف نتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا.
وعن هذا يقول الحق سبحانه في حق يهود المدينة: {وَلَمَّا
لقد تنكَّر اليهود لرسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، مع أنهم على يقين من صِدْقه؛ لأن هذه الرسالة ستحرمهم هذه السلطة الزمنية، وستقضي على السيادة العلمية والسيادة الاقتصادية والسيادة الحربية التي كانت لهم قبل الإسلام.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً﴾.
وقد عالج الحق تبارك وتعالى هذه القضية في قوله: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨]
وهذه قضية: إما أنْ تكونَ صادقة، وإما أن تكون غير ذلك. فإنْ كانت صادقة فقد انتهتْ المسألة، وإنْ كانت غير صادقة، وهناك إله ثانٍ، فأين هو؟ لماذا لم نسمع به؟ فإنْ كان موجوداً، ولا يدري أو كان يدري بهذه القضية ولكنه تقاعس عن المواجهة ولم يعارض، ففي كل الأحوال لا يستحق أن يكون إلهاً.
وكلمة ﴿ذِي العرش﴾ لا تُقَال إلا لمَنْ استتبَّ له الأمر بعد عِرَاك وقتال، فيُصنع له كرسي أو سرير يجلس عليه.
ابتغاء الطريق إلى ذي العرش، إما ليواجهوه ويوقفوه عند حده ويبطلوا دعوته، فإن غلبوا فقد انتهت المسألة، وإن غُلبوا فعلى الأقل يذهب كل إله بما خلق كما قال تعالى: ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾ [المؤمنون: ٩١]
أو: يبتغون إليه سبيلاً، ليكونوا من خَلْقه ومن عبيده؛ لذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون..﴾ [النساء: ١٧٢]
ويقول: ﴿أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء: ٥٧]
فهؤلاء الذين أشركتموهم مع الله فقُلْتم: المسيح ابن الله، وعزيز ابن الله، والملائكة بنات الله، كُلُّ هؤلاء فقراء إلى الله يبتغون إليه الوسيلة، حتى أقربهم إلى الله وهم الملائكة يبتغون إلى الله الوسيلة فغيرهم إذن أَوْلَى.
فمثلاً: لو بني كُلٌّ من العمدة، ومأمور المركز، والمحافظ بيتاً، فسوف يتفاوت هذا البناء من واحد للآخر، بحسب قدرته ومكانته. وكذلك لا بُدَّ من وجود هذا التفاوت بين إله ومألوه، وبين رَبٍّ ومربوب، وبين عابد ومعبود.
إذن: كُلُّ الأشياء في المتساوي تتفاوت بتفاوت الناس.
وقوله: ﴿عُلُوّاً كَبِيراً﴾ [الإسراء: ٤٣] أي: تعالى الله وتنزَّه عَمَّا يقول هؤلاء علواً كبيراً؛ لأن الناس تتفاوت في العلو.
ونلاحظ أن الحق سبحانه اختار (كبيراً) ولم يَقُلْ: أكبر. وهذا من قبيل استعمال اللفظ في موضعه المناسب؛ لأن كبيراً تعني: أن كل ما سواه صغير، لكن أكبر تعني أن ما دونه كبير أي: مُشَارِك له في الكِبَر.
لذلك نقول في نداء الصلاة: الله اكبر وهي صفة له سبحانه وليست من أسمائه؛ ذلك لأن من أعمال الحياة اليومية ما يمكن أن يُوصَف بأنه كبير، كأعمال الخير والسعي على الأرزاق، فهذه كبيرة، ولكن: الله اكبر.
فإذا كنت قد آمنت بإله واحد، فحيثية ذلك الإيمان أن هذا الإله الواحد فوق كل المألوهين جميعاً، وليس لأحد شبه به، وإن اشترك معه في مُطْلَق الصفات، فالله غنيّ وأنت غِنَي، لكن غنى الله ذاتيّ وغِنَاك موهوب، يمكن أنْ يُسلب منك في أي وقت.
وكذلك في صفة الوجود، فالله تعالى موجود وأنت موجود، لكن وجوده تعالى لا عن عدم، بل هو وجود ذاتي ووجودك موهوب سينتهي في أي وقت.
إذن: فتسبيح الله هو حيثية الإيمان به كإله، وإلا لو أشبهناه في شيء أو أشبهنا في شيء ما استحق أن يكون إلهاً.
والتسبيح: هو التنزيه، وهذا ثابت لله تعالى قبل أن يوجد منْ خَلْقه مَنْ يُنزِّهه، والحق سبحانه مُنزَّه بذاته والصفة كائنة له قبل أن
الواقع أن الشعر موهبة، وملَكة عنده، ولولاها ما قال شعراً، إذن: هو شاعر قبل أن يقول.
كذلك فصفات الكمال في الله تعالى موجودة قبل أن يوجد الخَلْق.
لذلك فإن المتتبع لهذه المادة في القرآن الكريم مادة (سبح) يجدها بلفظ (سُبْحان) في أول الإسراء: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى..﴾ [الإسراء: ١]
ومعناها أن التنزيه ثابت لله تعالى قبل أن يخلق من ينزهه.
ثم بلفظ: ﴿سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض..﴾ [الحديد: ١]
بصيغة الماضي، والتسبيح لا يكون من الإنسان فقط، بل من السماوات والأرض، وهي خَلْق سابق للإنسان.
ثم يأتي بلفظ: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض..﴾ [الجمعة: ١]
بصيغة المضارع؛ ليدل على أن تسبيح الله ليس في الماضي، بل ومستمر في المستقبل لا ينقطع. إذن: ما دام التسبيح والتنزيه ثابتاً لله تعالى قبل أن يخلق مَنْ يُنزِّهه، وثابتاً لله من جميع مخلوقاته في السماوات والأرض، فلا تكُنْ أيها الإنسان نشازاً في منظومة الكون، ولا تخرج عن هذا النشيد الكوني: ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى﴾ [الأعلى: ١]
أي: ما من شيء، كل ما يُقال له شيء. والشيء هو جنس الأجناس، فالمعنى أن كل ما في الوجود يُسبِّح بحمده تعالى.
وقد وقف العلماء أمام هذه الآية، وقالوا: أي تسبيح دلالة على عظمة التكوين، وهندسة البناء، وحكمة الخلق، وهذا يلفتنا إلى أن الله تعالى مُنزَّه ومُتعَالٍ وقادر، ولكنهم فهموا التسبيح على أنه تسبيح دلالة فقط؛ لأنهم لم يسمعوا هذا التسبيح ولم يفهموه.
وقد أخرجنا الحق سبحانه وتعالى من هذه المسألة بقوله: ﴿ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..﴾ [الإسراء: ٤٤]
إذن: يوجد تسبيح دلالة فعلاً، لكنه ليس هو المقصود، المقصود هنا التسبيح الحقيقي كُلّ بِلُغتِه.
فقوله تعالى: ﴿ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..﴾ [الإسراء: ٤٤]
يدل على أنه تسبيح فوق تسبيح الدلالة الذين آمن بمقتضاه المؤمنون، إنه تسبيح حقيقيّ ذاتيّ ينشأ بلغة كل جنس من الأجناس، وإذا كنا لا نفقه هذا التسبيح، فقد قال تعالى: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ..﴾ [النور: ٤١]
وها هم الناس أنفسهم ولهم في الأداء القوليّ لغة يتفاهمون بها، ومع ذلك تختلف بينهم اللغات، ولا يفهم بعضهم بعضاً، فإذا ما تكلم الإنجليزي مع أنه يتكلم بألفاظ العربي ومع ذلك لا يفهمه؛ لأنه ما تعلَّم هذه اللغة.
واللغة ظاهرة اجتماعية، بمعنى أن الإنسان يحتاج للغة؛ لأنه في مجتمع يريد أن يتفاهم معه ليعطيه ما عنده من أفكار، ويسمع ما عنده من أفكار فلا بُدَّ من اللغة لنقل هذه الأفكار، ولو أن الإنسان وحده ما كان في حاجة إلى لغة؛ لأنه سيفعل ما يخطر بباله وتنتهي المسألة.
واللغة لا ترتبط بالدم أو الجنس أو البيئة؛ لأنك لو أتيتَ بطفل إنجليزي مثلاً، ووضعتَه في بيئة عربية سيتكلم العربية؛ لأن اللغة ظاهرة اجتماعية تعتمد على السمع والمحاكاة؛ لذلك إذا لم تسمع الأذن لا تستطيع أن تتكلم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ..﴾ [البقرة: ١٨]
فهم بُكْم لا يتكلمون؛ لأنهم صُمٌّ لم يسمعوا شيئاً، فإذا لم يسمع الإنسان اللفظ لا يستطيع أن يتحدثَ به؛ لأن ما تسمعه الأذن يحكيه اللسان.
وقد حلَّ لنا القرآن الكريم هذه القضية في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١]
وأكثر من ذلك، فقد يتكلم العربي بنفس لغتك ولا تفهم عنه ما يقول، واللغة هي اللغة، كما حدث مع أبي علقمة النحوي، وكان يتقعَّر في كلامه ويأتي بألفاظ شاذة غير مشتهرة، وقد أتعب بذلك مَنْ حوله، وخاصة غلامه الذي ضاق به ذَرْعاً لكثرة ما سمع منه من هذا التقعر.
ويُروَي أنه في ذات ليلة قال أبو علقمة لغلامه: (أَصَقَعَتِ العَتَارِيفُ) ؟ فردَّ عليه الغلام قائلاً: (زقْفَيْلَم).
وكانت المرة الأولى التي يستفهم فيها أبو علقمة عن كلمة، فقال: يا بني وما (زقْفَيْلَم) ؟ قال: وما (صقعت العتاريف) ؟ قال: أردتُ: أصاحت الديكة؟ فقال الغلام: وأنا أردتُ لم تَصِحْ.
إذن: فكيف نستبعد أننا لا نعلم لغة المخلوقات الأخرى من حيوان ونبات وجماد؟ ألم يكْفِنا ما أخبرنا الله به من وجود لغة لجميع المخلوقات، وإنْ كنا لا نفهمها؛ لأننا نعتقد أن اللغة هي النطق باللسان فقط، ولكن اللغة أوسع من ذلك.
فهناك مثلاً لغة الإشارة، ولغة النظرات، ولغة التلغراف.
والآن بدأنا نسمع عن قواميس يُسجّل بها لغات بعض الحيوانات لمعرفة ما تقول.
وقد أعطانا الحق تبارك وتعالى إشارات تدل على أن لكل عَالَم لغة يتفاهم بها، كما في قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ..﴾ [الأنبياء: ٧٩]
فالجبال تُسبّح مع داود، وتُسبِح مع غيره، ولكن المراد هنا أنها تُسبّح معه ويوافق تسبيحها تسبيحه، وكأنهما في أنشودة جماعية منسجمة. إذن: فلا بُدَّ أن داود عليه السلام قد فَهِم عنها وفهمتْ عنه.
وكذلك النملة التي تكلمتْ أمام سليمان عليه السلام ففهم كلامها، وتبسَّم ضاحكاً من قولها. وقد علَّمه الله منطقَ الطير. إذن: لكل جنس من الأجناس منطق يُسبّح الله به، ولكن لا نفقه هذا التسبيح؛ لأنه تسبيح بلغة مُؤدِّية مُعبّرة يتفاهم بها مَنْ عرف التواضع عليها.
وقد جعل الحق سبحانه وتعالى تنزيهه مطلقاً ينقاد له الجميع، حتى الكافر ينقاد لتنزيه الله قَهْراً عنه، مع أن لديه ملكةَ الاختيار بين الكفر أو الإيمان، لكن أراد الحق سبحانه أن يكون تنزيهه مُطْلقاً من الجماد والنبات والحيوان، ومن المؤمن والكافر. كيف ذلك؟
أطلق الحق سبحانه على ذاته لفظ الجلالة (الله) فهو عَلَم على
ومع ما عندهم من إِلْفٍ بالمخالفة وعناد بالإلحاد، مع ذلك لم يجرؤ أحد منهم أنْ يُسمِّي ابناً له بهذا الاسم، ومعلوم أن التسمية أمر اختياريّ يطرأ على الجميع.
إذن: فهذا تنزيه لله تعالى، حتى من الكافر رَغْماً عنه، وهو دليل على عظمته سبحانه وجلاله، هذه العظمة وهذا الجلال الذي لم يجرؤ حتى الكافر على التشبُّه به؛ ذلك لأنهم في كفرهم غير مقتنعين بالكفر، ويخافون بطش الله وانتقامه إنْ أقدموا على هذا العمل، لذلك لا يجرؤ أحد منهم أنْ يُجرِّب في نفسه مثل هذه التسمية.
وفي مجال العبادات، فقد اختار الحق سبحانه لنفسه عبادة لا يشاركه فيها أحد، ولا يقدمها أحد لغيره تعالى؛ لأن الناس كثيرا ما يتقربون لأمثالهم من البشر بأعمال أشبه ما تكون بعبادة الله تعالى، فمنهم مَنْ ينحني خضوعاً لغيره؛ كأنه راكع أو ساجد، ومنهم مَنْ يمدح جباراً بأنه لا مثيلَ له، وتصل به المبالغة إلى جَعْله إلهاً في الأرض، ومنهم مَنْ يسجدُ للشمس كما فعل أهل سبأ وأخبر الهدهد عنهم بقوله:
﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله﴾ [النمل: ٢٤]
ألسْنَا نرى إنساناً يتقرّب لأحد الحكام، بأن ينفق فيما يحبه هذا الحاكم، وكأنه يُخرِج زكاة ماله؟ ألسْنا نرى أحدهم يذهب كل يوم
إذن: فالإيمان بالوحدانية في شيء متميز وارد عند الناس، والخضوع الزائد بالسجود أو بالركوع أو بالكلام وارد عند الناس.
لذلك تفرّد الحق سبحانه بفريضة الصوم، وجعلها خالصة له سبحانه، لا يتقرب بها أحد لأحد، وهل رأيت إنساناً يتقرّب لآخر بصوم؟ فانظر إلى هذه السُّبْحانية وهذا التنزيه في ذاته سبحانه، فلا يجرؤ أحد أنْ يتسمى باسمه.
وفي العبادة لا يُصَام لأحد غيره تعالى، فلو تصوَّرنا أن يقول واحد للآخر: أنا سأتقرّب إليك بصوم هذا اليوم أو هذا الشهر، إذن: أنت تريد منه أن يجلس بجوارك يحرسك ويراعي صومك، فكأنك تريد له العنت والمشقة من حيث تريد أنت أنْ تتقرّب إليه.
لذلك يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به».
يعني من الممكن أن يتقرب بأيِّ ركن من أركان الإسلام لغيري، إلا الصوم، فلا يجرؤ أحد أنْ يتطوّع به أو يتقرب به لأحد.
إذن: فالسُّبحانية هي الدليل السائد الشامل الجامع لكل الخَلْق؛ لذلك نقول للكافر: أيها الكافر لقد تأبَّيْتَ على الإيمان بالله،
لماذا لا تتمرد على ملك الموت وتقول له: لن أموت اليوم؟! إنها قاهرية الحق سبحانه وتعالى حتى على الكافر، فلا يستطيع أحد أن يخرج عليها أو يتمرد.
وكذلك العاصي حينما ينحرف عن الجادّة، وتمتد يده إلى مال غيره بالسرقة أو الاختلاس أو التعدِّي على المال العام، فإن الحق سبحانه يفتح عليه أبواباً للإنفاق تبتلع ما جمع من الحرام، وربما أخذت في طريقها الحلال أيضاً، وصدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال: «من جمع مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر».
فالتسبيح إذن لغة الكون كله، منه ما نفهمه، ومنه ما لا نفهمه، إلا مَنْ أطلعه الله عليه، فإذا مَنَّ الله على أحد وعلّمه لغة الطير أو الحيوان أو النبات أو الجماد، فهمها وفقه عنها، كما أنعم بهذه النعم على داود وسليمان عليهما السلام.
ويقول سليمان عليه السلام شاكراً هذه النعمة: ﴿رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ﴾ [النمل: ١٩]
فقول الحق سبحانه: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ..﴾ [الإسراء: ٤٤]
ثم يُذيّل الحق سبحانه هذه الآية بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً..﴾ [الإسراء: ٤٤]
لأن الإنسانَ كثيراً ما يغفل الاستدلال بظواهر الكون وآياته دلالة الحال، فيقف على قدرة الله وبديع صُنْعه، وكذلك كثيراً ما يغفل عن تسبيح الله تسبيح المقالة؛ لذلك أخبر سبحانه أنه حليمٌ لا يعاجل الغافلين بالعقوبة، وغفور لمن تاب وأناب.
وهذا من رحمته سبحانه بعباده، فلولا أنْ يتداركَ الله العباد بهذه الرحمة لكان الإنسان سيد الكون أقلّ حظاً من الحيوان، ويكفي أن تتدبر قوله تعالى عن تسبيح المخلوقات له سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب..﴾ [الحج: ١٨]
فها هي جميع الأجناس من جماد ونبات وحيوان تسجد لله لا يتخلف منها شيء، فهي تسجد وتُسبّح بالإجماع، ولم ينقسم الأمر إلا في الإنسان السيّد المكرّم، ولكن لماذا الإنسان بالذات هو الذي يشذُّ عن منظومة التسبيح في الكون؟
نقول: لأنه المخلوق الوحيد الذي مَيَّزَهُ الله بالاختيار، وجعل له الحرية في أنْ يفعل أو لا يفعل، أما باقي المخلوقات فهي مُسخّرة مقهورة، فإن قال قائل: لماذا لم يجعل الحق سبحانه وتعالى
لقد جعل الله تعالى في الإنسان الاختيار لحكمة عالية، فالقهر يُثبتُ للحق سبحانه صفة القدرة على مخلوقه، فإذا قهره على شيء لا يشذ ولا يتخَلف، ولكنه لا يثبت صفة المحبوبية لله تعالى.
أما الاختيار فيثبت المحبوبية لله؛ لأنه خلقك مختاراً تؤمن أو تكفر، ومع ذلك اخترْتَ الإيمان حُباً في الله تعالى، وطاعة وخضوعاً، فأثبتَّ بذلك صفة المحبوبية.
وإياك أن تظن أن مَنْ يَعْصي الله يعصيه قهراً عن الله، بل بما ركَّب فيه من الاختيار، وقد يقول قائل: وما ذنب الإنسان أن يكون مختاراً من بين جميع المخلوقات؟
لو حققتَ هذه القضية منطقياً وفلسفياً لوجدتَ الكون كله كان مختاراً، وليس الإنسان فقط، لكن اختارت جميع المخلوقات أنْ تُسلِّم الأمر لله، وفضَّلتْ أن تكون مقهورة مسخرة من البداية، أما الإنسان ففضَّل الاختيار، وقال: سأعمل بحرص، وسأحمل الأمانة بإخلاص، وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾
[الأحزاب: ٧٢]
وفي رَفْض هذه المخلوقات لتحمُّل الأمانة والاختيار دليل على العلم الواسع؛ لأنه يوجد فَرْق كبير بين قبول الأمانة وقت التحمُّل ووقت الأداء. فقد تتحمل الأمانة وأنت واثق من أدائها، لكن يطرأ عليك وقت الأداء مَا يحول بينك وبين أداء الأمانة.
فالإنسان إذن لا يضمن نفسه وقت الأداء، وإنْ كان يضمنها وقت التحمُّل، ولهذا اختارت جميع المخلوقات أن تكون مقهورة مُسيَّرة، أما الإنسان فقال: لي عقل وأستطيع التصرُّف والترجيح بين البدائل، فكان بذلك ظالماً لنفسه؛ لأنه لا يضمنها وقت الأداء، وجهولاً بما يكون من تغيُّر أحواله.
فالكون إذن ليس مقهوراً رَغْماً عنه، بل بإرادته واختياره، وكذلك الإنسان ليس مختاراً رَغْماً عنه، بل بإرادته واختياره.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً﴾.
ومع ذلك لم يُفَاجأ بها رسول الله، ولم تُثبِّط من عزيمته، لماذا؟ لأنه كان مُتوقِّعاً لكل هذا الإيذاء، ولديه من سوابق الأحداث ما يعطيه الحصانة الكافية لمقابلة كل الشدائد.
قال: نعم، لم يأتي رجل بمثل ما جئتَ به إلا عودِي، وإنْ يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
إذن: فالحق سبحانه وتعالى حَصَّن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ضد ما سيأتي من أحداث؛ لكي يكون على توقُّع لها، ولا تحدث له المفاجأة التي ربما ولدتْ الانهيار، وأعطاه الطُّعْم المناسب للداء قبل حدوثه؛ لتكون لديه المناعة الكافية عند وقوع الأحداث، واليقين الثابت في نصر الله له مهما ادْلهَمتْ الخطوب، وضاق الخناق عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى أصحابه.
والحديث عن الذين لا يؤمنون بالآخرة، وما داموا كذلك فليس لهم إلا الدنيا، هي فرصتهم الوحيدة، لذلك يحرصون على استنفاد كل شهواتهم فيها، ولا يؤخرون منها شيئاً، فإنْ أجَّل المؤمن بعض مُتَعِه وشهواته انتظاراً لما في الآخرة فإلامَ يؤجل الكفار مُتعهم؟
إذن: الذي يجعل هؤلاء يتهافتون على شهواتهم في الدنيا أنهم غير مؤمنين بالآخرة.
وقولهم: ﴿لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن..﴾ [فصلت: ٢٦]
شهادة منهم بصدق القرآن الكريم، وأنه ينفذ إلى القلوب ويؤثر فيها، وإلا لما قالوا هذا القول.
وقولهم: ﴿والغوا فِيهِ..﴾ [فصلت: ٢٦]
أي: هرَّجوا وشَوِّشوا عليه حتى لا يصل إلى آذان الناس، إذن: هم واثقون من صدق رسول الله وصدق دعوته، وقد دَلَّتْ تصرفاتهم على ذلك، فحينما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يذهب إلى الكعبة، ويجلس بجوارها يُدندِن بآيات القرآن كان صناديد الكفر في مكة يتعمدون سماع القرآن، والتلذُّذ بروعته وبلاغته.
فقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً﴾ [الإسراء: ٤٥]
وكأن الحق سبحانه يريد من هذه الواقعة أن تكون تمهيداً لحدث أهم، وهو ما كان من رسول الله ليلة الهجرة، ليلة أنْ بيَّتوا له القتل بضربة رجل واحد، فتحرسه عناية الله وتقوم له: اخرج عليهم ولا تخف، فإن الذي جعلك تقرأ وجعل بينك وبينهم حجاباً فلا يستمعون إليك، هو الذي سينزل على أعينهم غشاوة فلا يرونك.
ومع إحكام خيوط هذه المؤامرة لم يخرج الرسول من بينهم صامتاً يحبس أنفاسه خَوْفاً، بل خرج وهو يقول «شاهت الوجوه» وهو لا يخشى انتباههم إليه، وأكثر من ذلك: يأخذ حفنة من التراب ويذروها على وجوههم، إنها الثقة واليقين في نصره وتأييده.
وقوله: ﴿حِجَاباً مَّسْتُوراً﴾ [الإسراء: ٤٥]
الحجاب: هو المانع من الإدراك، فإنْ كان للعين فهو مانع للرؤية، وإنْ كان للأذن فهو مانع للسمع.
ولاشكَّ أن الذِّهْن سينشغل هنا بالحجاب المادي، لكن هذا الحجاب الذي يتحدث عنه الحق سبحانه حجاب معنويّ ولا يراه أحد، كما في قوله تعالى: ﴿رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [الرعد: ٢]
فلو قال: بغير عَمَد وسكت فقد نفى وجود عمد للسماء وانتهت المسألة، وأدخلناها تحت قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ﴾ [فاطر: ٤١] فالأمر قائم على قدرة الله دون وجود عَمَدٍ تحمل السماء.
لكن قوله سبحانه: ﴿تَرَوْنَهَا﴾ تجعل المعنى صالحاً لأنْ نقول بغير عَمَد، وأنتم ترونها كذلك، فننظر هنا وهناك فلا نجد للسماء عمداً تحملها، أو نقول: إن لها عمداً لكِنَّا لا نراها، فهي عَمَد معنوية، فلا ينصرف ذهنك إلى ما نقيمه نحن من عَمد المسلح أو الرخام أو الحديد.
وفي هذا ما يدُكُّ الغرور في الإنسان، ليعلم أنه لا يدرك إلا ما أذن الله له في إدراكه، وأن حواسَّ الإدراك لديه قد تتوقف عن هذا الإدراك، فليس معنى أنها مدركة أن تظل مدركة دائماً، فليس لها طلاقة لتفعل ما تشاء، بل الحق سبحانه وتعالى يعطيها هذه القدرة، أو يسلبها إياها.
ففي قصة موسى عليه السلام أنه سار بجيشه، يطارده فرعون وجنوده حتى وصل إلى شاطئ البحر فأصبح البحر من أمامه، وفرعون من خلفه حتى قال أصحاب موسى: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ..﴾ [الشعراء: ٦١]
فأين المفر، وهاهو البحر من أمامنا، والعدو من خلفنا؟ وهذا كلام منطقي مع واقع الحديث البشري، لكن الأمر يختلف عند موسى عليه السلام فقال بملء فيه: ﴿قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢]
فهل قالها موسى برصيد بشري؟ لا، بل بما عنده من ثقة في ربه، وهكذا انتقلت المسألة إلى ساحة الخالق سبحانه، فقال لنبيه موسى: ﴿فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم﴾ [الشعراء: ٦٣]
فخرق الله لموسى قانون سيولة الماء واستطراقه، ويتجمد الماء، ويصير كالجبل ويتحول البحر إلى يابسة، ويعبر موسى وقومه إلى الناحية الأخرى، وتنشرح صدورهم بفرحة النجاة، ويأخذ موسى عليه السلام عصاه ليضرب البحر ليعود إلى طبيعته، وحتى
فعندما نزل فرعون وجنوده البحر واكتمل عددهم في قاعه أطلق الخالق سبحانه للماء قانون سيولته، فأطبق على فرعون وجنوده، وكانت آيةً من آيات الله، شاهدة على قدرته سبحانه، وأنه إنْ شاء أنجى وأهلك بالشيء الواحد، وشاهدة على قيوميته تعالى على خَلْقه، فليس الأمر كما يقولون أمر قانون أو ناموس يعمل، ويدير حركة الكون، فكل المعجزات التي مرَّتْ في تاريخ البشرية جاءت من باب خرق النواميس.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً... ﴾.
الكون كله خَلْق الله، والإنسان سيد هذا الكون، وخليفة الله فيه وهو مربوب للخالق سبحانه لا يخرج عن مربوبيته لربه، حتى وإنْ
وسبق أنْ فرَّقنا بين عطاء الربوبية المتمثّل في كل نِعَم الحياة وبين عطاء الألوهية، وهو التكليف الذي يقتضي عبداً ومعبوداً، وافعل ولا تفعل.
إذن: عطاء الربوبية عام للجميع ودائم للجميع، فكان على الإنسان أن يقف مع نفسه وقفة تأمُّل في هذه النعم التي تُسَاق إليه دون سَعْي منه أو مجهود، هذه الشمس وهذه الأرض وهذا الهواء، هل له قدرة عليها؟ هل تعمل له بأمره، إنها أوليات النعم التي أجراها الله تعالى من أجله، وسخّرها بقدرته من أجله، ألا تدعوه هذه النعم إلى الإيمان بالمنعم سبحانه وتعالى؟
وسبق أنْ ضربنا مثلاً للاستدلال على الخالق سبحانه بما أودعه في الكون من ظواهر وآيات بالرجل الذي انقطعت به السُّبُل في صحراء، حتى أوشك على الهلاك، وفجأة رأى مائدة عليها ما يشتهي من الطعام والشراب، ألاَ تثير في نفسه تساؤلاً عن مصدرها قبل أن تمتدَّ إليها يده؟
وكذلك الكافر الذي يتقلَّب في نِعَم لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، وقد طرأ على الكون فوجده مُعدّاً لاستقباله مُهَيئاً لمعيشته، فكان عليه أنْ يُجري عملية الاستدلال هذه، ويأخذ من النعمة دليلاً على المنعِم.
والحق تبارك وتعالى لا يمنع عطاء ربوبيته عَمَّنْ كفر، بل إن
إذن: فقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً..﴾ [الإسراء: ٤٦] لم تَأْتِ من الله ابتداءً، بل لما أحبُّوا هم الكفر، وقالوا عن أنفسهم: قلوبنا في أكنة، فأجابهم الله إلى ما أرادوا وختم على قلوبهم ليزدادوا كفراً، وطالما أنهم يحبونه فَلْنُزدهم منه.
ثم يقول تعالى: ﴿أَن يَفْقَهُوهُ..﴾ [الإسراء: ٤٦]
أي: كراهية أنْ يفقهوه؛ لأن الله تعالى لا يريد منهم أن يفهموا القرآن رَغْماً عنهم، بل برضاهم وعن طيب خاطر منهم بالإقناع وبالحجة، فالله لا يريد منا قوالبَ تخضع، بل يريد قلوباً تخشع، وإلا لو أرادنا قوالبَ لما استطاع أحد منا أنْ يشذَّ عن أمره، أو يمنع نفسه من الله تعالى، فالجميع خاضع لأمره وتحت مشيئته.
وفي سورة الشعراء يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٣ - ٤]
فالأعناق هي الخاضعة وليست القلوب؛ لأنك تستطيع أن تقهر قالب خصمك فتجبره على فعل أو قول، لكنك لا تستطيع أبداً أن تجبر قلبه وتكرهه على حبك، إذن: فالله تعالى يريد القلوب، يريدها طائعة محبة مختارة، أما هؤلاء فقد اختاروا الأكِنّة على قلوبهم، وأحبُّوها وانشرحت صدورهم بالكفر، فزادهم الله منه.
﴿وَقْراً﴾ أي: صَمم، والمراد أنهم لا يستمعون سماعاً مفيداً؛ لأنه ما فائدة السمع؟ واللغة وسيلة بين متكلم ومخاطب، ومن خلالها تنتقل الأفكار والخواطر لتحقيق غاية، فإذا كان يستمع بدون فائدة فلا جدوى من سمعه وكأنه به صَمماً.
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً..﴾ [الإسراء: ٤٦]
لماذا ولو على أدبارهم نفوراً؟ لأنك أتيتَ لهم بما يُخوِّفهم ويُزعجهم، وبالله لو أن قضيةَ الإيمان ليست فطرية موجودة في الذات وفي ذرّات التكوين، أكان هؤلاء يخافون من ذكر الله؟ فَمِمّا يخافون وهم لا يؤمنون بالله، ولا يعترفون بوجوده تعالى؟
إذن: ما هذا الخوف منهم إلا لانقهار الطبع، وانقهار الفطرة التي يعتريها غفلة، فإذا بهم يُولُّون مدبرين في خَوْفٍ ونُفور.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى... ﴾.
فكان عليهم أن يتدبروا هذا القول: فهم قالوا في أنفسهم، ولم يقولوا لأحد، فمَنْ أخبر محمداً بهذا القول الذي لم يخرج إلى عالم الواقع، ومَنْ أطلعه عليه؟ أَلاَ يدعوهم هذا الإعلام بما يدور في نفوسهم إلى الإيمان بالله؟
وما دام الحق سبحانه يعلم كل الأحوال، ولا يَخْفَى عليه شيء، فهو أعلم بأحوالهم هذه: الأول: يستمعون إليك. والثاني: وإذ هم نجوى. والثالث: إذ يقول الظالمون. إذن: هم يستمعون ثم يتناجون، ثم يقول بعضهم لبعض.
قالوا: إن سبب نزول هذه الآية ما كان عند العرب من حُبٍّ للغة وشغف بأساليب البيان؛ لذلك كانت معجزة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جنس ما نبغ فيه قومه، لتكون أوضح في التحدي، هكذا شأن الحق سبحانه مع كل الرسل.
وكان للعرب أسواق للبيان والبلاغة يجتمع فيها أهل الشعر والبلاغة والفصاحة، وفي مكة تصب كل الألسنة في مواسم الحج، فعرفوا صفوة لغات الجزيرة وأساليبها، ومن هنا انجذبوا لسماع القرآن، وشغفوا ببيانه بما لديهم من أذن مُرْهفة للأسلوب وملَكة عربية أصيلة، إلا أن القرآن له مطلوبات وتكاليف لا يقدرون عليها، ولديه منهج سيُقوِّض مملكة السيادة التي يعيشون فيها.
ومن هنا كابروا وعاندوا، ووقفوا في وجه هذه الدعوة، وإنْ كانوا
فيُرْوَى أن كباراً مثل: النضر بن الحارث، وأبي سفيان، وأبي لهب كانوا يتسللون بعد أن ينام الناس ممن كانوا يقولون لهم: ﴿لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ﴾ [فصلت: ٢٦] كانوا يذهبون إلى البيت يتسمَّعون لقراءة القرآن، ولماذا يحرمون أنفسهم من سماع هذا الضرب البديع من القول، وقد حرموا مواجيدهم وقلوبهم منه، فكانوا عند انصرافهم يرى بعضهم بعضاً مُتسلّلاً مُتخفّياً، فكانوا مرة يكذبون على بعضهم بحجج واهية، ومرة يعترفون بما وقعوا فيه من حُبٍّ لسماع القرآن.
فقال تعالى: ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ..﴾ [الإسراء: ٤٧]
أي: بالحال الذي يستمعون عليه، إذ يستمعون إليك بحال إعجاب. ثم: ﴿وَإِذْ هُمْ نجوى..﴾ [الإسراء: ٤٧] من التناجي وهو الكلام سِرّاً، أو: أن نَجْوى جمع نجى، كقتيل وقَتْلى، وجريح وجَرْحى.
فالمعنى: نحن أعلم بما يستمعون إليه، وإذ هم متناجون أو نجوى، فكأن كل حالهم تناجٍ.
وقوله: ﴿وَإِذْ هُمْ نجوى..﴾ [الإسراء: ٤٧]
فيه مبالغة، كما تقول: رجل عادل، ورجل عَدْل.
ومِنْ تناجيهم مَا قاله أحدهم بعد سماعه لآيات القرآن: «والله، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسلفه لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعْلَى عليه».
وهذا هو القول المعْلَن عندهم، أن يتهموا رسول الله بالسحر مرة، وبالجنون أخرى، ومرة قالوا: شاعر. وأخرى قالوا: كاهن. وهذا كله إفلاس في الحجة، ودليل على غبائهم العقديّ.
وكلمة ﴿مَّسْحُوراً﴾ اسم مفعول من السحر، وهي تخييل الفِعْل. وليس فعلاً، وتخييل القَوْل وليس قولاً، فهي صَرْف للنظر عن إدراك الحقائق، أما الحقائق فهي ثابتة لا تتغير.
لذلك نقول: إن معجزة موسى عليه السلام من جنس السحر وليست سِحْراً؛ لأن ما جرى فيها كان حقيقة لا سِحْراً، فقد انقلبتْ العصا حَيَّة تبتلع حبال السحرة وعِصيّهم على وَجْه الحقيقة، لكن لما كانت المعجزة في مجال السحر ظنها الناسُ سِحْراً؛ لأن القرآن قال في سحرة فرعون: ﴿سحروا أَعْيُنَ الناس﴾ [الأعراف: ١١٦] وقال في آية أخرى: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى﴾ [طه: ٦٦]
إذن: فحقيقة الأشياء ثابتة لا تتغير، فالساحر يرى العصا عصا، أما المسحور فيراها حية، وليست كذلك مسألة موسى عليه السلام وليؤكد لنا الحق سبحانه هذا المعنى، وأن ما حدث من موسى ليس من سحرهم وتغفيلهم أنه حينما قال له: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى﴾ [طه: ١٧]
فأطال موسى عليه السلام الكلام؛ لأنه أحب الأُنْس بالكلام
فهذا هو مدى عِلْمه عن العصا التي في يده، لكن الله تعالى سيجعلها غير ذلك، فقال له: ﴿قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى﴾ [طه: ١٩ - ٢٠]
فهل خُيِّل لموسى أنها حيَّة وهي عصا؟ أم أنها انقلبت حيّة فعلاً؟ إنها حية فعلاً على وجه الحقيقة، بدليل قوله تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى﴾ [طه: ٦٧]
وموسى لم يَخَفْ إلا لأنه وجد العصا حيّة حقيقية، ثم طمأنه ربه: ﴿قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى﴾ [طه: ٦٨]
لذلك لما رأى السحرة ما تفعله عصا موسى علموا أنها ليست سحراً، بل هي شيء خارج عن نطاق السحر والسحرة، وفوق قدرة موسى عليه السلام، فآمنوا بربِّ موسى القادر وحده على إجراء مثل هذه المعجزة.
وقوله تعالى: ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾ [الإسراء: ٤٧]
أي: سحره غيره. وهذا قوْل الظالمين الذين يُلفِّقون لرسول الله التهمة بعد الأخرى، وقد قالوا أيضاً: ساحر. قال تعالى: ﴿قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾ [يونس: ٢]
وإنْ كان مسحوراً سحره غيره، فهل جرَّبْتُم عليه في سحره كلاماً مخالفاً لواقع؟ هل سمعتموه يهذي كما يهذي المسحور؟ إذن: فهذا اتهام بطل وقول كاذب لا أصل له، بدليل أنكم تأبَّيتم عليه، ولم يُصِبْكم منه أذى.
فلما أخفقوا في هذه التهمة ذهبوا إلى ناحية أخرى فقالوا: شاعر، وبالله أَمِثْلُكم أيها العرب، يا أربابَ اللغة والفصاحة والبيان يَخْفي عليه أن يُفرِّق بين الشعر والنثر؟ والقرآن وأسلوب متفرد بذاته، لا هو شعر، ولا هو نثر، ولا هو مسجوع، ولا هو مُرْسل، إنه نسيج وحده.
لذلك نجد أهل الأدب يُقسِّمون الكلام إلى قسمين: كلام الله وكلام البشر، فكلام البشر قسمان: شعر ونثر ويخرج كلام الله تعالى من دائرة التقسيم؛ لأنه متفرد بذاته عن كل كلام.
فلو قرأت مثلاً في كتب الأدب تجد الكاتب يقول: هذا العدل محمود عواقبه، وهذه النَّبْوة غُمّة ثم تنجلي، ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سيبه، أو تأخر غير ضنين غناؤه، فأبطأُ الدِّلاَء فَيْضاً أحفلُها، وأثقل السحائب مَشْياً أحفلها، ومع اليوم غد، ولكلِّ أجل كتاب، له الحمد على احتباله، ولا عتب عليه في احتفاله.
أَجْرِ عليه ما يُجريه أهل الشعر من الوزن، فسوف تجد بها وزناً شعرياً: مستفعل فاعلات.. وكذلك: ﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم﴾ [الحجر: ٥٠] تعطيك الشطر الثاني من البيت، لكن هل لاحظتَ ذلك في سياق الآيات؟ وهل لاحظتَ أنك انتقلت من شعر إلى نثر، أو من نثر إلى شعر؟
إذن: فالقرآن نسيج فريد لا يُقال له: شعر ولا نثر، وهذا الأمر لا يَخْفى على العربي الذي تمرَّس في اللغة شعرها ونثرها، ويستطيع تمييز الجيِّد من الرديء.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً﴾.
وقد سبق أن تحدثنا عن افتراءاتهم في الألوهية وعن موقفهم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ومن ذلك قولهم: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]
وقولهم عن القضية الإيمانية العامة: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢]
أهذه دعوة يدعو بها عاقل؟! فبدل أنْ يقولوا: فاهدنا إليه تراهم يُفضّلون الموت على سماع القرآن، وهذا دليل على كِبْرهم وعنادهم وحماقتهم أمام كتاب الله.
لذلك، فالحق سبحانه وتعالى من حبه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورِفْعة منزلته حتى عند الكافرين به، يردُّ على الكافرين افتراءهم، ويُطمئِن قلب رسوله، ويتحمل عنه الإيذاء في قوله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ..﴾ [الأنعام: ٣٣]
أي: قولهم لك: ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣]
فليست المسألة عندك يا محمد، فهُمْ مع كفرهم لا يكذبونك
وقولهم عن رسول الله: مجنون قوْلٌ كاذب بعيد عن الواقع؛ لأن ما هو الجنون؟ الجنون أن تُفسِد في الإنسان آلة التفكير والاختيار بين البدائل، والجنون قد يكون بسبب خَلْقي أي: خلقه الله تعالى هكذا، أو بسبب طارئ كأنْ يُضربَ الإنسان على رأسه مثلاً، فيختلّ عنده مجال التفكير.
ومن رحمة الله تعالى بالعبد أن أخَّرَ له التكليف إلى سِنَّ البلوغ واكتمال العقل، وحتى يكون قادراً على إنجاب مثله؛ لأنه لو كلّفه قبل البلوغ فسوف تطرأ عليه تغييرات غريزية قد يحتج بها، ومع ذلك طلب من الأب أن يأمر ابنه بالصلاة قبل سِنِّ التكليف لِيُعَوِّده الصلاة من الصغير ليكون على إِلْفٍ بها حين يبلغ سِنّ التكليف، وليألف صيغة الأمر من الآمر.
والإنسان لا يشك في حُبّ أبيه وحِرْصه على مصلحته، فهو الذي يُربّيه ويُوفّر له كل ما يحتاج، فله ثقة بالأب المحس، فالحق سبحانه يريد أنْ يُربِّبَ فينا الطاعة لمن نعلم خيره علينا، فإذا ما جاء وقت التكليف يسهل علينا ولا يشق؛ لأنها أصبحتْ عادة.
والذي أعطى للأب حَقَّ الأمر أعطاه حَقّ العقاب على ترْكه ليكون التكليف من الرب الصغير، والعقوبة من الرب الصغير لِتُعوِّده بالأُبُوة
فالعقل إذن شرْط أساسي في التكليف، وهو العقل الناضج الحرّ غير المكْره، فإنْ حدث إكراه فلا تكليف.
فقوله: ﴿انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال..﴾ [الإسراء: ٤٨]
أي: قالوا مجنون، والمجنون ليس عنده اختيار بين البدائل، وقد رَدَّ الحق سبحانه عليهم بقوله: ﴿ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ١ - ٤]
فنفى الحق سبحانه عن رسوله هذه الصفة، وأثبت له صفة الخُلق العظيم، والمجنون لا خُلقَ له، ولا يُحاسَب على تصرفاته، فهو يشتم هذا ويضرب هذا ويبصق في وجه هذا، ولا نملك إلا أنْ نبتسم في وجهه ونُشفِق عليه.
ولقائل أنْ يقول: كيف يسلبه الخالق سبحانه وتعالى نعمة العقل، وهو الإنسان الذي كرّمه الله؟ وكيف يعيش هكذا مجرد نسخة لإنسان؟
ولنعلم الحكمة من هذه القضية علينا أنْ نُقارن بين حال العقلاء وحال المجنون، لنعرف عدالة السماء وحكمة الخالق سبحانه، فالعاقل نحاسبه على كل كبيرة وصغيرة ومقتضى ما تطلبه من عظمة في الكون، ومن جاه وسلطان ألاَ يُعقّب على كلامك أحد، وأنْ تفعلَ ما تريد.
وقوله تعالى: ﴿فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٤٨]
أي: لم يستطيعوا أنْ يأتُوا بمثَلٍ يكون صَاداً وصارفاً لمن يؤمن بك أنْ يؤمن، فقالوا: مجنون وكذبوا. وقالوا: ساحر وكذبوا وقالوا: شاعر وكذبوا. وقالوا: كاهن وكذبوا. فَسُدّتْ الطرق في وجوههم، ولم يجدوا مَنْفَذاً لِصَدِّ الناس عن رسول الله.
فلما عجزوا عن إيجاد وَصْف يصدُّ مَنْ يريد الإيمان برسول الله، قالوا: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢]
ومنهم من قال: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]
فلم يستطيعوا إيجاد سبيل يُعَوقون به دعوتك، بدليل أنه رغم ضَعْف الدعوة في بدايتها، ورغم اضطهادهم لها تراها تزداد يوماً بعد يوم، وتتسع رُقْعة الإيمان، أما كَيْدهم وتدبيرهم فيتجمّد أو يقلّ.
كما في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا..﴾ [الرعد: ٤١]
والحق سبحانه وتعالى في قضية استماع القرآن وقولهم: قلوبنا في أكنة، وقلوبنا غلف يريد أن يُلفِتَ أنظارنا إلى قضية هامة في الوجود ومنتظمة في كل الكائنات، وهي أن الأفعال تقتضي فاعلاً للحدث وقابلاً لفعل الحدث، ومثال ذلك: الفلاح الذي يُقلِّب التربة بفأسه، فتقبل التربة منه هذا الفعل، وتنفعل هي معه، فتعطيه ما ينتظره من محصول.
. أما لو فعل هذا الفعل في صخرة فلن تقبل منه هذا الفعل. إذن: فثمرة الحدث تتوقف على طرفين: فاعل، وقابل للفعل.
لذلك أتعجب من هؤلاء الذين يقولون: إن الغرب يفتن المسلمين عن دينهم، ويأتي إلينا بالمغْريات وأسباب الانحراف، ويُصدّر إلينا المبادئ الهدامة ويُشككنا في ديننا.. الخ.
ونقول لهؤلاء: مَا يضركم أنتم إنْ فعل هو ولم تقبلوا أنتم منه هذا الفعل؟! دَعُوه يفعل ما يريد، المهم ألاَّ نقبلَ وألاَّ نتفاعلَ مع مقولاته ومبادئه. فالخيبة ليست في فعل الغرب بنا، ولكن في تقبُّلنا نحن ولَهْثنا وراء كُلِّ ما يأتينا من ناحيته، وما ذلك إلا لِقلّة الخميرة الإيمانية في نفوسنا، فالغرب يريد أنْ يُثبِّت نفوذه، ويثبت مبادئه، وما عليك إلاّ أنْ تتأبّى على قبول مثل هذه الضلالات.
وعلى نظرية الفاعل والقابل هذه تُبنَى الحضارات في العالم كله؛ لأن الخالق سبحانه حينما استدعانا إلى الوجود جعل لنا فيه مُقوِّمات الحياة الأساسية من: شمس، وقمر، ونجوم، وأرض، وسماء،
والمتأمل في الكون يجد أن جميع ارتقاءات البشر من هذا النوع الثاني الذي لا يعطيك إلا إذا تفاعلتَ معه، وقد ترتقي الطموحات البشرية إلى أن تجعلَ من النوع الأول الذي يعطيك دون أن تتفاعلَ معه ومن غير سلطان لك عليه، تجعل منه مُنْفَعِلاً بعملك فيه، كما يحدث الآن في استعمال الطاقة الشمسية في مجالات جديدة لم تكُنْ من قبل. إذن: فهذه ارتقاءاتٌ لا يُحْرَم منها مَنْ أخذ بالأسباب وسَعَى إلى الرُّقيّ والتقدم.
إذن: إنْ جاء يُشكِّك في دينك نَدَعْهُ، وما يقول فليس بملوم، إنما الملوم أنت إنْ قبلْتَ منه؛ ولذلك يجب علينا وعلى كُلّ قائم على تربية النشء أنْ نُحصِّن أولادنا ضد هجمات الإلحاد والتنصير والتغريب، ونُعلِّمهم من أساسيات الدين ما يُمكِّنهم من الدفاع والردِّ بالحجة والإقناع حتى لا يقعوا فريسة سَهْلة في أيدي هؤلاء.
وهذه هي المناعة المطلوبة وما أشبهها بما نستخدمه في الماديات من التطعيم ضد المرض، حتى إذا طرأ على الجسم لا يؤثر فيه. ألاَ ترى الحق سبحانه في قرآنه الكريم يَعْرِض لِشُبَه الكافرين والملاحدة ويُفصِّلها ويُناقشها، ثم يبين زَيْفها، فيقول: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً﴾ [الكهف: ٥]
إذن: فأصول الحياة فاعل وقابل، وسبق أنْ ضربنا مثلاً فقلنا: في الشتاء ينفخ الإنسان في يده ليدفئها، وكذلك ينفخ في كوب الشاي ليبرده، فالفعل واحد ولكن القابل مختلف. وكذلك حال الناس في سماع القرآن واستقبال كلمات الله، فقد استقبله أحد الكفار في حال هدوء وانسجام، فقال:
«والله إنَّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغْدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه يعلو ولا يُعْلَى عليه» لقد استمعه بملكَة العربي الشَّغُوف بكل ما هو جميل من القَوْل، لا بملَكِة العناد والكِبْر والغطرسة.
وكذلك سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه له حالان في سماع القرآن: حال كفر وشدة وغلظة عند سماع القرآن، وحال إيمان ورقَّة قلب حينما بلغه نبأ إسلام أخته، فأسرع إليها وهي تقرأ القرآن فصفَعها بقسْوة حتى أَدْمَى وجهها، فأخذتْه عاطفة الرحم، وتغلبت على عاطفة الكفر عنده، فلما سمع القرآنَ بهذه العاطفة الحانية تأثَّر به، فآمن مِنْ فَوْره؛ لأن القرآن صادف منه قَلْباً صافياً، فلا بد أَنْ يُؤثِّر فيه.
وقد لخَّص لنا الحق سبحانه هذه القضية في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً..﴾ [محمد: ١٦]
فيأتي الرد عليهم: ﴿أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ﴾ [محمد: ١٦]
وفي آية أخرى يقول سبحانه: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى..﴾ [فصلت: ٤٤]
فالقرآن واحد، ولكن المستقبل مختلف، إذن: فإياك أنْ تلوم مَنْ يريد أن يلويَ الناس إلى طريق الضلال، بل دَعْه في ضلاله، ورَبِّ في الآخرين مناعة حتى لا يتأثروا ولا يستجيبوا له.
بعد أن تكلمنا عن موقف الكفار من الألوهية ومن النبوة نتكلم من موقفهم من المنهج الذي جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا المنهج يتضمن قضايا كثيرة وأموراً متعددة، لكن أم هذا المنهج وأساسه أن نؤمن بالآخرة، وما دُمْنَا نؤمن بالآخرة فسوف تنسجم حركتنا في الحياة. فالإيمان بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب هو الحافز لنا على العمل والاستقامة في الدنيا، وما أشبه ذلك بالتلميذ الذي يجتهد ويجدّ؛ لأنه يؤمن بالامتحان آخر العام، وما ينتج عنه من توفيق أو إخفاق.
وعجيب في أمر الموت أن نرى الناس يحزنون كثيراً على مَنْ مات صغيراً ويقولون: أُخِذ في شبابه ويُكثِرون عليه العويل، لماذا؟ يقولون: لأنه لم يتمتع بالدنيا، سبحان الله أي دنيا هذه التي تتحدثون عنها، وقد اختاره الله قبل أنْ تُلوّثه آثامها وتُلطّخه ذنوبها، لماذا تحزنون كل هذا الحزن ولو رأيتم ما هو فيه لحسدتموه عليه؟
والناس كثيراً ما يُخطِئون في تقدير الغايات؛ لأن كل حَدَث يُحدِثه الإنسان له غاية من هذا الحدث، هذه الغاية مرحلية وليست نهائية، فالغاية النهائية والحقيقية ما ليس بعدها غاية أخرى، فالتلميذ يذاكر بالمرحلة الابتدائية لينتقل إلى المرحلة الإعدادية، ويذاكر الإعدادية لينتقلَ إلى الثانوية.
وهكذا تتوالى الغايات في الدنيا إلى أنْ يصل إلى غاية الدنيا الأخيرة، وهي أن يبني بيتاً ويتزوج ويعيش حياة سعيدة يرتاح فيها بما تحت يديه من خدم، يقضون له ما يريد، هذا على فرض أنه سيعيش حتى يكمل هذه المراحل، ولكن ربما مات قبل أنْ يصلَ إلى هذه الغاية.
إذن: فلا بد للإنسان أنْ يتعبَ أولاً، ويبذل المجهود ليصبح مخدوماً، وهذه المخدومية تتناسب مع مجهودك الأول، فَمن اكتفى
إذن: فغايتك في الدنيا أن تكون مخدوماً، مع أن خادمك قد يتمرَّد عليك وقد يتركك، أما غاية الآخرة فسوف تُوفّر عليك هذا كله، وليس لأحد علاقة بك إلا ذاتك أنت، فبمجرد أنْ يخطر الشيء على بالك تجده أمامك؛ ذلك لأنك في الدنيا تعيش بالأسباب، وفي الآخرة تعيش بمُسبِّب الأسباب سبحانه وتعالى.
وكذلك لو أجريتَ مقارنة اقتصادية بين متعة الدنيا ومتعة الآخرة لرجحَتْ كِفّة الآخرة؛ لأن الدنيا بالنسبة لك هي عمرك فيها فقط، وليس عمر الدنيا كله، كما يحلو للبعض أنْ يُحدِّد عمر الدنيا بعدة ملايين من السنين، فما دَخْلك أنت بكل هذه الملايين؟!
فالدنيا إذن هي عمري فيها، وهذا العمر مظنون غير مُتيقّن، وعلى فرض أنه مُتيقّن فهو خاضع لمتوسط الأعمار، وسوف ينتهي حتماً بالموت. أَضِفْ إلى ذلك أن نعيمك في الدنيا على قَدْر سَعْيك وأَخْذِك بأسبابها.
أما الآخرة فهي باقية لا نهاية لها، فلا يعتريها زوال ولا يُنهيها الموت، كما أن مُدتها مُتيقّنة وليس مظنونة، ونعيمك فيها ليس على قَدْر إمكانياتك، ولكن على قدر إمكانيات خالقك سبحانه وتعالى.
فأيّهما أحسن؟ وأيُّهما أَوْلَى بالسَّعْي والعمل؟ ويكفي أنك في الدنيا مهماً توفَّر لك من النعيم، وإنْ كنت في قمة النعيم بين أهلها فإنه يُنغّص عليك هذا النعيمَ أمران: فأنت تخاف أنْ تفوتَ هذا النعيم
ثم يقول الحق سبحانه عن إنكارهم للبعث بعد الموت: ﴿وقالوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً﴾.
والرفات: هو الفتات ومسحوق الشيء، وهو التراب أو الحُطَام، وكذلك كل ما جاء على وزن (فُعال).
لقد استبعد هؤلاء البعث عن الموت؛ لأنهم غفلوا في بداية الوجود وبداية خَلْق الإنسان، ولو استعملنا علم الإحصاء الذي استحدثه العلماء لوجدناه يخدم هذه القضية الإيمانية، فلو أحصينا تعداد العالم الآن لوجدناه يتزايد في الاستقبال ويقلّ في الماضي، وهكذا إلى أنْ نصل بأصل الإنسان إلى الأصل الأصيل، وهو آدم وحواء، فمن أين أتَيَا إلى الوجود؟ فهذه قضية غيبية كان لا بُدَّ أن يُفكّروا فيها.
ولأنها قضية غيبية فقد تولَّى الحق سبحانه وتعالى بيانها؛ لأن الناس سوف يتخبّطون فيها، فينبهنا الخالق سبحانه بمناعة إيمانية عقدية في كتابه العزيز، حتى لا ننساق وراء الذين سيتهورون ويَهْرفون بما لا يعلمون، ويقولون بأن أصل الإنسان كان قرداً،
وكذلك من القضايا التي تخبَّط فيها علماء الجيولوجيا ما ذهبوا إليه من أن السماء والأرض والشمس كانت جميعاً جزءاً واحداً، ثم انفصلت عن بعضها، وهذه أقوال لا يقوم عليها دليل.
لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يعطينا طرفاً من هذه القضية، حتى لا نُصغِي إلى أقوال المضلِّلين الذين يخوضون في هذه الأمور على غير هدى، ولتكون لدينا الحصانة من الزَّلَل؛ لأن مثل هذه القضايا لا تخضع للتجارب المعملية، ولا تُؤخَذ إلا عن الخالق سبحانه فهو أعلم بما خلق.
يقول تعالى: ﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ..﴾ [الكهف: ٥١] أي: لم يكن معي أحد حين خلقتُ السماء والأرض، وخلقتُ الإنسان، ما شهدني أحد لِيَصِفَ لكم ما حدث ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً﴾ [الكهف: ٥١] أي: ما اتخذت من هؤلاء المضللين مُساعِداً أو مُعاوِناً، وكأن الحق سبحانه يقول لنا: احكموا على كل مَنْ يخوض في قضية الخَلْق هذه بأنه مُضلّل فلا تستمعوا إليه.
ولكي تُريحوا أنفسكم من مثل هذه القضايا لا تُحمِّلوا العقل أكثر مما يحتمل، ولا تعطوه فوق مقومات وظائفه، وجَدْوى العقل حينما ينضبط في الماديات المعملية، أما إنْ جنح بنا فلا نجني من ورائه إلا الحُمْق والتخاريف التي لا تُجدي.
وأيضاً، فالعقل وسيلة الإدراك، مثله مثل العين التي هي وسيلة الرؤية، والأذن التي هي وسيلة السمع.
. وما دام العقل آلة من آلات الإدراك فله حدود، كما أن للعين حدوداً في الرؤية، وللأذن حدوداً في السمع، فللعقل حدود في التفكير أيضاً حتى لا يشطح بك، فعليك أنْ تضبط العقل في المجال الذي تُجوِّد فيه فقط، ولا تُطلق له العنان في كُلِّ القضايا.
ومن هنا تعب الفلاسفة وأتعبوا الدنيا معهم؛ لأنهم خاضوا في قضايا فوق نطاق العقل، وأنا أتحدى أي مدرسة من مدارس الفلسفة من أول فلاسفة اليونان أن يكونوا متفقين على قضية إلا قضية واحدة، وهي أن يبحثوا فيما وراء المادة، فَمنِ الذي أخبرك أن وراء المادة شيئاً يجب أن يُبحث؟
لقد اهتديتُم بفطرتكم الإيمانية إلى وجود خالق لهذا الكون، فليس الكون وليد صدفة كما يقول البعض، بل له خالق هو الغيبيات التي تبحثون عنها، وتَرْمَحُون بعقولكم خلفها، في حين كان من الواجب عليكم أنْ تقولوا: إن ما وراء المادة هو الذي يُبين لنا نفسه.
لقد ضربنا مثلاً لذلك ولله المثل الأعلى وقلنا: هَبْ أننا في مكان مغلق، وسمعنا طَرْق الباب فكلنا نتفق في التعقُّل أن طارقاً بالباب، ولكن منا مَنْ يتصور أنه رجل، ومنا مَنْ يتصوّر أنه امرأة،
فلو أن الفلاسفة وقفوا عند مرحلة التعقُّل في أن وراء المادة شيئاً، وتركوا لمن وراء المادة أنْ يُظهر لهم عن نفسه لأراحوا واستراحوا، كما أننا لو قُلْنا للطارق: مَنْ؟ لقال: أنا فلان، وجئت لكذا، وانتهتْ المسألة.
ولقد رَدَّ عليهم القرآن إنكارهم للبعث وقولهم: ﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً﴾ [الإسراء: ٤٩]
بقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ [يونس: ٣٤]
وبقوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]
وبقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ..﴾ [الروم: ٢٧] فإعادة الشيء أهون من خَلْقه أَوّلاً.
وقف الفلاسفة طويلاً أمام قضية البعث، وأخذوا منها سبيلاً
والحقيقة أنهم في هذه المسألة لم يفطِنُوا إلى أن مُشخّص الإنسان شيء، وعناصر تكوينه شيء آخر.
. كيف؟
هَبْ أن إنساناً زاد وزنه ونصحه الطبيب بإنقاص الوزن فسعى إلى ذلك بالطرق المعروفة لإنقاص الوزن، وهذه العملية سواء زيادة الوزن أو إنقاصه محكومة بأمرين: التغذية والإخراج، فالإنسان ينمو حينما يكون ما يتناوله من غذاء أكثر مما يُخرِجه من فضلات، ويضعف إن كان الأمر بعكس ذلك، فالولد الصغير ينمو لأنه يأكل أكثر مِمّا يُخرِج، والشيخ الكبير يُخرِج أكثر مِمّا يأكل؛ لذلك يضعف.
فلو مرض إنسان مرضاً أَهْزَلَهُ وأنقص من وزنه، فذهب إلى الطبيب فعالجه حتى وصل إلى وزنه الطبيعي، فهل الذرات التي خرجتْ منه حتى صار هزيلاً هي بعينها الذرات التي دخلتْه حين تَمَّ علاجه؟ إن الذرات التي خرجتْ منه لا تزال في (المجاري)، لم يتكون منها شيء أبداً، إنما كميّة الذرّات ومقاديرها هي التي تقوي وتشخص.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً﴾.
وكأن الحق سبحانه يتحدَّاهم بأبعد الأشياء عن الحياة، ويتدرج بهم من الحجارة إلى الحديد؛ لأن الحديد أشدّ من الحجارة وهو يقطعها، فلو كنتم حجارة لأعدْناكم حجارة، ولو كنتم حديداً لأعدْناكم حديداً.
ثم يترقّي بهم إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقول تعالى: ﴿أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ..﴾.
وقوله: ﴿مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ..﴾ [الإسراء: ٥١]
يكبر: أي يعظُم مِنْ كَبُر يكْبُر. ومنه قوله تعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ [الكهف: ٥] أي: عَظُمت. والمراد: اختاروا شيئاً يعظم استبعادُ أن يكون فيه حياة بعد ذلك، وغاية ما عندهم في بيئتهم الحجارة والحديد، فَهُما أبعد الأشياء عن الحياة، وقد اتفقوا على ذلك فليس في محيط حياتهم ما هو أقسى من الحجارة والحديد. ولكن الحق سبحانه وتعالى ارتقى بهم في فَرْضية الأمر إلى أنْ يختاروا وتجتمع نفوسهم على شيء، يكون أعظمَ استبعاداً من الحجارة والحديد.
ونلاحظ في قوله تعالى: ﴿مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ..﴾ [الإسراء: ٥١] جاء هذا الشيء مُبْهَماً؛ لأن الشيء العظيم الذي يعظُم عن الحجارة والحديد استبعاداً عن أصل الحياة مختلفٌ فيه، فإن اتفقوا في أمر الحجارة والحديد فقد اختلفوا في الأشياء الأخرى، فجاءت الآية مُبْهمة ليشيع المعنى في نفس كُلّ واحد كل على حَسْب ما يرى.
بدليل أنهم حينما سألوا الإمام علياً رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وكرّم الله وجهه عن أقوى الأجناس في الكون، وقد علموا عن الإمام عليّ سرعة البديهة والتمرُّس في الفُتْيَا، فأرادوا اختباره بهذا السؤال الذي
دخل عليهم الإمام علي وهم مختلفون في هذه المسألة، منهم من يقول: الحديد أقوى. ومنهم من يقول: بل الحجارة. وآخر يقول: بل الماء، فأفتاهم الإمام في هذه القضية، وانظر إلى دِقّة الإفتاء واستيعاب العلم، فلم يَقُل: أقوى جنود الله كذا وكذا ثم يكمل كما اتفق له ويذكر ما يخطر بباله، لا بل حصرها أولاً، فقال: أشد جنود الله عشرة.
فالمسألة ليست ارتجالية، بل مسألة مدروسة لديه مُسْتَحضرة في ذِهْنه، مُرتَّبة في تفكيره، فبسط الإمام لمستمعيه يده وفَردَ أصابعه، وأخذ يعدّ هذه العشرة، وكأنه المعلم الذي استحضر درسه وأعدَّه جيداً.
قال: «أشد جنود الله عشرة، الجبال الرواسي، والحديد يقطع الجبال، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض يحمل الماء، والريح يقطع السحاب، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو بالشيء ويمضي لحاجته، والسكر يغلب ابن آدم، والنوم يغلب السكر، والهم يغلب النوم، فأشد جنود الله في الكون الهم».
فهذه الأجناس هي المراد بقوله تعالى: ﴿أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ..﴾ [الإسراء: ٥١] فاختاروا أيّاً من هذه الأجناس، فالله تعالى قادر على إعادتكم وبعثتكم كما كنتم أحياء.
ثم يقول تعالى: ﴿فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ..﴾ [الإسراء: ٥١]
نعم، هم مؤمنون بهذه الحقيقة رغم كُفْرهم، بدليل قولهم: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: ٨٧] فهم مقتنعون بذلك، ولكنهم نقلوا الجدل إلى قضية أخرى فقالوا: مَنْ يُعيدنا؟ فإنْ قلت لهم: الذي فطركم أول مرة. ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ..﴾ [الإسراء: ٥١]
معنى يُنغِض رأسه: يهزُّها من أعلى لأسفل، ومن أسفل لأعلى استهزاءً وسخريةً مما تقول، والمتأمل في قوله ﴿فَسَيُنْغِضُونَ﴾ يجده فِعْلاً سيحدث في المستقبل ويقع من مُختارٍ، والمقام مقام جَدلٍ بين الكفار وبين رسول الله، وهذه الآية يتلوها رسول الله على أسماعهم ويخبر أنه إذا قال لهم: ﴿الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ..﴾ [الإسراء: ٥١] فسينغضون رؤوسهم.
فكان في وُسْع هؤلاء أنْ يُكذِّبوا هذا القول، فلا يُنغِضون رؤوسهم لرسول الله ويمكرون به في هذه المسألة، ولهم بعد ذلك أنْ يعترضوا على هذا القول ويتهموه، ولكن الحق سبحانه غالبٌ على أمره، فهاهي الآية تُتْلىَ عليهم وتحْتَ سَمْعهم وأبصارهم، ومع ذلك لم يقولوا، مما يدلُّ على غباء الكفار وحُمْق تفكيرهم.
وما أشبه هذا الموقف منهم بموقفهم من حادث تحويل القبلة
ثم أخبره بما سيحدث من الكفار، فقال: ﴿سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾ [البقرة: ١٤٢]
وهذا قَوْلٌ اختياريّ في المستقبل، وكان بإمكانهم إذا سمعوا هذه الآية أَلاّّ يقولوا هذا القول ويجدوا بذلك مِأْخَذاً على القرآن، ولكنهم مع هذا قالوا ما حكاه القرآن؛ لأن الحق سبحانه يعلم أنهم سيقولون لا محالة: ﴿وَيَقُولُونَ متى هُوَ..﴾ [الإسراء: ٥١]
والاستفهام هنا كسابقه للإنكار والتعجُّب الدالّ على استبعاد البعث بعد الموت، ولاحظ هنا أن السؤال عن الزمن، فقد نقلوا الجدل من إمكانية الحدث على ميعاد الحدث، وهذا تراجعٌ منهم في النقاش، فقد كانوا يقولون: مَنْ يُعيدنا؟ والآن يقولون: متى؟ فيأتي الجواب: ﴿عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً﴾ [الإسراء: ٥١]
عسى: كلمة تفيد الرجاء، والرجاء أمر مُتوقّع يختلف باختلاف الراجي والمرجو منه، فإذا قُلْت مثلاً: عسى فلاناً أنْ يعطيك كذا، فالرجاء هنا بعيد شيئاً ما؛ لأنه رجاء من غيري لك، أما لو قلْت: عسى أنْ أُعطيك كذا، فهي أقرب في
لكن إذا قُلْتَ: عسى الله أن يعطيك فلا شكَّ أنها أقربُ في الرجاء؛ لأنك رجوت الله تعالى الذي لا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء. وإنْ كان القائل هو الحق سبحانه وتعالى، فالرجاء منه سبحانه مُحقَّق وواقع لا شكَّ فيه؛ فالرجاء من الغير للغير رتبة، ومن الإنسان لغيره رتبة، ومن الله تعالى للغير رتبة.
وقد شرح لنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مسألة القرب فقال: «بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسَّبابة والوسطى؛ لأنه ليس بعده رسول، فهو والقيامة متجاوران لا فاصلَ بينهما، كما أننا نقول: كُلُّ آتٍ قريب، فالأمر الآتي مستقبلاً قريب؛ لأنه قادم لا محالةَ.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾.
فإذا جاء اليوم الآخر انحلَّتْ الإرادة عن الجوارح، ولم يَعُدْ لها
لقد كانت لكم وَلاَية علينا في دُنْيا الأسباب، أما الآن فنحن جميعاً مرتبطون بالمسبِّب سبحانه، فلا ولاية لكم علينا الآن؛ لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عن يوم القيامة: ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦]
ففي الدنيا ملَّك الناس، وجعل مصالح أُناسٍ في أيدي آخرين، أما في الآخرة، فالأمر كله والملْك كله لله وحده لا شريك له.
فقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ..﴾ [الإسراء: ٥٢] أي: يقول لكم اخرجوا من القبور للبعث بالنفخة الثانية في الصُّور ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ..﴾ [الإسراء: ٥٢] أي: تقومون في طاعة واستكانة، لا قوْمةَ مُسْتنكف أو مُتقاعس أو مُتغطرس، فكلّ هذا انتهى وقته في الدنيا، ونحن الآن في الآخرة.
ونلاحظ أن الحق سبحانه قال: ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ..﴾ [الإسراء: ٥٢] ولم يقل: فتُجيبون؛ لأن استجاب أبلغُ في الطاعة والانصياع، كما نقول: فهم واستفهم أي: طلب الفَهْم، وكذلك ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ﴾ أي: تطلبون أنتم الجواب، وتُلحُّون عليه لا تتقاعسون فيه، ولا تتأبَّوْن عليه، فتُسرعون في القيام.
ليس هذا وفقط، بل: ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ..﴾ [الإسراء: ٥٢] أي: تُسرعون في القيام حامدين الله شاكرين له، ولكن كيف والحمد لا يكون إلا على شيء محبوب؟
إذن: فبيانُ الحق سبحانه لأمور الآخرة من النِّعَم التي لا يعترف بها الكفار في الدنيا، ولكنهم سيعترفون بها في الآخرة، ويعرفون أنها من أعظم نِعَم الله عليهم، ولكن بعد فوات الأوان.
لذلك اعترض المستشرقون على قوله تعالى في سورة (الرحمن) :﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ٣٤] بعد قوله تعالى: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ﴾ [الرحمن: ٣٤] فالآية في نظرهم تتحدث عن نِقْمة وعذاب، فكيف يناسبها:
﴿فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ٣٥]
والمتأمّل في الآية يجدها منسجمة كل الانسجام؛ لأن من النعمة أن نُنبِّهك بالعِظَة للأمر الذي ينتظرك والعذاب الذي أُعِدَّ لك حتى لا تقعَ في أسبابه، فالذي يعلم حقيقة العذاب على الفِعْل لا يقترفه.
ثم يقول تعالى: ﴿وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٥٢]
الظن: خبر راجح؛ لأنهم مذبذبون في قضية البعث لا يقين عندهم بها.
ولذلك كل مَنْ سُئِل في هذه المسألة: كم لبثتم؟ قالوا: يوماً أو بعض يوم، فهذا هو المعتاد المتعارف عليه بين الناس، ذلك لأن الشعور بالزمن فرع مراقبة الأحداث، والنوم والموت لا أحداثَ فيها، فكيف إذن سنراقب الأحداث والملَكة الواعية مفقودة؟
وقد قال تعالى في آية أخرى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ [النازعات: ٤٦]
وقال: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين﴾ [المؤمنون: ١١٢ - ١١٣]
أي: لم يكُنْ لدينا وَعْيٌ لنعُدّ الأيام، فاسأل العَادّين الذين يستطيعون العدَّ.
وفي قصة العزيز الذي أماته الله مائة عام، ثم بعثه: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ..﴾ [البقرة: ٢٥٩] على مُقْتضى العادة التي أَلفَها في نومه، فيُوضِّح له ربه: ﴿بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ﴾ [البقرة: ٢٥٩]
فالمدّة في نظر العزيز كانت يوماً أو بعض يوم، والحق سبحانه أخبر أنها مائة عام، فالبَوْنُ شاسع بينهما، ومع ذلك فالقوْلاَن
وكأن الخالق سبحانه قبض الزمن وبَسَطه في وقت واحد، وهو سبحانه القابض الباسط، إذن: قَوْلُ الحق سبحانه مائة عام صِدْق، وقول العُزَيز ﴿يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ صِدْق أيضاً، ولا يجمع الضِّدَّيْن إلا خالق الأضداد سبحانه وتعالى.
وبعد أن تكلم القرآن عن موقف الكفار من الألوهية، وموقفهم من النبوة وتكذيبهم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم عن موقفهم من منهج الله وكفرهم بالبعث والقيامة، أراد سبحانه أنْ يُعطينا الدروس التي تُربِّب منهج الله في الأرض، فقال تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾.
وهذا الفَرْق قائم بينهما في الدنيا دون الآخرة، حيث في الآخرة تنحلّ صفة الاختيار التي بنينا عليها التفرقة، وبذلك يتساوى الجميع في الآخرة، فكلهم عبيد وعباد؛ لذلك قال تعالى في الآخرة للشيطان: ﴿أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل﴾ [الفرقان: ١٧]
فسمَّاهم عباداً رغم ضلالهم وكفرهم.
وقوله تعالى: ﴿يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٥٣]
أي: العبارة التي هي أحسن، وكذلك الفِعْل الذي هو أحسن. والمعنى: قُلْ لعبادي: قولوا التي هي أحسن يقولوا التي هي أحسن؛ لأنهم مُؤتمرون بأمك مُصدِّقون لكَ.
و ﴿التي هِيَ أَحْسَنُ﴾ تعني: الأحسن الأعلى الذي تتشقَّق منه كُل أَحْسَنيات الحياة، والأحسن هو الإيمان بالله بشهادة أن لا إله إلا الله، هذه أحسن الأشياء وأولها، لذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «خَيْرُ ما قُلْتُه أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله» «.
لأن من باطنها ينبتُ كل حسن، فهي الأحسن والكبيرة؛ لأنك ما دُمْتَ تؤمن بالله فلن تتلقّى إلا عنه، ولن تخاف إلا منه، ولن ترجوَ إلا هو، وهكذا يحسُن أمرك كلُّه في الدنيا والآخرة.
ويمكن أن نقول ﴿التي هِيَ أَحْسَنُ﴾ الأحسن هو: كل كلمة خير، أو الأحسن هو: الجدل بالتي هي أحسن، كما قال تعالى: ﴿وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥]
أو نقول: الأحسن يعني التمييز بين الأقوال المتناقضة وفَرْزها أمام العقل، ثم نختار الأحسن منها، فنقول به.
فالأحسن إذن تَشيُع لتشمل كُلَّ حَسَن في أيِّ مجال من مجالات الأقوال أو الأفعال، ولنأخذ مثلاً مجال الجدل، وخاصة إذا كان في سبيل إعلاء كلمة الله، فلا شكّ أن المعارض كَارِهٌ لمبدئك العام، فإنْ قَسَوْتَ عليه وأغلظْتَ له القول أو اخترتَ العبارة السيئة فسوف ينتقل الخلاف بينكما من خلاف في مبدأ عام على عَدَاء شخصي.
وإذا تحوَّلَتْ هذه المسألة إلى قضية شخصية فقد أججَّتَ أُوَار غضبه؛ لأنه في حاجة لأنْ تَرْفُقَ به، فلا تجمع عليه مرارة أنْ تُخرِجه مما أَلِف إلى ما يكره، بل حاول أنْ تُخرِجه مما أَلِف إلى ما يحب لتطفئ شراسته لعداوتك العامة، وتُقرِّب من الهُوّة بينك وبينه فيقبل منك ما تقول.
يقول تعالى: {وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ
وقد يطلُع علينا مَنْ يقول: لقد دفعتُ بالتي هي أحسن، ومع ذلك لا يزال عدوي قائماً على عداوتي، ولم أكسب محبته. نقول له: أنت ظننتَ أنك دفعتَ بالتي هي أحسن، ولكن الواقع غير ذلك، إنك تحاول أنْ تُجرِّب مع الله، والتجربة مع الله شَكٌّ، فادفع بالتي هي أحسن من غير تجربة، وسوف يتحول العدو أمامك إلى صديق.
وما أروعَ قول الشاعر:
فإِنْ يَكن الفِعْلُ الذي سَاءَ وَاحِداً | فأَفْعالُه الَّلائِي سُرِرْنَ أُلُوفُ |
يَا مَنْ تُضَايِقُه الفِعَالُ مِنَ التيِ ومِنَ الذِي | ادْفَع فَدَيْتُك بالتِي حتَّى تَرَى فَإذَا الذِي |
لأن الشيطان ينزغ بينكم: ﴿إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ..﴾ [الإسراء: ٥٣] والنزْغ هو نَخْس الشيطان ووسوسته، وقد قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله﴾ [الأعراف: ٢٠٠]
فإن كنْت مُنتبِهاً له، عارفاً بحيله فذكرتَ الله عند نَخْسه ونَزْعه انصرف عنك، وذهب إلى غيرك؛ لذلك يقول تعالى عن الشيطان: ﴿مِن شَرِّ الوسواس الخناس﴾ [الناس: ٤] أي: الذي يخنس ويختفي إذا ذُكِرَ الله، لكن إذا رأى منك ضعفاً وغفلة ومرَّتْ عليك حِيَلُة،
وعادةً تأتي خواطر الشيطان وكأنها مِجَسٌّ للمؤمن واختبار لانتباهه وحَذَّره من هذا العدو، فينزغه الشيطان مرَّة بعد أخرى لِيُجرّبه ويختبره. فإذا كان النزغ هكذا، فأنت حين تجادل بالتي هي أحسن لا تعطي للشيطان فُرْصة لأنْ يُؤجِّج العداوة الشخصية بينكما، فيُزيّن لك شَتْمه أو لَعْنه، وهكذا يتحول الخلاف في المبدأ العام إلى عداوة ذاتية شخصية.
لذلك إذا رأيتَ شخصين يتنازعان لا صِلَة لك بهما، ولكن ضايقك هذا النزاع، فما عليك إلا أنْ تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثاً، وأتحدّى أن يستمر النزاع بعدها، إنها الماء البارد الذي يُطفئ نار الغضب، ويطرد الشيطان فتهدأ النفوس، وما أشبهك في هذا الموقف برجل الإطفاء الذي يسارع إلى إخماد الحريق، وخصوصاً إذا قلت هذه العبارة بنية صادقة في الإصلاح، وليس لك مأرَبٌ من هذا التدخّل.
والحق سبحانه يقول: ﴿إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ..﴾ [الإسراء: ٥٣]
تلاحظ أن نَزْغ الشيطان لا يقتصر على المتخاصمين والمتجادلين حول مبدأ ديني عقدي، بل ينزغ بين الإخوة والأهل والأحبة، ألم يَقُل يوسف: ﴿مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي﴾ [يوسف: ١٠٠]
لقد دخل الشيطان بين أولاد النبوة، وزرع الخلاف حتى بين الأسباط وفيهم رائحة النبوة، ولذلك لم يتصاعد فيهم الشر، وهذا دليل على خَيْريتهم، وأنت تستطيع أنْ تُميِّّز بين الخيِّر والشرير، فتجد الخيِّر يهدد بلسانه بأعنف الأشياء، ثم يتضاءل إلى أهون
انظر إلى قوْل إخوة يوسف: ﴿اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً﴾ [يوسف: ٩] فقال الآخر وكان أميل إلى الرفق به: ﴿وَأَلْقُوهُ فِي غيابت الجب﴾ [يوسف: ١٠] وقد اقترح هذا الاقتراح وفي نيته النجاة لأخيه، بدليل قوله تعالى: ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة﴾ [يوسف: ١٠]
وهكذا تضاءل الشر في نفوسهم.
ثم يقول تعالى: ﴿إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً﴾ [الإسراء: ٥٣]
أي: أن عداوة الشيطان لكم قديمة منذ أبيكم آدم عليه السلام فهي عداوة مسبقة، قال عنها الحق سبحانه: ﴿إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى﴾ [طه: ١١٧]
لذلك يجب على الأب كما يُعلِّم ابنه علوم الحياة ووسائلها أنْ يُعلّمه قصة العداوة الأولى بين الشيطان وآدم عليه السلام ويُعلمه أن خواطر الخير من الله وخواطر الشر من الشيطان، فليكُنْ على حَذَر من خواطره ووساوسه، وبذلك يُربِّي في ابنه مناعة إيمانية، فيحذر كيد الشيطان ونَزْغه، ويعلم أن كل أمر يخالف أوامر الشرع فهو من الشيطان، وهذه التربية من الآباء تحتاج إلى إلحاح بها على الأبناء حتى ترسخ في أذهانهم.
فقوله تعالى: ﴿إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً﴾ [الإسراء: ٥٣] أي: كان ولا يزال. وإلى يوم القيامة بدليل قوله: ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٦٢]
أي: لأتعهّدنّهم بالإضلال والغواية إلى يوم القيامة.
والحق تبارك وتعالى لا يُيئس العُصَاة من فضله، ولا يملي لهم بعدله، بل يجعلهم بين هذه وهذه ليكونوا دائماً بين الخوف والرجاء.
وحينما كان المسلمون الأوَّلون يتعرضون لشتى ألوان الإهانة والتعذيب ولا يجدون مَنْ يمنعهم من هذا التعذيب، فكانوا يذهبون إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يشكون إليه ما ينزل بهم، فرسول الله ينظر في أنحاء العالم من حوله بحثاً عن المكان المناسب الذي يلجأ إليه هؤلاء المضطهدون، ويأمرهم بالهجرة إلى الحبشة ويقول: «إن فيها ملكاً لا يُظْلَم عنده أحدٌ».
لأن الله تعالى أراد أَلاَّ يبقي للإيمان جندي إلا وقد مَسَّه العذاب، وذاق ألوان الاضطهاد ليربي فيهم الصبر على الأذى وتحمُّل الشدائد؛ لأنهم سيحملون رسالة الانسياح بمنهج الله في الأرض، ولا شكَّ أن القيام بمنهج الله يحتاج إلى صلابة وإلى قوة، فلا بُدَّ من تمحيص المؤمنين، لذلك حدث للإسلام في عصر النبوة أحداث وشدائد، ومرَّت به عقبات مثل تعذيب المؤمنين وإيذائهم وحادث الإسراء والمعراج.
وكانت الحكمة من هذه الأحداث تمحيص المؤمنين وغربلة المنتسبين لدين الله، حتى لا يبقى إلا القوي المأمون على حَمْل منهج الله، والانسياح به في شتَّى بقاع الأرض، وحتى لا يبقى في صفوف المؤمنين مَنْ يحمل راية الإيمان لمغنَم دنيوي، فالغنيمة في الإسلام ليست في الدنيا بل في جنة عَرْضُها السماوات والأرض.
لذلك، ففي بيعة العقبة الثانية قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك. «قال: أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ فماذا قال لهم رسول الله؟ أقال لهم تملكون الدنيا؟
فهذه هي الجائزة الحقيقية التي ينبغي أن يفوز بها المؤمن؛ لأنه من الجائز أن يموت أحدهم بعد أن أعطى رسول الله هذا العهد ولم يدرك شيئاً من خير الدنيا في ظل الإسلام، إذن: فالنبي صادق في هذا الوعد. وما دام الجزاء هو الجنة فلا بُدَّ لها من جنود أقوياء يصبرون على الأحداث، ويُواجهون الفتن والمكائد.
فالمعنى: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ﴾ [الإسراء: ٥٤] بالخروج من مكة مهاجرين إلى ديار الأمن في الحبشة ﴿أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ..﴾ [الإسراء: ٥٤] أي: عذاباً مقصوداً لكي يُمحِّص إيمانكم ويُميِّز المؤمنين منكم الجديرين بحمل رسالة الله ومنهجه.
ثم يقول تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾ [الإسراء: ٥٤]
الوكيل: هو المفوَّض من صاحب الشأن بفعل شيء ما، والمراد: ما أرسلناك إلا للبلاغ، ولستَ مسئولاً بعد ذلك عن إيمانهم، ولستَ وكيلاً عليهم؛ لأن الهداية والتوفيق للإيمان بيد الحق سبحانه وتعالى.
إذن: قول الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾ [الإسراء: ٥٤]
ليست قهراً لرسول الله، وليست إنقاصاً من قَدْره، بل هي رحمة به ورأفة، كأنه يقول له: لا تُحمِّل نفسك يا محمد فوق طاقتها، كما خاطبه في آية أخرى بقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ
ومثال لهذا قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى﴾ [عبس: ١ - ٣] الله تعالى يعتب على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه ترك الرجل الذي جاءه سائلاً عن الدين، وشَقَّ على نفسه بالذهاب إلى جدال هؤلاء الصناديد، وكأن الحق سبحانه يشفق على رسوله أن يشقَّ على نفسه، فالعتاب هنا حِرْصاً على رسول الله وعلى راحته.
وكذلك في قوله تعالى: ﴿ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [التحريم: ١]
والتحريم تضييق على النفس، فالحق سبحانه يعتب على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه ضيَّق على نفسه، وحرَّم عليها ما أحلَّه الله لها. كما تعتب على ولدك الذي سَهِر طويلاً في المذاكرة حتى أرهقَ نفسه، فالعتاب لصالح الرسول لا ضده.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض... ﴾.
والمعنى أن الحق سبحانه وتعالى لا يقتصر علمه عليك يا محمد وعلى أمتك، وقد سُبِقت الآية بقوله تعالى: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ..﴾ [الإسراء: ٥٤] ولكن علمه سبحانه يسَع السماوات والأرض عِلْماً مُطْلقاً لا يغيب عنه مثقال ذرة، وبمقتضى هذا العلم يُقسِّم الله الأرزاق ويُوزِّع المواهب بين العباد، كُلّ على حسب حاله، وعلى قَدْر ما يُصلحه.
فإنْ رأيتَ شخصاً ضيَّق الله عليه فاعلم أنه لا يستحق غير هذا، ولا يُصلحه إلا ما قَسَمه الله له؛ لأن الجميع عبيد لله مربوبون له، ليس بين أحد منهم وبين الله عداوة، وليس بين أحد منهم وبين الله نسب.
فالجميع عنده سواء، يعطي كُلاً على قَدْر استعداده عطاءَ ربوبية، لا يحرم منه حتى الكافر الذي ضاق صدره بالإيمان، وتمكّن النفاق من قلبه حتى عشق الكفر وأحب النفاق، فالله تعالى لا يحرمه مِمّا أحبّ ويزيده منه.
إذن: لعلمه سبحانه بمَنْ في السماوات والأرض يعطي عباده على قَدْر مَا يستحقّون في الأمور القَهْرية التي لا اختيارَ لهم فيها، فهُمْ فيها سواء. أما الأمور الاختيارية فقد تركها الخالق سبحانه لاجتهاد العبد وأَخْذ بالأسباب، فالأسباب موجودة، والمادة موجودة، والجوارح موجودة، والعقل موجود، والطاقة موجودة. إذن: على كل إنسان أن يستخدم هذه المعطيات ليرتقي بحياته على قَدْر استطاعته.
مَن الذي فضَّل؟ الله سبحانه وتعالى هو الذي يُفضّل بعض النبيين على بعض، وليس لنا نحن أن نُفضّل إلا مَنْ فضَّله الله؛ لأنه سبحانه هو الذي يملك أن يُجازي على حَسْب الفضل، أما نحن فلا نملك أنْ نجازي على قَدْر الفضل.
لذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى».
لأن الذي يُفضِّل هو الله تعالى، وقد نُصّ على هذا التفضيل في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس﴾ [البقرة: ٢٥٣]
فالتفضيل على حسب ما يعلمه الله تعالى من أن أُولى العزم من الرسل قد فّضَّلهم عن غيرهم لِمَا تحمّلوه من مشقة في دعوة أقوامهم، ولما قاموا به من حمل منهج الله والانسياح به، أو من طول مُدّتهم من قومهم.. الخ فهو وحده يعلم أسباب التفضيل.
ثم يقول تعالى: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾ [الإسراء: ٥٥]
وفي الحديث الشريف يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لقد خُيِّرْتُ بين أن أكون عبداً نبياً أو نبياً ملكاً، فاخترت أن أكون عبداً نبياً».
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً﴾.
لأن الإنسان لا يتمرد ولا يطغى إلا إذا كان مُسْتغنياً بكل ملكاته، بمعنى أن تكون ملكاته كلها على هيئة الاستقامة والانسجام، فإذا
لذلك يقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ..﴾ [الإسراء: ٦٧]
وقال: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ..﴾ [الزمر: ٨]
لماذا؟ لأن ما أصابه من ضُرٍّ أضعفه، وكسر عنده غريزة الاستعلاء والاستكبار، لقد كفر بالله من قبل حينما حمله التكاليف، ولكن الآن وبعد أن نزل به الضُّر وأحاط به البلاء فلا بُدَّ أن يكون صريحاً مع نفسه لا يخدعها.
وضربنا لهذه المسألة مثلاً بحلاق الصحة عند أهل الريف في الماضي وكان مسئولاً عن صِحَّة الناس، ويقوم مقام الطبيب في هذا الوقت، فإذا ما عُيِّن بالقرية طبيب هاجمه الحلاق وأفسد ما بينه وبين الناس، وأشاع عنه عدم العلم وقِلَّة الخبرة ليخلوَ له وجه الناس، ولا يشاركه أحد في رزقه، ومرَّت الأيام وأصيب الحلاق بضُرٍّ، حيث مرض ولد له، فإذا به يحمله خُفْيةً بليْل، ويتسلل به إلى الطبيب، ولكن سرعان ما ينكشف أمره ويُفتضح بين الناس.
إذن: الإنسان في ساعة الضر لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، فقل لهم: إذا مسكم الضر فاذهبوا إلى مَن ادعيتم أنهم آلهة وأدعوهم، فإنهم لن يستجيبوا ولن يدعوهم، ولو دَعَوْهم فلن يكشفوا عنهم ضرهم: ﴿فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ..﴾ [الإسراء: ٥٦]
فالحق سبحانه يُلقِّن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الحجة، ليوضح لهم أنهم يغالطون أنفسهم، ويعارضون مواجيدهم وفطرتهم، فإن أصابهم الضر في ذواتهم لا يلجأون إلى آلهتهم؛ لأنهم يعلمون أنها لا تملك لهم نفعاً ولا ضراً، ولن تسمعهم، وإن سمعتهم فرضاً ما استجابوا لهم، ويوم القيامة يكفرون بشركهم، بل يلجأون إلى الله الذي يملك وحده كَشْف الضُّر عنهم.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة... ﴾.
وقوله تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة..﴾ [الإسراء: ٥٧] أي: يطلبون الغاية والقربى إليه تعالى ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ أي: كلما تقر ّب واحد منهم إلى الله ابتغى اللهَ أكثرَ من غيره وأقبل عليه، فإذا كان الأقرب إلى الله منهم يبتغي القُرْبى، فما بال الأبعد؟
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً﴾ [الإسراء: ٥٧]
أي: يجب الحذر منه وتجنُّب أسبابه؛ لأن العذاب إذا كان من الله فلا فِكاكَ منه ولا مهرب، وأيضاً فالعذاب يتناسب مع قدرة المعذِّب ضعفاً وشدة، فإذا نُسِب العذاب إلى الله فلا شكَّ أنه أليم شديد، لا طاقة لأحد به، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: ١٠٢]
والحق سبحانه قد أوضح لنا مسألة الوحدانية في آيات كثيرة، ولم يطلب منا الاعتراف بها إلا بعد أنْ شهد بها لنفسه سبحانه، وبعد أن شهد بها الملائكة وأولو العلم، قال تعالى: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم﴾ [آل عمران: ١٨]
فشهد الله سبحانه شهادة الذات للذات، وشهدتْ الملائكة شهادة المشهد والمعاينة، وشهد أولو العلم شهادة الاستدلال، فهذه شهادات ثلاث قبل أنْ يطلب مِنّا الشهادة.
وبهذه الشهادة أقبل الحق سبحانه على مزاولة سلطانه وقدرته في الكون، وما دام ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ يقول للشيء: كُنْ فيكون، قالها لأنه يعلم أنه لا إله إلا هو، وبها يحكم على الأشياء ويُغيِّر من وضع
إذن: فهذه الدَّعْوى قد سلمتْ للحق سبحانه لأنه لم يدَّعها أحد لنفسه، فهي للحق تبارك وتعالى حتى يقوم مَنْ يدعيها لنفسه.
قال تعالى: ﴿قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٤٢]
أي: لو كان للكون إله آخر لطلبوا هذا الإله الذي استقرتْ له الأمور واستتبّ له الحال، ليُجادلوه في هذه المسألة، أو لطلبوه ليتقربوا إليه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً... ﴾.
نقول: لا، لأن هذا حكم مطلق والإطلاقات في القرآن تُقيّدها قرآنيات أخرى، وسوف نجد مع هذه الآية قول الحق سبحانه: ﴿ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ [الأنعام: ١٣١]
فهذه آيات مُخصِّصة تُوضِّح الاستثناء من القاعدة السابقة، وتُقيِّد المبدأ السابق والسور العام الذي جاءت به الآية، فيكون المعنى إذن وإنْ من قرية غير غافلة وغير مُصلِحة إلا والله مُهلكها أو مُعذِّبها.
وقوله: ﴿وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا﴾ [الإسراء: ٥٨]
﴿مُهْلِكُوهَا﴾ أي: بعذاب الاستئصال الذي لا يُبقِى منهم أحداً.
﴿مُعَذِّبُوهَا﴾ أي: عذاباً دون استئصال.
لأن التعذيب مرحلة أولى، فإنْ أتى بالنتيجة المطلوبة وأعاد الناس إلى الصواب فبها ونِعْمتْ وتنتهي المسألة، فإنْ لم يقتنعوا وأصرُّوا ولم يرتدعوا وعاندوا يأتي الإهلاك، وهذا واضح في قول الحق سبحانه: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: ١١٢]
والواقع أن في حاضرنا شواهدَ عدة على هذه المسألة، فلا بُدَّ لأيِّ قرية طغتْ وبغَتْ أن ينالها شيء من العذاب، والأمثلة أمامنا واضحة، ولا داعيَ لذكرها حتى لا ننكأ جراحنا.
وطبيعي أن يأتي العذاب قبل الإهلاك؛ لأن العذاب إيلام حيّ
وباستقراء تاريخ الأمم السابقة نلاحظ ما حاق بهم من سُنّة إهلاك الظالمين، فقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط نزل بهم عذاب الله الذي لا يُرَدُّ عن القوم الكافرين، ولكنه كان عذاب استئصال؛ لأن الأنبياء في هذا الوقت لم يكونوا مُطَالَبين بحمل السلاح لنشر دعوتهم، فكان عليهم البلاغ، والحق سبحانه وتعالى هو الذي يتولّى تأديب المخالفين. إلا إذا طلب أتباع النبي الجهاد معه لنشر دعوته، كما حدث من أتباع موسى عليه السلام: ﴿إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٦]
وهكذا طلب بنو إسرائيل القتال وحَمْل السلاح، ولكن حذّرهم نبيهم، وخشي أنْ يفرضَ عليهم ثم يتقاعسوا عنه، وهذا ما حدث فعلاً ولم يَبْق معه إلا قليل منهم، وهذا القليل سرعان ما تراجع هو أيضاً واحداً بعد الآخر.
إذن: الهِمَّة الإنسانية في هذا الوقت لم يكُنْ عندها استعداد ونضج لأنْ تحملَ سلاحاً في سبيل الله، فكان على الرسول أنْ يُبلِّغ، وعلى السماء أنْ تُؤدِّب بهذا اللون من العذاب الذي يستأصلهم فلا يُبقى منهم أحداً.
وهذه هي كرامات الله تعالى لرسوله، فلم يأخذ قومه بعذاب الاستئصال، لماذا؟ لأن رسولهم آخر الرسل وخاتم الأنبياء، وسوف يُنَاطُ بهم حَملُ رسالته ونَشْر دعوته، والانسياح بمنهج الله في شتى بقاع الأرض.
ذلك لأن الحق سبحانه وتعالى حينما يرسل منهجه إلى الأرض يُقدِّر غفلة الناس عن المنهج، ويُقدِّر فكرة التأسِّي بالجيل السابق، فهذان مُعوِّقان في طريق منهج الله، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢ - ١٧٣]
فأوضح لنا الحق سبحانه أن الإنسان يتخبّط أو ينحرف عن المنهج، إما بسبب تقليد أعمى لأُسْوة سيئة، فأول مَنْ تلقى عن الله آدم، ثم بلّغ ذريته منهج الله، وبمرور الأجيال حدثتْ الغفلة عن بعض المنهج نتيجة ما رُكِّب في الإنسان من حُبٍّ للشهوات، وهذه الشهوات هي التي تصرفه عن منهج ربه، فإنْ حدثت غفلة في جيل فإنها سوف تزداد في الجيل التالي، وهكذا؛ لأن الجيل سيقع تحت مُؤثِّرين: الغفلة الذاتية فيه، والتأسي بالجيل السابق.
إذن: بتوالي الأجيال وازدياد الغفلة عن المنهج لا بُدَّ أن الحق سبحانه سيبعث في مواكب الرسل مَنْ يُنبّه الناس.
وفي الحديث الشريف «نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، ثم أدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها، فَرُبَّ مُبلَّغ أَوْعَى من سامع».
وهكذا تظل في الأمة هذه الخيرية وتحمل دعوة رسولها حيث لا رسول من بعده إلى يوم القيامة، ولأهمية هذا الدور الذي يقوم به المسلمون في كل زمان ومكان يُنبِّهنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى مسألة هامة في مجال حَمْل الدعوة ونَشْرها، فيقول:
«إن كل واحد منكم يقف على ثغرة من ثغرات هذا الدين، فإياكم أن يؤتى الدين من ثغرة أحدكم» أو كما قال.
فليعلم كل مسلم أنه محسوب للدين أو عليه، فالعيون تتطلع إليه وتَرْصُد تصرفاته في مجتمعه، فهو صورة للدين وسفير له، وعليه أن يراعي هذه المسئولية ويقوم بها على أكمل وجه ليكون أداة جَذْب، وليكون وجهاً مشرقاً لتعاليم هذا الدين.
ويحلو للبعض أن يأخذوا الإسلام بجريرة أهله، ويحكموا عليه بناءً على تصرفات المنتسبين إليه، وهذا خطأ، فَمنْ أراد الصورة الحقيقية للإسلام فليأخذْها من منابع الدين في كتاب الله وسنة رسوله، فإنْ رأيتَ بين المنتسبين للإسلام سارقاً فلا تقُلْ: هذا هو الإسلام؛ لأن الإسلام حرَّم السرقة، وجعل لها عقوبة وحَدّاً يُقَام على السارق، وليس لأحد أن يكون حجة على دين الله.
لذلك فإن كبار العلماء والمفكرين الذين درسوا في الدين الإسلامي لم ينظروا إلى تصرُّفات المسلمين وحاضرهم، بل أخذوه من منابعه الأصلية. ومنهم «جينو» الفرنسي الذي قال: الحمد لله الذي هداني للإسلام قبل أن أعرف المسلمين. لأنه في الحقيقة لو اطلع على أحوالنا الآن لَكَان في المسألة كلام آخر.
إذن: الذين نظروا إلى قضايا الإسلام نظرة عَدْل وإنصاف لا بُدَّ أن يهتدوا إلى الإسلام، لكن منهم مَنْ نظر إليه نظرة عَدْل وإنصاف إلا أنهم أبعدوا قضية التديّن من قلوبهم، وإن اقتنعتْ بها عقولهم، وفَرْق كبير بين القضية العقلية والقضية القلبية.
ومن هؤلاء الكاتب الذي ألَّفَ كتاباً عن العظماء في التاريخ وأسماه: «العظماء مائة أعظمهم محمد بن عبد الله» وهو كاتب غير
ألم تسأل نفسك أيها المؤلف: من أين أتى محمد بهذه الأوليّة؟ ولماذا استحق أن يكون في المقدمة؟ لقد ذكرتَ حيثيات النبوغ في جميع شخصياتك، من تربية ودراسة في جامعات وعلى أساتذة وإطلاع وأبحاث، فلماذا لم تذكر حيثيات النبوغ في رسول الله؟ ألم تعلم أنه أُميّ في أمة أُميّة؟ مما يدل على أن هذا الباحث تناول هذه القضية بعقله لا بقلبه.
نعود إلى مسألة الإهلاك والعذاب؛ لأنها أثارتْ خلافاً بين رجال القانون في موضوع إقامة حَدِّ الرجْم على الزاني المحصن والجَلْد للزاني غير المحصن، فقد رأى جماعة منهم أن الجلد ثابت بالقرآن، أما الرجم فثابت بالسنة، لذلك قال بعضهم بأن رجم الزاني المحصَن سنة.
وهذا قول خاطئ وبعيد عن الصواب، لأن هناك فرقاً بين سُنية الدليل وسُنية الحكم، فسُنية الدليل أن يكون الأمر فَرْضاً، لكن دليله من السنة كهذه المسألة التي معنا. وكصلاة المغرب مثلاً ثلاث ركعات وهي فَرْض لكن دليلها من السنة، أما سُنية الحكم فيكون الحكم نفسه سُنة يُثَاب فاعله، ولا يُعَاقب تاركه كالتسبيح ثلاثاً في الركوع مثلاً.
فمَنْ يقول: إن الرجْم لم يَرِدْ به نصٌّ في كتاب الله، تقول: الدليل عليه جاء في السنة، وهي المصدر الثاني للتشريع، حتى على قول مَنْ قال بأن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع، ففي القرآن: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧]
إذن: ففِعْل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كنصِّ القرآن سواء بسواء، وهل رجم في عهد رسول الله أو لم يرجم؟ رجم فعلاً في عهد رسول الله، فإنْ قال قائل: فهذا ليس نصّاً في الرجْم. نقول: بل الفعل أقوى من النص قد تتأول فيه، أما الفعل فهو صريح لا يحتمل تأويلاً.
ودليل آخر على فرضية الرجم، وهو الشاهد في هذه الآية، في قوله تعالى عن إقامة الحد على الأمة: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب..﴾ [النساء: ٢٥]
فيقولون: الرجْم لا يُنصَّف. إذن: ليس هناك رَجْم. نقول: أنتم لم تُفرِّقوا بين الرجم وبين العذاب، فالرجم إماتة، والعذاب إيلام لحيٍّ يشعر ويُحِسُّ بهذا الإيلام، والمقصود به (الجَلْد).
وكذلك نلحظ التدرج من العذاب إلى الإهلاك في قول سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حينما تفقّد الطير، واكتشف غياب الهدهد: ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ..﴾ [النمل: ٢١]
ولسائل أنْ يسأل: هل لا بُدَّ للقرى الظالمة أن ينالها الإهلاك أو العذاب قبل يوم القيامة؟
نعم لا بُدَّ أن يمسَّهم شيء من هذا؛ لأن الله تعالى لو أخَّر كل العذاب لهؤلاء إلى يوم القيامة لاستشرى الظلم وعمَّ الفساد في الكون، وحين يرى الناس الظالم يرتع في الحياة، وينعم بها مع ظلمه لأغراهم ذلك بالظلم، أما إذا رأوه وقد حاق به سوء عمله، ونزلت به النوازل لارتدعوا عن الظلم، ولَعلِموا أن عاقبته وخيمة، ولن يفلت الظالم من عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة. أما لو تأخر عذاب الظالمين إلى الآخرة، فالوَيْل مِمَّنْ لا يؤمنون بها.
لذلك لما مات رَأْسٌ من رؤوس الظلم في الشام، ولم يَرَ الناس أثراً لعذاب أو نقمة، قال أحدهم: إن وراء هذا الدار داراً يُجَازى فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته؛ لأنه يستحيل أنْ يُفلِتَ الظالم من العذاب.
وفي مناقشتي مع الشيوعيين في بروكسل قلت لهم: لقد قسوتُمْ
قلت: إذن كان من الواجب عليكم أنْ تؤمنوا باليوم الآخر، حيث سيعذب فيه هؤلاء، فإنْ أفلتوا من عذاب الدنيا جاءت الآخرة لتُصفّي معهم الحساب، كما يقول تعالى: ﴿وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ..﴾ [الطور: ٤٧] وأريد منكم أنْ تطلعوا على تفسير هذه الآية التي نحن بصددها: ﴿وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً﴾ [الإسراء: ٥٨]
راجعوا تفسيرها في كتاب النسفي، وسوف تجدون به أمثلة تُؤيّد هذه الآية، يقول: قرية كذا سيحدث لها كذا، وقرية كذا سيحدث لها كذا. وقد جاء الواقع على وفق ما قال، إلى أن ذكر مصر وقال عنها كلاماً طويلاً أظن أنه يُمثِّل ما أصاب مصر منذ سنة ١٩٥٢، وكان مما قال عنها: ويدخل مصر رجل من جهينة فويْلٌ لأهلها، وويل لأهل الشام، وويل لأهل أفريقيا، وويل لأهل الرملة، ولا يدخل بيت المقدس. اقرأوا هذا الكلام عند النسفي.
ثم يقول تعالى: ﴿كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً﴾ [الإسراء: ٥٨]
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون... ﴾
وقد تكون الآيات بمعنى المعجزة التي تثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن ربه تعالى، وقد تكون الآيات بمعنى آيات القرآن الكريم، والتي يسمونها حاملة الأحكام.
فالآيات إذن ثلاثة: كونية، ومعجزات، وآيات القرآن. فأيها
الآيات الكونية وهي موجودة لا تحتاج إلى إرسال، الآيات القرآنية وهي موجودة أيضاً، بقي المعجزات وهي موجودة، وقد جاءت معجزة كل نبي على حَسْب نبوغ قومه، فجاءت معجزة موسى من نوع السحر الذي نبغ فيه بنو إسرائيل، وكذلك جاءت معجزة عيسى مما نبغ فيه قومه من الطب.
وجاءت معجزة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الفصاحة والبلاغة والبيان؛ لأن العرب لم يُظِهروا نبوغاً في غير هذا المجال، فتحدّاهم بما يعرفونه ويُجيدونه ليكون ذلك أبلغ في الحجة عليهم.
إذن: فما المقصود بالآيات التي منعها الله عنهم؟
المقصود بها ما طلبوه من معجزات أخرى، جاءت في قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ﴾ [الإسراء: ٩٠ - ٩٣]
والمتأمل في كل هذه الاقتراحات من كفار مكة يجدها بعيدة كل البُعْد عن مجال المعجزة التي يُراد بها في المقام الأول تثبيت الرسول، وبيان صِدْق رسالته وتبليغه عن الله، وهذه لا تكون إلا في أمر نبغ فيه قومه ولهم به إلمام، وهم أمة كلام وفصاحة وبلاغة، وهل لهم إلمام بتفجير الينابيع من الأرض؟ وهل إسقاط السماء
إذن: جلس كفار مكة يقترحون الآيات ويطلبون المعجزات، والحق سبحانه وتعالى يُنزِل من المعجزات ما يشاء، وليس لأحد أن يقترح على الله أن يُجبره على شيء، قال تعالى: ﴿قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ..﴾ [يونس: ١٦]
فالحق تبارك وتعالى قادر أن يُنزل عليهم ما اقترحوه من الآيات، فهو سبحانه لا يُعجِزه شيء، ولا يتعاظمه شيء، ولكن للبشر قبل ذلك سابقة مع المعجزات.
والحق سبحانه يقول: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا.
.﴾ [الإسراء: ٥٩]
مبصرة: أي آية بينة واضحة.
لقد طلب قوم ثمود معجزة بعينها فأجابهم الله وأنزلها لهم، فما كان منهم إلا أن استكبروا عن الإيمان، وكفروا بالآية التي طلبوها،
وهذه السابقة مع ثمود هي التي منعتنا عن إجابة أهل مكة فيما اقترحوه من الآيات، وليس عَجْزاً مِنَّا عن الإتيان بها.
وقوله تعالى عن الناقة أنها آية ﴿مُبْصِرَةً﴾ لبيان وضوحها كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً..﴾ [الإسراء: ١٢] فهل آية النهار مُبصِرة، أم مُبْصِر فيها؟
كانوا قديماً يعتقدون أن الإنسان يرى الشيء من شعاع ينطلق من عينة إلى الشيء المرئيّ فتحدث الرؤية، إلى أن جاء ابن الهيثم وأثبت خطأ هذه المقولة، وبيّن أن الإنسان يرى الشيء إذا خرج من الشيء شعاع إلى العين فتراه، بدليل أنك ترى الشيء إذا كان في الضوء، ولا تراه إذا كان في ظلمة، وبهذا الفهم نستطيع القول بأن آية النهار هي المبصرة؛ لأن أشعتها هي التي تُسبّب الإبصار.
ثم يقول تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً﴾ [الإسراء: ٥٩]
أي: نبعث بآيات غير المعجزات لتكون تخويفاً للكفار والمعاندين، فمثلاً الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اضطهده أهل مكة ودبَّروا لقتله جهاراً وعلانية، فخيّب الله سَعْيهم ورأوا أنهم لو قتلوه لَطالبَ أهله بدمه، فحاكوا مؤامرة أخرى للفتك به بليل، واقترحوا أنْ يُؤْتَى من كل قبيلة بفتى جَلْدٍ، ويضربوه ضَرْبة رجل واحد.
ولكن الحق سبحانه أطلع رسوله على مكيدتهم، ونجّاه من غدرهم، فإذا بهم يعملون له السحر لِيُوقِعوا به، وكان الله لهم
إذن: للحق سبحانه آيات أخرى تأتي لِرَدْع المكذبين عن كذبهم، وتُخوّفهم بما حدث لسابقيهم من المُكذِّبين بالرسل، حيث أخذهم الله أَخْذ عزيز مقتدر، ومن آيات التخويف هذه ما جاء في قوله تعالى: ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٠]
فكل هذه آيات بعثها الله على أمم من المكذبين، كُلّ بما يناسبه.
ثم يقول الحق سبحانه مخاطباً رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس... ﴾.
وما دام الأمر كذلك فاطمئن يا محمد، كما نقول في المثل (حُط في بطنك بطيخة صيفي)، واعلم أنهم لن ينالوا منك لا جهرة ولا تبيتاً، ولا استعانة بالجنس الخفي (الجن) ؛ لأن الله محيط بهم، وسيبطل سَعْيَهم، ويجعل كَيْدهم في نحورهم.
لذلك لما تحدَّى الحق سبحانه وتعالى الكفار بالقرآن تحدَّى الجن أيضاً، فقال: ﴿قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ [الإسراء: ٨٨]
ففي هذا الوقت كان يشيع بين العرب أن كل نابغة في أمر من الأمور له شيطان يُلهمه، وكانوا يدَّعُون أن هذه الشياطين تسكن وادياً يسمى «وادي عبقر» في الجزيرة العربية، فتحدّاهم القرآن أنْ يأتوا بالشياطين التي تُلهمهم.
وهكذا يُطمئن الحق سبحانه وتعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه يحيط بالناس جميعاً، ويعلم كل حركاتهم ظاهرة أو خفيّة من جنس ظاهر أو من جنس خفيّ، وباطمئنان رسول الله تشيع الطمأنينة في نفوس المؤمنين.
وهذا من قيوميته تعالى في الكون، وبهذه القيومية نردُّ على الفلاسفة الذين قالوا بأن الخالق سبحانه زاول سلطانه في الكون مرة واحدة، فخلق النواميس، وهي التي تعمل في الكون، وهي التي تُسيّره.
والرد على هذه المقولة بسيط، فلو كانت النواميس هي التي
ومثال ذلك: النار التي أشعلوها لحرق نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام فهل كان حظ الإيمان أو الإسلام في أن ينجو إبراهيم من النار؟
لا.. لم يكن الهدف نجاة إبراهيم عليه السلام، وإلا لما مكَّنهم الله من الإمساك به، أو سخر سحابة تطفئ النار، ولكن أراد سبحانه أن يُظهر لهم آية من آياته في خَرْق الناموس، فمكّنهم من إشعال النار ومكّنَهم من إبراهيم حتى ألقوْه في النار، ورأَوْهُ في وسطها، ولم يَعُدْ لهم حجة، وهنا تدخلت القدرة الإلهية لتسلب النار خاصية الإحراق: ﴿قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩]
إذن: فالناموس ليس مخلوقاً ليعمل مطلقاً، وما حدث ليس طلاقة ناموس، بل طلاقة قدرة للخالق سبحانه وتعالى.
فكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُسلِّي رسوله ويُؤْنِسه بمدد الله له دائماً، ولا يفزعه أن يقوم قومه بمصادمته واضطهاده، ويريد كذلك أنْ يُطمئن المؤمنين ويُبشِّرهم بأنهم على الحق.
وقوله تعالى: ﴿أَحَاطَ بالناس..﴾ [الإسراء: ٦٠]
الإحاطة تقتضي العلم بهم والقدرة عليهم، فلن يُفلتوا من علم الله ولا من قدرته، ولا بُدَّ من العلم مع القدرة؛ لأنك قد تعلم شيئاً
كلمة (الناس) تُطلَق إطلاقاتٍ متعددة، فقد يراد بها الخلْق جميعاً من آدم إلى قيام الساعة، كما في قوله الحق تبارك وتعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس مَلِكِ الناس إله الناس مِن شَرِّ الوسواس الخناس الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس مِنَ الجنة والناس﴾ [الناس: ١ - ٦]
وقد يُراد بها بعض الخَلْق دون بعض، كما في قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٥٤]
فالمراد بالناس هنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال عنه كفار مكة: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]
وكما في قوله تعالى: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم..﴾ [آل عمران: ١٧٣] فهؤلاء غير هؤلاء.
وقد وقف العلماء عند كلمة الناس في الآية: ﴿إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس..﴾ [الإسراء: ٦٠] وقصروها على الكافرين الذين يقفون من رسول الله موقف العداء، لكن لا مانع أن نأخذ هذه الكلمة على عمومها، فُيَراد بها أحاط بالمؤمنين، وعلى رأسهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأحاط بالكافرين وعلى رأسهم صناديد الكفر في مكة.
فنظير الإحاطة بالكافرين قوله تعالى: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ [يونس: ٢٢]
أي: حُوصِروا وضُيِّق عليهم فلا يجدون منفذاً.
ونظير الإحاطة بالمؤمنين وعلى رأسهم رسول الله قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون﴾ [الصافات: ١٧١ - ١٧٢]
فالحق سبحانه محيط بالمؤمنين وبرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إحاطة عناية، وكأنه يقول له: امْضِ إلى شأنك وإلى مهمتك، ولن يُضيرك ما يُدبِّرون.
لذلك كان المؤمنون في أَوْج فترات الاضطهاد والقسوة من الكفار في وقت كل المؤمنون غير قادرين حتى على حماية أنفسهم ينزل قول الحق تبارك وتعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ [القمر: ٤٥]
حتى أن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الذي جاء القرآن على وَفْق رأيه يقول: أيّ جَمْع هذا؟! ويتعجب، كيف سنهزم هؤلاء ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا وهذه تسلية لرسول الله وتبشير
وكما قال في آية أخرى: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ [الصافات: ١٧٣]
فاذكر جيداً يا محمد حين تنزل بك الأحداث، ويظن أعداؤك أنهم أحاطوا بك، وأنهم قادرون عليك، اذكر أن الله أحاط بالناس، فأنت في عناية فلن يصيبك شرٌّ من الخارج، وهم في حصار لن يُفلِتوا منه.
ثم يقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ..﴾ [الإسراء: ٦٠]
كلمة ﴿الرؤيا﴾ مصدر للفعل رأى، وكذلك (رؤية) مصدر للفعل رأى، فإنْ أردتَ الرؤيا المنامية تقول: رأيتُ رُؤْيا، وإنْ أردتَ رأى البصرية تقول: رأيتُ رؤية.
ومن ذلك قول يوسف عليه السلام في المنام الذي رآه: ﴿وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ١٠٠]
ولم يَقُلْ رؤيتي. إذن: فالفعل واحد، والمصدر مختلف.
وقد اختلف العلماء: ما هي الرؤيا التي جعلها الله فتنة للناس؟
جمهرة العلماء على أنها الرؤيا التي ثبتتْ في أول السورة: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى﴾ [الإسراء: ١] أي: حادثة الإسراء والمعراج.
فقد وعد رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنهم سيدخلون المسجد الحرام في هذا العام، ولكن مُنِعوا من الدخول عند الحديبية، فكانت فتنة بين المسلمين وتعجبوا أنْ يعدهم رسول الله وَعْداً ولا ينجزه لهم.
ثم بيّن الحق تبارك وتعالى لهم الحكمة من عدم دخول مكة هذا العام، فأنزل على رسوله وهو في طريق عودته إلى المدينة: ﴿هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [الفتح: ٢٥]
إذن: الحق سبحانه منعهم تحقيق هذه الرؤيا في الحديبية؛ لأنهم لو دخلوا مكة مُحاربين حاملين السلاح، وفيها مؤمنون ومؤمنات
لذلك كان من الطبيعي أنْ يتشكَّكَ الناس فيما حدث بالحديبية، وأن تحدث فتنة تزلزل المسلمين، حتى إن الفاروق ليقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ألسنا على الحق؟ أليسوا هم على الباطل؟ ألستَ رسول الله؟ فيقول أبو بكر: الزم غَرْزَِه يا عمر، إنه رسول الله.
وقد ساهمتْ السيدة أم سلمة أم المؤمنين في حَلِّ هذا الإشكال الذي حدث نتيجة هذه الفتنة، فلما اعترض الناس على رسول الله في عودته من الحديبية دخل عليها، فقال: «يا أم سلمة، هلك المسلمون، أمرتُهم فلم يمتثلوا». فقالت: يا رسول الله إنهم مكروبون، جاءوا على شَوْق للبيت، ثم مُنِعوا وهم على مَقْرُبة منه، ولا شكَّ أن هذا يشقّ عليهم، فَامْضِ يا رسول الله لما أمرك الله، فإذا رأوك عازماً امتثلوا، ونجح اقتراح السيدة أم سلمة في حل هذه المسألة.
وفعلاً، جاءت الأحداث موافقة لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقُلْ لي: بالله عليك، مَنِ الذي يستطيع أنْ يتحكَّم في معركة كهذه، الأصل فيها الكَرّ والفَرّ، والحركة والانتقال لِيُحدد الأماكن التي سيقتل فيها هؤلاء، اللهم إنه رسول الله.
لكن أهل التحقيق من العلماء قالوا: إن هذه الأحداث سواء ما كان في الحديبية، أو ما كان من أمر الرسول يوم بدر، هذه أحداث حدثتْ في المدينة، والآية المرادة مكية، مما يجعلنا نستبعد هذين القولين ويؤكد أن القول الأول وهو الإسراء والمعراج هو الصواب.
وقد يقول قائل: وهل كان الإسراء والمعراج رؤيا منامية؟ إنه كان رؤية بصرية، فما سِرّ عدول الآية عن الرؤية البصرية إلى
نقول: ومَنْ قال إن كلمة رؤيا مقصورة على المنامية؟ إنها في لغة العرب تُطلق على المنامية وعلى البصرية، بدليل قول شاعرهم الذي فرح بصيد ثمين عنَّ له:
فَكَبَّر لِلْرُؤْيَا وهَاش فُؤَادُهُ | وَبشَّرَ نَفْساً كَانَ قَبْلُ يَلُومُهَا |
لكن الحق سبحانه اختار كلمة (رُّؤيَا) ليدل على أنها شيء عجيب وغريب كما نقول مثلاً: هذا شيء لا يحدث إلا في المنام. وهذا من دِقّة الأداء القرآني، فالذي يتكلم رَبّ، فاختار الرؤيا؛ لأنها معجزة الإسراء وذهاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة إلى بيت المقدس في ليلة.
فَوَجْه الإعجاز هنا ليس في حدث الذهاب إلى بيت المقدس لأن كثيراً من كفار مكة قد ذهب إليها في رحلات التجارة أو غيرها، بل وَجْه الإعجاز في الزمن الذي اختُصِر لرسول الله، فذهب وعاد في ليلة واحدة، بدليل أنهم سألوا رسول الله «صِفْ لنا بيت المقدس».
ولقد توصّل العلماء الباحثون في مسألة وعي الإنسان أثناء نومه، وعن طريق الأجهزة الحديثة إلى أنْ قالوا: إن الذهن الإنساني لا يعمل أثناء النوم أكثر من سبع ثوان، وهذه هي المدّة التي يستغرقها المنام.
في حين إذا أردتَ أن تحكي ما رأيتَ فسيأخذ منكم وقتاً طويلاً. فأين الزمن إذن في الرؤيا المنامية؟ ولا وجود له؛ لأن وسائل الإدراك في الإنسان والتي تُشعِره بالوقت نائمة فلا يشعر بوقت، حتى إذا جاءت الرؤيا مرَّتْ سريعة حيث لا يوجد في الذهن غيرها.
لذلك مَنْ يمشي على عجل لا يستغرق زمناً، كما نقول: (فلان يفهمها وهي طايرة) وهذا يدل على السرعة في الفعل؛ لأنه يركز كل إدراكاته لشيء واحد.
ومن ناحية أخرى، لو أن الإسراء والمعراج رؤيا منامية، أكانت توجد فتنة بين الناس؟ وهَبْ أن قائلاً قال لنا: رأيت الليلة أنني ذهبتُ من القاهرة إلى نيويورك، ثم إلى هاواي، ثم إلى اليابان، أنُكذِّبه؟!
إذن: قَوْل الله تعالى عن هذه الرؤيا أنها فتنة للناس عَدَّلَتْ المعنى
لكن، ما الحكمة من فتنة الناس واختبارهم بمثل هذا الحدث؟
الحكمة تمحيص الناس وصَهْرهم في بوتقة الإيمان لنميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من الكافر، فلا يبقى في ساحتنا إلا صادق الإيمان قويُّ العقيدة، لأن الله تعالى لا يريد أن يسلم منهجه الذي سيحكم حركة الحياة في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، إلا إلى قوم موثوق في إيمانهم ليكونوا أهلاً لحمل هذه الرسالة.
فكان الإسراء هو هذه البوتقة التي ميَّزَتْ بين أصالة الصِّدِّيق حينما أخبروه أن صاحبك يُحدِّثنا أنه أتى بيت المقدس، وأنه عُرِج به إلى السماء وعاد من ليلته، فقال: «إنْ كان قال فقد صدق» هكذا من أقرب طريق، فميزان الصدق عنده مجرد أن يقول رسول الله. وكذلك ميزت الزَّبَد الذي زلزلته الحادثة وبلبلته، فعارض وكذب.
ثم يقول تعالى: ﴿والشجرة الملعونة فِي القرآن﴾ [الإسراء: ٦٠]
أي: وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنةً للناس أيضاً، وإنْ كانت الفتنة في الإسراء كامنَة في زمن حدوثه، فهي في الشجرة كامنة في أنها تخرج في أصل الجحيم، في قَعْر جهنم،
ومن هنا كانت الشجرة فتنة تُمحِّص إيمان الناس؛ لذلك لما سمع أبو جهل هذه الآية جعلها مُشكلة، وخرج على الناس يقول: اسمعوا ما يحدثكم به قرآن محمد، يقول: إن في الجحيم شجرة تسمى «شجرة الزقوم»، فكيف يستقيم هذا القول، والنار تحرق كل شيء حتى الحجارة؟
وهذا الاعتراض مقبول عقلاً، لكن المؤمن لا يستقبل آيات الله استقبالاً عقلياً، وإنما يعمل حساباً لقدرته تعالى؛ لأن الأشياء لا تأخذ قوامها بعنصر تكوينها، وإنما تأخذه بقانون المعنصِر نفسه، فالخالق سبحانه يقول للشجرة: كوني في أصل الجحيم، فتكون في أصل الجحيم بطلاقة القدرة الإلهية التي قالت للنار: كُوني بَرْداً وسلاماً على إبراهيم.
وقد قال ابن الزَّبْعَري حينما سمع قوله تعالى: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم﴾ [الصافات: ٦٢ - ٦٤]
فقال: والله ما عرفنا الزقوم إلا الزُّبْد على التمر، فقوموا تزقَّموا
أما المؤمن فيستقبل هذه الآيات استقبالَ الإيمان والتسليم بصدق كلام الله، وبصدق المبلِّغ عن الله، ويعلم أن الأشياء لا تأخذ صلاحيتها بعنصر تكوينها، وإنما بإرادة المعنْصِر أن يكون؛ لأن المسألة ليست ميكانيكا، وليست نواميس تعمل وتدير الكون، بل هي قدرة الخالق سبحانه وطلاقة هذه القدرة.
ولسائل أن يقول: كيف يقول الحق سبحانه عن هذه الشجرة أنها (ملعونة) ؟ ما ذنب الشجرة حتى تُلْعَن، وهي آية ومعجزة لله تعالى، وهي دليل على اقتداره سبحانه، وعلى أن النواميس لا تحكم الكون، بل ربّ النواميس سبحانه هو الذي يحكم ويُغيِّر طبائع الأشياء؟ كيف تُلْعَن، وهي الطعام الذي سيأكله الكافر ويتعذب به؟ إنها أداة من أدوات العقاب، ووسيلة من وسائل التعذيب لأعداء الله.
نقول: المراد هنا: الشجرة الملعون آكلها، لأنه لا يأكل منها إلا الأثيم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم﴾ [الدخان: ٤٣ - ٤٤] والأثيم لا شَكَّ معلون.
لكن، لماذا لم يجعل المعلونية للآكل وجعلها للشجرة؟
من الإشكالات التي أثارتها هذه الآية في العصر الحديث قول المستشرقين الذين يريدون أن يتورّكوا على القرآن، ويعترضوا على أساليبه، مثل قوله تعالى عن شجرة الزقوم: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين﴾ [الصافات: ٦٥]
ووَجْه اعتراضهم أن التشبيه إنما يأتي عادةً لِيُوضِّح أمراً مجهولاً من مخاطب بأمر معلوم له، أما في الآية فالمشبَّه مجهول لنا؛ لأنه غَيْب لا نعلم عنه شيئاً، وكذلك المشبَّه به لم نَرَهُ، ولم يعرف أحد مِنّا رأس الشيطان، فكيف يُشبِّه مجهولاً بمجهول؟ لأننا لم نَرَ شجرة الزقوم لنعرف طَلْعها، ولم نَرَ الشيطان لنعرف رأسه.
ثم يقولون: الذي جعل المسلمين يمرُّون على هذه الآية أنهم يُعطون للقرآن قداسة، هذه القداسة تُربّى فيهم التهيُّب أنْ يُقبلوا على القرآن بعقولهم ليفتشوا فيه، ولو أنهم تخلصوا من هذه المسألة وبدأوا البحث في أسلوب القرآن دون تهيُّب لاستطاعوا الخروج منه بمعطيات جديدة.
الملَكة اللغوية تفاعل واختمار للغة في الوجدان، فساعة أنْ يسمعَ التعبير العربي يفهم المقصود منه، أما اللغة المكتسبة خاصة على كِبَر فهي مجرد دراسة لإمكان التخاطب، فلو أن عندكم هذه الملكة لما حدث منكم هذا الاعتراض، ولعلمتم أن العربي قبل نزول القرآن قال:
يَغُطُّ غَطِيطَ البكْر شُدّ خِنَاقُه | لِيقتُلَنِي والمرْءُ ليسَ بقتَّالِ |
أَيقتُلِني وَالمشْرفيُّ مُضَاجِعِي | وَمسْنُونَةٍ زُرْقٍ كأنْيَابِ أَغْوَالِ |
وكذلك الشيطان، وإنْ لم يَرَهُ أحد أن الناس تتخيله في صورة بشعة وقبيحة ومخيفة، فلو كلّفنا جميع رسّامي الكاريكاتير في العالم برسم صورة مُتخيّلة للشيطان لرسم كل واحد منهم صورة تختلف
فلو أن الحق سبحانه شبَّه طَلْع شجرة الزقوم بشيء معلوم لنا لَتصوّرناه على وجه واحد، لكن الحق تبارك وتعالى أراد أنْ يُشيعَ بشاعته، وأنْ تذهب النفس في تصوُّره بشاعته كل مذهب، وهكذا يؤدي هذا التشبيه في الآية مَا لا يُؤديّه غيره، ويُحدث من الأثر المطلوب ما لا يُحدِثه تعبير آخر، فهو إبهام يكشف ويجليِّ.
ثم يقول تعالى: ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً﴾ [الإسراء: ٦٠]
أي: نُخوّفهم بأنْ يتعرّضوا للعقوبات التي تعرّض لها المكذِّبون للرسل، فالرسل نهايتهم النصر، والكافرون بهم نهايتهم الخُذْلان. وأنت حينما تُخوّف إنساناً أو تُحذره من شر سيقع له، فقد أحسنتَ إليه وأسديتَ إليه جميلاً ومعروفاً، كالولد الذي يُخوِّف ابنه عاقبة الإهمال، ويُذكّره بالفشل واحتقار الناس له، إنه بذلك ينصحه ليلتفت إلى دروسه ويجتهد.
فقوله تعالى: ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ..﴾ [الإسراء: ٦٠] التخويف هنا نعمة من الله عليهم، لأنه يُبشّع لهم الأمر حتى لا يقعوا فيه، وسبق أن ذكرنا أن التخويف قد يكون نعمة في قوله تعالى، في سورة الرحمن:
﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ٣٥ - ٣٦]
فجعل النار والشُّوَاظ هنا نعمة؛ لأنها إعلام بشيء سيحدث في المستقبل، وسيكون عاقبة عمل يجب أن يحذروه الآن.
أي: يزدادون بالتخويف طغياناً، لماذا؟ لأنهم يفهمون جيداً مطلوبات الإيمان، وإلا لو جهلوا هذه المطلوبات لقالوا: لا إله إلا الله وآمنوا وانتهت القضية، لكنهم يعلمون تماماً أن كلمة لا إله إلا الله تعني: لا سيادةَ إلا لهذه الكلمة، ومحمد رسول الله لا بلاغَ ولا تشريعَ إلا منه، ومن هنا خافوا على سيادتهم في الجزيرة العربية وعلى مكانتهم بين الناس، كيف والإسلام يُسوِّي بين السادة والعبيد؟!
إذن: كلما خوَّفْتهم وذكّرتهم بالله ازدادوا طغياناً ونفوراً من دين الله الذي سيهدم عليهم هذه السلطة الزمنية التي يتمتعون بها، وسيسحب بساط السيادة من تحت أقدامهم؛ لذلك تجد دائماً أن السلطة الزمنية لأعداء الرسل، وتأتي الرسل لهدم هذه السلطة، وجَعْل الناس سواسية.
وقد اتضح هدم الإسلام لهذه السلطة الزمنية للكفار عندما دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة، وكان أهلها يستعدون لتنصيب عبد الله بن أُبيٍّ ملِكاً عليهم، فلما جاء رسول الله المدينة انفض الناس عن ابن أُبيٍّ، وتوجهت الأنظار إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وطبيعي إذن أن يغضب ابن أُبيٍّ، وأن يزدادَ كُرْهه لرسول الله، وأن يسعى لمحاربته ومناوأته،
ثم أراد الحق سبحانه أن يقول: إن هذه سُنّة من سُنَن المعاندين للحق والكائدين للخير دائماً، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ... ﴾.
والمعنى: واذكُرْ يا محمد، وليذكر معك قومك إذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم. وسبق أنْ تكلمنا عن السجود، ونشير هنا إلى أن السجود لا يكون إلا الله تعالى، لكن إذا كان الأمر بالسجود لغير الله من الله تعالى، فليس لأحد أن يعترض على هذا السجود؛ لأنه بأمر الله الذي يعلم أن سجودهم لآدم ليس عَيْباً وليس قَدْحاً في دينهم وعبوديتهم للحق سبحانه وتعالى؛ لأن العبودية طاعة أوامر.
والمراد بالملائكة المدبرات أمراً، الذين قال الله فيهم: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله..﴾ [الرعد: ١١]
وقد أمرهم الله بالسجود لآدم؛ لأنه سيكون أبا البشر، وسوف يُسخّر له الكون كله، حتى هؤلاء الملائكة سيكونون في خدمته؛ لذلك أمرهم الله بالسجود له سجودَ طاعة وخضوع لما أريده منكم، إذن: السجود لآدم ليس خضوعاً لآدم، بل خضوعاً لأمر الله لهم.
فهِم البعض منها أن إبليس كان من الملائكة، ونحن نعذر أصحاب هذا الفهم لو عزلنا هذه الآية عن بقية الآيات التي تحدثتْ عن هذه القضية، لكن طالما نتكلم في موضوع عام مثل هذا، فيجب استحضار جميع الآيات الواردة فيه لتتضح لنا الصورة كاملة.
فإذا كان دليل أصحاب هذا القول: الالتزام بأن الله قال: ﴿فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ..﴾ [الإسراء: ٦١]
وقد كان الأمر للملائكة فهو منهم، سوف نُسلِّم لهم جدلاً بصحة قولهم، لكن ماذا يقولون في قَوْل الحق سبحانه في القرآن الذي أخذوا منه حجتهم: ﴿فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ..﴾ [الكهف: ٥٠]
فإنْ كان دليلكم الالتزام، فدليلنا نصٌّ صريح في أنه من الجن، فإنْ قال قائل: كيف يكون من الجن ويُؤاخَذ على أنه لم يسجد؟
نقول: إبليس من الجن بالنصِّ الصريح للقرآن الكريم، لكن الحق سبحانه وتعالى آخذه على عدم السجود لآدم واعتبره من الملائكة؛ لأنه كان مطيعاً عن اختيار، والملائكة مطيعون عن جِبلَّة وعن طبيعة.
فبذلك كانت منزلة إبليس أعلى من منزلة الملائكة، لأنه مختار أن يطيع أو أن يعصي، لكنه أطاع مع قدرته على العصيان فأصبح جليس الملائكة، بل طاووس الملائكة الذي يزهو عليهم ويتباهى
فإذا أصبح في منزلة أعلى من الملائكة وأصبح في حضرتهم، فإن الأمر إذا توجَّه إلى الأدنى في الطاعة فإن الأعلى أَوْلَى بهذا الأمر، وكذلك إن اعتبرناه أقلّ منهم منزلة، وجاء الأمر للملائكة بالسجود فإن الأمر للأعلى أمر كذلك للأدنى، وهكذا إنْ كان أعلى فعليه أن يسجد، وإنْ كان أدنى فعليه أنْ يسجدَ.
وقد ضربنا لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى إذا دخل رئيس الجمهورية على الوزراء فإنهم يقومون له إجلالاً واحتراماً، وهَبْ أن معهم وكلاء وزارات فإنهم سوف يقومون أيضاً؛ لأنهم ارتفعوا إلى مكان وجودهم.
ومن الإشكالات التي أثارها المستشرقون حول هذا الموضوع اعتراضهم على قول القرآن عن إبليس مرة ﴿أبى﴾ ومرة أخرى ﴿استكبر﴾ ومرة ﴿أبى واستكبر﴾، وكذلك قوله مرة: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ..﴾ [ص: ٧٥] ومرة أخرى يقول: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ..﴾ [الأعراف: ١٢]
وقد سبق أن تحدثنا عن قصور هؤلاء في فَهْم أساليب العربية؛ لأنها ليستْ لديهم ملَكَة، والمتأمل في هذه الأساليب يجدها منسجمة يُكمل بعضها بعضاً.
فالإباء قد يكون مجرد امتناع لا عن استكبار، فالحق سبحانه يريد أن يقول: إنه أبى استكباراً، فتنوّع الأسلوب القرآني ليعطينا هذا المعنى.
أما قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ..﴾ [ص: ٧٥] و ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ..﴾ [الأعراف: ١٢]
والقول بوجود حروف زائدة في كتاب الله قول لا يليق، ونُنزّه المتكلم سبحانه أن يكون في كلامه زيادة، والمتأدب منهم يقول (لا) حرف وَصْل، كأنه يستنكف أن يقول: زائدة.
والحقيقة أن (لا) هنا ليست زائدة، وليست للوَصْل، بل هي تأسيس يضيف معنى جديداً، لأن ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ..﴾ [ص: ٧٥] كأنه همَّ أن يسجد، فجاءه مَنْ يمنعه عن السجود، لأنه لا يقال: ما منع من كذا إلا إذا كان لديك استعداد للفعل، وإلا من أيّ شيء سيمنعك؟
أما و ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ..﴾ [الأعراف: ١٢] تعني: ما منعك بإقناعك بأن لا تسجد، فالمعنيان مختلفان، ونحن في حاجة إليهما معاً.
ثم يقول تعالى: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً..﴾ [الإسراء: ٦١]
والهمزة للاستفهام الذي يحمل معنى الاعتراض أو الاستنكار، وقد فُسِّرت هذه الآية بآيات أخرى، مثل قوله تعالى: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢]
فالمخلوقية لله مُتفق عليها، إنما الاختلاف في عنصر المخلوقية هذا من نار وهذا من طين، لكن من قال لك يا إبليس: إن النار فوق الطين، أو خير منه؟ من أين أتيتَ بهذه المقولة وكلاهما مخلوق لله، وله مهمة في الكون؟ وهل نستطيع أن نقول: إن العين خير من الأذن مثلاً؟ أم أن لكل منهما مهمتها التي لا تؤديها الأخرى؟
والنار الأصل فيها الخشب الذي توقد به، والخشب من الطين، إذن: فالطين قبل النار وأفضل منه، فقياس إبليس إذن قياس خاطئ.
ومعنى: ﴿خَلَقْتَ طِيناً﴾ [الإسراء: ٦١] يعني: خلقته حال كونه من الطين، أو خلقتَه من طين، والخَلْق من الطين مرحلة من مراحل الخَلْق؛ لأن الخَلْق المباشر له مراحل سبقته.
فقوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي..﴾ [الحجر: ٢٩]
سبقتْه مراحل متعددة، قال عنها الخالق سبحانه مرة: من الماء. ومرة: من التراب. ومرة: من الطين. والماء إذا خُلِط بالتراب صار طيناً، وبمرور الوقت يسودُّ هذا الطين، وتتغير رائحته، فيتحول إلى حمأ مسنون.
وما أشبهَ الحمأ المسنون بما يفعله أهل الريف في صناعة الطوب، حيث يخلطون الماء بالتراب بالقشِّ، ويتركونه فترة حتى يختمر ويأكل بعضه بعضاً، وتتغير رائحته ويعطَن، ثم يصبُّونه في قوالب. فإذا ما تُرِك الطين حتى يجفّ، ويتحول إلى الصلابة يصير صَلْصَالاً كالفخَّار، يعني يُحدث رنّة إذا طرقت عليه.
وبعد كل هذه المراحل يقول تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٢٩]
إذن: لا وَجْه للاعتراض على القرآن في قوله عن خلق الإنسان
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ..﴾.
لذلك قالوا: (ليس مع العين أَيْن) فما تراه أمامك عياناً، وإنْ كان للعلم وسائل كثيرة فأقواها الرؤية؛ لأنها تعطي علماً مؤكداً على خلاف الأذن مثلاً، فقد تسمع بها كلاماً تعرف بعد ذلك أنه كذب.
وقد ورد هذا المعنى في قَوْله الحق سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل﴾ [الفيل: ١]
واستخدم الفعل ترى، مع أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان في عام الفيل وليداً لم يَرَ شيئاً، فالمعنى: ألم تعلم، ولكن الحق سبحانه عدل عن «تعلم» إلى «تَرَ» كأنه يقول للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إذا أخبرك الله بمعلوم، فاجعل إخبار الله لك فوق رؤيتك بعينك.
وهذا لأن حقده وعداوته لآدم مُسْبقة فلم ينتظر الجواب.
ومعنى: ﴿أَخَّرْتَنِ﴾ أخَّرت أجلي عن موعده، كأنه يعلم أن الله يجعل لكل نفس منفوسة من إنس أو جنٍّ أجلاً معلوماً، فطلب أنْ يُؤخِّره الله عن أجله، وهذه مبالغة منه في اللدد والعناد، فلم يتوعدهم ويُهدّدهم مدة حياته هو، بل إلى يوم القيامة، فإن كانت البداية مع آدم فلن ينجو ولن تنجو ذريته أيضاً.
فالعداوة بين إبليس وآدم، فما ذنب ذريته من بعده؟ لقد كان عليه أن يقصر هذا الحقد، وهذه العداوة على آدم، ثم يوصي ذريته بحمل هذا العداء من بعده، إنه الغيظ الدفين الذي يملأ قلبه.
وقد أمهله الحق سبحانه بقوله: ﴿إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ﴾ [الأعراف: ١٥]
ومعنى: ﴿لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ﴾ [الإسراء: ٦٢] اللام للقسم، كما أقسم في آية أخرى: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢]
وعجيب أمر إبليس، يقسم بالله وهو يعلم أن العمر والأجل بيده سبحانه، فيسأله أن يُؤخّره، ومع ذلك لا يطيع أمره.
فالاحتناك قد يكون استئصالاً للذات، وقد يكون قهراً لحركتها.
وقوله سبحانه: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٦٢] فيها دليل على عِلْم إبليس ومعرفته بقدرة الله تعالى، فعرف كيف يقسم به حين قال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢] والمعنى: بعزتك عن خَلْقك: ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩].
سأدخل من هذا الباب، أما عبادك الذين هديتهم واصطفيتهم فلا دَخْلَ لي بهم، وليس لي عليهم سلطان، لقد تذكر قدرة الله، وأن الله إذا أراد إخلاص عبده لنفسه لا يستطيع الشيطان أنْ يأخذَه، فقال: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [ص: ٨٣]
فقوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٦٢] هذا القليل المستثنى هم المؤمنون الذين اختارهم الله وهداهم، ولم يجعل للشيطان عليهم سبيلاً.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً﴾.
ونلاحظ أن الحق سبحانه قال: ﴿جَزَآؤُكُمْ﴾. ولم يقل (جزاؤهم) لأنه معهم وداخل في حكمهم، وهو سبب غوايتهم وضلالهم، وكذلك هو المخاطب في الآية الكريمة، وحتى لا يظن إبليس أن الجزاء مقصور على العاصين من ذرية آدم، أو يحتج بأنه يُنفّذ أوامر الله الواردة في قوله تعالى: ﴿واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً﴾ [الإسراء: ٦٤]
فليست هذه أوامر يراد تنفيذها؛ لأن هناك فرقاً بين الأمر الذي يُراد منه تنفيذ الفعل، والأمر الذي لا يُراد منه التنفيذ. فالأول طَلَب أعلى من أَدْنى لكي يفعل: اكتب، اجلس. لكن إذا اتجه الأمر إلى غير مطلوبٍ عادةً من العقلاء ينصرف عن الأمر إلى معنى آخر.
وهذا كما تقول لولدك مراراً: ذاكر دروسك واجتهد، وإذا به لا يهتمّ ولا يستجيب فتقول له: العب كما تشاء، فهل تقصد ظاهر هذا الأمر؟ ﴿وهل لو أخفق الولد في الامتحان سيأتي ليقول لك: يا والدي لقد قلت لي العب؟﴾
إن الأمر هنا لا يُؤخَذ على ظاهره، بل يُراد منه التهديد، كما يقولون في المثل (أعلى ما في خَيْلك اركبه).
والحق سبحانه يقول مخاطباً إبليس: ﴿واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ... ﴾.
هذا كما تستنهض ولدك الذي تكاسل، وتقول له: فِزّ يعني انهض، وقُمْ من الأرض التي تلازمها كأنها مُمسكة بك، وكما في قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض..﴾ [التوبة: ٣٨]
فتقول للمتثاقل عن القيام: فِزّ أي: قُمْ وخِفّ للحركة والقيام بإذعان. فالمعنى: استفزز مَنِ استطعت واستخفّهم واخدعهم ﴿بِصَوْتِكَ﴾ بوسوستك أو بصوتك الشرير، سواء أكان هذا الصوت من جنودك من الأبالسة أمثالك، أو من جنودك من شياطين الإنس الذين يعاونوك ويساندونك.
ثم يقول تعالى: ﴿وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ..﴾ [الإسراء: ٦٤]
وهذه الأصوات مقصودة لإرهاب الخصم وإزعاجه، وأيضاً لأن هذه الصيحات تأخذ شيئاً من انتباه الخصم، فيضعف تدبيره لحركة مضادة، فيسل عليك التغلّب عليه.
وقوله تعالى: ﴿بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ..﴾ [الإسراء: ٦٤]
أي: صَوِّتْ وصِحْ بهم راكباً الخيل لتفزعهم، والعرب تطلق الخيل وتريد بها الفرسان، كما في الحديث النبوي الشريف: «يا خيل الله اركبي».
وما أشبه هذا بما كنا نُسمِّيهم: سلاح الفرسان ﴿وَرَجِلِكَ﴾ من قولهم: جاء راجلاً. يعني: ماشياً على رِجْلَيْه و (رَجِل) يعني على سبيل الاستمرار، وكأن هذا عمله وديدنه، فهي تدل على الصفة الملازمة، تقول: فلانٌ رَجْل أي: دائماً يسير مُترجّلاً. مثل: حاذر وحَذِرْ، وهؤلاء يمثلون الآن «سلاح المشاة».
ثم يقول تعالى: ﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال..﴾ [الإسراء: ٦٤] فكيف يشاركهم أموالهم؟ بأن يُزيِّن لهم المال الحرام، فيكتسبوا
وقوله تعالى ﴿وَعِدْهُمْ﴾ أي: مَنيِّهم بأمانيك الكاذبة، كما قال سبحانه في آية أخرى: ﴿الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٦٨]
وقوله: ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً﴾ [الإسراء: ٦٤] أي: لا يستطيع أن يَغُرَّ بوعوده إلا صاحب الغِرّة والغفلة، ومنها الغرور: أي يُزيّن لك الباطل في صورة الحق فيقولون: غَرَّهُ. وأنت لا تستطيع أبداً أن تُصوّر لإنسان الباطل في صورة الحق إلا إذا كان عقله قاصراً غافلاً؛ لأنه لو عقل وانتبه لتبيَّن له الحق من الباطل، إنما تأخذه على غِرَّة من فكره، وعلى غَفْلة من عقله.
لذلك كثيراً ما يُخاطبنا الحق سبحانه بقوله: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ..﴾ [القصص: ٦٠] ﴿أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ٥٠] ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ..﴾ [النساء: ٨٢] وينادينا بقوله: ﴿ياأولي الألباب﴾ [الطلاق: ١٠]
وهذا كله دليل على أهمية العقل، وحثٌّ على استعماله في كل أمورنا، فإذا سمعتم شيئاً فمرِّروه على عقولكم أولاً، فما معنى أن يطلب الله مِنَّا ذلك؟ ولماذا يُوقِظ فينا دائماً ملكة التفكير والتدبُّر في كل شيء؟
لا شكَّ أن الذي يُوقِظ فيك آلة الفكر والنقد التمييز، ويدعوك
ولو أراد الحق سبحانه أن يأخذنا هكذا على جهل وعمى ودون تبصُّر ما دعانا إلى التفكُّر والتدبُّر.
وهكذا الشيطان لا يُمنّيك ولا يُزيّن لك إلا إذا صادف منك غفلة، إنما لو كنت متيقظاً له ومُسْتصحباً للعقل، عارفاً بحيله ما استطاع إليك سبيلاً، ومن حيله أن يُزيِّن الدنيا لأهل الغفلة ويقول لهم: إنها فرصة للمتعة فانتهزها وَخذْ حظك منها فلن تعيش مرتين، وإياك أن تُصدّق بالبعث أو الحساب أو الجزاء.
وهذه وساوس لا يُصدّقها إلا مَنْ لديه استعداد للعصيان، وينتظر الإشارة مجرد إشارة فيطيع ويقع فريسة لوعود كاذبة، فإنْ كان يوم القيامة تبرّأ إبليس من هؤلاء الحمقى، وقال: ﴿إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ [إبراهيم: ٢٢]
إذن: في الآيتين السابقتين خمسة أوامر لإبليس: اذهب، استفزز، وأَجْلب، وشاركهم، وعِدْهم. وهذه الأوامر ليست لتنفيذ مضمونها، بل للتهديد ولإظهار عجزه عن الوقوف في وجه الدعوة،
وقد تحدّث الحق سبحانه عن عباده وأصفيائه، كما في قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً﴾ [الفرقان: ٦٣ - ٦٥].
فعباد الله الذين هم أصفياؤه وأحباؤه الذين خرجوا من مرادهم لمراده، وفَضلَّوا أن يكونوا مقهورين لربهم حتى في الاختيار، فاستحقوا هذه الحصانة الإلهية في مواجهة كيد الشيطان ووسوسته وغروره: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ... ﴾ [الإسراء: ٦٥].
وسبق أنْ تحدَّثنا عن كَيْد الشيطان الذي قال الله عنه: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً﴾ [النساء: ٧٦] ففي مُحاجّته يوم القيامة أمام ضحاياه الذين أغواهم وأضلّهم، سيقول:
ثم يقول تعالى: ﴿وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً﴾ [الإسراء: ٦٥].
الوكيل هو المؤيِّد، وهو الناصر، تقول: وكلت فلاناً. أي: وثقت به ليؤدي لي كل ما أريد، فإنْ كان في البشر مَنْ تثق به، وتأتمنه على مصالحك، فما بالك إنْ كان وكيلك هو الله عَزَّ وَجَلَّ؟ لا شكَّ إنْ كان وكيلك الله فهو كافيك ومؤيّدك وناصرك، فلا يُحوجِك لغيره سبحانه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك... ﴾.
ومنها قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ..﴾ [يونس: ٢٢]
ثم يقول تعالى: ﴿لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ..﴾ [الإسراء: ٦٦]
الابتغاء هو القصد إلى نافع يطلب من البحر كالقوت أو غيره، كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا..﴾ [النحل: ١٤]
فالبحر مصدر من مصادر الرزق والقُوت، ومُسْتودع لثروة عظيمة من فضل الله تعالى؛ لذلك قال بعدها: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ [الإسراء: ٦٦]
والرحمة اتساع مَدَد الفضل من الله، فالذي أعطاكم البَرَّ بما فيه من خيرات أعطاكم البحر أيضاً بما فيه من خيرات.
والأرض التي نعيش عليها إما بَرَّ يسمى يابسة، أو بحر، وإنْ كانت نسبة اليابس من الأرض الرُّبْع أو الخُمْس، فالباقي بحر شاسع واسع يَزْخَر من خَيْرات الله بالكثير.
وطُرُق السير في اليابسة كثيرة متعددة، تستطيع أن تمشي أو تركب، وكُلُّ وسيلة من وسائل الركوب حَسْب قدرة الراكب، فهذا يركب حماراً، وهذا يركب سيارة، وتستطيع أن تنتقل فيها من مكان إلى آخر. أما البحر فلا يمكن الانتقال فيه إلا أنْ تُحملَ على شيء، فمن رحمة الله بنا أنْ جعل لنا السفن آية من آياته تسير بنا على لُجَّة الماء، ويمسكها بقدرته تعالى فنأمَن الغرق.
فلم يكُنْ للناس عهد بالسفن، وكانت سفينة نوح بدائية من ألواح الخشب والحبال، ولولا أن الله تعالى دَلَّه على طريقة بنائها، وهداه إلى تنظيمها ما كان له عِلْم بهذه المسألة، فكَوْنُ الحق سبحانه يهدينا بواسطة نبي من أنبيائه إلى مركب من المراكب التي تيسّر لنا الانتفاع بثلاثة أرباع الأرض، لا شكَّ أنها رحمة بالإنسان وتوسيع عليه.
وكذلك من رحمته بنا أنْ يسّر لنا تطوير هذا المركب على مر العصور، فبعد أن كان يتحرك على سطح الماء بقوة الهواء باستخدام ما يسمى بالقلع، والذي يتحكم في المركب من خلاله، ويستطيع الربان الماهر تسفيح القلع، يعني توجيهه إلى الناحية التي يريدها.
فكان الريح هو الأصل في سَيْر السفن، ثم أتى التقدم العلمي الذي اكتشف البخار والآلات ثم الكهرباء، وبذلك سهّل على الإنسان تحريك السفن على سطح الماء بسهولة ويُسْر، كما تطورتْ صناعة السفن كذلك على مَرَّ العصور، حتى أصبحنا نرى الآن البوارج الكبيرة متعددة الأدوار، والتي تشبه فعلاً الجبال، مِصْداقاً لقوله الحق سبحانه وتعالى:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام﴾ [الشورى: ٣٢]
يعني: كالجبال، وكأن الحق سبحانه وتعالى يُعطينا الدليل على
لكن مع كل هذا التقدم في مجال الملاحة البحرية لا نغفل أن القدرة الإلهية هي التي تُسيِّر هذه السفن، وتحملها بأمان على صفحة الماء، ويجب أَلاّ يغتَرّ الإنسان بما توصّل إليه من العلوم، ويظن أنه أصبح مالكاً لزمام الأمور في الكون؛ لأن الحق سبحانه يقول: ﴿إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ﴾ [الشورى: ٣٣]
والريح هي الأصل في تسيير السفن.
فإنْ قال قائل الآن: إنْ توقف الريح استخدمنا القوى الأخرى مثل البخار أو الكهرباء. نقول: لقد أخذت الريح على أنه الهواء فقط، إنما لو نظرتَ إلى كلمة الريح، وماذا تعني لوجدتَ أن معنى الريح القوة المطلقة أيّاً كان نوعها، بدليل قَوْل الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ..﴾ [الأنفال: ٤٦] إذن: الريح هو القوة المطلقة.
فمعنى: ﴿يُسْكِنِ الريح..﴾ [الشورى: ٣٣] يُسكِن القوة المحرّكة للسفن أيّاً كانت هذه القوة: قوة الريح أو البخار أو الكهرباء أو غيرها من القوى، فإنْ شاء سبحانه تعطَّلَتْ كُلُّ هذه القوى.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ... ﴾.
وهكذا الإنسان حتى الكافر، إذا ضاقتْ به الحِيَل ولم يجد مَنْفذاً يلجأ إلى الله المنفذ الحقيقي والمفرِّج للكَرْب، والإنسان عادة لا يُسلم نفسه ويظلّ مُتعلّقاً بالأمل في النجاة.
فقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ..﴾ [الإسراء: ٦٧]
أي: أحاط بهم الخطر بالريح العاصف أو الموج العالي، وأحسُّوا بخطورة الموقف ولا مُنقِذَ لهم إلا الله، حتى الكفار في هذا الموقف يَصْدُقون مع أنفسهم، ولا يخدعونها ولا يكذبون عليها، فإنْ آمنوا بآلهة أخرى وإنْ عبدوا الأصنام والأوثان، فإنهم في هذا الضيق لا يلجأون إلا إلى الله، ولا يدعون إلا الله؛ لأنهم يعلمون تماماً أن آلهتهم لا تسمع ولا تجيب، ولا تملك لهم نفعاً ولا نجاة.
قوله تعالى: ﴿ضَلَّ مَن تَدْعُونَ..﴾ [الإسراء: ٦٧] أي: ذهب عن بالكم مَن اتخذتموهم آلهة، وغابوا عن خاطركم، فلن يقولوا هنا يا هبل؛ لأنهم لن يغشُّوا أنفسهم، ولن ينساقوا وراء كذبهم في هذا الوقت العصيب.
إنهم في هذا الضيق لن يتذكروا آلهتهم، ولن تخطرَ لهم ببال
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بقصة حلاق الصحة في الريف الذي يتولى علاج البسطاء، ويدّعي العلم والخبرة، فإذا ما مرض ولده فإنه يُسرع به إلى الطبيب، لأنه إنْ خدع الناس فلن يخدع نفسه، وإنْ كذب عليهم فلن يكذب على نفسه.
وكذلك الإنسان لا يبيع نفسه رخيصاً، فإنْ أحاطتْ به الأخطار لا يلجأ إلا إلى الله؛ لأنه وحده القادر على تفريج الكروب وإغاثة الملهوف، حتى وإنْ كان كافراً؛ لأنه سبحانه هو الذي أمره أنْ يلجأ إليه، وأنْ يدعوه، فقال: ﴿فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ..﴾ [الأنعام: ٤٣]
فإنْ دَعَوهُ سمع لهم وأجابهم على كفرهم وعنادهم؛ لأنهم عباده وخَلْقه وصَنْعته، فما أرحمه سبحانه حتى بمَنْ كفر به!
لذلك قال رب العزة في الحديث القدسي: «قالت الأرض: يا رب إئذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت السماء: يا رب إئذن لي أن أسقط كِسَفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال: يا رب إئذن لي أن أَخِرَّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار: يا رب إئذن لي أن أُغرِقَ ابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك. فقال تعالى: دعوني وما خلقت، لو خلقتموهم لرحمتموهم، فإنهم عبادي، فإنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم».
لقد غفر لهم الحق سبحانه أن يعبدوه غيره، وأن يؤذوا النبوة، وأنْ يقفوا في وجه الدعوة، غفر لهم لأنه ربٌّ، وما دام رباً فهو
وكفور: صيغة مبالغة من الكفر، أي: كثير الكفر للنعمة، ولَيْتَه كفر بنعمة الخلق فقال: إنه أتى هكذا من فعل الطبيعة، إنما كفر بنعمة ملموسة مشاهدة عاش مأزقها، وقاسى خطرها، ثم إذا نجَّاه الله أعرض وتمرَّد، وهذا من طبيعة الإنسان.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً... ﴾.
يقول تعالى: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر..﴾ [الإسراء: ٦٨]
كما قال تعالى في شأن قارون: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض..﴾ [القصص: ٨١] ولستم ببعدين عن هذا إنْ أراده الله لكم، وإنْ كنا نقول «البر أمان» فهذا فيما بيننا وبين بعضنا، أما إنْ جاء أمر الله فلن يمنعنا منه مانع.
أي: لا تجدوا مَنْ ينصركم، أو يدفع عنكم. إذن: لا تظنوا أن البر أمان لا خطر فيه.. لا، بل خطري موجود غير بعيد منكم، سواء أكنتم في البحر أو في البر.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى... ﴾.
وقوله تعالى: ﴿فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الريح..﴾ [الإسراء: ٦٩]
القاصف: هو الذي يقصف بعنف وشدة، ولا يكون إلا في اليابس ﴿فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ... ﴾ [الإسراء: ٦٩] أي: بسبب كفركم بنعمة الله، وجحودكم لفضله، فقد نجاكم في البحر فأعرضتم وتمردتم، في حين كان عليكم أن تعترفوا لله بالجميل، وتُقِرُّوا له بالفضل.
عندنا تابع وتبيع، التابع: هو الذي يتبعك لعمل شيء فيك، أما التبيع: فهو الذي يُوالِي تتبعك، ويبحث عنك لأَخْذ ثأره منك. فالمعنى: إنْ فعلنا بكم هذه الأفعال فلن تجدوا لكم تبيعاً يأخذ بثأركم أو ينتقم لكم، إذن: لا أملَ لكم في ناصر ينصركم، أو مدافع يحميكم.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: أنا لا أخاف ردَّ الفعل منكم، والإنسان يُحجم عن الفعل مخافةَ ردِّ الفعل، ويجلس يفكر طويلاً: إذا ضربتُ فلاناً فسيأتي أهله ويفعلون بي كذا وكذا، أما الحق سبحانه وتعالى فلا أحدَ يستطيع ردّاً على انتقامه أو عذابه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر... ﴾.
إذن: فكل ما في الوجود مُسخَّر لكم من قبل أنْ تُوجَدوا؛ لأن خلق الله تعالى إما خادم وإما مخدوم، وأنت أيُّها الإنسان مخدوم من
وقال تعالى: ﴿فالمدبرات أَمْراً﴾ [النازعات: ٥]
فالكون كله يدور من أجلك وفي خدمتك، يعطيك عطاءً دائماً لا ينقطع دون سَعْي منك، لذلك نقول: كان من الواجب على العقل المجرد أنْ يقفَ وقفه تأمُّل وتفكُّر؛ ليصل إلى حَلٍّ للغز الكون، وليهتدي إلى أن له خالقاً مُبْدعاً، يكفي أن أنظر إلى آيات الله التي تخدمني، وليس له قدرة عليها، وليست تحت سيطرتي، فالشمس والقمر والنجوم والأرض والهواء والماء والمطر والسحاب كلها تعطيني وتُمدّني دون قدرة لي عليها، أليس من الواجب عليك عدلاً أن تقول: مَنِ الذي أعدّ لي كلَّ هذه الأشياء التي ما ادَّعاهَا أحد لنفسه؟
فإذا ما صاح صائح منك أيُّها الإنسان وقال: أنا رسول من الرب الذي خلق لكم كل هذه المخلوقات، كان يجب عليكم أنْ تُرهِفُوا له السمع لتسمعوا ما جاء به؛ لأنه سوف يحلُّ لكم هذا اللغز الذي حيّركم.
وسبق أنْ ضربنا مثلاً لذلك بالرجل الذي انقطعتْ به السُّبل في الصحراء حتى أشرف على الهلاك، فإذا هو بمائدة مُعدَّة بأطايب الطعام والشراب، أليس حَرياً به قبل أنْ تمتد يده إليها أنْ يفكر كيف أتتْه؟
ولقد اختلف العلماء في بيان أَوْجُه التكريم في الإنسان، فمنهم مَنْ قال: كُرِّمَ بالعقل، وآخر قال: كُرِّمَ بالتمييز، وآخر قال: كُرِّمَ بالاختيار، ومنهم مَنْ قال: كُرِّمَ الإنسان بأنه يسير مرفوع القامة لا منحنياً إلى الأرض كالبهائم، ومنهم مَنْ يرى أنه كُرِّمَ بشكل الأصابع وتناسقها في شكل بديع يسمح لها بالحركة السلسة في تناول الأشياء، ومنهم مَنْ يرى أنه كُرِّم بأن يأكلَ بيده لا بفمه كالحيوان. وهكذا كان لكل واحد منهم مَلْحظ في التكريم.
ولنا في مسألة التكريم هذه ملحظ كنت أودُّ أنْ يلتفت إليه العلماء، أَلاَ وهو: أن الحق سبحانه خلق الكون كله بكلمة (كُنْ) إلا آدم، فقد خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، قال تعالى: ﴿ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥]
وقال: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٢٩]
فقمة الفضل والتكريم أن خلق الله تعالى أبنا آدم بيده، بدليل أن الله جعلها حيثية له.
ثم يُفصّل هذا الإجمال، فتُنادى كل جماعة بمَنْ بلَّغهم وهداهم ودَلَّهم ليُغري الناس بنقل الفضل العلمي من أنفسهم إلى غيرهم.
وقال بعضهم ﴿بِإِمَامِهِمْ﴾ أي: بأمهاتهم، وفي دعاء الناس بأمهاتهم في هذا الموقف تكريم لعيسى عليه السلام أولاً، وسَتْر على
ثم يقول تعالى: ﴿فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فأولئك يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ [الإسراء: ٧١]
فكوْنه أخذ كتابه بيمينه، فهذه بشارة الخير وبداية السلامة، فإذا به يسارع إلى قراءته، بل ويتباهى به بين الناس قائلاً: ﴿هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ﴾ [الحاقة: ١٩] إنه مسرور بعمله الصالح الذي يحب أنْ يطلع عليه الناس، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ [الإسراء: ٧١]
الظلم أنْ تأخذ من خير غيرك مما ليس عندك، إذن: فعندك نقص في شيء تريد أنْ تحصل عليه ظلماً، إذن: فماذا ينقص الحق سبحانه وتعالى حتى يظلم الخَلْق؟! إن الخلق يتصفون بالظلم؛ لأن الإنسان عادةً لا يرضى بما قسم الله له؛ لذلك يشعر بالنقص فيظلم غيره، أما الله عَزَّ وَجَلَّ فهو الغني عن الخَلْق، فكيف يظلمهم؟ وهم جميعاً بما يملكون هِبة منه سبحانه.
ومعنى ﴿فَتِيلاًْ﴾ عادةً يضرب الحق سبحانه وتعالى الأمثال في القرآن بالمألوف عند العرب وفي بيئتهم، ومن مألوفات العرب التمر، وهو غذاؤهم المفضّل والعَلف لماشيتهم، ومن التمر أخذ القرآن النقير والقطمير والفتيل، وهي ثلاثة أشياء تجدها في نواة الثمرة، وقد استخدمها القرآن في تمثيل الشيء الضئيل القليل.
فالنقير: هو تجويف صغير في ظهر النواة مثل النقطة.
والفتيل: هو غلالة رقيقة تشبه الخيط في بطن النواة.
فمعنى: ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ [الإسراء: ٧١] أي: أنه سبحانه وتعالى لا يظلم الناس أبداً، فهو سبحانه مُنزَّه عن الظلم مهما تناهى في الصِّغَر.
وفي مقابل مَنْ أوتي كتابه بيمينه لم تذكر الآية مَنْ أُوتي كتابه بشماله، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٥]
وفي آية أخرى قال: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ﴾ [الانشقاق: ١٠]
أما هنا فقال الحق سبحانه: ﴿وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى... ﴾.
فكأن الحق سبحانه قال: إن مَنْ أُوتِي كتابه بيمينه وقرأه وتباهى به لم يكُنْ أعمى في دنياه، بل كان بصيراً واعياً، فاهتدى إلى منهج الله وسار عليه، فكانت هذه نهايته وهذا جزاءه.
وسبق أن قلنا: إن الإنسان لكي يسير في رحلة الحياة على هدى لا بُدَّ له من بصر يرى به المرائي المادية، حتى لا يصطدم بأقوى منه فيتحطم أو بأضعف منه فيحطمه، والبصر للمؤمن والكافر من عطاء الربوبية للإنسان. لكن إلى جانب البصر هناك عطاء آخر هو ثمرة من ثمار عطاء الألوهية الذي لا يكون إلا للمؤمن، ألا وهو البصيرة، بصيرة القيم التي يكتسبها الإنسان من منهج الله الذي آمن به وسار على هَدْيه.
وقوله: ﴿فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلا﴾ [الإسراء: ٧٢]
إنْ كان عماه في الدنيا عمى بصيرة، فَعَماه في الآخرة عمى بصر؛ لأن البصيرة مطلوبة منه في الدنيا فقط؛ لأن بها سيُعرف الخير من الشر، وعليها يترتب العمل، وليست الآخرة مجال عمل، إذن: العمى في الآخرة عمى البصر، كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى﴾ [طه: ١٢٣ - ١٢٤]
وقال عنهم في آية أخرى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّا..﴾ [الإسراء: ٩٧]
وقوله تعالى: ﴿وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا..﴾ [الكهف: ٥٣]
وللجمع بين هذه الآيات وللتوفيق بينها نقول: للكفار يوم القيامة في مجال الرؤية البصرية حالتان: الأولى عند القيام وهَوْل المحشر يكونون عُمْياً وبُكْماً وصُمّاً لتزداد حَيْرتهم ويشتد بهم الفزع حيث هم في هذا الكرب الشديد، ولكن لا يعرف ما يحدث ولا أين المهرب، ولا يستمعون من أحد كلمة، وهكذا هم في كَرْب وحَيْرة لا يدرون شيئاً. وهذه حالة العمي البصري عندهم.
أما الحالة الثانية وهي الرؤية، فتكون عندما يتجلى الحق تبارك وتعالى لأهل الموقف ويكشف الغطاء عن نفسه سبحانه، فهنا يصير الكافر حَادّ البصر، ليرى مكانه من النار.
ولا بُدَّ لنا هنا أن نلحظَ أن ألفاظ اللغة قد يكون اللفظ واحداً ولكن يختلف السياق، ففي قوله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٢]
فلفظ ﴿أعمى﴾ واحد، لكن في الآخرة قال ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ إذن: لا بُدَّ أن عمى الدنيا أقلّ من عمى الآخرة، كما تقول: هذا خير. فمقابل خير: شر. أما لو قلت: هذا خَيْر من هذا فقد فضَّلتَ الأول في الخيرية عن الثاني، إذن: كلمة خير إما أنْ تأتي وَصْفاً، وإما أن تأتي تفضيلاً.
فالمراد أن المؤمن القوي أكثر في الخيرية. إذن: فكلمة: ﴿فَهُوَ فِي الآخرة أعمى..﴾ [الإسراء: ٧٢] ليست وَصْفاً، وإنما تفضيل لعمى الآخرة على عمى الدنيا، أي أنه في الآخرة أشدّ عمىً.
وقوله تعالى: ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٢] ومعلوم أنه كان ضالاً في الدنيا، فكيف يكون أضلَّ في الآخرة؟
قالوا: لأن ضلاله في الدنيا كان يمكن تداركه بالرجوع إلى المنهج والعودة إلى الطريق السَّويّ، أما في الآخرة فضلاله لا يمكن تداركه، فقد انتهى وقت الاختيار، إذن: فضلالهُ في الآخرة أشدّ وأعظمُ من ضلاله في الدنيا.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ... ﴾.
ومعنى ﴿كَادُواْ﴾ أي قاربوا، والمقاربة غير الفعل، فالمقاربة مشروع فعل وتخطيط له، لكنه لم يحدث، إنهم قاربوا أنْ يفتنوك عن الذي أُنزِل إليك لكن لم يحدث؛ لأن محاولاتهم كانت من بعيد، فهي تحوي حول فتنتك عن الدين، كما قالوا مثلاً: نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة.
ومعنى: ﴿لَيَفْتِنُونَكَ﴾ لَيُحوّلونك ويَصْرِفونك عما أنزل الله إليك، لماذا؟ ﴿لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ..﴾ [الإسراء: ٧٣] كما حكى القرآن عنهم في آية أخرى: ﴿ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ..﴾ [يونس: ١٥]
فيكون الجواب من الحق سبحانه: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [يونس: ١٥]
وقال تعالى: ﴿قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: ١٦]
ونلاحظ في مثل هذا الموقف أن الحق سبحانه يتحمل العنت عن
فلا تحزن يا محمد، فأنت مُصَدَّق عندهم، لكن المسألة عندي أنا، وهكذا يتحمل الحق سبحانه الموقف عن رسوله حتى لا يحمل القوم ضغينة لرسول الله.
ثم يقول تعالى: ﴿وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٣]
الخليل: هو المخالّ الذي بينك وبينه حُبٌّ ومودّة، بحيث يتخلل كل منكما الآخر ويتغلغل فيه، ومنه قوله تعالى في إبراهيم: ﴿واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ [النساء: ١٢٥]
ومنه قول الشاعر:
وَلَمَّا التقيْنَا قَرَّبَ الشَّوْقُ جَهْدَهُ | خَليليْنِ ذَابَا لَوْعَةً وَعِتَابَا |
كأنَّ خَليِلاً فِي خِلاَلِ خَليِلِه | تَسَرَّبَ أثناءَ العِنَاقِ وَغَابَا |
فالمعنى: لو أنك تنازلتَ عن المنهج الذي جاءك من الله لَصِرْتَ خليلاً لهم، كما كنت خليلاً لهم من قبل، وكانوا يحبونك ويقولون عنك «الصادق الأمين». إذن: الذي جعلهم في حالة عداء لك هو منهج الله جئتَ به، فلو تنازلتَ عنه أو تهاونت فيه فسوف يتخذونك خليلاً، فلا تكُنْ خليلاً لهم بل خليلاً لربك الذي أرسلك.
ويخاطب الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيقول:
فإنْ دخلت (لولا) على الجملة الفعلية أفادتْ الحثَّ والحضَّ، كما في قوله تعالى: ﴿لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ..﴾ [النور: ١٣]
و (لولا) في الآية دخلتْ على جملة اسمية؛ لأن (أن) بعدها مصدرية، فالمعنى: لولا تثبتنا لك لقاربتَ أن تركنَ إليهم شيئاً قليلاً.
والمتأمل في هذه الآية يجدها تحتاط لرسول الله عدة احتياطات، فلم تقُلْ: لولا تثبتنا لك لَركنتَ إليهم، لا، بل لَقاربتَ أنْ تركنَ فمنعتْ مجرد المقاربة، أما الركون فهو أمر بعيد وممنوع نهائياً وغير مُتصوّر من رسول الله، ومع ذلك أكّد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله: ﴿شَيْئاً قَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٤] أي: ركوناً قليلاً.
مما يدلُّ على أن طبيعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى دون الوحي من الله طبيعة سليمة بفطرتها، فلو تصوَّرنا عدم التثبيت له من الله ماذا كان يحدث منه؟ يحدث مجرد (كاد) أو (قَرُب) أنْ يركنَ إليهم شيئاً قليلاً، وقلنا: إن المقارنة تعني مشروعَ فِعْل، لكنه لم يحدث، مِمّا يدلُّ على أن لرسول الله ذاتية مستقلة.
ومعنى ﴿ثَبَّتْنَاكَ..﴾ [الإسراء: ٧٤] التثبيت هو منع المثبَّت أنْ يتأرجح، لذلك نقول للمتحرك: اثبت.
ومن الركون قوله تعالى عن لوط عليه السلام مع قومه: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود: ٨٠] أي: أحتمي به وألجأ إليه.
والحق سبحانه في هذه الآيات يريد أنْ يستلَّ السخيمةَ على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قلوب أعدائه؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان حريصاً على هدايتهم وتأليف قلوبهم، وقد كان يشقُّ على نفسه ويُحمّلها ما لا يطيق في سبيل هذه الغاية، ومن ذلك ما حدث من تَرْكه عبد الله بن أم مكتوم الذي جاءه سائلاً، وانصرافه عنه إلى صناديد قريش؛ لذلك عتب عليه ربه تبارك وتعالى لأنه شقَّ على نفسه.
وكأن الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يقول: يا قوم إنْ لم يوافقكم محمد على ما كنتم تريدون منه الانصراف عَمَّا أُنزِل إليه من ربه، فاعذروه؛ لأن الأمر عندي والتثبيت مني، ولا ذنب لمحمد فيما خالفكم فيه، كما لو كان عندك خادم مثلاً ارتكب خطأ ما، فأردت أنْ تتحمل عنه المسئولية، فقلت: أنا الذي كلفتُه بهذا وأمرتُه به، فالأمر عندي وليس للخادم ذنب فيما فعل.
ومعنى ﴿ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات..﴾ [الإسراء: ٧٥] الضعْف: مضاعفة الشيء مرة أخرى. أي: قَدْر الشيء مرتين، ولا يُذاق في الحياة إلا العذاب، فالمراد: لأذقناك ضِعْف عذاب الحياة وضِعْف عذاب الممات، لكن لماذا يُضَاعَف العذاب في حَقِّ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
قالوا: لأنه أُسْوة كبيرة وقُدْوة يقتدي الناس بها، ويستحيل في حقِّه هذا الفعل، ولا يتصور منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكن على اعتبار أن ذلك حدث منه فسوف يُضاعَف له العذاب، كما قال تعالى في نساء النبي: ﴿يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٠]
ذلك لأنهن بيت النبوة وأمهات المؤمنين، وهنَّ أُسْوة لغيرهنّ من نساء المسلمين، وكلما ارتفع مقام الإنسان في مركز الدعوة إلى الله وجب عليه أنْ يتبرأ عن الشبهة؛ لأنه سيكون أُسْوة فعل، فإنْ ضَلَّ فلن يضل في ذاته فقط، بل سيضل معه غيره، ومن هنا شدَّد الله العقوبة وضاعفها للنبي ولزوجاته.
وقد اختار الحق سبحانه لفظ ﴿لأذَقْنَاكَ﴾ ؛ لأن الإذاقة من
ثم يقول تعالى: ﴿ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾ [الإسراء: ٧٥]
أي: لا تجد مدافعاً يدافع عنك؛ أو ناصراً ينصرك؛ لأن مددَك مني وحدي، فكيف يكون لك ناصر من دوني؟
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا﴾.
وقوله تعالى: ﴿لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض..﴾ [الإسراء: ٧٦] من استفزَّه أي: طلب منه النهوض والخِفّة إلى الفِعْل، كما تقول لولدك المتثاقل: (فِز) أي: قُمْ وانهض، والمراد: يستحثونك على الخروج ﴿مِنَ الأرض﴾ من مكة بإيذائهم لك، وعَنَتهم معك ليحملوك على الخروج، ويُكرِّهوك في الإقامة بها.
ثم يقول تعالى: ﴿وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٦]
أي: لو أخرجوك من مكة فلن يلبثوا فيها بعدك إلا قليلاً، وقد حدث فعلاً، فبعد خروجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة بعام جاءت بدر، فقُتِل سبعون من صناديد قريش، وأُسِرَ سبعون، وبعد أن خرج الرسول من مكة لم يتمتعوا فيها بالنعيم ولا بالسيادة التي كانوا يَرجُونها بعد خروجه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا..﴾.
فكأن عليهم أنْ يأخذوا عِبْرة من الرسل السابقين، وبما حلَّ بأعدائهم من عذاب الله، لقد أرسل الله الرسل فكُذِّبوا وعُودوا واضطهِدُوا، ومع ذلك نصرهم الله، وجعل لهم الغَلبة.
والسُّنة: هي العادة والطريقة التي لا تتخلَّف ولا تتبدَّل؛ لذلك يقول بعدها: ﴿وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٧] ؛ لأن السُّنة لا تتحوّل ولا تتبدّل إلا بالأقوى الذي يأتي ليُغير السنة بأخرى من عنده، فإذا كانت السُّنة من الله القوي بل الأقوى، فهو سبحانه وحده
وبعد أن تكلَّم الحق سبحانه عن الإلهيات إيماناً بها، وعن النبوات تصديقاً لها، وعن القيامة ووجوب الإيمان بها وبما يحدث فيها من تناول الكتب، أراد سبحانه أنْ يأتي لنا بثمرة هذا المنهج وحصيلته النهائية، وهي أنْ يستقيمَ لنا منهج الحياة وتنضبط حركتنا فيها.
هذا المنهج الإلهي جاء في صورة أحكام، ولهذه الأحكام أركان أساسية جمعها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله: «بُنِيَ الإسلامُ على خَمْس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً».
إذن: هذه الأركان التي بُنِي عليها الإسلام، لكن ما حظ المسلم من هذه الأركان؟ لو تأملت لوجدتنَا نشترك كلنا في شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وفي الصلاة لأنها لا تسقط عن أحد لأيّ سبب، وهي المكرَّرة في اليوم خمس مرات.
أما باقي الأركان وهي: الزكاة، والصوم، والحج فقد لا تنطبق شروطها على الجميع، فالفقير لا تُفرض عليه زكاة أو حج، والمريض لا يُفرض عليه الصوم. إذن: عندنا أركان للإسلام وأركان للمسلم التي هي: الشهادتان والصلاة، وقد يدخل فيها الزكاة أو الصوم أو الحج، فإذا أتى المسلم بجميع الأركان فقد اتفقتْ أركان الإسلام مع أركان المسلم.
ثم قال تعالى: ﴿أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ اليل... ﴾.
كما أنها تشتمل على الصوم؛ لأنك تصوم في أثناء الصلاة فتمتنع عن شهوتَيْ البطن والفرج، وكذلك عن أيِّ فعل غير أفعال الصلاة، وعن الكلام في غير ألفاظ الصلاة. إذن: في الصلاة صيام بالمعنى الأوسع للصوم.
وكذلك في الصلاة حج؛ لأنك تتوجّه فيها إلى كعبة الله، وتستحضرها في ذِهْنك وأمام ناظريْكَ.
لذلك استحقت الصلاة أن تكون عماد الدين، ومَنْ أقامها فقد أقام الدين، ومَنْ هدمها فقد هدم الدين، ومن هنا جاءت الصلاة في أول هذه الأحكام، فقال تعالى: ﴿أَقِمِ الصلاة..﴾ [الإسراء: ٧٨] أي: أدِّها أداءً كاملاً في أوقاتها.
والصلاة لها مَيْزة عن كل أركان الإسلام؛ لأن كل تكليفات الإسلام جاءت بواسطة الوحي لرسول الله إلا الصلاة، فقد فُرِضَتْ بالمباشرة مما يدلُّ على أهميتها، وقد مثَّلنَا لذلك ولله المثل الأعلى بالرئيس الذي يتصل بمرؤوسه تليفونياً ليأمره بشيء، فإذا كان هذا الشيء من الأهمية بمكان استدعاه إليه وأفهمه ما يريد.
وهكذا كانت الصلاة، فقد فُرِضَتْ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى أمته بالمباشرة لما لها من أهمية بين فراض الدين، ثم تولى جبريل عليه السلام تعليم رسول الله الصلاة، وعَلَّمها رسول الله للناس، وقال: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي».
وقوله تعالى: ﴿لِدُلُوكِ الشمس..﴾ [الإسراء: ٧٨]
الحق سبحانه يريد أن يُبيِّن لنا مواقيت الصلاة. و (الدلوك) معناه: الزوال من حركة إلى حركة، ومنها قولنا: فلان (المدلكاتي)
والمراد بدلوك الشمس: مَيْلها عن وسط السماء إلى ناحية الغرب، والإنسان يرى الأفق الواسع إذا نظر إلى السماء، فيراها على شكل قوس ممتدّ وعلى حَسْب نظره وقوته يرى الأفق، فإنْ كان نظره قوياً رأى الأُفُقْ واسعاً، وإنْ كان نظره ضعيفاً رأى الأفق ضيّقاً؛ لذلك يقولون لقيل التفكير: ضيِّق الأفق.
وأنت حين تقف في مكانك وتنظر إلى السماء تراها على شكل نصف دائرة، وأنت مركزها، وساعةَ أنْ ترى الشمس عمودية عليك، فهذا وقت الزوال، فإذا ما انحرفتْ الشمس ناحية المغرب يُقَال: دلكت الشمس. أي: مالت ناحية المغرب، وهذا هو وقت الظهر.
والمتأمل في فَرْض الصلاة على رسول الله يجد أن الظُّهْر هو أول وقت صَلاَّه رسول الله؛ لأن الصلاة فُرِضَتْ عليه في السماء في رحلة المعراج، وكانت بليل، فلما عاد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يستقبل الظهر، فكانت هي الصلاة الأولى.
ثم يقول تعالى: ﴿إلى غَسَقِ اليل..﴾ [الإسراء: ٧٨] أي: أقِم الصلاة عند دُلوك الشمس إلى متى؟ إلى غَسَق الليل أي: ظلمته، وفي الفترة من دُلوك الشمس إلى ظُلمة الليل تقع صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ولا يبقى إلى صلاة الصبح، فقال عنها سبحانه وتعالى: ﴿وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً﴾ [الإسراء: ٧٨] ونتساءل هنا: لماذا ذكر قرآن الفجر ولم يَقُلْ صلاة؟
قالوا: لأن القرآن في هذا الوقت حيث سكون الكون وصفاء النفوس، فتتلقى القرآن نديّاً طريّاً وتستقبله استقبالاً واعياً قبل أن تنشغل بأمور الحياة ﴿إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً﴾ [الإسراء: ٧٨]
والحق سبحانه وتعالى جعل في صلاة الجماعة استطراقاً للعبودية، ففي صلاة الجماعة يستوي كل الخَلْق حيث يخلعون وجاهتهم، ويخلعون أقدارهم على أبواب المسجد، كما يخلعون أحذيتهم، فالرئيس بجانب المرؤوس والوزير بجانب الخفير.
لذلك نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُوطِّن الإنسان لنفسه مكاناً في المسجد، يجلس فيه باستمرار؛ لأن الأصل أنْ يجلس المصلي حيث ينتهي به المجلس، فيجلس الناس بأولوية الحضور كل حَسْب مكانه ومبادرته للصلاة، فلا يتخطى الرقاب، ولا يُفرق بين اثنين.
ونرى بعض المصلين يسارع إلى الصفِّ الأول مثلاً، ويضع سجادته ليحجزَ بها مكاناً، ثم ينصرف لحَاجته، فإذا ما تأخر عن الصلاة أتى ليتخطّى رقاب الناس ليصل إلى مكانه، فإذا بالناس يضيِقون من هذا التصرُّف، ويُنحُّون سجادته جانباً ويجلسون مكانها، إنه تصرُّف لا يليق ببيوت الله التي تُسوِّي بين خَلْق الله جميعاً،
ونرى كذلك استطراق العبودية واضحاً في مناسك الحج، حيث يأتي أحد العظماء والوجهاء فتراه عند الملتزم خاضعاً ذليلاً باكياً متضرعاً، وهو مَنْ هو في دُنْيا الناس.
إذن: فوقت الفجر وقت مبارك مشهود، تشهده ملائكة الليل، وهم غير مُكلَّفين بالصلاة، فالأفضل من مَشْهدية الملائكة مَشْهدية المصلِّين الذين كلَّفهم الله بالصلاة، وجعلهم ينتفعون بها.
ومن هنا كانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، كما جاء في الحديث النبوي الشريف.
ويجب أن نلتفت إلى أن الحق سبحانه ربط الصلوات الخمس بالوقت، وبآية كونية تدلُّ عليه هي الشمس، فكيف العمل إذا غابت، أو حُجِبَتْ عنَّا بغيْم أو نحوه؟
إذن: على الإنسان المؤمن أن يجتهد ويُعمِلَ تفكيره في إيجاد شيء يضبط به وقته، وفعلاً تفتقتْ القرائح عن آلات ضبط الوقت الموجودة الآن، والتي تُيسِّر كثيراً على الناس؛ لذلك كانت الطموحات الإنسانية لأشياء تخدم الدين وتوضح معالمه أمراً واجباً على علماء المسلمين، على اعتبار أن مَا لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ... ﴾.
فهذه الخصوصية لرسول الله وإنْ كانت فَرْضاً عليه، إلا أنها ليست في قالب من حديد، بل له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مساحة من الحرية في هذه العبادة، المهم أن يقول لله تعالى جزءاً من الليل، لكن ما عِلَّة هذه الزيادة في حَقِّ رسول الله؟ العلة في قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ [المزمل: ٥]
وكأن التهجُّد ليلاً، والوقوف بين يدي الله في هذا الوقت سيعطي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القوة والطاقة اللازمة للقيام بهذه المسئولية الملقاة على عاتقه، ألاَ وهي مسئولية حَمْل المنهج وتبليغه للناس.
وفي الحديث الشريف «أن رسول الله كان كلما حزبه أمر قام إلى الصلاة»، ومعنى حَزَبه أَمْر: أي: ضاقت أسبابه عنه، ولم يَعُد له فيه منفذ، فإنْ ضاقت عليه الأسباب فليس أمامه إلا المسبِّب سبحانه يلجأ إليه ويُهْرع إلى نجدته ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾ [المزمل: ٦]
لأنك في الوقت الذي ينام فيه الناس ويخلدون إلى الراحة وتتثاقل رؤوسهم عن العبادة، تقوم بين يدي ربك مناجياً مُتضرِّعاً، فتتنزل عليك من الرحمات والفيوضات، فَمَنْ قام من الناس في هذا الوقت
إذن: في قيام الليل قوة إيمانية وطاقة روحية، ولما كانت مهمة الرسول فوق مهمة الخَلْق كان حظّه من قيام الليل أزيد من حظهم، فأعباء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كثيرة، والعِبْءُ الثقيل يحتاج الاتصال بالحق الأحد القيوم، حتى يستعين بلقاء ربه على قضاء مصالحه.
ومن العجيب أن ينصرف المسلمون عن هذه السُّنة، ويتغافلون عنها، فإذا حزبهم أمر لا يُهْرَعون إلى الصلاة، بل يتعللون، يقول أحدهم: أنا مشغول. وهل شغل الدنيا مبرر للتهاون في هذه الفريضة؟ ومَنْ يدريك لعلك بالصلاة تُفتح لك الأبواب، وتقضى في ساعة ما لا تقضيه في عدة أيام.
ونقول لهؤلاء الذين يتهاونون في الصلاة وتشغلهم الدنيا عنها، فإنْ صَلُّوا صَلُّوا قضاءً، فإن سألتَهم قالوا: المشاغل كثيرة والوقت لا يكفي، فهل إذا أراد أحدهم الذهاب لقضاء حاجته، هل سيجد وقتاً لهذا؟ إنه لا شكَّ واجدٌ الوقت لمثل هذا الأمر، حتى وإنْ تكالبتْ عليه مشاغل الدنيا، فلماذا الصلاة هي التي لا تجد لها وقتاً؟!
وقوله تعالى: ﴿نَافِلَةً لَّكَ.
.﴾ [الإسراء: ٧٩]
النافلة هي الزيادة عما فرض على الجميع (لك) أي: خاصة بك دون غيرك، وهذا هو مقام الإحسان الذي قال الله عنه: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ [الذاريات: ١٥ - ١٦]
وهذا المقام ليس فرضاً عليك، فلك أن تصلي العشاء وتنام حتى صلاة الفجر، لكن إنْ أردت أن تتأسَّى برسول الله وتتشبّه به فادخُلْ في مقام الإحسان على قَدْر استطاعتك.
ثم يقول تعالى: ﴿عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾ [الإسراء: ٧٩]
تحدثتْ الآية في أولها عن التكليف، وهذا هو الجزاء، و ﴿عسى﴾ تدل على رجاء حدوث الفعل، وفَرْق بين التمني والرجاء، التمني: أن تعلن أنك تحب شيئاً لكنه غير ممكن الحدوث أو مستحيل، ومن ذلك قول الشاعر:
لَيْتَ الكَواكِبَ تَدْنُو ليِ فَأنْظِمُهَا... فالشاعر يتمنى لو أصبحت الكواكب بين يديه فينظمها قصائد مدح فيمن يمدحه، وهذا أمر مستحيل الحدوث.
وقوله:
أَلاَ لَيْتَ الشَّباب يعُودُ يَوْماً... فَأُخبرُه بِمَا فَعَلَ المشيِبُ
أما الرجاء فهو طلب فعل ممكن الحدوث.
ويقع تحت الطلب أشياء متعددة؛ فإنْ طلب المتكلم من المخاطب شيئاً غير ممكن الحدوث فهو تمنٍّ، وإن طلب شيئاً ممكن الحدوث فهو ترجٍّ، وإنْ طلب صورة الشيء لا حقيقته فهو استفهام كما تقول: أين زيد؟ وفَرْقٌ بين طلب الحقيقة وطلب الصورة.
إذن: ﴿عسى﴾ تدل على الرجاء، وهو يختلف باختلاف المرجو منه، فإنْ رجوت من فلان فقد يعطيك أو يخذلك، فإنْ قُلْتَ: عسى أنْ أعطيك فقد قربت الرجاء؛ لأنني أرجو من نفسي، لكن الإنسان بطبعه صاحب أغيار، ويمكن أن تطرأ عليه ظروف فلا يَفِي بما وعد.
فإنْ قُلْت: عسى الله أن يعطيك، فهو أقوى الرجاء؛ لأنك رجوتَ مَنْ لا يُعجِزه شيء، ولا يتعاظمه شيء، ولا تتناوله الأغيار إذن: فالرجاء فيه مُحقَّق لاَ شَكَّ فيه.
والمقام المحمود، كلمة محمود: أي الذي يقع عليه الحمد، والحمد هنا مشاع فلم يَقُلْ: محمود مِمَّنْ؟ فهو محمود مِمَّنْ يمكن أن يتأتّى منه الحمد، محمود من الكل من لَدُنْ آدم، وحتى قيام الساعة.
والمراد بالمقام المحمود: هو مقام الشفاعة، حينما يقف الخَلْق في ساحة الحساب وهَوْل الموقف وشِدّته، حتى ليتمنى الناس الانصراف ولو أن النار، ساعتها تستشفع كُلُّ أمة بنبيها، فيردّها إلى أنْ يذهبوا إلى خاتم المرسلين وسيد الأنبياء، فيقول: أنا لها، أنا لها.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ... ﴾.
نقول: لا، لأن الدخول هو غاية الخروج، ولأن الخروج متروك والدخول مستقبل لك، إذن: الدخول هو الأهمّ فبدأ به. لذلك يقولون: إياك أنْ تخرجَ من أمر إلا إذا عرفتَ كيف تدخل.
ومعنى مخرجَ الصدق، ومدخل الصدق، أنك لا تدخل أو تخرج بدون هدف، فإنْ خرجتَ من مكان فليكُن مخرجك مخرج صدق، يعني: مطابقاً لواقع مهمتك، وإنْ دخلتَ مكاناً فليكُنْ دخولك مدخل صدق. أي: لهدف محدد تريد تحقيقه. فإن دخلتَ محلاً مثلاً فادخل
إذن: يكون دخولك لله وخروجك لله، وهكذا خرج رسول الله من مكة ودخل المدينة، فكان خروجه لله ودخوله لله، فخرج مُخْرجَ صِدْق، ودخل مُدخَل صدق، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما خرج من مكة إلا لما آذاه قومه واضطهدوه وحاربوا دعوته حتى لم تعُدْ التربة في مكة صالحة لنمو الدعوة، وما دخل المدينة إلا لما رأى النُّصْرة والمؤازرة من أهلها.
فالصدق أنْ يطابق الواقع والسلوك ما في نفسك، فلا يكُنْ لك قصور في نفسك، ولك حركة مخالفة لهذا القصد.
ثم يقول تعالى: ﴿واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً﴾ [الإسراء: ٨٠]
طلب النُّصْرة من الله تعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه أرسله بمنهج الحق، وسوف يصطدم هذا الحق بأهل الباطل والفساد الذين يحرصون على الباطل، وينتفعون بالفساد، وهؤلاء سوف يُعَادُون الدعوة، ويُجابِهونها؛ لذلك توجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى ربه تعالى الذي أرسله واستعان به على مواجهة أعدائه.
وقوله تعالى: ﴿سُلْطَاناً نَّصِيراً﴾ [الإسراء: ٨٠] السلطان: سبق أنْ أوضحنا أنه يُراد به إما حجة تُقنع، وإما سيف يَرْدَع، وهذا واضح في قَوْل الحق تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط﴾ [الحديد: ٢٥] أي: بالآيات الواضحات، وهذه أدوات الحجة والإقناع.
فالخيِّر من الناس يرتدع بقول الله وبقول الرسول ويستجيب، أما الشرير فلا تُجدي معه الحجة، بل لا بُدّ من رَدْعه بالقوة، فالأول إنْ تعرّض للحلف بالله حلف صادقاً، أما الآخر فإنْ تعرّض للحلف حلف كاذباً، ووجدها فُرْصة للنجاة، ولسان حاله يقول: أتاك الفرج.
وفي الأثر: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل... ﴾.
أي: جاء الحق واندحر الباطل، ولم يَعُدْ لديْه القوة التي يُبدِئ بها ويُعيد، فقد خَمدتْ قواه ولم يَبْقَ له صَوْلَة ولا كلمة.
وقوله تعالى: ﴿جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل..﴾ [الإسراء: ٨١]
إذن: جاء الحق ليس لاستعباد الناس، ولكن لراحتهم ورَفْع رؤوسهم. ومن الحق الذي أظل مكة بالفتح ما يُرْوَى أن واحداً دخل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الكعبة وأراد إيذاءه، وحينما وضع يده على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تبدَّل حاله وقال: فوالله لقد أقبلت عليه، وما في الأرض أبغض إليَّ منه، فحين وضعت يدي عنده فوالله ما في الأرض أحب إليَّ منه، وهكذا جاء الحق وزهق الباطل.
زَهُوق صيغة مبالغة، فالباطل نفسه سريعاً ما يذهب ويندثر، ومن العَجَب أن ترى الباطل نفسه من جنود الله؛ لأن الباطل لو لم يُؤلم الناس ويُزعجهم ما تشوَّقوا للحق وما مالوا إليه، فإذا ما لدغهم الباطل واكتَووْا بناره عرفوا الحق.
وقد ضرب لنا الحق سبحانه وتعالى مثلاً للحق وللباطل، فقال: ﴿أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال﴾ [الرعد: ١٧]
الحق سبحانه يُمثِّل للحق وللباطل بشيء حِسّيٍّ نراه حينما ينهمر المطر على قمم الجبال، فيسيل الماء على الأودية بين الجبال حاملاً معه صغار الحصى والرمال والقشِّ، وهذا هو الزَّبَد الذي يطفو على صفحة الماء ولا ينتفع الناس به، وهذا الماء مثالٌ للحق الذي ينفع الناس، والزَّبَد مثال للباطل الذي لا خَيْر فيه.
أو: يعطينا المثال في صورة أخرى: صورة الحداد أو الصائغ الذي يُوقِد النار على الذهب ليخرج منه ما علق به من شوائب.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ... ﴾.
وقد سبق أن أوضحنا أن الفعل قد يكون واحداً، لكن يختلف القابل للفعل، ويختلف الأثر من شخص لآخر، كما أن الماء الزلال يشربه الصحيح، فيجد له لذة وحلاوة ويشربه العليل فيجده مُرَّاً مائعاً، فالماء واحد لكن المنفعل للماء مختلف. كذلك أكل الدَّسم، فإنْ أكله الصحيح نفعه، وزاد في قوته ونشاطه، وإنْ أكله السقيم زاده سُقْماً وجَرَّ عليه علة فوق عِلّته.
وقد سبق أن أوضحنا في قصة إسلام الفاروق عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه لما تلقى القرآن بروح الكفر والعناد كَرهه ونَفَر منه، ولما تلقاه بروح العطف والرِّقّة واللين على أخته التي شجَّ وجهها أعجبه فآمن.
إذن: سلامة الطبع أو فساده لها أثر في تلقِّي القرآن والانفعال به. وما أشبه هذه المسألة بمسألة التفاؤل والتشاؤم، فلو عندك كوب ماءٍ قد مُلِئ نصفه، فالمتفائل يُلفِت نظره النصف المملوء، في حين أن المتشائم يُلفِت نظره النصف الفارع، فالأول يقول: نصف الكوب ممتلئ. والآخر يقول: نصف الكوب فارع، وكلاهما صادق لكن طبعهما مختلف.
وقد عالج القرآن مسألة التلقِّي هذه في قوله تعالى: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا
فالآية واحدة، لكن الطبع المستقل مختلف، فالمؤمن يستقبلها بمَلكاتٍ سليمة، فيزداد بها إيماناً، والكافر يستقبلها بملكَات فاسدة فيزدادَ بها كفراً، إذن: المشكلة في تلقّي الحقائق واستقبالها أن تكون ملكاتُ التلقي فاسدة.
ومن هنا نقول: إذا نظرتَ إلى الحق، فإياك أنْ تنظره وفي جوفك باطل تحرص عليه، لا بُدَّ أن تُخرِج ما عندك من الباطل أولاً، ثم قارن وفاضل بين الأمور.
وكذلك جاءت هذه المسألة في قول الله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٦ - ١٧]
وقولهم: ﴿مَاذَا قَالَ آنِفاً..﴾ [محمد: ١٦] دليل على عدم اهتمامهم بالقرآن، وأنه شيء لا يُؤْبَهُ له.
وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى..﴾ [فصلت: ٤٤]
ومثالٌ لسلامة التلقّي من حياتنا المعاصرة إرسال التلفاز مثلاً، فقد تستقبله أنت في بيتك فتجده واضحاً في حَلْقة من الحلقات أو برنامج من البرامج، فتتمتع بما شاهدت، ثم تقابل صديقاً فيشكو
إذن: قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ..﴾ [الإسراء: ٨٢] متوقف على سلامة الطبع، وسلامة الاستقبال، والفهم عن الله تعالى.
والشفاء: أن تعالج داءً موجوداً لتبرأ منه. والرحمة: أن تتخذ من أسباب الوقاية ما يضمن لك عدم معاودة المرض مرة أخرى، فالرحمة وقاية، والشفاء علاج.
لكن، هل شفاءٌ القرآن شفاءٌ معنويٌّ لأمراض القلوب وعِلَل النفوس، فيُخلِّص المسلم من القلق والحَيْرة والغَيْرة، ويجتثّ ما في نفسه من الغِلِّ والحقد، والحسد، إلى غير هذا من أمراض معنوية، أم هو شفاء للماديات، ولأمراض البدن أيضاً؟
والرأي الراجح بل المؤكد الذي لا شَكَّ فيه أن القرآن شفاء بالمعنى العام الشامل لهذه الكلمة، فهو شفاء للماديات كما هو شفاء للمعنويات، بدليل ما رُوِي عن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأنه خرج على رأس سرية وقد مَرُّوا بقوم، وطلبوا منهم الطعام، فأبَوْا إطعامهم، وحدث أنْ لُدِغ كبير القوم، واحتاجوا إلى مَنْ يداويه فطلبوا مَنْ يرقيه، فقالوا: لا نرقيه إلا بجُعْلٍ، وذلك لما رأوه من
ولما اتفقوا معهم على جُعل من الطعام والشياه قام أحدهم برقية اللديغ بسورة الفاتحة فبرئ، فأكلوا من الطعام وتركوا الشياه إلى أنْ عادوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وسألوه عن حِلِّ هذا الجُعْل فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ومَنْ أدراك أنها رقية» أي: أنها رُقْية يرقى بها المريض فيبرأ بإذن الله، ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كلوا منها، واجعلوا لي سهماً معكم».
فشفاء أمراض البدن شيء موجود في السُّنة، وليس عجيبة من العجائب؛ لأنك حين تقرأ كلام الله فاعلم أن المتكلم بهذا الكلام هو الحق سبحانه، وهو رَبّ كل شيء ومليكه، يتصرّف في كونه بما يشاء، وبكلمة (كُنْ) يفعل ما يريد، وليس ببعيد أنْ يُؤثّر كلام الله في المريض فيشفى.
ولما تناقش بعض المعترضين على هذه المسألة مع أحد العلماء، قالوا له: كيف يُشْفَى المريض بكلمة؟ هذا غير معقول، فقال العالم لصاحبه: اسكت أنت حمار!! فغضب الرجل، وهَمَّ بترك المكان وقد ثارت ثورته، فنظر إليه العالم وقال: انظر ماذا فعلتْ بك كلمة، فما بالُكَ بكلمة، المتكلّم بها الحق سبحانه وتعالى؟ ثم يقول تعالى: ﴿وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً﴾ [الإسراء: ٨٢] لأنهم بظُلْمهم واستقبالهم فُيوضات السماء بملَكَات سقيمة، وأجهزة متضاربة متعارضة، فلم ينتفعوا بالقرآن، ولم يستفيدوا برحمات الله.
ولكي نُوَضِّح هذه المسألة نُمثِّل لها ولله المثل الأعلى الوالد الذي يعطي للابن مصروفه كل شهر مثلاً، فترى الولد لا يلتفت إلى أبيه إلا أول كل شهر، حيث يأتي موعد ما تعوَّد عليه من مصروف، وتراه طوال الشهر منصرفاً عن أبيه لا يكاد يتذكره، أما إذا عوَّده على أنْ يُعطيه مصروفه كل يوم، فترى الولد في الصباح يتعرَّض لأبيه ويُظهِر نفسه أمامه ليُذكِّره بالمعلوم. فالولد حين أعرض عن أبيه وانصرف عنه، ما الذي دعاه إلى هذا التصرف؟
لأن الوالد أعطاه طاقة الاستغناء عنه طوال الشهر، فإنْ كان الابن بارّاً مؤمناً فإنه لا ينسى فَضْل والده الذي وَفَّر له طاقة الاستغناء هذه، فيُذكِر والده بالخير، ويحمل له هذا الجميل.
فإنْ كان هذا هو الحال مع الرب الأدنى فهو كذلك مع الربِّ الأعلى سبحانه، فيقول تعالى: ﴿وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ..﴾ [الإسراء: ٨٣]
وإذا شُغِل الإنسان بالنعمة عن المنعم، فكأنه يُخطّئ المنعم، كما قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى﴾ [العلق: ٦ - ٧]
فالاستغناء هنا ليس ذاتياً في الإنسان، بل هو استغناء موهوب، قد ينتهي في يوم من الأيام ويعود الإنسان من جديد يطلب النعمة من المنعِم سبحانه، يقول تعالى: ﴿إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى﴾ [العلق: ٨]
ثم يتحدث الحق عن صفة أخرى في الإنسان: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشر كَانَ يَئُوساً﴾ [الإسراء: ٨٣] وهذه صفة مذمومة في الإنسان الذي إذا ما تعرّض لشرٍّ أو مسَّه ضُرٌّ يقنط من رحمة الله، وكأن الحق سبحانه يخاطب عبده الذي يقنط: لا يليق بك أن تقنط إذا ضاقتْ بك الدنيا، وأنت مؤمن لا تعيش مع الأسباب وحدها إنما مع المسبِّب سبحانه، وما دُمْتَ في رحاب مُسبِّب الأسباب فلا تيأس ولا تقنط.
لذلك يقولون: «لا كَرْبَ وأنت ربٌّ»، فيجوز لك القنوط إن لم يكُنْ لك رَبٌّ يتولاَّك، أما والرب موجود فلا يليق بك، كيف ومَنْ له أب لا يُلقي لهموم الدنيا بالاً، ويستطيع أن يعتمد عليه في قضاء حاجاته، فما بالك بمَنْ له رَبٌّ يرعاه ويتولاَّه، ويستطيع أن يتوجه إليه، ويدعوه في كل وقت؟
والحق سبحانه حينما يُنبِّهنا إلى هذه المسألة يريد أنْ يُعطينا الأُسْوة به سبحانه وتعالى، يريد أن يقول للإنسان: لا تحزن إن
وسيدنا موسى عليه السلام حينما طلب من ربه تعالى أَلاَّ يقال فيه ما ليس فيه، قال له ربه: كيف، وأنا لم أفعل ذلك لنفسي؟! إنهم يفترون على الله ما ليس فيه، ويكفرون به سبحانه وينكرون إيجاده ونعمه، فَمنْ يغضب لقول الكافرين أو إيذائهم له بعد هذا؟
لكن، لماذا ييأس الإنسان ويقنط؟ لأنه في حال النعمة أعرض عن الله ونأى بجانبه: أي ابتعد عن ربه، لم يَعُدْ له مَنْ يدعوه ويلجأ إليه أن يُفرِّج عنه ضيق الدنيا.
إذن: لما أعرض في الأولى يَئِس في الثانية. والله تعالى يجيب مَنْ دعاه ولجأ إليه حال الضيق حتى إنْ كان كافراً، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ..﴾ [الإسراء: ٦٧]
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً﴾.
وما دام الأمر كذلك، فليعمل كل واحد على شاكلته، وحسب طبيعته، فإنْ أساء إليك إنسان سيئ الطبع فلا تقابله بسوء مثله، ولتعمل أنت على شاكلتك، ولتقابله بطبع طيّب؛ لذلك يقولون: لا تُكافئ مَنْ عصى الله فيك بأكثر من أنْ تطيع الله فيه. وبذلك يستقيم الميزان في المجتمع، ولا تتفاقم فيه أسباب الخلاف.
ثم يقول تعالى: ﴿فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٨٤] والربُّ: المتولّي للتربية، والمتولّي للتربية لا شكّ يعلم خبايا المربَّى، ويعلم أسراره ونواياه، كما قال تعالى: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ [الملك: ١٤]
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي... ﴾.
وقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٥]
فإنْ كان السؤال عن شيء لا يضر الجهل به، لفت القرآن أنظارهم إلى ناحية أخرى نافعة، كما في سؤالهم عن الأهِلّة: كيف يبدو الهلال صغيراً ثم يكبر ويكبر إلى أن يصير بدراً، ثم يأخذ في التناقص ليعود كما بدأ؟
فالحديث مع العرب الذين عاصروا نزول القرآن في هذه الأمور الكونية التي لم نعرفها إلا حديثاً أمر غير ضروري، وفوق مستوى فهمهم، ولا تتسع له عقولهم، ولا يترتب عليه حكم، ولا ينتج عن الجهل به ضرر، ولو أخبرهم القرآن في إجابة هذا السؤال بحقيقة دوران القمر بين الأرض والشمس وما يترتب على هذه الدورة الكونية من ليل ونهار، وهم أمة أمية غير مثقفة لاتهموا القرآن بالتخريف، ولربما انصرفوا عن أصل الكتاب كله.
لكن يُحوِّلهم القرآن، ويُلفت أنظارهم إلى ما يمكن الانتفاع به من الأهِلَّة: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج..﴾ [البقرة: ١٨٩]
وقد يأتي السؤال، ويُرَاد به اختبار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومن ذلك ما حدث من اتفاق كفار مكة واليهود حيث قالوا لهم: اسألوه عن
ولا شَكَّ أنه سؤال خبيث؛ لأن الإنسان عامة يحب أن يظهر في مظهر العالم، ولا يحب أن يعجز أمام محاوره فاستغلوا هذه العاطفة، فالرسول لن يُصَغِّر نفسه أمام سائليه من أهل مكة، وسوف يحاول الإجابة عن سؤالهم.
ولكن خَيَّب الله سَعْيهم، فكانت الإجابة: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٨٥]
فعندما سمع أهل الكتاب هذه الإجابة آمن كثيرون منهم؛ لأنها طابقت ما قالته كتبهم عن الروح، وأنها من عند الله.
و ﴿الروح﴾ لها إطلاقات مُتعدِّدة، منها: الرُّوح التي تمدُّ الجسم بالحياة إن اتصلت به، كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٢٩]
فإذا ما فارقتْ هذه الروح الجسد فقد فارق الحياة، وتحوَّل إلى جثة هامدة، وفيها يقول تعالى: ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم﴾ [الواقعة: ٨٣]
وقد تأتي الروح لتدل على أمين الوحي جبريل عليه السلام، كما في قوله تعالى:
﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين﴾ [الشعراء: ١٩٣]
وتأتي بمعنى التثبيت والقوة، كما في قوله تعالى: ﴿أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ [المجادلة: ٢٢]
وأُطلِقَتْ الروح على عيسى ابن مريم عليه السلام في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ [النساء: ١٧١]
إذن: لهذه الكلمة إطلاقات مُتعدِّدة، فما العلاقة بينها؟
قالوا: الروح التي بها حركة الحياة إذا وُجِدَتْ في الإنسان تعطي مادية الحياة، ومادية الحياة شيء، وقيَمُ الحياة شيء آخر، فإذا ما جاءك شيء يعدل لك قيم الحياة فهل تُسمِّيه روحاً؟ لا، بل هو روح الروح؛ لأن الروح الأُولى قصاراها الدنيا، لكن روح المنهج النازل من السماء فخالدة في الآخرة، فأيُّهما حياته أطول؟
لذلك فالحق سبحانه يُنبِّهنا: إياك أنْ تظنَّ أن الحياة هي حياتك أنت وكونك تُحِسُّ وتتحرك وتعيش طالما فيك روح، لا بل هناك روح أخرى أعظم في دار أخرى أَبْقى وأَدْوم: ﴿وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٤]
لأن الروح التي تعيش بها في الدنيا عُرْضة لأنْ تُؤخَذ منك، وتُسلَب في أيّ مرحلة من مراحل حياتك منذ وجودك جنيناً في بطن أمك، إلى أنْ تصير شيخاً طاعناً في السنِّ.. أما روح الآخرة، وهي روح القيم وروح المنهج، فهي الروح الأَقْوى والأَبْقى؛ لأنها لا يعتريها الموت.
وهنا يقول تعالى: ﴿قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي..﴾ [الإسراء: ٨٥]
أي: أن هذا من خصوصياته هو سبحانه، وطالما هي من خصوصياته هو سبحانه، فلن يطلع أحداً على سِرِّها. وهل هي جوهر يدخل الجسم فيحيا ويسلب منه فيموت، أم هي مراد (بكُنْ) من الخالق سبحانه، فإنْ قال لها كُنْ تحيا، وإنْ قال مِتْ تموت؟
إنّ علم الإنسان سيظل قاصراً عن إدراك هذه الحقيقة، وسيظل بينهما مسافات طويلة؛ لذلك قال تعالى بعدها: ﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٨٥]
وهل عرف العقل البشري كل شيء حتى يبحث في أسرار الروح؟!
ولما تعرَّض أحد رجال الصوفية للنقد، واعترض عليه أحد الأشخاص فقال له الصوفي: وهل أَحَطْتَ عِلْماً بكل شيء في الكون؟ قال الرجل: لا، قال: فأنا من الذي لا تعلم.
والحق سبحانه وتعالى حينما يعطينا فكرة عن الأشياء لا يعطينا بحقائق ذاتها وتكوينها؛ لأن أذهاننا قد لا تتسع لفهمها، وإنما يعطينا بالفائدة منها. فحين حدثنا عن الأهِلّة قال: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج..﴾ [البقرة: ١٨٩]
وهذه هي الفائدة التي تعود علينا والتي تهمنا من الأَهِلّة، أما حركتها ومنازلها والمراحل التي تمر بها الأَهِلّة فأمور لا يضر الجهل بها؛ ذلك لأن الاستفادة بالشيء ليستْ فرعاً لفهم حقيقته، فالرجل
إذن: الاستفادة بالشيء لا تحتاج معرفة كل شيء عنها، فيكفيك إذن أنْ تستفيد بها دون أن تُدخِل نفسك في متاهات البحث عن حقيقتها.
والحق سبحانه وتعالى ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ..﴾ [الإسراء: ٣٦] لأن الخالق سبحانه يريد للإنسان أن يُوفّر طاقاته الفكرية ليستخدمها فيما يُجدي، وأَلاَّ يُتعِب نفسه ويُجهدها في علم لا ينفع، وجهل لا يضر.
فعلى المسلم بدل أن يشغل تفكيره في مثل مسألة الروح هذه، أنْ ينشغل بعمل ذي فائدة له ولمجتمعه. وأيّ فائدة تعود عليك إنْ توصلت إلى سِرٍّ من أسرار الروح؟ وأيّ ضرر سيقع عليك إذا لم تعرف عنها شيئاً؟
إذن: مناط الأشياء أن تفهم لماذا وجدت لك، وما فائدتها التي تعود عليك.
والحق سبحانه حينما قال: ﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٨٥] كان يخاطب بها المعاصرين لرسول الله منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة عام، ومازال يخاطبنا ويخاطب مَنْ بعدنا، وإلى أن تقوم الساعة بهذه الآية مع ما توصلتْ إليه البشرية من علم
وقد أوضح الحق سبحانه لنا هذه المسألة في قوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق﴾ [فصلت: ٥٣]
وهاهم العلماء والباحثون يقفون كل يوم على جديد في الكون الفسيح وفي الإنسان، ولو تابعتَ ما توصّل إليه علماء الفضاء ورجال الطب لَهالكَ ما توصَّلوا إليه من آيات وعجائب في خَلْق الله تعالى، لكن هل معنى ذلك أننا عرفنا كل شيء؟ إن كلمة ﴿سَنُرِيهِمْ﴾ ستظل تعمل إلى قيام الساعة.
والمتتبع لطموحات العقول وابتكاراتها يجد التطور يسير بخُطىً واسعة، ففي الماضي كان التقدم يُقَاسُ بالقرون، أما الآن ففي كل يوم يطلع علينا حديث وجديد، ونرى الأجهزة تُصنع ولا تُستعمل؛ لأنها قبل أنْ تُبَاع يخرج عليها أحدث منها، لكن كلها زخارف الحياة وكمالياتها، كما قال تعالى: ﴿حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت..﴾ [يونس: ٢٤]
فكلُّ مَا نراه من تقدُّم ليس من ضروريات الحياة، فقد كُنَّا نعيش بخير قبل أن نعرف الكهرباء، وكُنَّا نشرب في الفخار والآن في الكريستال، فابتكارات الإنسان في الكماليات، أما الضروريات فقد ضمنها الخالق سبحانه قبل أن يوجد الإنسان على هذه الأرض.
فإذا ما استنفدتْ العقول البشرية نشاطاتها، وبلغتْ مُنتهى مَا لديها من ابتكارات، حتى ظنَّ الناس أنهم قادرون على التحكم في
﴿وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس﴾ [يونس: ٢٤]
فبعد ما أخذتم أسرار المنعِم في الكون على قَدْر ما استطعتم، فاذهبوا الآن إلى المنعِم ذاته لتروا النعيم على حقيقته، وكلما رأيت في دنيا الناس ابتكارات واختراعات تُسعِد الإنسان، فهذا ما أعدَّ البشر للبشر، فكيف بما أعدَّ الله الخالق لخَلْقه؟
فالمفروض أن زخارف الحياة وزينتها وكمالياتها لا تدعونا إلى الحقد والحسد لمن توفرتْ لديه، بل تدعونا إلى مزيد من الإيمان والشوق إلى النعيم الحقيقي عند المنعِم سبحانه.
ولو تأملتَ هذه الارتقاءات البشرية لوجدتها قائمة على المادة التي خلقها الله والعقل المخلوق الله والطاقة المخلوقة لله، فَدوْر الإنسان أنه أعمل عقله وفكره في المقوّمات التي خلقها الله، لكن مهما وصلتْ هذه الارتقاءات، ومهما تطورتْ هل ستصل إلى درجة: إذا خطر الشيء ببالك تجدْه بين يديك؟
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً﴾.
فإنْ سأل متسائل: وكيف يذهب الله بوحي مُنزِّل على رسوله، وحفظه وكتبه الصحابة، وسمعه الكفار؟
نقول: أولاً: سياق الآية يدلُّنا على أن هذه العملية لم تحدث؛ لأن الحق سبحانه يقول: ﴿وَلَئِن شِئْنَا..﴾ [الإسراء: ٨٦] بمعنى: لو شِئْنا فعلنا ذلك، فالفعل لم يحدث، والمراد بيان إمكانية ذلك ليُبَرِّئ موقف رسول الله، وأنه ليس له من الأمور شيء.
والغريب أن يفهم البعض من قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ..﴾ [آل عمران: ١٢٨] أنها ضد رسول الله، وقَدْح في شخصه، وليس الأمر كذلك؛ لأنه ربه تبارك وتعالى يريد أنْ يتحمّل عنه ما يمكن أن يُفسِد العلاقة بينه وبين قومه، وكأنه يقول لهم: لا تغضبوا من محمد فالأمر عندي أنا، وشبَّهنا هذا الموقف بالخادم الذي فعل شيئاً، فيأتي سيده ليدافع عنه، فيقول: أنا الذي أمرته.
ثانياً: لماذا نستبعد في قدرة الخالق سبحانه أن يسلب مِنَّا ما أوحاه لرسوله وحفظناه وكتبناه، ونحن نرى فاقد الذاكرة مثلاً لا يكاد يذكر شيئاً من حياته، فإذا ما أرادوا إعادة ذاكرته يقومون بإجراء عملية جراحية مثلاً، فما أشبه هذه بتلك.
ونلاحظ في الآية جملة شرطية، أداة الشرط فيها «إنْ»،
ثم يُوضِّح لنا الحق سبحانه أنه إنْ ذهب بما أوحاه لرسوله، فلن يستطيع أحد إعادته ﴿ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً﴾ [الإسراء: ٨٦]
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً﴾.
ثم يخاطب الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليعلن تحديه للعالمين: ﴿قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾.
﴿لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن..﴾ [الإسراء: ٨٨] وهما الثَّقَلان اللذان يكونان أمة التكليف لما منحهما الله من نعمة الاختيار الذي هو منَاطُ التكليف. وقد أرسل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليهما جميعاً، وقد استمعت الجن إلى
والتحدِّي معناه الإتيان بآية معجزة يعجز عنها المعارض، لكن من جنس ما نبغ فيه المعارض، فلا يتحدّاهم بشيء لا عِلْم لهم به، ولا خبرة لهم فيه؛ لأنه لا معنى للتحدي في هذه الحالة ولا جدوى منه، كما لو تحدَّيْتَ إنساناً عادياً برفع الأثقال ولم يسبق له أن ارتاض هذه الرياضة، إنما تتحدَّى بها بطلاً معروفاً عنه ممارسة هذه العملية.
لذلك جاءت كل معجزات الرسل من جنس ما نبغ فيه القوم ليكون التحدِّي في محلِّه، ولا يعترضون عليه بأنه خارج عن نطاق علمهم ومقدرتهم، فكانت معجزة موسى عليه السلام العصا واليد، وهي من جنس ما نبغ فيه قومه من السِّحْر، وجاءت معجزة عيسى عليه السلام إحياء الموتى بإذن الله، وإبراء الأكمة والأبرص؛ لأن قومه نبغوا في الطب، وكانت معجزته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البلاغة والفصاحة التي نبغ فيها العرب.
وقد اقترح كفار مكة على رسول الله آيات معينة لإثبات صِدْق رسالته، لكن الآيات لا تُقترح على الله تعالى؛ لأنه سبحانه هو الذي يختار الآيات التي تناسب الطباع وتكون معجزة تثبت صِدْق رسوله، وقد اقترحوا على رسول الله آيات ومعجزاتٍ في مجالات لا عِلْم لهم بها، فكيف يتحدّاهم الله في مجال لا نبوغَ لهم فيه، وليس لهم دراية به؟
وفي القرآن خاصية تفرّد بها عن الكتب السابقة، حيث نزل جامعاً بين أمرين: أنه منهج سماوي يُنظِّم حركة الحياة، وهو في الوقت نفسه معجزة مصاحبة للمنهج لا تنفكّ عنه إلى قيام الساعة.
أما الكتب السابقة فكانت تأتي بمنهج فقط، أما المعجزة فشيء آخر منفصل عن الكتاب، فمعجزة موسى العصا واليد وكتابه التوراة، ومعجزة عيسى إبراء الأكمة والأبرص، وكتابه الإنجيل، أما محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد انفرد بأن تكون معجزته هي منهجه.
لذلك لما طلب كفار مكة من رسول الله أنْ يُفسِح لهم جبال مكة، ويُوسِّع عليهم الأرض، وأنْ يُحيي لهم موتاهم ليشهدوا بصدقه، خاطبهم الحق سبحانه بقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً..﴾ [الرعد: ٣١]
أي: كان في القرآن غَنَاءٌ لكم عن كُلِّ هذه المسائل.
وقد اعترض المستشرقون على هذه القضية، فقالوا: إنْ كانت
نقول: أولاً: إذا كان العرب ارتاضوا على الملَكَة العربية وأساليبها قد عجزوا أمام هذا التحدي، فغيرهم مِمَّنْ اتخذ العربية صناعة لا شكَّ أعجز.
ثانياً: مَنْ قال إن المعجزة في القرآن في فصاحته وبلاغته فقط؟
لقد جاءت بلاغة القرآن وفصاحته للأمة المتلقِّية للدعوة الأولى، هؤلاء الذين سيحملون عِبْءَ الدعوة، ويَسِيحُون بها في شتى بقاع الأرض، فإذا ما انتشرت الدعوة كانت المعجزة للناس الآخرين من غير العرب شيئاً آخر.
فالغيبيات التي يخبرنا بها، والكونيات التي يُحدّثنا عنها، والتي لم تكُنْ معلومة لأحد نجدها موافقة تماماً لما جاء به القرآن، وهو مُنزِّل على نبي أُميٍّ، وفي أُمة أُميّة غير مثقفة، فهذه كلها نواحي إعجاز للعرب ولغيرهم، وما زِلْنا حتى الآن نقف أمام آيات، وننتظر من العلم أنْ يكشفَ لنا عن معناها.
وفي الماضي القريب توصّل العلم إلى أن الذرة أصغر شيء في الوجود، وقد ذكر القرآن الذرة في مثل قوله: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧ - ٨]
وبتقدُّم وسائل البحث توصَّلوا إلى تفتيت الذرة أو شطرها، ووجدنا في الكون ما هو أقل من الذرة، فظنّ البعض أن هذه لا ذِكْر لها في القرآن، وظنوا أنهم تصيَّدوا على القرآن مأخذاً، ولو أمعنوا
والقرآن يقول ﴿أَصْغَرَ﴾ لا صغير، فلو فتَّتْنَا أجزاء الذرة لوجدنا لها رصيداً واحتياطاً في كتاب الله، أَلاَ ترى في ذلك إعجازاً؟
إذن: تحدَّاهم الحق سبحانه بقوله: ﴿قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن.
.﴾ [الإسراء: ٨٨] وأُدخِل الجنّ في مجال التحدي؛ لأن العرب كانوا يعتقدون أن لكل شاعر نابغ، أو أديب مُفوِّه، أو عبقري عنده نبوغ بياني شيطاناً يلهمه، وهذه الشياطين تسكن وادياً عندهم يسمونه «وادي عَبْقَر»، لذلك لم يكتَف القرآن بتحديهم هم، بل تحدى أيضاً مَنْ يُلهمونهم، أو مَنْ ينسبونَ إليهم القوة في هذا الأمر.
ثم يقول تعالى: ﴿على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن..﴾ [الإسراء: ٨٨] فالتحدِّي أنْ يأتوا (بمثله) لأنه لا يمكن أنْ يأتوا به نفسه؛ لأنه نزل من عند الله وانتهى الأمر، فمستحيل أنْ يأتُوا به نفسه مرة أخرى؛ لأنْ الواقع لا يقع مرتين.
إذن: المتصوَّر في مجال التحدي أنْ يأتوا بمثله، فلو قلت: هذا الشيء مثل هذا الشيء، فلا شَكَّ أن المشبّه به أقوى وأصدق من المشبه، ولا يرتقي المشبه ليكون هو المشبه به بل مثله، فإذا انتفى المثل فقد انتفى الأصل من باب أَوْلَى.
فالحق سبحانه في قوله: ﴿لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ..﴾ [الإسراء: ٨٨]
ثم يقول تعالى زيادةً في التحدِّي: ﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ [الإسراء: ٨٨]
والظهير: هو المعاون والمساعد والمعين على الأمر، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: ٤] لأنه قد يقول قائل: إن هذه المهمة لا يقوم بها فرد واحد، فقال لهم سبحانه: بل هاتوا كل ما لديكم من طاقات إبداعية وعبقريات بيانية، واستعينوا بما تزعمون من إلهام الجن، وتعاونوا جميعاً في سبيل هذا التحدي، حتى إذا كان في أحدكم نقص أكمله الآخر.
لكن، هل ظَلَّ التحدي قائماً على أنْ يأتُوا بمثل القرآن؟
المتتبع لهذا الموضوع في القرآن الكريم يجد الحق تبارك وتعالى يتنزل معهم في القدر المطلوب للتحدِّي، وهذا التنزَّل يدل على ارتقاء التحدِّي، فبعد أنْ تحدّاهم بأنْ يأتوا بمثل القرآن، تحدّاهم بعشْر سُور، ثم تحدّاهم بسورة واحدة، وكلما تنزل معهم درجة ارتقى بالتحدي، فلا شكَّ أن تحديهم بسورة واحدة أبلغ من تحديهم بمثل هذا القرآن.
وهذا التنزُّيل الذي يفيد الارتقاء كما نجمع مثلاً بين المتناقضات،
ويجب أن نلتفت إلى مغزى آخر من وراء هذا التحدّي، فليس الهدف منه تعجيز القوم، بل أن نثبت لهم السواسية بين الخَلْق، فالجميع أمام الإله الواحد سواء، وهذه هي القضية التي تُزعجهم وتقضّ مضاجعهم، والقرآن سيثبت لهم صِدْق محمد، وسيرفع من مكانته بين القوم، وهم الذين يحاولون إيذاءه ويُدبِّرون لقتله.
ولذلك من غبائهم أن قالوا: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]
إذن: فاعتراضهم ليس على القرآن في حَدِّ ذاته، بل على محمد الذي نزل القرآن عليه، فهم يحسدونه على هذه المكانة، كما قال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ..﴾ [النساء: ٥٤]
وسبحان الله، إذا كان الخَلْق يختلفون أمام رحمة الله في مسائل الدنيا التي لهم فيها أسباب وسَعْي واجتهاد، فكيف بالأمر الذي ليس في أيديهم؟ كيف يريدون التدخُّل فيه: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ..﴾ [الزخرف: ٣٢]
ثم يتحدث الحق سبحانه عن طبيعة الأداء القرآني، فيقول: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ..﴾.
ونأخذ مثالاً على ذلك قضية القمة، وهي الألوهية ووحدانية الله تعالى، فنرى القرآن يعرضها في معارض مختلفة هكذا: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا..﴾ [الأنبياء: ٢٢]
أي: في السماء والأرض.
وهذا الأسلوب قد لا يفهمه غير العربي؛ لأنه يفتقد الملَكَة اللغوية التي يتلقّى بها كلام الله، وقد يعترض فيقول: (إلا) أداة استثناء. فالمعنى: لو كان فيهما آلهة خارج منهم الله لَفَسدتَا، فلو كانت هناك آلهة ومعهم الله فهذه لا تجوز؛ لأنها مشاركة، لكنها تفيد أن الله تعالى موجود، وإنْ كان معه آخرون، والمنطق في هذه الحالة يقول: لو كان في السماء والأرض آلهة ومعهم الله لا تفسد.
لكن الحقيقة أن ﴿إِلاَّ﴾ هنا ليس للاستثناء، بل هي اسم بمعنى (غير). فالمعنى إذن: لو كان فيهما آلهة غير الله لَفسدَتا.
ثم يعرضها بأسلوب آخر، فيقول تعالى: ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ..﴾ [المؤمنون: ٩١]
فالحق تبارك وتعالى مُنزّه عن الولد والشريك، إذ لو كان معه إله
ثم يعرض نفس القضية بأسلوب آخر، فيقول: ﴿قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٤٢]
أي: إنْ كان مع الله آلهة كما يدَّعي المشركون لَذهَب هؤلاء الآلهة إلى ذي العرش يُعاتبونه أو يُؤدِّبونه، أو يُعاقبونه؛ لأنه انفرد بالملْك من دونهم.
وبأسلوب آخر يقول تعالى: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ..﴾ [آل عمران: ١٨]
ولم يَأْتِ مَنْ ينازعه هذه المكانة، أو يدَّعيها لنفسه، إذن: فقد ثبتتْ له هذه القضية إلى أنْ يُوجَد معارض، فالمختلف فيه يتفق عليه إنْ لم يظهر له معارض.
وسبق أن ضربنا لذلك مثلاً، ولله المثل الأعلى: هَبْ أن جماعة انصرفوا من مجلس، ثم وجد صاحب البيت حافظة نقود في مكان مجلسهم فعرضها عليهم، فلم يدَّعها أحد لنفسه إلا رجل واحد قال: هي لي، أيشكُّ صاحب البيت أنها له؟
نرى هذا التصرف أيضاً في أسلوب القرآن في مسألة ادعاء أن لله تعالى ولداً، تعالى الله عما يقول المبطلون عُلُواً كبيراً، فيعرضها القرآن هكذا:
{وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن
فيردُّ القرآن هذا الزعْم بقوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ..﴾ [الأنعام: ١٠١]
وفي موضع آخر يعرض المسألة هكذا: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ﴾ [النحل: ٥٧]
أي: فإن كنتم تريدون مقاسمة الخالق سبحانه، فهل يليق أنْ تأخذوا أنتم البنين؛ لأنهم المفضلون حَسْب زعمكم، وتتركوا له تعالى البنات: ﴿أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى﴾ [النجم: ٢١ - ٢٢] أي: قسمة جائرة.
وهكذا يُصرِّف القرآن أسلوبه، ويُحوّله ليقنع به جميع العقول؛ ليناسب كل الطبائع. وتمتاز لغة العرب بالمثل والحكمة؛ لذلك كان من التصريف في أسلوب القرآن استخدام المثل، وهو تعبير مُوجَز، يحمل المعاني الكثيرة وتتعشق لفظه، وتقوله كما هو دون تغيير إذا جاءت مناسبته.
فإذا أرسلتَ أحداً في مهمة أو جماعة، فيمكنك حين عودتهم تقول لهم مستفهماً: (ماذا وراءكِ يا عصام؟) هكذا بصيغة المؤنثة المفردة، لأن المثل قيل هكذا، حيث أرسل أحدهم امرأة تسمى عصام لتخطب له إحدى النساء وحينما أقبلت عليه خاطبها بهذه العبارة، فصارت مثلاً.
وكما تقول لصاحبك الذي يتعالى عليك: (إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً) إذن: المثل يمتاز بأنه يثبت على لفظه الأول ولا يتغير عنه.
أما الحكمة فهي: قول شارد يقوله كل واحد، وهو كلام يقلُّ لفظه، ويجِلُّ معناه.
«لا تُعلِّم العَوانُ الخِمْرة».
«إن المنبتَّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى» أي: أن الذي يُجهِد دابته في السير لن يصل إلى ما يريد؛ لأنها ستنقطع به ولا تُوصِّله.
ومن الحكمة هذه الأبيات الشعرية التي صارت حكمة متداولة:
وَمَنْ يكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ | يَجِدْ مُرّاً بِهِ المَاءَ الزُّلاَلاَ |
وَأَتْعَس النَّاسِ حَظَّاً مَنْ تكونُ لَه | نَفْسُ الملُوكِ وحالاتُ المسَاكين |
إذن: لأهمية المثل في لغة العرب جعله القرآن لَوْناً أسلوبياً، وأداةٍ للإقناعٍ، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا..﴾ [البقرة: ٢٦]
لأن الله تعالى يخاطب بالقرآن عقولاً مختلفة وطبائع متعددة؛ لذلك لا يستحي أن يضرب المثل بأحقر مخلوقاته لِيُقنِعَ الجميع كُلاً بما يناسبه.
نقول: المراد بما فوقها.
أي: في المعنى المراد، وهو الصِّغر. أي: ما فوقها في الصِّغر لا أكبر منها.
ثم يأتي بالمعنى في صورة أخرى: ﴿ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب﴾ [الحج: ٧٣]
وفي آية أخرى يقول سبحانه: ﴿مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤١]
إذن: يُصرِّف الله الأمثال ويُحوِّلها ليأخذ كل طَبْع ما يناسبه وما يقتنع به، وليس القرآن على وتيرة واحدة أو مزيج واحد يعطي للجميع. بل يُشخّص الداءات ويُحلِّلها ويعالجها بما يناسبها؛ لذلك يأتي الأسلوب مختلفاً.
وهذه المسألة واضحة في الحديث النبوي الشريف، حيث كان الصحابة يسألون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ السؤال الواحد، وتأتي الإجابة مختلفة من شخص لآخر، فقد سُئِل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كثيراً: ما أفضل الأعمال يا رسول الله؟ فقال للسائل: «الصلاة لوقتها» وقال لآخر: «
وهكذا جاءت الإجابة مختلفة من شخص لآخر؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يراعي حال سائله، ويحاول أنْ يعالج نقطة الضعف فيه، فالأمر ليس (أكلشيه) ثابتاً يعطيه للجميع، بل هي مراعاة الأحوال والطباع.
ثم يقول تعالى: ﴿فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً﴾ [الإسراء: ٨٩]
نعرف أن (إلاّ) أداة استثناء، تُخرِج ما بعدها من حكم ما قبلها، كما تقول: جاء القوم إلا زيداً، ولو طبَّقْنَا هذه القاعدة على الآية لا يستقيم معناها، كما لو قلت: ضربت إلا زيدا، والآية أسلوب عربي فصيح.
نقول: لأن معنى أبى: لم يقبل ولم يَرْضَ، فالمراد: لم يَرْضَ إلا الكفور، فلا بُدَّ للاستثناء المفرّغ أنْ يُسبق بنفي.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً﴾.
ومعلوم أن الإنسان ابن أغيار، ولا يحكمه حال واحد بل هو مُتقلِّب بين أحوال شتى طوال حياته، والله تعالى وحده هو الذي لا يتغيّر، وما دام الإنسان ابنَ أغيار ويطرأ عليه حال بعد حال، فليس له أنْ يحكمَ على شيء حُكْماً قاطعاً في مستقبل هو لا يملكه، فالذي يملك الحكم القاطع هو الحق سبحانه الذي لا تتناوله الأغيار.
لذلك فالإنسان مثلاً إذا صعد حتى القمة نخاف عليه الهبوط؛ لأنه من أهل الأغيار، ولا يدوم له حال، إذن: فماذا بعد القمة؟
وقد عَبَّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله:
إذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقْصُهُ | تَرقَّبْ زَوَالاً إذَا قِيل تَمّ |
فَلْيَرْضَ كلٌّ صاحب نعمة بما فيها من نقص، فلعل هذا النقص يردُّ عنه عَيْن حاسد، أو حقد حاقد.
فبعض الناس يرزقه الله بالأولاد ويُعينه على تربيتهم، ولحكمة يفشل أحدهم فيحزن لذلك ويألم أشد الألم، ويقول: لو أن هذا الولد.. وهو لا يدرك حكمة الله من وراء هذا النقص، وأنه حارسٌ للنعمة في الآخرين، وأنه التميمة التي تحميه وتردُّ عنه ما يكره.
شَخِصَ الأَنامُ إلى كَمَالِكَ فَاسْتَعِذْ | مِنْ شَرِّ أَعْيُنِهِمْ بعَيْبٍ وَاحِد |
إذن: (لن) تفيد تأبيد النفي في المستقبل، وهذا أمر لا يملكه إلا مالك الأحداث سبحانه وتعالى، أمّا صاحب الأغيار فليس له ذلك، والذين آمنوا فيما بعد برسول الله ممَّنْ قالوا هذه المقولة: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً﴾ [الإسراء: ٩٠]
نستطيع أن نقول لهم: لقد أوقعتْكم (لن) في الكذب؛ لأنكم أبَّدتُم نَفْي الإيمان، وها أنتم مؤمنون، ولم يُفجِّر لكم النبي ينبوعاً من الأرض.
وعند فتح مكة وقف عكرمة بن أبي جهل وقال في الخَنْدَمَة
إذن: مَنْ يقول كلمة عليه أن يكون قادراً على تنفيذها، مالكاً لزمامها، ضامناً لنفسه أَلاَّ يتغير، وأَلاَّ تتناوله الأغيار، ولا يملك ذلك إلا الله سبحانه وتعالى.
والمتدبّر لأسلوب القرآن في سورة (الكافرون) يجد هذه المسألة واضحة، حيث يقول تعالى: ﴿قُلْ ياأيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾ [الكافرون: ١ - ٤]
هكذا نفتْ الآية عبادة كل منهما لإله الآخر في الزمن الحاضر، ثم يقول تعالى: ﴿وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ [الكافرون: ٤ - ٥] لينفي أيضاً احتمال العبادة في المستقبل، إذن: فليس في الآية تكرار، كما يرى بعض قِصَار النظر.
ولك الآن أنْ تسألَ: كيف نفى القرآن الحديث في المستقبل؟ نقول: لأن المتكلّم هنا هو الحق سبحانه وتعالى الذي يملك الأحداث ولا تُغيِّره الأغيار، ولا تتسلط عليه، فحكم على المستقبل هذا الحكم القاطع وأبَّد النَّفي فيه.
وفي آية أخرى قال: ﴿وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً..﴾ [القمر: ١٢]
فالتفجير: أن تعمل في الأرض عملية تُخرِج المستتر في باطنها على ظهرها، وعين الماء تُخرِج لك الماء من الأرض، وتأخذ من حاجتك فلا ينقص؛ لأنها تعوض ما أُخِذ منها بقانون الاستطراق، وقد يحدث أن يغيض الماء فيها قليلاً.
أما الينبوع فتراه يفيض باستمرار دون أن ينقص فيه منسوب الماء، كما في زمزم مثلاً، ولا شكَّ أن هذا المطلب منهم جاء نتيجة حرمانهم من الماء، وحاجتهم الشديدة إليه.
ويذكر الحق سبحانه أنهم واصلوا حديثهم للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقالوا: ﴿أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً﴾.
ويواصلون تحديهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيقولون: ﴿أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً﴾.
وإنْ كانوا اتهموا رسول الله بالزعم، فما هو إلا مُبلِّغ عن الله، وناقل إليهم منهج ربه، فإنْ أرادوا أنْ يتَّهموا فليتهموا الحق سبحانه وتعالى؛ لأن رسوله لا ذنبَ له، وقد جاءوا بمسألة إسقاط السماء عليهم؛ لأن الحق سبحانه سبق أنْ قال عنهم: ﴿أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السمآء والأرض إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء﴾ [سبأ: ٩]
ولذلك طلبوا من رسول الله أنْ يُوقِع بهم هذا التهديد.
و ﴿كِسَفاً..﴾ [الإسراء: ٩٢] أي: قِطَعاً، ومفردها كسفة كقطعة.
ويقول تعالى: ﴿أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٩٢] أي: نراهم أمامنا هكذا مُقابلةً عياناً، وقد جاء هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا..﴾ [الفرقان: ٢١]
والمتأمل فيما طلبه الكفار من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يجده تعجيزاً بعيداً كُلَّ البعد عن الواقع، مما يدلنا على أنهم ما أرادوا الإيمان والهداية، بل قصدوا الجدل والعناد؛ لذلك يقول الحق سبحانه رَدّاً على لَجَج هؤلاء وتعنُّتهم: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا﴾ [الأنعام: ١١١]
ونرى الذين يُحبُّون أن ينافقوا نفاقَ الحضارات، ويتبارَوْنَ في زخرفة الصناعات يُلصِقون على المصنوعات الخشبية مثلاً طبقة أو قشرة من الذهب؛ لتظلَّ محتفظة بجمالها، كما في الأطقم الفرنساوي أو الإنجليزي مثلاً.
ثم يقول تعالى: ﴿أَوْ ترقى فِي السمآء..﴾ [الإسراء: ٩٣]
أي: يكون لك سُلَّم تصعد به في السماء، ويظهر أنهم تسرعوا في هذا القول، ورَأَوْا إمكانية ذلك، فسارعوا إلى إعلان ما تنطوي عليه نفوسهم من عناد: ﴿وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ..﴾ [الإسراء: ٩٣]
وانظر إلى رد القرآن على كل هذا التعنت السابق: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي..﴾ [الإسراء: ٩٣] وكلمة ﴿سُبْحَانَ﴾ كلمة التنزيه العُلْيا للحق سبحانه وتعالى، وقد تحدَّى بها الكون كله؛ لأنها كلمة لا تُقَال إلا لله تعالى، ولم يحدث أبداً بين الناس أنْ قالها أحد لأحد، مع ما في الكون من جبابرة وعُتَاة، يحرص الناس على منافقتهم وتملُّقهم، وهذه كلمة اختيارية يمكن أن يقولها كل إنسان، لكن لم يجرؤ أحد على قَوْلها لأحد.
والحق سبحانه وتعالى يتحدَّى الكون كله بأمور اختيارية يقدرون عليها، وتحدى المختار في المثل معناها أنه سبحانه عالم بأن قدرته لن تستطيع أن تفعل ذلك، ومثال ذلك قول الحق تبارك وتعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد: ١ - ٣]
نزلت هذه الآيات في أبي لهب، وهو كافر، ويحتمل منه الإيمان كما آمن غيره من الكفرة، فقد آمن عمر والعباس وغيرهم، فما كان يُدرِي رسول الله أن أبا لهب لن يؤمن، لكنه يُبلِّغ قول ربه قرآناً يُتلَى
وهنا نقول: أَمَا كان في إمكان أبي لهب أنْ يُكذّب هذا القول، فيقوم في قومه مُنادياً بلا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ولو نِفَاقاً وله بعد ذلك أن يتهم محمداً وقرآن محمد بالكذب؟
لكن هذا لم يحدث؛ لأن المتكلم هو الله ربُّ العالمين.
ومن هذا التحدي أن الحق سبحانه له صفات وله أسماء، الأسماء مأخوذة من الصفات، إلا اسم واحد مأخوذ للذات، هو لفظ الجلالة (الله)، فهو عَلَم على الذات الإلهية لم يُؤخَذ من صفة من صفاته تعالى، فالقادر والغفور والحيّ القيوم وغيرها من الأسماء مأخوذة من صفات، إنما (الله) عَلَم على الذات الجامعة لكُلِّ هذه الصفات.
لذلك تحدَّى الخالق سبحانه جميع الخَلْق، وقد أعطاهم الحرية في اختيار الأسماء أنْ يُسمُّوا أنفسهم أو أبناءهم بهذا الاسم (الله)، ويعلن هذا التحدي في كتابه الكريم وعلى رؤوس الأشهاد يقول: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ [مريم: ٦٥] ؟
ومع ذلك لم يجرؤ كافر واحد على أنْ يُسمِّيَ هذا الاسم ليظلَّ هذا التحدي قائماً إلى قيام الساعة؛ لأن الله تعالى حق، والإيمان به وبوجوده تعالى متغلغل حتى في نفوس الكفار، فلو كانوا يعلمون أن هذه الكلمة كذب، أو لا وجودَ لها لأقدموا على التسمية بها دون أن يُبالُوا شيئاً، أَمَا وهم يعلمون أن الله حق فلن يجرؤ أحد، ويُجرِّب هذه التسمية في نفسه؛ لأنه يخشى عاقبة وخيمة لا يدري ما هي.
والهمزة هنا للاستفهام المراد به التعجُّب أيضاً: أيطلبون هذه الآيات، ولم يكْفِهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب، وقد كان فيه غناءٌ لهم.
ثم يقول تعالى: ﴿هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٣]
هل ادعيْتُ لكم أَنِّي إله؟! ما أنا إلا بشر أبلغكم رسالة ربي، وأفعل ما يأمرني به، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [يونس: ١٥]
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً﴾.
والمتأمِّل في مسألة التبليغ عن الله يجد أنها لا يمكن أنْ تتم إلا ببشر، فكيف يبلغ البشر جنس آخر، ولا بُدَّ للتلقِّي عن الله من وسائط بين الحق سبحانه وتعالى وبين الناس؛ لأن البشر لا يستطيع أنْ يتلقّى عن القُوة العليا مباشرة، فإذنْ: هناك مراحل: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: ٥١]
لكن الرسول البشري كيف يُكلِّم الله؟ لا بُدَّ أنْ نأتي برسول من الجنس الأعلى: ﴿الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً..﴾ [الحج: ٧٥] وهذا مرحلة، ثم يصطفي رسولاً من البشر يتلقّى عن الملَكِ كي يستطيع أنْ يُبلِّغكم؛ لأنكم لا تقدرون على اللقاء المباشر يتلقى عن الملك كي يستطيع أن يبلغكم؛ لأنكم لا تقدرون على اللقاء المباشر مع الحق سبحانه.
ونضرب لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى: أنت إذا أردتَ إضاءة لمبة صغيرة وعندك تيار كهربائي عالٍ، هل يمكن أنْ تُوصِّله بهذه اللمبة؟ لا لأنها ستحرق فوراً، إذن: ما الحل؟ الحل أنْ تأتي بجهاز وسيط يُقلِّل لك هذا التيار القوي، ويعطي اللمبة على قَدْر حاجتها فتضيء.
كذلك الحق سبحانه يصطفي من الملائكة رسلاً يمكنهم التلقِّي عن الله ويصطفي من البشر رسلاً يمكنهم التلقِّي عن الملائكة، ثم يُبلّغ الرسول المصطفى من البشر بني جنسه. إذن: فماذا يُزعجكم في أنْ يكون الرسول بشراً؟ ولماذا تعترضون على هذه المسألة وهي أمر طبيعي؟
يقول تعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس..﴾ [يونس: ٢]
إذن: فاعتراضهم على بشرية الرسول أمر قديم توارثه أهل الكفر والعناد من أيام نوح عليه السلام ألم يَقُلْ له قومه: ﴿فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا..﴾ [هود: ٢٧]
وقالوا: ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٤]
وقالوا: ﴿أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: ٢٤]
لذلك يدعونا الحق سبحانه وتعالى إلى النظر في السُّنة المتبعة في الرسل: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ..﴾ [النحل: ٤٣]
أي: ليسوا ملائكة، لا بُدَّ أنْ يكونوا رجالاً لِيتمّ اللقاء بينكم، وإلاّ فلو جاء الرسول مَلَكاً كما تقولون، هل ستروْن هذا الملَك؟ قالوا: لا هو مُستتر عنَّا، لكنه يرانا، لكن تبليغ الرسالة لا يقوم على مجرد الرؤية، فتبليغ الرسالة يحتاج إلى مخالطة ومخاطبة، وهنا لا بُدَّ أنْ يتصوّر لكم الملَك في صورة رجل ليؤدي مهمة البلاغ
لذلك يقول سبحانه: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩] إذن: لا داعي للتمحُّك والعناد، ومصادمة الفطرة التي خلقها الله، والطبيعة التي ارتضاها لخَلْقه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً﴾.
شيء آخر يقتضي بشرية الرسول، وهو أن الرسول أسوة سلوك لقومه، كما قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..﴾ [الأحزاب: ٢١]
فالرسول عندما يُبلِّغ منهج الله عليه أنْ يُطبّق هذا المنهج في نفسه أولاً، فلا يأمرهم أمراً، وهو عنه بِنَجْوَة، بل هو إمامهم في القول والعمل.
لذلك فالحاكم الحق الناصح يُطبّق القانون عليه أولاً، فكان سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إذا أراد أن يُقنّن قانوناً ويرى أنه سيتعب بعض الظالمين والمنحرفين فيجمع أهله ويخبرهم بما أراد، ثم يُحذّرهم من المخالفة: «فو الذي نفسي بيده، مَنْ خالفني منكم إلى شيء لأجعلنّه نكَالاً للمسلمين، وأنا أول مَنْ أُطبِّقه على نفسي».
لذلك حكم عمر الفاروق الدنيا كلها في عصره، ولما رآه الرجل نائماً مطمئناً تحت شجرة قال قولته المشهورة: «حكمتَ، فعدلْتَ، فأمنت، فنمْتَ يا عمر» وعمر ما حكم الدنيا والبشر، بل حكم نفسه أولاً فحُكمت له الدنيا؛ لأن الحاكم هو مركز الدائرة، وحَواليْه دوائر أخرى صغيرة تراه وتقتدي به، فإنْ رأوه مستقيماً استقاموا، ولم يجرؤ أحد منهم على المخالفة، وإنْ رأوْه منحرفاً فاقوه في المخالفة، وأفسدوا أضعاف ما يُفسد.
لذلك، لا يمكن أبداً لحاكم أن يحكم إلا إذا حكم نفسه أولاً، بعدها تنقاد له رعيته ويكونون طوعاً لأمره دون جهد منه أو تعب.
ولقد رأينا في واقعنا بعض الحكام الذين فهموا الأُسْوة على حقيقتها، فترى الواحد من رعيته يركب أفخم السيارات، ويسكن
وكذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد أتى بمنهج، وهو في الوقت نفسه أُسْوة سلوك وقُدْوة، فنراه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحثّ الغنيّ على الصدقة للفقير، ثم يحرم أهل بيته من هذه الصدقة فلا يقبلها لهم، وإنْ توارث الناس فيما يتركونه من أموال فإن ما تركه الرسول لا يُوَرَّثُ لأهله من بعده، بل هو صدقة لفقراء المسلمين، وهكذا يحرم رسول الله أهل بيته مما أعطاه للآخرين لتكون القدوة صحيحة، ولا يجد ضعاف النفوس مأخذاً عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
إذن: فليس المراد من الحكم أن يتميز الحاكم عن المحكوم، أو يفضل بعض الرعية على بعض، فإذا ما أحسَّ الناس بالمساواة خضعوا للحاكم، وأذعنوا له، وأطاعوا أمره؛ لأنه لا يعمل لمصلحته الشخصية بل لمصلحة رعيته، بدليل أنه أقلُّ منهم في كُلِّ مستويات الحياة.
فالرسول إنْ جاء مَلَكاً فإن الأُسْوة لا تتمّ به، فإنْ أمرنا بشيء ودعانا إلى أن نفعل مثله فسوف نحتجّ عليه: كيف وأنت مَلَكٌ لا شهوةَ لك، لا تأكل ولا تشرب ولا تتناكح ولا تتناسل، إن هذه الأوامر تناسبك أنت، أما نحن فلا نقدر عليها.
وسبق أنْ ضربنا لذلك مثلاً وقُلْنا: هَبْ أنك رأيتَ في الغابة أسداً يصول ويجول ويفتك بفريسته، بالله هل يراودك أن تكون أسداً؟ إنما لو رأيتَ فارساً على صَهْوة جواده يصول ويجول ويحصد رقاب الأعداء، ألاَّ تتطلع إلى أن تكون مثله؟
إذن: لا تتمّ القُدْوة ولا تصح إلا إنْ كان الرسول بشراً، ولا داعي للتمرُّد على الطبيعة التي خلقها الله.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قُلْ كفى بالله شَهِيداً... ﴾.
والشهيد إنما يُطلَب للشهادة في قضية ما، فما القضية هنا؟ القضية هي قضية تعنُّت الكفار مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنهم طلبوا منه مَا ليس في وُسْعه. والرسول لا يعنيه المتعنتون في شيء؛ لأن أمره مع ربه عَزَّ وَجَلَّ؛ لذلك قال: ﴿كفى بالله شَهِيداً..﴾ [الإسراء: ٩٦]
لذلك قال: ﴿كفى بالله شَهِيداً..﴾ [الإسراء: ٩٦]
فهو كافيك هذا الأمر؛ لأنه كان بعباده ﴿خَبِيراً﴾ يعلم خفاياهم ويطّلع على نواياهم من وراء هذا التعنُّت ﴿بَصِيراً﴾ لا يخفي عليه شيء من أمرهم.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ..﴾.
والأخرى: هداية التوفيق والمعونة للقيام بمطلوبات المنهج الذي آمنوا به، وهذه خاصّة بالمؤمن، فبعد أنْ دَلَّه الله آمن وصدَّق واعترف لله تعالى بالفضل والجميل، بأن أنزل له منهجاً ينظم حياته. فأتحفه الله تعالى بهداية التوفيق والمعونة.
أي: دَلَلْناهم على الطريق المستقيم، لكنهم استحبُّوا العمى والضلال على الهدى، فمنع الله عنهم معونته وتوفيقه.
والحق سبحانه يخاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأسلوبين قرآنيين يوضِّحان هذيْن النوعيْن من الهداية، يقول تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ..﴾ [القصص: ٥٦]
فنفى عن رسول الله هداية التوفيق والمعونة؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يملكها، وفي آية أخرى قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢]
فأثبتَ له هداية البيان والدلالة؛ لأن هذه هي مهمته كمبلِّغ عن الله، وهكذا أثبتَ له الحدث ونفاه عنه؛ لأن الجهة مُنفكَّة أي: أن جهة الإثبات غير جهة النفي، كما في قوله تعالى: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا..﴾ [الروم: ٦ - ٧]
فمرة: نفَى عنهم العلم، ومرة أخرى: أثبتَ لهم العلم. والمراد أنهم لا يعلمون حقائق الأمور، ولكنهم يعلمون العلوم السطحية الظاهرة منها. ونحن نكرّر مثل هذه القضايا لكي تستقرّ في النفس الإنسانية، وفي مواجيد المتدينين فينتفعوا بها.
ومن ذلك أيضاً قول الحق سبحانه: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى..﴾ [الأنفال: ١٧]
ولتقريب هذه المسألة: ابنك الذي تحمله على المذاكرة وتُرغمه عليها يأتي بالكتب ويضعها أمامه ويُقلِّب فيها ليوهمك أنه يذاكر، فإذا ما راجعت معه ما ذاكر لا تجدْه حصَّل شيئاً فتقول له: ذاكرتَ وما ذاكرت، فتُثبِت له الحدث مرة، وتنفيه عنه أخرى؛ لأنه ذاكر شكلاً، ولم يذاكر موضوعاً.
إذن: فالحق سبحانه وتعالى يهدي الجميع هداية إرشاد وبيان ودلالة، ويختص مَنْ آمن بهداية المعونة والتوفيق للقيام بمقتضيات المنهج، كما قال تعالى: ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾
[محمد: ١٧]
وقال عن الآخرين: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ [الصف: ٧] لكن يهدي العادلين.
وقال: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ [الصف: ٥].. لكن يهدي الطائعين.
إذن: بيَّن الحق سبحانه في أساليب القرآن مَنْ شاء هدايته، أما مَنْ آثر الكفر وصمم ألاَّ يؤمن فهو وشأنه، بل ويزيده الله من الكفر ويختم على قلبه، كما قال تعالى: ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام: ١١٠]
نعود إلى ﴿مَن﴾ في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد..﴾ [الإسراء: ٩٧] قلنا: إن (مَن) اسم موصول بمعنى الذي، واستخدام (مَن) كاسم موصول لا يقتصر على (الذي) فقط، بل تستخدم لجميع الأسماء الموصولة: الذي، التي، اللذان، اللتان، الذين، اللاتي. فتقول: مَنْ جاءك فأكرِمْه، ومَنْ جاءتك فأكرمْها، ومَنْ جاءاك فأكرمهم، ومَنْ جاءتاك فأكرمهما، ومَنْ جاءوك فأكرمهم، ومَنْ جِئْنَكَ فأكرمْهُن.
فهذه ستة أساليب تؤديها (مَن) فهي إذن صالحة للمذكّر وللمؤنّث وللمفرد وللمثنى وللجمع، وعليك أن تلاحظ (مَنْ) في الآية: ﴿وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد..﴾ [الإسراء: ٩٧] جاءت (مَنْ) دالَّة على المفرد المذكر، وهي في نفس الوقت دالّة على المثنى والجمع المذكر والمؤنث، فنقول: مَنْ يهدِهَا الله فهي المهتدية، ومَنْ يهدهم الله فهم المهتدون. وهكذا.
ونسأل: لماذا جاءت (مَنْ) دالة على المفرد المذكر بالذات دون
وهنا مَلْحظ دقيق يجب تدبُّره: في الاهتداء جاء الأسلوب بصيغة المفرد: ﴿وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد..﴾ [الإسراء: ٩٧] لأن للاهتداء سبيلاً واحداً لا غير، هو منهج الله تعالى وصراطه المستقيم، فللهداية طريق واحد أوضحه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».
أما في الضلال، فجاء الأسلوب بصيغة الجمع: ﴿فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ..﴾ [الإسراء: ٩٧] لأن طرق الضلال متعددة ومناهجه مختلفة، فللضلال ألف طريق، وهذا واضح في قول الحق سبحانه: ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ..﴾ [الأنعام: ١٥٣]
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما قرأ هذه الآية خَطَّ للصحابة خَطّاً مُسْتقيماً، وخَطَّ حوله خطوطاً مُتعرّجة، ثم أشار إلى الخط المستقيم وقال: «هذا ما أنا عليه وأصحابي».
ومن هنا تتضح توقيفية القرآن، حيث دقة الأداء الإلهي التي وضعتْ كُلَّ حَرْف في موضعه.
وقوله: ﴿أَوْلِيَآءَ﴾ أي: نُصَراء ومعاونين ومُعينين ﴿مِن دُونِه﴾ أي: من بعده ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ﴾ [الإسراء: ٩٧]
الحشْر: القيام من القبر والجمع للحساب ﴿على وُجُوهِهِمْ﴾ هنا تعجب بعض الصحابة، فسألوا رسول الله: وكيف يسير الإنسان على وجهه؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يُمشيهم على وجوههم».
وما العجب في ذلك ونحن نرى مخلوقات الله: ﴿فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ..﴾ [النور: ٤٥]
ألم تَرَ الثعبان، كيف هو سريع في مِشْيته، خفيف في حركته، فالذي خلق قادر أن يُمشِيَ من ضَلَّ في القيامة على بطنه، لأن
هذا استطراق لوسائل الإهانة، ففضلاً عن مَشْيهم على الوجوه فهم عُمْي لا يروْنَ شيئاً، ولا يهتدون، وهم صُمٌّ لا يسمعون نداءً، وهم بُكْمٌ لا يقدرون على الكلام، ولك أنْ تتصوَّر إنساناً جمعت عليه كل هذه الوسائل ليس في يوم عادي، بل في يوم البعث والنشور، فإذا به يُفَاجأ بهْول البعث، وقد سُدَّت عليه جميع منافذ الإدراك، فهو في قلب هذا الهَوْل والضجيج، ولكنه حائر لا يدري شيئاً، ولا يدرك ما يحدث من حوله.
ولنا هنا لفتة على هذه الآية، فقد ورد في القرآن كثيراً: صُمٌّ بُكْم بهذا الترتيب إلا في هذه الآية جاءت هكذا: ﴿وَبُكْماً وَصُمّاً﴾ ومعلوم أن الصَّمَم يسبق البَكَم؛ لأن الإنسان يحكي ما سمعه، فإذا لم يسمع شيئاً لا يستطيع الكلام، واللغة بنت السماع، وهي ظاهرة اجتماعية ليستْ جنساً وليست دَمَاً.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الولد الإنجليزي إذا تربَّى في بيئة عربية يتكلم بالعربية والعكس؛ لأن اللغة ليست جنساً، بل ظاهرة اجتماعية تقوم على السماع، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان. حتى العربي نفسه الذي يعيش في بيئة عربية، إلا أنه لم يسمع هذه الألفاظ الغريبة المتقعِّرة لا يستطيع محاكاتها ولا يعرف معناها.
لكن في هذه الآية جاء البكَم أولاً، لماذا؟ لأنه ساعة يُفاجأ بهوْلِ البعث والحشر كان المفروض أن يسأل أولاً عَمَّا يحدث، ثم يسمع
وهنا أيضاً اعتراض لبعض المستشرقين ومَنْ يُجارونهم مِمَّنْ أسلموا بألسنتهم، ولم تطمئن قلوبهم لنور الله، يقولون: القرآن يقول: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً.
.﴾ [الإسراء: ٩٧] فينفي عنهم الرؤية، وفي آيات أخرى يقول: ﴿حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ..﴾ [مريم: ٧٥] ﴿وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا..﴾ [الكهف: ٥٣]
فأثبت لهم الرؤية، فكيف نجمع بين هذه الآيات؟ والمتأمل في حال هؤلاء المعذَّبين في موقف البعث يجد أن العمى كان ساعة البعث، حيث قاموا من قبورهم عُمْياً لِيتحققَ لهم الإذلال والحيرة والارتباك، ثم بعد ذلك يعودون إلى توازنهم ويعود إليهم بصرهم ليشاهدوا به ألوان العذاب الخاصة بهم، وهكذا جمع الله عليهم الذل في الحاليْن: حال العمى وحال البصر.
لذلك يقول تعالى: ﴿لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ﴾ [ق: ٢٢]
ثم يقول تعالى: ﴿مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً﴾ [الإسراء: ٩٧] مأواهم: أي: مصيرهم ونهايتهم. خَبَتْ: خبت النار. أي: ضَعُفَت أو انطفأتْ، لكن ما دام المراد من النار التعذيب، فلماذا تخبو النار أو تنطفئ؟ أليس في ذلك راحة لهم من العذاب؟
المتأمل في الآية يجد أن خفوت النار وانطفاءها هو في حَدِّ ذاته
وهذا يُسمُّونه في البلاغة «اليأس بعد الإطماع»، كما جاء في قول الشاعر:
فَأصْبَحْتُ مِنْ لَيْلَى الغَداةَ كَقَابِضٍ | عَلَى المَاء خَانَتْهُ فُرُوجُ الأَصَابِع |
وقد عبر الشاعر عن هذا المعنى بقوله:
كَمَا أبرقَتْ قَوْمَاً عِطَاشاً غَمَامَةٌ | فَلَمَّا رَجَوْهَا أقْشَعَتْ وتَجلَّتِ |
لأن الجلود إذا نضجتْ وتفحَّمت امتنع الحِسُّ، وبالتالي امتنعتْ إذاقة العذاب، إذن: العلة من تبديل الجلود تجديد الحسِّ ليذوقوا العذاب إذاقةً مستديمة. ومنذ عهد قريب كانوا يظنون أن الحسَّ يأتي من المخ، إلا أنهم لاحظوا على الإنسان إحساساً قبل أن يصل شيء للمخ.
فمثلاً: لو أشرت بأصبعك إلى عين إنسان تراه يُغمِض عينه قبل أنْ تلمسه، وفسَّروا ذلك بما يسمونه العكس في النخاع الشوكي، ثم توالت البحوث للتعرف على مناط الحسِّ في الإنسان أيْن هي؟ إلى أن انتهت تلك الأبحاث إلى ما أخبر به القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، من أن الجلد هو مركز الإحساس في الإنسان، بدليل أنك إذا أخذتَ حقنة مثلاً، فبمجرد أن تخترق طبقة الجلد لا تشعر بألمها.
فمن أين عرف العرب هذه النظريات العلمية الدقيقة؟ ومَنْ أخبر بها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ إنه لَوْنٌ من ألوان الإعجاز القرآني للعرب ولغيرهم.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا... ﴾.
فهناك فَرْقٌ بين العقوبة في وقت وقوع الجريمة، وهي ما تزال بشعةً في نفوس الناس، وما تزال نارها تشتعل في القلوب، فإنْ عاقبتَ في هذا الجو كان للعقوبة معنىً، وأحدثتْ الأثر المرجوّ منها وتعاطفَ الناس مع المظلوم بدلَ أنْ يتعاطفوا مع الظالم.
فحين نُؤخِّر عقوبة المجرم في ساحات المحاكم لعدة سنين فلا شَكَّ أن الجريمة ستُنْسَى وتبرد نارها، وتتلاشى بشاعتها، ويطويها النسيان، فإذا ما عاقبتَ المجرم فلن يبدو للناس إلاَّ ما يحدث من عقوبته، فترى الناس يرأفون به ويتعاطفون معه.
إذن: قبل أن تنظر إلى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب..﴾ [النساء: ٥٦]
وإلى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً﴾ [الإسراء: ٩٧]
انظر إلى ما فعلوه، واعلم أن هذا العذاب بعدل الله، فأحذر أنْ تأخذك بهم رحمة، ففي سورة النور يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين﴾ [النور: ٢]
ثم يوضح سبحانه وتعالى حيثية هذا العذاب: {بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ
وهذا كله يدلُّ على نقص في العقيدة، وخَلَل في الإيمان الفطري الذي خلقه الله فيهم، وكذلك كذَّبوا بمعجزات الرسول، فدلَّ ذلك على خَلَل في التصديق.
ومن باطن هذا الكفر ومن نتائجه أنْ قالوا: ﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً﴾ [الإسراء: ٩٨] وهذا القول منهم تكذيبٌ لآيات القرآن التي جاءتْ على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لتخبرهم أنهم مبعوثون يوم القيامة ومُحاسَبُون، وهم بهذا القَوْل قد نقلوا الجدل إلى مجال جديد هو: البعث بعد الموت.
وقوله: ﴿عِظَاماً وَرُفَاتاً..﴾ [الإسراء: ٩٨] الرفات: هو الفُتَات وَزْناً ومعنىً، وهو: الشيء الجاف الذي تكسّر؛ لذلك جاءت لترتيب هكذا: عظاماً ورُفَاتاً؛ لأن جسم الإنسان يتحلّل وتمتصُّ الأرض عناصر تكوينه، ولا يبقى منه إلا العظام، وبمرور الزمن تتكسّر هذه العظام، وتتفتتْ وتصير رفاتاً، وهم يستبعدون البعث بعد ما صاروا عظاماً ورفاتاً.
وقوله تعالى: ﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ..﴾ [الإسراء: ٩٨] والهمزة هنا استفهام يفيد الإنكار، فلماذا ينكر هؤلاء مسألة البعث بعد الموت؟
نقول: لأن الكافر عنده لَدَدٌ في ذات إيمانه، ومن مصلحة آماله وتكذيب نفسه أنْ ينكر البعث، وعلى فَرْض أنه سيحدث فإنهم
فمثلاً: علماء الجيولوجيا والحَفْريات يقولون: إن الأشياء المطمورة في باطن الأرض تتغّير بمرور الزمن، وتتحول إلى موادّ أخرى، إذن: ففيها حركة وتفاعل أو قُلْ فيها حياة خاصة بها تناسبها، فليست الحياة قاصرة على حركتنا في الحياة الدنيا، بل للحياة معنى آخر أوسع بكثير من الحياة التي يفهمها هؤلاء.
فالإنسان الحيّ مثلاً له في مظهرية أموره حالتان: حالة النوم وحالة اليقظة، فحياته في النوم محكومة بقانون، وحياته في اليقظة محكومة بقانون، هذا وهو ما يزال حياً يُرزَق، إذن: عندما نخبرك أن لك قانوناً في الموت وقانوناً في البعث فعليك أنْ تُصدِّق.
ألم تَرَ النائم وهو مُغْمَض العينين يرى الرؤيا، ويحكيها بالتفصيل وفيها حركة وأحداث وألوان، وهو يدرك هذا كله وكأنه في اليقظة؟ حتى مكفوف البصر الذي فقد هذه الحاسة، هو أيضاً يرى الرؤيا كما يراها المبصر تماماً ويحكيها لك، يقول: رأيتُ كذا وكذا، كيف وهو في اليقظة لا يرى؟
نقول: لأن للنوم قانوناً آخر، وهو أنك تدرك بغير وسائل الإدراك المعروفة، ولك في النوم حياة مستقلة غير حياة اليقظة. أَلاَ ترى الرجلين ينامان في فراش واحد، وهذا يرى رؤيا سعيدة مفرحة يصحو منها ضاحكاً مسروراً، والآخر إلى جواره يرى رؤيا مؤلمة
لأن لكل منهما قانونه الخاص، وحياته المستقلة التي لا يشاركه فيها أحد.
وقد ترى الرؤيا تحكيها لصاحبك في نصف ساعة، في حين أن العلماء توصلوا إلى أن أقصى ما يمكن للذهن متابعته في النوم لا يتجاوز سبع ثوان، مما يدلُّ على أن الزمن في النوم مُلْغي، كما أن أدوات الإدراك ملغاة، إذن: فحياتك في النوم غير حياتك في اليقظة، وكذلك في الموت لك حياة، وفي البعث لك حياة، ولكل منهما قانون يحكمها بما يتناسب معها.
وقد يقول قائل عن الرُّؤَى: إنها مجرد تخيُّلات لا حقيقةَ لها، لكن يَرُدّ هذا القول ما نراه في الواقع من صاحب الرُّؤْيا الذي يحكي لك أنه أكل طعاماً، أو شرب شراباً ما يزال طَعْمه في فمه، وآخر ضُرِب، ويُريك أثر الضرب على ظهره مثلاً، وآخر يصحو من النوم يتصبَّب عَرقاً، وكأنه كان في عراك حقيقي لا مجرد منام.
فالحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يُوضّح لنا أننا في النوم لنا حياة خاصة وقانون خاص، لنأخذ من هذا دليلاً على حياة أخرى بعد الموت.
والعلماء قالوا في هذه المسألة بظاهرة المتواليات، والمراد بها: إذا كانت اليقظة لها قانون، والنوم له قانون ألطف وأخفّ من قانون اليقظة، فبالتالي للموت قانون أخفّ من قانون النوم، وللبعث قانون أخف من قانون الموت.
أي: كلُّ ما يُقَال له شيء في الوجود هالك إلا الله تعالى فهو الباقي، والهلاك ضدّه الحياة، بدليل قوله تعالى: ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ..﴾ [الأنفال: ٤٢] إذن: لكل شيء مهما صَغُر في كَوْن الله حياة خاصة تناسبه قبل أنْ يعتريه الهلاك.
ولذلك نعجب حينما يطالعنا العلماء بأن في علبة الكبريت هذه التي نضعها في جيوبنا قوة تجاذب بين ذراتها، تصلح هذه القوةَ لتسيير قطار حول العالم لمدة ست سنوات، سبحان الله.. أين هذه القوة؟ إنها موجودة لكِنّنا لا نشعر بها ولا ندركها، إنما الباحثون في معاملهم يمكنهم ملاحظة مثل هذه الحركة وتسجيلها.
وأقرب من ذلك ظاهرة الجاذبية التي تعلَّمناها منذ الصِّغَر والتي تعتمد على ترتيب الذرّات ترتيباً مُعيناً، ينتج عنه المُوجَب والسالب، فيتم التجاذب فكانوا يضعون لها بُرادَة الحديد في أنبوبة، ويُمَرِّرون عليها قضيباً مُمغْنَطاً، فنرى برادة الحديد تتحرك في نفس اتجاه القضيب.
إذن: في الحديد حركة وحياة بين ذراته، حياة تناسبه بلغتْ من الدقة مَبْلَغاً فوق مستوى إدراكك.
إذن: نستطيع القول بأن للعظام وللرفات حياةً، ولك أيها المنكر وجود حتى بعد أنْ صِرْتَ رُفاتاً، فشيء منك موجود يمكن أن يكون
وقد رد عليهم الحق سبحانه بقوله: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ [ق: ٤]
أي: في علمه سبحانه عدد ذرات كل مِنّا، وكم في تكوينه من مواد، لا ينقص من ذلك شيء، وهو سبحانه قادر على جمع هذه الذرات مرة أخرى، وليس أمره تعالى متوقفاً على العلم فقط، بل عنده كتاب دقيق يحفظ كل التفاصيل، ولا يغيب عنه شيء.
وقال تعالى كذلك في الرد عليهم: ﴿أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق: ١٥] أي: في خَلْط وشَكٍّ وتردُّد.
وقد ناقشنا مِنْ منكري البعث الشيوعيين الذي قتَّلوا في أعدائهم، وأخذوا أموالهم مُعاقبةً لهم على ما اقترفوه من ظلم الناس، فكنت أقول لهم: فما بال الذين ماتوا من هؤلاء، ولم يأخذوا حظّهم من العقاب؟ وكيف يذهبون هكذا ويُفلتون بجرائمهم؟ لقد كان الأَوْلَى بكم أنْ تؤمنوا بالآخرة التي يُعاقب فيها هؤلاء الذين أفلتوا من عقاب الدنيا، حتى تتحقق عدالة الانتقام.
وقوله تعالى: ﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً﴾ [الإسراء: ٩٨]
إنهم يستبعدون البعث من جديد؛ لذلك فالحق سبحانه وتعالى يجاري هؤلاء ويتسامح معهم، فيقول: ﴿وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ..﴾ [الروم: ٢٧]
فإعادة شيء كان موجوداً أسهلُ وأهونُ من إيجاده مِنْ لا شيء،
فلا تَنْسىَ أيها الإنسان أن خَلْقك أهونُ وأسهلُ من مخلوقات أخرى كثيرة هي أعظم منك، ومع ذلك تراها خاضعة لله طائعة، لم تعترض يوماً ولم تنكر كما أنكرت، يقول تعالى: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس..﴾ [غافر: ٥٧]
فمَنْ ينكر بَعْث الإنسان بعد أن يصير رفاتاً عليه أن يتأمل مثلاً الشمس كآية من آيات الله في الكون، وقد خلقها الله قبل خَلْق الإنسان، وستظل إلى ما شاء الله، وهي تعطي الضوء والدفء دون أنْ تتوقف أو تتعطّل، ودون أن تحتاج إلى صيانة أو قطعة غيار، وهي تسير بقدرة الخالق سبحانه مُسخَّرة لخدمتك، ما تخلَّفتْ يوما ولا اعترضتْ. فماذا يكون خَلْقك أنت أيها المنكر أمام قدرة الخالق سبحانه؟
والحق سبحانه يقول: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض... ﴾.
وقوله تعالى: ﴿مِثْلَهُمْ﴾ أي: يخلقهم هم ويُعيدهم من جديد؛ لأن الخَلْق إنشاء جديد، فهُمْ خَلْق جديد مُعَادٌ، فالمثلية هنا في أنهم مُعَادون، أو يكون المراد ﴿مِثْلَهُمْ﴾ أي: ليسوا هم، بل خَلْق مختلف عنهم على اعتبار أنهم كانوا في الدنيا مختارين، ولهم إرادات، أما الخلق الجديد في الآخرة وإنْ كان مثلهم في التكوين إلا أنه عاد مقهوراً على كل شيء لا إرادةَ له؛ لأنه الآن في الآخرة التي سينادي فيها الخالق سبحانه: ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦]
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فأبى الظالمون إِلاَّ كُفُوراً﴾ [الإسراء: ٩٩] أي: أن القيامة التي كذَّبوا بها وأنكروها واقعة لا شكّ فيها، لكن هؤلاء معاندون مُصِرُّون على الكفر مهما أتيتَ لهم بالأدلة، ومهما ضربتَ لهم الأمثلة، فإنهم مُصمِّمون على الإنكار؛ لأن الإيمان سيسلبهم ما هم فيه من السيادة وما يدعونه من العظمة، الإيمان سيُسوّي بينهم وبين العبيد، وسيُقيّد حريتهم فيما كانوا فيه من ضلال وفساد.
لكن هؤلاء السادة والعظماء الذين تأبَّوْا على الإيمان، وأنكروا البعث خوفاً على مكانتهم وسيادتهم وما عندهم من سلطة زمنية، ألم تتعرَّضوا لظلم من أحد في الدنيا؟ ألم يعتَدِ عليكم أحد؟ ألم يسرق
ثم ينتقل السياق القرآني إلى موضوع جديد، حيث يقول تعالى: ﴿قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي... ﴾.
ومعنى ﴿خَزَآئِنَ﴾ هي ما يُحفظ بها الشيء النفيس لوقته، فالخزائن مثلاً لا نضع بها التراب، بل الأشياء الثمينة ذات القيمة.
ومعنى: ﴿خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي..﴾ [الإسراء: ١٠٠] أي: خَيْرات الدنيا من لَدُن آدم عليه السلام وحتى قيام الساعة، وإنْ من شيء يحدث إلى قيام الساعة إلا عند الله خزائنه، فهو موجود بالفعل، ظهر في عالم الواقع أو لم يظهر: ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ [الحجر: ٢١] أي: أنه موجود في عِلْم الله، إلى حين الحاجة إليه.
لذلك لما تحدَّث الحق سبحانه عن خلق الآيات الكونية في السماء والأرض قال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا
نلاحظ أن قوله تعالى ﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾ جاءت بعد ذِكْر الجبال الرواسي، ثم قال: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا..﴾ [فصلت: ١٠] كأن الجبال هي مخازن القوت، وخزائن رحمة الله لأهل الأرض. والقوت: وهو الذي يتمّ به استبقاء الحياة، وهذا ناشئ من مزروعات الأرض، وهذه من تصديقات القرآن لطموحات العلم وأسبقية إخبار بما سيحدث، فهاهو القرآن يخبر بما اهتدى إليه العلم الحديث من أن العناصر التي تُكوّن الإنسان هي نفس عناصر التربة الزراعية التي نأكل منها.
لكن، كيف تكون الجبال مخازن القوت الذي جعله الله في الأرض قبل أن يُخْلَق الإنسان؟
نقول: إن الجبال هي أساس التربة التي نزرعها، فالجبل هذه الكتلة الصخرية التي تراها أمامك جامدة هي في الحقيقة ليست كذلك؛ لأن عوامل التعرية وتقلبات الجو من شمس وحرارة وبرودة، كل هذه عوامل تُفتِّت الصخر وتُحدِث به شروخاً وتشققات، ثم يأتي المطر فيحمل هذا الفُتات إلى الوادي، ولو تأملتَ شكل الجبل وشكل الوادي لوجدتهما عبارة عن مثلثين كل منهما عكس الآخر، فالجبل مثلث رأسه إلى أعلى، وقاعدته إلى أسفل، والوادي مثلث رأسه إلى أسفل وقاعدته إلى أعلى.
وهكذا، فكُلُّ ما ينقص من الجبل يزيد في الوادي، ويُكوِّن التربة الصالحة للزراعة، وهو ما يسمى بالغِرْيَن أو الطمى؛ لذلك حَدَّثونا أن مدينة دمياط قديماً كانت على شاطئ البحر الأبيض، ولكن بمرور الزمن تكوَّنت مساحات واسعة من هذا الغِرْيَن أو الطمي الذي حمله النيل من إفريقيا ففصل دمياط عن البحر، والآن وبعد بناء السد وعدم تكوُّن
إذن: فقوله تعالى عن بداية خلق الأرض: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا..﴾ [فصلت: ١٠] كأنه يعطينا تسلسلاً لخَلْق القُوت في الأرض، وأن خزائن الله لا حدودَ لها ولا نفادَ لخيراتها.
ثم يقول تعالى: ﴿إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق وَكَانَ الإنسان قَتُوراً﴾ [الإسراء: ١٠٠]
أي: لو أن الله تعالى ملَّك خزائن خيراته ورحمته للناس، فأصبح في أيديهم خزائن لا تنفد، ولا يخشى صاحبها الفقر، لو حدث ذلك لأمسك الإنسان وبخِلَ وقَتَر خوف الفقر؛ لأنه جُبِل على الإمساك والتقتير حتى على نفسه، وخوف الإنسان من الفقر ولو أنه يملك خزائن رحمة الله التي لا نفادَ لها ناتج عن عدم مقدرته على تعويض ما أَنفق؛ ولأنه لا يستطيع أنْ يُحدِث شيئاً.
والبخل يكون على الغير، فإنْ كان على النفس فهو التقتير، وهو سُبَّة واضحة ومُخزِية، فقد يقبل أن يُضَيِّق الإنسانُ على الغير، أما أنْ يُضيق على نفسه فهذا منتهى ما يمكن تصوّره؛ لذلك يقول الشاعر في التندُّر على هؤلاء:
لَوْ أنَّ بيتَكَ يَا ابْنَ يوسف كُلُّه... إبرٌ يَضِيقُ بِهاَ فَضَاءُ المنْزِلِ
وأَتَاكَ يُوسُفُ يَستعِيرُكَ إبْرةً... لِيَخيطَ قدَّ قميِصِهِ لَمْ تفْعَلِ
فالإنسان يبخل على الناس ويُقتِّر علَى نفسه؛ لأنه جُبِل علَى البخل مخافة الفقر، وإنْ أُوتِي خزائن السماوات والأرض.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ... ﴾.
فأراد الحق سبحانه أنْ يُلفِت نظره أن سابقيهم من اليهود أتتهم تسع آيات ونزلت عليهم دون أنْ يطلبوها، ومع ذلك كفروا، فالمسألة كلها تعنّت وعناد من أهل الكفر في كل زمان ومكان.
ومعنى ﴿بَيِّنَاتٍ..﴾ [الإسراء: ١٠١] أي: واضحات مشهورات بَلْقَاء
والمراد بالآيات التسع هنا هي الآيات الخاصة بفرعون؛ لأن كثيرين يخلطون بين معجزات موسى إلى فرعون، ومعجزاته إلى بني إسرائيل.
إذن: فقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ..﴾ [الإسراء: ١٠١] هي الآيات التي أُرسِل بها إلى فرعون وقومه وهي: العصا التي انقلبتْ حية، واليد التي أخرجها من جيبه بيضاء مُنورة، وأَخْذ آل فرعون بالسنين ونَقْصٍ من الأموال والأنفس والثمرات، ثم لما كذَّبوا أنزل الله عليهم الطوفان، والجراد، والقُمّل، والضفادع، والدم، هذه تسع آيات خاصة بما دار بين موسى وفرعون.
أما المعجزات الأخرى مثل العصا التي ضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظُلَّة، وإنزال المنِّ والسَّلْوى عليهم، فهذه آيات خاصة ببني إسرائيل.
وقوله تعالى: ﴿فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ..﴾ [الإسراء: ١٠١] والأمر هنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكن كيف يسأل بني إسرائيل الذين جاءهم موسى عليه السلام وقد ماتوا، والموجود الآن ذريتهم؟ نقول: لأن السؤال لذريتهم هو عَيْن سؤالهم، لأنهم تناقلوا الأحداث جيلاً بعد جيل؛ لذلك قال تعالى مُخاطباً بني إسرائيل
والنجاة لم تكُنْ لهؤلاء، بل لأجدادهم المعاصرين لفرعون، لكن خاطبهم الحق بقوله ﴿أَنجَاكُمْ﴾ لأنه سبحانه لو أهلك أجدادهم لما وُجِدُوا هم، فكأن نجاة السابقين نجاةٌ للاحقين.
ويسأل رسول الله بني إسرائيل لأنهم هم الأمة التي لها ممارسة مع منهج الله ووحيه، ولها اتصال بالرسل وبالكتب المنزَّلة كالتوراة والإنجيل، أما مشركو قريش فليس لهم صِلَة سابقة بوَحْي السماء؛ لذلك لما كذَّبوا رسول الله خاطبه بقوله:
﴿قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ [الرعد: ٤٣]
لأن الذي عنده عِلْم من الكتاب: اليهود أو النصارى عندهم عِلْم في كتابهم وبشارة ببعثة محمد، وهم يعرفونه ويعرفون أوصافه وزمن بعثته، بل ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، بل وأكثر من معرفتهم لأبنائهم، كما قال واحد منهم.
وسؤال رسول الله لبني إسرائيل سؤالَ حُجَّةٍ واستشهاد؛ لأن قومه سألوه وطلبوا أنْ يظهر لهم عدة آيات سبق ذِكْرها لكي يؤمنوا به، فأراد أنْ يُنبّههم إلى تاريخ إخوانهم وسابقيهم على مَرِّ
لذلك قال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات..﴾ [الإسراء: ٥٩] أي: التي اقترحوها ﴿إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون..﴾ [الإسراء: ٥٩] وما دام كذَّب بها الأولون فسوف يُكذِّب بها هؤلاء؛ لأن الكفر مِلَّة واحدة في كل زمان ومكان.
إذن: مسألة طلب الآيات واقتراح المعجزات ليستْ في الحقيقة رغبة في الإيمان، بل مجرد عناد ولَجَج ومحاولة للتعنُّت والجدَل العقيم لإضاعة الوقت.
ثم يقول تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ﴾ [الإسراء: ١٠١] أي: بعد أنْ رأى الآيات كلها: ﴿إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً﴾ [الإسراء: ١٠١] فاتهمه بالسحر بعد أنْ أراه كُلَّ هذه الدلائل والمعجزات.
وكلمة ﴿مَسْحُوراً﴾ [الإسراء: ١٠١] اسم مفعول بمعنى سحره غيره، وقد يأتي اسم المفعول دالاً على اسم الفاعل لحكمة، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً﴾ [الإسراء: ٤٥]
والحجاب يكون ساتراً لا مستوراً، لكن الحق سبحانه جعل الحجاب نفسه مستوراً مبالغة في السَّتْر، كما نبالغ نحن الآن في استعمال الستائر، فنجعلها من طبقتين مثلاً.
فالظل نفسه مُظلَّل، ونستطيع أن نلاحظ هذه الظاهرة إذا جلسنا في الحرِّ تحت شجرة، فسوف نجد الهواء تحتها رَطباً بارداً، لماذا؟ لأن أوراق الشجر مُتراكمة يُظلّل بعضها بعضاً، فتجد أعلاك طبقات متعددة من الظل، فتشعر في النهاية بجو لطيف مُكيف تكييفاً ربانياً.
إذن: قوله ﴿مَسْحُوراً﴾ تفيد أنه سحَر غيره، أو سحره غيره؛ لأن المسحور هو الذي أَلَمَّ به السحر، إما فاعلاً له، أو مفعولاً عليه. وهذه الكلمة قالها كفار مكة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾ [الإسراء: ٤٧] والمسحور بمعنى المخبول الذي أثّر في السحر، فصار مخبولاً مجنوناً، وهذا كذب وافتراء على رسول الله من السهل رَدُّه وضَحْده.
فإنْ كان ساحراً، فكيف يسحره غيره؟! ولماذا لم يسحركم كما سحر الذين آمنوا به؟ لماذا تأبَّيتم أنتم على سحره فلم تؤمنوا؟ وإنْ كان مسحوراً مَخْبُولاً، والمخبول تتأتّى منه حركات وأقوال دون أنْ تَمُرّ على العقل الواعي الذي يختار بين البديلات، فلا يكون له سيطرة على إراداته ولا على خُلقه، فهل عهدكم بمحمد أنْ كان مَخبولاً؟ هل رأيتم عليه مثل هذه الصفات؟
لذلك رَدَّ الحق سبحانه عليهم هذا الافتراء بقوله تعالى:
﴿ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ١ - ٤]
والمجنون لا يكون على خُلُق أبداً.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ..﴾.
إذن: فعندهم يقينٌ بصدق هذه المعجزات، ولكنهم يجحدونها؛ لأنها ستزلزل سلطانهم، وتُقوِّض عروشهم.
وقوله تعالى: ﴿بَصَآئِرَ..﴾ [الإسراء: ١٠٢] أي: أنزل هذه الآيات بصائر تُبصّر الناس، وتفتح قلوبهم، فيُقبلوا على ذلك الرسول الذي جاء بآية معجزة من جنس ما نبغَ فيه قومه.
ثم لم يَفُتْ موسى عليه السلام وقد ثبتتْ قدمه، وأرسى قواعد دعوته أمام الجميع أنْ يُكلِّم فرعونَ من منطلق القوة، وأن يُجابهه واحدة بواحدة، فيقول: ﴿وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً﴾ [الإسراء: ١٠٢] فقد سبق أنْ قال فرعون: ﴿إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً﴾ [الإسراء: ١٠١] فواحدة بواحدة، والبادي أظلم.
وهنا يقول قائل: ما الحكمة من بقاء المجنون على قَيْد الحياة، وقد سلبه الله أعظم ما يملك، وهو العقل الذي يتميز به؟
نقول: أنت لا تدري أن الخالق سبحانه حينما سلبه العقل ماذا أعطاه؟ لقد أعطاه ما لو عرفته أنت أيُّها العاقل لتمنيتَ أنْ تُجَنَّ!! أَلاَ تراه يسير بين الناس ويفعل ما يحلو له دون أنْ يعترضه أحد، أو يؤذيه أحد، الجميع يعطف عليه ويبتسم في وجهه، ثم بعد ذلك لا يُحاسَب في الآخرة، فأيُّ عِزٍّ أعظم من هذا؟
إذن: سَلْب أيّ نعمة مساوية لنعم الآخرين فيها عطاء لا يراه ولا يستنبطه إلا اللبيب، فحين ترى الأعمى مثلاً فإياك أنْ تظنّ أنك أفضل منه عند الله، لا ليس مِنّا مَنْ هو ابنٌ لله، وليس مِنّا مَنْ بينه وبين الله نسب، نحن أمام الخالق سبحانه سواء، فهذا الذي حُرِم نعمة البصر عُوِّض عنها في حواس أخرى، يفوقك فيها أنت أيها المبصر بحيث تكون الكِفَّة في النهاية مُسْتوية.
يُقتِّر عِيسَى عَلَى نَفْسِه | وَلَيْسَ بِبَاقٍ وَلاَ خَالِد |
فَلَوْ يستطيعُ لتَقتِيرِه | تنفَّسَ مِنْ مَنْخرٍ وَاحِدِ |
عَمِيتُ جَنِيناً والذكَاءُ مِنَ العَمَى | فجئتُ عَجِيبَ الظَّنِّ للعِلْم مَوْئِلاً |
وَغَاب ضِيَاءُ العَيْن للقلْبِ رافداً | لِعِلْمٍ إذَا مَا ضيَّع الناسُ حَصّلا |
وكذلك نرى كثيرين من هؤلاء الذين ابتلاهم الله بنقْصٍ ما يحاولون تعويضه ويتفوقون في نواحٍ أخرى، ليثبتوا للمجتمع جدارتهم ويُحدِثوا توازناً في حياتهم ليعيشوا الحياة الكريمة الإيجابية في مجتمعهم.
ومن ذلك مثلاً العالم الألماني (شاخْت) وقد أصيب بِقصَرٍ في إحدى ساقيْه أعفاه من الخدمة العسكرية مع رفاقه من الشباب، فأثَّر ذلك في نفسه فصمَّم أنْ يكون شيئاً، وأنْ يخدُمَ بلده في ناحية أخرى، فاختار مجال الاقتصاد، وأبدع فيه، ورسم لبلاده الخُطّة
ويجب أن نعلم أن التكوين الإنساني وخَلْق البشر ليس عملية ميكانيكية تعطي نماذج متماثلة تماماً، إبداع الخالق سبحانه ليس ماكينة كالتي تصنع الأكواب مثلاً، وتعطينا قِطَعاً متساوية، بل لا بُدَّ من الشذوذ في الخَلْق لحكمة؛ لأن وراء الخلق إرادة عليا للخالق سبحانه، ألا ترى الأولاد من أب واحد وأم واحدة وتراهم مختلفين في اللون أو الطول أو الذكاء.. الخ؟!
يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ..﴾ [الروم: ٢٢]
إنها قدرةٌ في الخَلْق لا نهاية لها، وإبداعٌ لا مثيلَ له فيما يفعل البشر.
وهناك ملْمح آخر يجب أن نتنبه إليه، هو أن الخالق سبحانه وتعالى جعل أصحاب النقص في التكوين وأصحاب العاهات كوسائل إيضاح، وتذكُّر للإنسان إذا ما نسى فضْل الله عليه، لأنه كما قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى﴾ [العلق: ٦ - ٧]
فالإنسان كثيراً ما تطغيه النعمة، ويغفل عن المنعم سبحانه، فإذا ما رأى أصحاب الابتلاءات انتبه وتذكّر نعمة الله، وربما تجد المبصر لا يشعر بنعمة البصر ولا يذكرها إلا إذا رأى أعمى يتخبَّط في الطريق، ساعتها فقط يذكر نعمة البصر فيقول: الحمد لله.
إذن: هذه العاهات ليستْ لأن أصحابها أقلُّ مِنّا، أو أنهم أهوَنُ
لكن الآفة في هذه المسألة أنْ ترى بعض أصحاب العاهات والابتلاءات لا يستر بَلْوَاه على ربه، بل يُظهِرها للناس، وكأنه يقول لهم: انظروا ماذا فعل الله بي، ويتخذ من عَجْزه وعاهته وسيلةً للتكسُّب والترزّق، بل وابتزاز أموال الناس وأَخْذها دون وَجْه حق.
وفي الحديث الشريف: «إذَا بُلِيتم فاستتروا».
والذي يعرض بَلْواه على الناس هكذا كأنه يشكو الخالق للخَلْق، ووالله لو ستر صاحب العاهة عاهته على ربه وقبلها منه لساقَ له رزقه على باب بيته. والأدْهَى من ذلك أن يتصنّع الناس العاهات ويدَّعوها ويُوهِموا الناس بها لِيُوقِعوهم، وليبتزّوا أموالهم بسيف الضعف والحاجة.
نعود إلى قصة موسى وفرعون لنستنبط منها بعض الآيات والعجائب، وأوّل ما يدعونا للعجب أن فرعون هو الذي ربَّى موسى منذ أنْ كان وليداً، وفي وقت كان يقتل فيه الذكور من أبناء قومه، لنعلم أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأن إرادته سبحانه نافذة. فقد وضع محبة موسى في قلب فرعون وزوجته فقالت: ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾ [القصص: ٩]
لقد طمس الله على قلب فرعون حتى لا يفعل شيئاً من هذا، وحال بينه وبين قلبه لِيُبيِّن للناس جهل هذا الطاغية ومدى حُمْقه، وأن وراء العناية والتربية للأهل والأسرة عنايةُ المربّي الأعلى سبحانه.
لذلك قال الشاعر:
إذَا لَمْ تُصَادِفْ مِنْ بَنيكَ عِنَايةً | فَقدْ كذبَ الرَّاجِي وَخَابَ المؤملُ |
فمُوسَى الذِي رَبَّاهُ جِبْريلُ كافِرٌ | وَمُوسَى الذِي رَبَّاه فِرْعَوْنُ مُرْسَلُ |
إذن: المعنى: فأراد فرعون أنْ يستفزّهم ويخدعهم خديعة تُخرِجهم من الأرض، فتخلو له من بعدهم، وهذا دليلٌ على غباء فرعون وتغفيله وحماقته، فما جاء موسى إلا ليأخذ بني إسرائيل، كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: ١٦ - ١٧]
فكأن غباء فرعون أعان القدر الذي جاء به موسى عليه السلام ولكن كان لله تعالى إرادة فوق إرادة فرعون، فقد أراد أن يُخرج بني إسرائيل وتخلو له الأرض، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يستفزّه هو من الأرض كلها ومن الدنيا، فأغرقه الله تعالى وأخذه أَخْذَ عزيز مقتدر، وعاجله قبل أنْ يُنفذ ما أراد.
كما يقولون في الأمثال عند أهل الريف للذي هدَّد جاره بأنْ يحرق غلّته وهي في الجرن، فإذا بالقدر يعالجه (والغلة لسه فريك) أي: يعاجله الموت قبل نُضْج الغلة التي هدد بحرقها، فأغرقه الله ومَنْ معه جميعاً.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض..﴾.
وقالوا: ﴿إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: ٢٤]
لكن كلمة ﴿الأرض﴾ هنا جاءت مجرّدة عن الوَصْف ﴿اسكنوا الأرض﴾ دون أنْ يُقيِّدها بوصف، كما نقول: أرض الحرم، أرض المدينة، وإذا أردتَ أنْ تُسكِنَ إنساناً وتُوطّنه تقول: اسكن أي: استقر وتوَطّن في القاهرة أو الإسكندرية مثلاً، لكن اسكن الأرض،
نقول: جاء قوله تعالى ﴿اسكنوا الأرض﴾ هكذا دون تقييد بمكان معين، لينسجم مع آيات القرآن التي حكمتْ عليهم بالتفرُّق في جميع أنحاء الأرض، فلا يكون لهم وطن يتجمعون فيه، كما قال تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً..﴾ [الأعراف: ١٦٨]
والواقع يُؤيد هذا، حيث نراهم مُتفرقِّين في شتَّى البلاد، إلا أنهم ينحازون إلى أماكن مُحدَّدة لهم يتجمَّعون فيها، ولا يذوبون في الشعوب الأخرى، فتجد كل قطعة منهم كأنها أمة مُستقلة بذاتها لا تختلط بغيرها.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً﴾ [الإسراء: ١٠٤] والمراد بوَعْد الآخرة: هو الإفساد الثاني لبني إسرائيل، حيث قال تعالى عن إفسادهم الأول على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً﴾ [الإسراء: ٤ - ٥]
فقد جاس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خلال ديارهم في المدينة، وفي بني قريظة وبني قَيْنُقاع، وبني النضير، وأجلاهم إلى أَذْرُعَات بالشام، ثم انقطعت الصلة بين المسلمين واليهود فترة من الزمن.
ثم يقول تعالى عن الإفسادة الثانية لبني إسرائيل: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً﴾ [الإسراء: ٧]
وهذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً﴾ [الإسراء: ١٠٤] أي: مجتمعين بعضكم إلى بعض من شَتّى البلاد، وهو ما يحدث الآن على أرض فلسطين.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ... ﴾.
الحق من حقَّ الشيء. أي: ثبت، فالحقّ هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه التغيير أبداً، أما الباطل فهو مُتغير مُتلوّن لأنه زَهُوق، والباطل له ألوان متعددة، والحق ليس له إلا لون واحد.
لذلك لما ضرب الله لنا مثلاً للحق والباطل، قال سبحانه: ﴿أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال﴾ [الرعد: ١٧]
فإنْ رأيت في عَصْر من العصور خَوَرَاً يصيب أهل الحق، وعُلُواً يحالف أهل الباطل فلا تغتر به، فهو عُلُوّ الزَّبَد يعلو صَفْحة
وهكذا الباطل مُتغيِّر مُتقلِّب لا ينتفع به، والحق ثابت لا يتغير لأنه مَظْهرية من مَظْهريات الحق الأعلى سبحانه، وهو سبحانه الحق الأعلى الذي لا تتناوله الأغيار.
وقوله: ﴿أَنْزَلْنَاهُ..﴾ [الإسراء: ١٠٥]
ونلاحظ هنا أن ضمير الغائب في ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ لم يتقدَّم عليه شيء يُوضِّح الضمير ويعود إليه، صحيح أن الضمير أعْرفُ المعارف، لكن لا بُدَّ له من مرجع يرجع إليه. وهنا لم يُسبق الضمير بشيء، كما سُبق بمرجع في قوله تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ..﴾ [الإسراء: ٨٨]
فهنا يعود الضمير في ﴿بِمِثْلِهِ﴾ إلى القرآن الذي سبق ذكره.
نقول: إذا لم يسبق ضمير الغائب بشيء يرجع إليه، فلا بُدَّ أن يكون مرجعه مُتعيّناً لا يختلف فيه اثنانِ، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١]
فهو ضمير للغائب لم يسبق بمرجع له؛ لأنه لا يرجع إلا إلى الله تعالى، وهذا أمر لا يُختَلفُ عليه.
كذلك في قوله تعالى: ﴿وبالحق أَنْزَلْنَاهُ..﴾ [الإسراء: ١٠٥]
أي: القرآن؛ لأنه شيء ثابت مُتعيّن لا يُختَلف عليه. وجاء الفعل أنزل للتعدية، فكأن الحق سبحانه كان كلامه وهو القرآن محفوظاً في اللوح المحفوظ، إلى أنْ يأتيَ زمان مباشرة القرآن لمهمته،
وهذا هو المراد من قوله ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ ثم نُنزِّله مُنَجَّماً حَسْب الأحداث في ثلاث وعشرين سنة مُدَّة الدعوة كلها، فكلما حدث شيء نزل القسط أو النجم الذي يعالج هذه الحالة.
و ﴿أَنْزَلْنَاهُ.
.﴾ [الإسراء: ١٠٥] أي: نحن، فالمراد الحق سبحانه وتعالى هو الذي حفظه في اللوح المحفوظ، وهو الذي أنزله، وأنزله على الأمين من الملائكة الذي اصطفاه لهذه المهمة.
﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين﴾ [الشعراء: ١٩٣] أي: جبريل عليه السلام الذي كرَّمه الله وجعله روحاً، كما جعل القرآن روحاً في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا..﴾ [الشورى: ٥٢]
وقال عنه أيضاً: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [التكوير: ١٩]
والكريم لا يكتم شيئاً مِمّا أُوحى إليه: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ [التكوير: ٢٠ - ٢١]
هذه صفات جبريل الذي نزل بالوحي من الحق سبحانه، ثم أوصله لمن؟ أوصله للمصطفى الأمين من البشر: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ﴾ [التكوير: ٢٢ - ٢٥]
إذن: فالقرآن الذي بين أيدينا هو هو الذي نزل من اللوح المحفوظ، وهو الحق الثابت الذي لا شَكَّ فيه، والذي لم يتغيّر منه حرفٌ واحدٌ، ولن يجد فيه أحد ثُغْرة للاتهام إلى أنْ تقومَ الساعة.
أي: الوسائل التي نزل بها كلمة ثابتة، وكلها حَقٌّ لا رَيْبَ فيه ولا شَكَّ ﴿وبالحق نَزَلَ..﴾ [الإسراء: ١٠٥] أي: مضمونه، وما جاء به منهج، معجزة حقٌّ لأنه تحدّى الفُصَحاء والبلغاء وأهل اللغة فأعجزهم في كل مراحل التحدي، والقرآن يحتوي على منهج حق.
وأول شيء في منهج القرآن أنّه تكلّم عن العقائد التي هي الأصْل الأصيل لكل دين، فقبل أنْ أقول لك: قال الله، وأَمَر الله لا بُدَّ أن تعرف أولاً مَنْ هو الله، ومَنْ الرسول الذي بلَّغ عن الله، فالعقائد هي ينبوع السُّلوكيات.
إذن: تعرّض القرآن للإلهيات، وأوضح أن الله تعالى إله واحد له صفات الكمال المطلق، وتعرَّض للملائكة وللنبوات والمعجزات والمعاد واليوم الآخر، كُلُّ هذا في العقائد؛ لأن الإسلام حرصَ أولاً على تربية العقيدة، فكانت الدعوة في مكة تُركّز على هذا الجانب دون غيره من جوانب الدين لِيُربّيَ في المسلمين هذا الأصل الأصيل، وهو الاستسلام لله، وإلقاء الزمام إليه سبحانه وتعالى.
والإنسان لا يُلقي زمام حركته إلا لمَنْ يثق به، فلا بُدَّ إذنْ من معرفة الله تعالى، ثم الإيمان به تعالى، ثم التصديق للمبلّغ عن الله.
وفي القرآن أيضاً أحكامٌ وشرائع ثابتة لا تتغير، ولن تُنسَخ بشريعة أخرى؛ لأنها الشريعة الخاتمة، كما قال تعالى: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً﴾ [المائدة: ٣]
وصدق الحق سبحانه حين قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩]
ونسوق هنا دليلاً عصرياً على أن كتاب الله جاء بالحق الثابت الذي لا يتغير على مَرِّ العصور، ففي ألمانيا استحدث أحد رجال القانون قانوناً للتعسف في استعمال الحق، وظنّوا أنهم جاءوا بجديد، واكتشفوا سلاحاً جديداً للقانون ليعاقب مَنْ له حَقّ ويتعسّف في استعمال حقه.
ثم سافر إلى هناك محام من بني سويف للدراسة، فقرأ عن القانون الجديد الذي ادعَوْا السبق إليه، فأخبرهم أن هذا القانون الذي تدَّعُونه لأنفسكم قانون إسلامي ثابت وموجود في سُنّة رسول الله، فعمدوا إلى كتب السيرة، فوجدوا قصة الرجل الذي شكا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن رجلاً له نخلة يمتلكها داخل بيته، أو أنها تميل في بيته، فأخذها ذريعة وجعل منها مسمار جحا، وأخذ يقتحم على صاحب البيت بيته بحجة أنه يباشر نخلته، فماذا كان حكم الرسول في هذه المسألة؟
هذا الرجل له حَقٌّ في النخلة، فهي مِلْكٌ له لكنه تعسَّف في استعمال حقه، وأتى بما لا يليق من المعاملة، فالمفروض ألاَّ يذهب إلى نخلته إلا لحاجة، مثل: تقليمها، أو تلقيحها، أو جمع ثمارها.
أليس ذلك من الحق الذي سبق به الإسلام؟ وأليس دليلاً على استيعاب شرع الله لكل كبيرة وصغيرة في حياة الناس؟
أَضِفْ إلى ذلك ما قاله بعض العلماء من أهل الإشراقات في معنى: ﴿وبالحق نَزَلَ﴾ أي: وعلى الحق الذي هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نزل القرآن كما تقول: ذهبت إلى القاهرة ونزلت بفلان. أي: نزلت عنده أو عليه.
ثم يقول تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾ [الإسراء: ١٠٥]
والبشارة تكون بالخير، والنذارة تكون بالشر، ويُشترط في التبشير والإنذار أن تُعطَى للمبشَّر أو للمُنْذَر فرصة يراجع فيها نفسه، ويُعدّل من سلوكه، وإلا فلا فائدة، ولا جدوى منهما، فتُبشّر بالجنة وتُنذَر بالنار في مُتَّسَع من الوقت ليتمكن هذا من العمل للجنة، ويتمكن هذا من الإقلاع عن سبيل النار.
ومثال ذلك: أنك تُبشِّر ولدك بالنجاح والمستقبل الباهر إن اجتهد، وتحذره من الفشل إن أهمل، وهذا بالطبع لا يكون ليلة الامتحان، بل في مُتَّسَع أمامه من الوقت لينفذ ما تريد.
والحق سبحانه وتعالى هنا يخبر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بحقيقة مهمته كرسول عليه البلاغ بالبشارة والنذارة، فلا يُحمِّل نفسه فوق طاقتها؛ لأنه ليس مُلْزَماً بإيمان القوم، كما قال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً﴾
[الكهف: ٦]
فكأنه سبحانه يُخفِّف العِبْءَ عن رسوله، ويدعوه ألاَّ يُتعِب نفسه في دعوتهم، فما عليه إلا البلاغ، وعلى الله تبارك وتعالى الهداية للإيمان.
لكن حِرْص رسول الله على هداية قومه نابع من قضية تحكمه وتستولي عليه لخَّصها في قوله: «والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كامل الإيمان، ويحب لقومه أن يكونوا كذلك، حتى أعداؤه الذين وقفوا في وجه دعوته كان إلى آخر لحظة في الصراع يرجو لهم الإيمان والنجاة؛ لذلك لما مُكِّن منهم لم يعالجهم بالعقوبة، بل قال: «بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يُشرك به شيئاً».
وفعلاً صدق الله ورسوله، وجاء من ذريات هؤلاء مَنْ حملوا راية
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس... ﴾.
وقد جاءت هذه الآية للردِّ على الكفار الذين اقترحوا أن ينزل القرآن جملة واحدة، كما قال تعالى حكاية عنهم: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً..﴾ [الفرقان: ٣٢]
وأول ما نلحظه عليهم أن أسلوبهم فضحهم، وأبان ما هُمْ فيه من تناقض، ألم يسبق لهم أن اتهموا الرسول بافتراء القرآن. وهاهم الآن يُقِرُّون بأنه نزل عليه، أي: من جهة أعلى، ولا دَخْلَ له فيه، وقد سبق أن أوضحنا أنهم لا يتهمون القرآن، بل يتهمون رسول الله الذي نزل عليه القرآن.
ثم يتولّى الحق سبحانه الردّ عليهم في هذا الاقتراح، ويُبيِّن أنه اقتراح باطل لا يتناسب وطبيعة القرآن، فلا يصح أن ينزل جملة واحدة كما اقترحوا للأسباب الآتية:
١ -. ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ..﴾ [الفرقان: ٣٢]
وفي نزول الوحي عليه يَوْماً بعد يَوْم، وحسْب الأحداث ما يُخفّف عنه، وما يزيل عن كاهله ما يعاني من مصاعب ومَشَاقِّ الدعوة وفي استدامة الوحي ما يصله دائماً بمَنْ بعثه وأرسله، أما لو نزل القرآن جملةً واحدة لكان التثبيت أيضاً مرة واحدة، ولَفقد رسول الله جانب الصلة المباشرة بالوحي، وهذا هو الجانب الذي يتعلق في الآية برسول الله.
٢ -. ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ [الفرقان: ٣٢] أي: نَزَّلْنَاه مُرتّلاً مُفرّقاً آيةً بعد آية، والرتل: هو المجموعة من الشيء. كما نقول: رتل من السيارات، وهكذا نزل القرآن مجموعة من الآيات بعد الأخرى، وهذه الطريقة في التنزيل تُيسِّر للصحابة حِفْظ القرآن وفَهْمه والعمل به، فكانوا رضوان الله عليهم يخفظون القدر من الآيات ويعملون بها، وبذلك تيسَّر لهم حفظ القرآن والعمل به، فكانت هذه الميْزَة خاصة بالصحابة الذي حفظوا القرآن، وما زلنا حتى الآن نُجِّزئ القرآن للحفظة، ونجعله ألواحاً، يحفظ الله تلو الآخر.
٣ -. ﴿وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ [الفرقان: ٣٣]
وهذه للمخالفين لرسول الله، وللمعاندين لمنهج الله الذين
﴿وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ﴾ أي: بشيء عجيب يستدركون به عليك ﴿إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق﴾ أي: ردّاً عليهم بالحق الثابت الذي لا جدالَ فيه.
وإليك أمثلة لِردِّ القرآن عليهم رَدّاً حيّاً مباشراً.
فلما اتهموا رسول الله وقالوا: ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾ [الإسراء: ٤٧] رَدَّ القرآن عليهم بقوله تعالى: ﴿ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ١ - ٤]
ولما قالوا: ﴿مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق..﴾ [الفرقان: ٧] يردُّ القرآن عليهم بقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق..﴾ [الفرقان: ٢٠]
فليس محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بدعاً في هذه المسألة، فهو كغيره من الرسل الذين عُرِفت عنهم هذه الصفات، وفي هذا ما يؤكد سلامة الأُسْوة في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأنه بشر مثل الذين أرسلنا إليهم من قبله، إنما لو كانت في محمد خاصية ليست في غيره ربّما اعترضوا عليها واحتجُّوا بها.
لذلك كان من أدب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع ربه ومع صحابته أنه قال: «إنما أنا بشر يرد عليَّ أي بالوحي فأقول: أنا لست كأحدكم، ويؤخذ مني فأقول: ما أنا إلا بشر مثلكم».
ولما اتهموا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقالوا: ﴿أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ..﴾ [سبأ: ٨] فردّ عليهم الحق سبحانه بقوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [هود: ١٣]
ثم يتنزّل معهم في هذا التحدي، ويترأف بهم: ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ..﴾ [البقرة: ٢٣]
ثم يناقشهم في هذه المسألة بهذا الأدب الرفيع والنموذج العالي للحوار: ﴿قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ﴾ [هود: ٣٥]
وفي آية أخرى يقول: ﴿قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [سبأ: ٢٥]
فانظر إلى هذا الأدب: رسول الله حين يتحدّث عن نفسه يقول ﴿أَجْرَمْنَا﴾ وحين يتحدث عن أعدائه لا ينسب إليهم الإجرام، بل يقول: ﴿وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
هذا كله من الحق الذي جاء به القرآن ليردّ عن رسول الله اتهامات القوم، وبالله لو نزل القرآن جملةً واحدة، أكان من الممكن الردُّ على هذه الاتهامات ومجادلة القوم فيما يُثيرونه من قضايا؟
إنْ كانت هذه الأمثلة خاصة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتبرئة ساحته في مجال الدعوة إلى الله، فهناك أيضاً ما يتعلق بالأحكام والتشريع، فالقرآن نزل بالعقائد والأحكام والتشريعات، ونزل ليكون دائماً ثابتاً
فإن نظرتَ إلى العقائد وجدتَ الكلام فيها قاطعاً لا هوادةَ فيه، يأتي هكذا قَوْلاً واحداً، فالله واحد أحد لا شريك له، له صفات الكمال المطلق، وكذلك الحديث عن الملائكة والبَعْث والحساب.
لكن تجد الأمر يختلف في الحديث عن العادات التي أَلِفها الناس في حركة الحياة، فهذه أمور تحتاج إلى تلطُّف وتدرُّج، ولا يناسبها القصْر والقَطْع. ألم تَرَ إلى المشرّع سبحانه حينما أراد أنْ يُحرِّم الخمر، كيف تدرّج في تحريمها على عدة مراحل حتى يجتثّ هذه العادة التي تحكّمتْ في نفوس الناس وتملَّكتهم، أكان يمكن معالجة هذه المسألة بهذه الطريقة إذا نزل القرآن جملة واحدة؟
انظر كيف لفتَ أنظارَ القوم بلُطْف إلى أن في الخمر شيئاً، فقال تعالى: ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً..﴾ [النحل: ٦٧]
ولما سمع بعض الصحابة هذه الآية قال: والله لكأن الله يُبيِّت للخمر شيئاً، لقد فهم بملكته العربية أن الله تعالى طالما وصف الرزق بأنه حسن، وسكت عن السَّكَر فلم يَصِفْه بالحُسْن، فإن وراء هذا الكلام أمراً في الخمر؛ لأنه يتلف نعمة الله ويُفسِدها على أصحابها.
ثم يُحَوِّل هذه المسألة إلى عِظَة وإرشاد، فيقول: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا..﴾ [البقرة: ٢١٩]
ثم حدث من أحدهم أن صلّى وهو مخمور لا يدري ما يقول، فلما سمعوه يقول: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، فغمزه مَنْ بجواره وعرف أنه مخمور، ووصل خبره إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ..﴾ [النساء: ٤٣]
وبذلك أطال مدَّة الامتناع عن شُرْب الخمر، فالصلاة خمس مرات في اليوم والليلة، فإذاً لا بُدَّ من الامتناع عن الخمر قبل الصلاة بوقت كافٍ، وهكذا عوَّدهم الامتناع ودرَّبهم على الصبر عن هذه الآفة التي تمكَّنتْ منهم. ثم يتحيَّن الحق سبحانه فرصة منهم، حيث اجتمع القوم في مجلس من مجالس الشراب، ولما لعبتْ الخمر بالعقول تشاجروا حتى سالتْ دماؤهم، وعندما ذهبوا بأنفسهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسألونه:
فكيف كانت معالجة هذه الآفة التي تمكّنتْ من الناس لو نزل القرآن جملة واحدة؟
إن الحق تبارك وتعالى بنزول القرآن مُفَرّقاً مُنجّماً حَسْب الأحداث، كأنه يُجري مشاركة بين آيات التنزيل والمنفعلين بها الذين يُصِرّون على تنفيذ مطلوباتها، حتى إنهم ليبادرون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالسؤال، مع أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد نهاهم أن يبدأوه بالسؤال، كما قال تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ..﴾ [المائدة: ١٠١]
ولكنهم مع هذا تغمزهم المسألة فيبادرون بها رسول الله، كما حكى القرآن: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر..﴾ [البقرة: ٢١٩]
﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ..﴾ [البقرة: ٢١٩]
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة..﴾ [البقرة: ١٨٩]
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال..﴾ [طه: ١٠٥]
إذن: وراء نزول القرآن مُفرّقاً مُنجّماً حِكَم بالغة يجب تدبُّرها، هذه الحِكَم ما كانت لتحدث لو نزل القرآن جملةً واحدةً.
لذلك حينما نقول للطالب أعرب: (رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ) يقول: اغفر فعل أمر، نقول له: أنت سطحيّ العبارة؛ لأن الأمر هنا من الأدنى للأعلى، من العبد لربه تبارك وتعالى، فلا يقال: أمر، إنما يقال: دعاء.
والطاعة أن تمتثل الأمر والنهي، فهل نقول في قوله تعالى: ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا..﴾ [الإسراء: ١٠٧] أنها للتخيير، فإنْ آمنوا فقد أطاعوا، وكذلك إنْ لم يؤمنوا فقد أطاعوا أيضاً؟
نقول: الأمر والنهي هنا لا يُراد منه الطلب، بل يراد به التهديد أو التسوية كما تقول لابنك حين تلاحظ عليه الإهمال: ذاكر أو لا تذاكر، أنت حر؛ لاشك أنك لا تقصد النهي عن المذاكرة، بل تقصد تهديده وحثّه على المذاكرة.
فهذا ليس أمراً بحيث أن الذي يفعل الأمر أو النهي يكون طائعاً، بل المراد هنا التهديد أو التسوية، فسواء آمنوا أو كفروا؛ لأن الحق سبحانه جعل في ذلك عزاءً لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في إيمان أهل الكتاب.
﴿إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ..﴾ [الإسراء: ١٠٧] أي: اليهود والنصارى الذين ارتاضوا بالكتب السماوية، واستمعوا للتوارة والإنجيل، ونقلوها إلى غيرهم من المعاصرين للقرآن فهؤلاء شاهدون بأن الرسول حَقٌّ بما عندهم من بشارة به في التوراة والإنجيل؛ لذلك يتركون دينهم ويسارعون إلى الإسلام؛ لأنهم يعلمون عِلْم اليقين أنه الدين الحق.
ومن هؤلاء عبد الله بن سلام، وكان من علماء اليهود، وكان يعلم أوصاف رسول الله وزمن بَعْثته؛ لذلك قال: لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشدّ.
إذن: ففي إيمان عبد الله بن سلام وغيره من اليهود والنصارى الذين عرفوا رسول الله بأوصافه في كتبهم وعرفوا موعد بعثته وأنه حق، في إيمان هؤلاء عَزَاءٌ لرسول الله حين كفر به قومه وكذّبوه لذلك قال تعالى: ﴿قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ [الرعد: ٤٣]
ونحن مُكْتفون بشهادة هؤلاء؛ لأنهم قوم صادقون مع أنفسهم، صادقون مع أنبيائهم ومع كتبهم التي تلقوْهَا، فحينما بشَّرت بمحمد ووصفته لم ينكروا هذه الصفات ولم يُحرِّفوها، بل كانوا يسارعون إلى المدينة انتظاراً لمبعث النبي الجديد الذي سيظهر فيها، لقد كانوا يقولون لكفار مكة: لقد أظلَّ زمان نبي جديد نتبعه قبلكم، ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم.
وقوله تعالى: ﴿إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ..﴾ [الإسراء: ١٠٧] أي: القرآن ﴿يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً﴾ [الإسراء: ١٠٧]
كلمة ﴿يَخِرُّونَ﴾ توحي بأنهم يسارعون إلى السجود، وكأنها عملية انفعالية غير إرادية ليس لهم فيها تصرُّف، فبمجرد سماع القرآن يرتمون على الأرض ساجدين؛ لأنهم تفاعلوا معه، واختمر الإيمان في نفوسهم. ليس ذلك وفقط، بل ويخرون ﴿لِلأَذْقَانِ﴾ جمع ذَقَن، وهي أسفل الفَكِّ السفلي، ومعلوم أن السجود يكون على الجبهة، أما هؤلاء فيسجدون بالوجه كله، وهذا دليل على الخضوع والاستسلام لله تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ... ﴾.
ويقول الحق سبحانه عنهم: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ... ﴾.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى... ﴾.
والأسماء عندنا أنواع كثيرة: إما اسم، أو كُنْية، أو لَقَب.
الاسم: وهو أغلب الأعلام، ويُطلَق على المولود بعد ولادته ويُعرَف المولود به.
والكُنْية: وتُطلَق على الإنسان، وتُسبَق بأب أو أم أو ابن أو بنت، كما نقول: أبو بكر، وأم المؤمنين.
واللقب: وصف يُشْعِر بالمدح أو الذم، كما نقول: الصِّديق، الشاعر، الفاروق.
وإذا كُنّا نحن نُسمِّي أولادنا: فإن الحق سبحانه سَمَّى نفسه بأسمائه التي قال عنها: الأسماء الحُسْنى، وكلمة (حُسْنى) أفعل تفضيل للمؤنث، مثل: كبرى. والمذكر منها أحسن. لكن لماذا وَصَف أسماءه تعالى بالحسنى؟
الاسم يُبيِّن المسمّي، لكن الأسماء عند البشر قد لا تنطبق على المسمَّى الذي أُطلقت عليه، فقد نُسمِّي شخصاً «سعيد» وهو شقي، أو نسمي شخصاً «ذكي» وهو غبي. وهذا ليس بحَسنٍ في الأسماء، الحسَن في الاسم أنْ يطابق الاسم المسمَّى، ويتوفّر في الشخص الصفة التي أُطلِقت عليه، فيكون الشخص الذي سميناه «سعيد» سعيداً فعلاً.
وهكذا يكون الاسم حسناً، لكنه لا يأخذ الحُسْن الأعلى؛ لأن الحُسن الأعلى لأسماء الله التي سَمّى بها نفسه، فله الكمال المطلق.
فهذه إذن لا تتأتَّى في تسمية البشر، فكثيراً ما تجد «عادل» وهو ظالم، و «شريف» وليس بشريف؛ لذلك قلنا:
وَأَقْبَحُ الظُّلْمَ بَعْد الشِّرْكِ منزلةً | أنْ يظلم اسمٌ مُسمّى ضِدّه جُعلاَ |
فَشَارِع كعِمَادِ الدين تَسْمِية | لكِنْه لِعِنَادِ الدِّينِ قَدْ جُعِلاَ |
فلفظ الجلالة (الله) عَلَم على واجب الوجود، وبعد ذلك جاءت صفات غلبت عليه، بحيث إذا أُطلِقَتْ لا تنصرف إلا إليه. فإذا قُلْنا: العزيز على إطلاقه فإنها لا تنصرف إلا لله تعالى، لكن يمكن أن نقول فلان العزيز في قومه، فلان الرحيم بمَنْ معه، فلان النافع لمَنْ يتصل به، إنما لو قُلْت: النافع على إطلاقه فهو الله سبحانه وتعالى.
لذلك؛ حَلَّتْ الصفات محلَّ اسم الذات ﴿الله﴾ ؛ لأنها إذا أُطْلِقَتْ لا تنصرف إلا لله تعالى، فأسماءُ الله الحُسْنى هي في الأصل صفات له سبحانه.
ولو تأملنا هذه الأسماء لوجدناها على قسمين: أسماء ذات، وأسماء صفات فعلية، اسم الذات لا يتصف الله بمقابله، فالعزيز مثلاً اسم ذات فلا نقول في مقابله الذليل، والحيّ اسم ذات فلا نقول: الميت. أما اسم الصفة الفعلية فيكون له مقابل، فالمعزّ صفة فعل يعني يُعِزّ غيره، ومقابلها المذلّ، والضَّارّ مقابلها النافع، والمحيي مقابلها المميت وهكذا.. إنْ وجدتَ للاسم مقابلاً فاعلم أنه اسمٌ لصفة الفعل من الله تعالى، وإذا لم يكن له مقابل فهو اسم ذات.
لكن تقف مثلاً عند السَّتَّار وهي صفة فعل لأنه يستر غيره، لكن ليس لها مقابل فلا نقول الفضَّاح، لماذا؟ لأنه تبارك وتعالى يريد أنْ يتخلق خَلْقه بهذه الصفة، وأنْ يُربِّب صفة الستر عند الناس للناس، فلو علم الناس، عن أحد أمراً فاضحاً لزهدوا في كل ما يأتي من عنده ولو كان حسنة، وبذلك يُحرَم المجتمع من طاقات كثيرة من الخير.
مَنْ ذَا الذِي مَا سَاءَ قَطُّ | وَمَنْ لَهُ الحُسْنى فَقَطْ |
ومن هنا قالوا: لو تكاشفتم ما تدافنتم، أي: لو تكشفتْ الأسرار، وعرف كُلٌّ منكم عَيْب أخيه ما دفنتم مَنْ يموت منكم، وهذا منتهى ما يمكن تصوُّره من التقاطع بين الناس.
فقوله تعالى: ﴿قُلِ ادعوا الله..﴾ [الإسراء: ١١٠] فاختار هذا الاسم بالذات ﴿الله﴾ العَلَم على واجب الوجود، وهو اسم ذات لا يدلُ على صفة معينة، لكنه يحمل في طياته كل صفات الكمال فيه، فإنْ كانت للأسماء الأخرى مجالات، فالقادر في القدرة، والحكيم في الحكمة، والقابض في القبض، والعزيز في العِزّة. فإن لكل اسم مجالاً وسيالاً، فإن ﴿الله﴾ هو الاسم الجامع لكل الصفات.
لذلك في الحديث النبوي الشريف: «كُلُّ شيء لا يُبدأ باسم الله فهو أبتر».
لأنك ذكرتَ الاسم الجامع لكلِّ صفات الكمال.
﴿أَوِ ادعوا الرحمن..﴾ [الإسراء: ١١٠] واختار الرحمن دون الجبار أو القهار؛ لأن الرحمة صفة التحنين للخلق، فالحق سبحانه وتعالى يُظهِر هذه الصفة لعباده حتى في أسماء الجبار والقهار؛ لأنها من خَدَم الرحمة ومن أسبابها؛ لأن العبد إذا عرف لله: صفة الجبروت، وصفة القهر، وصفة الانتقام انتهى عن أسباب الوقوع تحت طائلة هذه الصفات، فكأنه يرحم عباده حتى بصفات القهر والانتقام.
ومن هذا قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب..﴾ [البقرة: ١٧٩] لأنه إذا علم القاتل أنه سيُقتل انتهى عن القتل. وفي الأثر: «القتل أنْفَى للقتل».
إذن: فتشريع القصاص وإقامة الحدود والعقوبات لا لتعذيب الخلق، وإنما رحمة بهم حتى يقفوا بعيداً عن ارتكاب ما يُوجِب القصاص أو الحد أو العقوبة، حتى الذي يقهره الله مرحوم أيضاً؛ لأنه ما دام قال: أنا قهار. فاحذرني، فهو بذلك يرحمه لأنه يُحذِّره من أسباب الوقوع فيما يستوجب غضبه وانتقامه.
وكذلك اختار اسم ﴿الرحمن﴾ لأن مجال التكليف كله الرحمة، وما نزل المنهج من الله إلا لينظم حياة الناس ويُحقِّق لهم السعادة في
فالرحمانية الإلهية هي الغالبة في كل التشريع، وهي السِّمَة العامة، أَلاَ ترى قوله تعالى: ﴿الرحمن عَلَّمَ القرآن﴾ [الرحمن: ١ - ٢]
فالقرآن الذي نزل لِيُنظّم حياة الناس ويحكمها، ويصلح حركة الحياة، ويضع السلام بينك وبين الله، وبينك وبين نفسك، وبينك وبين الناس، هذا القرآن مظهر من مظاهر هذه الرحمانية الإلهية.
وقد اعترض بعض المستشرقين على قوله تعالى في سورة الرحمن: ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٣] والآلاء هي النعم، وأنها جاءت تذييلاً لقوله تعالى: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ﴾ [الرحمن: ٣٥] فالآية تتحدث عن النار والشواظ، فكيف تُختم هذه الخاتمة التي تدلُّ على النعمة؟
ولو تدبَّر القوم ما اعترضوا؛ لأن في الناس والتحذير منها والتخويف بها نعمة، كأن القرآن يقول لك: إياك أنْ تفعل ما يُوجِب النار والشُّواظ فتقلع وترتدع من قريب، أليست هذه من نعم الله على عباده؟ أليست رحمة بهم؟ وماذا كنتم ستقولون إنْ لم يُقدِّم لكم الحق سبحانه تحذيراً وإنذاراً، ثم فاجأكم بالعذاب؟
ونقف على لطيفة أخرى لاستخدام اسم الله ﴿الرحمن﴾ في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً﴾ [الفرقان: ٥٩]
فالحق سبحانه ينبهنا بقوله: ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً﴾ [الفرقان: ٥٩] واختار صفة الرحمة لِيُوحِي لنا أن قعوده على العرش لا يعني القَهْر والجبروت، إنما قعد على عرشه رحمةً بكم، قعد على العرش ليُنظّم حياتكم، ويرحم بعضكم ببعض، فتسعدوا بالحياة، فالاستواء هنا لا استواءَ قهر وغلبة، بل استواء رحمة لمصلحتكم أنتم.
وفي آية أخرى قال: ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ [طه: ٥]
وقد ورد استواؤه سبحانه على العرش في سبعة مواضع في كتاب الله، نظمها الناظم في قوله:
وَذكْرُ اسْتواء الله في كَلماتِهِ | علَى العَرْشِ فِي سَبْع مَواضِعَ فَاعْدُدِ |
فَفِي سُورَة الأعرافِ ثمة يُونُس | وفي الرعْدِ مع طَه فلْلعَدِّ أكدِ |
وَفِي سُورة الفُرْقانِ ثمة سَجْدة | كَذَا فِي الحديدِ افْهَمُوا فَهْم مؤيَّد |
قالوا: لأن المغفرة تُوحِي بوجود ذنب، والذنب يقتضي العقوبة، وهذه من اختصاص صفة الجبار، فهل تغلَّبتْ صفة الغفار على صفة الجبار، وأخذت اختصاصها؟ لا بل تشفع صفة الغفار عند صفة الجبار: الموقف لكِ أيتها الصفة، لكن نستسمحك في أن نشفع في هؤلاء، فكأن صفات الجمال تشفع عند صفات الجلال.
لذلك، فالذين يُفسِّرون الحديث يقولون: شفع المؤمنون، وشفع الأنبياء، وشفعت الملائكة، وبقيت شفاعة أرحم الراحمين فعند مَنْ سيشفع أرحم الراحمين؟ قالوا: تشفع ذاته عند ذاته، وهكذا
ثم يقول تعالى: ﴿قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى..﴾ [الإسراء: ١١٠] فأيُّ اسم تدعو به لأن أسماءه كلها حُسْنى، لكن ليكُنْ عندك ذكاء في الدعاء، فتدعو بما يناسب حاجتك، فإنْ أردت عِلْماً فقُلْ: يا عالم علِّمني، وإنْ كنتَ ضعيفاً فقُلْ: يا قوي قَوِّني، وإنْ أردتَ العزة فَقُلْ: يا عزيز أعِزَّني وهكذا.. فإن أردتَ الاختصار فقُلْ: يا الله. تكفيك كل شيء.
ثم يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ١١٠] الصلاة يراد بها كل أعمال الصلاة ﴿وَلاَ تَجْهَرْ﴾ فالجهر منهيٌّ عنه، وكذلك ﴿وَلاَ تُخَافِتْ﴾ أي: لا تُسِرَّها بحيث لا يَسْمعك من خلفك، وهذا منهيّ عنه أيضاً.
فكِلاَ الطرفين مذموم، وخَيْر الأمور الوسط.
ونُوضِّح هنا: إذا كان الجهر بالصلاة منهيّاً عنه فارتفاع الصوت عالياً من باب أَوْلَى، فلا يليق أبداً رَفْع الصوت بالصلاة، ثم استعمال الميكروفونات أيضاً، وما تُسبِّبه من إزعاج للناس.
والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٤]
فأنت حين ترفع صوتك بالقرآن، وخاصة في الميكروفون تلزم الناس بالإنصات، وتُوقِعهم في الإثم والحرج، أو تعطل مصالحهم،
كالذي يُشعِل الميكروفون قبل صلاة الفجر، ويأخذ في إنشاد كلام ما نزل به الشرع، يزعج به الناس، ويُقلق به المريض، ولا يراعي للناس حُرْمة. فمتى يفيق المسلمون؟ ومتى ينتبهون إلى هذه البدع التي تُشوِّش على الناس وتُفسِد عليهم عبادتهم؟
أما إنْ كان رَفْع الصوت بالقرآن لغرض دنيوي ومكْسَب شخص، وأن نجعل الأمر مَعْرضاً للأصوات، ومِضْماراً للسباق، إنْ كان الأمر استغلالاً للدين لحساب الدنيا والعياذ بالله، فقد دخل صاحبه في شريحة أخرى من الإثم، عافانا الله وإياكم.
والحق سبحانه يقول: ﴿وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ١١٠]
أي: بين الجهر والإسرار، واسلك سبيل الوسطية التي جاء بها الشرع، وتأسّ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما كان يتفقد الصحابة ليلاً فوجد أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقرأ، ولا يكاد يسمع صوته، فلما سأله. قال: يا رسول الله، أناجي ربي وهو عالم بي، فلما ذهب إلى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وجده يقرأ بصوت عالٍ، فلما سأله قال: يا رسول الله أزجر به الشيطان. عندها أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبا بكر أنْ يرفع
وهذا الاعتدال وهذه الوسطية أُمِرْنَا بها حتى في الدعاء، كما جاء في قوله تعالى: ﴿واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول﴾ [الأعراف: ٢٠٥]
فكلمة: ﴿بَيْنَ ذلك..﴾ [الإسراء: ١١٠] البينية هذه تكاد تشيع في كل أحكام الدين؛ لأن القرآن جاء لأمة وسط بالأمور الوسط في كل شئون الحياة، ففي قمة المسائل وهي الأمور العَقَدية مثلاً يقف الإسلام موقفَ الوسطية بين مَنْ يُنكِرون وجود الإله ومن يقول بآلهة متعددة، فينفي هذه وهذه ويقول بوجود إله واحد أحد لا شريكَ له.
وفي الإنفاق يختار الوسط، فيقول: ﴿والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾
[الفرقان: ٦٧]
وبذلك ضمن لأهله نظاماً اقتصادياً ناجحاً يُثري حياة الجماعة، ويَرْقَى بحياة الفرد، وقد لخّص هذا المنهج الاقتصادي في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً﴾ [الإسراء: ٢٩] فالممسك المقتّر الذي يقبض يده على الإنفاق يتسبّب في رُكود البضائع وتوقف حركة الحياة، وهذا خطر على المجتمع، وفي التبذير خطر على الفرد حيث ينفق كل مَا معه، ولا يُبقي على شيء
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً﴾.
الحق سبحانه يقول: ﴿الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً..﴾ [الإسراء: ١١١]
فكَوْنه سبحانه لم يتخذ ولداً نعمة كبيرة على العباد يجب أنْ يحمدوه عليها، فإنْ كان له ولد فسوف يخصُّه برعايته دون باقي الخَلْق، فقد تنزّه سبحانه عن الولد، وجعل الخَلْق جميعهم عياله، وكلُّهم عنده سواء، فليس من بينهم مَنْ هو ابن لله أو مَنْ بينه وبين الله قرابة، وأحبّهم إليه تعالى أتقاهم له، وهكذا ينفرد الخَلْق بكل حنان ربهم وبكل رحمته.
ثم، ما الحكمة من اتخاذ الولد؟ الناس يتخذون الولد ويحرصون على الذَّكَر، خاصة لأمرين: أن يكون الولد ذكرى وامتداداً لأبيه بعد موته، كما قال الشاعر:
أَبُنيّ يَا أنَا بَعْدَمَا أقْضِي... والحق سبحانه وتعالى باقٍ دائمٌ، فلا يحتاج لمَنْ يُخلِّد ذكراه، أو يكون امتداداً له، تعالى الله عن ذلك عُلواً كبيراً، فالحمد لله أنه لم يتخذ ولداً.
ثم يقول سبحانه: ﴿وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك..﴾ [الإسراء: ١١١]
وهذا أيضاً من النعم التي تستوجب الحمد، ولك أنْ تتصوّر لو أن لله تعالى شريكاً في الملْك، كم تكون حَيْرة العباد، فأيُّهما تُطيع وأيهما تُرضِي؟
لقد أوضح لنا الحق سبحانه هذه المسألة في هذا المثل الذي ضربه لنا: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً..﴾ [الزمر: ٢٩]
لذلك، ففي أعراف الناس وأمثالهم يقولون: (المركب التي بها ريسين تغرق) وكَوْنه سبحانه واحداً لا شريك له يجعلك تطمئن إلى أمره ونَهْيه فتُطيعه وأنت مطمئن، فأوامره سبحانه نافذة لا مُعقِّب لها، ولا مُعترِض عليها، فليس هناك إله آخر يأمرك بأمر مخالف، أليست هذه نعمة تستوجب الحمد؟
وأيضاً فإن الحق سبحانه يقول: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل..﴾ [الإسراء: ١١١]
الوليّ: هو الذي يليك، وأنت لا تجعل أمرك إلا لمن تثق به أنه يجلب لك نَفْعاً، أو يدفع عنك ضُرّاً، أو ينصرك أمام عدو، أو يُقوِّي
والحق سبحانه ليس له وليٌّ يلجأ إليه ليعزه؛ لأنه سبحانه العزيز المعِزّ القائم بذاته سبحانه، ولا حاجة له إلى أحد.
ثم يقول تعالى: ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً﴾ [الإسراء: ١١١]
لأن عظمة الحق سبحانه في نفس المؤمن أكبر من كل شيء، وأكبر من كل كبير؛ لذلك جُعلتْ (الله أكبر) شعار أذانك وصلاتك، فلا بُدَّ أن تُكبِّر الله، وتجعله أكبر مِمّا دونه من الأغيار، فإنْ ناداك وأنت في أيّ عمل فقُلْ: الله أكبر من عملي، وإنْ ناداك وأنت في حضرة عظيم، فقل: الله أكبر من أيِّ عظيم، كبِّره تكبيراً بأن تُقدِّم أوامره ونواهيه على كل أمر، وعلى كل نهي.
ولا تنسَ أنك إن كبَّرْتَ الحق سبحانه وتعالى أعززْتَ نفسك بعزة الله التي لا يعطيها إلا لمَنْ يخلص العبودية له سبحانه، فَضْلاً عن أن العبودية لله شرفٌ للعبد، وبها يأخذ العبد خَيْر سيده، أما العبودية للبشر فهي مذمومة مكروهة، وهي مذلة وهوان، حيث يأخذ السيد خير عبده.
وصدق الشاعر حين قال:
حَسْبُ نَفْسِي عِزّاً بأنِّي عَبْدٌ | يَحْتفِي بي بلاَ مَواعِيدَ رَبُّ |
هُوَ في قُدْسِهِ الأعَزِّ وَلكِنْ | أَنَا ألْقَي متَى وأَينَ أحِبُّ |
ولذلك كانت حيثية الرفعة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الإسراء والمعراج أنه عبد لله، حيث قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى..﴾ [الإسراء: ١]
فالعزة في العبودية لله، والعزة في السجود له تعالى، فعبوديتك لله تعصمك من العبودية لغيره، وسجودك له تعالى يعصمك من السجود لغيره، أَلاَ ترى قول الشاعر:
وَالسُّجُودُ الذِي تَجْتَوِيه | مِنْ أُلُوفِ السُّجودِ فِيهِ نَجَاةٌ |
فعليك إذن أن تكون دائماً في معيّة ربك تأمن كيد الكائدين ومكْر الماكرين، ولا ينالك أحدٌ بسوء، فإن ابتلاه الله بشيء فكأنما يقول له: أبتليك بنعمتي لتأخذ من ذاتي، لأن الصحيح المعَافَى إنْ كان في معية نعمة الله، فالمبتلى في معية الله ذاته.
ألم يَقُلْ الحق سبحانه في الحديث القدسي: «يا بن آدم مرضْتُ فلم تَعُدْني، قال: يا رب وكيف أعودك وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول:
فالمريض الذي يأنس بزائريه ويسعد بهم ويرى في زيارتهم تخفيفاً من آلامه ومواساة له في شدته، ما باله إن أنس بالله وكان في جواره وكلاءته، والله الذي لا إله إلا هو لا يشعر بوخْز المرض أبداً، ويستحي أن يتأوّه من ألم، ولا ييأس مهما اشتد عليه البلاء؛ لأنه كيف يتأوه من معية الله؟ وكيف ييأس والله تعالى معه؟
إذن: كبِّره تكبيراً.
أي: اجعل أمره ونَهْيه فوق كل شيء، وقُلْ: الله أكبر من كل كبير حتى الجنة قل: الله أكبر من الجنة. أَلاَ ترى قَوْل رابعة العدوية:
كُلُّهُمْ يعبدُونَك من خَوْف نارٍ | ويَروْن النجاةَ حَظّاً جَزِيلا |
أَوْ بِأَنْ يَسْكُنُوا الجِنَانَ فَيَحْظَوْا | بقُصُورٍ ويَشْرَبُون سَلْسَبِيلا |
لَيْسَ لِي بالجنانِ وَالنَّارِ حَظٌّ | أنَا لاَ أَبْتغِي بِحُبّي بَدِيلاً |
فالله تعالى بذاته سبحانه أكبر من أيّ شيء، حتى إن كانت الجنة، ففي آخر سورة الكهف يقول تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ
فلم يَقُلْ: مَنْ كان يرجو جزاء ربه، أو جنة ربه، أو نعيم ربه، إن المؤمن الحق لا ينظر إلى النعيم، بل يطمع في لقاء المنعم سبحانه، وهذا غاية أمانيه.
وفي حديث آخر يقول الحق سبحانه للملائكة: «أما رأيتم عبادي، أنعمتُ عليهم بكذا وكذا، وأسلب عنهم نعمتي ويحبونني».
وبهذه الآية خُتِمَتْ سورة الإسراء، فجعلنا الحق سبحانه نختمها بما أنعم علينا من هذه النعم الثلاث، وليس هذه هي كل نعم الله علينا، بل لله تعالى علينا نِعَم لا تُعَدّ ولا تُحصَى، لكن هذه الثلاث هي قِمة النعم التي تستوجب أنْ نحمده عليها.
فالحمد لله الذي لم يتخذ ولداً؛ لأنه لم يلد ولم يولد وهو واحد أحد، والحمد لله الذي لم يتخذ شريكاً لأنه واحد، والحمد لله الذي لم يكُنْ له وليٌّ من الذل لأنه القاهر العزيز المعز، ولهذا يجب أن نُكبِّر هذه الإله تكبيراً في كل نعمة نستقبلها منه سبحانه.