تفسير سورة لقمان

التبيان في إعراب القرآن
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب التبيان في إعراب القرآن .
لمؤلفه أبو البقاء العكبري . المتوفي سنة 616 هـ

سُورَةُ لُقْمَانَ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ تَعَالَى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُدًى وَرَحْمَةً) : هُمَا حَالَانِ مِنْ «آيَاتُ» وَالْعَامِلُ مَعْنَى الْإِشَارَةِ.
وَبِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ؛ أَيْ هِيَ، أَوْ هُوَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَتَّخِذَهَا) : النَّصْبُ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى «يُضِلَّ». وَالرَّفْعُ عَطْفٌ عَلَى «يَشْتَرِي» أَوْ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ؛ وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى السَّبِيلِ. وَقِيلَ: عَلَى الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْأَحَادِيثُ. وَقِيلَ: عَلَى الْآيَاتِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا) : مَوْضِعُهُ حَالٌ، وَالْعَامِلُ «وَلَّى» أَوْ «مُسْتَكْبِرًا».
وَ (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) : إِمَّا بَدَلٌ مِنَ الْحَالِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ «كَأَنْ لَمْ» أَوْ تَبْيِينٌ لَهَا، أَوْ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي يَسْمَعُ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَالِدِينَ فِيهَا) : حَالٌ مِنَ الْجَنَّاتِ، وَالْعَامِلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ «لَهُمْ» وَإِنْ شِئْتَ كَانَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي «لَهُمْ» وَهُوَ أَقْوَى.
(وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) : قَدْ ذُكِرَ فِي الرُّومِ. (
بِغَيْرِ عَمَدٍ) : قَدْ ذُكِرَ فِي الرَّعْدِ.
قَالَ تَعَالَى: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١١) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) : أَيْ مَخْلُوقُهُ؛ كَقَوْلِهِمْ دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ.
وَ (مَاذَا) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ «خَلَقَ» لَا بِأَرُونِي لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ؛ فَأَمَّا كَوْنُ «ذَا» بِمَعْنَى الَّذِي فَقَدَ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ.
وَ (لُقْمَانُ) : اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ وَإِنْ وَافَقَ الْعَرَبِيَّ؛ فَإِنَّ لُقْمَانَ «فُعْلَانَ» مِنَ اللَّقْمِ.
(أَنِ اشْكُرْ) : قَدْ ذُكِرَ نَظَائِرُهُ.
(وَإِذْ قَالَ) : أَيْ وَاذْكُرْ. وَ (بُنَيَّ) قَدْ ذُكِرَ فِي هُودٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهْنًا) : الْمَصْدَرُ هُنَا حَالٌ؛ أَيْ ذَاتِ وَهْنٍ؛ أَيْ مَوْهُونَةً.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: فِي وَهْنٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَعْرُوفًا) : صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ إِصْحَابًا مَعْرُوفًا.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: بِمَعْرُوفٍ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّهَا إِنْ تَكُ) :«هَا» ضَمِيرُ الْقِصَّةِ، أَوِ الْفِعْلَةِ.
وَ (مِثْقَالَ حَبَّةٍ) : قَدْ ذُكِرَ فِي الْأَنْبِيَاءِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ صَوْتِكَ) : هُوَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ؛ أَيِ اكْسِرْ شَيْئًا مِنْ صَوْتِكَ. وَعَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ تَكُونُ «مِنْ» زَائِدَةً.
وَصَوْتُ الْحَمِيرِ إِنَّمَا وَحَّدَهُ لِأَنَّهُ جِنْسٌ.
قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٢٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نِعَمَهُ) : عَلَى الْجَمْعِ، وَنِعْمَةٌ عَلَى الْإِفْرَادِ فِي اللَّفْظِ؛ وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ؛ كَقَوْلِهِ: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤].
وَ (ظَاهِرَةً) : حَالٌ، أَوْ صِفَةٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ شَجَرَةٍ) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الِاسْتِقْرَارِ، أَوْ مِنْ «مَا».
(وَالْبَحْرُ) - بِالرَّفْعِ - عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: هُوَ مُسْتَأْنَفٌ. وَالثَّانِي: عَطْفٌ عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ «إِنَّ».
وَبِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ «إِنَّ» وَإِنْ شِئْتَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ.
وَضَمُّ يَاءِ «يُمِدُّهُ» وَفَتْحُهَا: لُغَتَانِ.
قَالَ تَعَالَى: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) : فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ «خَلْقُكُمْ».
قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِنِعْمَةِ اللَّهِ) : حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفُلْكِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِتَجْرِي؛ أَيْ بِسَبَبِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ) :«مَوْلُودٌ» : يَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى وَالِدٍ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ صِفَةً لَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً؛ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ الْخَبَرُ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) : هَذَا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ شَبَهِ الظَّرْفِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ: «عِنْدَهُ» كَذَا يَقُولُ ابْنُ جِنِّيٍّ وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
Icon