تفسير سورة لقمان

بيان المعاني
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

لأكثرها وبالرياح العواصف التي تقتضي الحكمة هبوبها وهذا مبني على كونها كروية كما ذهب إليه الغزالي وأكثر الفلاسفة، وإلا فلو كانت بسيطة لما أثرت فيها الرياح والمياه على فرض عدم وجود الرواسي. هذا ولا دلالة في الآية على انحصار حكمة الله بإلقاء الرواسي فيها لسلامتها من الميد بل إن لذلك حكما أخرى لا نعرفها وكذا لا دلالة فيها على عدم حركتها على الاستدارة دائما كما ذهب إليه أصحاب فيثاغورس وغيره وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية ١٩ من سورة الحجر المارة.
واعلم أن هذه الآية الكريمة تشير إلى ما عبر عنه الجغرافيون بالقشرة الباردة أيضا لأن الرواسي هي الصخور الجامدة في أديم الأرض فانظر رعاك الله هل كان في زمن نزول القرآن على حضرة الرسول الأعظم من يعرف أو يعلم أن الأرض كانت مائرة ثم برد ظهرها فتكونت قشرتها، كلا ثم كلا، ولكنه من غيب الله تعالى أجراه بواسطة أمينه جبريل عليه السلام على لسان محمد رسوله صلّى الله عليه وسلم راجع الآية ٢٧ من سورة الحجر المارة أيضا. واعلم أن الأفرنج لم يتوسعوا في معلوماتهم هذه إلا بعد نزول القرآن لأنهم يعرفونه من عند الله وأن ما فيه حق وصدق لذلك تدبروا فيما لا تسعه عقول الآخرين وتفكروا فيما تبحّ فيه أقوالهم وتعجز عنه أفعالهم وأعمالهم هذه التي صار الآن يضرب بها وبمعلوماتهم وموضوعاتهم الأمثال فيما هو من أمور الدنيا ولوازمها ونحن تقهقرنا عن ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال تعالى «وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ» من جميع انواع الدواب والدابة تطلق على ما دبّ على وجه الأرض وفي بطون المياه من إنسان وحيوان وطير وحوت ووحش وحشرات وغيرها «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً» على تلك الأرض «فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ» وصنف «كَرِيمٍ ١٠» حسن كثير النفع
«هذا» الذي تشاهدونه أيها الناس وما قص عليكم من المخلوقات كلها «خَلْقُ اللَّهِ» الذي يدعوكم لعبادته رسولكم محمد بن عبد الله أسوة بمن تقدمه من الرسل الكرام «فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» من شركائكم الذين هم في غاية السفالة وأنتم تعبدونها وتتخذونها آلهة فإنها لم تخلق أو ترزق شيئا «بَلِ الظَّالِمُونَ»
479
عاجزون عن جواب الحق لا يعترفون لنا بذلك لأنهم عن معرفتنا «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ١١» ظاهر يمنعهم من الاعتراف بنا لا يستطيعون إخفاءه.
مطلب من هو لقمان وحكمه ووصاياه وبر الوالدين:
ثم شرع يقص على رسوله من علم غيبه ليقصه على قومه فقال تعالى قوله «وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ» هو ابن باعوراء بن ناحود بن تارخ آزر والد إبراهيم عليه السلام، وقيل إن لقمان هذا الذي يقص الله تعالى علينا أخباره عبد حبشي، وقيل إنه أسود زنجي، وقيل السود أربعة: لقمان وبلال ومهجع مولى عمر بن الخطاب والنجاشي ملك الحبشة الكائن زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم ورضي عنهم وسيأتي ذكره في الآية ٦٩ من المائدة في ج ٣ واتفق الحكماء على أن لقمان كان حكيما لا نبيا قال في بدء الأمالي:
وذو القرنين لم يعرف نبيا كذا لقمان فاحذر عن جدال
وقالوا إنه عاش ألف سنة حتى أدرك داود عليه السلام وتلمذ لألف نبي وتلمذ له ألف نبي وكان مفتيا وقاضيا في بني إسرائيل قبل ظهور داود وهذا من خصائصه ومقتضيات شرع من قبله أما في زماننا هذا وشريعة من قبلنا من هذه الأمة الإسلامية عدم جواز الجمع بين الإفتاء والقضاء في رجل واحد لأن الإفتاء غير القضاء قالوا ونودي في المنام هل نجعلك خليفة بين الناس فقال إن خيرني ربي قبلت العافية ولم اختر البلاء وإن عزم فسمعا وطاعة فإن فعل بي ربي أعانني وعصمني، فقالت له الملائكة وهو لا يراهم ولم يا لقمان؟ قال إن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان إن عدل فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، وذل الدنيا المؤدي إلى الجنة خير من شرفها الموصل إلى النار ومن اختارها على الآخرة فتنته ولم يصب نعيم الآخرة فعجبت الملائكة من حسن منطقه وبلاغته وكثير معناه فنام وانتبه وإذا هو يتكلم بالحكمة وهي الإصابة بالرأي والحنكة في الأمر وشيء يجعله الله تعالى في القلب فينوّره فيدرك فيه كما يدرك الناس بأبصارهم بل إدراك البصيرة آكد وأحق وأصدق لأن ما يدرك بالبصر يحتمل الخطأ وما يدرك بالبصيرة لا يحتمله، وقالوا إنه تكلم باثنى عشر بابا من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم وقضاياهم،
480
وقالوا إن سيده قال له اعطني أطيب مضغتين من الشاة فأعطاه القلب واللسان، ثم قال له أعطني أخبثهما فأعطاهما إياه أيضا، فسأله عن ذلك، فقال لا شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا. ومن حكمه ليس مال كصحة، ولا نعيم كطيب النفس، وشر الناس الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا. وقوله لابنه إن الدنيا بحر عميق غرق فيه كثيرون فاجعل سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان وشراعها التوكل على الله، لعلك تنجو ولا أراك ناجيا. أي لأن النجاة بيد الله يهبها لمن يشاء من عباده ممن يوفقه للعمل الصالح. ولهذا قرن العمل الصالح مع الإيمان في أكثر آي القرآن حتى كأن الإيمان بلا عمل لا ينفع كالعمل بلا إيمان.
وقدمنا أن الإيمان وحده كاف للنجاة إذا شاء الله له الخلق والأمر. ومن حكمه قوله: من كان له من نفسه واعظ كان الله له حافظا، ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله عزا، والذل في طاعة الله أقرب من التعزز في المعصية، وضرب الوالد لولده كالسماد للزرع. وقال يوما لابنه لا تطلب الإمارة حتى تطلبك فإن طلبتك أعنت عليها وإذا طلبتها وكلت إليها، يا بني زاحم العلماء بركبتيك وانصت لهم بأذنيك، فإن القلب يحيا بنور العلم كما تحيا الأرض بماء السماء، يا بني لا تضحك من غير سبب ولا تمش من غير أرب، ولا تسأل عما لا يعنيك، يا بني لا تضيع مالك وتصلح مال غيرك فإن مالك ما قدمت ومال غيرك ما تركت. وله حكم أخرى كثيرة أفاضها الله عليه من نور معرفته ولهذا أعطاه الحكمة ومن يعطها فقد أعطي خيرا كثيرا. وكررت كلمة الحكمة بالقرآن سبع عشرة مرة في معان بالغة تكرمة لمن أوتيها فيا فوز من كانت الحكمة رائده في كل أحواله، ويا سعادة من عامل الناس بها بأقواله وأفعاله. قال تعالى لعبده لقمان «أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» صنيعه بك ولطفه عليك، وإن هنا مفسرة بمعنى أي لأن في إتيان الحكمة معنى القبول ولهذا فسرت بالشكر فإذا علم الإنسان أمرين أحدهما أهم من الآخر فإذا اشتغل بالأهم كان عمله موافقا لعلمه وإن أهمل الأهم كان مخالفا للعلم ولم يكن من الحكمة، وقد أمره ربه بشكر نعمه وبين فائدتها بقوله «وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ» إذ يعود نفعه إليها بازدياد النعم ورضاء المنعم «وَمَنْ كَفَرَ»
481
نعم الله عليه فلم يؤد شكرها أو استعملها في معصيته فيرجع وبال كفره عليه «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ» عنه غير محتاج لشكره «حَمِيدٌ ١٢» حقيق بأن يحمد نفسه بنفسه وإن لم يحمده أحد قمين بأن يحمده خلقه على السراء والضراء والشدة والرخاء، وجدير بأن يشكر ولو لم ينعم عليه «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ» بتقوى الله والإحسان لخلقه أي اذكر يا محمد لقومك ما قاله لقمان لابنه من النصح «يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ» غيره بل اعبده خالصا باعتباره الإله الواحد الذي لا رب غيره «إِنَّ الشِّرْكَ» بالله تعالى يا بني واتخاذ آلهة من دونه للعبادة أو إشراك غيره معه في أعمالك الصالحة «لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ١٣» لا أعظم منه أبدا لكونه وضع الشيء في غير محله، وهذا إشارة إلى التكميل لأن أعلى مراتب الإنسان الكمال في نفسه والتكميل لغيره، فقوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) إيماء إلى الكمال وإرشاده لابنه بما ذكر رمز إلى التكميل وكان رضي الله عنه أول ما بدأ بالإرشاد ابنه وبالأهم وهو الشرك إذ غلّظه بالوصف تحذيرا من قربانه، وهذا أيضا من الحكمة لأن الأقرب أولى بالمعروف والأعظم وزرا أوجب بأن ينهى عنه أولا. ومن حكمته أنه كان صحب داود عليه السلام وكان يشغله بسرد الدروع فيشتغل ولا يسأل عنه لماذا هو، فلما نظمها داود ونسجها ولبسها قال لقمان نعم لبوس الحرب هذا، وقال الصمت حكمة وقليل فاعله، فقال داود بحق سميت حكيما يا لقمان. ثم قال له ذات يوم كيف أصبحت يا لقمان؟ قال أصبحت بيد غيري، فصعق داود لقوله هذا، وفي سكوت لقمان وعدم سؤاله داود عن صنع السرد أي الزرد وهو الحلق الذي تنسج منه الدروع إعلام إلى أن اتباع أمر النبي لازم فيما يعقل وما لا يعقل إظهارا للانقياد والخضوع له والتعبد لله الذي أرسله. قال تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ» أن يبرهما ويحسن إليهما مؤمنين كانا أو كافرين «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً» بتعب ومشقة وضعف أوهن جسمها ثقله «عَلى وَهْنٍ» لأنه يتتابع عليها ضعف الحمل وضعف الطلق وضعف الولادة وضعف الرضاع فيحل بها شدة بعد شدة ومشقة بعد مشقة من تعاهده ومراقبته ليل نهار وتنظيفه صباح مساء وانشغال قلبها عنده في كل لحظة «وَفِصالُهُ» فطامه عن الرضاع
482
الذي يكون «فِي عامَيْنِ» تعانيه به وهن أيضا، والعامان لمدة الرضاع هي غايتها، قال تعالى (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) الآية ٢٣٣ من سورة البقرة، وسنبين تفصيله هناك إن شاء الله القائل للإنسان «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» فكما أني خلقتك فهما سبب في نشأتك ولهما حق التربية عليك كما لي حق
الخلق ولهذا فإن من لم يشكرهما لم يشكر الله، وبما أن حقهما ينقطع في الدنيا وحقه باق قال «إِلَيَّ الْمَصِيرُ ١٤» في الآخرة لا لغيري فإذا أحسنت لي بالعبادة ولهما بالإحسان وشكرت نعمتنا أثبناك وإلا عاقبناك، واعلم أيها الإنسان أنك مكلف بالإحسان لوالديك «وَإِنْ جاهَداكَ» حملاك وأقسراك «عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي» شيئا «ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» من أصناف الأوثان وكلفاك أن تعبدها معي أو من دوني «فَلا تُطِعْهُما» في هذا إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومع هذا فعليك أن تديم الإحسان إليهما إذ يفهم من ظاهر الآية وجوب طاعتهما في كل شيء عدا الإشراك بالله مكافأة لعظيم حقهما، ومما يؤيد هذا قوله جل قوله «وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» ولا يمكن مصاحبتهما في الدنيا بالمعروف والحسنى إلا بطاعتهما فيما يأتيان ويذران ومعاملتهما بجميل الخلق والحلم احتمال الأذى والصفح عن غلطتهما وادامة البر والصلة لهما ولمن يوادهما ولو كانا كافرين، ومن البر إرشادهما بالمعروف إلى دين الحق والدعاء لهما بالتوفيق إذا لم يفعلا، وعلى كل تجب طاعتهما إلا في الإشراك فالأمر بطاعتهما عام خص منه الشرك فقط وما هو معصية كما مر، وقدمنا ما يتعلق بهذا بصورة مفصلة في الآية ٢٤ من سورة الإسراء في ج ١ فراجعه ففيه كفاية، وقد ذكر الله تعالى مشقة أمه دون أبيه لأن مشقة الأب عبارة عن الكسب والنصب في سبيله والتألم والسهر لما يؤذيه مما قد تشاركه فيه الأم وتنفرد هي بذلك الوهن العظيم وإنّ ما ينفرد به الأب لا يعد شيئا بالنسبة لما تنفرد فيه الأم مدة حمله ورضاعه فضلا عن ولادته التي لا يضاهيها وهن. ثم أمر الله هذا الإنسان الذي خلقه وصوره وأحسن خلقه وهداه النجدين بقوله «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» الأنبياء فمن دونهم الأمثل فالأمثل وتخلق بأخلاقهم في الدنيا في ذلك كله وغيره، فيها إشارة إلى اتباع الشيخ
483
الكامل من السادة الصوفية، تأمل وراجع الآية ٣٨ من سورة المائدة في ج ٣ والآية ١٢٠ من التوبة في ج ٣ والآية ٥١ من الإسراء في ج ١، «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» جميعا في الآخرة أنت وأبواك وولدك والخلق كلهم «فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ١٥» في الدنيا إذ لا يخفى عليّ شيء من عملكم السري والجهري الخالص والمشوب، وسأجازي كلا بحسبه. وقد جاءت هاتان الآيتان معترضتين بين وصية لقمان لابنه على سبيل الاستطراد لما فيهما من المناسبة لما قبلهما ولما فيهما من النهي عن الشرك الذي هو أعظم المنهيات. قال بعض المفسرين إن المراد بهاتين الآيتين أبو بكر رضي الله عنه لأنه حينما أسلم جاء إليه عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، فأنبوه على إسلامه وصار يأمرهم بالإيمان ويحذرهم من البقاء على الشرك ولم يزل بهم حتى أسلموا بإرشاده، نقلا عن ابن عباس رضوان الله عليهم أجمعين.
مطلب قوة إيمان سعد بن أبي وقاص وآداب المشي والمكالمة ومعاملة الناس:
وقال بعضهم إنها نزلت في سعد ابن أبي وقاص لأنه لما أسلم قالت له أمه:
لتدعن هذا الدين أو أترك الأكل والشرب والاستظلال حتى أموت فتعير فيّ وبقيت ثلاثة أيام لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل وهو يراجعها ويتلطف بها ويقطع أملها من الرجوع عن الدين الحق، ولم تفعل وأصرت على ما عزمت عليه، فقال لها: والله لو كان لك مائة نفس وخرجت واحدة تلو الأخرى ما تركت ديني، فلما رأت ذلك منه عادت فأكلت وشربت واستظلت بعد أن أيست من رجوعه عن دينه رحمه الله ورضي عنه وحشرني معه لم تأخذه رحمه الله الأنفة الجاهلية التي كانت قريب عهد به لصلابته في دينه الذي اعتنقه حديثا كأنه كان قديما متلبسا به وشدة عزمه وحزمه ورغبته في الدين الحق ومن يهده الله فلا مضل له أبدا، على أن هذه الآية عامة تحتمل هذين السببين وغيرهما. قال تعالى حكاية عن عبده لقمان «يا بُنَيَّ إِنَّها» أي الخطيئة التي تعملها «إِنْ تَكُ» في الصغر والقلة «مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» أو أقل وإنما ذكر الله هذه الحبّة لأنها أكثر ما تكون في أقوال العرب يضربون بها الأمثال عند المبالغة في قلة الشيء، وهذه الآية جواب عن قول ابن لقمان لأبيه يا أبت إذا أخطأت ولم يرني أحد هل أحاسب عليها أم لا؟ فأجابه بما ذكر الله
484
وزاده تأكيدا بقوله «فَتَكُنْ» هذه الحبة «فِي صَخْرَةٍ» أي في بطنها ووسطها «أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ» بأن يستخرجها ويحاسب صاحبها عليها ويعاقبه من أجلها وهو يعلم ذلك ويعلم ما هو أدق منه، هذا إذا عملها، أما إذا كانت نية وحزما وعزما فقط فإنه يحاسبه عليها ولا يعاقبه، وإن كان امتناعه عن فعلها مخافة الله فإنه يثاب عليها كما سيأتي تفصيله في الآية ٢٨٤ من سورة البقرة في ج ٣ «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ» أيها الإنسان بعباده يعطف عليهم «خَبِيرٌ ١٦» بمكان وزمان الخطيئة التي تصدر من عبده وكذلك جميع ما يقع في كونه قليلا كان أو كثيرا ليلا أو نهارا «يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ» لربك «وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ» غيرك «عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ»
من الأذى وتحمل سوء أخلاق غيرك ولا تقابل أحدا بما يكره «إِنَّ ذلِكَ» الذي أمرتك به كله هو «مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ١٧» المقطوعة المتحتمة على البشر تشير هذه الآية إلى أن هذه الأمور الأربعة مأمور بها كل الأمم وهو كذلك إذ لا تخلو أمة من التعبد بها قال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) الآية ٦ من سورة الزمر، وقال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية ١٤ من سورة الشورى الآتيتين، لأن المرسل الشارع واحد والمرسلين على طريقة واحدة والمرسل إليهم مختلفون فهم الذين يغيرون ويبدلون في الشرائع، قال تعالى «وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ» وجهك من اطلاق الجزء وإرادة الكل «لِلنَّاسِ» فتعرض به أنفة منهم وتكبرا عليهم بل قابلهم به كله بطلاقة وبشاشة ولين جانب وعطف ولطف وموعظة حسنة «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً» خيلاء تعاظما على الناس وبطرا أو تعجبا وفرحا وأنانيّة بنفسك الخبيثة «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» ١٨ على الناس بما يراه لنفسه من المناقب عليهم هذا وما قاله بعض المفسرين من أن المراد بقوله تعالى (وَلا تُصَعِّرْ) إلخ أي لا تذلل نفسك من غير حاجة فتلوي عنقك لا يناسب ما بعدها وأن تأويله بميله عن الناس أولى بالمقام لأنه من فعل المتكبرين المنهي عنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما:
485
وسياق ما قبله النهي عن أفعال المتجبرين وكذلك سياق ما بعده وهو قوله «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ» توسط وليكن بين الهرولة والتبختر وأن يكون تؤدة بالسكينة والوقار لأن الهرولة تذهب بهاء المؤمن والتبختر من الكبر وكلاهما مذموم راجع الآية ٣٧ من الإسراء في ج ١، وقوله تعالى «وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ» ما استطعت وكلم الناس بقدر ما يسمعون ففيه الوقار لك والكرامة لمن تكلمه وكانت العرب في الجاهلية تفتخر بجهارة الصوت وتمدح به قال شاعرهم:
وكنا إذا الجبار صعر خدّه أقمنا له من ميله فتقوما
جهير الكلام جهير العطاس جهير الرداء جهير النعم
فجاء الإسلام بذمه لأن خفض الصوت أوقر للمتكلم واحفظ للأدب وأدمث للخلق وأبسط لنفس السامع وأدعى لفهمه ويكفي فيه ذما قوله تعالى «إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ» أقبحها وأوحشها وأمجّها للطبع «لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ١٩» وذلك لأنه أشبه بأصوات أهل جهنم من حيث أوله زفير وآخره شهيق ولزيادة علوه يكاد أن يصرع سامعه القريب. فترشد هذه الآية الكريمة إلى أن رفع الصوت غاية في الكراهة ومخالف للآداب وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت ويكره أن يكون جهيره، راجع الآية الأخيرة من سورة الإسراء في ج ١ تعلم أن كل هذا يؤيد ما جرينا عليه من أن المراد بالتصعير الإعراض عن الناس بالوجه تجبرا، قال تعالى «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» من الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغيرها والبحار والأنهار والمعادن والدواب وغيرها فكل ما فيها مسخر لمنافعكم أيها الناس «وَأَسْبَغَ» أتم وأكمل وأفاض «عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً» لتدركوها بحواسكم الظاهرة والباطنة المتقدمة في الآية ٥ من سورة يوسف المارة، ومن النعم الظاهرة حسن الصورة واعتدال القامة وكمال الأعضاء والنطق بجميع الحروف والرزق والمال والجاه والأولاد والخدم والأمن والأدب والعافية التي هي أساس لكل نعم وكل نعمة دونها ليست بنعمة، ومن النعم الباطنة العقل والفهم والفكر والمعرفة والخلق الحسن والتروي في الأمر وعدا ذلك نعم كثيرة ظاهرة وباطنة أنعم الله بها على عباده لا يحصيها العبد ولا العد
486
قال تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) الآية ١٨ من سورة النحل ومثلها الآية ٢٤ من سورة إبراهيم الآتيتين فراجعهما، ثم طفق جل شأنه يذكر بعض أحوال المتنطعين فقال «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» نزلت هذه الآية في أمية بن خلف وأبي بن خلف وأضرابهم الذين كانوا يجادلون حضرة الرسول في صفات الله تعالى وهم جهال في الله لا علم لهم يستدلون به على جلال صفاته «وَلا هُدىً» يهتدون به إلى الصواب ليعرفوا عظيم قدرته وجليل هباته «وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ٢٠» يسترشدون به إلى أوامره ونواهيه ليعرفوا الحق من الباطل ومن كان كذلك ليس له أن يجادل في شيء من آيات الله فضلا عن ذاته المقدسة، أما أهل العلم والهدى والكتاب فإنهم لا يجادلون في ذلك لكمال يقينهم وصدق إيمانهم وقوة دينهم وشدة عقيدتهم فيه، وهؤلاء الفسقة
«وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ» واتركوا هذا الجدال المجرد عن أدلة عقلية صحيحة أو نقلية صريحة لأنها غير مستندة إلى كتاب أو اقتداء برسول «قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ» في هذا الجدال والمراء «ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» من التقاليد المتناقلة، قال تعالى «أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ» أي آباءهم الذين كانوا يقتفون آثارهم «إِلى عَذابِ السَّعِيرِ ٢١» أي أيتبعونهم ولو كانوا كذلك؟! وهذه الآية على حد قوله تعالى (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الآية ١٧٠ من البقرة في ج ٣ بعد قوله حكاية عنهم (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) والواو هنا حالية والاستفهام للتعجب «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ» نفسه من اطلاق الجزء وإرادة الكل وإنما صح لأن الإقبال بالوجه إقبال بالكل «إِلَى اللَّهِ» بأن يفوض أمره إليه ويخلص بقلبه وقالبه لجلاله «وَهُوَ مُحْسِنٌ» في أعماله وأقواله «فَقَدِ اسْتَمْسَكَ» توثق على أتم حال «بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى» القوية من الشدة في الحبل المتين المأمون الانقطاع أي اعتصم بعهد الله الذي لا ينقض ووعد الله الذي لا يخلف بخلاف عهد ووعد الكفرة الذين لا يهمهم النكث فيه والخلف له لعدم تقيدهم بدين صحيح يرجعون إليه، مثل الله تعالى حال المتوكل عليه المخلص له بحال المتدلي من علو أو المترقي إلى فوق المحتاط لنفسه من الوقوع بأن يتمسك بأمتن
487
عروة من عرى الحبل «وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» ٢٢ لا لأحد سواه وله فيها الأمر يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد «وَمَنْ كَفَرَ» بعد إبداء هذه الدلائل الناصعة والإرشاد الصريح «فَلا يَحْزُنْكَ» يا سيد الرسل «كُفْرُهُ» لأن وباله عائد عليه وهو وأضرابه «إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ» في الآخرة، جمع الضمير باعتبار معنى من حيث تصلح للجمع والافراد «فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» في الدنيا ويحاسبهم عليه ويجازيهم بمقتضاه «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ٢٣» دخائلها فما بالك بغيرها إذ هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، تأمل فيما حكاه الله عن لقمان في مخاطبته لابنه تعلم بعض معلومات الله في خفايا الأمور، قال تعالى وهؤلاء «نُمَتِّعُهُمْ» في هذه الدنيا «قَلِيلًا» مدة آجالهم المقدرة لهم فيها في علمنا وهي مهما كانت، قليلة «ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ» نلجئهم في الآخرة فنردهم ونسوقهم سوقا عنيفا «إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ ٢٤» قاس شديد فظيع لا يقادر قدره ولا تطيقه الأجسام، قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» فقلت يا سيد الرسل لعبدة الأوثان «مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» فإنهم حتما «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» وحده خلقها وبرأ ما فيها فيا أكرم الرسل «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» على إلزامهم الحجة بالإقرار على دلائل التوحيد بحيث لا ينكرها الجاحد المكابر «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ٢٥» أنهم ملزمون بهذا الإقرار حتى إذا نبهتهم لم ينتبهوا له. وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ٧ فما بعدها من سورة العنكبوت الآتية إن شاء الله «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وبمن فيهما كيف شاء «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ» عن جميع عباده وكل مكوناته «الْحَمِيدُ ٢٦» في ذاته وصفاته وأفعاله.
مطلب الآيات المدنيات وسبب نزولها والحكمة من تأخيرها:
وهذه الآيات المدنيات الثلاث وسبب نزولها أن اليهود قالوا يا محمد بلغنا أنك تقول: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الآية ٨٥ من الإسراء في ج ١ أتعنينا بهذا أم قومك فقط؟ قال كلا عنيت، قالوا ألست تقول وتتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شيء يريدون الآية ١٤٥ من الأعراف في ج ١ والآيات ٤٣ فما بعدها من المائدة في ج ٣ قال صلّى الله عليه وسلم هي من علم الله قليل وقد آتاكم الله بما إن
488
عملتم به انتفعتم (يعني القرآن) قالوا تزعم هذا وأنت تقول (مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) الآية ٢٦٩ من البقرة في ج ٣، لأن هذه الحادثة وقعت بالمدينة بعد نزول سورة البقرة وهي أول ما نزل فيها فكيف يجتمع علم قليل مع خير كثير فأنزل الله تعالى «وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ» مدادا حبرا يكتب فيها كلها «ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» إذ لا نهاية لها «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يعجزه شيء منيع لا يغلبه غالب «حَكِيمٌ ٢٧» لا يخرج أمر عن حكمته وهذه ماهية علم الله وقد آمنت بها لأنه كما أنه لا يعرف كنه ذاته أحد فلا يعرف ملاك علمه أحد ولا يحيط علم الخلق كلهم بمعلوماته وهذه الآية أبلغ من آية الكهف ١٠٨ الآتية المتقدمة عليها في النزول لأنها مكية وهذه مدنية فراجعها فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، قال تعالى «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ» أيها الناس بالنسبة لقدرة الخلاق «إِلَّا كَنَفْسٍ» أي خلق وبعث نفس «واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لأقوالكم «بَصِيرٌ ٢٨» بأعمالكم فاحتفظوا أن يراكم حيث نهاكم «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ» يدخله ويدبحه فيه «وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» أيضا بصورة مستمرة «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ» منهما «يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده دائبا إلى يوم القيامة راجع الآية ١٣ من سورة فاطر في ج ١ والآية ٥ من سورة الزمر الآتية «وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ٢٩» لا يخفى عليه شيء من أعمالكم كلها ولقائل أن يقول ما هو السبب في تأخير هذه الآيات عن سورها ولم تنزل معها المكية في مكة والمدنية في المدينة؟ فنقول إن تأخيرها لأمر اقتضته الحكمة الإلهية، لأن الله رتب الأسباب على مسبباتها، وقد سبق في علمه الأزلي أن يكون السؤال عنها والواقعة المنبئة عنها في المكان والزمان الذي قدره لها أزلا فأخر تنزيلها لوقتها، لأن لكل شيء أجلا ولكل أجل كتاب وقد ذكرنا غير مرة أن أفعال الله لا تعلل وأن ما جاء عنه وعن رسله مما لم نعقله لقصر فينا يجب أن نعتقده ونعمل فيه ولا نسأل عن السبب إذ علينا الامتثال والإيمان والتسليم وإلا إذا ترددنا وشككنا أو توقفنا فلسنا بمؤمنين ولا مسلمين، تدبر هذا
489
وسلم تسلم. واعلم أن كل ما خطر ببالك فالله فوق ذلك ويكفيك أنه لا يسأل عما يفعل، راجع بحث نزول القرآن في المقدمة تعلم أن «ذلِكَ» الإله القادر على خلق السموات والأرض وما فيهما المدبر أمرهما والمسخر ما فيهما من أجرام مولج الليل في النهار وبالعكس ومجري الكواكب في أفلاكها بانتظام والجاعل ما فيها منه ما هو مستقر وما هو سائر في محوره وما هو جار في غيره وما هو طالع وما هو آفل الذي جعل في هذا العكس والطرد والاختلاف والاتفاق والسير والقرار الجاعل فيها منافع مخصوصة منها ما اطلع عليه البشر ومنها ما لم يطلع عليه تعلم أيها القارئ المتدبر «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» وأن ما يوقعه في ملكه هو الحق وأنه الإله الذي لا إله غيره المستحق للعبادة المستجيب للدعاء «وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هو الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ» في صفاته «الْكَبِيرُ ٣٠» السلطان في ذاته العظيم الشأن المتعال في أسمائه الحسنى ونظير هذه الآية الآيتين ٧/ ٦٣ من سورة الحج في ج ٣
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ» عليكم أيها الناس «لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ» العجيبة الدالة على كمال قدرته «إِنَّ فِي ذلِكَ» السير على الهواء المجرد مع عظمها وثقل حمولتها «لَآياتٍ» بديعات «لِكُلِّ صَبَّارٍ» على أوامره وتحمل ابتلائه «شَكُورٍ ٣١» لنعمائه في سرانه وضرائه، وهذان الوصفان من أكمل سمات المؤمن لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر، وإنما ذكر الله تعالى هذين الوصفين بعد ذكر الفلك لأن الراكب فيها لا يخلو عنهما كما لا يخلو من الاستدلال على قدرة الله وعظيم نعمته على خلقه. قال تعالى «وَإِذا غَشِيَهُمْ» الكفرة المذكورين أثناء ركوبهم البحر «مَوْجٌ كَالظُّلَلِ» بارتفاعه إذ يصير فوقهم كالظلة يظل من تحته كالسحاب والجبل الشاهق ورأوا الموت بأعينهم بأن تحقق عندهم الغرق «دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» وينسون أوثانهم التي يشركونها في عبادته حالة الرخاء والأمن وذلك لعلمهم أنه لا ينجيهم من الشدائد إلا هو «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ» وأمنوا الغرق الذي كان محيقا بهم «فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» متوسط في حاله لانزجاره في الجملة عدل فيما عاهد الله عليه، ومنهم من لم يوف بعهده ولم يعتبر بما أراه الله من الخوف والأمن وهو المعنى بقوله تعالى
490
«وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ» غدار نكاث للعهد نقّاض للوعد «كَفُورٍ ٣٢» جحود لتلك النعمة كما هو جحود لغيرها من قبل ولم يذكر في هذه الآية السابق بالخيرات لأن الأصناف ثلاثه، راجع الآية ٣٢ من سورة فاطر في ج ١. وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنهما، وما قيل إنها نزلت في عكرمة ابن أبي جهل حين هرب عام الفتح إلى البحر وقد أمّن رسول الله الناس إلا أربعة، إذ قال صلّى الله عليه وسلم اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة. وهم عكرمة هذا وعبد الله ابن حنظل ومقيس بن حبابة وعبد الله بن أبي صرح، وأنه لما ركب البحر جاءهم ريح عاصف فقال أهل السفينة أخلصوا لله ربكم فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا، فقال عكرمة لئن لم ينجني في البحر الإخلاص لله الواحد فما ينجيني في البر غيره، اللهم إن عافيتني مما أنا فيه لآتين محمدا وأضع يدي بيده ولأجدنّ عفوا كريما، فسكن الريح فرجع إلى مكة وأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه لا يصح، لأن هذه الآية مكية نزلت قبل الهجرة وعكرمة أسلم سنة الفتح فبين نزول هذه الآية وحادثة إسلام عكرمة سنتان وإن ما نزل بعد الهجرة يكون مدنيا وعكرمة بعد إيمانه ذلك لا يسمى (مقتصدا) بل كامل الإيمان لأنه جاء طائعا راضيا مختارا إلى حضرة النبي وآمن به إيمانا خالصا وعمل بإيمانه ومات عليه، قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ» فلا يفيده شيئا ولا يغنيه من عذاب الله فتيلا «وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً» حذف شيء من الأول لدلالة الثاني عليه على حد قوله:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
وذلك لأن كل إنسان يقول فيه نفسي نفسي فلا شفقة ولا خلة ولا شفاعة إذ ذاك إلا لمن ارتضى فإذا كان هؤلاء ينقطع بينهم المودة ولا أشفق من الوالد على ولده ولا أعظم حجة منه له ولا حق أكبر من حق الوالد على ولده ولا أوجب حرمة عليه منه ولا طاعة له إلا لله ومع هذا لا يلتفت أحدهم للآخر فغيرهم من باب أولى وذلك لشدة الهول واهتمام كل امرئ بنفسه قال تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) الآية ١٨ من سورة عبس المارة ج ١، وهذا مما وعد
491
الله به عباده «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» كائن لا محالة في ذلك اليوم الذي يكون فيه المشاححة بين الناس كما أن وعده في غيره حق أيضا «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ» أيها الناس هذه «الْحَياةُ الدُّنْيا» لأنها فانية فلا تنخدعوا بزخارفها وتمويهها «وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ٣٣» الشيطان الذي أوقعه في البلاء غروره وكل ما يغر الإنسان من مال أو جاه أو شهوة فهو غرور لأنها كلها من طرق الشيطان التي يزينها للناس فهو أخبث الغاوين فلا يرجيكم بالتوبة ويمنيكم بالمغفرة، وإنه يدس لكم السم في الدسم لأن الإنسان لا يدري متى يباغته أجله وإذ ذاك يندم ولات حين مندم وتكون ممن سقط في يده راجع الآية ٥ من سورة فاطر في ج ١ في هذا البحث، فعلى العاقل أن يسرع في التوبة ويجتهد في العبادة كي يلاقي ربه على حالة مرضية، لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه فلربما جاءه الموت وهو يتلبس بحالة سيئة والعياذ بالله فيندم من حيث لا ينفعه الندم والله تعالى وإن أمهل عبده فإنه لا يهمله وقد يستدرجه من حيث لا يعلم.
مطلب الأمور الخمسة التي لا يعلمها إلا الله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» وقت قيامها في أي سنة وشهر ويوم وساعة ولحظة من ليل أو نهار «وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ» في الوقت والزمان والمكان الذي يريده ويقدره له بقدر معلوم عنده «وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» هل ذكر هو أم أنثى تام الخلق أم ناقصه أو زائد فيه، احمر أو أسود أو ما بينهما من الألوان حين قذف النطفة من الرجل في رحم المرأة كما يعلم أجله ورزقه وشقيا أو سعيدا وما يعتريه من تكوينه إلى موته وإلى بعثه وحشره وإلى دخوله الجنة أو النار وما بعد ذلك، فالأشعة الحديثة عجزت عن معرفة الولد بعد كمال خلقه في بطن أمه أهو ذكر أم أنثى والله تعالى أخبر أنه يعلم ذلك كله وهو نطفة في الرحم لم يكوّن بعد كما يعلم ما وراء ذلك من الحالات التي تعتوره إلى ما شاء الله والبوصلة المحدثة لمعرفة نزول المطر المشار إليها في الآية ١٠٢ من سورة الصافات المارة لا تدل إلا على ترطيب الجو المستفاد منه مظنة نزول المطر خلال أربع وعشرين ساعة على الأكثر ولا يمكن بوجه من الوجوه أن يعرف منها وقت نزوله على الضبط البتة،
492
لأن الله تعالى قد يحدث في الجو ما يسلب منه تلك الرطوبة التي دلت عليها الإبرة من تأثير الرياح أو غيرها فلا ينزل المطر لذلك فلا تتعارض هذه الإبرة وغيب الله تعالى، لإنه مما اختص به فالبشر مهما بلغ من العلوم والمعارف عاجز أن يعلم شيئا من الغيب المبين في هذه الآية. وبمناسبة هذا كان أخبرني ذات يوم السيد جميل بك السلاحوار من أهالي حلب بأن أذهب إلى الدار لأنه ستصير اليوم عواصف قوية، فقلت له من أين عرفت هذا؟ قال من الإبرة الموجودة لدي فقلت له لا يكون شيء إن شاء الله، فقال لا بد من كونه، ثم تفرقنا ولم يقع شيء طيلة اليوم والليلة، فصادفته في اليوم الثاني وقلت له أين ما أخبرتني به من العواصف البارحة، فقال يا أخي إنه أمر محقق ولكن حدث في الجو تبدل حال دون وجودها والله على كل شيء قدير، فقلت له من الآن فصاعد لا تجزم بشيء من هذا فإن الله تعالى يغير الأحوال، فقال آمنت بالله وصدقت. وإن ما يعدّه أهل هذا العصر من العلوم المحدثة بزعمهم قد تكون قديمة لأنهم لم يطلعوا على كل ما اطلع عليه الأوائل من العلوم فمن ينظر إلى فنّ الهندسة وصنع الأبنية القديمة والأصباغ والنقوش والتصوير والتصبير يعلم أن الأواخر لم يبلغوا بعد ما بلغه الأوائل لأنهم حتى الآن عن معرفته عاجزون وهناك تحنيط الأموات لم يقفوا على أجزاء تركيبه ومرض السرطان لم يقفوا على توقيفه مما يدل على أن جل الأشياء قديمة والناس يتأسون بآثارهم ويقتفون مآثرهم فما عثروا عليه برعوا. به وما لم يعثروا عليه فسيعثرون عليه بعد لأن الدنيا لم تكمل بعد راجع الآية ٢٤ من سورة يونس المارة «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً» من خير أو شر «وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ» في سهل أو جبل في قرية أو بادية في بحر أو نهر ولا تدري بأي أرض تدفن ولا كيفية موتها هل بحرق أو تردي أو غرق أو افتراس أو غير ذلك، وهذان الأمران وأمر الساعة لم يتطرق إليها بحث ما بوسائل معرفتها من أهل العلوم العصرية البتة ولما يتطرق والله أعلم. لأن نهاية عقول العالمين فيها عضال وغاية سعي الساعين فيها ضلال ولهذا فإن كل ما بذله ويبذله البشر لمعرفة هذه الأمور الخمسة على الحقيقة غايته العجز لأن ما اختص الله به لنفسه لم يطلع عليه عباده،
493
Icon