تفسير سورة السجدة

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْسَّجْدَةِ
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ... (٤)﴾
قال ابن عرفة: جاءت هذه الآية موصولة غير مفصولة بحرف العطف، لأنها بيان ما قبلها، ودليل عليه من جهة أن حقيقة رسالة المرسل يستدل عليها بالمعجزة، وبما هو من فعل مرسله الخاص به وهذه منه، قال بعضهم: من حقيقتها أن السماوات ليس بينهما خرق، ولو كان بينهما خرق، لقال: ما بينهما أو لقال: وما بينهن بضمير التأنيث، فلما أتى بضمير التثنية، دل على أن المراد ما بين السماء والأرض، وأجيب: بأن الشاهد منها ما بين السماء الدنيا والأرض، ورد بأن جميعها مشاهد لقوله تعالى: في سورة نوح عليه السلام (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا)، فكأن قوم نوح عليه السلام لطول أعمالهم أدركوها بالرصد، وأجيب: بأن الشاهد أن في السماوات في أنفسها لَا ما بينها.
قوله تعالى: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ).
الظرف تارة يعتبر من حيث كونه محالا للفاعل، وتارة يعتبر من حيث كونه محالا للمفعول والفاعل، يقول ضربت زيدا في المسجد، وأنتما معا فيه وحده وأنت في الطريق، أو العكس، وتقول: ضربت زيدا يوم الجمعة، وأنتما معا فيه، كقوله: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)، الظرف هنا منسوب للمفعول فقط، واليوم ليست حركة الفلك بالطلوع والغروب؛ لأن لَا يلزم الدور؛ لأن الفلك خلق فيه فاليوم سابق عليه، فالمراد مقدار حركة مقدرة، وقول ابن عطية: روي [أن الخلق ابتدئ يوم الأحد*]، وقيل: يوم السبت (١).
ابن عرفة: فتسمية هذه الأيام أمور جعلية، والمحال المقدم في حملها على حقيقتها أمر عقلي.
قوله تعالى: (وَمَا بَيْنَهُمَا).
يؤخذ منه أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
قوله تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ).
(١) أورد المصنف في الحاشية: الصحيح ابتداء الله تعالى الخلق يوم السبت كما رواه الإمام مسلم في صحيحه مفصلا.
الولي: الحافظ، وهو الذي خيره بقوله: يدفع عنه بالمحاولة والرغبة، فالولي يمنعه من الملك لقوته، والشفيع: يمنعه منه بجاهه عنده ومكانته، وانظر ما تقدم في سورة الأنعام في قوله تعالى: (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ).
قوله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ... (٥)﴾
قال ابن عطية: عدة تأويلات فعن مجاهد وابن عباس وجماعة: [ينفذ الله تعالى قضاءه بجميع ما يشاؤه، (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) خبر ذلك (فِي يَوْمٍ) من أيام الدنيا (مِقْدارُهُ) أن لو سير فيه السير المعروف من البشر (أَلْفَ سَنَةٍ)؛ لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة، وقيل: يدبر: يلقى إلى الملائكة أمور ألف سنة من عندنا*]، وهو اليوم عنده، فإذا [فرغت ألقى إليهم مثلها*] إلى أن ينفذ الأمور عنده لهذه المدة، ثم تصير إليه أخرى، وكلها عن مجاهد، وقيل: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض في هذه الدنيا، ثم يعرج إليه يوم القيامة، ويوم القيامة مقداره ألف سنة لشدة هوله، وهذا راجع لقوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)، أي كل يوم منها ألف سنة، وعن أبي يزيد: أن الضمير في مقداره عائد على العروج، وهو الصعود، وقيل: يدبر أمر الشمس أنها [تصعد*] وتنزل في يوم، وذلك قدر ألف سنة، زاد الزمخشري [الْأَمْرَ المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرا (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصا كما يريده ويرتضيه إلا في مدة متطاولة، لقلة عمال الله والخلص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص*]، قال تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)، قيل: ينزل الوحي مع جبريل إلى الأرض ثم يصعد إليه مع ما كان من قبوله أو رده في وقت هو ألف سنة، وهي [مسافة*] الطلوع والهبوط وسرعة سير جبريل.
قال ابن عرفة: وظهر لي معناه، وأورده ابن عرفة في قوله (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)، سر الأفعال تقدير الآية لو شئنا إتيان كل نفس هداها لآتيناها هداها، فيلزم عليه أحد أمرين وهما: إما تحصيل الحاصل أو تقدم الصفة على الموصوف بيان ذلك أنه أن يراد بقوله تعالى: (شِئْنَا) الإرادة التنجيزية أو الصلاحية، فإن كان الأول وهو إيراد الإرادة التنجيزية، لزم تحصيل الحاصل، وأنه يصير المعنى حينئذ: لو أوقعنا الهداية بالفعل [لوقع الفعل*]، وإن كان الثاني وهو أن يراد الصلاحي لو تم تقدم الصفة على الموصوف، وبيانه أن الإرادة من الصفات التعليقية وهي قديمة والنفوس حادثة، فيلزم وجود التعلق الذي هو صفة في الأزل دون المتعلق، وذلك نفس تقدم الصفة على الموصوف، قلت: وهذا جواب بتقدير الإشكال المذكور في الأصل فتأمله.
قوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ... (٧)﴾
أي خلقا حسنا في صفته، والأعمى كذلك، وهذا إكمال نجد الصناع من الدهاقين والنجارين والخياطين يصنع بعضهم مثالا ينطبق على الصورة سواء، وآخر يصنعه غير مرتب فلا ينطبق على الصورة.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا... (١٣)﴾
قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: المراد لو شئنا هداية كل نفس لهديناها فتعلق المشبه بالهداية، فالهداية إن [كانت تنجيزية*] لزم عليه تحصيل الحاصل وعدم الفائدة في التركيب؛ لأنه يكون المعنى لو حصلنا هداية كل نفس بالفعل لحصلناها بالفعل، وإن كان صلاحيا لزم عليه تناهي إرادة الله تعالى، لأن متعلقاتها وهي النفوس متناهية، وما ثبت لأحد المتلازمين ثبت للآخر، فالمراد لو أردنا الأزل هداية كل نفس هدايتها بالفعل، وكل ما دخل في الوجود متناه، وهو ملزوم للإرادة، وأجيب: بأنها متعلقة بخاص، والخاص متناه بالضرورة، فلا يلزم منه تنافيها.
قوله تعالى: (هُدَاهَا).
أي هداها اللائق بها، قيل: لابن عرفة: قال (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ)، فهو المستلزم لحصول الهداية، وإنما إتيانها هداها، فقد يعطي الإنسان ولم يقبله، فقال: إنما ذلك في غير العالم، وأما العالم بخفيات الأمور فلا يعطي إلا لمن يقبل.
قوله تعالى: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا... (١٤)﴾
النسيان [يأتي*] بمعنى الترك، قال الآمدي: منع المعتزلة إطلاق صفة الترك على الله تعالى، وأجازها أهل السنة بقوله تعالى: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ).
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا... (١٥)﴾
قال ابن التلمساني في شرح المعالم: الآية إن تحدى بها فهي معجزة، وإن لم يتحدى بها فهي آية، ولفظ الآية أعم.
قوله تعالى: (خَرُّوا سُجَّدًا).
المراد به الخشوع للسجود الفعلي حقيقة؛ لأنه غير ملازم لهم. لأنه يلزم أن لا يؤمن بها إلا من سجد بالفعل، وسجد حال مقدرة لَا محصلة؛ لأن السجود إنما هو بعد الخرور.
قوله تعالى: (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).
ولم يقل: سبحوا بنعمة ربهم؛ لأن النعمة غير ملازمة لهم.
قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا... (١٨)﴾
قال ابن عطية: نزلت في علي والوليد بن عقبة بن أبي معيط؛ لأن الوليد قال لعلي كرم الله وجهه: " [أنا أبسط منك لسانا وأحد سنانا وأرد للكتيبة، فقال له علي بن أبي طالب: اسكت فإنك فاسق*] ".
ابن عرفة: إن صح كيف أن نقول له هذا، وهو مسلم، فأجاب: باحتمال أن تكون هذه نزلت بعد آية الحجرات وهي (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)، لأنها نزلت في الوليد لما بعثه النبي صلى الله عَليه وعلى آله وسلم [إلى بني المصطلق، فقال له: إنهم لم يؤمنوا فأرسل إليهم عليا*] بن أبي طالب، فخرجوا بأجمعهم وآمنوا فنزلت الآية، وكان الوليد لما رآهم خرجوا بجماعتهم ظن أنهم يقاتلونه، وهو الذي ولاه عثمان على الكوفة، وعزل عنها سعد بن أبي وقاص مرة، ويقال: إن الوليد أخو عثمان - رضي الله عنه - لأمه فبقي واليا عليهم إلى أن صلى بهم الصبح أربع ركعات، وقال: إن شئتم أزيدكم، فقال ابن عباس: ما زال أمرنا في زيادة منذ وليت علينا، فإذا هو سكران فعزله عثمان، وأمر بجلده، فجلد وهو يعد أسواطه حتى بلغه أربعين، فأمره علي رضي الله عنه بالكف عنه، وقال: جلد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الخمر أربعين، وأبو بكر رضي الله عنه وعمر ثمانين، فإني رأيت أن تقف على أربعين [ففعل*]، قاله أبو عمرو، في الاستيعاب، وهو خلاف ما نقله عنه الأصوليون من أن عليا كرم الله وجهه اختار في حد الخمر ثمانين، وقال: إذا شرب [سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى*] فأرى عليه [حد الضرب*] ثمانين، وذكر أنه شهد عليه رجل أنه شربها، وأخبر بأنه قاءها، فقال عثمان: ما قاءها حتى شربها.
قال ابن عرفة: ولما تقدم الكلام على المؤمن ومدحه بأخص وصفه عقبه ببيان أن مطلق الإيمان ومطلق الفسق لَا يستويان، وهو دليل على أن المراد هنا بالفسق الكفر، لأنه جعله ضد مطلق الإيمان.
قوله تعالى: ﴿فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى... (١٩)﴾
قال ابن عطية: سميت جنة المأوى؛ لأن أرواح المؤمنين تأوي إليها إلى قناديل معلقة تحت ساق العرش، والعرش سقف الجنة، ولعلها تأوي إليها في الدنيا؛ لأن الشهيد تنعم روحه وجسده.
قوله تعالى: (نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
قال ابن هشام الباهلي: مذهب أهل السنة للسبب، وعلى مذهب المعتزلة واجب، وكذلك السبب.
قوله تعالى: ﴿فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ... (٢٠)﴾.. المبتدأ مأواهم؛ لأنه أعرف، ولأنه مقدم ولإحصاره في الخبر لَا مأوى لهم إلا النار، بخلاف العكس.
قوله تعالى: (ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ).
قال ابن عرفة: عادة القراء يقولون: السورة المدنية وصف فيها عذاب النار بالمذكور، وهي سورة السجدة، وفي سورة سبأ وصف فيها عذاب النار [بالمؤنث*] [فانتسبت*] هنا للعذاب، وفي سبأ للنار، وأجاب الطيبي [وابن الزبير*]، بأن النار هنا تقدم ذكرها، فالأصل جاء ذكرها مضمرا، فيقال: مأواهم النار كلها.
قوله تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا).
وقيل لهم ذوقوا عذابها، فالظاهر هنا وقع موقع المضمر لَا ينعت، فلذلك قال (الذي كنتم به [تُكَذِّبُونَ) *]، النعت للعذاب لَا للنار، وأما سورة سبأ فقبلها (فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ).
قوله تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا).
قال بعضهم: الإعادة تقتضي أن يكون الخروج أن يكون بمعنى كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، ويجوز في لفظ الإعادة بأن يراد منها المنع من الخروج أو يكون المعنى أرادوا الخروج، وأخذوا في أسبابه، وروي عن الحسن: أنهم يصعدون من الطبقة السفلى إلى العليا، فيردون إليها.
قوله تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ... (٢١)﴾
قال الزمخشري: العذاب الأدنى عذاب الدنيا، من القتل والأسر وغيره، وعن مجاهد: هو عذاب الآخرة، زاد ابن عطية بلا خلاف.
قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون معا في الدنيا فالأصغر [بسبي ذراريهم [وسلب أموالهم*]، والأكبر [سبيهم*] في أنفسهم.
قال الفخر: [وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى فِي مُقَابَلَتِهِ الْعَذَابُ الْأَقْصَى وَالْعَذَابُ الْأَكْبَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ الْعَذَابُ الْأَصْغَرُ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَدْنَى بِالْأَكْبَرِ؟ فَنَقُولُ حَصَلَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ قَرِيبٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَلِيلٌ صَغِيرٌ وَحَصَلَ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ أَيْضًا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَعِيدٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ عَظِيمٌ كَثِيرٌ، لَكِنَّ الْقُرْبَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلتَّخْوِيفِ بِهِ، فَإِنَّ الْعَذَابَ الْعَاجِلَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا قَدْ يَحْتَرِزُ مِنْهُ بَعْضُ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَرِزُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ إِذَا كَانَ آجِلًا، وَكَذَا الثَّوَابُ الْعَاجِلُ قَدْ يَرْغَبُ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ وَيَسْتَبْعِدُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ الْآجِلَ، وَأَمَّا فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ فَالَّذِي يَصْلُحُ لِلتَّخْوِيفِ بِهِ هُوَ الْعَظِيمُ وَالْكَبِيرُ لَا الْبَعِيدُ لِمَا بَيَّنَّا فَقَالَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا الْعَذابِ الْأَدْنى لِيَحْتَرِزَ الْعَاقِلُ عَنْهُ وَلَوْ قَالَ: (لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأصغر) ما كَانَ يَحْتَرِزُ عَنْهُ لِصِغَرِهِ وَعَدَمِ فَهْمِ كَوْنِهِ عَاجِلًا وَقَالَ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ الْأَكْبَرِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ دُونَ الْعَذَابِ الْأَبْعَدِ الْأَقْصَى لَمَا حَصَلَ التَّخْوِيفُ بِهِ مِثْلَ مَا يَحْصُلُ بِوَصْفِهِ بِالْكِبَرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدِ اخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَذَابَيْنِ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ أَصْلَحُ لِلتَّخْوِيفِ مِنَ الْوَصْفَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِيهِمَا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ*].
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا... (٢٢)﴾
وفي الكهف (فَأَعْرَضَ عَنْهَا).
قال ابن عرفة: كان الطلبة يقولون: [... ]. ما أشد؟ هل ظلم من أعرض عقب التذكر بالآيات أو ظلم من أعرض بعد مهلة، وهل الإنكار على الأول أشد، والإنكار على من ظلم بعده مهلة أشد؛ لأن ظلمه أضعف فيستلزم الإنكار عليه الإنكار من باب أحرى.
قوله تعالى: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ).
قلت: أجاب الزمخشري: أنه [لما جعله أظلم كل ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم، فقد دلّ على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام*]، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة.
قال ابن عرفة: هذا يحتاج إلى دعامة، وهو أن لفظ المجرمين يتناول الإنكار عليهم وعلى غيرهم ممن قد اتصف بالإجرام المطلق.
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٣)﴾.. هذا كقوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، فالكسب هدى لهم، ومنهم المؤمن به والكافر، هذا إن أريد به عموم بني إسرائيل، إن أريد المؤمنون فقط من بني إسرائيل، فهو هدى لهم حقيقة.
قوله تعالى: ﴿لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (٢٤)﴾
قال ابن عرفة: اليقين هو الحق لقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ).
قال ابن عرفة: إنما قدم الأنعام على الأنفس مع أن الأنفس آكد؛ لأنه كذلك في الوجود الخارجي؛ لأن أول ما يأكل [من الزرع الأنعام من عصفه*] ثم بعد ذلك الإنسان [من حبه*] فجاء على الترتيب الوجودي.
قال ابن عرفة: وقع الاعتناء هنا بأمرين بقوله تعالى: (أَوَلَم يَهْدِ لَهُم)، يشتمل على تخويف، قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوا)، يشتمل على نعمة فتخرج به زرعا، دليل على أن الزرع إنما يخلق من التراب، وقيل: من الماء، وقيل منهما معا، وكذلك اختلفوا في الجنين مماذا يخلق، [قيل: من ماء الرجل، وقيل: من ماء المرأة*]، وقيل: منهما، ولو كان إخراج الزرع من الماء لقال: فيخرج به زرعا.
قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يُبْصِرُونَ (٢٧)﴾
فهو ترق.
قوله تعالى: ﴿لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ... (٢٩)﴾
إن أريد في مكة، فالمراد من مات من الذين كفروا، فإنه لَا ينفعه إيمانه بعد ذلك، وأما من بقي حيا فينفعه إيمانه.
قال ابن عرفة: ما ذكر الزمخشري في آخر سورة السجدة من الحديثين الذي ذكرهما كما جرت به عادته، لم يثبت منها حديث صحيح، والذي في الحديث الصحيح، خرجه الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كان لا ينام حتى يقرأ (الم تَنْزِيلُ)، و (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدهِ الْمُلْكُ)، قلت: وذكره الطيبي هنا قائلا: رويناه عن أحمد والترمذى والدارمي.
* * *
Icon