تفسير سورة سبأ

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

سورة سبأ (١)
مكية
وآياتها أربع وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)
شرح الكلمات:
الحمد لله: أي الوصف بالجميل واجب لله مستحق له.
الذي له ما في السموات وما في الأرض: أي خلقاً وملكاً وتصريفاً وتدبيراً.
وله الحمد في الآخرة: أي يحمده فيها أولياؤه وهم في رياض الجنان، كما له الحمد في الدنيا.
وهو الحكيم الخبير: أي الحكيم في أفعاله الخبير بأحوال عباده.
يعلم ما يلج في الأرض: أي ما يدخل فيها من مطر وأموات وكنوز.
وما يخرج منها: أي من نبات وعيون ومعادن.
وما ينزل من السماء: أي من ملائكة وأمطار وأرزاق ونحوها.
١ - هذه السورة "الحمد لله" هي إحدى خمس سور مفتتحة بالحمد لله وهن كلهن مكيات أولهن الفاتحة وآخرهن فاطر.
300
وما يعرج فيها: أي وما يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد وأرواحهم بعد الموت.
وهو الرحيم الغفور: أي الرحيم بالمؤمنين الغفور للتائبين.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عباده بأن له الحمد (١) والشكر الكاملين التامين، دون سائر خلقه، فلا يُحمد على الحقيقة إلا هو أما مخلوقاته فكل ما يحمد له هو من عطاء الله تعالى لها وإفاضته عليها فلا يستحق الحمد على الحقيقة إلا الله، كما أخبر تعالى بموجب حمده وشكره وهو أن له ما في السموات وما في الأرض خلقاً وملكاً وتدبيراً وتصريفاً وليس لأحد سواه من ذلك شيء هذا في الدنيا، ﴿وَلَهُ (٢) الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ﴾ إذ يكرم أولياءه فينزلهم دار السلام فيحمدونه على ذلك ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾ وقوله تعالى ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ في تصريف أمور عباده وسائر مخلوقاته وتدبيرها الخبير بأحوالها العليم بصفاتها الظاهرة والباطنة.
وقوله ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ﴾ أي ما يدخل (٣) في الأرض من مطر وكنوز وأموات، ﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ أي من الأرض من نبات ومعادن ومياه، وما ينزل من السماء من أمطار وملائكة وأرزاق (٤)، ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ أي يصعد من ملائكة وأعمال العباد. وهو مع هذه القدرة والجلال والكمال هو وحده الرحيم بعباده المؤمنين الغفور للتائبين. بهذه الصفات الثابتة للذات الإلهية وهي صفات جلال وجمال كمال استحق الرب تعالى العبادة دون سواه فكل تأليه لغيره هو باطل ومنكر وزور يجب تركه والتخلي عنه، والتنديد بفاعله حتى يتركه ويتخلى عنه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب حمد الله تعالى (٥) وشكره بالقلب واللسان والجوارح والأركان.
١ - الحمد الكامل والثناء الشامل كله لله، إذ النعم كلها منه وله الحمد في الأولى لأنه المالك وله الحمد في الآخرة كذلك.
٢ - الجملة عطف على الصلة أي والذي له الحمد في الآخرة، وفيها إشارة إلى أنه مالك الأمر في الآخرة.
٣ - الذي يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها يعلم من باب أولى ما يدب على سطحها وما يزحف فوقها والذي يعلم ما ينزل من السماء وما يعرج فيها يعلم من باب أولى ما يجول في أرجائها ويعلم سير كواكبها.
٤ - وكذا من الثلوج والبرد والصواعق.
٥ - حمده تعالى نفسه دليل على أنه محب الحمد. ولذا كان الحمد رأس الشكر وشاهده قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما من أحد أحب إليه الحمد من الله تعالى حتى إنه حمد نفسه.
301
٢- بيان أن الحمد لا يصح إلا مع مقتضيه من الجلال والجمال.
٣- لا يحمد في الآخرة إلا الله سبحانه وتعالى.
٤- بيان علم الله تعالى بالظواهر والبواطن في كل خلقه.
٥- تقرير توحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٣)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦)
شرح الكلمات:
لا تأتينا الساعة: أي القيامة.
لا يعزب عنه: أي لا يغيب عنه.
مثقال ذرة: أي وزن ذرة: أصغر نملة.
302
ولا أصغر من ذلك ولا أكبر: أصغر من الذرة ولا أكبر منها.
إلا في كتاب مبين: أي موجود في اللوح المحفوظ مكتوب فيه.
ليجزي الذين: أي أثبته في اللوح المحفوظ ليحاسب به ويجزي صاحبه.
والذين سعوا في آياتنا: أي عملوا على إبطالها وسعوا في ذلك جهدهم.
معاجزين: أي مغالبين لنا ظانين عجزنا عنهم، وأنهم يفوتوننا فلا نبعثهم ولا نحاسبهم ولا نجزيهم.
عذاب من رجز أليم: أي عذاب من أقبح العذاب وأسوأه.
ويرى الذين أوتوا العلم: أي ويعلم الذين أوتوا العلم وهم علماء أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وأصحابه.
الذي أنزل إليك من ربك هو الحق: أي القرآن هو الحق الموحى به من الله تعالى.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد: أي القرآن يهدي إلى صراط الله الموصل إلى رضاه وجواره الكريم وهو الإسلام. والعزيز ذو العزة والحميد المحمود.
معنى الآيات:
بعد ما قررت الآيات السابقة توحيد الله في ربوبيته وألوهيته ذكر تعالى في هذه الآيات تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى مخبراً بما قاله منكروا البعث والجزاء: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ (١) كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ﴾ (٢) وهو إنكار منهم للبعث إذ الساعة هي ساعة الفناء والبعث بعدها، وأمر رسوله أن يقول لهم: ﴿بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ أي أقسم لهم بالله تعالى ربه ورب كل شيء لتأتينهم أحبوا أم كرهوا ثم أثنى الرب تبارك وتعالى على نفسه بصفة العلم إذ البعث يتوقف على العلم كما يتوقف على القدرة والقدرة حاصلة، إذ خلقهم ورزقهم ويميتهم. فذكر تعالى أنه عالم الغيب وهو (٣) كل ما غاب في السموات وفي الأرض. وأخبر أنه لا يعزب أي لا يغيب عن علمه مثقال ذرة أي (٤) وزن ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من الذرة ولا أكبر أيضاً إلا في كتاب مبين أي
١ - روي أن أبا سفيان هو الذي قال هذه المقالة حيث قال لإخوانه من أهل الكفر بمكة واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبداً ولا نبعث فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليه دعواه بقوله (قل بلى وربي لتبعثن) الآية.
٢ - الساعة علم بالغلبة في القرآن على يوم القيامة وساعة النشر والحشر.
٣ - قرأ نافع وعنه ورش عالم بالرفع على الابتداء وقرأ حفص بالخفض نعت لاسم الجلالة.
٤ - قال القرطبي مثقال ذرة أي قدر نملة صغيرة.
303
بين وهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل أحداث العالم فلا حركة ولا سكون وقع أو يقع في الكون إلا وله صورته ووقته في اللوح المحفوظ.
هذا ما تضمنته الآية الثالثة وقوله تعالى في الآية (٤) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي إذ الحكمة من كتابة الأحداث صغيرها وكبيرها ومن البعث الآخر هي ليجزي تعالى الذين آمنوا أي صدقوا الله رسوله وعملوا الصالحات وهي أداء الفرائض والسنن بما ذكر من جزائهم في قوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ أي لذنوبهم ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ في الجنة وقوله في الآية (٥) ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا﴾ بين فيه جزاء الكافرين بعد أن بين جزاء المؤمنين ذلك الجزاء الذي هو حكمة وعلة البعث وكتابة الأعمال في اللوح المحفوظ فقال: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ (١) ﴾ أي والذين عملوا جهدهم في إبطال آيات الله إذ قالوا فيها أنها من كلام الكهان وأنها شعر وأساطير الأولين حتى لا يؤمنوا ولا يوحدوا أولئك البعداء في الخسّة والانحطاط لهم جزاء، عذاب من رجز أليم (٢) والرجز سيء العذاب وأشده ومعنى أليم أي ذي ألم وإيجاع شديد.
وقوله تعالى: في الآية (٦) ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾، أي ويعلم علماء أهل الكتاب كعبد الله (٣) بن سلام وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب. الذي أنزل إليك من ربك وهو القرآن الكريم هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد، وعلم أهل الكتاب بأن القرآن حقّ ناتج عن موافقته لما في كتاب الله التوراة من عقيدة القدر وكتابة الأعمال دقيقها وجليلها في اللوح المحفوظ ليجزي بها الله تعالى المؤمنين والكافرين يوم القيامة.
هذا ما دلت عليه الآية (٦) والأخيرة وهي قوله تعالى: ﴿وَيَرَى﴾ أي وليعلم ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ وهو الإسلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعد تقرير توحيد الألوهية.
٢- تقرير عقيدة القضاء والقدر وكتابة الأعمال والأحداث في اللوح المحفوظ.
٣- طلب شهادة أهل الكتاب على صحة الإسلام والحصول عليها لموافقة التوراة للقرآن.
٤- تقرير النبوة إذ القرآن فرع نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودليلها المقرر لها.
١ - قال القرطبي أي في إبطال أدلتنا والتكذيب بآياتنا وما في التفسير أشمل وأوضح.
٢ - قرأ نافع بجر أليم نعت لرجز وقرأ حفص برفع أليم نعت لعذاب المرفوع.
٣ - على هذا التفسير أن الآية مدنية كما قال بعضهم حيث استثناها من آيات السورة وجائز أن يراد بالذين أوتوا العلم أبو بكر الصديق وعلي ابن أبي طالب والأصحاب رضوان الله عليهم إذ هم من أولي العلم.
304
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
شرح الكلمات:
وقال الذين كفروا: أي قال بعضهم لبعض على جهة التعجيب.
هل ندلكم على رجل: أي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذا مزقتم كل ممزق: أي قطعتم كل التقطيع.
إنكم لفي خلق جديد: أي تبعثون خلقاً جديداً لم ينقص منكم شيء.
أم به جنة: أي جنون تخيل له بذلك.
بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد: أي ليس الأمر كما يقول المشركون من افتراء الرسول أو جنونه بل الأمر الثابت والواقع أن الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب في الآخرة والضلال البعيد في الدنيا.
أفلم يروا: أي ينظروا.
إلى ما بين أيديهم وما خلفهم: أي من أمامهم وورائهم وفوقهم وتحتهم إذ هم محاطون من كل جهة من السماء والأرض.
أو نسقط عليهم كسفاً: أي قطعاً جمع كسفة أي قطعة.
إن في ذلك لآية: أي علامة واضحة ودليلاً قاطعا على قدرة الله عليهم.
305
لكل عبد منيب: أي لكل مؤمن منيب إلى ربّه رجّاع إليه في أمره كله.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء إنه لما قررها تعالى في الآيات قبل أورد هنا ما يتقاوله المشركون بينهم في تهكم واستهزاء واستبعاد للحياة الآخرة. فقال تعالى حاكياً قولهم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهم مشركو مكة أي بعضهم لبعض متعجبين ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ (١) عَلَى رَجُلٍ﴾ يعنون محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿يُنَبِّئُكُمْ﴾ أي يخبركم بأنكم إذا متم وتمزقت لحومكم وتكسرت عظامكم وذهبتم في الأرض تراباً تبعثون في خلق جديد بعد أن مزقتم كل ممزق (٢) أي كل التمزيق فلم يبق لكم شيء متصل ببعضه بعضاً. ﴿أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً﴾ أي (٣) محمد فكذب على الله هذا القول وزوره عنه وادعى أنه أخبره بوجود بعث جديد للناس بعد موتهم لحسابهم وجزائهم؟! أم به جنة أي مس من جنون فهي تخيل له صور البعث وما يجري فيه وهو يخبر به ويدعو إلى الإيمان به؟ وهنا رد الله تعالى عليهم كذبهم وباطلهم فقال ﴿بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٤) بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ﴾ أي ليس الأمر كما يقولون من أن النبي افترى على الله كذباً، أو به جنون فتخيل له بالبعث وإنما الأمر الثابت والواقع المقطوع به أن الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب يوم القيامة وفي الضلال البعيد اليوم في الدنيا وشؤمهم أتاهم من تكذيبهم بالآخرة.
ثم قال تعالى مهدداً لهم لعلهم يرتدعون عن التهجم والتهكم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿أَفَلَمْ يَرَوْا﴾ أي أعموا فلم يروا إلى ما بين أيديهم (٥) وما خلفهم من السماء والأرض أفلم ينظروا كيف هم محاطون من فوقهم ومن تحتهم ومن أمامهم ومن ورائهم أي الأرض تحتهم والسماء فوقهم ﴿إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ﴾ فيعودون فيها ﴿أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ (٦) كِسَفاً﴾ أي قطعا من السماء فتهلكهم عن آخرهم فلا يجدون مهربا والجواب لا، لأنهم مهما جروْا هاربين لا تزال السماء فوقهم والأرض تحتهم والله قاهر لهم متى شاء خسف بهم أو أسقط السماء عليهم. وقوله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ
١ - الاستفهام مستعمل في العرض مثل: (فقل هل لك إلى أن تزكى) أي يعرض عليه ما هو صالح له. والاستفهام في الآية وإن كان للعرض فهو مكنى به عن التعجب أي هل ندلكم على أعجوبة وهي رجل ينبئكم بهذا النبأ.
٢ - التمزق والتفرق والتشتيت.
٣ - هذه الجملة (افترى) صفة ثابتة لرجل والصفة والصفة الأولى هي قوله ينبئكم.
٤ - في الجملة إدماج يصف به حالهم في الآخرة مع وصف حالهم في الدنيا إذ أخبر أنهم في الآخرة في العذاب وفي الدنيا في الضلال البعيد.
٥ - المراد بما بين أيديهم هو ما يستقبله الإنسان من الكائنات السماوية والأرضية، وبما خلفهم وهو ما وراء الإنسان من الكائنات الأرضية والسماوية.
٦ - قرأ نافع كسفاً بسكون السين وقرأ حفص بفتحها.
306
لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي إن في ذلك المذكور من إحاطة السماء والأرض وقدرة الله على خسف من شاء خسف الأرض بهم وإسقاط كسف من السماء على من شاء ذلك لهم آية وعلامة بارزة على قدرة الله على إهلاك من شاء ممن كفر بالله وبرسوله وكذبوا بلقائه. وكون المذكور آية لكل عبد منيب دون غيره لأن المنيب هو الرجاع إلى ربه كلما أذنب آب لخشيته من ربه فالخائف الخاشي هو الذي يجد الآية واضحة أمامه في إحاطة الأرض والسماء بالإنسان وقدرة الله على خسف الأرض به وإسقاط السماء كسفا عليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان ما كان المشركون عليه من استهزاء وتكذيب وسخرية بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢- تقرير البعث وأن المكذبين به محكوم عليهم بالعذاب فيه.
٣- لفت الأنظار إلى قدرة الله تعالى المحيطة بالإنسان ليخشى الله تعالى ويرهبه فيؤمن به ويعبده ويوحده.
٤- فضل الإنابة إلى الله وشرف المنيب. والإنابة الرجوع إلى التوبة بعد الذنب والمعصية، والمنيب الذي رجع في كل شيء إلى ربه تعالى.
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ
307
الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (١٤)
شرح الكلمات:
ولقد آتينا داود منا فضلاً: أي نبوة وملكاً.
يا جبال أوِّبي معه: أي وقلنا يا جبال أوِّبي معه أي رجّعي بالتسبيح.
والطير: أي والطير تسبح أيضاً معه.
وألنا له الحديد: أي جعلناه له في اللين كالعجينة يعجنها كما يشاء.
أن اعمل سابغات: أي دروعاً طويلة تستر المقاتل وتقيه ضربة السيف.
وقدر في السرد: أي اجعل المسمار مناسباً للحلقة، فلا يكن غليظاً ولا دقيقاً، أي اجعل المسامير مقدرة على قدر الحلق لما يترتب على عدم المناسبة من فساد الدروع وعدم الانتفاع بها.
ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر: أي وسخرنا لسليمان الريح غدوها أي سيرها من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر ورواحها شهر من منتصف النهار إلى الليل شهر كذلك أي مسافة شهر.
وأسلنا له عين القطر: أي وأسلنا له عين النحاس.
ومن يزغ منهم: أي ومن يعدل عن طاعة سليمان فلم يطعه نذقه من عذاب السعير.
من محاريب: جمع محراب المقصورة تكون إلى جوار المسجد للتعبد فيها.
وجفان كالجواب: أي وقصاع في الكبر كالحياض التي حول الآبار يجبى إليها الماء.
وقدور راسيات: أي وقدور كبار على الأثافي لكبرها لا تحول.
308
إلا دابة الأرض: أي الأرضة.
تأكل منسأته: أي عصاه بلغة الحبشة.
فلما خرّ: أي سقط على الأرض ميتاً.
تبيّنت الجن: أي انكشف لها فعرفت.
في العذاب المهين: وهو خدمة سليمان في الأعمال الشاقة.
معنى الآيات:
يذكر تعالى في هذا السياق الكريم مظاهر قدرته وإنعامه على عباده المؤمنين ترغيباً لهم في طاعته وترهيباً من معصيته فيقول: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا (١) فَضْلاً﴾ وهو النبوة والزبور "كتاب" والملك. وقلنا للجبال ﴿أَوِّبِي﴾ مع سليمان أي ارجعي صوت تسبيحه (٢) والطير أمرناها كذلك فكان إذا سبح ردد تسبيحه الجبال والطير. وهذا تسخير لا يقدر عليه إلا الله. وقوله: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (٣) ﴾ وهذا امتنان آخر وهو تسخير الحديد له وتليينه حتى لكأنه عجينة يتصرف فيها كما شاء، وقلنا له اعمل دروعاً طويلة سابغات تستتر بها في الحروب، ﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ (٤) ﴾ وقوله ﴿وَاعْمَلُوا صَالِحاً (٥) ﴾ أي اعملوا بطاعتي وترك معصيتي فأدوا الفرائض والواجبات واتركوا الإثم والمحرمات. وقوله: ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيه وعد ووعيد إذ العلم بالأعمال يستلزم الثواب عليها إن كانت صالحة والعقاب عليها إن كانت فاسدة.
وقوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ﴾ أي سخرنا لسليمان بن داود الريح ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ أي تقطع مسافة شهر في الصباح، وأخرى في المساء أي من منتصف النهار إلى الليل فتقطع مسيرة شهرين في يوم واحد، وذلك أنه كان لسليمان مركب من خشب يحمل فيه الرجال والعتاد وترفعه الجان من الأرض فإذا ارتفعت جاءت عاصفة فتحملها ثم تتحول إلى رخاء فيوجه سليمان السفينة حيث شاء بكل ما تحمله وينزل بها كسفينة فضاء تماما. وقوله تعالى ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ وهو النحاس فكما ألان لداود الحديد للصناعة أجرى لسليمان عين النحاس لصناعته فيصنع ما شاء من آلات وأدوات النحاس.
١ - بين تعالى بهذه الآية أن إرسال نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن أمراً خارقاً للعادة ولا منافياً لمقتضيات العقول إذ أرسل من قبله رسلاً وآتى داود من الإنعام ما قرر به رسالته وأثبت به نبوته وكذا ولده سليمان عليهما السلام.
٢ - والطير منصوب بالعطف على المنادى "يا جبال" لأن المعطوف المعرف على المنادى يجوز نصبه ورفعه والنصب أولى.
٣ - الحديد تراب معدني إذا صهر بالنار امتزج بعضه ببعض ولان وأمكن تطريقه وتشكيله فإذا برد تصلب.
٤ - قدر الشيء جعله على قدر معيّن والسرد هو تركيب حلقها ومساميرها بصورة متناسبة بحيث لا يعظم المسمار فيغلق الحلقة، ولا يرق فلا تمسكه.
٥ - لمّا عدد عليه نعمه أمره بشكره وهو العمل الصالح الشامل للحمد والشكر والطاعة والصبر.
309
وقوله تعالى ﴿وَمِنَ الْجِنِّ﴾ أي وسخرنا من الجن من يعمل بين يديه أي أمامه وتحت رقابته يعمل له ما يريد عمله من أمور الدنيا. وذلك بإذن ربه تعالى القادر على تسخير ما يشاء لمن يشاء. وقوله ﴿وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ﴾ أي ومن يعدل من الجن ﴿عَنْ أَمْرِنَا﴾ أي عما أمرناهم بعمله وكلفناهم به ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ وذلك يوم القيامة (١). وقوله ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ﴾ بيان لما في قوله ﴿مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من محاريب قصور أو بيوت تكون ملاصقة للمسجد للتعبد فيها، وتماثيل أي صور من نحاس أو خشب إذ لم تكن محرمة في شريعتهم وجفان جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة تتسع لعشرة من الأكلة، كالجواب أي في الكبر والجابية (٢) حوض يفرغ فيه ماء البئر ثم يسقى به الزرع أو قدور راسيات أي ويعملون له قدوراً ضخمة لا تتحول بل تبقى دائما موضوعة على الأثافي ويطبخ فيها وهي في مكانها وذلك لكبرها ومعنى راسيات ثابتات على الأثافي.
وقوله تعالى ﴿اعْمَلُوا﴾ أي قلنا لهم اعملوا آل داود شكراً أي اعملوا الصالحات شكرًا لله تعالى على هذا الإفضال والإنعام أي أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا ربكم في أمره ونهيه يكن ذلك منكم شكراً لله على نعمه. روي أنه لما أمروا بهذا الأمر قال داود عليه السلام لآله أيكم يكفيني النهار فإني أكفيكم الليل فصلوا لله شكراً فما شئت أن ترى في مسجدهم راكعاً أو ساجداً في أية ساعة من ليل أو نهار إلا رأيت. ويكفي شاهداً أن سليمان مات وهو قائم يصلي في المحراب. وقوله تعالى ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ هذا إخبار بواقع وصدق الله العظيم الشاكرون لله على نعمه قليل وفي كل زمان ومكان وذلك لاستيلاء الغفلة على القلوب من جهة ولجهل الناس بربهم وإنعامه من جهة أخرى.
وقوله تعالى في الآية (١٤) ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ﴾ أي توفيناه: ما دلهم على موته إلا دابة في الأرض الأرضة المعروفة تأكل منسأته فلما أكلتها خر على الأرض، وذلك أنه سأل ربه أن يعمي خبر موته عن الجن، حتى يعلم الناس أن الجن لا يعلمون الغيب كما هم يدعون، فمات وهو متكئ على عصاه يصلي في محرابه، والجن يعملون لا يدرون بموته فلما مضت مدة من الزمن وأكلت الأرضة المنسأة وخر سليمان على الأرض علمت الجن أنهم لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان ولما أقاموا مدة طويلة في الخدمة والعمل الشاق وهم لا يدرون. هذا معنى
١ - وجائز أن يكون هناك ملك بيده سوط من نار أو شهاب يضرب به الشيطان إن عصى سليمان كما روي عن السلف.
٢ - قال الشاعر:
تروح على آل المحلق جفنة
كجابية الشيخ العراقي تفهق
أي لامتلائها.
310
قوله تعالى ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ﴾ -كما يدعي بعضهم- ﴿مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ أي الذي كان سليمان يصبه عليهم لعصيانهم وتمردهم على الطاعة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان إكرام الله تعالى لآل داود وما وهب داود وسليمان من الآيات.
٢- فضيلة صنع السلاح وآلات الحرب لغرض الجهاد في سبيل الله.
٣- مركبة سليمان سبقت صنع الطائرات الحالية بآلاف السنين.
٤- شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما خصه الدليل كتحريم الصور (١) والتماثيل علينا ولم تحرم عندهم.
٥- وجوب الشكر على النعم، وأهم ما يكون به الشكر الصلاة والإكثار منها.
٦- تقرير أن علم الغيب لله وحده.
لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨)
١ - لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المصورين ولم يستثن فقال إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم. وفي البخاري أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون. وحديث الموطأ. إلا ما كان رقما في الثوب فهو وإن خص جميع الصور فإن حديث عائشة رضي الله عنها دل على كراهيته إذ قال لها أخرجيه عني فهتكته والرخصة في لعب البنات لما في الصحيح على شرط أن لا تكون كأشباه التماثيل.
311
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
شرح الكلمات:
لقد كان لسبأ في مسكنهم: أي لقد كان لقبيلة سبأ اليمانية في مسكنهم.
آية: أي علامة على قدرة الله وهي جنتان عن يمين وشمال.
بلدة طيبة ورب غفور: أي طيبة المناخ بعيدة عن الأوباء وأسبابها، والله رب غفور.
فاعرضوا: أي عن شكر الله وعبادته.
سيل العرم: أي سد السيل العرم.
ذواتي أكل خمط وأثل: أي صاحبتي أكل مرّ وبشع وشجر الأثل.
ذلك: أي التبديل جزيناهم بكفرهم.
القرى التي باركنا فيها: هي قرى الشام المبارك فيها.
قرى ظاهرة: أي متواصلة من اليمن إلى الشام.
وقدرنا فيها السير: أي المسافات بينها مقدرة بحيث يقيلون في قرية ويبيتون في أخرى.
وجعلناهم أحاديث: أي لمن جاء بعدهم أي أهلكناهم ولم يبق منهم إلا ذكرهم متداولا بين الناس.
ومزقناهم كل ممزق: أي فرقناهم في البلاد كل التفرق.
إن في ذلك لآيات: أي في ذلك المذكور من النعم وسلبها لعبراً.
لكل صبّار شكور: أي صبار على الطاعات وعن المعاصي شكور على النعم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى إنعامه على آل داود وشكرهم له وأخبر أنه قليل من عباده من يشكر إنعامه عليه ذكر أولاد سبأ وأنه أنعم عليهم بنعم عظيمة وأنهم ما شكروها فأنزل بهم نقمته وسلبهم نعمته
312
وذلك جزاء لكل كفور. فقال تعالى ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ (١) آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾ أي لقد كان لأولاد سبأ وهم الأزد والأشعريون وحميروكندة ومذحج وأنمار، ومن أنمار جنعم وبجيلة ومن أولاد سبأ أربعة سكنوا في الشام وهم لخم وجدام وغسان، وعاملة وأبوهم سبأ هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقوله تعالى ﴿في مسكنهم﴾ أي في مساكنهم ﴿آيَةٌ﴾ أي علامة على قدرة الله وإفضاله على (٢) عباده وهي جنتان عن يمين وشمال الوادي أي جنتان عن يمين الوادي وأخرى عن شماله كلها فواكه وخضر، تسقى بماء سد مأرب. ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ﴾ أي قلنا لهم كلوا من رزق ربكم ﴿وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ أي هذا الإنعام بالإيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسله.
وقوله ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ أي هذه بلدة طيبة وهي صنعاء اليمن مناخها طيب وتربتها طيبة لا يوجد بها وباء ولا هوام ولا حشرات كالعقارب ونحوها، ﴿وَرَبٌّ غَفُورٌ (٣) ﴾ يغفر ذنوبكم متى أذببتم وتبتم واستغفرتم. ولكن أبطرتْهم هذه النعم فكفروها ولم يشكروها كما قال تعالى ﴿فَأَعْرَضُوا﴾ بأن كذبوا رسل الله إليهم وعصوا الله ورسله فانتقم الله منهم لإعراضهم وعدم شكرهم كما هي سنته في عباده. قال تعالى ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ وذلك بأن خرب السد، وذهبت المياه وماتت الأشجار وأمْحلَت الأرض، وتبدلت قال تعالى ﴿وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ﴾ أي مرٍّ بشع وهو شجر الأراك وأثل وهو الطرفاء، وشيء من سدر قليل. هذا جزاء من أعرض عن ذكر الله وفسق عن أمره وخرج عن طاعته. قال تعالى ﴿ذَلِكَ﴾ أي الجزاء ﴿جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا﴾ بسبب كفرهم وقوله: ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (٤) ﴾ أي وهل نجازي بمثل هذا الجزاء وهو تحويل النعمة إلى نقمة غير الكفور.
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ (٥) وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ وهي مدن الشام ﴿قُرىً ظَاهِرَةً﴾ أي مدناً ظاهرة على المرتفعات من الأرض، وذلك من صنعاء عاصمتهم إلى الشام قرابة أربعة آلاف وسبعمائة قرية أي مدينة، وقوله ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ﴾ أي يجعل المسافات بين كل مدينة ومدينة متقاربة بحيث يخرج المسافر بلا زاد من ماء أو طعام فلا يقيل إلا في مدينة ويخرج بعد
١ - قرأ نافع مساكنهم بالجمع وقرأ حفص بالإفراد مسكنهم وجمعه مساكن.
٢ - إذ لو اجتمعت البشرية كلها على إخراج شجرة من خشبة يابسة لما استطاعت فكيف بأنواع النوار وألوانه واختلاف طعومه وروائحه وأزهاره.
٣ - في الآية إشارة إلى أن الذنب ملازم للإنسان لا يعصم منه إلا من أراد الله عصمته كأنبيائه، ولذا أعلمهم أن المنعم بهذه النعم رب غفور يغفر ذنب عباده إذا تابوا إليه فدعاهم بهذا إلى التوبة وأن الذنب مع التوبة لا يسبب الهلاك العام أو سلب النعم ما دام هناك توبة تعقب الذنب.
٤ - قرأ حفص وهل نجازي بنون العظمة والبناء للفاعل والكفور مفعول به منصوب وقرأ نافع والجمهور وهل يجازى بياء الغيبة مضمومة والفعل مبني للمفعول والكفور نائب فاعل والمعنى ما يجازى ذلك الجزاء إلا الكفور أي الشديد الكفر عظيمه.
٥ - هذه الآية والتي بعدها ذكرتا تتميماً للقصة.
313
القيلولة فلا ينام إلا في مدينة أخرى حتى يصل إلى الشام أو إلى المدينة التي يريد. وهذا كان لهم قبل هدم السد وتفرقهم وقولهم تعالى: ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾ أي وقلنا لهم سيروا بين تلك المدن الليالي والأيام ذوات العدد آمنين من كل ما يخاف. وما كان منهم إلا أنهم بطروا النعمة وقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم. أي حملهم بطر النعمة على أن سألوا ربهم بلسان حالهم وقالهم أن يباعد بين (١) مسافات أسفارهم بإزالة تلك المدن حتى يحملوا الزاد ويركبوا الخيول ويذوقوا طعم التعب هذا في الواقع هو حسد من الأغنياء للفقراء الذين لا طاقة لهم على السفر في المسافات البعيدة بدون زاد ولا رواحل (٢). قال تعالى ﴿وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ إذ بإعراضهم وحسدهم وبطرهم النعمة كانوا قد ظلموا أنفسهم فعُرِّضوا لعذاب الحرمان في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، وقوله تعالى ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ أي لمن بعدهم يروون أخبارهم ويقصون قصصهم بعد أن هلكوا وبادوا. وقوله تعالى ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ أي فرقناهم في البلاد كل تفريق بحيث لا يرجى لهم عود اتصال أبداً فذهب الأوس والخزرج إلى يثرب "المدينة النبوية" وهم الأنصار، وذهب غسان إلى (٣) الشام، والأزد إلى عُمان، وخزاعة إلى تهامة وأصبحوا مضرب المثل يقال: ذهبوا شذر مذر. وتفرقوا أيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها. وقوله تعالى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ﴾ أي إن في إنعام الله على أبناء سبأ ثم نقمته عليهم لما بطروا النعمة وكفروا الطاعة لعبراً يعتبر بها كل صبور على الطاعات فعلاً وعن المعاصي تركاً، ﴿شَكُورٍ﴾ أي كثير الشكر على النعم. اللهم اجعلنا لك من الشاكرين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- التحذير من الإعراض عن دين الله فإنه متى حصل لأمة نزلت بها النقم وسلبها الله النعم. وكم هذه الحال مشاهدة هنا وهناك لا بين الأمم والشعوب فحسب بل حتى بين الأفراد.
٢- التحذير من كفر النعم بالإسراف فيها وصرفها في غير مرضاة الله واهبها عز وجل.
٣- خطر الحسد وأنه داء لا دواء له، والعياذ بالله يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
٤- فضيلة الصبر والشكر وعلو شأن الصبور الشكور.
١ - قوله تعالى وقالوا ربنا باعد بين أسفارنا قرأ الجمهور باعد فعل أمر من باعَد يباعِد وقرأ بعض بعّدْ فعل أمر من بعّد يبعّد على وزن جدّد، وقرأ بعض آخر باعَد فعلاً ماضياً.
٢ - قيل أن المسافة التي يقطعونها بين تلك المدن آمنين من الجوع والخوف مسيرة أربعة أشهر ذهاباً وإياباً وحالهم كحال بني إسرائيل كما قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض حيث ملوا أكل اللحم والعسل.
٣ - قال الشعبي فلحقت الأوس والخزرج (الأنصار) بيثرب (المدينة) وغسان وجذام ولخم بالشام والأزد بعمان وخزاعة بتهامة. فكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول. تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ أي مذاهب سبأ وطرقها.
314
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠)
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)
شرح الكلمات:
ولقد صدق عليهم إبليس ظنه: أي صدق ظن إبليس فيهم أنه يستطيع إغواءهم.
فاتبعوه: في الكفر والضلال والإضلال.
إلا فريقا منهم: أي من بني آدم وهم المؤمنون المسلمون فإنهم لم يتبعوه وخاب ظنه فيهم زاده الله خيبة إلى يوم القيامة.
وما كان له عليهم من سلطان: أي ولم يكن لإبليس من تسليط منا عليهم لا بعصا ولا سيف وإنما هو التزيين والإغراء بالشهوات.
إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك: أي لكن أذنّا له في إغوائهم - إن استطاع – بالتزيين والإغراء لنعلم علم ظهور من يؤمن ويعمل صالحاً ممن يكفر ويعمل سوءا.
وربك على كل شيء حفيظ: أي وربك يا محمد على كل شيء حفيظ وسيجزي الناس بما كسبوا.
315
قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله: أي أنهم شركاء لله في ألوهيته.
لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض: أي ملكاً استقلالياً لا يشاركهم الله فيه.
وما لهم فيهما من شرك: أي وليس لهم من شركة في السموات ولا في الأرض.
وما له منهم من ظهير: أي وليس لله تعالى من شركائكم الذين تدعونهم من معين على شيء.
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له: أي ولا تنفع الشفاعة أحداً عنده حتى إذا يأذن هو له بها.
حتى إذا فزع عن قلوبهم: أي ذهب الفزع والخوف عنهم بسماع كلم الرب تعالى.
قالوا ماذا قال ربكم؟ : أي قال بعضهم لبعض استبشاراً ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق أي في الشفاعة.
وهو العلي الكبير: العلي فوق كل شيء علوّ ذات وقهر وهو الكبير المتعالي الذي كل شيء دونه.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى ما حدث لسبأ من تقلبات وكان عامل ذلك هو تزيين الشيطان وإغواؤه أخبر تعالى عن حال الناس كل الناس فقال ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ (١) إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ أي فيهم لما علم ضعفهم أمام الشهوات فاستعمل تزيينها كسلاح لحربهم ﴿فَاتَّبَعُوهُ﴾ فيما دعاهم إليه من الشرك والإسراف والمعاصي ﴿إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وهم المؤمنون الصادقون في إيمانهم الذين أسلموا لله وجوههم وهم عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سبيل لإغوائهم فإنهم لم يتبعوه. هذا ما دلت عليه الآية (٢٠) وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَهُ﴾ أي للشيطان ﴿عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾ أي قوة مادية ولا معنوية من حجج وبراهين، وإنما أذن له في التحريش والوسواس والتزيين وهذا الإذن لعلة وهي ظهور حال الناس ليعلم من (٢) يؤمن بالآخرة وما فيها من جنات ونيران، وقد حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات فالمؤمنون بالآخرة يتحملون مشاق التكاليف فينهضون بها ويتجنبون الشهوات فينجون من النار ويدخلون الجنة، والذين لا يؤمنون بالآخرة لا ينهضون بواجب ولا يتجنبون حراماً فيخسرون أنفسهم
١ - قرأ نافع والجمهور صدق بتخفيف الدال وقرأ حفص صدّق بالتضعيف والجملة يبدوا أنها معطوفة على قوله تعالى: ﴿وقال الذين كفروا هل ندلكم﴾ وهو قول كفار مكة وما بين هذه الآيات وتلك اعتراض للعظة والاعتبار والمقصود من هذه الآية تنبيه المؤمنين إلى مكايد الشيطان وسوء عاقبة من يتبعه حتى يلعنوه ولا يتبعوه. قال الحسن لما أهبط آدم وحواء عليهما السلام من الجنة إلى الأرض وهبط إبليس قال إبليس أما إذا أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف فكان ذلك ظناً من إبليس فأنزل الله تعالى لقد صدق عليهم إبليس ظنه.
٢ - أي علم الشهادة والظهور الذي يتم به الثواب والعقاب فأما علم الغيب فقد علمه تبارك وتعالى، (إلا لنعلم) الخ.. جواب لقوله وما كان له عليهم من سلطان.
316
وأهليهم يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين. وقوله تعالى ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ فهو يحصي أعمال عباده من خير وشر ويحاسبهم عليها ويجزيهم بها.
وقوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا (١) الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ أي قل يا رسولنا بعد هذا العرض والبيان الشافي الذي تقدم في هذا السياق للمشركين من قومك ما دمتم مصرين على الشرك بحجة أن شركاءكم ينفعون ويضرون وأنهم يشفعون لكم يوم تبعثون ادعوهم غير أن الحقيقة التي يجب أن تسمعوها وتعلموها - وأنتم بعد ذلك وما ترون وتهوون- هي أن الذين تدعونهم من دون الله وجعلتموهم لله شركاء لا يملكون مثقال ذرة أي وزن ذرة في السموات ولا في الأرض لا يملكونها استقلالاً ولا يملكونها شركة مع الله المالك الحق، وهو معنى قوله تعالى ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ﴾ ﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا﴾ أي في السموات والأرض من شرك بمعنى شركة ولو بأدنى نسبة. وشيء آخر وهو أن شركاءكم الذين تدعونهم ليس لله تعالى منهم من ظهير أي معين حتى لا يقال بحكم حاجة الرب إليه ندعوه فيشفع لنا عنده. وشيء آخر وهو أن الشفاعة عند الله لا تتم لأحد ولا تحصل له إلا إذا رضي الله تعالى بالشفاعة لمن أريد أن الشفاعة له، وبعد أن يأذن أيضا لمن أراد أن يشفع. فلم يبق إذاً أي طمع في شفاعة آلهتكم لكم لا في الدنيا ولا في الآخرة إذاً فكيف تصح عبادتهم وهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا يشفعون لأحد في الدنيا ولا الآخرة. وقوله تعالى ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ إلى آخره بيان لكيفية الشفاعة يوم القيامة وهي أن الشافع المأذون له في الشفاعة عندما يسأل الله تعالى فيجيبه الرب تعالى فيصاب بخوف وفزع شديد ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ أي زال ذلك الفزع والخوف قالوا لبعضهم (٢) البعض ماذا قال ربكم؟ فيقولون مستبشرين قالوا: الحق أي أذن لنا في الشفاعة وهو العلي الكبير أي العلي فوق خلقه بذاته وقهره وسلطانه الكبير الذي ليس كمثله شيء سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان أن إبليس صدق ظنّه في بني آدم وأنهم سيتبعونه ويغويهم.
١ - هذا الأمر للتحدي والتوبيخ وهو خطاب للمشركين المؤلهين الأصنام بعد ما ساق من دلائل التوحيد فيما عرفوا من حياة داود وسليمان وأهل سبأ أمر رسوله أن يتحداهم ويوبخهم على شركهم وباطلهم.
٢ - الظاهر أن من طلبوا الشفاعة لما أذن الله تعالى لهم وأصابهم الفزع والخوف فلما ذهب ذلك من قلوبهم سألوا الملائكة عما قال الله تعالى فتجيبهم الملائكة قال الحق أي قبل شفاعتكم.
317
٢- تقرير التوحيد وأنه لا إله إلا الله ولا يستحق العبادة سواه.
٣- بيان بطلان دعاء غير الله إذ المدعو كائنا من كان لا يملك مثقال ذرة في الكون لا بالاستقلال ولا بالشركة، وليس لله تعالى من ظهير أي ولا معينين يمكن التوسل بهم، وأخيراً والشفاعة لا تتم إلا بإذنه ولمن رضي له بها. ولذلك بطل دعاء غير الله ومن دعا غير الله من ملك أو نبي أو وليّ أو غيرهم فقد ضل الطريق وأشرك بالله في أعظم عبادة وهي الدعاء، والعياذ بالله تعالى.
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)
شرح الكلمات:
قل من يرزقكم من السموات والأرض: من السموات بإنزال المطر ومن الأرض بإنبات الزروع.
قل الله: أي إن لم يجيبوا فأجب أنت فقل الله، إذ لا جواب عندهم سواه.
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين: وأخبرهم بأنكم أنتم أيها المشركون أو إيانا لعلى هدى أو في ضلال مبين، وقطعاً فالموحدون هم الذين على هدى
318
والمشركون هم في الضلال المبين، وإنما شككهم تلطفاً بهم لعلهم يفكرون فيهتدون.
قل لا تسألون عما أجرمنا: أي إنكم لا تسألون عن ذنوبنا.
ولا نسأل عما تعملون: أي ولا نسأل نحن عما تعملون. وهذا تلطفا بهم أيضاً ليراجعوا أمرهم، ولا يحملهم الكلام على العناد.
قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق: أي قل لهم سيجمع بيننا ربنا يوم القيامة ويفصل بيننا بالحق وهذا أيضاً تلطف بهم وهو الحق.
قل أروني الذين ألحقتم به شركاء: أي قل لهؤلاء المشركين أروني شركاءكم الذين عبدتموهم مع الله فإن أروه إياهم أصناما لا تسمع ولا تبصر قامت الحجة عليهم. وقال لهم أتعبدون ما تنحتون وتتركون الله الذي خلقكم وما تعملون؟!.
كلا بل هو الله العزيز الحكيم: كلا: لن تكون الأصنام أهلا للعبادة بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله العزيز الحكيم.
كافة للناس: أي لجميع الناس أي عربهم وعجمهم.
بشيراً ونذيراً: بشيراً للمؤمنين بالجنة، ونذيراً للكافرين بعذاب النار.
قل لكم ميعاد يوم: هو يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تبكيت المشركين وإقامة الحجج عليهم بتقرير التوحيد وإبطال التنديد فقال تعالى للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سل قومك مبكتا لهم: ﴿قُلْ مَنْ (١) يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بإنزال الأمطار وإرسال الرياح لواقح وإنبات النباتات والزروع والثمار وتوفير الحيوان للحم واللبن ومشتقاته؟ وإن تلعثموا في الجواب أو ترددوا خوف الهزيمة العقلية فأجب أنت قائلاً الله. إذ ليس من جواب عندهم سواه.
وقوله ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً (٢) أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ هذا أسلوب التشكيك وحكمته التلطف
١ - لما أبطل بتلك الحجج آلهة المشركين حيث دعاؤها لا يجدي نفعاً للداعين لأنهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا شفاعتها تنفع عابديها قرّر بهذه الآيات استحقاق الله تعالى للعبادة دون غيره، واستعمل أسلوب الجدل لإقامة الحجة على الخصم فقال: قل من يرزقكم.
٢ - وإياكم معطوف على محل اسم إن المنصوب والجملة معطوفة على الاستفهام "قل من يرزقكم الخ" وهذا يقال له أسلوب المنصف وهو أن لا يذكر المجادل لمن يجادله ما يغيظه أو يثير حفيظته رجاء هدايته إلى الحق.
319
بالخصم المعاند حتى لا يلج في العناد ولا يفكر في الأمر الذي يجادل فيه، وإلاّ فالرسول والمؤمنون هم الذين على هدى، والمشركون هم الذين في ضلال مبين وهو أمر مسلم لدى طرفي النزاع. وقوله تعالى ﴿قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا (١) أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون﴾ وهذا أيضاً من باب التلطف مع الخصم المعاند لتهدأ عاصفة عناده ويراجع نفسه عله يثوب إلى رشده ويعود إلى صوابه، فقوله: ﴿لا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون﴾ هو حق فإنهم لا يسألون عن ذنوب الرسول والمؤمنين، ولكن الرسول والمؤمنين لا ذنب لهم وإنما هو من باب التلطف في الخطاب، وأما المشركون فإن لهم أعمالاً من الشرك والباطل سيجزون بها والرسول والمؤمنون قطعاً لا يسألون عنها ولا يؤاخذون بها ما داموا قد بلغوا ونصحوا. وقوله: ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا﴾ أي يوم القيامة ﴿ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا﴾ أي يحكم ويفصل بيننا ﴿بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ﴾ أي الحاكم العليم بأحوال خلقه فأحكامه ستكون عادلة لعلمه بما يحكم فيه ظاهراً وباطناً. وفي هذا جذب لهم بلطف وبدون عنف ليقروا بالبعث الآخر الذي ينكرونه بشدة. وقوله ﴿قُلْ أَرُونِيَ (٢) الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ﴾ أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين أوروني آلهتكم التي أشركتموها بالله وألحقتموها به وقلتم في تلبيتكم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك. إلا شريكاً تملكه وما ملك. وهكذا يتحداهم رسول الله بإذن الله أن يروه شركاء لله حقيقة يسمعون ويبصرون وينفعون ويضرون ولما كان من غير الممكن الإتيان بهم غير أصنام وتماثيل زجرهم بعنف لعلهم يستفيقون من غفلتهم فقال: ﴿كَلَّا، بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أي ليست تلك الأصنام بآلهة تعبد مع الله بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله رب العالمين وإله الأولين والآخرين ﴿الْعَزِيزُ﴾ أي الغالب على أمره ومراده الحكيم في تدبير خلقه وشؤون عباده.
وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ (٣) إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ (٤) بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ أي لم نرسلك يا رسولنا لمهمة غير البشارة والنذارة فلذا لا يحزنك إعراضهم وعدم استجابتهم فبشر من آمن بك واتبعك فيما جئت به، وأنذر من كفر بك ولم يتابعك على الهدى الذي تدعو إليه.
١ - هذا أيضا من الباب الأول وهو حمل الخصم على عدم اللجاج في الخصومة ليبقى قادراً على الفهم وقبول الحق متى ظهر له ولاح.
٢ - الأمر هنا للتعجيز لإقامة الحجة عند ثبوت عجز المخاصم، ولما ثبت عجزهم زجرهم بكلمة كلا وردعهم بها، وحملهم على الاعتراف ببطلان آلهتهم.
٣ - ولما تقرر مبدأ التوحيد عطف عليه تقرير النبوة المحمدية فقال وما أرسلناك. وبذلك ثبتت رسالته.
٤ - في الكلام تقديم وتأخير إذ الأصل وما أرسلناك إلا للناس كافة أي عامة.
320
وقوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١) ﴾ فيه تعزية للرسول أيضاً إذ الواقع أن أكثر الناس لا يعلمون إذ لو علموا لما ترددوا في عبادة الله وتوحيده والتقرب إليه طمعا فيما عنده وخوفاً مما لديه. وقوله: ﴿وَيَقُولُونَ﴾ أي أهل مكة من منكري البعث والجزاء ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ (٢) ﴾ أي العذاب الذي تهددنا به وتخوفنا بنزوله بنا إن كنتم أيها المؤمنون صادقين فيما تقولون لنا وتعدونا به. وهنا أمر الله تعالى رسوله أن يرد على استهزائهم وتكذيبهم بقوله: ﴿قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ (٣) ﴾ يوم معيّن عندنا محدد لا تستأخرون عنه ساعة لو طلبتم ذلك لتتوبوا وتستغفروا ولا تستقدمون أخرى لو طلبتم تعجيله إذ الأمر مبرم محكمٌ لا يقبل النقص ولا الزيادة ولا التبديل ولا التغيير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مشروعية التلطف مع الخصم فسحاً له في مجال التفكير لعله يثوب إلى رشده.
٢- تقرير عقيدة البعث والجزاء وتنويع الأسلوب الدعوي في ذلك.
٣- تقرير عقيدة النبوة المحمدية، وعموم رسالة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الناس كافة.
٤- يوم القيامة مقرر الساعة واليوم فلا يصح تقديمه ولا تأخيره بحال.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢)
وَقَالَ الَّذِينَ
١ - إذ كانوا يوم نزول هذه الآية أكثرية والمؤمنون أقلية وحتى اليوم أكثر الناس لا يعلمون جلال الله وجماله وأسماءه وصفاته وما عنده وما لديه، ولا محابه ولا مكارهه.
٢ - الاستفهام للاستبعاد مشوباً بالتعجب من كثرة سؤالهم عن هذا الوعد.
٣ - الميعاد مصدر ميمي وهو الوقت المعين لحدوث الشيء وهو هنا إما يوم القيامة أو حضور الموت وجائز أن يكون يوم هلاكهم وهو يوم بدر وإضافته بيانية.
321
اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
شرح الكلمات:
ولا بالذي بين يديه: أي من الكتب السابقة وهي التوراة والإنجيل.
يرجع بعضهم إلى بعض القول: أي يقول الأتباع كذا ويرد عليهم المتبوعون بكذا وهو المبيّن في الآيات.
أنحن صددناكم عن الهدى: أي ينكر المستكبرون وهم المتبوعون أن يكونوا صدوا التابعين لهم عن الهدى بعد إذ جاءهم بواسطة رسوله.
بل كنتم مجرمين: أي ظلمة فاسدين مفسدين.
بل مكر الليل والنهار: أي ليس الأمر كما ادعيتم بل مكركم بنا بالليل والنهار هو الذي جعلنا نكفر بالله.
ونجعل له أنداداً: أي شركاء نعبدهم معه فننادُّه بهم.
وأسروا الندامة: أي أخفوها إذ لا فائدة منها أو أظهروها أي أظهروا الندم إذ أسروا الندامة له معنيان أخفى وأظهر.
وجعلنا الأغلال في أعناق: أي وجعلنا الأغلال جمع غل حديدة تجعل في عنق المجرم.
هل يجزون إلا ما كانوا يعملون: أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والبعث والجزاء فيخبر تعالى فيقول: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي من مشركي مكة قالوا للرسول والمؤمنين لن نؤمن (١) بهذا القرآن الذي أنزل على محمد، ولا بالذي أنزل على من تقدمه من الأنبياء كالتوراة والإنحيل، وذلك لما احتج عليهم
١ - القائل هذا أبو جهل بن هشام وذلك أن المشركين سألوا أهل الكتاب من اليهود فلما أعلموهم بما يوافق ما يقول الرسول ويدعوا إليه من التوحيد والبعث والجزاء والرسالة قالوا: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه أي من التوراة والإنجيل.
322
بتقرير التوراة والإنجيل للتوحيد والنبوات والبعث والجزاء قالوا لن نؤمن بالجميع عناداً ومكابرة وجحوداً وظلما. ولازم هذا أنهم ظلمة معاندون ومن باب دعوتهم إلى الهدى ستعرض الآيات لهم حالهم يوم القيامة فيقول تعالى لرسوله وهم يستمعون ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ (١) يا رسولنا ﴿إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ﴾ أي يتحاورون متلاومين. يقول الذين استضعفوا وهم الفقراء المرءوسين الذين كانوا أتباعاً لكبرائهم وأغنيائهم، يقولون للذين استكبروا عليهم في الدنيا: لولا أنتم أي صرفتمونا عن الإيمان واتباع الرسول لكنا مؤمنين فيرد عليهم الكبراء بما أخبر تعالى عنهم في قوله: ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ (٢) صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ﴾ أي ما صددناكم أبدا بل كنتم مجرمين أي أصحاب إجرام وفساد ويرد عليهم المستضعفون قائلين بما أخبر تعالى به عنهم ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ (٣) اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (٤) ﴾ أي بل مكركم (٥) بنا في الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً. قال تعالى ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ (٦) ﴾ أي أخفوها لما رأوا العذاب. قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي شدت أيديهم إلى أعناقهم بالأغلال وهي جمع غل حديدة يشد بها المجرم، ثم أدخلوا الجحيم إذ كانوا في موقف خارج جهنم، وقوله تعالى: ﴿هَلْ (٧) يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون فالجزاء بحسب العمل إن كان خيراً فخيرٌ وإن كان شراًّ فشرٌّ، وكانت أعمالهم كلها شرّاً وظلماً وباطلاً.
هذا وجواب لولا في أول السياق محذوف يقدر بمثل: لرأيت أمراً فظيعاً واكتفي بالعرض لوقفهم عن ذكره فإنه أتم وأشمل.
١ - جواب لو محذوف أي لرأيت أمراً فظيعاً هائلاً مدهشاً ومحيراً.
٢ - الاستفهام إنكاري. أنكر عليهم قولهم إنهم صدوا عن الإيمان.
٣ - المكر في اللغة الاحتيال والخديعة يقال مكر به يمكر فهو ماكر ومكار.
٤ - مكر الليل والنهار الإضافة بمعنى في.
٥ - مكرٌ مبتدأ والخبر محذوف تقديره ضدنا وهو جملة فعلية.
٦ - الضمير في أسروا عائد على الجميع المستضعفين والمستكبرين والمعنى أنهم لما انكشف لهم العذاب المعد والمهيأ لهم وذلك عقب المحاورة التي دارت بينهم، فعلموا أن حوارهم لبعضهم غير نافع لهم أسروا الندامة أي أخفوها لعدم جدواها.
٧ - الاستفهام إنكاري بقرينة الاستثناء بعده أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون أي من الشرك والظلم والشر والفساد إذ الجزاء من جنس العمل هو العدل المطلوب.
323
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تشابه الظلمة والمجرمين فالعرب المشركون كانوا يركنون إلى أهل الكتاب يحتجون بما عندهم على الرسول والمؤمنين، ولما وجدوا التوراة والإنجيل يقرران عقيدة البعث والجزاء والنبوة تبرأوا منهما وقالوا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالتوراة والإنحيل.
واليهود كانوا يحتجون بالتوراة على المسلمين ولما وجدوا التوراة تقرر ما يقرره القرآن تركوا الاحتجاج بالتوراة وأخذوا يحتجون بالسحر كما تقدم في البقرة في قوله تعالى ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾.
٢- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض كامل لموقف من مواقف يوم القيامة، ومشهد من مشاهده.
٣- بطلان احتجاج الناس بعمل العلماء أو الحكماء وأشراف الناس إذا كان غير موافق لشرع الله تعالى وما جاء به رسله من الحق والدين الصحيح.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٣٤) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)
324
شرح الكلمات:
إلا قال مترفوها: أي رؤساؤها المنعمون فيها من أهل المال والجاه.
نحن أكثر أموالاً وأولاداً: أي من المؤمنين.
يبسط الرزق لمن يشاء: امتحاناً أيشكر العبد أم يكفر.
ويقدر: أي يضيق ابتلاء أيصبر المرء أم يسخط.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون: أي الحكمة في التوسعة على البعض والتضييق على البعض.
تقربكم عندنا زلفى: أي قربى بمعنى تقريباً.
إلا من آمن وعمل صالحاً: أي لكن من آمن وعمل صالحاً هو الذي تقربه تقريباً.
وهم في الغرفات آمنون: أي من المرض والموت وكل مكروه.
والذين سعوا في آياتنا: أي عملوا على إبطال القرآن والإيمان به وتحكيمه.
معاجزين: أي مقدرين عجزنا وأنهم يفوتوننا فلم نعاقبهم.
وما أنفقتم من شيء: أي من مال في الخير.
وهو خير الرازقين: أي المعطين الزرق. أما خلق الرزق فهو لله تعالى وحده.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿وما أرسلنا في قرية من نذير﴾ هذا شروع في تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببيان حال من سبق من الأمم وما واجهت به رسلها فقال تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ﴾ أي مدينة من المدن ﴿مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا (١) ﴾ أي أهل المال والثروة المتنعمون بألوان المطاعم والمشارب والملابس والمراكب. قالوا لرسل الله ﴿إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ فردوا بذلك دعوتهم. ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً﴾ فاعتزوا بقوتهم، ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ كذبوا بالبعث والجزاء كما أن كلامهم مشعر بأنهم مغترون بأن ما أعطاهم الله من مال وولد كان لرضاه عنهم وعدم سخطه عليهم. وقوله تعالى ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ (٢) الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ أي قل يا نبينا لأولئك المغترين بأن ما لديهم من مال وولد ناجم عن رضا الله عنهم قل لهم إن ربي جل جلاله يبسط الرزق لمن يشاء امتحاناً له لا لرضى عنه ولا لبغض له، كما أنه يضيق الرزق على من يشاء ابتلاء له لا لبغضه ولا لمحبته، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣) ﴾ ومن بينهم مشركو قريش لا يعلمون أن بسط الرزق
١ - المترفون الذين أعطاهم الله الترف وهو النعيم وسعة العيش في الدنيا وفي بناء المترفون للمجهول تعريض وتذكير لهم بالمنعم تعالى علهم يذكرون فيشكرون.
٢ - بسط الرزق تيسيره وتكثيره مأخوذ من بسط الثوب وهو نشره ليتسع لصاحبه وتقدير الرزق معناه إعطاؤه مقدّراً، ويقابله ما يعطى بغير حساب.
٣ - مفعول لا يعلمون محذوف وقد ذكر في التفسير وهو أنهم لا يعلمون الحكمة في بسط الرزق وتضييقه.
325
كتضييقه عائد إلى تربية الناس بالسراء والضراء امتحاناً وابتلاء. وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾ يخبر تعالى المشركين المغترين بالمال والولد يقول لهم وما أموالكم ولا أولادكم بالحال التي تقربكم منا وتجعلنا نرضى عنكم وندنيكم منا زلفى أي قربى. ﴿إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ أي لكن من فعلوا الوجبات والمندوبات ﴿فَأُولَئِكَ﴾ أي المذكورون لهم جزاء الضعف (١)، أي جزاء تضاعف لهم حسناتهم فيه، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، وذلك بسبب عملهم الصالحات ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ﴾ أي غرفات الجنة آمنون من الموت ومن كل مكروه ومنغص لسعادتهم.
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ يخبر تعالى أن الذين يعملون بجد وحرص في إبطال آياتنا وإطفاء نور هدايتنا في كتابنا وقلوب عبادنا المؤمنين ويظنون أنهم معجزون لنا أي فائتون لا ندركهم ولا نعاقبهم هؤلاء المغرورون في العذاب محضرون أي كأنك بهم وهم محضرون في جهنم يعذبون فيها أبدا.
فقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي﴾ أي قل يا رسولنا مرة أخرى تقريراً لهذه الحقيقة العلمية التي خفيت على الناس وجهلها قومك وهي أن الله يبسط الرزق لمن يشاء امتحاناً لا حباً فيه ولا بغضاً له. وإنما امتحاناً له هل يشكر أو يكفر فإن شكر زدناه وأكرمناه وإن كفر سلبناه ما أعطيناه وعذبناه، ﴿وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ أي لمن يشاء من عباده ابتلاءً له لا بغضاً له ولا حباً فيه. وإنما لننظر هل يصبر على الابتلاء أو يسخط ويضجر فنزيد في بلائه وشقائه.. وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ (٢) مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ في هذا دعوة إلى الإنفاق في سبيل الله وتشجيع عليه بإعلام الناس أن الإنفاق لا ينقص المال والبخل به لا يزيده فإن التوسعة كالتضييق لحكمة فلا البخل يزيد في المال ولا الإنفاق في سبيل الله ينقص منه. وختم هذا بوعده الصادق وهو أن من أنفق في سبيل الله شيئاً أخلفه الله عليه وهو تعالى خير من قيل إنه يرزق ووصف به.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان سنة الله في الأمم والشعوب وأنهم ما أتاهم من رسول إلا كفر به الأغنياء والكبراء.
٢- بيان اغترار المترفين بما آتاهم الله من مال وولد ظانين أن ذلك من رضا الله تعالى عليهم.
١ - الضعف بمعنى المضاعف المكرر مرة وأكثر حتى يبلغ أضعافاً مضاعفة إلى سبعمائة ضعف هي سنة الإنفاق في الجهاد.
٢ - من في قوله "من شيء" بيانية وجملة فهو يخلفه جواب الشرط وجملة وهو خير الرازقين تذييل للكلام يحمل معنى الترغيب في الإنفاق في سبيل الله وفي الحديث الصحيح " يا ابن آدم أنفق أُنفق عليك"، و"ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفاً ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفاً " في الصحيح".
326
٣- بيان الحكمة في التوسعة على بعض والتضييق على بعض، وأنها الامتحان والابتلاء فلا تدل على حبّ الله ولا
على بغضه للعبد.
٤- بيان ما يقرب إلى الله ويدني منه وهو الإيمان والعمل الصالح ومن ذلك الإنفاق في سبيل الله لا كثرة المال
والولد كما يظن المغرورون المفتنون بالمال والولد.
٥- بيان حكم الله فيمن يحارب الإسلام ويريد إبطاله وأنه محضر في جهنم لا محالة.
٦- بيان وعد الله تعالى بالخلف لكل من أنفق في سبيله مالاً.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (٤٢)
شرح الكلمات:
ويوم يحشرهم جميعا: أي اذكر يوم نحشرهم جميعاً أي جميع المشركين.
أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟ : أي يقول تعالى هذا للملائكة تقريعاً للمشركين وتوبيخاً لهم.
قالوا سبحانك: أي قالت الملائكة سبحانك أي تقديساً لك عن الشرك وتنزيهاً.
أنت ولينا من دونهم: أي لا موالاة بيننا وبينهم أي يتبرأوا منهم.
بل كانوا يعبدون الجن: أي الشياطين التي كانت تتمثل لهم فيحسبونها ملائكة فيطيعونها فتلك عبادتهم لها.
فاليوم لا يملك بعضكم لبعض: أي لا يملك المعبودون للعابدين.
نفعاً ولا ضراً: أي لا يملكون نفعهم فينفعونهم ولا ضرهم فيضرونهم.
ونقول للذين ظلموا: أي أشركوا غير الله في عبادته من الملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين.
327
عذاب النار التي كنتم بها تكذبون: أي كنتم في الدنيا تكذبون بالبعث والجزاء وهو الجنة أو النار.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء والتوحيد. قال تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واذكر ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ (١) ﴾ أي المشركين ﴿جَمِيعاً﴾ فلم نبق منهم أحدا، ثم نقول للملائكة وهم أمامهم تقريعاً للمشركين وتأنيباً: ﴿أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢) ﴾ فتتبرأ الملائكة من ذلك وينزهون الله تعالى عن الشرك فيقولون: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أي تنزيهاً لك عن الشرك وتقديساً ﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ﴾ أما هم فلا ولاية بيننا وبينهم ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ (٣) ﴾ أي الشياطين ﴿أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ أي مصدقون فأطاعوهم في عبادة الأصنام وعصوك وعصوا رسلك فلم يعبدوك ولم يطيعوا رسلك.
وقوله تعالى ﴿فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّا﴾ أي يقال لهم هذا القول تيئيساً وإبلاساً أي قطعاً لرجائهم في أن يشفعوا لهم. وقوله تعالى ﴿وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ وهم المشركون ﴿ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ أي كنتم تكذبون بها في الدنيا فذوقوا اليوم عذابها. والعياذ بالله من عذاب النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض أحوالها.
٢- أن من كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين كانوا يعبدون الشياطين إذ هي التي زينت لهم الشرك. أما الملائكة والأنبياء والأولياء فلم يرضوا بذلك منهم فضلاً عن أن يأمروهم به.
٣- بيان توبيخ أهل النار بتكذيبهم في الدنيا بالآخرة وكفرهم بوجود نار يعذبون بها يوم القيامة.
١ - هذا الكلام متصل بما قبله وهو قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون موقوفون إذ السياق كله في تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض أحوال أهل النار وما يجري لهم من أمور.
٢ - هذا كقوله تعالى ﴿وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟﴾ وهو سؤال تقريع وتوبيخ لا للمسئول ولكن لعابديه من الإنس والجن.
٣ - روي أن بني مُليح من خزاعة كانوا يعبدون الجن ويزعمون أن الجن تتراءى لهم وأنهم الملائكة وأنهم بنات الله، وهو قوله تعالى في سورة الصافات "وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا".
328
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٤٦)
شرح الكلمات:
آياتنا بيّنات: أي آيات القرآن الكريم واضحات ظاهرة المعنى بينة الدلالة.
قالوا ما هذا إلا رجل: أي ما محمد إلا رجل من الرجال.
يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم: أي يريد أن يصرفكم عن عبادتكم لآلهتكم التي كان يعبدها آباؤكم من قبل.
إلا إفك مفترى: أي إلا كذب مختلق مزور.
وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم: أي قالوا للقرآن لما جاءهم به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إن هذا إلا سحر مبين: أي ما هذا أي القرآن إلا سحر مبين أي محمد ساحر والقرآن سحر.
من كتب يدرسونها: أي يقرأونها فأباحت لهم الشرك وأذنت لهم فيه.
وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير: أي ولم نرسل إليهم قبلك من رسول فدعاهم إلى الشرك.
وما بلغوا معشار ما آتيناهم: أي ولم يبلغ أولئك الأمم الذين أهلكناهم معشار ما آتينا هؤلاء من الحجج والبينات.
329
فكيف كان نكير: أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة إلا هلاك والجواب كان واقعا موقعه لم يخطئه بحال.
معنى الآيات:
ما زال السياق في عرض مواقف المشركين المخزية والتنديد بهم والوعيد الشديد لهم. قال تعالى ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ أي مشركي قريش وكفارها ﴿آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ أي يتلوها رسولنا واضحات الدلالة بينات المعاني فيما تدعوا إليه من الحق وتندد به من الباطل. كان جوابهم أن قالوا: ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم. أي ما محمد إلا رجل أي ليس بملك يريد أن يصدكم أي يصرفكم عما كان يعبد آباؤكم من الأوثان والأحجار. فسبحان الله أين يذهب بعقول المشركين أما يخجلون لما يقولون عما كان يعبد آباؤكم من الأصنام والأوثان، إنه يصدهم حقاً عن عبادة الأوثان ولكن إلى عبادة الرحمن. وقالوا أيضاً ما أخبر تعالى به عنهم في قوله ﴿وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ (١) ﴾ أو كذب ﴿افْتَرَاهُ﴾ أي اختلقه وتخرصه من نفسه أي قالوا في القرآن وما يحمل من تشريع وهدى ونور قالوا فيه إنه كذبه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبحان الله ما أشد سخف هؤلاء المشركين. وقالوا أيضاً ما أخبر تعالى به عنهم في قوله ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أي قالوا في الرسول وما جاءهم به من الدعوة إلى التوحيد والإصلاح ﴿إِنْ هَذَا﴾ أي ما هذا إلا سحر مبين، وذلك لما رأوا من تأثير الرسول والقرآن في نفوسهم إذ كان يحرك نفوسهم ويهزها هزاً.
بعد هذا العرض لمواقف المشركين قال تعالى: ﴿وَمَا آتَيْنَاهُمْ (٢) ﴾ أي مشركي قريش ﴿مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا﴾ أي أصروا على الشرك وما أعطيناهم من كتب يقرأونها فوجدوا فيها الإذن بالشرك أو مشروعيته فتمسكوا به، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ﴾ أي رسول فأجاز لهم الشرك أو سنه لهم فهم على سنته، اللهم لا ذا ولا ذاك. فكيف إذاً هذا الإصرار على الشرك وهو باطل لم ينزل به كتاب ولم يبعث به رسول (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (٤) ﴾ أي من الأمم البائدة ﴿وَمَا بَلَغُوا﴾ أي ولم يبلغ
١ - ما هذا يعنون القرآن الكريم وكذا قولهم إن هذا إلا سحر فإنهم يعنون القرآن الكريم أيضاً وإن بمعنى ما النافية والإسناد بعدها دال عليها.
٢ - الجملة حالية من ضمير قالوا ما هذا.
٣ - أي أنه ليس لهم ما يتثبتون به من أقل دليل وأدنى شبهة كما هي الحال عند أهل الكتاب إذ قالوا عندنا كتابنا وجاءتنا رسلنا أما المشركون فليس لهم من ذلك شيء.
٤ - في الآية تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تكذيبهم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتهديد لهم. التسلية في قوله "كذب الذين من قبلهم" والتهديد في "فكذبوا رسلي فكيف كان نكير" والفاء للتفريع أي في قوله فكذبوا رسلي.
330
هؤلاء من القوة معشار (١) ما كان لأولئك الأقوام الهالكين، ومع ذلك أهلكناهم، فكيف كان نكيري أي كيف كان إنكاري عليهم الشرك وتكذيب رسلي كان بإبادتهم واستئصالهم. أما يخاف هؤلاء الضعفاء أن تحل بهم عقوبتنا فنهلكهم عن آخرهم كما أهلكنا من قبلهم ولما لم يرد الله إبادتهم بعد أن استوجبوها بالتكذيب لرسوله والإصرار على الشرك والكفر قال لرسوله قل لهم ﴿إِنَّمَا (٢) أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾ أي بخصلة واحدة وهي أن تقوموا لله متجردين من الهوى والتعصب ﴿مَثْنَى﴾، أي اثنين اثنين، ﴿وَفُرَادَى﴾ أي واحداً واحداً، ثم تتفكروا في حياة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومواقفه الخيّرة معكم وبعده عن كل أذى وشر وفساد فإنكم تعلمون يقينا أنه ما بصاحبكم محمد من جنّة ولا جنون ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾، أي ما هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا نذير لكم أمام عذاب شديد قد ينزل بكم وهو مشفق عليكم في ذلك خائف لا يريده لكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان عناد المشركين وسخف عقولهم وهبوطهم الفكري.
٢- ضعف كفار قريش وتشددهم وعتوهم إذا قيسوا بالأمم السابقة فإنهم لا يملكون من القوة نسبة واحد إلى
ألف إذ المعشار هو عشر عشر العشر (٣).
٣- تقرير النبوة المحمدية وإثباتها وذلك ينفي الجِنّة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإثبات أنه نذير.
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ
١ - المعشار العشر إذ هو الجزء العاشر كالمرباع الذي يعطى لقائد الكتيبة من الغنائم وهو ربعها.
٢ - هذا انتقال من حكاية أقوال المشركين والرد عليهم إلى دعوتهم للإنصاف في النظر والتأمل في الحقائق ليتضح لهم خطأهم وهذا من باب الإعذار لهم في المجادلة ليهلك من يهلك عن بينة ويحيى من يحي عن بينة.
٣ - قال القرطبي: وقيل المعشار هو عشر العشير، والعشير هو عشر العشر فيكون جزاء من ألف جزء قال الماوردي وهو أظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل وما فسرت به الآية في التفسير أرجح وأوضح، وإن أريد به ما أتى الله هذه الأمة من العلم والبيان فهذا المعنى صحيح غير أنه لا يتلاءم مع سياق الآيات.
331
سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
شرح الكلمات:
قل إن ربي يقذف بالحق: أي يلقي بالوحي الحق إلى أنبيائه. ويقذف الباطل بالحق أيضاً فيدمغه.
وما يبدئ الباطل وما يعيد: أي وما يبدئ الباطل الذي هو الكفر، وما يعيد أي إنه لا أثر له.
فإنما أضل على نفسي: أي إثم ضلالي على نفسي لا يحاسب ولا يعاقب به غيري.
إنه سميع قريب: أي سميع لما أقول لكم قريب غير بعيد فلا يتعذر عليه مجازاة أحد من خلقه.
إذ فزعوا فلا فوت: أي إذ فزعوا للبعث أي خافوا ونفروا فلا فوت لهم منا بل هم في قبضتنا.
وأنى لهم التناوش من مكان بعيد: أي لما شاهدوا العذاب قالوا آمنا بالقرآن وكيف لهم ذلك وهم بعيدون إنهم في الآخرة والإيمان في الدنيا. (التناوش) التناول من مكان بعيد.
كما فعل بأشياعهم من قبل: أي فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم من أمم الكفر والباطل.
في شك مريب: أي في شك بالغ من نفوسهم فأصبحوا به مضطربين لا يطمئنون إلى شيء أبداً.
332
معنى الآيات:
لما لج المشركون في الخصومة والعناد ودعاهم الله تعالى إلى أمثل حل وهو أن يقوموا لله متجردين لله تعالى من الهوى والتعصب يقوموا اثنين اثنين أو واحداً واحداً لأن الجماعة من شأنها أن تختلف مع الآراء ثم يتفكروا في حياة الرسول وما دعاهم إليه من الهدى والحق فإنكم تعلمون أنه ليس كما اتهمتموه بالجنون وإنما هو نذير لكم بين يدي عذاب شديد يخاف وقوعه بكم ونزوله عليكم هنا أمره تعالى أن يقول لهم وكوني نذيراً لكم مما أخاف عليكم لا أسألكم على إنذاري لكم أجراً (١) ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أي مطلع عليّ عالم بصدقي ويجزيني على إنذاري لكم إذ كلفني به فقمت به طاعة له. وقوله تعالى ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ (٢) بِالْحَقِّ﴾ أي قل لهم يا رسولنا إن ربي يقذف بالحق أي يلقي بالوحي على من يشاء من عباده ﴿عَلَّامُ (٣) الْغُيُوبِ﴾ أي وهو علام الغيوب يعلم من هو أهل للوحي إليه والإرسال فيوحي إليه ويرسله كما أوحى إليّ وأرسلني إليكم نذيراً وبشيراً. وقوله تعالى: ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ أي قل لهم يا رسولنا جاء الحق وهو الإسلام الدين الحق، فلم يبق للباطل الذي هو الشرك والكفر مكان ولا مجال، وما يبدئ الباطل وما يعيد؟ أي أنه كما لا يبدئ لا يعيد فهو ذاهب لا أثر له أبداً وقوله: ﴿قُلْ (٤) إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي﴾ أي أعلمهم بأنك إن ضللت فيما أنت قائم عليه تدعوا إليه فإنما عائد ضلالك عليك لا عليهم، وإن اهتديت فهدايتك بفضل ما يوحي إليك ربك من الهدى والنور ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ سميع لأقوالك وأقوال غيرك غير بعيد فيتعذر عليه مجازاة عباده صاحب الإحسان بالإحسان وصاحب السوء بالسوء. وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾ أي لرأيت أمراً فظيعاً يقول تعالى لرسوله ولو ترى (٥) إذ فزع المشركون في ساحات فصل القضاء يوم القيامة فزعوا من شدة الهول والخوف وقد أخذوا من مكان قريب وألقوا في جهنم لرأيت أمراً فظيعاً في غاية الفظاعة. وقوله ﴿فَلا فَوْتَ﴾
١ - أي جُعلاً على تبليغ الرسالة فإن سألتكموه فهو لكم.
٢ - جائز أن يكون المعنى يقذف الباطل بالحق فيدمغه فإذا هو زاهق كذا روي عن ابن عباس وقال قتادة بالحق أي بالوحي وعنه أن الحق القرآن والكل صحيح وما في التفسير أقرب وأوضح.
٣ - علاّم مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو علاّم الغيوب والغيوب جمع غيب وقرأ الجمهور بضم الغين وكسرها بعضهم كبيوت إذ يجوز لها الضم والكسر والآية فيها معنى (الله أعلم حيث يجعل رسالته) وفيها رد على المعترضين على الوحي إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٤ - لما أفحمهم في الآيات السابقة وقطع طريق الاستدلال عليهم وتركهم في غيهم حيارى أمر رسوله أن يقول لهم تاركاً جدالهم لعدم الفائدة منه بعد وضوح الحق (إن ضللت) الآية فعل هذا إنهاءً لجدل عقيم.
٥ - الخطاب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكل ذي أهلية وجواب لو محذوف كأن اللفظ لا يقدر على تصويره على حقيقته لفظاعته وهو كذلك.
333
لهم لا يفوتون الله تعالى ولا يهربون من قبضته. وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ (١) ﴾ أي قالوا بعد ما بعثوا وفزعوا من هول القيامة قالوا آمنا به أي بالله وكتابه ولقائه ورسوله، قال تعالى ﴿وَأَنَّى لَهُمُ (٢) التَّنَاوُشُ﴾ أي التناول للإيمان من مكان بعيد إذ هم في الآخرة والإيمان كان في الدنيا فكيف يتناولونه بهذه السهولة ويقبل منهم وينجون من العذاب هذا بعيد جداً ولن يكون أبداً وقد كفروا به من قبل أي لا سيما وأنهم قد عرض عليهم الإيمان وهم قادرون عليه فرفضوه فكيف يمكنون منه الآن. وقوله ﴿وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ (٣) مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ أي وها هم اليوم في الدنيا يقذفون بالغيب محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقواصم الظهر مرة يقولون كاذب ومرة ساحر ومرة شاعر وأخرى مجنون وكل هذا رجما بالغيب لا شبهة لهم فيه ولا أدنى ريبة تدعوهم إليه وأخيراً قال تعالى: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ وهو الإيمان الموجب للنجاة كما فعل بأشياعهم (٤) أي أشباههم وأنصارهم من أهل الكفر والتكذيب لما جاءهم العذاب قالوا آمنا ولم ينفعهم إيمانهم وأهلكوا فألقوا في الجحيم، وقوله ﴿إِنَّهُمْ (٥) كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ﴾ أي مشركو قريش وكفارها أخبر تعالى أنهم كانوا في الدنيا في شك من توحيدنا ونبينا ولقائنا مريب أي موقع لهم في الريب والاضطراب فلم يؤمنوا فماتوا على الكفر والشرك وهذا جزاء من يموت على الشرك والكفر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- دعوة الله تعالى ينبغي أن لا يأخذ الداعي عليها أجراً، ويحتسب أجره على الله عز وجل.
٢- بيان صدق الله تعالى في قوله جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد إذ ما هو إلاّ سنيّات والإسلام ضارب
بجرانه في الجزيرة فلا دين فيها إلا الإسلام.
٣- الإيمان الاضطراري لا ينفع صاحبه كإيمان من رأى العذاب.
٤- الشك كفر ولا إيمان مع رؤية العذاب.
١ - صالح أن يكون الضمير للوعيد أو ليوم البعث أو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو القرآن إذ الكل واجب الإيمان وقد كفروا بالكل وكذبوا.
٢ - أنى استفهام عن المكان وهو مستعمل هنا للإنكار والتناوش التناول السهل وأكثر وروده في شرب الإبل شرباً خفيفاً من الحوض ونحوه قال الشاعر:
باتت تنوش الحوض نوشاً من علا
نوشاً به تقطع أجواز الفلا
أي تتناول الماء من أعلاه ولا تغوص مشافرها فيه.
٣ - القذف الرمي باليد من بعد ويستعار للقول بدون تروّ ولا دليل وهو كقولهم في الأصنام هم شفعاؤنا عند الله وكتكذيبهم بالبعث والتوحيد والنبوة.
٤ - الأشياع المتشابهون في النحلة وإن كانوا سالفين وأصل المشايعة المتابعة في العمل.
٥ - هذه الجملة تعليلية لكل ما سبق في تكذيبهم وعنادهم وجهلهم وضلالهم إذ الشك وعد اليقين هو الذي يوقع صاحبه في أودية الضلال والباطل.
334
Icon