تفسير سورة الإنسان

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿أَمْشَاجٍ﴾ أخلاط جمع مشج ومشيج مثل شريف أو أشراف، يقال للشيء اذا خلط بغيره: مشيجٌ كخليط لفظاً ومعنى ﴿مُسْتَطِيراً﴾ منتشراً غاية الانتشار يقال: استطار الشيء انتشر ﴿قَمْطَرِيراً﴾ القمطرير: الشديد العصيب الذي يطول بلاؤه قال الأخفش: القمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء ﴿وَدَانِيَةً﴾ قريبة ﴿وَذُلِّلَتْ﴾ سخرت وقربت ﴿سَلْسَبِيلاً﴾ السلسبيل: الشراب اللذيذ الذي هو غاية في السلالة، والذي يسهل في الحلق لعذوبته وصفائه ﴿سُندُسٍ﴾ السندس: الرقيق من ثياب الحرير ﴿إِسْتَبْرَقٌ﴾ ثباب الحرير الغليظة ويسمى الديباج ﴿أَسْرَهُمْ﴾ الأسر في
466
الاصل: الشد والربط، ثم أطلق على الخلق يقال: شدَّ أسره أي أحسن خلقه وأحكم تكوينه قال الأخطل:
من كل مجتنب شديد أسره سلس القياد تخاله مختالاً
التفسِير: ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر﴾ أي قد مضى على الإِنسان وقت طويل من الزمان ﴿لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ أي كان من العدم، لم يكن له ذكر ولا وجود قال ابن كثير: يخبر تعالى عن الإِنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئاً يذكر لحقارته وضعفه قال المفسرون: ﴿هَلْ أتى﴾ بمعنى قد أتى كما تقول: هل رأيت صنيع فلان، وقد علمت أنه قد رآه، وتقول: هل أكرمتك، هل وعظتك؟ ومقصودك أن تقرره بأنك قد أكرمته ووعظته، والمرادُ بالإِنسان الجنس، وبالحين مدة لبثه في بطن أمه، والغرض من الآية تذكير الإِنسان بأصل نشأته، فقد كان شيئاً منسياً لا يفطن له، وكان في العدم جرثومة في صلب أبيه، وماءً مهيناً لا يعلم به إلا الذي يريد أن يخلقه، ومرَّ عليه حينٌ من الدهر كانت الكرة الأرضية خالية منه، ثم خلقه الله، وأبدع تكوينه وإِنشاءه، بعد أن كان مغموراً ومنسياً لا يعلم به أحد.. وبنعد أن قرر أن الإِنسان مرَّ عليه وقت لم يكن موجوداً، أخذ يشرح كيف أفاض عليه نعمة الوجود، واختبره بالتكاليف الشرعية بعد أن متَّعه بنعمة العقل والحواس فقال ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ أي نحن بقدرتنا خلقنا هذا الانسان من ماءٍ مهين وهو المنيُّ الذي ينطف من صلب الرجل، ويختلط بماء المرأة «البويضة الأنثوية» فيتكون منهما هذا المخلوق العجيب قال ابن عباس: ﴿أَمْشَاجٍ﴾ يعني أخلاط، وهو ماء الرجل وماء المرأة اذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، ومن حال إِلى حال ﴿نَّبْتَلِيهِ﴾ أي لنختبره باتلكاليف الشرعية، والأوامر الإِلهية، لننظر أيشكر أم يكفر؟ وهل يستقيم في سيره أم ينحرف ويزيغ؟ ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ أي فجعلناه من أجل ذلك عاقلاً مميزاً، ذا سمع وبصر، ليسمع الآيات التنزيلية، ويبصر الدلائل الكونية، على وجود الخالق الحكيم قال الإِمام الفخر: أعطاه تعالى ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز، كما قال تعالى حاكياً عن إِبراهيم
﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ﴾ [مريم: ٤٢] ؟ وقد يراد بهما الحاستان المعروفتان، وخصَّهما بالذكر لأنهما أعظم الحواسِّ وأشرفها ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل﴾ أي بيَّنا للإِنسان وعرَّفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر، ببعثة الرسل، وإِنزال الكتب.. أخبر تعالى أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة، بيَّن له سبيل الهدى والضلال، ومنحه العقل وترك له حرية الاختيار، ثم هو بعد ذلك إِما أن يشكر، أو يكفر، ولهذا قال بعده ﴿إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ أي إما أن يكون مؤمناً شاكراً لنعمة الله، فيسلك سبيل الخير والطاعة، وإِما أن يكون شقياً فاجراً، فيكفر بنعمة اله ويسلك سبيل الشر والفجور قال المفسرون: المراد هديناه السبيل ليكون إمَّا شاكراً وإِمّا كفوراً، فالله تعالى دلَّ الإِنسان على سبيل الشكر والكفر، وعلى الإِنسان أن يختار سلوك هذا أو ذاك، وهذه الآية الآية من جملة الآيات الكثيرة الدالة على أن
467
للإِنسان إِرادةً واختياراً هما مناط التكليف، كقوله تعالى ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ﴾ [الإِسراء: ١٨] إلى ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا﴾ [الإِسراء: ١٩] وكقوله ﴿وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩] فلا إكراه لأحدٍ ولا إِجبار، وإِنما هو بمحض الإِرادة والاختيار.. ثم بعد هذا البيان الواضح، بيَّن ما أعدَّه للأبرار والفجار في دار القرار فقال ﴿إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً﴾ أي هيأنا للكافرين المجرمين قيوداً تشدُّ بها أرجلهم، وأغلالاً تُغلُّ بها أيديهم إلى أعناقهم، وسعيراً أي ناراً موقدة مستعرة يحرقون بها كوله تعالى ﴿إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ﴾ [غافر: ٧١٧٢] ﴿إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً﴾ أي الذين كانوا في الدنيا أبراراً بطاعتهم الجبار، فإِنهم يشربون كأساً من الخمر، ممزوجة بأنفس أنواع الطيب وهو الكافور، قال المفسرون: الكافور طيبٌ معروف يستحضر من أشجار ببلاد الهند والصين، وهو من أنفس الطيب عند العرب، والمراد أن من شرب تلك الكأس وجد في طيب رائحتها، وفوحان شذاها كالكافور. قال بن عباس: الكافور اسم عين ماءٍ في الجنة يقال له عين الكافور تمتزج الكأس بماء هذه العين وتختم بالمسك فتكون ألذَّ شراب، ولهذا قال تعالى ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله﴾ أي هذا الكافور ويتدفق من عينٍ جارية من عيون الجنة يشرب منها عباد اله الأبرار، وصفهم بالعبودية تكريماً لهم وتشريفاً بإِضافتهم إِليه تعالى ﴿عِبَادُ الله﴾ والمراد بهم المؤمنون المتقون ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾ أي يجروها حيث شاءوا من الدور والقصور قال الصاوي: المارد أنها سهلة لا تمتنع عليهم، ورد أن الرجل منهم يمشي في بيوته، ويصعد إلى قصوره وبيده قضيب يشير به الى الماء، فيجري معه حيثما دار في منازله، ويتبعه حيثما صعد إِلى أعلى قصوره.
. ولما ذكر ثواب الأبرار، بيَّن صفاتهم الجليلة التي استحقوا بها ذلك الأجر الجزيل فقال ﴿يُوفُونَ بالنذر﴾ أي يوفون بما قطعوه على أنفسهم من نذرٍ في طاعة الله، إِذا نذروا طاعةً فعلوها قال الطبري: النذرُ كلُّ منا أوجبه الإِنسان على نفسه من فعل، فإِذا نذروا بروا بوفائهم لله، بالنذور التي في طاعة الله، من صلاة، وزكاة، وحج، وصدقة قال المفسرون: وهذا مبالغة في وصفهم بأداء الواجبات، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه، كان بما أوجبه الله عليه أوفى ﴿وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾ أي ويخافون هول يومٍ عظيم كانت أهواله وشدائده من تفطر السموات، وتناثر الكواكب، ويتطاير الجبال، وغير ذلك من الأهوال ممتدة منتشرة فاشية، بالغة أقصى حدود الشدة والفزع، قال قتادة: استطار والله شرُّ ذلك اليوم حتى بلغ السموات السبع والأرض ﴿وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ﴾ أي ويطعمون الطعام مع شهوتهم له، وحاجتهم إِليه ﴿مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾ أي فقيراً لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ويتيماً مات أبوه وهو صغير، فعدم الناصر والكفيل، وأسيراً وهو من أُسر في الحرب من المشركين قال الحسن البصري: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
468
يُؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين ويقول له: أحسن إِليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه.. نبَّه تعالى إِلى أن أولئك الأبرار مع حاجتهم إلى ذلك الطعام، في سدِّ جوعتهم وجوعة عيالهم، يطيبون نفساً عنه للبؤساء، ويؤثرونهم به على أنفسهم كقوله تعالى ﴿وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩] ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله﴾ أي إنما نحسن إِليكم ابتغاء مرضاة الله وطلب ثوابه ﴿لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً﴾ أي لا نبتغي من وراء هذا الإِحسان مكافأةً، ولا نقصد الحمد والثناء منكم قال مجاهد: أما والله ما قالوه بألستنهم، ولكن علم الله به في قلوبهم، فأثنى عليهم به، ليرغب في ذلك راغب ﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾ أي إنما نفعل ذلك رجاء أن يقينا الله هو يومٍ شديد، تعبس فيه الوجوه من فظاعة أمره، وشدة هوله، وهو يومٌ فمطرير أي شديد عصيب ﴿فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم﴾ أي حماهم الله ودفع عنهم شرَّ ذلك اليوم وشدته ﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً﴾ أي وأعطاهم نضرةً في الوجه، وسروراً في القلب، والتنكير في ﴿سُرُوراً﴾ للتعظيم والتفخيم ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً﴾ أي وأثابهم بسبب صبرهم على مرارة الطاعة والإِيثار بالمال، جنةً واسعة وألبسهم فيها الحرير كما قال تعالى ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [الحج: ٢٣].. وفي الآية إيجازٌ، آخذٌ بأطراف الإِعجاز، فقد أشار تعالى بقوله ﴿جَنَّةً﴾ إلى ما يتمتع به أولئك الأبرار في دار الكرامة من أصناف الفواكة والثمار، والمطاعم والمشارب الهنية، فإن الجنة لا تسمَّى جنة إلا وفيها كل أسباب الراحة كما قال تعالى
﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين﴾ [الزخرف: ٧١] وأشار بقوله ﴿وَحَرِيراً﴾ إلى ما يتمتعون به من أنواع الزينة واللباس، التي من أنفسها وأغلاها عند العرب الحرير، فقد جمع لهم أنواع الطعام والشراب واللباس، وهو قُصارى ما تتطلع له نفوس الناس.. ولما ذكر طعامهم ولباسهم وصف نعيمهم ومساكنهم فقال ﴿مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك﴾ أي مضطجعين في الجنة على الأسرَّة المزيَّنة بفاخر الثياب والستور قال المفسرون: الأرائك جمع أريكة وهي السرير ترخى عليه الحجلة، والحجلة هي ما يسدل على السرير من فاخر الثياب والستور، وإِنما خصَّهم بهذه الحالة لأنها أتم حالات المتنعم ﴿لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾ أي لا يجدون فيها حراً ولا برداً، لأن هواءها معتدل فلا حرَّ ولا قرَّ، وإِنما هي نسمات تهبُّ من العرش تحيي الأنفاس ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا﴾ أي ظلال الأشجار شفي الجنة قريبةٌ من الأبرار ﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً﴾ أي أدنيت ثمارها منهم، وسهل عليهم تناولها قال ابن عباس: إِذا همَّ أن يتناول من ثمارها تدلَّت إِليه حتى يتناول منها ما يريد.. ولما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم، وصف بعد ذلك شرابهم فقال ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ﴾ أي يدور عليهم الخدم بالأواني الفضية فيها الطعام والشراب على عادة أهل الترف والنعيم في الدنيا فيتناول كل واحدٍ منهم حاجته، وهذه الأواني هي الصّحاف بعضها من قضة وبعضها من ذهب كما قال تعالى ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ﴾ [الزخرف: ٧١] قال الرازي: ولا منافاة بين الآيتين، فتارةً يسقون
469
بهذا، وتارة بذاك ﴿وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ﴾ أي وأكواب وهي كالأقداح رقيقة شفافة كالزجاج في صفائه قال في البحر: ومعنى ﴿كَانَتْ﴾ أن الله تعالى أوجدها بقدرته، فيكون تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها، وشفيف القوارير وصفائها ﴿قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ﴾ أي هي جامعة بين صفاء الزجاج، وحسن الفضة قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إِلا الأسماء يعني أن ما في الجنة أسمى وأشرف وأعلى ولو أخذت فضةً من فضة الدنيا، فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب، لم ير الماء من ورائها، ولكنَّ قوارير الجنة ببياض الفضة، مع صفاء القوارير ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً﴾ أي قدَّرها السُّقاة على مقدار حاجتهم، لا تزيد ولا تنقص، وذلك ألذُّ وأشهى قال ابن عباس: أتوابها على قدر الحاجة لا يفضلون شيئاً، ولا يشتهون بعدها شيئاً ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً﴾ أي يسقى هؤلاء الأبرار في الجنة كأساً من الخمر ممزوجةً بالزنجبيل، والعرب تستلذ من الشراب ما مزج بالزنجبيل لطيب رائحته قال القرطبي: فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة الطيب قال قتادة: الزنجبيل أسمٌ لعينٍ في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة ﴿عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً﴾ أي يشربون من عين في الجنة تسمى السلسبيل، لسهولة مساغها وانحدارها في الحلق قال المفسرون: السلسبيل: الماء العذب، السهل الجريان في الحلق لعذوبته وصفائه، وإِنما وصف بأنه سلسبيل، لأن ذلك الشراب يكون في طعم الزنجبيل، ولكن ليس فيه لذعته، فيشعر الشاربون بطعمه، لكنهم لا يشعرون بحرافته، فيبقى الشراب سلسبيلاً، سهل المساغ في الحلق.
. ثم وصف بعد ذلك خدم أهل الجنة فقال ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ﴾ أي ويدور على هؤلاء الأبرار، غلمانٌ ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين ﴿مُّخَلَّدُونَ﴾ أي دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء قال القرطبي: أي باقون على ما هم عليه من الشباب، والنضارة، والغضاضة، والحسن، لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحدة على مرِّ الأزمنة ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً﴾ أي إِذا نظرتهم منتشرين في الجنة لخدمة أهلها، خلتهم لحسنهم وصفاء ألوانهم وإِشراق وجوهم، كأنهم اللؤلؤ المنثور قال الرازي: هذا من التشبيه العجيب، لأن اللؤلؤ إِذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر، لوقوع شعاع بعضه على بعض فيكون أروع وأبدع، ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾ أي وإِذا رأيت هناك ما في الجنة من مظاهر الأنس والسرور، رأيت نعيماً لا يكاد يوصف، وملكاً واسعاً عظيماً لا غاية له، كما في الحديث القدسي «أعددتُ لعبادي الصالحين، ما لاعينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطَر على قلب بشر» قال ابن كثير: وثبت في الصحيح أن «أقل أهل الجنة منزلةً من له قدر الدنيا عشرة أمثالها» فإِذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة، فما ظنك بمن هو أعلى منزلةً وأحظى عنده
470
تعالى؟ ثم زاد تعالى في بيان وصف نعيمهم فقال ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ أي تعلوهم الثياب الفاخرة الخضراء، المزينة بأنواع الزينة، من الحرير الرقيق وهو السندس والحرير الثخين وهو الاستبرق فلباسهم في الجنة الحرير كما قال تعالى ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [الحج: ٢٣] قال المفسرون: السندس ما رقَّ من الحرير، والاستبرق ما غلظ من الحرير، وهذا لباس الأبرار في الجنة، وإِنما قال ﴿عَالِيَهُمْ﴾ لينبه على أن لهم عدة من الثياب، ولكنَّ الذي يعلوها هي هذه، فتكون أفضلها ﴿وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾ أي وألبسوا في الجنة أساور فضية للزينة والحلية وعبَّر بالماضي إشارةً لتحقق وقوعه قال الصاوي: فإن قيل: كيف قال هنا ﴿أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾ وفي سورة الكهف ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾ [الكهف: ٣١] وفي سورة فاطر ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً﴾ [فاطر: ٣٣] فالجواب أنهم تارةً يلبسون الذهب فقط، وتارةً يلبسون الفضة، وتارةً يلبسون اللؤلؤ فقط على حسب ما يشتهون، ويمكن أن يجمع في يد أحدهم أسورة الذهب والفضة واللؤلؤ ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً﴾ أي سقاهم الله فوق ذلك النعيم شراباً طاهراً لم تدنسه الأيدي، وليس بنجس كخمر الدنيا قال الطبري: سُقي هؤلاء الأبرار شراباً طهوراً، ومن طُهْره أنه لايصير بولاً نجساً، بل رشحاً من أبدانهم كرشح المسك، روي أن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا، فإِذا أكل سقي شراباً طهوراً، فيصير رشحاً يخرج من جلده أطيبُ ريحاً من المسك الإِذخر ﴿إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً﴾ أي يقال لهم بعد دخولهم الجنة ومشاهدتهم نعيمها، هذا مقابل أعمالكم الصالحة في الدنيا ﴿وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً﴾ أي وكان عملكم مقبولاً مرضياً، جوزيتم عليه أحسن الجزاء، مع الشكر والثناء.
. مرَّ في الآيات السابقة أن الله تعالى أعدَّ للكافرين السلاسل والأغلال، كما هيأ للأبرار أرائك يتكئون عليها، وعليهم ثياب السندس والاستبرق، وفي معاصمهم أساور الفضة، وبين أيديهم ولدانٌ مخلدون كأنهم اللؤلؤ المنثور، يطوفون على أولئك الأبرار بصحاف الفضة وأكوابها الصافية النقية، وقد ملئت شراباً ممزوجاً بالنزجبيل والكافور، وكلٌّ ذلك للترغيب والترهيب، على طريقة القرآن في المقارنة بين أحوال الأبرار والفجار.. وبعد هذا الوضوح والبيان، كان المشركون يقابلون كل هذه الآيات بالصدِّ والإِعراض، والاستهزاء بالقرآن وبمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وكان الرسول يتألم ويحزن لموقف المعاندين، لذلك جاءت الآيات تشدُّ من عزيمته، وتسلِّية وتخفف عن قلبه الشريف آثار الهمِّ والضجر ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنزِيلاً﴾ أي نحن الذين أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن مفرقاً، لتذكرهم بما فيه من الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، فلا تبتئس ولا تحزن ولا تضجر، فالقرآن حقٌ ووعده صدقٌ ﴿فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ أي اصبر يا محمد وانتظر لحكم ربك وقضائه، فلا بدَّ أن ينتقم منهم، ويقر عينك بإِهلاكهم، إِنْ عاجلاً أو آجلاً ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً﴾ أي ولا تطع من هؤلاء الفجرة من كان ﴿آثِماً﴾ منغمساً في الشهوات، غارقاً في الموبقات ﴿أَوْ كَفُوراً﴾ أي ولا تطع من كان مبالغاً في الكفر والضلال، لا ينزجر ولا يرعوي، وصيغة ﴿كفور﴾ من صيغ المبالغة ومعناها المبالغ في الكفر والجحود قال المفسرون:
471
نزلت في «عتبة بن ربيعة» و «الوليد بن المغيرة» قالا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِن كنت تريد النساء والمال فارجع عن هذا الأمر ونحن نكفيك ذلك، فقال عتبة: أنا أُزوجك ابنتي وأسوقها لك من غير مهر، وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى فنزلت، والأحسنُ أنها على العموم لأن لفظها عام فهي تشمل كل فاسق وكافر ﴿واذكر اسم رَبِّكَ﴾ أي صلِّ لربك وأكثر من عبادته وطاعته ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ أي في أول النهار وآخره، في الصباح والمساء ﴿وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ﴾ أي ومن الليل فصلِّ له، متهجداً مستغرقاً في مناجاته ﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾ أي وأكثر من التهجد والقيام لربك في جناح الظلام والناس نيام كقوله تعالى
﴿وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾ [الإِسراء: ٧٩] والمقصود أن يكون عابداً لله ذاكراً له في جميع الأوقات، في الليل والنهار، والصباح والمساء، بقلبه ولسانه، ليتقوى على مجابهة أعدائه.. وبعد تسلية النبي الكريم، عاد إِلى شرح أحوال الكفرة المجرمين فقال ﴿إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة﴾ أي إِن هؤلاء المشركين يفضلون الدنيا على الآخرة، وينهمكون في لذائذها الفانية ﴿وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾ أي ويتركون أمامهم يوماً عسيراً شديداً، عظيم الأهوال والشدائد، وهو يوم القيامة ﴿نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ﴾ أن نحن بقدرتنا أو جدناهم من العدم، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق، حتى كانوا أقوياء أشداء ﴿وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً﴾ أي ولو أردنا أهلكناهم، ثم بدلنا خيراً منهم يكونون أعبد لله وأطوع، وفي الآية تهديدٌ ووعيد ﴿إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ﴾ أي هذه الآيات الكريمة بمعناها الدقيق، ولفظها الرشيق، موعظة وذكرى، يتذكر بها العاقل، وينزجر بها الجاهل ﴿فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ أي فمن أراد الانتفاع والاعتبار وسلوك طريق السعادة، فليعتبر بآيات القرآن، وليستنر بنوره وضيائه، وليتخذ طريقاً موصلاً إلى ربه، بطاعته وطلب مرضاته، فأسباب السعادة ميسورة، وسبل النجاة ممهدة ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ أي وما تشاءون أمراً من الأمور، إِلا بتقدير الله ومشيئته، ولا يحصل شيء من الطاعة والاستقامة إِلا بإِذنه تعالى وإِرادته، قال ابن كثير: أي لا يقدر أحدٌ أن يهدي نفسه، ولا يدخل في الإِيمان، ولا يجر لنفسه نفعاً، إلا بمشيئة الله تعالى ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ أي عالم بأحوال خلقه، حكيم في تدبيره وصنعه، يعلم من يستحق الهداية فييسِّرها له، ومن يستحق الضلالة فيسهل له أسبابها، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة ﴿يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ أي يدخل من شاء من عباده جنَّته ورضوانه حسب مشيئته وحكمته وهم المؤمنون ﴿والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي وأما المشركون الظالمون فقد هيأ لهم عذاباً شديداً مؤلماً في دار الجحيم، ختم السورة الكريمة ببيان مآل المتقين، ومآل الكفرة المجرمين.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين ﴿شَاكِراً.. وكَفُوراً﴾ وبين ﴿بُكْرَةً.. وَأَصِيلاً﴾ وبين ﴿شَمْساً.. وزَمْهَرِيراً﴾.
٢ - اللف والنشر المشوش ﴿إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ﴾ فإِنه قدَّم أولاً ذكر الشاكر ثم الكافر {
472
شَاكِراً أو كَفُوراً} ثم عاد بالذكر على الثاني دون الأول ففيه لف ونشر غير مرتب.
٣ - المجاز العقلي ﴿يَوْماً عَبُوساً﴾ إِسناد العبوس إِلى اليوم من إِسناد الشيء إِلى زمانه كنهاره صائم.
٤ - الجناس غير التام ﴿فَوَقَاهُمُ.. وَلَقَّاهُمْ﴾ فبين وقاهم ولقاهم جناس.
٥ - جناس الاشتقاق ﴿وَيُطْعِمُونَ الطعام﴾.
٦ - الطباق ﴿يُحِبُّونَ.. وَيَذَرُونَ﴾.
٧ - الايجاز بالحذف ﴿إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً﴾ أي يقال لهم: إِن هذا.. الخ.
٨ - التشبيه البديع الرائع ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً﴾ أي كاللؤلؤ المنتثر.
٩ - المقابلة اللطيفة ﴿يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾ قابل بين المحبة والترك وبين العاجلة والباقية.
١٠ - السجع المرصَّع مثل ﴿لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً.. شَرَاباً طَهُوراً.. وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً.. آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾ الخ وهو من المحسنات البديعية.
473
Icon