تفسير سورة الإنسان

إعراب القرآن للنحاس
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب إعراب القرآن المعروف بـإعراب القرآن للنحاس .
لمؤلفه ابن النَّحَّاس . المتوفي سنة 338 هـ

٧٦ شرح إعراب سورة هل أتى [الإنسان]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢)
الإنسان الأول عند أهل التفسير يراد به آدم عليه السّلام، وقد يجوز أن يراد به الجنس والثاني للجنس لا غير. والنطفة عند العرب الماء القليل في وعاء أَمْشاجٍ من نعت نطفة على غير حذف، في قول من قال: الأمشاج العروق التي تكون في النطفة كما تقول: الإنسان أعضاء مجموعة، ومن قال: الأمشاج ماء الرجل وماء المرأة فهو على هذا أيضا سماها جميعا نطفة، وهما يختلطان ويخلق الإنسان منهما. ومن قال:
الأمشاج العلقة والمضغة فالتقدير عنده من نطفة ذات أمشاج. وواحدتهما مشيج مثل شريف وأشراف، ويقال: مشج مثل عدل وأعدال نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً قال الفراء:
هو على التقديم والتأخير، والمعنى عنده جعلنا الإنسان سميعا بصيرا لنبتليه أي لنختبره. وقال من خالفه في هذا: هو خطأ من غير جهة فمنها أنه لا يكون مع الفاء تقديم ولا تأخير لأنها تدلّ على أن الثاني بعد الأول، ومنها أن الإنسان إنما يبتلى أي يختبر ويؤمر وينهى إذا كان سوي العقل كان سميعا بصيرا ولم يكن كذلك، ومنها أن سياق الكلام يدلّ على غير ما قال: وليس في الكلام لام كي، وإنما سياق الكلام تعديد الله جلّ وعزّ نعمه علينا ودلالته إيّانا على نعمه.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٣]
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣)
منصوبان على الحال أي إنّا خلقنا الإنسان شاكرا أو كفورا. ومعنى إمّا أو وإن كانت تجيء في أول الكلام ليدلّ على المعنى ويدلك على ذلك قول أهل التفسير أن المعنى إنّا هديناه السبيل إما شقيّا وإما سعيدا والشقاء والسعادة بفرع منهما وهو في بطن أمه وهكذا خبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هي حال مقدرة، وأجاز الفراء «١» أن يكون «ما»
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٣٨٩.
هاهنا زائدة وتكون «أن» للشرط والمجازاة على أن يكون المعنى إنّا هديناه السبيل إن شكر أو كفر. قال أبو جعفر: وهذا القول ظاهره خطأ لأن «إن» التي للشرط لا تقع على الأسماء وليس في الآية إما شكر إنما فيها إما شاكرا وإما كفورا. فهذان اسمان، ولا يجازى بالأسماء عند أحد من النحويين.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٤]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤)
هذه قراءة أبي عمرو وحمزة بغير تنوين إلّا أن الصحيح عن حمزة أنه كان يقف «سلاسلا» «١» بالألف اتباعا للسواد لأنها في مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة بالألف، وقراءة أهل المدينة وأهل الكوفة غير حمزة «إنّا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا» والحجّة لأبي عمرو وحمزة أن «سلاسل» لا ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد، وهو نهاية الجمع فثقل فمنع الصرف، والوقوف عليه بالألف والحجة فيه أن الرؤاسي والكسائي حكيا عن العرب الوقوف على ما لا ينصرف بالألف لبيان الفتحة فقد صحّت هذه القراءة من كلام العرب. والحجّة لمن لوّن ما حكاه الكسائي وغيره من الكوفيين أن العرب تصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل منك. فهذه حجة وحجة أخرى أن بعض أهل النظر يقول: كل ما يجوز في الشعر فهو جائز في الكلام لأن الشعر أصل كلام العرب فكيف نتحكّم في كلامها ونجعل الشعر خارجا عنه؟ وحجة ثالثة أنه لما كان إلى جانبه جمع ينصرف فأتبع الأول الثاني.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٥]
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥)
واحد الأبرار برّ ربّما غلط الضعيف في العربية فقال: هو جمع فعل شبّه بفعل وذلك غلط. إنما هو جمع فعل يقال: بررت والدي فأنا بارّ وبرّ فبرّ فعل مثل حذرت فأنا حذر، وفعل وأفعال قياس صحيح. وقيل: إنما سمّوا أبرارا لأنهم برّوا الله جلّ وعزّ بطاعته في أداء فرائضه واجتناب محارمه. وقيل: معنى كانَ مِزاجُها كافُوراً في طيب ريحها.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٦]
عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦)
عَيْناً في نصبها غير وجه أني سمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: نظرت في نصبها فلم يصحّ لي فيه إلا أنها منصوبة بمعنى أعني، وكذا الثانية فهذا وجه، ووجه ثان أن يكون بمعنى الحال من المضمر في مزاجها، ووجه رابع يكون مفعولا بها، والتقدير يشربون عينا يشرب بها عباد الله كان مزاجها كافورا. وفي
(١) انظر تيسير الداني ١٧٦، والبحر المحيط ٨/ ٣٨٧.
يشرب بها وجهان: قال الفراء «١» : يشرب بها ويشربها واحد. قال أبو جعفر: وأحسن من هذا أن يكون المعنى يروى بها. وقد ذكرته يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً مصدر. ويروى أن أحدهم إذا أراد أن ينفجر له الماء شق ذلك الموضع بعود يجري فيه الماء.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٧]
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ وهو كل ما وجب على الإنسان أن يفعله نذره أو لم ينذره، قال جلّ وعزّ: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج: ٢٩]. قال عنترة: [الكامل] ٥١٤-
الشّاتمي عرضي ولم أشتمهما والنّاذرين إذا لم القهما دمي «٢»
وقول الفراء «٣» : كان فيه إضمار «كان» أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا، وكذا يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٨]
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨)
اختلف العلماء في الأسير هاهنا، فقال بعضهم: هو من أهل الحرب لأنه لم يكن في ذلك الوقت أسير إلّا منهم، وقال بعضهم: هو لأهل الحرب وللمسلمين، وهذا أولى بعموم الآية فلا يقع فيها خصوص إلا بدليل قاطع فيكون لمن كان في ذلك الوقت ولمن بعد، كما كان يُوفُونَ بِالنَّذْرِ.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٩]
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩)
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي يقولون لا نريد منكم جزاء ولا شكورا يكون جمع شكر، ويكون مصدرا.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ١٠]
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠)
قال الفراء: القمطرير والقماطر الشديد وأنشد: [الطويل] ٥١٥-
بني عمّنا هل تذكرون بلاءنا عليكم إذا ما كان يوم قماطر «٤» «٥»
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ٢١٥.
(٢) الشاهد لعنترة في ديوانه ٢٢٢، والأغاني ٩/ ٢١٢، وشرح التصريح ٢/ ٦٩، والشعر والشعراء ١/ ٢٥٩، والمقاصد النحوية ٣/ ٥٥١، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣/ ٢٢٥، وشرح الأشموني ٢/ ٣٠٩.
(٣) انظر معاني الفراء ٣/ ٢١٦.
(٤) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (قمطر)، وتاج العروس (قمطر)، وديوان الأدب ٢/ ٥٧، ومعاني الفراء ٣/ ٢١٦، وتفسير الطبري ٢٩/ ٢١.
(٥) انظر البحر المحيط ٨/ ٣٨٨.

[سورة الإنسان (٧٦) : آية ١١]

فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١)
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ نعت لذلك وإن شئت كان بدل. وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً قال الحسن: النضرة في الوجه، والسرور في القلب.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ١٢]
وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢)
قال قتادة: بما صبروا عن المعاصي. فهذا أصحّ قول يقال لمن صبر عن المعاصي صابر مطلقا فإن أردت لغير المعاصي قلت صابر على كذا.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ١٣]
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣)
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ قال الفراء: نصب. مُتَّكِئِينَ على القطع وهو عند البصريين منصوب على الحال من التاء والميم، والعامل فيه جزاء ولا يجوز أن يعمل فيه صبروا لأن مُتَّكِئِينَ إنما هو في الجنة، والصبر في الدنيا، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه نعت لجنة، ولذلك حسن لأنه قد عاد الضمير عليها لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً القول فيه كالقول في «متكئين»، ويكون معناه غير رائعين.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥)
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها فيه ستة أوجه يجوز أن يكون معطوفا على جَنَّةً أقيمت الصفة مقام الموصوف أي وجزاهم جنّة دانية عليهم ظلالها، ويجوز أن يكون معطوفا على متكئين، ويجوز أن يكون معطوفا على لا يرون لأن معناه غير رائين ويجوز أن يكون منصوبا على المدح مثل وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء: ١٦٢] وإن كان نكرة فهو يشبه المعرفة فهذه أربعة أوجه. وفي قراءة ابن مسعود «ودانيا عليهم ظلالها» «١» على تذكير الجمع، وفي قراءة أبيّ «ودان عليهم ظلالها» «دان» في موضع رفع أصله داني استثقلت الحركة في الياء فحذفت الضمة، وحذفت الياء لسكونها وسكون التنوين، ولم تستثقل الحركة في ودانيا لخفة الفتحة ظِلالُها مرفوع بالدنو من قول من نصب الأول، ومن قال: «ودان ظلالها» عنده مرفوع بالابتداء، ودان خبره. كما تقول: مررت بزيد جالس أبوه أي أبوه جالس. وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا عطف جملة على جملة فذلك صلح أن يأتي بالماضي وقبله اسم الفاعل، وبعده وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ أهل التفسير منهم مجاهد: يقولون: الكوب الكوز الذي لا عروة له إلا قتادة فإنه قال: هو
(١) انظر تيسير الداني ١٧٧.
القدح كانَتْ قَوارِيرَا «١» قراءة أبي عمرو الثاني بغير ألف وفرق بينهما لجهتين: أحداهما أنه كذا في مصاحف أهل البصرة، والثانية أن الأولى رأس آية فحسن إثبات الألف فيها.
فأما حمزة فقرأ «كانت قوارير قوارير من فضّة» لأنهما لا ينصرفان فهذا شيء بيّن لولا مخالفة السواد، وقرأ المدنيون فيهما جميعا، والذي يحتجّ به لهم لا يوجد إلا من قول الكوفيين وهو أن الكسائي والفراء أجازا صرف ما لا ينصرف إلّا أفعل منك واحتجّ الفراء بكثرة ذلك في الشعر.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ١٦]
قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦)
قَدَّرُوها تَقْدِيراً عن الشّعبي وقتادة وابن أبزى وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرءوا قَدَّرُوها «٢» أي قدّروا عليها أي على قدر ربّهم لا يزيد ذلك ولا ينقص.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ١٧]
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧)
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً قال أبو الحسن بن كيسان: لا يقال للقدح: كأس حتّى تكون فيه الخمر وكذا لا يقال: مائدة للخوان حتى يكون عليه طعام، وكذا الظعينة كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا أي كالزّنجبيل في لذعه وكانوا يستطيبون ذلك فخوطبوا على ما يعرفون.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ١٨]
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨)
عَيْناً قد تقدّم ما يغني عن الكلام في نصبها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا فعلليل من السّلاسة، ومن قال: هو اسم العين صرف ما لا يجب أن ينصرف.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ١٩]
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي بما يحتاجون إليه. إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً أهل التفسير على أن المعنى في هذا التشبيه لكثرتهم وحسنهم، وقال عبد الله بن عمر: ما أحد من أهل الجنة إلّا له إلف غلام كلّ غلام على عمل ليس عليه صاحبه.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٠]
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠)
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ لأهل العربية فيه ثلاثة أقوال: فأكثر البصريين يقول: «ثمّ» ظرف، ولم تعدّ رأيت كما تقول: ظننت في الدار فلا تعدّى ظننت على قول سيبويه «٣»، وقال الأخفش، وهو أحد قولي الفراء «٤» :«ثمّ» مفعول بها أي فإذا نظرت ثمّ وقول آخر
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ٢١٧، والبحر المحيط ٨/ ٣٨٩.
(٢) انظر الكتاب ١/ ١٨٠.
(٣) انظر معاني الفراء ٣/ ٢١٨.
(٤) أخرجه أحمد في مسنده ٢/ ١٣، والطبري في تفسيره ١٩/ ١٢٠، وابن كثير في تفسيره ٨/ ٣٠٥.
للفراء قال: التقدير: وإذا رأيت ما ثمّ وحذف «ما». قال أبو جعفر: «وثمّ» عند جميع النحويين مبنيّ غير معرب لتنقّله وحذف «ما» خطأ عند البصريين لأنه يحذف الموصول ويبقى الصلة فكأنه جاء ببعض الاسم رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً جواب «إذا»، ويبيّن لك معنى هذا كما حدّثنا أحمد بن علي بن سهل قال: حدّثنا زهير يعني ابن حرب ثنا محمد بن حازم ثنا عبد الملك بن أبجر عن ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«إن أدنى أهل الجنّة منزلة لينظر في ملكه ألفي عام ينظر أزواجه وسرره وخدمه وإنّ أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله جلّ وعزّ في كل يوم مرتين» «١».
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢١]
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١)
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ مبتدأ وخبره، والأصل عاليهم حذفت الضمة لثقلها. وهذه قراءة بيّنة، وهي قراءة أبي جعفر ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة، وقرأ أبو عبد الرّحمن والحسن وأبو عمرو والكسائي وابن كثير وعاصم عالِيَهُمْ بالنصب على أنه ظرف، ومثّله الفراء «٢» بقوله: زيد داخل الدار. قال أبو جعفر: أما عاليهم فبيّن أنه منصوب على الظرف، وفي معناه قولان: أحدهما أن الخضرة تعلو ثياب أهل الجنة، والقول الآخر أن هذه النبات الخضر فوق حجالهم لا عليهم وأما زيد داخل الدار فلا يجوز عند جماعة من النحويين كما لا يقال: زيد الدار، ولكن لو قلت: زيد خارج الدار جاز، وروى عبد الوارث عن حميد عن مجاهد أنه قرأ «عليهم ثياب سندس» قال أبو جعفر: وهذا لا يحتاج إلى تفسير، وفي قراءة ابن مسعود «عاليتهم ثياب سندس» «٣» على تأنيث الجماعة، وقرأ الحسن ونافع «ثياب سندس خضر وإستبرق» «٤» وقرأ الأعمش وحمزة «ثياب سندس خضر وإستبرق» بخفضهما، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر «ثياب سندس خضر وإستبرق» برفع «خضر» وخفض «إستبرق»، وقرأ ابن كثير وعاصم «ثياب سندس خضر وإستبرق» قرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الألف وبغير تنوين. قال أبو جعفر: القراءة الأولى حسنة متّصل الرفع بعضه ببعض فخضر نعت للثياب وإستبرق معطوف عليها:
وانصرف لأنه نكرة وقطعت الألف لأنه اسم ولو سمّيت رجلا باستكبر لقلت:
جاءني استكبر. هذا قول الخليل وسيبويه والقراءة الثانية على أن من قرأ بها نعت سندسا بخضر. وفي ذلك بعد لأنه إنّما يقال: هذا سندس أخضر كما يقال. هذا حرير أخضر إلا أن ذلك جائز لأنه جنس والجنس يؤدّي عن الجميع كقولك:
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ٢١٩. [.....]
(٢) انظر معاني الفراء ٣/ ٢١٩.
(٣) انظر تيسير الداني ١٧٧، والبحر المحيط ٨/ ٣٩١.
(٤) انظر معاني الفراء ٣/ ٢١٩.
سندس وسندسات واحد، وعطف وإستبرق على سندس أي وثياب وإستبرق، والقراءة الثالثة حسنة أيضا جعله خُضْرٌ نعتا للثياب، وهو الوجه البين الحسن، وخفض إستبرق نسقا على سندس أيضا. والقراءة الرابعة خفض فيها خضر على أنها نعت لسندس كما مر ورفع وإستبرق لأنه عطف على ثياب، وقراءة ابن محيصن عند كل من ذكر القراءات ممن علمناه من أهل العربية لحن لأنه منع إستبرق من الصرف وهو نكرة، ولا يخلو منعه إياه من إحدى وجهين: إما أن يكون منعه من الصرف لأنه أعجمي، وإما أن يكون ذلك لأنه على وزن الفعل، والعجمي وما كان على وزن الفعل ينصرفان في النكرة، وأيضا فإنه وصل الألف، وذلك خطأ عند الخليل وسيبويه لما ذكرنا ونصب «إستبرق» وإن كان هذا يتهيّأ أن يحتال في نصبه فهذا ما فيه مما قد ذكر بعضه. قال أبو جعفر: ولو احتيل فيه فقيل: هو فعل ماض أي وبرق هذا الجمع لكان ذلك عندي شيئا يجوز وإن كنت لا أعلم أحدا ذكره. وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وقد طعن في هذا بعض الملحدين. إما لجهله باللغة وإما لقصده الكفر اجتراء على الله عزّ وجلّ وأخذ شيء من حطام الدنيا وذلك أن الجنة لا بيع فيها ولا شراء ولا معنى لطعنه لقلة قيمة الفضة، ولأن هذا لا يحسن للرجال فجهل معنى التفسير لأن في التفسير أن هذا يكون لأزواجهن، ولو كان لهم ما دفع حسنه، وقد طعن في الإستبرق ولم يدر معناه أو داره وتعمّد الكفر. والإستبرق عنه العرب ما كان متينا وغلظ في نفسه لا غلظ خيوطه.
قال أبو جعفر: فقد ذكرنا أن هذا الإستبرق يكون فوق حجالهم وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً أي طاهرا من الأقذار والأدناس والأوساخ.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٢]
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً ويجوز رفع جزاء على خبر «إنّ» وتكون «كان» ملغاة وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً خبر «كان» ولو كان مرفوعا جاز أن يكون اسم كان فيها مضمرا ولا تغلى إذا كانت مبتدأة لأن الكلام مبنيّ عليها.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٣]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ يكون «نحن» في موضع نصب صفة لاسم إنّ، ويجوز أن تكون فاصلة لا موضع لها، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر «نزّلنا» تَنْزِيلًا مصدر جيء به للتوكيد.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٤]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي اصبر على أذاهم، وكان السبب في نزول هذا على ما ذكر قتادة أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأطأنّ عنقه وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً قال
الفراء «١» «أو» بمنزلة «لا» أي لا تطع من أثم ولا كفر. قال أبو جعفر: و «أو» تكون في الاستفهام والمجازاة والنفي بمنزلة «لا». قال أبو جعفر: ويجوز أن يكون المعنى لا تطيعنّ من أثم وكفر بوجه فتكون قريبة المعنى من الواو. قال أبو جعفر: فالقول الأول صواب على قول سيبويه، والثاني خطأ لا يكون «أو» بمعنى الواو لأنك إذا قلت: لا تكلّم زيدا أو عمرا، فمعناه لا تكلّم واحدا منهما ولا تكلّمهما إن اجتمعا وليس كذا الواو إذا قلت: لا تكلّم المأمور واحدا منهما لم يكن عاصيا أمره، «أو» إذا كلّم واحدا منهما كان عاصيا أمره وكذا الآية لا يجوز أن يطاع الآثم ولا الكفور.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٥]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥)
بُكْرَةً يكون معرفة فلا ينصرف ويكون نكرة فينصرف. فهي هاهنا نكرة فلذلك صرفت لأن بعدها وَأَصِيلًا وهو نكرة ولا تكون معرفة إلا أن تدخل فيه الألف واللام.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٦]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ التقدير فاسجد له من الليل وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا قيل: هو منسوخ بزوال فرض صلاة الليل، وقيل: هو على الندب وقيل: هو خاص للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٧]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧)
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي يحبون خير الدنيا. وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا قال سفيان: يعني الآخرة. قال أبو جعفر: وقيل: وراء بمعنى قدّام ومن يمنع من الأضداد يجيز هذا لأن وراء مشتقّ من توارى فهو يقع لما بين يديك وما خلفك. وقيل:
التقدير: ويذرون وراءهم عمل يوم ثقيل. أي لا يعملون للآخرة.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٨]
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ عن أبي هريرة قال: المفاصل. وقال ابن زيد:
القوة، وقيل: هو موضع الحديث. ومن أحسن ما قيل فيه قول ابن عباس ومجاهد وقتادة قالوا: أسرهم خلقهم. قال أبو جعفر: يكون من قولهم: ما أحسن أسر هذا الرجل أي خلقه ومن هذا أخذه بأسره أي بجملته وخلقته لم يبق منه شيئا وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا قال ابن زيد يعني بني آدم الذين خالفوا طاعة الله جلّ وعزّ وأمثالهم من بني آدم أيضا.
(١) قرأ الكوفيون ونافع بالتاء والباقون بالياء، انظر تيسير الداني ١٧٧.

[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٩]

إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩)
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ قيل: أي هذه الأمثال والقصص فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي فمن شاء اتّخذ إلى رضاء ربه طريقا بطاعة الله عزّ وجلّ والانتهاء عن معاصيه.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٣٠]
وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠)
وَما تَشاؤُنَ «١» اتّخاذ السبيل إلا بأن يشاء الله ذلك لأن المشيئة إليه، وحذفت الباء فصارت «أن» في موضع نصب ومن النحويين من يقول: هي في موضع خفض.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بما يشاء أن يتّخذ إلى رضاه طريقا حَكِيماً في تدبيره، لا يقدر أحد أن يخرج عنه.
[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٣١]
يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)
يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي بأن يوفّقه للتوبة فيتوب فيدخل الجنة. وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً نصب الظالمين عند سيبويه بإضمار فعل يفسره ما بعده أي ويعذّب الظالمين. وأما الكوفيون فقالوا: نصبت لأن الواو ظرف للفعل أي ظرف لأعدّ. قال أبو جعفر: وهذا يحتاج إلى أن يبيّن ما الناصب، وقد زاد الفراء «٢» في هذا إشكالا فقال:
يجوز رفعه وهو مثل وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشعراء: ٢٢٤]. قال أبو جعفر:
وهذا لا يشبه من ذلك شيئا إلا على بعد. لأن قبل هذا فعلا فاختير فيه النصب ليضمر فعلا ناصبا فيعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل، والشعراء ليس يليهم فعل، وإنما يليهم مبتدأ وخبره. قال جلّ وعزّ:
وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ [الشعراء: ٢٢٣] وهاهنا يدخل من يشاء في رحمته ويجوز الرفع على أن يقطعه من الأول. قال أبو حاتم حدثني الأصمعي. قال: سمعت من يقرأ:
«والظّالمون أعدّ لهم عذابا أليما» بالرفع، وفي قراءة عبد الله «وللظّالمين أعدّ لهم عذابا أليما» «٣» بتكرير اللام.
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ٢٢٠.
(٢) انظر معاني الفراء ٣/ ٢٢٠، والبحر المحيط ٨/ ٣٩٣.
(٣) مرّ الشاهد رقم (٥١).
Icon