تفسير سورة العاديات

التفسير الوسيط لطنطاوي
تفسير سورة سورة العاديات من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي .
لمؤلفه محمد سيد طنطاوي . المتوفي سنة 1431 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة العاديات
مقدمة وتمهيد
١- سورة " العاديات " وتسمى –أيضا- سورة " والعاديات " بإثبات الواو، يرى بعضهم أنها من السور المكية، ولم يذكر في ذلك خلافا الإمام ابن كثير، ويرى بعضهم أنها مدنية.
قال الآلوسي : مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء. ومدنية في قول أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس. فقد أخرج عنه البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني، وابن مردويه أنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا، فاستمرت شهرا لا يأتيه منها خير، فنزلت هذه السورة... ( ١ ).
وهذه الرواية التي ساقها الآلوسي وغيره في سبب نزول هذه السورة، ترجح أنها مدنية، وإن كان كثير من المفسرين يرى أنها مكية، والعلم عند الله –تعالى-.
وعدد آياتها إحدى عشرة آية، ومن أهم أغراضها ومقاصدها التنويه بشأن الجهاد والمجاهدين، وبفضل الخيل التي تربط من أجل إعلاء كلمة الله –تعالى-، وبيان ما جبل عليه الإنسان من حرص على منافع الدنيا. وتحريض الناس على أن يتزودوا بالعمل الصالح الذي ينفعهم يوم الحساب.
١ - تفسير الآلوسي ج ٣٠ ص ٢١٤..

التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة العاديات (١٠٠) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)
والعاديات: جمع عادية، اسم فاعل من العدو، وهو المشي السريع، وأصل الياء في العاديات واو، فلما وقعت متطرفة بعد كسرة قلبت ياء، مثل الغازيات من الغزو.
والضّبح: اضطراب النّفس المتردد في الحنجرة دون أن يخرج من الفم، والمراد به هنا:
صوت أنفاس الخيل عند جريها بسرعة. وقيل: الضبح نوع من السير والعدو، يقال:
ضبحت الخيل، إذا عدت بشدة. وهو مصدر منصوب بفعله المقدر، أى: يضبحن ضبحا، والجملة حال من «العاديات».
والموريات: جمع مورية، اسم فاعل من الإيراء، وهو إخراج النار، تقول: أورى فلان، إذا أخرج النار بزند ونحوه.
والقدح: ضرب شيء بشيء لكي يخرج من بينهما شرر النار.
والمراد به هنا: النار التي تخرج من أثر احتكاك حوافر الخيل بالحجارة خلال عدوها بسرعة. وقَدْحاً منصوب بفعل محذوف، أى: تقدحن قدحا.
وفَالْمُغِيراتِ جمع مغيرة. وفعله أغار، تقول: أغار فلان على فلان، إذا باغته بفعل
482
يؤذيه. وصُبْحاً منصوب على الظرفية. وقوله: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً أى: هيجن وأثرن «النقع» أى: الغبار من شدة الجري. تقول: أثرت الغبار أثيره، إذا هيجته وحركته. والنون في «أثرن» ضمير العاديات.
وقوله: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً أى: فتوسطن في ذلك الوقت جموع الأعداء، ففرقنها، ومزقنها، تقول: وسطت القوم أسطهم وسطا، إذا صرت في وسطهم.
والمراد بالعاديات، والموريات، والمغيرات: خيل المجاهدين في سبيل الله، والكلام على حذف الموصوف. والمعنى: وحق الخيل التي يعتلى صهواتها المجاهدون من أجل إعلاء كلمة الله- تعالى-. والتي تجرى بهم في ساحات القتال، فيسمع صوت أنفاسها، والتي تظهر شرر النار من أثر صك حوافرها بالحجارة وما يشبهها والتي تغير على العدو في وقت الصباح، فتثير الغبار، وتمزق جموع الأعداء.
وحق هذه الخيل الموصوفة بتلك الصفات... إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ.
وقد أقسم- سبحانه- بالخيل المستعملة للجهاد في سبيله، للتنبيه على فضلها، وفضل ربطها، ولما فيها من المنافع الدينية والدنيوية، ولما يترتب على استعمالها في تلك الأغراض من أجر وغنيمة، ومن ترويع لجموع المشركين، وتمزيق لصفوفهم.
وأسند- سبحانه- الإغارة إليها- مع أنها في الحقيقة لراكبيها-، لأن الخيول هي عدة الإغارة، وهي على رأس الوسائل لبلوغ النصر على الأعداء.
وقيل: المراد بالعاديات: الإبل، إلا أن الأوصاف المذكورة في الآيات الكريمة من الضبح والإغارة... تؤيد أن المراد بها الخيل.
قال صاحب الكشاف: أقسم- سبحانه- بخيل الغزاة تعدو فتضبح. والضبح: صوت أنفاسها إذا عدون.
فإن قلت: علام عطف «فأثرن» ؟ قلت: على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، وهو قوله فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً وذلك لصحة عطف الفعل على الاسم الذي يشبه الفعل كاسم الفاعل- لأن المعنى: واللائي عدون، فأورين، فأغرن. فأثرن الغبار. «١».
والتعبير بالفاء في قوله- تعالى-: فَأَثَرْنَ فَوَسَطْنَ. وبالفعل الماضي، للإشارة إلى أن إثارة الغبار، وتمزيق صفوف الأعداء، قد تحقق بسرعة، وأن الظفر بالمطلوب قد تم على أحسن الوجوه.
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٨٧.
483
وقوله- سبحانه-: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ جواب القسم. والكنود: الجحود، يقال: فلان كند النعمة- من باب دخل-، إذا جحدها ولم يشكر الله عليها. وكند الحبل:
أى قطعه، وأصل الكنود: الأرض التي لا تنبت شيئا، فشبه بها الإنسان الذي يمنع الحق والخير، ويجحد ما عليه من حقوق وواجبات.
أى: إن في طبع الإنسان- إلا من عصمه الله- تعالى- الكنود لربه والكفران لنعمته، والنسيان لمننه وإحسانه، والغفلة عن المواظبة على شكره- تعالى-، والتضرع إليه- سبحانه- عند الشدائد والضراء.. والتشاغل عن ذلك عند العافية والرخاء.
فالمراد بالإنسان هنا: جنسه، إذ أن هذه الصفة غالبة على طبع الإنسان بنسب متفاوتة، ولا يسلم منها إلا من عصمه الله- تعالى-.
وقيل: المراد بالإنسان هنا: الكافر، وأن المقصود به، الوليد بن المغيرة.
والأولى أن يكون المراد به الجنس، ويدخل فيه الكافر دخولا أوليا.
وقوله- تعالى-: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ أى: وإن الإنسان على كنوده وجحوده لنعم ربه «لشهيد» أى: لشاهد على نفسه بذلك، لظهور أثر هذه الصفة عليه ظهروا واضحا، إذ هو عند لجاجه في الطغيان يجحد الجلى من النعم، ويعبد من دون خالقه أصناما، مع أنه إذا سئل عن خالقه اعترف وأقر بأن خالقه هو الله- تعالى-، كما قال- سبحانه-: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.
قال الإمام الشيخ محمد عبده: قوله: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ أى: وإن الإنسان لشهيد على كنوده، وكفره لنعمة ربه، لأنه يفخر بالقسوة على من دونه، وبقوة الحيلة على من فوقه، وبكثرة ما في يده من المال مع الحذق في تحصيله، وقلما يفتخر بالمرحمة، وبكثرة البذل- اللهم إلا أن يريد غشا للسامع- وفي ذلك كله شهادة على نفسه بالكنود، لأن ما يفتخر به ليس من حق شكر النعمة، بل من آيات كفرها «١».
ومنهم من يرى أن الضمير في قوله- تعالى- هنا وَإِنَّهُ يعود على الخالق- سبحانه- أى: وإن الله- تعالى- لعليم ولشهيد على ما يسلكه هذا الإنسان من جحود، فيكون المقصود من الآية الكريمة، التهديد والوعيد.
قالوا: والأول أولى، لأنه هو الذي يتسق مع سياق الآيات، ومع اتحاد الضمائر فيها.
وقوله- تعالى-: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أى: وإن هذا الإنسان لشديد الحب
(١) تفسير جزء عم ص ١٠٩.
484
لجمع المال، ولكسبه من مختلف الوجوه بدون تفرقة- في كثير من الأحيان- بين الحلال والحرام، ولكنزه والتكثر منه، وبالبخل به على من يستحقه.
وصدق الله إذ يقول: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ، وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً «١».
وقوله- تعالى-: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ تهديد لهذا الإنسان الكنود... وتحريض له على التفكر والاعتبار، وتذكير له بأهوال يوم القيامة.
أى: أيفعل ما يفعل هذا الإنسان الجحود لنعم ربه.. فلا يعلم مآله وعاقبته إِذا بُعْثِرَ. أى: إذا أثير وأخرج وقلب رأسا على عقب ما فِي الْقُبُورِ من أموات حيث أعاد- سبحانه- إليهم الحياة، وبعثهم للحساب والجزاء، كما قال- تعالى-: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أى: أثيرت وأخرج ما فيها. يقال: بعثر فلان متاعه، إذا جعل أسفله أعلاه.
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ أى: وجمع ما في القلوب من خير وشر وأظهر ما كانت تخفيه، وأبرز ما كان مستورا فيها، بحيث لا يبقى لها سبيل إلى الإخفاء أو الكتمان.
وأصل التحصيل: إخراج اللب من القشر، والمراد به هنا: إظهار وإبراز ما كانت تخفيه الصدور، والمجازاة على ذلك. ومفعول يَعْلَمُ محذوف، لتذهب النفس فيه كل مذهب ويجول الفكر في استحضاره وتقديره.
وقوله- تعالى-: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ جملة مستأنفة لزيادة التهديد والوعيد.
أى: إن رب المبعوثين للحساب والجزاء، لعليم علما تاما بأحوالهم الظاهرة والباطنة، في ذلك اليوم الهائل الشديد الذي يبعث فيه الناس من قبورهم، وسيجازى- سبحانه- الذين أساؤوا بما عملوا، وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا من أهل طاعته ومثوبته.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(١) سورة الإسراء الآية ١٠٠.
485

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير سورة القارعة
مقدمة وتمهيد
سورة «القارعة» من السور المكية الخالصة، وكان نزولها بعد سورة «قريش»، وقبل سورة «القيامة»، وعدد آياتها إحدى عشرة آية في المصحف الكوفي، وعشر آيات في الحجازي، وثماني آيات في البصري والشامي.
وهي من السور التي فصلت الحديث عن أهوال يوم القيامة، لكي يستعد الناس لاستقباله، بالإيمان والعمل الصالح.
487
Icon