تفسير سورة القارعة

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة القارعة من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

سورة القارعة
في السورة إنذار بهول القيامة وبيان مصير المحسنين والمسيئين فيها، وأسلوبها عام وليس فيها إشارة إلى موقف معين، فهي من نوع سور الليل والشمس والأعلى وأخواتها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القارعة (١٠١) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١)
. (١) القارعة: التي تقرع الآذان لشدتها، وهي كناية عن يوم القيامة، وقد ذكرت بهذا المعنى بصيغة أصرح في سورة الحاقة كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ [٤].
(٢) مبثوث: منتشر.
(٣) العهن: الصوف.
(٤) أمّه: قيل إنها على مفهومها المعروف وإنها هنا على مألوف خطاب العرب. إذا هلك امرؤ قالوا هوت أمه ثكلا وحزنا، وقيل إنها على مضاف إليه محذوف وهو أم رأسه، ولعلها بمعنى أمامه أو مصيره.
(٥) هاوية: حفرة عميقة.
182
أسلوب الآيتين الأوليين استرعائي إلى يوم القيامة للإنذار بهوله وشدته، وهو من أساليب النظم المتكرر في متون السور وفي مطالعها وتعبير وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ بسبيل تعظيم أمرها وهولها. والآيتان التاليتان لهما احتوتا وصفا لما يكون عليه الناس والجبال في هذا اليوم، بسبيل توكيد هوله وشدته أيضا. والآيات الأربع الأخيرة احتوت تصنيف الناس حسب أعمالهم حيث يكونون فريقين: فريقا موازينه ثقيلة، فمصيره الطمأنينة والعيش الرضي، وآخر خفيفة فمصيره أعماق النار الحامية.
وتشبيه الناس بالفراش المبثوث والجبال بالعهن المنفوش مستمد من مألوفات الناس ومدركاتهم، فالفراش دائم الاضطراب والتحويم والانتشار، وسيكون الناس كذلك يوم القيامة من شدة القلق والرعب، والجبال معروفة بصلابتها وصخورها ورسوخها في الأرض وارتفاعها في السماء. فأريد إفهام السامعين أن أشد ما يعرفونه صلابة ورسوخا يتفكك وينحل ويصبح كالعهن المنفوش رخاوة ولينا وخفة من شدة الهول وقد تنوع وصف حالة الجبال في يوم القيامة، ومرّ من ذلك مثال في سورة المزمل. وهذا التنوع قد يدل على ما قلناه من أن القصد بهذا الوصف وأمثاله توكيد هول يوم القيامة وشدته.
تعليق على تعبير الموازين وثقلها وخفتها في الآخرة
وبمناسبة ورود تعبير الموازين وثقلها وخفتها في الآخرة في هذه السورة لأول مرة نقول إن ذلك قد ورد في سور أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه:
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وآية سورة الأنبياء هذه:
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وآيات سورة المؤمنون هذه: فَإِذا نُفِخَ فِي
183
الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣).
ولقد تعددت التأويلات المروية لهذه المسألة كما روي في صددها أحاديث عديدة. ومن الأحاديث حديث رواه أبو داود عن عائشة جاء فيها: «إنها ذكرت النار فبكت فقال لها رسول الله ما يبكيك فقالت ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة يا رسول الله. فقال أمّا في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا:
عند الميزان حتّى يعلم أيخفّ ميزانه أو يثقل، وعند الكتاب حين يقال هاؤم اقرأوا كتابيه حتّى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنّم»
«١». وحديث رواه الترمذي عن أنس قال:
«سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يشفع لي يوم القيامة فقال أنا فاعل، فقلت يا رسول الله فأين أطلبك قال اطلبني أول ما تطلبني على الصّراط، قلت فإن لم ألقك على الصّراط قال فاطلبني عند الميزان، قلت فإن لم ألقك عند الميزان، قال فاطلبني عند الحوض فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن» «٢». وحديث رواه الترمذي كذلك عن عبد الله بن عمرو قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الله سيخلص رجلا من أمّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كلّ سجلّ مثل مدّ البصر ثم يقول الله أتنكر من هذا شيئا، أظلمتك كتبتي الحافظون. فيقول لا يا ربّ. فيقول أفلك عذر؟ فيقول لا يا ربّ. فيقول بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول احضر وزنك فيقول يا ربّ ما هذه البطاقة مع هذه السجلّات فيقول إنك لا تظلم فيقول فتوضع السجلات في كفّة والبطاقة في كفّة فتطيش السجلات وتثقل البطاقة فإنه لا يثقل مع اسم الله شيء» «٣».
(١) التاج الجامع ج ٥ ص ٣٤٢. [.....]
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه ص ٣٤٢- ٣٤٣.
184
وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال اقرؤوا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» «١». وحديث رواه الإمام أحمد جاء فيه: «إنّ ابن مسعود كان يجني سواكا من أراك وكان دقيق الساقين فجعلت الريح تكفؤه فضحك القوم منه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممّ تضحكون. قالوا يا نبيّ الله من دقة ساقيه. فقال والذي نفسي بيده إنّهما أثقل في الميزان من أحد» «٢».
والتأويلات المروية عن أهل التأويل أو التي ذكرها المفسرون مختلفة، فهناك من أخذ الآيات على ظاهرها مستأنسا بالأحاديث فقال إنه ينصب موازين بكفتين فتوضع الأعمال الحسنة في كفة والسيئة في كفة. ومن الذين ذهبوا هذا المذهب من قال استئناسا ببعض الأحاديث السابقة الذكر إن الذي يوضع في الكفتين كتب الأعمال، ومنهم من قال إن الأعمال ذاتها تتجسد، واستند هؤلاء إلى أحاديث أخرى منها حديث رواه مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه. اقرأوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صوافّ تحاجّان عن أصحابهما» «٣».
وحديث أخرجه ابن ماجه عن بريدة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك». «٤»
وحديث رواه الإمام أحمد عن البراء في قصة سؤال القبر جاء فيه: «فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح فيقول من أنت فيقول أنا عملك الصالح وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق» «٥».
(١) المصدر السابق نفسه ج ٤ ص ١٥٣.
(٢) تفسير القاسمي لآيات سورة الأعراف ٨- ٩.
(٣) التاج ج ٤ ص ١٦.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
185
على أن هناك من قال إن الميزان في الجملة القرآنية تمثيلي يعني القضاء السوي والحكم العادل وأن استعمال الميزان بهذا المعنى شائع في اللغة. وقد عزيت بعض هذه الأقوال إلى مجاهد والضحاك من علماء التابعين بل وروي عن مجاهد قوله: «ليس ميزانا وإنما هو ضرب مثل» «١».
ومع ما في هذه الأقوال من وجاهة وسداد فان جمهور المفسرين وأهل السنة قد أخذوا المذهب الأول بناء على صراحة العبارة القرآنية وما روي من أحاديث صحيحة.
وعلى كل حال فإننا نقول إن الإيمان بما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة في هذا الأمر كما في غيره واجب على المسلم مع الإيمان بأنه لا بد من أن يكون لذكر الأمر بالأسلوب الذي ذكر به حكمة. ولما كانت حكمة التنزيل اقتضت أن تكون أوصاف مشاهد الآخرة من نعيم وعذاب وحساب مستمدة من مألوفات الناس على ما نبهنا عليه في سياق تعليقنا على الحياة الأخروية في سورة الفاتحة. ولما كان الناس في الحياة الدنيا قد اعتادوا على وزن الأشياء لمعرفة مقاديرها وقيمها واستيفاء حقوقهم فيها حسب نتيجة الوزن واعتبار ذلك هو مقتضى العدل واعتبار الشذوذ عنه ظلما وغبنا وإجحافا فقد يكون هذا من مقتضيات تلك الحكمة. وقد يكون من مقتضياتها كذلك تنبيه الناس إلى أنهم محاسبون على أعمالهم مهما كانت صغيرة أو كبيرة وأنها سوف يقايس ويوازن بين الحسنات والسيئات منها ولا ينجو إلّا من كانت أعماله حسنات أو على الأقل من كانت حسناته غالبة على سيئاته حتى يجتهدوا في الأعمال الحسنة ويتجنبوا الأعمال السيئة، والله تعالى أعلم.
(١) انظر تفسير آيات الأعراف والأنبياء والمؤمنون في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والمنار والقاسمي.
186
تلقينات السورة جملة
هذا، وفيما احتوته السورة من الإنذار الشديد والوصف القوي وبيان مصير المحسن والمسيء دعوة للناس ليرجعوا عن طريق الغواية والشرّ ويسلكوا طريق الهدى والحق في الحياة الدنيا حتى ينالوا الحياة الرضية والعيشة الهنيئة في الآخرة، وهو ما استهدفه الإنذار والتبشير القرآنيان بصورة مستمرة. كذلك فإن في الآيات الأربع الأخيرة تقريرا ضمنيا لمسؤولية الناس عن أعمالهم وأنها إنما تصدر عن كسبهم وأنهم إنما ينالون جزاءها حقا وعدلا وفاقا لها.
187
Icon