تفسير سورة الإخلاص

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الإخلاص من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ ؛ اختلفَ المفسِّرون في سبب نُزول هذه السُّورة فروي عن ابنِ عبَّاس :((أنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبيِّ ﷺ : صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي تَدْعُونَا إلَيْهِ)). وعن مقاتلٍ :((أنَّ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ الْعَامِرِيِّ قَالَ لِلنَّبيِّ ﷺ : إنْعَتْ لَنَا رَبَّكَ مِنْ ذهَبٍ هُوَ أمْ مِنْ فِضَّةٍ أمْ مِنْ نُحَاسٍ أمْ مِنْ حَدِيدٍ أمْ مِنْ صُفْرٍ، فَإنَّ آلِهَتَنَا مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ؟! قَالَ : بَيِّنْ لَنَا أيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ؟! وَكَيْفَ هُوَ ؟ فَشُقَّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ)).
وعن سعيدِ بنْ جُبير :((أنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ : يَا أبَا الْقَاسِمِ إنَّكَ أخْبَرْتَنَا أنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاءَ مِنْ دُخَانٍ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارجٍ مِنْ نَارٍ وَخَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، فَأَخْبرْنَا عَنْ رَبكَ مِمَّ خَلْقُهُ؟!)). ورُوي أنَّهم قالوا : إنَّ هَذا الْخَلْقَ خَلْقُ اللهِ فَمَنْ خَلَقَهُ ؟ فَغَضِبَ النَّبيُّ ﷺ حَتَّى جَعَلَ لَحْمَهُ يَرْبُو عَلَيْهِ وَحَتَّى هَمَّ أنْ يُبَاسِطَهُمْ، فأَوْحَى إلَيْهِ جِبْرِيلُ : أنِ اسْكُنْ، وَأنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةَ.
وقال ابنُ كَيسَانُ :((قَالَتِ الْيَهُودُ : صِفْ لَنَا رَبَّكَ، فَإنَّهُ قَدْ نَزَلَ نَعْتُهُ فِي التَّوْرَاةِ، فَمَا طُولُهُ وَمَا عَرْضُهُ ؟ فَارْتَعَدَ النَّبيُّ ﷺ وَوَضَعَ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَجَعَلَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَمْسَحُ الدُّمُوعَ عَنْ وَجْنَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ جَوَاباً لَهُمْ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوّاً كَبيراً)).
والمعنَى : قُل لهم يا مُحَمَّدُ : الذي سأَلتُم عن تَبيين نسَبهِ هو اللهُ، وهذا الاسمُ معروفٌ عند جميعِ أهل الأديانِ والمللِ، كما قال تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾[الزخرف : ٨٧]. والأحَدُ والواحدُ في اللغةِ بمعنى واحد، وقال ثعلبُ :((وَاحِدٌ وَأحَدٌ وَفَرْدٌ سَوَاءٌ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ ؛ معناهُ : هو اللهُ الذي يصمَدُ إليه في الحوائجِ وإليه المفزَعُ في الشدائدِ، تقول العربُ : صَمَدْتُ إلى فلانٍ أصْمُدُ صَمْداً بسكونِ الميم إذا قصدتهُ، والْمَصْمُودُ : المقصودُ.
وعن ابنِ عبَّاس :(أنَّ الصَّمَدَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدَدِه، وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ، وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ، وَالْجَبَّارُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي جَبَرُوتِهِ، وَالْغَنِيُّ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي غِنَاهُ، وَالْعَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ، وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ، فَهُوَ اللهُ الَّذِي لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتِ كُلَّهَا لاَ تَنْبَغِي إلاَّ لَهُ)).
وقال قتادةُ :((الصَّمْدُ : الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ))، وَقِيْلَ : هو الدائمُ، وقال السديُّ :((الصَّمَدُ الْمَقْصُودُ إلَيْهِ فِي الرَّغَائِب، الْمُسْتَعَانُ بهِ عِنْدَ الْمَصَائِب))، والعربُ تسمي السيِّدَ الصمدَ، قال الشاعرُ : ألاَ بَكَّرَ النَّاعِي بخَيْرِ بَنِي أسَدْ بعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وَبالسَّيِّدِ الصَّمَدْوعن أُبَيِّ بن كعبٍ قال :((الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ؛ لأَنَّهُ لاَ شَيْءَ يَلِدُ إلاَّ سَيُورَثُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إلاَّ سَيَمُوتُ، وَاللهُ سََبْحَانَهُ لاَ يُورَثُ وَلاَ يَمُوتُ)).
وكتبَ أهلُ البصرةِ إلى الحسنِ بن عليٍّ يسألوهُ عن معنى الصَّمَدِ، فَكَتَبَ إليهم :((بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : أمَّا بَعْدُ ؛ فَلاَ تَخُوضُوا فِي الْقُرْآنِ بغَيْرِ عِلْمٍ، فَإنَّ اللهَ جَلَّ ذِكْرُهُ قَدْ فَسَّرَ الصَّمَدَ فَقَالَ :﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾ )).
وعن محمَّد بن الحنفية قال :((الصَّمَدُ الغَنِيُّ عَنْ غَيْرِهِ))، وعن زيدِ بن عليٍّ قال :((الصَّمَدُ الَّذِي أمْرُهُ إذا أرَادَ شَيْئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ ؛ أي لَمْ يلِدْ أحَداً فيَرِثُ مُلكَهُ، ولم يُولَدْ عن أحدٍ فيَرِثُ عنه الملْكَ، والحاصلُ من هذا يرجعُ إلى نفي الحدثِ والحاجة عنِ الله تعالى ؛ لأنه لو كان مَولوداً لكان مُحدَثاً، ولو كان له ولدٌ لكان مُحتاجاً، لأن أحداً لا يَستَولِدُ إلاَّ لحاجتهِ إلى الولد والاستمتاعِ، واللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن هذه الصِّفات كما قال تعالى :﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾[الأنعام : ١٠١].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾ ؛ تقديرهُ : ولم يكن أحدٌ كُفُؤاً له ؛ أي ليس كمثلهِ شيءٌ، و " في " قوله تعالى ﴿ كُفُواً ﴾ ثلاثُ قراءاتٍ، قرأ حمزةُ ويعقوب وخلَف ساكنةُ الفاءِ مهموزةٌ، ومثله مرويٌّ عن أبي عمرٍو ونافع، وقرأ حفصُ عن عاصم كُفُوّاً مثقلة غيرُ مهموزةٍ، وقرأ الباقون كُفُؤاً مهموزة مضموم الفاء، والكفؤُ والكفاء والكفَى واحدٌ، وهو المثلُ والنظير، تعالَى اللهُ عن المثلِ والنظير.
Icon