تفسير سورة طه

تفسير البغوي
تفسير سورة سورة طه من كتاب معالم التنزيل المعروف بـتفسير البغوي .
لمؤلفه البغوي . المتوفي سنة 516 هـ
سورة طه مكية وآياتها خمس وثلاثون ومائة وقيل أربع وثلاثون آية ومائة.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو منصور السمعاني، أنا أبو جعفر الرياني، أنا حميد بن زنجويه، أنا ابن أبي أويس، حدثني أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أعطيت السورة التي ذكرت فيها البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي ذكرت فيها البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلةً ".

سُورَةُ طه مَكِّيَّةٌ (١)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢) ﴾
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ (٢) أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُعْطِيتُ السُّورَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الْبَقَرَةُ مِنَ الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَأُعْطِيتُ طه وَالطَّوَاسِينَ مِنْ أَلْوَاحِ مُوسَى، وَأُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْقُرْآنِ وَخَوَاتِيمَ السُّورَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الْبَقَرَةُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، وَأُعْطِيتُ الْمُفَصَّلَ نَافِلَةً" (٣).
﴿طه﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَبِكَسْرِهِمَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهِمَا.
(١) مكية كلها في قول الجميع، فقد أخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة طه بمكة. وأخرجه أيضا ابن مردويه عن ابن الزبير. انظر: الدر المنثور: ٥ / ٥٤٨، زاد المسير: ٥ / ٢٦٨، تفسير القرطبي: ١١ / ١٦٣.
(٢) جاء هذا الحديث في نسخة "ب" عقب الآية الأولى.
(٣) عزاه السيوطي في "الدر المنثور": ٥ / ٥٤٨ لابن مردويه، وفيه أبو بكر الهذلي، قال عنه ابن حجر: إخباري متروك الحديث. وأخرجه مطولا عن معقل بن يسار: البيهقي في السنن: ١٠ / ٩، والحاكم في المستدرك: ١ / ٥٦١، ٥٦٨، و٢ / ٢٥٩، وابن السني في عمل اليوم والليلة ص: (٣٢٢). وفيه عبيد الله بن أبي حميد وهو متروك. وانظر: فيض القدير للمناوي: ١ / ٥٦٤.
259
قِيلَ: هُوَ قَسَمٌ (١). وَقِيلَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (٢).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ يَا رَجُلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ يَا إِنْسَانُ بِلُغَةِ عَكٍّ (٣).
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: مَعْنَاهُ طَإِ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ، يُرِيدُ: فِي التَّهَجُّدِ (٤).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: أَقْسَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِطَوْلِهِ وَهِدَايَتِهِ (٥).
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الطَّاءُ افْتِتَاحُ اسْمِهِ الطَّاهِرِ، وَالْهَاءُ افْتِتَاحُ اسْمِهِ هَادٍ (٦).
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ بِمَكَّةَ اجْتَهَدَ فِي الْعِبَادَةِ حَتَّى كَانَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لِطُولِ قِيَامِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (٧) وَأَمَرَهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَلَى
(١) رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. انظر: زاد المسير: ٥ / ٢٠٥، ٢٧٠.
(٢) الطبري ١٦ / ٣٦، البحر المحيط: ٦ / ٢٢٤، زاد المسير: ٥ / ٢٧٠.
(٣) انظر: الطبري: ١٦ / ١٣٥ - ١٣٦، زاد المسير: ٥ / ٢٧٠، البحر المحيط: ٦ / ٢٢٤. وهذا القول رجحه الطبري لأنها كلمة معروفة في قبيلة عك، وأن معناها فيهم: يا رجل وأنشدت لمتمم بن نويرة:
هتفت بطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون موائلا.
(٤) نقله عنه أيضا: ابن الجوزي في زاد المسير: ٥ / ٢٧٠. وروى عن عبد بن حميد في تفسيره، عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله تعالى: "طه"، يعني طأ الأرض بقدميك يا محمد. وروى ابن مردويه من طريق قيس بن الربيع عن علي: لما نزل "يا أيها المزمل" قام الليل كله حتى ورمت قدماه، فجعل يرفع رجلا ويضع الأخرى فهبط عليه جبريل فقال: طه طأ الأرض بقدميك يا محمد. وأخرجه البزار من وجه آخر عن علي رضي الله عنه. وأخرجه البيهقي في الشعب من وجه آخر عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر: الكافي الشاف لابن حجر ص (١٠٨)، ابن كثير: ٣ / ١٤٢.
(٥) وهذا القول قريب المعنى من قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة. انظر: زاد المسير: ٥ / ٢٧٠.
(٦) وأخرج البزار عن علي نحوه: قال الهيثمي: ٧ / ٥٦: "وفيه يزيد بن بلال، وقال البخاري: فيه نظر، وكيسان أبو عمرو: وثقه ابن حبان وضعفه ابن معين. وبقية رجاله رجال الصحيح".
(٧) انظر: زاد المسير: ٥ / ٢٦٩ - ٢٧٠. وقارن بأضواء البيان: ٤ / ٤٠٠ فقد ضعف هذا القول. وتقدم أن الطبري رجح أن المراد بها: يا رجل ولم يعهد هذا النداء في الكتاب الكريم، ولذلك رجح أبو حيان في البحر المحيط: (٦ / ٢٢٤) "أن "طه" من الحروف المقطعة نحو "يس" و"الر" وما أشبهها". وقال الشيخ الشنقيطي في "أضواء البيان": (٤ / ٣٩٩) : وأظهر الأقوال فيه أنه من الحروف المقطعة في أوائل السور، ويدل لذلك أن الطاء والهاء المذكورتين في فاتحة هذه السورة جاءتنا في مواضع أخر لا نزاع فيها في أنهما من الحروف المقطعة. أما الطاء ففي فاتحة الشعراء "طسم" وفاتحة النمل "طس" وفاتحة القصص. وأما الهاء ففي فاتحة مريم في قوله تعالى: "كهيعص"... وخير ما يفسر به القرآن القرآن".
262
نَفْسِهِ فَقَالَ: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ وَقِيلَ: لَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ اجْتِهَادَهُ فِي الْعِبَادَةِ قَالُوا مَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا لِشَقَائِكَ، فَنَزَلَتْ ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ (١) أَيْ لِتَتَعَنَّى وَتَتْعَبَ، وَأَصْلُ الشَّقَاءِ فِي اللُّغَةِ الْعَنَاءُ.
﴿إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (٤) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (٦) ﴾
﴿إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [أَيْ لَكِنْ أَنْزَلْنَاهُ عِظَةً لِمَنْ يَخْشَى. وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى] (٢). ﴿تَنْزِيلًا﴾ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ "تَذْكِرَةً" ﴿مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ﴾ أَيْ: مِنَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ، ﴿وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا﴾ يَعْنِي: الْعَالِيَةَ الرَّفِيعَةَ، وَهِيَ جَمْعُ الْعُلْيَا كَقَوْلِهِ: كُبْرَى وَكُبَرُ، وَصُغْرَى وَصُغَرُ. ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ يَعْنِي الْهَوَاءَ، ﴿وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ وَالثَّرَى هُوَ: التُّرَابُ النَّدِيُّ. قَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي مَا وَرَاءَ الثَّرَى مِنْ شَيْءٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْأَرَضِينَ عَلَى ظَهْرِ النُّونِ، وَالنُّونُ عَلَى بَحْرٍ، وَرَأْسُهُ وَذَنَبُهُ يَلْتَقِيَانِ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَالْبَحْرُ عَلَى صَخْرَةٍ خَضْرَاءَ، خُضْرَةُ السَّمَاءِ مِنْهَا، وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي قِصَّةِ لُقْمَانَ "فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ" وَالصَّخْرَةُ عَلَى قَرْنِ ثَوْرٍ، وَالثَّوْرُ عَلَى الثَّرَى، وَمَا تَحْتَ الثَّرَى لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ الثَّوْرُ فَاتِحٌ فَاهُ فَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْبِحَارَ بَحْرًا وَاحِدًا سَالَتْ فِي جَوْفِ ذَلِكَ الثَّوْرِ، فَإِذَا وَقَعَتْ فِي جَوْفِهِ يَبِسَتْ (٣).
(١) انظر: تفسير الطبري: ١٦ / ١٣٧، أسباب النزول للواحدي ص (٣٥١) - القرطبي: ١١ / ١٦٧.
(٢) ساقط من "ب".
(٣) ذكر هذه الرواية القرطبي: ١١ / ١٦٩ - ١٧٠. وهذه الرواية من الإسرائيليات التي لا يعول عليها في تفسير كتاب الله تعالى، ولو صحت نسبتها لابن عباس رضي الله عنهما، لأن صحة نسبتها إليه لا تعني صحتها في واقع الأمر لأنها متلقاة من الإسرائيليات. وانظر ما كتبه الحافظ ابن كثير رحمه الله في التفسير: ٤ / ٤٠١ - ٤٠٢.
﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (٧) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (٨) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (٩) ﴾
﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ﴾ [أَيْ: تُعْلِنْ بِهِ] (١) ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ قَالَ الْحَسَنُ: "السِّرُّ": مَا أَسَرَّ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِهِ، "وَأَخْفَى" مِنْ ذَلِكَ: مَا أَسَرَّ مِنْ نَفْسِهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: "السِّرُّ" مَا تُسِرُّ فِي نَفْسِكَ "وَأَخْفَى" مِنَ السِّرِّ: مَا يُلْقِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِكَ مِنْ بَعْدُ، وَلَا تَعْلَمُ أَنَّكَ سَتُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ، لِأَنَّكَ تَعْلَمُ مَا تُسِرُّ بِهِ الْيَوْمَ وَلَا تَعْلَمُ مَا تُسِرُّ بِهِ غَدًا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا أَسْرَرْتَ الْيَوْمَ وَمَا تُسِرُّ بِهِ غَدًا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "السِّرُّ": مَا أَسَرَّ ابْنُ آدَمَ فِي نَفْسِهِ، "وَأَخْفَى" مَا خَفِيَ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "السِّرُّ" الْعَمَلُ الَّذِي تَسِرُّونَ مِنَ النَّاسِ، "وَأَخْفَى": الْوَسْوَسَةُ.
وَقِيلَ: "السِّرُّ": هُوَ الْعَزِيمَةُ ["وَأَخْفَى": مَا يَخْطُرُ عَلَى الْقَلْبِ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: "يَعْلَمُ السِّرَّ] (٢) وَأَخْفَى": أَيْ يَعْلَمُ أَسْرَارَ الْعِبَادِ، وَأَخْفَى سِرَّهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ (٣). ثُمَّ وَحَّدَ نَفْسَهَ، فَقَالَ:. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾ أَيْ: قَدْ أَتَاكَ، اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ.
(١) ساقط من "أ".
(٢) ساقط من "أ".
(٣) انظر هذه الأقوال في: الطبري: ١٦ / ١٣٩ - ١٤١، زاد المسير: ٥ / ٢٧١. قال الطبري: والصواب من القول في ذلك قول من قال: معناه يعلم السر وأخفى من السر، لأن ذلك هو الظاهر من الكلام، ولو كان معنى ذلك ما تأوله ابن زيد لكان الكلام: وأخفى الله سره، لأن أخفى فعل واقع متعد؛ إذ كان بمعنى "فعل" - على ما تأوله ابن زيد - وفي انفراد "أخفى" من مفعوله - والذي يعمل فيه لو كان بمعنى فعل - الدليل الواضح على أنه بمعنى "أفعل"، وأن تأويل الكلام: فإنه يعلم السر وأخفى منه، فإذا كان ذلك تأويله فالصواب من القول في معنى أخفى من السر، أن يقال: هو ما علم الله مما أخفى عن العباد ولم يعلموه، مما هو كائن ولما يكن، لأن ما ظهر وكان فغير سر، وأن ما لم يكن وهو غير كائن، فلا شيء، وأن لم يكن وهو كائن: فهو أخفى من السر، لأن ذلك لا يعلمه إلا الله ثم من أعلمه ذلك من عباده.
﴿إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (١٠) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (١١) ﴾
﴿إِذْ رَأَى نَارًا﴾ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى اسْتَأْذَنَ شُعَيْبًا فِي الرُّجُوعِ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ لِزِيَارَةِ وَالِدَتِهِ وَأُخْتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَكَانَتْ أَيَّامَ الشِّتَاءِ، وَأَخَذَ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ مَخَافَةَ مُلُوكِ الشَّامِ، وَامْرَأَتُهُ فِي سُقْمِهَا، لَا تَدْرِي أَلِيلًا أَمْ نَهَارًا. فَسَارَ فِي الْبَرِيَّةِ غَيْرَ عَارِفٍ بِطُرُقِهَا، فَأَلْجَأَهُ الْمَسِيرُ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الْغَرْبِيِّ الْأَيْمَنِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ مُثَلَّجَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ الطَّلْقُ، فَقَدَحَ زَنْدَهُ فَلَمْ يُورِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا غَيُورًا فَكَانَ يَصْحَبُ الرُّفْقَةَ بِاللَّيْلِ وَيُفَارِقُهُمْ بِالنَّهَارِ، لِئَلَّا تُرَى امْرَأَتُهُ، فَأَخْطَأَ مَرَّةً الطَّرِيقَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ شَاتِيَةٍ، لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كَرَامَتِهِ، فَجَعَلَ يَقْدَحُ الزَّنْدَ فَلَا يُوَرِي، فَأَبْصَرَ نَارًا مِنْ بَعِيدٍ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ، ﴿فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا﴾ (١) أَقِيمُوا، قَرَأَ حَمْزَةُ بِضَمِّ الْهَاءِ هَاهُنَا وَفِي الْقَصَصِ، ﴿إِنِّي آنَسْتُ﴾ أَيْ: أَبْصَرْتُ، ﴿نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ﴾ شُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ، وَالْقَبَسُ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ تَأْخُذُهَا فِي طَرَفِ عَمُودٍ مِنْ مُعْظَمِ النَّارِ، ﴿أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾ أَيْ: أَجِدُ عِنْدَ النَّارِ مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى الطَّرِيقِ. ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا﴾ رَأَى شَجَرَةً خَضْرَاءَ مِنْ أَسْفَلِهَا [إِلَى أَعْلَاهَا، أَطَافَتْ بِهَا نَارٌ بيضاء تتقد كأضوإ مَا يَكُونُ، فَلَا ضَوْءُ النَّارِ يُغَيِّرُ] (٢) خُضْرَةَ الشَّجَرَةِ، وَلَا خُضْرَةُ الشَّجَرَةِ تُغَيِّرُ ضَوْءَ النَّارِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَتِ الشَّجَرَةُ سَمُرَةً خَضْرَاءَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ: كَانَتْ مِنَ الْعَوْسَجِ.
وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَتْ مِنَ الْعَلِيقِ.
وَقِيلَ: كَانَتْ شَجَرَةَ الْعُنَّابِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (٣).
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِي رَآهُ مُوسَى نَارًا بَلْ كَانَ نُورًا، ذُكِرَ بِلَفْظِ النَّارِ لِأَنَّ مُوسَى حَسِبَهُ نَارًا.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ نُورُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَغَيْرِهِمَا.
(١) انظر: الطبري: ١٦ / ١٤٢ - ١٤٣، القرطبي: ١١ / ١٧١، البحر المحيط: ٦ / ٢٣٠.
(٢) ساقط من "أ".
(٣) انظر: الطبري: ١٦ / ١٤٣، البحر المحيط: ٦ / ٢٣٠، القرطبي: ١١ / ١٧١. وهذه الأقوال في الشجرة مما لم يرد نص عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تعيينها، وقد أعرض الحافظ ابن كثير عنها فلم يذكر شيئا منها في تفسير الآية.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ النَّارُ بِعَيْنِهَا، وَهِيَ إِحْدَى حُجُبِ اللَّهِ تَعَالَى، يَدُلُّ عَلَيْهِ: مَا رُوِّينَا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حِجَابُهُ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ" (١).
وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ مُوسَى أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْحَشِيشِ الْيَابِسِ وَقَصَدَ الشَّجَرَةَ وَكَانَ كُلَّمَا دَنَا نَأَتْ مِنْهُ النَّارُ، وَإِذَا نَأَى دَنَتْ، فَوَقَفَ مُتَحَيِّرًا، وَسَمِعَ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ، وَأُلْقِيَتْ عَلَيْهِ السَّكِّينَةُ (٢).
﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٢) ﴾
﴿نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، "أَنِّي" بِفَتْحِ الْأَلِفِ، عَلَى مَعْنَى: نُودِيَ بِأَنِّي. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ، أَيْ: نُودِيَ، فَقِيلَ: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.
قَالَ وَهْبٌ نُودِيَ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَقِيلَ: يَا مُوسَى، فَأَجَابَ سَرِيعًا لَا يَدْرِي مَنْ دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَسْمَعُ صَوْتَكَ وَلَا أَرَى مَكَانَكَ فأين أنت؟ ١١/أقَالَ: أَنَا فَوْقَكَ وَمَعَكَ، وَأَمَامَكَ وَخَلْفَكَ، وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، فَعَلِمَ أَنْ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ، فَأَيْقَنَ بِهِ (٣).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ﴾ وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا فِي قَوْلِهِ: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ﴾ قَالَ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ. وَيُرْوَى غَيْرُ مَدْبُوغٍ (٤).
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: أُمِرَ بِخَلْعِ النَّعْلَيْنِ لِيُبَاشِرَ بِقَدَمِهِ تُرَابَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَيَنَالُهُ بَرَكَتُهَا لِأَنَّهَا قُدِّسَتْ مَرَّتَيْنِ، فَخَلَعَهُمَا مُوسَى وَأَلْقَاهُمَا مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي (٥).
(١) أخرجه مسلم في الإيمان، باب في قوله عليه السلام: إن الله لا ينام.. برقم (١٧٩) : ١ / ١٦١ - ١٦٢.
(٢) انظر: البحر المحيط: ٦ / ٢٣٠.
(٣) عزاه السيوطي: ٥ / ٥٥٤ - ٥٥٥ للإمام أحمد في الزهد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الترمذي في اللباس، باب ما جاء في لبس الصوف: ٥ / ٤١٠ وقال: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حميد الأعرج، وحميد هو ابن علي الأعرج، منكر الحديث". ورواه الحاكم في المستدرك: ٢ / ٣٧٩ وصححه على شرط البخاري، فتعقبه الذهبي بقوله: "بل ليس على شرط البخاري، وإنما غره أن في الإسناد حميد بن قيس كذا وهو خطأ إنما هو حميد الأعرج الكوفي ابن علي، أو ابن عمار، أحد المتروكين، فظنه المكي الصادق".
(٥) قال الطبري مرجحا: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: أمر الله - تعالى ذكره - بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي، إذ كان واديا مقدسا، وإنما قلنا ذلك أولى التأولين بالصواب لأنه لا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه أمر بخلعهما من أجل أنهما من جلد حمار، ولا لنجاستهما، ولا خير بذلك عمن يلزم بقوله الحجة. وإن في قوله: "إنك بالوادي المقدس" بعقبه دليلا واضحا على أنه إنما أمره بخلعهما لما ذكرنا". انظر: الطبري: ١٦ / ١٤٤. وانظر المعنى نفسه عند أبي حيان: ١٦ / ٢٣١. ونقل الحافظ ابن كثير: (٣ / ١٤٤) عن سعيد بن جبير أنه - عليه السلام - أمر بخلع نعليه كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة. وأبدى الشيخ الشنقيطي: (٤ / ٢٩٢) حكمة أخرى فقال: وأظهر الأقوال - والله تعالى أعلم-: أن الله أمره بخلع نعليه من قدميه ليعلمه التواضع لربه حين ناداه، فإن نداء الله لعبده أمر عظيم يستوجب من العبد كمال التواضع والخشوع. والله تعالى أعلم.
266
﴿إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ﴾ أَيِ الْمُطَهَّرِ، ﴿طُوًى﴾ وَطُوًى اسْمُ الْوَادِي، وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَالشَّامِ: " طُوًى " بِالتَّنْوِينِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِلَا تَنْوِينٍ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ "طَاوٍ" فَلَمَّا كَانَ مَعْدُولًا عَنْ وَجْهِهِ كَانَ مَصْرُوفًا عَنْ إِعْرَابِهِ، مِثْلُ عُمْرَ، وَزُفَرَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "طُوًى ": وَادٍ مُسْتَدِيرٌ عَمِيقٌ مِثْلُ الطَّوِيِّ فِي اسْتِدَارَتِهِ.
267
﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (١٥) ﴾
﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾ اصْطَفَيْتُكَ بِرِسَالَاتِي، قَرَأَ حَمْزَةُ: "وَأَنَّا " مُشَدَّدَةَ النُّونِ، "اخْتَرْنَاكَ" عَلَى التَّعْظِيمِ. ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ إِلَيْكَ.:. ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾ وَلَا تَعْبُدْ غَيْرِي، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِتَذْكُرَنِي فِيهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا تَرَكْتَ الصَّلَاةَ ثُمَّ ذَكَرْتَهَا، فَأَقِمْهَا.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عبد الله الصالحين أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَفِيدُ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ البَجَلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَفَّانُ، أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ" (١) ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ قِيلَ مَعْنَاهُ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أُخْفِيهَا. وَ"أَكَادُ " صِلَةٌ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: مَعْنَاهُ: أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي، وَكَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ يَعْلَمُهَا مَخْلُوقٌ.
وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ: فَكَيْفَ أُظْهِرُهَا لَكُمْ. وَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا بَالَغُوا فِي كِتْمَانِ الشَّيْءِ يَقُولُونَ: كَتَمْتُ سِرَّكَ مِنْ نَفْسِي، أَيْ: أَخْفَيْتُهُ غَايَةَ الْإِخْفَاءِ، وَاللَّهُ عَزَّ اسْمُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ.
(١) أخرجه البخاري في المواقيت، باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكر..: ٢ / ٧٠ ومسلم في المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها برقم (٦٨٤) ١ / ٤٧٧، والمصنف في شرح السنة: ٢ / ٢٤١.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَكَادُ: أَيْ أُرِيدُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أُرِيدُ أُخْفِيهَا.
وَالْمَعْنَى فِي إِخْفَائِهَا التَّهْوِيلُ وَالتَّخْوِيفُ، لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ كَانُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْهَا كُلَّ وَقْتٍ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْأَلِفِ أَيْ أُظْهِرُهَا، يُقَالُ: خَفَيْتُ الشَّيْءَ: إِذَا أَظْهَرْتُهُ، وَأَخْفَيْتُهُ: إِذَا سَتَرْتُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ أَيْ بِمَا تَعْمَلُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
﴿فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (١٦) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (١٧) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (١٨) ﴾
﴿فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا﴾ فَلَا يَصْرِفَنَّكَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، ﴿مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ مُرَادُهُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ ﴿فَتَرْدَى﴾ أَيْ: فَتَهْلَكَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ سُؤَالُ تَقْرِيرٍ، وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا السُّؤَالِ: تَنْبِيهُهُ وَتَوْقِيفُهُ عَلَى أَنَّهَا عَصًا حَتَّى إِذَا قَلَبَهَا حَيَّةً عَلِمَ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ. وَهَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَا؟ وَهُوَ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ يَعْرِفُهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْضَمَّ إِقْرَارُهُ بِلِسَانِهِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِقَلْبِهِ. ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ﴾ قِيلَ: وَكَانَتْ لَهَا شُعْبَتَانِ، وَفِي أَسْفَلِهَا سِنَانٌ، وَلَهَا مِحْجَنٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: اسْمُهَا نَبْعَةُ.
﴿أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا﴾ أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا إِذَا مَشَيْتُ وَإِذَا أَعْيَيْتُ وَعِنْدَ الْوَثْبَةِ، ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾ أَضْرِبُ بِهَا الشَّجَرَةَ الْيَابِسَةَ لِيَسْقُطَ وَرَقُهَا فَتَرْعَاهُ الْغَنَمُ.
وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ " وَأَهُسُّ " بِالسِّينِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: أَزْجُرُ بِهَا الْغَنَمَ، وَ"الْهَسُّ": زَجْرُ الْغَنَمِ.
﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ حَاجَاتٌ وَمَنَافِعُ أُخْرَى، جَمْعُ "مَأْرَبَةٍ" بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَلَمْ يَقُلْ: " أُخَرُ " لِرُءُوسِ الْآيِ. وَأَرَادَ بِالْمَآرِبِ: مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْعَصَا فِي السَّفَرِ، وَكَانَ يَحْمِلُ بِهَا الزَّادَ وَيَشُدُّ بِهَا الْحَبْلَ (١) فَيَسْتَقِي الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ، وَيَقْتُلُ بِهَا الْحَيَّاتِ، وَيُحَارِبُ بِهَا السِّبَاعَ، وَيَسْتَظِلُّ بِهَا إِذَا قَعَدَ
(١) في "ب" الدلو.
وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مُوسَى كَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهَا زَادَهُ وسقاءه، فجعلت متماشيه وَتُحَدِّثُهُ، وَكَانَ يَضْرِبُ بِهَا الْأَرْضَ فَيَخْرُجُ مَا يَأْكُلُ يَوْمَهُ، وَيَرْكُزُهَا فَيَخْرُجُ الْمَاءُ، فَإِذَا رَفَعَهَا ذَهَبَ الْمَاءُ، وَإِذَا اشْتَهَى ثَمَرَةً رَكَّزَهَا فَتَغَصَّنَتْ غُصْنَ الشَّجَرَةِ وَأَوْرَقَتْ وَأَثْمَرَتْ، وَإِذَا أَرَادَ الِاسْتِقَاءَ مِنَ الْبِئْرِ أَدْلَاهَا فَطَالَتْ عَلَى طُولِ الْبِئْرِ وَصَارَتْ شُعْبَتَاهَا كَالدَّلْوِ حَتَّى يَسْتَقِيَ، وَكَانَتْ تُضِيءُ بِاللَّيْلِ بِمَنْزِلَةِ السِّرَاجِ، وَإِذَا ظَهَرَ لَهُ عَدُوٌّ كَانَتْ تُحَارِبُ وَتُنَاضِلُ عَنْهُ (١).
﴿قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (١٩) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (٢٠) ﴾
﴿قَالَ﴾ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَلْقِهَا يَا مُوسَى﴾ انْبِذْهَا، قَالَ وَهْبٌ: ظَنَّ مُوسَى أَنَّهُ يَقُولُ ارْفُضْهَا. ﴿فَأَلْقَاهَا﴾ عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ (٢) ثُمَّ حَانَتْ مِنْهُ نَظْرَةٌ، ﴿فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ﴾ صَفْرَاءُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ، ﴿تَسْعَى﴾ تَمْشِي بِسُرْعَةٍ عَلَى بَطْنِهَا وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "كَأَنَّهَا جَآنٌّ" (النَّمْلِ -١٠) وَهِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ الْخَفِيفَةُ الْجِسْمِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: "ثُعْبَانٌ"، وَهُوَ أَكْبَرُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ.
فَأَمَّا الْحَيَّةُ: فَإِنَّهَا تَجْمَعُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. وَقِيلَ: "الْجَآنُّ": عِبَارَةٌ عَنِ ابْتِدَاءِ حَالِهَا، فَإِنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً عَلَى قَدْرِ الْعَصَا، ثُمَّ كَانَتْ تَتَوَرَّمُ وَتَنْتَفِخُ حَتَّى صَارَتْ ثُعْبَانًا، "وَالثُّعْبَانُ": عِبَارَةٌ عَنِ انْتِهَاءِ حَالِهَا.
وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي عِظَمِ الثُّعْبَانِ وَسُرْعَةِ الْجَانِّ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: نَظَرَ مُوسَى فَإِذَا الْعَصَا حَيَّةٌ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ صَارَتْ شُعْبَتَاهَا شِدْقَيْنِ لَهَا، وَالْمِحْجَنُ عُنُقًا وَعُرْفًا، تَهْتَزُّ كَالنَّيَازِكِ، وَعَيْنَاهَا تَتَّقِدَانِ كَالنَّارِ تَمُرُّ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ مِثْلَ الْخَلِفَةِ مِنَ الْإِبِلِ، فَتُلْقِمُهَا وَتَقْصِفُ الشَّجَرَةَ الْعَظِيمَةَ بِأَنْيَابِهَا، وَيُسْمَعُ لِأَسْنَانِهَا صَرِيفٌ عَظِيمٌ. فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ مُوسَى وَلَّى مُدْبِرًا وَهَرَبَ، ثُمَّ ذَكَرَ رَبَّهُ فَوَقَفَ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، ثُمَّ نُودِيَ: أَنْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَارْجِعْ حَيْثُ كُنْتَ، فَرَجَعَ وَهُوَ شَدِيدُ الْخَوْفِ (٣).
(١) قال الحافظ ابن كثير: (٣ / ١٤٦) :"وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت، فقيل: كانت تضيء له بالليل، وتحرس له الغنم إذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظله، وغير ذلك من الأقوال الخارقة للعادة. والظاهر: أنها لم تكن كذلك، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه السلام صيرورتها ثعبانا، فما كان يفر منها هاربا. ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية".
(٢) في "ب": الأرض.
(٣) انظر التعليق السابق.
﴿قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجُ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (٢٣) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٢٤) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) ﴾
﴿قَالَ خُذْهَا﴾ بِيَمِينِكَ، ﴿وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾ هَيْئَتَهَا الْأُولَى، أَيْ: نَرُدُّهَا عَصًا كَمَا كَانَتْ، وَكَانَ عَلَى مُوسَى مُدَرَّعَةٌ مِنْ صُوفٍ قَدْ خَلَّهَا بِعِيدَانٍ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: خُذْهَا، لَفَّ طَرَفَ الْمُدَرَّعَةِ عَلَى يَدِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكْشِفَ يَدَهُ فَكَشَفَ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ لَمَّا لَفَّ كُمَّ الْمُدَرَّعَةِ عَلَى يَدِهِ قَالَ لَهُ مَلَكٌ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَذِنَ اللَّهُ بِمَا تُحَاذِرُهُ أَكَانَتِ الْمُدَرَّعَةُ تُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا وَلَكِنِّي ضَعِيفٌ، وَمِنْ ضَعْفٍ خُلِقْتُ، فَكَشَفَ عَنْ يَدِهِ ثُمَّ وَضَعَهَا فِي فَمِ الْحَيَّةِ فَإِذَا هِيَ عَصًا كَمَا كَانَتْ، وَيَدُهُ فِي شُعْبَتِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ يَضَعُهَا إِذَا تَوَكَّأَ (١).
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُرِيَ مُوسَى مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا مخلوق لئلا ١١/ب يَفْزَعَ مِنْهَا إِذَا أَلْقَاهَا عِنْدَ فِرْعَوْنَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾ نُصِبَ بِحَذْفِ "إِلَى"، يُرِيدُ: إِلَى سِيرَتِهَا الْأُولَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ﴾ أَيْ: إِبْطِكَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: تَحْتَ عَضُدِكَ، وَجَنَاحُ الْإِنْسَانِ عَضُدُهُ إِلَى أَصْلِ إِبْطِهِ. ﴿تَخْرُجْ بَيْضَاءَ﴾ نَيِّرَةً مُشْرِقَةً، ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ وَالسُّوءُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْبَرَصِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ لِيَدِهِ نُورٌ سَاطِعٌ يُضِيءُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَضَوْءِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، ﴿آيَةً أُخْرَى﴾ أَيْ: دَلَالَةً أُخْرَى عَلَى صِدْقِكَ سِوَى الْعَصَا. ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى﴾ وَلَمْ يَقُلِ الْكُبَرِ لِرُءُوسِ الْآيِ. وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ، مَعْنَاهُ: لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى، دَلِيلُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ يَدُ مُوسَى أَكْبَرَ آيَاتِهِ. قَالَ تَعَالَى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ أَيْ: جَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ، فَادْعُهُ إِلَى عِبَادَتِي. ﴿قَالَ﴾ مُوسَى: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ وَسِّعْهُ لِلْحَقِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ حَتَّى لَا أَخَافَ غَيْرَكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى كَانَ يَخَافُ فِرْعَوْنَ خَوْفًا شَدِيدًا لِشِدَّةِ شَوْكَتِهِ وَكَثْرَةِ جُنُودِهِ، وَكَانَ يَضِيقُ صَدْرًا بِمَا كُلِّفَ مِنْ مُقَاوَمَةِ فِرْعَوْنَ وَحْدَهُ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ قَلْبَهُ لِلْحَقِّ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مَضَرَّتِهِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَخَفْ فِرْعَوْنَ وَشَدَّةَ شَوْكَتِهِ وَكَثْرَةَ جُنُودِهِ.
(١) انظر التعليق السابق.
﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) ﴾
﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ أَيْ: سَهِّلْ عَلَيَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَى فِرْعَوْنَ. ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي﴾ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى كَانَ فِي حَجْرِ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي صِغَرِهِ، فَلَطَمَ فِرْعَوْنَ لَطْمَةً وَأَخْذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِآسِيَةَ امْرَأَتِهِ: إِنَّ هَذَا عَدُوِّي وَأَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَقَالَتْ آسِيَةُ: إِنَّهُ صَبِيٌّ لَا يَعْقِلُ وَلَا يُمَيِّزُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ أُمَّ مُوسَى لَمَّا فَطَمَتْهُ رَدَّتْهُ، فَنَشَأَ مُوسَى فِي حَجْرِ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتِهِ آسِيَةَ يُرَبِّيَانِهِ، وَاتَّخَذَاهُ وَلَدًا، فَبَيْنَمَا هُوَ يَلْعَبُ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ وَبِيَدِهِ قَضِيبٌ يَلْعَبُ بِهِ إِذْ رَفَعَ الْقَضِيبَ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ فِرْعَوْنَ، فَغَضِبَ فِرْعَوْنُ وَتَطَيَّرَ بِضَرْبِهِ، حَتَّى هَمَّ بِقَتْلِهِ، فَقَالَتْ آسِيَةُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ صَغِيرٌ لَا يَعْقِلُ فَجَرِّبْهُ إِنْ شِئْتَ، وَجَاءَتْ بِطَشْتَيْنِ: فِي أَحَدِهِمَا الْجَمْرُ، وَفِي الْآخَرِ الْجَوَاهِرُ، فَوَضَعَتْهُمَا بَيْنَ يَدَيْ مُوسَى فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَوَاهِرَ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ بِيَدِ مُوسَى فَوَضَعَهَا عَلَى النَّارِ فَأَخَذَ جَمْرَةً فَوَضَعَهَا فِي فَمِهِ فَاحْتَرَقَ لِسَانُهُ وَصَارَتْ عَلَيْهِ عُقْدَةٌ (١). ﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ يَقُولُ: احْلُلِ الْعُقْدَةَ كَيْ يَفْقَهُوا كَلَامِي. ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا﴾ مُعِينًا وَظَهِيرًا، ﴿مِنْ أَهْلِي﴾ وَالْوَزِيرُ مَنْ يُوَازِرُكَ وَيُعِينُكَ وَيَتَحَمَّلُ عَنْكَ بَعْضَ ثِقَلِ عَمَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ هُوَ فَقَالَ: ﴿هَارُونَ أَخِي﴾ وَكَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَكَانَ أَفْصَحَ مِنْهُ لِسَانًا وَأَجْمَلَ وَأَوْسَمَ، وَأَبْيَضَ اللَّوْنِ، وَكَانَ مُوسَى آدَمَ أَقْنَى جَعْدًا. ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ قَوِّ بِهِ ظَهْرِي. ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ أَيْ: فِي النُّبُوَّةِ وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ "أَشْدُدْ" بِفَتْحِ الْأَلِفِ "وَأُشْرِكْهُ " بِضَمِّهَا عَلَى الْجَوَابِ، حِكَايَةً عَنْ مُوسَى، أَيْ: أَفْعَلُ ذَلِكَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ عَلَى الدُّعَاءِ.
(١) جزء من حديث "الفتون" عن ابن عباس موقوفا عليه، رواه الطبري في التفسير: ١٦ / ١٦٤ - ١٦٧، وعزاه الهيثمي لأبي يعلى، وقال: "رجاله رجال الصحيح غير أصبغ بن زيد، والقاسم بن أبي أيوب وهما ثقتان". وقال ابن كثير: "رواه النسائي في السنن الكبرى، وأخرجه أبو جعفر ابن جرير، وابن أبي حاتم في تفسيرهما، كلهم من حديث يزيد بن هارون، وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره. والله أعلم، وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضا". انظر: مجمع الزوائد: ٧ / ٦٦، وتفسير ابن كثير: ٣ / ١٥٤، وتفسير النسائي: ١ / ٦٤٦ - ٧٤٧.
وَالْمَسْأَلَةِ، عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾
﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (٣٥) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧) ﴾
﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٣٩) ﴾
﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ: نُصَلِّي لَكَ كَثِيرًا. ﴿وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا﴾ نَحْمَدُكَ وَنُثْنِي عَلَيْكَ بِمَا أَوْلَيْتَنَا مِنْ نِعَمِكَ. ﴿إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا﴾ خَبِيرًا عَلِيمًا. ﴿قَالَ﴾ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قَدْ أُوتِيتَ﴾ أُعْطِيتَ، ﴿سُؤْلَكَ﴾ جَمِيعَ مَا سَأَلْتَهُ، ﴿يَا مُوسَى﴾ ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ﴾ أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ، ﴿مَرَّةً أُخْرَى﴾ يَعْنِي قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ وَهِيَ: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ﴾ وَحْيُ إِلْهَامٍ، ﴿مَا يُوحَى﴾ مَا يُلْهَمُ. ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ الْإِلْهَامَ وَعَدَّدَ نِعَمَهُ عَلَيْهِ: ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ﴾ أَيْ: أَلْهَمْنَاهَا أَنِ اجْعَلِيهِ فِي التَّابُوتِ، ﴿فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ يَعْنِي نَهْرَ النِّيلِ، ﴿فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ﴾ يَعْنِي شَاطِئَ النَّهْرِ، لَفْظُهُ أَمْرٌ وَمَعْنَاهُ خَبَرٌ، مَجَازُهُ: حَتَّى يُلْقِيَهُ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ: ﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ﴾ يَعْنِي فِرْعَوْنَ. فَاتَّخَذَتْ تَابُوتًا وَجَعَلَتْ فِيهِ قُطْنًا مَحْلُوجًا وَوَضَعَتْ فِيهِ مُوسَى، وَقَيَّرَتْ رَأْسَهَ وَخَصَاصَهُ -يَعْنِي شُقُوقَهُ -ثُمَّ أَلْقَتْهُ فِي النِّيلِ، وَكَانَ يَشْرَعُ مِنْهُ نَهْرٌ كَبِيرٌ فِي دَارِ فِرْعَوْنَ، فَبَيْنَمَا فِرْعَوْنُ جَالِسٌ عَلَى رَأْسِ الْبِرْكَةِ مَعَ امْرَأَتِهِ آسِيَةَ إِذْ بِتَابُوتٍ يَجِيءُ بِهِ الْمَاءُ، فَأَمَرَ الْغِلْمَانَ وَالْجَوَارِيَ بِإِخْرَاجِهِ، فَأَخْرَجُوهُ وَفَتَحُوا رَأْسَهُ فَإِذَا صَبِيٌّ مِنْ أَصْبَحِ النَّاسِ وَجْهًا، فَلَمَّا رَآهُ فِرْعَوْنُ أَحَبَّهُ بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَالَكْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحَبَّهُ وَحَبَّبَهُ إِلَى خَلْقِهِ: قَالَ عِكْرِمَةُ: مَا رَآهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ. قَالَ قَتَادَةُ: مَلَاحَةٌ كَانَتْ فِي عَيْنَيْ مُوسَى، مَا رَآهُ أَحَدٌ إِلَّا عَشِقَهُ.
﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ يَعْنِي لِتُرَبَّى بِمَرْأَى وَمَنْظَرٍ مِنِّي، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ "وَلِتُصْنَعْ ".
بِالْجَزْمِ
﴿إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (٤٠) ﴾
﴿إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ﴾ وَاسْمُهَا مَرْيَمُ، مُتَعَرِّفَةً خَبَرَهُ، ﴿فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ﴾ ؟ أَيْ عَلَى امْرَأَةٍ تُرْضِعُهُ وَتَضُمُّهُ إِلَيْهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْبَلُ ثَدْيَ امْرَأَةٍ، فَلَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ لَهُمْ أُخْتُهُ قَالُوا: نَعَمْ، فَجَاءَتْ بِالْأُمِّ فَقَبِلَ ثَدْيَهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ بِلِقَائِكَ، ﴿وَلَا تَحْزَنَ﴾ أَيْ: لِأَنْ يَذْهَبَ عَنْهَا الْحَزَنُ.
﴿وَقَتَلْتَ نَفْسًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ قَتَلَ قِبْطِيًّا كَافِرًا. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: كَانَ إِذْ ذَاكَ ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، ﴿فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ﴾ أَيْ مِنْ غَمِّ الْقَتْلِ وَكَرْبِهِ، ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اخْتَبَرْنَاكَ اخْتِبَارًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَخْلَصْنَاكَ إِخْلَاصًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْفُتُونَ وُقُوعُهُ فِي مِحْنَةٍ بَعْدَ مِحْنَةٍ خَلَّصَهُ اللَّهُ مِنْهَا، أَوَّلُهَا أَنَّ أُمَّهُ حَمَلَتْهُ فِي السَّنَةِ الَّتِي كَانَ فِرْعَوْنُ يَذْبَحُ الْأَطْفَالَ، ثُمَّ إِلْقَاؤُهُ فِي الْبَحْرِ فِي التَّابُوتِ، ثُمَّ مَنْعُهُ الرِّضَاعَ إِلَّا مِنْ ثَدْيِ أُمِّهِ، ثُمَّ أَخْذُهُ بِلِحْيَةِ فِرْعَوْنَ حَتَّى هَمَّ بِقَتْلِهِ، ثُمَّ تَنَاوُلُهُ الْجَمْرَةَ بَدَلَ الدُّرَّةِ، ثُمَّ قَتْلُهُ الْقِبْطِيَّ، وَخُرُوجُهُ إِلَى مَدْيَنَ خَائِفًا. فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُصُّ الْقِصَّةَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى: ﴿وَفَتَنَّاكَ﴾ خَلَّصْنَاكَ مِنْ تِلْكَ الْمِحَنِ، كَمَا يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ فَيُخَلَّصُ مَنْ كُلِّ خَبَثٍ فِيهِ (١) "وَالْفُتُونُ": مَصْدَرٌ.
﴿فَلَبِثْتَ﴾ فَمَكَثْتَ، أَيْ: فَخَرَجْتَ مِنْ مِصْرَ فَلَبِثْتَ، ﴿سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ يَعْنِي تَرْعَى الْأَغْنَامَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَدْيَنُ بَلْدَةُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ثَمَانِ مَرَاحِلَ مِنْ مِصْرَ، هَرَبَ إِلَيْهَا مُوسَى. وَقَالَ وَهْبٌ: لَبِثَ عِنْدَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، عَشْرُ سِنِينَ مِنْهَا مَهْرُ ابْنَتِهِ "صُفَيْرَا" بِنْتُ شُعَيْبٍ، وَثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً أَقَامَ عِنْدَهُ حَتَّى وُلِدَ لَهُ.
﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى مَوْعِدٍ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَوْعِدُ مَعَ مُوسَى وَإِنَّمَا
(١) انظر التعليق السابق.
كَانَ مَوْعِدًا فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: جِئْتَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي قَدَّرْتُ أَنَّكَ تَجِيْءُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسَانَ: عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُوحَى فِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، أَيْ عَلَى الْمَوْعِدِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً.
﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٤٣) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ أَيِ اخْتَرْتُكَ وَاصْطَفَيْتُكَ لِوَحْيِي وَرِسَالَتِي، يَعْنِي لِتَنْصَرِفَ على إرادتي ١٢/أوَمَحَبَّتِي، وَذَلِكَ أَنَّ قِيَامَهُ بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ [تَصَرُّفٌ عَلَى] (١) إِرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: اخْتَرْتُكَ لِأَمْرِي وَجَعَلْتُكَ الْقَائِمَ بِحُجَّتِي وَالْمُخَاطَبَ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي، كَأَنِّي الَّذِي أَقَمْتُ (٢) بِكَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَخَاطَبْتُهُمُ. ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي﴾ بِدَلَائِلِي، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْآيَاتِ التِّسْعَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا مُوسَى ﴿وَلَا تَنِيَا﴾ لَا تَضْعُفَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا تَفْتُرَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَا تُقَصِّرَا ﴿فِي ذِكْرِي﴾ ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَأَهْلُ الْحِجَازِ: "لِنَفْسِيَ اذْهَبْ"، "وذكري اذْهَبَا"، وَ"إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا" (الْفُرْقَانِ -٣٠)، "مِنْ بَعْدِيَ اسْمُهُ" (الصَّفِّ -٦) بِفَتْحِ الْيَاءِ فِيهِنَّ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: "مِنْ بَعْدِيَ اسْمُهُ"، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِسْكَانِهَا. ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ يَقُولُ: دَارِيَاهُ وَارْفُقَا مَعَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَا تُعَنِّفَا فِي قَوْلِكُمَا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَعِكْرِمَةُ: كَنِّيَاهُ فَقُولَا يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، وَقِيلَ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْقَوْلَ اللَّيِّنَ: "هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى" (النَّازِعَاتِ -١٨، ١٩).
وَقِيلَ: أَمَرَ بِاللَّطَافَةِ فِي الْقَوْلِ لِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ التَّرْبِيَةِ.
(١) في "ب" تصرفه إلى.
(٢) في "ب" احتججت.
274
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْقَوْلُ اللَّيِّنُ: أَنَّ مُوسَى أَتَاهُ وَوَعَدَهُ عَلَى قَبُولِ الْإِيمَانِ شَبَابًا لَا يُهْرَمُ، وَمُلْكًا لَا يُنْزَعُ مِنْهُ إِلَّا بِالْمَوْتِ، وَتَبْقَى عَلَيْهِ لَذَّةُ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ، وَإِذَا مَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَكَانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَ هَامَانَ، وَكَانَ غَائِبًا فَلَمَّا قَدِمَ أَخْبَرَهُ بِالَّذِي دَعَاهُ إِلَيْهِ مُوسَى، وَقَالَ أَرَدْتُ أَنْ أَقْبَلَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ هَامَانُ: كُنْتُ أَرَى أَنَّ لَكَ عَقْلًا وَرَأْيًا، أَنْتَ رَبٌّ، تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مَرْبُوبًا؟ وَأَنْتَ تُعْبَدُ تُرِيدُ أَنْ تَعْبُدَ؟ فَقَلَبَهُ عَنْ رَأْيِهِ (١).
وَكَانَ هَارُونُ يَوْمَئِذٍ بِمِصْرَ، فَأَمْرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَ هَارُونَ وَأَوْحَى إِلَى هَارُونَ وَهُوَ بِمِصْرَ أَنْ يَتَلَقَّى مُوسَى، فَتَلَقَّاهُ إِلَى مَرْحَلَةٍ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ (٢).
﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ أَيْ: يَتَّعِظُ وَيَخَافُ فَيُسْلِمُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ﴾ وَقَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يُسْلِمُ؟.
قِيلَ: مَعْنَاهُ اذْهَبَا عَلَى رَجَاءٍ مِنْكُمَا وَطَمَعٍ، وَقَضَاءُ اللَّهِ وَرَاءَ أَمْرِكُمَا.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هُوَ يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِ فِرْعَوْنَ، مَجَازُهُ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ مُتَذَكِّرٌ، وَيَخْشَى خَاشٍ إِذَا رَأَى بِرِّي وَأَلْطَافِي بِمَنْ خَلَقْتُهُ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَرَّاقُ: "لَعَلَّ " مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ (٣) وَلَقَدْ تَذَكَّرَ فِرْعَوْنُ وَخَشِيَ حِينَ لَمْ تَنْفَعْهُ الذِّكْرَى وَالْخَشْيَةُ، وَذَلِكَ حِينَ أَلْجَمَهُ الْغَرَقُ، قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ فَبَكَى يَحْيَى، وَقَالَ: إِلَهِي هَذَا رِفْقُكَ (٤) بِمَنْ يَقُولُ أَنَا الْإِلَهُ، فَكَيْفَ رِفْقُكَ (٥) بِمَنْ يَقُولُ أَنْتَ الْإِلَهُ؟! (٦).
(١) انظر في هذه الأقوال ونسبتها: الطبري: ١٦ / ١٦٩، الدر المنثور: ٥ / ٥٨٠، زاد المسير: ٥ / ٢٨٧ - ٢٨٨. وأقرب هذه الأقوال في تفسير القول اللين؛ أن الله تعالى أمرهما أن يقولا كلاما لطيفا سهلا رقيقا، ليس فيه ما يغضب وينفر. وقد بين الله جل وعلا المراد بالقول اللين في هذه الآية بقوله: "اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى". وهذا غاية لين الكلام ولطافته ورقته. وهو قول مقاتل، كما تقدم. انظر: تفسير ابن كثير ٣ / ١٥٤، أضواء البيان: ٥ / ٤١٣.
(٢) انظر: زاد المسير: ٥ / ٢٨٩.
(٣) تفسير القرطبي: ١١ / ٢٠١. وانظر: الاتقان للسيوطي: ٢ / ٢٧٥ - ٢٧٦ ففيه معاني حرف "لعل" في القرآن الكريم.
(٤) في "ب": برك.
(٥) في "ب": برك.
(٦) تفسير القرطبي: ١١ / ٢٠١.
275
﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (٤٥) ﴾
﴿قَالَا﴾ يَعْنِي مُوسَى وَهَارُونَ: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْجَلُ عَلَيْنَا بِالْقَتْلِ وَالْعُقُوبَةِ، يُقَالُ: فَرَطَ عَلَيْهِ فُلَانٌ إِذَا عَجِلَ بِمَكْرُوهٍ، وَفَرَطَ مِنْهُ أَمْرٌ أَيْ بَدَرَ وَسَبَقَ، ﴿أَوْ أَنْ يَطْغَى﴾ أَيْ يُجَاوِزُ الْحَدَّ فِي الْإِسَاءَةِ إِلَيْنَا.
﴿قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٤٦) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠) ﴾
﴿قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسْمَعُ دُعَاءَكُمَا فَأُجِيبُهُ، وَأَرَى مَا يُرَادُ بِكُمَا فَأَمْنَعُهُ، لَسْتُ بِغَافِلٍ عَنْكُمَا، فَلَا تَهْتَمَّا. ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ﴾ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ، ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أَيْ: خَلِّ عَنْهُمْ وَأَطْلِقْهُمْ مِنْ أَعْمَالِكَ، ﴿وَلَا تُعَذِّبْهُمْ﴾ لَا تُتْعِبْهُمْ فِي الْعَمَلِ. وَكَانَ فِرْعَوْنُ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، ﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ﴾ قَالَ فِرْعَوْنُ: وَمَا هِيَ؟ فَأَخْرَجَ يَدَهُ، لَهَا شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ، ﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّحِيَّةَ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ سَلِمَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَنْ أَسْلَمَ. ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ إِنَّمَا يُعَذِّبُ اللَّهُ مَنْ كَذَّبَ بِمَا جِئْنَا بِهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ. ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ مَنْ إِلَهُكُمَا الَّذِي أَرْسَلَكُمَا؟. ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صَلَاحَهُ، وَهُدَاهُ لِمَا يُصْلِحُهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ، لَمْ يَجْعَلْ خَلْقَ الْإِنْسَانِ كَخَلْقِ الْبَهَائِمِ، وَلَا خَلْقَ الْبَهَائِمِ كَخَلْقِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى مَنَافِعِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ: يَعْنِي الْيَدَ لِلْبَطْشِ، وَالرِّجْلَ لِلْمَشْيِ، وَاللِّسَانَ لِلنُّطْقِ، وَالْعَيْنَ لِلنَّظَرِ، وَالْأُذُنَ لِلسَّمْعِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ يَعْنِي زَوَّجَ، لِلْإِنْسَانِ الْمَرْأَةَ، وَلِلْبَعِيرِ النَّاقَةَ، وَلِلْحِمَارِ الْأَتَانَ، وَلِلْفَرَسِ الرَّمَكَةَ. ﴿ثُمَّ هَدَى﴾ أَيْ: أَلْهَمَهُ كَيْفَ يَأْتِي الذَّكَرُ الْأُنْثَى (١).
﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (٥١) ﴾
(١) انظر هذه الأقوال في: الطبري: ١٦ / ١٧١ - ١٧٢، الدر المنثور: ٥ / ٥٨١ - ٥٨٢. وقد اختار الطبري أن المعنى: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه في الصورة والهيئة، كالذكور من بني آدم، أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجا، وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها، وفي صورتها وهيئتها من الإناث أزواجا، فلم يعط الإنسان خلاف خلقه، فيزوجه بالإناث من البهائم، ولا البهائم بالإناث من الجن، ثم هداهم للمأتى الذي منه النسل والنما كيف يأتيه، ولسائر منافعه من المطاعم والمشارب وغير ذلك،.. لأنه سبحانه لا يعطى المعطى لنفسه، بل إنما يعطي ما هو غيره، لأن العطية تقتضي المعطي والعطية والمعطي، ولا تكون العطية هي المعطى، وإذا لم تكن هي هو، وكانت غيره، وكانت صورة كل خلق بعض أجزائه، كان معلوما أنه إذا قيل: أعطى الإنسان صورته إنما يعني أنه أعطى بعض المعاني التي به مع غيره دعي إنسانا. وإن كان هذا الذي اختاره الطبري رحمه الله لا ينفي إرادة بعض المعاني الأخرى التي تدل عليها الآية كما في قول الضحاك. والله أعلم.
﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (٥٣) ﴾
﴿قَالَ﴾ فِرْعَوْنُ: ﴿فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ وَمَعْنَى "الْبَالِ": الْحَالُ، أَيْ: مَا حَالُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ فِيمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ (١) فَإِنَّهَا كَانَتْ تَعْبُدُ الْأَوْثَانَ وَتُنْكِرُ الْبَعْثَ؟. ﴿قَالَ﴾ مُوسَى: ﴿عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾ أَيْ: أَعْمَالُهُمْ مَحْفُوظَةٌ عِنْدَ اللَّهِ يُجَازِي بِهَا.
وَقِيلَ: إِنَّمَا رَدَّ مُوسَى عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ أُنْزِلَتْ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ.
﴿فِي كِتَابٍ﴾ يَعْنِي: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي﴾ أَيْ: لَا +يُخْطِئُ. وَقِيلَ: لَا يَضِلُّ (٢) عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَغِيبُ عَنْ شَيْءٍ، ﴿وَلَا يَنْسَى﴾ [أي: لا يخطيء] (٣) مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: لَا يَنْسَى أَيْ: لَا يَتْرُكُ، فَيَنْتَقِمُ مِنَ الْكَافِرِ وَيُجَازِي الْمُؤْمِنَ. ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: ﴿مَهْدًا﴾ هَا هُنَا، وَفِي الزُّخْرُفِ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا، أَيْ: فَرْشًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "مِهَادًا "، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا" (النَّبإِ: ١٦)، أَيْ: فِرَاشًا وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُفْرَشُ، كَالْبِسَاطِ: اسْمٌ لِمَا يُبْسَطُ.
(١) في "ب" تدعواني إليه.
(٢) في "ب": لا يغيب.
(٣) ساقط من "أ".
﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا﴾ [السَّلْكُ: إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ، وَالْمَعْنَى: أَدْخَلَ فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِكُمْ طُرُقًا تَسْلُكُونَهَا] (١) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَهَّلَ لَكُمْ فِيهَا طُرُقًا تَسْلُكُونَهَا.
﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ يَعْنِي: الْمَطَرَ.
تَمَّ الْإِخْبَارُ عَنْ مُوسَى، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾ بِذَلِكَ الْمَاءِ ﴿أَزْوَاجًا﴾ أَصْنَافًا، ﴿مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾ مُخْتَلِفِ الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالْمَنَافِعِ مِنْ بَيْنِ أَبْيَضَ وَأَحْمَرَ وَأَخْضَرَ وَأَصْفَرَ، فَكُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا زَوْجٌ، فَمِنْهَا لِلنَّاسِ وَمِنْهَا لِلدَّوَابِّ.
﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (٥٤) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (٥٥) ﴾
﴿كُلُوا وَارْعَوْا﴾ [أَيْ وَارْتَعُوا] (٢) ﴿أَنْعَامَكُمْ﴾ تَقُولُ الْعَرَبُ: رَعَيْتُ الْغَنَمَ فَرَعَتْ، أَيْ: أَسِيمُوا أَنْعَامَكُمْ تَرْعَى.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الَّذِي ذَكَرْتُ، ﴿لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ لِذَوِي الْعُقُولِ، وَاحِدَتُهَا: "نُهْيَةٌ سُمِّيَتْ نُهْيَةً لِأَنَّهَا تَنْهَى صَاحِبَهَا عَنِ الْقَبَائِحِ وَالْمَعَاصِي.
قَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿لِأُولِي النُّهَى﴾ الَّذِينَ يَنْتَهُونَ عَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ قَتَادَةُ: لِذَوِي الْوَرَعِ. ﴿مِنْهَا﴾ أَيْ مِنَ الْأَرْضِ، ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾ يَعْنِي أَبَاكُمْ آدم.
وقال ١٢/ب عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ (٣) إِنَّ الْمَلَكَ يَنْطَلِقُ فَيَأْخُذُ مِنْ تُرَابِ الْمَكَانِ الَّذِي يُدْفَنُ فِيهِ فَيَذَرُهُ عَلَى النُّطْفَةِ فَيَخْلُقُ اللَّهُ مِنَ التُّرَابِ وَمِنَ النُّطْفَةِ (٤) فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ أَيْ:
(١) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٢) ساقط من "أ".
(٣) أخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر. انظر: الدر المنثور: ٥ / ٥٨٤. قال الشيخ الشنقيطي في "أضواء البيان": (٥ / ٥٢٤) وهذا القول خلاف التحقيق، لأن القرآن يدل على أن مرحلة النطفة بعد مرحلة التراب بمهلة؛ فهي غير مقارنة لها، بدليل الترتيب بينهما بـ "ثم" في قوله تعالى: "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة".
(٤) قال الطبري: (١٦ / ١٧٥) : من الأرض خلقناكم أيها الناس، فأنشأناكم أجساما ناطقة، وفي الأرض نعيدكم بعد مماتكم فنصيركم ترابا، كما كنتم قبل إنشائنا لكم، بشرا سويا.
عِنْدَ الْمَوْتِ وَالدَّفْنِ، ﴿وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ يَوْمَ الْبَعْثِ.
﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (٥٦) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (٥٨) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ﴾ يَعْنِي فِرْعَوْنَ، ﴿آيَاتِنَا كُلَّهَا﴾ يَعْنِي: الْآيَاتِ التِّسْعَ الَّتِي أَعْطَاهَا اللَّهُ مُوسَى، ﴿فَكَذَّبَ﴾ بِهَا وَزَعَمَ أَنَّهَا سِحْرٌ، ﴿وَأَبَى﴾ أَنْ يُسْلِمَ. ﴿قَالَ﴾ يَعْنِي فِرْعَوْنَ ﴿أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا﴾ يَعْنِي: مصر، ﴿بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى﴾ أَيْ: تُرِيدُ أَنْ تَغْلِبَ عَلَى دِيَارِنَا فَيَكُونَ لَكَ الْمُلْكُ وَتُخْرِجَنَا مِنْهَا. ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا﴾ أَيْ: فَاضْرِبْ بَيْنَنَا أَجَلًا وَمِيقَاتًا، ﴿لَا نُخْلِفُهُ﴾ [قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ "لَا نُخْلِفْهُ" بِجَزْمٍ، لَا نُجَاوِزُهُ] (١) ﴿نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى﴾ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ: "سُوًى " بِضَمِّ السِّينِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ: عِدًى وَعُدًى وَطِوًى وَطُوًى.
قَالَ مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ: مَكَانًا عَدْلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نِصْفًا، وَمَعْنَاهُ: تَسْتَوِي مَسَافَةُ الْفَرِيقَيْنِ إِلَيْهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: مُنْصِفًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي سِوَى هَذَا الْمَكَانِ. ﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالسُّدِّيُّ: كَانَ يَوْمَ عِيدٍ لَهُمْ، يَتَزَيَّنُونَ فِيهِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ النَّيْرُوزِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَوْمُ عَاشُورَاءَ (٢).
﴿وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ أَيْ: وَقْتَ الضَّحْوَةِ نَهَارًا جِهَارًا، لِيَكُونَ أَبْعَدَ مِنَ الرَّيْبَةِ.
(١) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٢) انظر هذه الأقوال في: الطبري: ١٦ / ١٧٧، الدر المنثور: ٥ / ٥٨٤ - ٥٨٥.
﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (٦٠) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (٦١) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (٦٢) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (٦٣) ﴾
﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾ مَكْرَهُ وَحِيلَتَهُ وَسَحَرَتَهُ، ﴿ثُمَّ أَتَى﴾ الْمِيعَادَ. ﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى﴾ يَعْنِي: لِلسَّحَرَةِ الَّذِينَ جَمَعَهُمْ فِرْعَوْنُ، وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَاحِرًا، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ حَبْلٌ وَعَصًا.
وَقِيلَ: كَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ. وَقَالَ كَعْبٌ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: ﴿فَيُسْحِتَكُمْ﴾ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ (١). قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: فَيُهْلِكَكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَيَسْتَأْصِلَكُمْ، ﴿وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ ﴿فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ: تَنَاظَرُوا وَتَشَاوَرُوا، يَعْنِي السَّحَرَةَ فِي أَمْرِ مُوسَى سِرًّا مِنْ فِرْعَوْنَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالُوا سِرًّا: إِنْ غَلَبَنَا مُوسَى اتَّبَعْنَاهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا قَالَ لَهُمْ مُوسَى: لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا هَذَا بِقَوْلِ سَاحِرٍ.
﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ أَيِ الْمُنَاجَاةَ، يَكُونُ مَصْدَرًا وَاسْمًا، ثُمَّ ﴿قَالَوا﴾ وَأَسَرَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ يَتَنَاجَوْنَ: ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾ يَعْنِي مُوسَى وَهَارُونَ.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ: ﴿إِنْ﴾ بِتَخْفِيفِ النُّونِ، ﴿هَذَانِ﴾ أَيْ مَا هَذَانِ إِلَّا سَاحِرَانِ، كَقَوْلِهِ: "إن نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ" (الشُّعَرَاءِ: ١٨٦)، أَيْ مَا نَظُنُّكَ إِلَّا مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَيُشَدِّدُ ابْنُ كَثِيرٍ النُّونَ مِنْ "هَذَانِ".
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو "إِنَّ " بِتَشْدِيدِ النُّونِ " هَذَيْنِ " بِالْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "إِنَّ " بِتَشْدِيدِ النُّونِ، " هَذَانِ " بِالْأَلِفِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ:
(١) وعلى الأولى من "أسحت" رباعيا، والثانية من "سحت" ثلاثيا.
280
فَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عائشة: أنه خطأ مِنَ الْكَاتِبِ (١).
وَقَالَ قَوْمُّ: هَذِهِ لُغَةُ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَخَثْعَمَ، وَكِنَانَةَ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الِاثْنَيْنِ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ بِالْأَلِفِ، يَقُولُونَ: أَتَانِي الزَّيْدَانِ [وَرَأَيْتُ الزَّيْدَانِ] (٢) وَمَرَرْتُ بالزَّيْدَانِ، [فَلَا يَتْرُكُونَ] (٣) أَلِفَ التَّثْنِيَةِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا (٤) وَكَذَلِكَ يَجْعَلُونَ كُلَّ يَاءٍ سَاكِنَةٍ انْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا أَلِفًا، كَمَا فِي التَّثْنِيَةِ، يَقُولُونَ: كَسَرْتُ يَدَاهُ وَرَكِبْتُ عَلَاهُ، يَعْنِي يَدَيْهِ وَعَلَيْهِ. وَقَالَ شَاعِرُهُمْ (٥) تَزَوَّدَ مِنِّي بَيْنَ أُذْنَاهُ ضَرَبَةً... دَعَتْهُ إِلَى هَابِي التُّرَابِ عَقِيمُ
يُرِيدُ بَيْنَ أُذُنَيْهِ.
وَقَالَ آخَرُ (٦) إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا... قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجِدِ غَايَتَاهَا
(١) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": ١٥ / ٢٥٢ - ٢٥٦: " وهذا الكلام ممتنع لوجوه: منها: تعدد المصاحف واجتماع جماعة على كل مصحف، ثم وصول كل مصحف إلى بلد كبير فيه كثير من الصحابة والتابعين +يقرءون القرآن، ويعتبرون ذلك بحفظهم، والإنسان إذا نسخ مصحفا غلط في بعضه عرف غلطه بمخالفة حفظة القرآن وسائر المصاحف، فلو قدر أنه كتب كاتب مصحفا ثم نسخ سائر الناس منه من غير اعتبار للأول والثاني أمكن وقوع +الغلظ في هذا، وهنا كل مصحف إنما كتبه جماعة، ووقف عليه خلق عظيم ممن يحصل التواتر بأقل منهم، ولو قدر أن الصحيفة كان فيها لحن فقد كتب منها جماعة لا يكتبون إلا بلسان قريش، ولم يكن لحنا، فامتنعوا أن يكتبوه بلسان قريش، فكيف يتفقون كلهم على أن يكتبوا: "إن هذان" وهم يعلمون أن ذلك لحن لا يجوز في شيء من لغاتهم، كما زعم بعضهم؟!... وأيضا: فإن القراء إنما قرأوا بما سمعوه من غيرهم، والمسلمون كانوا +يقرءون سورة "طه" على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وهي من أول ما نزل من القرآن، وهي مكية باتفاق الناس.. فالصحابة لابد أن +قرءوا هذا الحرف، ومن الممتنع أن يكونوا كلهم +قرءوه بالياء كأبي عمرو، فإنه لو كان كذلك لم يقرأها أحد إلا بالياء فعلم أنهم أو غالبهم كانوا +يقرءونها بالألف كما قرأها الجمهور... فهذا مما يعلم به قطعا أن عامة الصحابة إنما +قرءوها بالألف كما قرأ الجمهور، وكما هو مكتوب... ". وانظر فيما سبق تعليقا: ٢ / ٣٠٩ - ٣١٠ والمراجع المشار إليها هناك، وراجع: زاد المسير: ٥ / ٢٥١ - ٢٥٢.
(٢) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٣) ساقط من: "أ".
(٤) وهذه اللغة وافقتها لغة قريش. وانظر بالتفصيل والشواهد الشعرية في: تفسير الطبري: ١٦ / ١٨٠ - ١٨١، والبحر المحيط: ٦ / ٢٥٥، زاد المسير لابن الجوزي: ٥ / ٢٩٨، التبيان في إعراب القرآن للعكبري: ٢ / ٨٩٥، شرح الكافية الشافية لابن مالك الطائي: ١ / ١٨٨ - ١٩٠.
(٥) تفسير القرطبي: ١١ / ٢١٧.
(٦) ينسب هذا الرجز إلى أبي النجم العجلي (الفضل بن قدامة) كما ينسب إلى رؤية بن العجاج، وأنشده أبو زيد في "نوادر اللغة". عن المفضل الضبي قال: أنشدني أبو الغول لبعض أهل اليمن... انظر: شرح الكافية الشافية، لابن مالك: ١ / ١٨٤ مع التعليق.
281
وَقِيلَ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِنَّهُ هَذَانِ، فَحَذَفَ الْهَاءَ (١).
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ حَرْفَ "إِنَّ" هَاهُنَا، بِمَعْنَى نَعَمْ، أَيْ نَعَمْ هَذَانِ (٢) رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ شَيْئًا فَحَرَّمَهُ، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّ وَصَاحِبَهَا، أَيْ نَعَمْ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ (٣) بَكَرَتْ عَلَيَّ عَوَاذِلِي يَلْحِينَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ
وَيقُلْنَ شَيبٌ قَدْ عَلَا كَ وَقَدْ كَبُرْتَ فَقُلْتُ إَنَّهْ
أَيْ: نَعَمْ.
﴿يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ﴾ مِصْرَ (٤) ﴿بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِسَرَاةِ قَوْمِكُمْ وَأَشْرَافِكُمْ، يُقَالُ: هَؤُلَاءِ طَرِيقَةُ قَوْمِهِمْ أَيْ أَشْرَافُهُمْ (٥) وَ ﴿الْمُثْلَى﴾ تَأْنِيثُ "الْأَمْثَلِ"، وَهُوَ الْأَفْضَلُ، حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: يَصْرِفَانِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِمَا (٦).
قَالَ قَتَادَةُ: طَرِيقَتُهُمُ الْمُثْلَى يَوْمَئِذٍ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَانُوا أَكْثَرَ الْقَوْمِ عَدَدًا وَأَمْوَالًا فَقَالَ عَدُوُّ اللَّهِ: يُرِيدَانِ أَنْ يَذْهَبَا بِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ (٧).
وَقِيلَ: ﴿بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ أَيْ بِسُنَّتِكُمْ وَدِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ (٨) وَ ﴿الْمُثْلَى﴾ نَعْتُ الطَّرِيقَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، يَعْنِي: عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ.
(١) انظر: التبيان في إعراب القرآن، للعكبري: ٢ / ٨٩٥، البحر المحيط، ٦ / ٢٥٥.
(٢) قال أبو حيان: (٦ / ٢٥٥) : ثبت ذلك في اللغة، فتحمل الآية عليه، و"هذان لساحران" مبتدأ وخبر وانظر زاد المسير: ٥ / ٣٩٩.
(٣) هو عبد الله بن قيس الرقيات. انظر: القرطبي: ١١ / ٢١٨.
(٤) ساقط من "ب".
(٥) الطبري: ١٦ / ١٨٣.
(٦) الطبري: ١٦ / ١٨٣.
(٧) الطبري: ١٦ / ١٨٣.
(٨) رواه الطبري عن ابن زيد: (١٦ / ١٨٣)، وقال: وإن كان له وجه يحتمل الكلام، فإن تأويل أهل التأويل خلافه، فلا أستجيز لذلك القول به.
282
﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (٦٤) ﴾
﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٦٥) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (٦٧) ﴾
﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: " فَاجْمَعُوا " بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، مِنَ الْجَمْعِ، أَيْ لَا تَدَعُوا شَيْئًا مِنْ كَيْدِكُمْ إِلَّا جِئْتُمْ بِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: "فَجَمَعَ كَيْدَهُ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. فَقَدْ قِيلَ: مَعْنَاهُ الْجَمْعُ أَيْضًا، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَجْمَعْتُ الشَّيْءَ وَجَمَعْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ الْعَزْمُ وَالْإِحْكَامُ، أَيِ: اعْزِمُوا كُلُّكُمْ عَلَى كَيْدِهِ مُجْتَمِعِينِ لَهُ، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيَخْتَلَّ أَمْرُكُمْ.
﴿ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا﴾ أَيْ جَمِيعًا، قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ، وَقَالَ قَوْمٌ: أَيْ مُصْطَفِّينَ مُجْتَمِعِينَ لِيَكُونَ أَشَدَّ لِهَيْبَتِكُمْ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّفُّ الْمُجَمَّعُ، وَيُسَمَّى الْمُصَلَّى صَفًّا. مَعْنَاهُ: ثُمَّ ائْتُوا الْمَكَانَ الْمَوْعُودَ.
﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ أَيْ: فَازَ مَنْ غَلَبَ. ﴿قَالَوا﴾ يعني السحرة، ﴿يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ﴾ عَصَاكَ، ﴿وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى﴾ عَصَاهُ. ﴿قَالَ﴾ مُوسَى: ﴿بَلْ أَلْقُوا﴾ أَنْتُمْ أَوَّلًا ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ﴾ وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ فَأَلْقَوْا فَإِذَا حِبَالُهُمْ ﴿وَعِصِيُّهُمْ﴾ جَمْعُ الْعَصَا، ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ﴾ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ "تُخَيَّلُ" بِالتَّاءِ رَدَّا إِلَى الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ رَدُّوهُ إِلَى الْكَيْدِ وَالسِّحْرِ، ﴿مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾
وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَلْقَوُا الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ أَخَذُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، فَرَأَى مُوسَى وَالْقَوْمُ كَأَنَّ الْأَرْضَ امْتَلَأَتْ حَيَّاتٍ، وَكَانَتْ قَدْ أَخَذَتْ مَيْلًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَرَأَوْا أَنَّهَا تَسْعَى (١). ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾ أَيْ وَجَدَ، وَقِيلَ: أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ خَوْفًا، وَاخْتَلَفُوا فِي خَوْفِهِ: قِيلَ: خَوْفُ طَبْعِ الْبَشَرِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا تَقْصِدُهُ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَافَ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ فَيَشُكُّوا فِي أَمْرِهِ فَلَا يَتَّبِعُوهُ.
(١) ذكره الطبري: عن وهب بن منبه: ١٦ / ١٨٦.
﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٦٨) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (٧٠) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (٧١) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٧٢) ﴾
﴿قُلْنَا﴾ لِمُوسَى: ﴿لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ أَيِ: الْغَالِبُ، يَعْنِي: لَكَ الْغَلَبَةُ وَالظَّفَرُ. ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾ يَعْنِي الْعَصَا، ﴿تَلْقَفْ﴾ تَلْتَقِمُ وَتَبْتَلِعُ، ﴿مَا صَنَعُوا﴾ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ "تَلْقُفُ" بِرَفْعِ الْفَاءِ هَاهُنَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، ﴿إِنَّمَا صَنَعُوا﴾ إِنَّ الَّذِي صَنَعُوا، ﴿كَيْدُ سَاحِرٍ﴾ أَيْ حِيلَةُ سِحْرٍ، هَكَذَا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِكَسْرِ السِّينِ بِلَا أَلِفٍ (١)، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "سَاحِرٍ" لِأَنَّ إضافة الكيد ١٣/أإِلَى الْفَاعِلِ أَوْلَى مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْعَدُ حَيْثُ كَانَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَيْثُ احْتَالَ. ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ﴾ لَرَئِيسُكُمْ وَمُعَلِّمُكُمْ، ﴿الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ أَيْ: عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ (٢) ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا﴾ ؛ أَنَا عَلَى إِيمَانِكُمْ بِهِ، أَوْ رَبُّ مُوسَى عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِهِ؟ ﴿وَأَبْقَى﴾ أَيْ: أَدْوَمُ. ﴿قَالُوا﴾ يَعْنِي السَّحَرَةَ: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ﴾ لَنْ نَخْتَارَكَ، ﴿عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾
(١) وهذا إشارة إلى أن المصنف رحمه الله فسر الآية أولا على قراءة "كيد ساحر" بدليل ما بعده.
(٢) كما قال الشاعر (سويد بن أبي كاهل اليشكري) :
هم صلبوا العبدي في جذع نخلة بنات فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
يعني: على جذع نخلة. وإنما قيل: "في جذوع" لأن المصلوب على الخشبة يرفع في طولها، ثم يصير عليها، فيقال: صلب عليها. انظر تفسير الطبري: ١٦ / ١٨٨.
يَعْنِي الدَّلَالَاتِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْيَدَ الْبَيْضَاءَ (١) وَالْعَصَا.
وَقِيلَ: كَانَ اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ كَانَ هَذَا سِحْرًا فَأَيْنَ حِبَالُنَا وَعِصِيُّنَا.
وَقِيلَ: ﴿مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ يَعْنِي مِنَ التَّبْيِينِ وَالْعِلْمِ.
حُكِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ لَمَّا أُلْقُوا سُجَّدًا مَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ حَتَّى رَأَوُا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَرَأَوْا ثَوَابَ أَهْلِهَا، وَرَأَوْا مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ، ﴿وَالَّذِي فَطَرَنَا﴾ أَيْ: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى اللَّهِ الَّذِي فَطَرَنَا، وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ، ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ أَيْ: فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ، ﴿إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ أَيْ: أَمْرُكَ وَسُلْطَانُكَ فِي الدُّنْيَا وَسَيَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ.
﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٧٣) ﴾
﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ﴾ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالُوا هَذَا، وَقَدْ جَاءُوا مُخْتَارِينَ يَحْلِفُونَ بِعَزَّةِ فِرْعَوْنَ أَنَّ لَهُمُ الْغَلَبَةَ؟.
قِيلَ: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ فِرْعَونُ يُكْرِهُ قَوْمًا عَلَى تَعَلُّمِ السِّحْرِ لِكَيْلَا يَذْهَبَ أَصْلُهُ، وَقَدْ كَانَ أَكْرَهَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتِ السَّحَرَةُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، اثْنَانِ مِنَ الْقِبْطِ وَسَبْعُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ فِرْعَوْنُ أَكْرَهَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى تَعَلُّمِ السِّحْرِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: ﴿وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ﴾
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبَانَ: قَالَتِ السَّحَرَةُ لِفِرْعَوْنَ: أَرِنَا مُوسَى إِذَا نَامَ، فَأَرَاهُمْ مُوسَى نَائِمًا وَعَصَاهُ تَحْرُسُهُ، فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِسَاحِرٍ، إِنَّ السَّاحِرَ إِذَا نَامَ بَطَلَ سِحْرُهُ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ﴾
﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: خَيْرٌ مِنْكَ ثَوَابًا، وَأَبْقَى عِقَابًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: خَيْرٌ مِنْكَ ثَوَابًا (٢) إِنْ أُطِيعَ، وَأَبْقَى مِنْكَ عَذَابًا إِنْ عُصِيَ، وَهَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: "وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى".
(١) ساقط من "ب".
(٢) ساقط من "أ".
﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦) ﴾
﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (٧٧) ﴾
﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا﴾ قِيلَ: هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: مِنْ تَمَامِ قَوْلِ السَّحَرَةِ ﴿مُجْرِمًا﴾ أَيْ: مُشْرِكًا، يَعْنِي: مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ، ﴿فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا﴾ فَيَسْتَرِيحُ، ﴿وَلَا يَحْيَا﴾ حَيَاةً يَنْتَفِعُ بِهَا. ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو سَاكِنَةَ الْهَاءِ وَيَخْتَلِسُهَا أَبُو +جَعْفَرٍ، وَقَالُونُ وَيَعْقُوبُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْإِشْبَاعِ، ﴿مُؤْمِنًا﴾ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ، ﴿قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا﴾ الرَّفِيعَةُ، وَ ﴿الْعُلَا﴾ جَمْعٌ، وَ"الْعُلْيَا" تَأْنِيثُ الْأَعْلَى. ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾ أَيْ: تَطَهَّرَ مِنَ الذُّنُوبِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَعْطَى زَكَاةَ نَفْسِهِ وَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدٍ السِّمْسَارُ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّاسٍ الدِّهْقَانُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ العُطَارِدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقٍ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا" (١) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي﴾ أَيْ: سِرْ بِهِمْ لَيْلًا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ﴾ أَيِ اجْعَلْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ بِالضَّرْبِ بِالْعَصَا، ﴿يَبَسًا﴾ يَابِسًا لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ وَلَا طِينٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَيْبَسَ لَهُمُ الطَّرِيقَ فِي الْبَحْرِ، ﴿لَا تَخَافُ دَرَكًا﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ
(١) أخرجه أبو داود في الحروف: ٦ / ٨، والترمذي في المناقب، مناقب أبي بكر رضي الله عنه: ١٠ / ١٤١، ١٤٢، وقال: "هذا حديث حسن"، ابن ماجه في المقدمة، باب فضائل أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم (٩٦) ١ / ٣٧، والإمام أحمد في المسند: ٣ / ٢٧، وأشار إليه الدارمي في الرقاق، باب في غرف الجنة: ٢ / ٣٣٦. والمصنف في شرح السنة: ١٤ / ٩٩، وفيه عطية العوفي، وقد تابعه أبو الوداك عند الإمام أحمد: ٣ / ٢٦.
"لَا تَخَفْ" بِالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ، وَالْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ وَالرَّفْعِ عَلَى النَّفْيِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَخْشَى﴾ قِيلَ: لَا تَخَافُ أَنْ يُدْرِكَكَ فِرْعَوْنُ مِنْ وَرَائِكَ وَلَا تَخْشَى أَنْ يُغْرِقَكَ الْبَحْرُ أَمَامَكَ.
﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (٧٩) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (٨١) ﴾
﴿فَأَتْبَعَهُمْ﴾ فَلَحِقَهُمْ، ﴿فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ﴾ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَمَرَ فِرْعَوْنُ جُنُودَهُ أَنْ يَتْبَعُوا مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَالْبَاءُ فِيهِ زَائِدَةٌ وَكَانَ هُوَ فِيهِمْ، ﴿فَغَشِيَهُمْ﴾ أَصَابَهُمْ، ﴿مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾ وَهُوَ الْغَرَقُ. [وَقِيلَ: غَشِيَهُمْ عَلَاهُمْ وَسَتَرَهُمْ بَعْضُ مَاءِ الْيَمِّ لَا كُلُّهُ] (١).
وَقِيلَ: غَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ قوم موسى فغرقهم هُمْ، وَنَجَا مُوسَى وَقَوْمُهُ. ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ أَيْ: مَا أَرْشَدَهُمْ، وَهَذَا تَكْذِيبٌ لِفِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: "وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" (غَافِرٍ: ٢٩).. قَوْلُهُ عز وجل: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ﴾ فِرْعَوْنَ، ﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "أَنْجَيْتُكُمْ"، وَ"وَاعَدْتُكُمْ"، وَ"رَزَقْتُكُمْ" بِالتَّاءِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ وَالْأَلِفِ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ﴿وَنَزَّلْنَا﴾ لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ بِالْأَلِفِ.
﴿وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَظْلِمُوا (٢). قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا تَكْفُرُوا النِّعْمَةَ فَتَكُونُوا طَاغِينَ.
وَقِيلَ: لَا تُنْفِقُوا فِي مَعْصِيَتِي.
(١) زيادة من "ب".
(٢) لم يذكر الطبري غير هذا القول، وأعرض من سائر الأقوال التي لا يساعد عليها السياق.
وَقِيلَ: لَا تَدَّخِرُوا، ثُمَّ ادَّخَرُوا فَتَدَوَّدَ، ﴿فَيَحِلَّ﴾ قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَالْكِسَائِيُّ: "فَيَحُلَّ" بِضَمِّ الْحَاءِ "وَمَنْ يَحْلُلْ" بِضَمِّ اللَّامِ، أَيْ: يَنْزِلُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا أَيْ: يَجِبُ، ﴿عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾ هَلَكَ وَتَرَدَّى فِي النَّارِ.
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٨٢) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (٨٤) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) ﴾
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَابَ مِنَ الشِّرْكِ، ﴿وَآمَنَ﴾ وَوَحَّدَ اللَّهَ وَصَدَّقَهُ، ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ أَدَّى الْفَرَائِضَ، ﴿ثُمَّ اهْتَدَى﴾ قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ تَوْفِيقٌ مِنَ اللَّهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَعْنِي لَزِمَ الْإِسْلَامَ حَتَّى مَاتَ عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ: عَلِمَ أَنَّ لِذَلِكَ ثَوَابًا.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيَهْتَدِيَ بِهِ كَيْفَ يَعْمَلُ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتَقَامَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَقَامَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ (١). ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ﴾ أَيْ: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى الْعَجَلَةِ، ﴿عَنْ قَوْمِكَ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى اخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا حَتَّى يَذْهَبُوا مَعَهُ إِلَى الطُّورِ، لِيَأْخُذُوا التَّوْرَاةَ، فَسَارَ بِهِمْ ثُمَّ عَجَّلَ مُوسَى مِنْ بَيْنِهِمْ شَوْقًا إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَلَّفَ السَّبْعِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتْبَعُوهُ إِلَى الْجَبَلِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى﴾ ﴿قَالَ﴾ مُجِيبًا لِرَبِّهِ تَعَالَى: ﴿هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي﴾ أَيْ: هُمْ بِالْقُرْبِ مِنِّي يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي، ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ لِتَزْدَادَ رِضًا. ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ﴾ أَيِ: ابْتَلَيْنَا الَّذِينَ خَلَّفْتَهُمْ مَعَ هَارُونَ، وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ، فَافْتُتِنُوا بِالْعِجْلِ غَيْرَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ﴿مِنْ بَعْدِكَ﴾ أَيْ: مِنْ بَعْدِ انْطِلَاقِكَ إِلَى الْجَبَلِ.
(١) ذكر الطبري هذه الأقوال في التفسير: ١٦ / ١٩٤ - ١٩٥ واختار أن معنى قوله تعالى: "ثم اهتدى": يقول: ثم لزم ذلك فاستقام ولم يصنع شيئا منه، من أجل أن الاهتداء هو الاستقامة على هدى، ولا معنى للاستقامة عليه إلا وقد جمعه الإيمان والعمل الصالح والتوبة، فمن فعل ذلك وثبت عليه، فلا شك في اهتدائه.
﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ أَيْ: دَعَاهُمْ وصرفهم إلى ١٣/ب عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَأَضَافَهُ إِلَى السَّامِرِيِّ لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا بِسَبَبِهِ.
﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) ﴾
﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا﴾ حزينا. ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا﴾ صِدْقًا أَنَّهُ يُعْطِيكُمُ التَّوْرَاةَ، ﴿أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ﴾ مُدَّةُ مُفَارَقَتِي إِيَّاكُمْ، ﴿أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ن أَيْ: أَرَدْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْلًا يَجِبُ عَلَيْكُمْ بِهِ الْغَضَبُ مِنْ رَبِّكُمْ، ﴿فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي﴾ ﴿قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا﴾ قَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَعَاصِمٌ: "بِمَلْكِنَا " بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا، أَيْ: وَنَحْنُ نَمْلِكُ أَمْرَنَا. وَقِيلَ: بِاخْتِيَارِنَا، وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ بِقُدْرَتِنَا وَسُلْطَانِنَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَلِيَّةِ وَالْفِتْنَةِ لَمْ يَمْلُكْ نَفْسَهُ.
﴿وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَيَعْقُوبُ: "حَمَلْنَا" بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: جَعَلُونَا نَحْمِلُهَا وَكُلِّفْنَا حَمْلَهَا، ﴿أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ﴾ مِنْ حُلِيِّ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، سَمَّاهَا أَوْزَارًا لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهَا عَلَى وَجْهِ الْعَارِيَةِ فَلَمْ يَرُدُّوهَا. وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قَدِ اسْتَعَارُوا حُلِيًّا مِنَ الْقِبْطِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعَهُمْ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ.
وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ نَبَذَ الْبَحْرُ حُلِيَّهُمْ فَأَخَذُوهَا، وَكَانَتْ غَنِيمَةً، وَلَمْ تَكُنِ الْغَنِيمَةُ حَلَالًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَسَمَّاهَا أَوْزَارًا لِذَلِكَ.
﴿فَقَذَفْنَاهَا﴾ قِيلَ: إِنَّ السَّامِرِيَّ قَالَ لَهُمُ احْفِرُوا حُفَيْرَةً فَأَلْقُوهَا فِيهَا حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى.
قَالَ السُّدِّيُّ (١) قَالَ لَهُمْ هَارُونُ إِنَّ تِلْكَ غَنِيمَةٌ لَا تَحِلُّ، فَاحْفِرُوا حُفَيْرَةً فَأَلْقُوهَا فِيهَا حَتَّى يَرْجِعَ
(١) ساقط من "أ".
289
مُوسَى، فَيَرَى رَأْيَهُ فِيهَا، فَفَعَلُوا (١). قَوْلُهُ: ﴿فَقَذَفْنَاهَا﴾ أَيْ: طَرَحْنَاهَا فِي الْحُفْرَةِ. ﴿فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ﴾ مَا مَعَهُ مِنَ الْحُلِيِّ فِيهَا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَوْقَدَ هَارُونُ نَارًا وَقَالَ: اقْذِفُوا فِيهَا مَا مَعَكُمْ، فَأَلْقَوْهُ فِيهَا، ثُمَّ أَلْقَى السَّامِرِيُّ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ تُرْبَةِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ (٢).
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ قَدْ أَخَذَ قَبْضَةً مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ فِي عِمَامَتِهِ.
(١) انظر: الطبري: ١٦ / ٢٠٠.
(٢) انظر: الطبري: ١٦ / ٢٠١.
290
﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٨٩) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٩١) ﴾
﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾ أَيْ: تَرَكَهُ مُوسَى هَاهُنَا، وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ. وَقِيلَ: أَخْطَأَ الطَّرِيقَ وَضَلَّ (١). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا﴾ أَيْ: لَا يَرَوْنَ أَنَّ الْعِجْلَ لا يكلمهم ولايجيبهم إِذَا دَعَوْهُ، ﴿وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ وَقِيلَ: إِنَّ هَارُونَ مَرَّ عَلَى اَلسَّامِرِيِّ وَهُوَ يَصُوغُ الْعِجْلَ فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: أَصْنَعُ مَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ فَادْعُ لِي، فَقَالَ هَارُونُ: اللَّهُمَّ أَعْطِهِ مَا سَأَلَكَ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، فَأَلْقَى التُّرَابَ فِي فَمِ الْعِجْلِ وَقَالَ كُنْ عِجْلًا يَخُورُ فَكَانَ كَذَلِكَ بِدَعْوَةِ هَارُونَ (٢).
وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِتْنَةً ابْتَلَى اللَّهُ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ. ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ﴾ مِنْ قَبْلِ رجوع موسى، ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ﴾ ابْتُلِيتُمْ بِالْعِجْلِ، ﴿وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي﴾ عَلَى دِينِي فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، ﴿وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ فِي تَرْكِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ. ﴿قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ﴾ أَيْ لَنْ نَزَالَ، ﴿عَلَيْهِ﴾ عَلَى عِبَادَتِهِ، ﴿عَاكِفِينَ﴾ مُقِيمِينَ، ﴿حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ فَاعْتَزَلَهُمْ هَارُونُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى
(١) انظر: الطبري: ١٦ / ٢٠١.
(٢) انظر فيما سبق: ٥ / ٢٧١ تخريج حديث "الفتون": وراجع تفسير ابن كثير: ٣ / ١٦٣.
وَسَمِعَ الصِّيَاحَ وَالْجَلَبَةَ وَكَانُوا يَرْقُصُونَ حَوْلَ الْعِجْلِ، قَالَ لِلسَّبْعِينَ الَّذِينَ مَعَهُ: هَذَا صَوْتُ الْفِتْنَةِ، فَلَمَّا رَأَى هَارُونَ أَخَذَ شَعْرَ رَأْسِهِ بِيَمِينِهِ وَلِحْيَتِهِ بشماله.
﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (٩٥) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) ﴾
﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا﴾ أَشْرَكُوا. ﴿أَلَّا تَتَّبِعَنِي﴾ أَيْ: أَنْ تَتَّبِعَنِي وَ" لَا " صِلَةٌ أَيْ تَتَّبِعَ أَمْرِي وَوَصِيَّتِي، يَعْنِي: هَلَّا قَاتَلْتَهُمْ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنِّي لَوْ كُنْتُ فِيهِمْ لِقَاتَلْتُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَقِيلَ: "أَنْ لَا تَتَّبِعَنِي" أَيْ: مَا مَنَعَكَ مِنَ اللُّحُوقِ بِي وَإِخْبَارِي بِضَلَالَتِهِمْ، فَتَكُونَ مُفَارَقَتُكَ إِيَّاهُمْ زَجْرًا لَهُمْ عَمَّا أَتَوْهُ، ﴿أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾ أَيْ خَالَفْتَ أمري. ﴿قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي﴾ أَيْ بِشَعْرِ رَأْسِي وَكَانَ قَدْ أَخَذَ ذَوَائِبَهُ، ﴿إِنِّي خَشِيتُ﴾ لَوْ أَنْكَرْتُ عَلَيْهِمْ لَصَارُوا حِزْبَيْنِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ﴿أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أَيْ خَشِيتُ إِنْ فَارَقْتُهُمْ وَاتَّبَعْتُكَ صَارُوا أَحْزَابًا يَتَقَاتَلُونَ، فَتَقُولُ أَنْتَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١) ﴿وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ وَلَمْ تَحْفَظْ وَصِيَّتِي حِينَ قُلْتُ لَكَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، وَأَصْلِحْ أَيِ ارْفُقْ بِهِمْ (٢) ثُمَّ أَقْبَلَ مُوسَى عَلَى السَّامِرِيِّ ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ﴾ مَا أَمْرُكَ وَشَأْنُكَ؟ وَمَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى ما صنعت؟ ﴿يَا سَامِرِيُّ﴾ ﴿قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾ رَأَيْتُ مَا لَمْ يَرَوْا وَعَرَفْتُ مَا لَمْ يَعْرِفُوا.
(١) ذكر الطبري في التفسير: (١٦ / ٢٠٤) أقوالا أخر زيادة على ما ذكر المصنف ورجح ما نسبه إلى ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن موسى عذل أخاه هارون على تركه اتباع أمره بمن اتبعه من أهل الإيمان، فقال له هارون: إني خشيت أن تقول: فرقت بين جماعتهم، فتركت بعضهم ورائي، وجئت ببعضهم. وانظر زاد المسير: ٥ / ٣١٦.
(٢) انظر: الطبري: ١٦ / ٢٠٤، الدر المنثور: ٦ / ٥٩٦.
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: " مَا لَمْ تَبْصُرُوا " بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ.
﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ﴾ أَيْ مِنْ تُرَابِ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ، ﴿فَنَبَذْتُهَا﴾ أَيْ أَلْقَيْتُهَا فِي فَمِ الْعِجْلِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا خَارَ لِهَذَا لِأَنَّ التُّرَابَ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ تَحْتِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَرَفَهُ وَرَأَى جِبْرِيلَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ؟.
قِيلَ: لِأَنَّ أُمَّهُ لَمَّا وَلَدَتْهُ فِي السَّنَةِ الَّتِي يُقْتَلُ فِيهَا الْبَنُونَ وَضَعَتْهُ فِي الْكَهْفِ حَذَرًا عَلَيْهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ لِيُرَبِّيَهُ لِمَا قَضَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْفِتْنَةِ (١).
﴿وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ﴾ أَيْ زَيَّنَتْ (٢) ﴿لِي نَفْسِي﴾
﴿قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (٩٧) ﴾
﴿قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ﴾ أَيْ: مَا دُمْتَ حَيًّا، ﴿أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ﴾ أَيْ: لَا تُخَالِطْ أَحَدًا، وَلَا يُخَالِطْكَ أَحَدٌ، وَأَمَرَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ لَا يُخَالِطُوهُ، وَلَا يَقْرَبُوهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا مِسَاسَ لَكَ وَلِوَلَدِكَ، وَ"الْمِسَاسُ" مِنَ الْمُمَاسَّةِ، مَعْنَاهُ: لَا يَمَسُّ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَصَارَ السَّامِرِيُّ يَهِيمُ فِي الْبَرِّيَّةِ مَعَ الْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ، لَا يَمَسُّ أَحَدًا وَلَا يَمَسُّهُ أَحَدٌ، عَاقَبَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا لَقِيَ أَحَدًا يَقُولُ: "لَا مِسَاسَ"، أَيْ: لَا تَقْرَبْنِي وَلَا تَمَسَّنِي.
وَقِيلَ: كَانَ إِذَا مَسَّ أَحَدًا أَوْ مَسَّهُ أَحَدٌ حُمَّا جَمِيعًا حَتَّى أَنَّ بَقَايَاهُمُ الْيَوْمَ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَإِذَا مَسَّ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حُمَّا جَمِيعًا فِي الْوَقْتِ (٣).
﴿وَإِنَّ لَكَ﴾ يَا سَامِرِيُّ، ﴿مَوْعِدًا﴾ لِعَذَابِكَ، ﴿لَنْ تُخْلَفَهُ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ: ﴿لَنْ تُخْلَفَهُ﴾ بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ لَنْ تَغِيبَ عَنْهُ، وَلَا مَذْهَبَ لَكَ عَنْهُ، بَلْ تُوَافِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ لَنْ تُكَذِّبَهُ وَلَنْ يُخْلِفَكَ اللَّهُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُكَافِئُكَ عَلَى فِعْلِكَ
(١) روى الطبري: ١٦ / ٢٠٤ - ٢٠٥ عن ابن جريج قال: لما قتل فرعون الوالدان قالت أم السامري: لو نحيته عني حتى لا أراه، ولا أدري قتله، فجعلته في غار، فأتى جبريل، فجعل كف نفسه في فيه، فجعل يرضعه العسل واللبن، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه، فمن ثم معرفته إياه حين قال: "فقبضت قبضة من أثر الرسول". وانظر القرطبي: ١١ / ٢٣٩ - ٢٤٠.
(٢) ساقط من "أ".
(٣) انظر: القرطبي: ١١ / ٢٤١، زاد المسير: ٥ / ٣١٩.
وَلَا تَفُوتُهُ (١).
﴿وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ﴾ بِزَعْمِكَ، ﴿الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا﴾ أَيْ ظَلْتَ وَدُمْتَ عَلَيْهِ مُقِيمًا تَعْبُدُهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: ظَلْتُ أَفْعَلُ كَذَا بِمَعْنَى ظَلَلْتُ، وَمِسْتُ بِمَعْنَى مَسَسْتُ.
﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ﴾ بِالنَّارِ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِحْرَاقِ، ﴿ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ﴾ لَنَذْرِيَنَّهُ، ﴿فِي الْيَمِّ﴾ فِي الْبَحْرِ، ﴿نَسْفًا﴾ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى أَخْذَ الْعِجْلَ فَذَبَحَهُ فَسَالَ مِنْهُ دَمٌ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ صَارَ لَحْمًا وَدَمًا (٢) ثُمَّ حَرَّقَهُ بِالنَّارِ، ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الْيَمِّ، قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: "لَنَحْرُقَنَّهُ" بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الرَّاءِ لَنَبْرُدَنَّهُ بِالْمِبْرَدِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمِبْرَدِ الْمُحْرِقُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَخَذَ مُوسَى الْعِجْلَ فَذَبَحَهُ ثُمَّ حَرَّقَهُ بِالْمِبْرَدِ، ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الْيَمِّ.
﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (٩٨) ﴾
(١) ذكره الطبري: القولين: ١٦ / ٢٠٦ - ٢٠٧ وقال: والقول عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، لأنه لا شك أن الله موف وعده لخلقه يحشرهم لموقف الحساب، وأن الخلق موافون ذلك اليوم، فلا الله مخلفهم ذلك، ولا هم مخلفوه بالتخلف عنه، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في ذلك.
(٢) انظر: الدر المنثور ٥ / ٥٩٧، القرطبي: ١١ / ٢٤٢ - ٢٤٣.
﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (١٠٠) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (١٠١) ﴾
﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ وَسِعَ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ. ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ﴾ مِنَ الْأُمُورِ، ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ. ﴿مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ﴾ أَيْ: عَنِ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ، ﴿فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا﴾ حِمْلًا ثَقِيلًا مِنَ الْإِثْمِ. ﴿خَالِدِينَ فِيهِ﴾ مُقِيمِينَ فِي عَذَابِ الْوِزْرِ، ﴿وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا﴾ ١٤/أأَيْ بِئْسَ مَا حَمَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْإِثْمِ كُفْرًا بِالْقُرْآنِ.
﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (١٠٢) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (١٠٤) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) ﴾
﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو "نَنْفُخُ " بِالنُّونِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّ الْفَاءِ لِقَوْلِهِ: "وَنَحْشُرُ "، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتَحِ الْفَاءِ عَلَى غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ، ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ﴾ الْمُشْرِكِينَ، ﴿يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ وَالزُّرْقَةُ: هِيَ الْخُضْرَةُ: فِي سَوَادِ الْعَيْنِ، فَيُحْشَرُونَ زُرْقَ الْعُيُونِ سُودَ الْوُجُوهِ. وَقِيلَ: ﴿زُرْقًا﴾ (١) أَيْ عُمْيًا. وَقِيلَ: عِطَاشًا. ﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ يَتَشَاوَرُونَ بَيْنَهُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ خُفْيَةً، ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ﴾ أَيْ مَا مَكَثْتُمْ فِي الدُّنْيَا، ﴿إِلَّا عَشْرًا﴾ أَيْ عَشْرَ لَيَالٍ. وَقِيلَ: فِي الْقُبُورِ. وَقِيلَ: بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ يُرْفَعُ عَنْهُمْ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. اسْتَقْصَرُوا مُدَّةَ لَبْثِهِمْ لِهَوْلِ مَا عَايَنُوا (٢). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ﴾ أَيْ يَتَسَارُّونَ (٣) بَيْنَهُمْ، ﴿إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً﴾ أَوْفَاهُمْ عَقْلًا وَأَعْدَلُهُمْ قَوْلًا ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا﴾ قَصُرَ ذَلِكَ فِي أَعْيُنِهِمْ فِي جَنْبِ مَا اسْتَقْبَلَهُمْ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: نَسُوا مِقْدَارَ لَبْثِهِمْ لِشِدَّةِ مَا دَهَمَهُمْ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْفَ تَكُونُ الْجِبَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (٤).
وَالنَّسْفُ هُوَ الْقَلْعُ، أَيْ: يَقْلَعُهَا مِنْ أَصْلِهَا وَيَجْعَلُهَا هَبَاءً مَنْثُورًا.
﴿فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (١٠٩) ﴾
﴿فَيَذَرُهَا﴾ أَيْ: فَيَدَعُ أَمَاكِنَ الْجِبَالِ مِنَ الْأَرْضِ، ﴿قَاعًا صَفْصَفًا﴾ أَيْ: أَرْضًا مَلْسَاءَ مُسْتَوِيَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَ"الْقَاعُ": مَا انْبَسَطَ مِنَ الْأَرْضِ، وَ"الصَّفْصَفُ": الْأَمْلَسُ.
(١) أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، أن رجلا أتاه فقال: أرأيت قوله: "ونحشر المجرمين يومئذ زرقا" وأخرى عميا؟ قال: إن يوم القيامة فيه حالات: يكونون في حال زرقا وفي حال عميا. الدر المنثور: ٥ / ٥٩٨. وانظر: تفسير الطبري: ١٦ / ٢١٠.
(٢) ذكر هذه الأقوال صاحب زاد المسير: ٥ / ٣٢١. وذكر ابن جرير أنه اللبث في الدنيا، الطبري ١٦ / ٢١١.
(٣) في "ب" يتشاورون.
(٤) انظر: روح المعاني: ١٦ / ٢٦١.
294
﴿لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: انْخِفَاضًا وَارْتِفَاعًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ: "الْعِوَجُ": مَا انْخَفَضَ مِنَ الْأَرْضِ، وَ"الْأَمْتُ": مَا نَشَزَ مِنَ الرَّوَابِي، أَيْ: لَا تَرَى وَادِيًا وَلَا رَابِيَةً.
قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَرَى فِيهَا صَدْعًا وَلَا أَكَمَةً (١). ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾ أَيْ صَوْتَ الدَّاعِي الَّذِي يَدْعُوهُمْ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ إِسْرَافِيلُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَضَعُ الصُّورَ فِي فِيهِ، وَيَقُولُ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ وَالْجُلُودُ الْمُتَمَزِّقَةُ وَاللُّحُومُ الْمُتَفَرِّقَةُ هَلُمُّوا إِلَى عَرْضِ الرَّحْمَنِ (٢).
﴿لَا عِوَجَ لَهُ﴾ أَيْ: لِدُعَائِهِ، وَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَيْ: لَا عِوَجَ لَهُمْ عَنْ دُعَاءِ الدَّاعِي، لَا يَزِيغُونَ عَنْهُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بَلْ يَتَّبِعُونَهُ سِرَاعًا.
﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ﴾ أَيْ: سَكَنَتْ وَذَلَّتْ وَخَضَعَتْ، وَوَصَفَ الْأَصْوَاتَ بِالْخُشُوعِ وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا، ﴿فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾ يَعْنِي صَوْتَ وَطْءِ الْأَقْدَامِ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَ"الْهَمْسُ": الصَّوْتُ الْخَفِيُّ كَصَوْتِ أَخْفَافِ الْإِبِلِ فِي الْمَشْيِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ تَخَافُتُ الْكَلَامِ وَخَفْضُ الصَّوْتِ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَحْرِيكُ الشِّفَاهِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ (٣). ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ﴾ يَعْنِي: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، ﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾
(١) ساق الطبري الأقوال في معنى "عوجا ولا أمتا"، وقال: (١٦ / ٢١٣) :"وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بالعوج: الميل، وذلك أن ذلك هو المعروف من كلام العرب. فإن قال قائل: وهل في الأرض اليوم من عوج؟ فيقال: لا ترى فيها يومئذ عوجا. قيل: إن معنى ذلك: ليس فيها أودية وموانع تمنع الناظر أو السائر فيها عن الأخذ على الاستقامة كما يحتاج اليوم من أخذ في بعض سبلها إلى الأخذ يمينا، وأحيانا شمالا، لما فيها من الجبال والأودية والبحار. وأما الأمت فإنه عند العرب: الانثناء والضعف. مسموع منهم، فالواجب إذا كان ذلك معنى "الأمت" عندهم أن يكون أصوب الأقوال في تأويله: ولا ارتفاع ولا انخفاض".
(٢) انظر: روح المعاني ١٦ / ٢٦٤، أضواء البيان: ٤ / ٥١٦.
(٣) انظر تفصيلا في نسبة هذه الأقوال: ابن كثير ٣ / ١٦٦ - ١٦٧، والطبري: ١٦ / ٢١٤ - ٢١٥، زاد المسير: ١٦ / ٢٦٤، والبحر المحيط: ٦ / ٢٨٠.
295
يَعْنِي إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ، ﴿وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ يَعْنِي: وَرَضِيَ قَوْلَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، يَعْنِي: قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (١) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ.
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (١١٢) ﴾
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ، أَيْ يَعْلَمُ اللَّهُ ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ مَا قَدَّمُوا ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ وَمَا خَلَّفُوا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ مِنَ الْآخِرَةِ ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ مِنَ الْأَعْمَالِ.
﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ قِيلَ: الْكِنَايَةُ تَرْجِعُ إِلَى "مَا" أَيْ: هُوَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَهُ. وَقِيلَ: الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ عِبَادَهُ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا. ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾ ذَلَّتْ (٢) وَخَضَعَتْ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ: عَانٍ. وَقَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: هُوَ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَسِرَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ، وَالظُّلْمُ هُوَ الشِّرْكُ. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ "فَلَا يَخَفْ " مَجْزُومًا عَلَى النَّهْيِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ﴾ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ ﴿فَلَا يَخَافُ﴾ مَرْفُوعًا عَلَى الْخَبَرِ، ﴿ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَخَافُ أن يزاد على فِي سَيِّئَاتِهِ، لَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ حَسَنَاتِهِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ ذَنْبُ مُسِيْءٍ (٣).
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يُؤْخَذُ بِذَنْبٍ لَمْ يَعْمَلْهُ وَلَا تُبْطَلُ حَسَنَةٌ عَمِلَهَا (٤) وَأَصِلُ الْهَضْمِ: النَّقْصُ وَالْكَسْرُ، وَمِنْهُ هَضْمُ الطَّعَامِ.
(١) انظر: روح المعاني: ١٦ / ٢٦٥، البحر المحيط: ٦ / ٢٨٠.
(٢) زيادة من "ب".
(٣) ذكره القولين ابن جرير ١٦ / ٢١٨، وأخرج السيوطي قول ابن عباس عن ابن المنذر وابن أبي حاتم، الدر المنثور: ٥ / ٦٠١.
(٤) انظر: زاد المسير: ٥ / ٣٢٤.
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (١١٣) ﴾
﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (١١٥) ﴾
﴿وَكَذَلِكَ﴾ أَيْ كَمَا بَيَّنَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ يَعْنِي أَنْزَلْنَا هَذَا الْكِتَابَ، ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ يَعْنِي: بِلِسَانِ الْعَرَبِ، ﴿وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ﴾ أَيْ صَرَّفْنَا الْقَوْلَ فِيهِ بِذِكْرِ الْوَعِيدِ، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أَيْ يَجْتَنِبُونَ الشِّرْكَ، ﴿أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ أَيْ يُجَدِّدُ لَهُمُ الْقُرْآنُ عِبْرَةً وَعِظَةً فَيَعْتَبِرُوا وَيَتَّعِظُوا بِذِكْرِ عِقَابِ اللَّهِ لِلْأُمَمِ الْخَالِيَةِ. ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ جَلَّ اللَّهُ عَنْ إِلْحَادِ الْمُلْحِدِينَ وَعَمَّا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ، ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ﴾ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ يُبَادِرُ فَيَقْرَأُ مَعَهُ، قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ جِبْرِيلُ مِمَّا يُرِيدُ مِنَ التِّلَاوَةِ، وَمَخَافَةَ الِانْفِلَاتِ وَالنِّسْيَانِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ (١) وَقَالَ: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ﴾ أَيْ لَا تَعْجَلْ بِقِرَاءَتِهِ ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْرَغَ جِبْرِيلُ مِنَ الْإِبْلَاغِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ" (سُورَةُ الْقِيَامَةِ: ١٦) وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: " نَقْضِي " بِالنُّونِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِ الضَّادِ، وَفَتْحِ الْيَاءِ: " وَحْيَهُ " بِالنَّصْبِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لَا تُقْرِئْهُ أَصْحَابَكَ، وَلَا تُمْلِهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ مَعَانِيهِ (٢).
﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ يَعْنِي بِالْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ. وَقِيلَ: عِلْمًا إِلَى مَا عَلِمْتُ.
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا وَإِيمَانًا وَيَقِينًا (٣). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ﴾ يَعْنِي: أَمَرْنَاهُ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَكَ وَتَرَكُوا الْإِيمَانَ بِي، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"، ﴿فَنَسِيَ﴾ فَتَرْكَ الْأَمْرَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ نَقَضُوا الْعَهْدَ، فَإِنَّ آدَمَ أَيْضًا عَهِدْنَا إِلَيْهِ فَنَسِيَ، ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ قَالَ الْحَسَنُ لَمْ نَجِدْ لَهُ صَبْرًا عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: حِفْظًا
(١) انظر: الدر المنثور ٥ / ٦٠٢، وقاله صاحب أضواء البيان ٤ / ٥١٩.
(٢) انظر: زاد المسير ٥ / ٣٢٦.
(٣) عزاه السيوطي في الدر المنثور لسعيد بن منصور وعبد بن حميد عن ابن مسعود ٥ / ٦٠٥.
لِمَا أُمِرَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: رَأْيًا مَعْزُومًا حَيْثُ أَطَاعَ عَدُوَّهُ إِبْلِيسَ الَّذِي حَسَدَهُ وَأَبَى أَنْ يَسْجُدَ لَهُ. وَ"الْعَزْمُ" فِي اللُّغَةِ: هُوَ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى الْفِعْلِ.
قَالَ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ: لَوْ وُزِنَ حِلْمُ آدَمَ بِحِلْمِ جَمِيعِ وَلَدِهِ لَرَجَحَ حِلْمُهُ (١) وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: "وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا".
فَإِنْ قِيلَ: أَتَقُولُونَ إِنَّ آدَمَ كَانَ نَاسِيًا لِأَمْرِ اللَّهِ حِينَ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ؟.
قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَكُنِ النِّسْيَانُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَرْفُوعًا عَنِ الْإِنْسَانِ، بَلْ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ، وَإِنَّمَا رُفِعَ عَنَّا (٢).
وَقِيلَ: نَسِيَ عُقُوبَةَ اللَّهِ وَظَنَّ أَنَّهُ نُهِيَ تَنْزِيهًا.
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (١١٦) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (١١٧) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لَآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾ أَنْ يسجد. ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ﴾ حَوَّاءَ، ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ يَعْنِي: تَتْعَبُ وَتَنْصَبُ، وَيَكُونُ عَيْشُكَ مِنْ كَدِّ يَمِينِكَ بِعَرَقِ جَبِينِكَ. قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي الْحَرْثَ وَالزَّرْعَ وَالْحَصِيدَ وَالطَّحْنَ وَالْخَبِيزَ.
وعن سعيد ١٤/ب بْنِ جُبَيْرٍ: قَالَ أُهْبِطَ إِلَى آدَمَ ثَوْرٌ أَحْمَرُ، فَكَانَ يَحْرُثُ عَلَيْهِ، وَيَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ، فَذَلِكَ [شَقَاؤُهُ (٣).
وَلَمْ يَقُلْ: "فَتَشْقَيَا" رُجُوعًا بِهِ إِلَى آدَمَ، لِأَنَّ تَعَبَهُ أَكْثَرُ فَإِنَّ الرَّجُلَ] (٤) هُوَ السَّاعِي عَلَى زَوْجَتِهِ.
(١) ذكر بعض هذه الأقوال الطبري: (١٦ / ٢٢١ - ٢٢٢) وقال: "وأصل العزم اعتقاد القلب على الشيء يقال منه: عزم فلان على كذا: إذا اعتقد عليه ونواه، ومن اعتقاد القلب: حفظ الشيء، ومنه الصبر على الشيء، لأنه لا يجزع جازع إلا من خور قلبه وضعفه، فإذا كان ذلك كذلك، فلا معنى لذلك أبلغ مما بينه الله تبارك وتعالى، وهو قوله: "ولم نجد له عزما" فيكون تأويله: ولم نجد له عزما قلب على الوفاء لله بعهده، ولا على حفظ ما عهد إليه".
(٢) انظر تفصيلا لهذا في أضواء البيان ٤ / ٥٢٠ - ٥٢٢.
(٣) انظر: زاد المسير ٥ / ٣٢٨.
(٤) ساقط من "أ".
وَقِيلَ: لِأَجْلِ رُءُوسِ الْآيِ.
﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (١٢٠) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١) ﴾
﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا﴾ أَيْ فِي الْجَنَّةِ ﴿وَلَا تَعْرَى﴾ ﴿وَأَنَّكَ﴾ قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: ﴿أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا﴾ ﴿وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ﴾ لَا تَعْطَشُ، ﴿فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾ يَعْنِي: لَا تَبْرُزُ لِلشَّمْسِ فَيُؤْذِيكَ حَرُّهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا تُصِيبُكَ الشَّمْسُ وَأَذَاهَا (١) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَمْسٌ، وَأَهْلُهَا فِي ظِلٍّ مَمْدُودٍ. ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾ يَعْنِي عَلَى شَجَرَةٍ إِنْ أَكَلْتَ مِنْهَا بَقِيتَ مُخَلَّدًا، ﴿وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ لَا يَبِيدُ وَلَا يَفْنَى. ﴿فَأَكَلَا﴾ يَعْنِي آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ﴿مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ﴾ بِأَكْلِ الشَّجَرَةِ، ﴿فَغَوَى﴾ يَعْنِي فَعْلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلُهُ. وَقِيلَ: أَخْطَأَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ (٢) وَضَلَّ حَيْثُ طَلَبَ الْخُلْدَ بِأَكْلِ مَا نُهِيَ عَنْ أَكْلِهِ، فَخَابَ وَلَمْ يَنَلْ مُرَادَهُ.
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَيْ فَسَدَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ، وَصَارَ مِنَ الْعِزِّ إِلَى الذُّلِّ، وَمِنَ الرَّاحَةِ إِلَى التَّعَبِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَصَى آدَمُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: آدَمُ عَاصٍ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ عَاصٍ لِمَنِ اعْتَادَ فِعْلَ الْمَعْصِيَةِ، كَالرَّجُلِ يَخِيطُ ثَوْبَهُ يُقَالُ: خَاطَ ثَوْبَهُ، وَلَا يُقَالُ هُوَ خَيَّاطٌ حَتَّى يُعَاوِدَ ذَلِكَ وَيَعْتَادَهُ (٣).
حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ زِيَادُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَنَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاذٍ الشَّاهُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُزْنِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ بِبَغْدَادَ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى: فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ
(١) عزاه السيوطي لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة: ٥ / ٦٠٥.
(٢) في "ب" الحق.
(٣) انظر: زاد المسير ٥ / ٣٢٩ - ٣٣٠، القرطبي: ١١ / ٢٥٥ - ٢٥٧.
اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى" (١).
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادَ: "قَالَ آدَمُ يَا مُوسَى بِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا، قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى" (٢).
﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (١٢٢) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤) ﴾
﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾ اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ، ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ بِالْعَفْوِ، ﴿وَهَدَى﴾ هَدَاهُ إِلَى التَّوْبَةِ حِينَ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا. ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ﴾ يَعْنِي الْكِتَابَ وَالرَّسُولَ، ﴿فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ رَوَى سعيد بن جبر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ هَدَاهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الضَّلَالَةِ، وَوَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُوءَ الْحِسَابِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ (٣).
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَجَارَ اللَّهُ تَعَالَى تَابِعَ الْقُرْآنِ مِنْ أَنْ يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَيَشْقَى فِي الْآخِرَةِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (٤). ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ، فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَلَمْ يَتَّبِعْهُ، ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾
(١) أخرجه البخاري في القدر، باب تحاج آدم وموسى عند الله: ١١ / ٥٠٥، ومسلم في القدر، باب حجاج آدم موسى عليهما السلام برقم (٢٦٥٢) : ٤ / ٤٠٤٢، والمصنف في شرح السنة: ١ / ١٢٤.
(٢) أخرجه البخاري في القدر، باب تحاج آدم وموسى عند الله: ١١ / ٥٠٥، ومسلم في القدر، باب حجاج آدم موسى عليهما السلام برقم (٢٦٥٢) : ٤ / ٤٠٤٢، والمصنف في شرح السنة: ١ / ١٢٤.
(٣) أخرجه الطبري: ١٦ / ٢٥٥، وعزاه السيوطي في "الدر": (٥ / ٦٠٧) لابن أبي شيبة والطبراني وأبي نعيم في الحلية وابن مردويه عن ابن عباس.
(٤) عزاه السيوطي في "الدر": (٥ / ٦٠٧) للفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس.
ضَيِّقًا، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: يُضْغَطُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ (١).
وَفِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ مَرْفُوعًا. "يَلْتَئِمُ عَلَيْهِ الْقَبْرُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ فَلَا يَزَالُ يُعَذَّبُ حَتَّى يُبْعَثَ" (٢).
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الزَّقُّومُ وَالضَّرِيعُ وَالْغِسْلِينُ فِي النَّارِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْحَرَامُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْكَسْبُ الْخَبِيثُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الشَّقَاءُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَالٍ أُعْطِيَ الْعَبْدُ قَلَّ أَمْ كَثُرَ فَلَمْ يَتَّقِ فِيهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَهُوَ الضَّنْكُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَإِنَّ أَقْوَامًا أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ وَكَانُوا أُولِي سَعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا مُكْثِرِينَ، فَكَانَتْ مَعِيشَتُهُمْ ضَنْكًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِمُخْلِفٍ عَلَيْهِمْ فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ مَعَايِشُهُمْ مِنْ سُوءِ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَسْلُبُهُ الْقَنَاعَةَ حَتَّى لَا يَشْبَعَ (٣).
﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْمَى الْبَصَرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَعْمَى عَنِ الْحُجَّةِ.
﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (١٢٥) ﴾
(١) أخرجه الطبري: ١٦ / ٢٢٧ - ٢٢٨، وانظر الدر المنثور ٥ / ٦٠٧ - ٦٠٩.
(٢) قطعة من حديث أبي هريرة المطول في سؤال الميت في قبره، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: ٣ / ٣٨٣، والطبري: ١٣ / ٢١٥، ١٦ / ٢٢٧ - ٢٢٨، وصححه ابن حبان ص (١٩٧ - ١٩٨) من موارد الظمآن، والحاكم في المستدرك: ١ / ٣٧٩، وهناد في الزهد: ١ / ٤٢٠ - ٤٢٢، ٤٤٢ ورواه مختصرا: الإمام أحمد في المسند: ٢ / ٣٦٤. وله متابعات وشواهد، انظرها في التعليق على الزهد لهناد: ١ / ٤٢١ - ٤٢٣.
(٣) انظر في هذه الأقوال ونسبتها: الطبري: ١٦ / ٢٢٥ - ٢٢٨، الدر المنثور: ٥ / ٦٠٧ - ٦٠٩، زاد المسير: ٥ / ٣٣٠ - ٣٣٢.
﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (١٢٦) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (١٢٧) ﴾
﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ بِالْعَيْنِ أَوْ بَصِيرًا بِالْحُجَّةِ. ﴿قَالَ كَذَلِكَ﴾ أَيْ كَمَا ﴿أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا﴾ فَتَرَكْتَهَا وَأَعْرَضَتْ عَنْهَا، ﴿وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ تُتْرَكُ فِي النَّارِ. قَالَ قَتَادَةُ: نُسُوا مِنَ الْخَيْرِ وَلَمْ يُنْسَوْا مِنَ الْعَذَابِ. ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أَيْ وَكَمَا جَزَيْنَا مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْقُرْآنِ كَذَلِكَ ﴿نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ﴾ أَشَرَكَ،
﴿وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ﴾ مِمَّا يُعَذِّبُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْقَبْرِ، ﴿وَأَبْقَى﴾ وَأَدْوَمُ.
﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (١٢٨) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (١٣٠) ﴾
﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ يُبَيِّنْ لَهُمُ الْقُرْآنُ، يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ، ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ دِيَارِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ إِذَا سَافَرُوا. وَالْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ كَانُوا يُسَافِرُونَ إِلَى الشَّامِ فَيَرَوْنَ دِيَارَ الْمُهْلَكِينَ مَنْ أَصْحَابِ الْحِجْرِ وَثَمُودَ وَقَرْيَاتِ لُوطٍ.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ لِذَوِي الْعُقُولِ. ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكُ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى، وَالْكَلِمَةُ الْحُكْمُ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، أَيْ وَلَوْلَا حُكْمٌ سَبَقَ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ وَأَجَلٌ مُسَمًّى وَهُوَ الْقِيَامَةُ لَكَانَ لِزَامًا، أَيْ لَكَانَ الْعَذَابُ لَازِمًا لَهُمْ كَمَا لَزِمَ الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ الْكَافِرَةَ. ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ (١) ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾، أَيْ صَلِّ بِأَمْرِ رَبِّكَ. وَقِيلَ: صَلِّ لِلَّهِ بِالْحَمْدِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾ يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، ﴿وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ صَلَاةَ الْعَصْرِ، ﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ﴾ سَاعَاتِهَا وَاحِدُهَا إِنْيٌ، ﴿فَسَبِّحْ﴾ يَعْنِي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ يَعْنِي صَلَاةَ الظُّهْرِ، وَسَمَّى وَقْتَ الظُّهْرِ أَطْرَافَ النَّهَارِ لِأَنَّ وَقْتَهُ عِنْدَ الزَّوَالِ، وَهُوَ طَرَفُ النِّصْفِ الْأَوَّلِ انْتِهَاءً وَطَرَفُ النِّصْفِ الْآخَرِ ابْتِدَاءً.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَمِنْ أَطْرَافِ النَّهَارِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ، لِأَنَّ الظَّهْرَ فِي
(١) انظر فيما سبق: ٣ / ٣٢ تعليق (١).
آخِرِ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّهَارِ، وَفِي أَوَّلِ الطَّرَفِ الْآخِرِ، فَهُوَ فِي طَرَفَيْنِ مِنْهُ وَالطَّرَفُ الثَّالِثُ غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُصَلَّى الْمَغْرِبُ.
﴿لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ أي ترضى ١٥/أثَوَابَهُ فِي الْمَعَادِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ "تَرْضَى" بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ تُعْطَى ثَوَابَهُ. وَقِيلَ: ﴿تَرْضَى﴾ أَيْ يَرْضَاكَ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: "وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا" (مَرْيَمَ: ٥٥) وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ لَعَلَّكَ تَرْضَى بِالشَّفَاعَةِ، كَمَا قَالَ: "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى" (الضَّحَى: ٥).
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْخَطِيبُ الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ إِمْلَاءً، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّعْدِيُّ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: "إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا"، ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ (١).
﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ قَالَ أَبُو رَافِعٍ: نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَيْفٌ فَبَعَثَنِي إِلَى يَهُودِيٍّ فَقَالَ لِي: "قُلْ لَهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ لَكَ بِعْنِي كَذَا وَكَذَا مِنَ الدَّقِيقِ وَأَسْلِفْنِي إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ" فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: وَاللَّهُ لَا أَبِيعُهُ وَلَا أُسْلِفُهُ إِلَّا بَرْهَنٍ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: "وَاللَّهِ لَئِنْ بَاعَنِي وَأَسْلَفَنِي لَقَضَيْتُهُ وَإِنِّي لِأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ وَأَمِينٌ فِي الْأَرْضِ، اذْهَبْ بِدِرْعِي الْحَدِيدِ إِلَيْهِ" فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ (٢) لَا تَنْظُرْ، ﴿إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ﴾ أَعْطَيْنَا، ﴿أَزْوَاجًا﴾ أَصْنَافًا، ﴿مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أَيْ زِينَتَهَا وَبَهْجَتَهَا، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ زَهَرَةَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِجَزْمِهَا، ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ أَيْ لِنَجْعَلَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ بِأَنْ أُزِيدَ لَهُمُ النِّعْمَةَ فَيَزِيدُوا كُفْرًا وَطُغْيَانًا، ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ﴾ فِي الْمَعَادِ، يَعْنِي: الْجَنَّةَ، ﴿خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَنْ لم يتعز
(١) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر: ٢ / ٣٣، ومسلم في المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما برقم: (٦٣٣) : ١ / ٤٣٩، والمصنف في شرح السنة: ٢ / ٢٢٤.
(٢) أخرجه إسحاق وابن أبي شيبة وأبو يعلي والبزار والطبري والطبراني وفيه موسى بن عبيدة الزبيري وهو متروك، الكافي الشاف ص (١٠٩) والواحدي في أسباب النزول: ص (٣٥٢)، وانظر القرطبي: ١١ / ٢٦٣ فقد أيد بطلان هذه الرواية.
بعز اللَّهِ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ حَسَرَاتٍ، وَمَنْ يُتْبِعْ بَصَرَهُ فِيمَا فِي أَيْدِ النَّاسِ بَطَلَ حُزْنُهُ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَلْبَسِهِ فَقَدْ قَلَّ عَمَلُهُ وَحَضَرَ عَذَابُهُ.
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (١٣٢) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤) ﴾
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ﴾ أَيْ قَوْمَكَ. وَقِيلَ: مَنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ" (مَرْيَمَ: ٥٥)، ﴿وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ أَيِ اصْبِرْ عَلَى الصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
﴿لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا﴾ لَا نُكَلِّفُكَ أَنْ تَرْزُقَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِنَا، وَلَا أَنْ تَرْزُقَ نَفْسَكَ وَإِنَّمَا نُكَلِّفُكَ عَمَلًا ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ﴾ الْخَاتِمَةُ الْجَمِيلَةُ الْمَحْمُودَةُ، ﴿لِلتَّقْوَى﴾ أَيْ لِأَهْلِ التَّقْوَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ صَدَّقُوكَ وَاتَّبَعُوكَ وَاتَّقَوْنِي.
وَفِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ إِذَا أَصَابَ أَهْلَهُ ضُرٌّ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (١). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا﴾ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، ﴿لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ أَيِ الْآيَةُ الْمُقْتَرَحَةُ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَاهُمْ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ، ﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: " تَأْتِهِمْ " لِتَأْنِيثِ الْبَيِّنَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْبَيَانُ فَرُدَّ إِلَى الْمَعْنَى، ﴿بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾ أَيْ بَيَانُ مَا فِيهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ أَقْوَى دَلَالَةٍ وَأَوْضَحُ آية.
وقيل: أو لم يَأْتِهِمْ بَيَانُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى: التَّوْرَاةُ، وَالْإِنْجِيلُ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ، فَلَمَّا أَتَتْهُمْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، كَيْفَ عَجَّلْنَا لَهُمُ الْعَذَابَ وَالْهَلَاكَ، فَمَا يُؤَمِّنُهُمْ إِنْ أَتَتْهُمُ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ كَحَالِ أُولَئِكَ. ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ﴾ مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِ الرَّسُولِ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ، ﴿لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا﴾
(١) رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات، مجمع الزوائد: ٧ / ٦٧.
هَلَّا ﴿أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا﴾ يَدْعُونَا، أَيْ: لَقَالُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ بِالْعَذَابِ، وَالذُّلِّ، وَالْهَوَانِ، وَالْخِزْيِ، وَالِافْتِضَاحِ.
﴿قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (١٣٥) ﴾
﴿قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ﴾ مُنْتَظِرٌ دَوَائِرَ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا نَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ حَوَادِثَ الدَّهْرِ، فَإِذَا مَاتَ تَخَلَّصْنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ فَانْتَظِرُوا، ﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ إِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ، ﴿مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ﴾ الْمُسْتَقِيمِ، ﴿وَمَنِ اهْتَدَى﴾ مِنَ الضَّلَالَةِ نَحْنُ أَمْ أَنْتُمْ؟.
Icon