آيها أربع وثلاثون
هي مكية إلا الآيات٢٨، ٢٩، ٣٠ فمدنية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة قال له أحبار اليهود : بلغنا أنك تقول :" وما أوتيتم من العلم إلا قليلا }أعنيتنا أم قومك ؟ قال : كلا عنيت، فقالوا : إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء، فقال عليه الصلاة والسلام :" ذلك في علم الله قليل "، فأنزل الله هؤلاء الآيات.
نزلت بعد الصافات :
وسبب نزولها أن قريشا سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة لقمان مع ابنه وعن بره والديه، فنزلت.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
إنه تعالى قال في السورة السالفة :( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل }( الروم : ٥٨ )وأشار إلى ذلك في مفتتح هذه السورة.
إنه قال في آخر ما قبلها :﴿ ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون ﴾( الروم : ٥٨ )وقال في هذه :﴿ وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا ﴾( لقمان : ٧ ).
إنه قال في السورة السابقة :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ﴾( الروم : ٢٧ )وقال هنا :﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ﴾( لقمان : ٢٨ )، ففي كلتيهما إفادة سهولة البعث.
إنه ذكر هناك قوله :﴿ وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ﴾( الروم : ٣٣ )، وقال هنا :﴿ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ﴾( لقمان : ٣٢ )فذكر في كل من الآيتين قسما لم يذكره في الآخر.
إنه ذكر في السورة التي قبلها محاربة ملكين عظيمين لأجل الدنيا، وذكر هنا قصة عبد مملوك زهد فيها، وأوصى ابنه بالصبر والمسالمة، وذلك يقتضي ترك المحاربة، وبين الأمرين التقابل وشاسع البون كما لا يخفى.
ﰡ
﴿ الم( ١ )تلك آيات الكتاب الحكيم( ٢ )هدى ورحمة للمحسنين( ٣ )الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون( ٤ )أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ﴾( لقمان : ١-٥ ).
الإيضاح :﴿ الم ﴾تقدم تفسير هذا مرارا بإسهاب.
ولما كان المتصفون بهذه الخلال هم الغاية في الهداية والفلاح قال :﴿ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ﴾.
تفسير المفردات : المراد بلهو الحديث : الجواري المغنيات، وكتب الأعاجم، وقد اشتريت حقيقة. وقال ابن مسعود : لهو الحديث : الرجل يشتري جارية تغنيه ليلا ونهارا، وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في لهو الحديث :" إنما ذلك شراء الرجل اللعب والباطل "، وسبيل الله : هو دينه، والهزو : السخرية، مهين : أي تلحقهم به الإهانة.
المعنى الجملي : بعد أن بين حال السعداء الذين يهتدون بكتاب الله، وينتفعون بسماعه ؛ وهم الذين قال الله فيهم :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ﴾( الزمر : ٢٣ )أردف ذلك ذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب.
روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في النضر بن الحارث اشترى قينة( مغنية )وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام ؛ إلا انطلق بها إليه، فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه.
وروي عن مقاتل أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشا، ويقول لهم : إن محمدا يحدثكم حديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم حديث رستم واسفنديار، وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون سماع القرآن.
الإيضاح :﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا ﴾أي ومن الناس فريق يتخذ ما يتلهى به عن الحديث النافع للإنسان في دينه، فيأتي بالخرافات والأساطير والمضاحيك وفضول الكلام، كالنضر بن الحارث الذي كان يشتري الكتب، ويحدّث بها الناس، وربما اشترى الفتيات، وأمرهن بمعاشرة من أسلم، ليحملهم على ترك الإسلام، وما مقصده من ذلك إلا الإضلال، والصد عن دين الله وقراءة كتابه، واتخاذه هزوا ولعبا.
وعن نافع قال : كنت أسير مع عبد الله بن عمر في الطريق، فسمع مزمارا، فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل عن الطريق، فلم يزل يقول : يا نافع أتسمع ؟ قلت : لا، فأخرج أصبعيه من أذنيه، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع. وعن ابن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ومزامير شيطان. وصوت عند مصيبة خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان ".
والخلاصة : إن سماع الغناء الذي يحرك النفوس، ويبعثها إلى اللهو والمجون بكلام يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات، لا خلاف في تحريمه، أما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح : كالعرس والعيد، وحين التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشة - عبد أسود كان يقود راحلة نساء النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأما ما ابتدعه الصوفية من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام، وأما طبل الحرب فلا حرج فيه، لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو، فقد ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة، فهمّ أبو بكر بالزجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح " فكنّ يضربن ويقلن : نحن بنات النجار، حبذا محمد من جار.
ولا بأس من استعمال الطبل والدف في النكاح. وكذا الآلات المشهرة به والغناء بما يحسن من الكلام مما لا رفث فيه.
وسماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم لا يجوز.
ثم بين عاقبة أمرهم، فقال :
﴿ أولئك لهم عذاب مهين ﴾أي إنه كتب لهم العذاب والخزي يوم القيامة، لأنهم لما أهانوا الحق باختيارهم الباطل - جوزوا بإهانتهم يوم الجزاء بعذاب يفضحهم ويخزيهم أمام الخلائق.
ثم أشار سبحانه إلى أن هذا داء قد استشرى في نفسه، فكلما تليت عليه آية ازداد إباء ونفورا، فقال :﴿ وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن بين حال السعداء الذين يهتدون بكتاب الله، وينتفعون بسماعه ؛ وهم الذين قال الله فيهم :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ﴾( الزمر : ٢٣ )أردف ذلك ذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب.
روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في النضر بن الحارث اشترى قينة( مغنية )وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام ؛ إلا انطلق بها إليه، فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه.
وروي عن مقاتل أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشا، ويقول لهم : إن محمدا يحدثكم حديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم حديث رستم واسفنديار، وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون سماع القرآن.
الإيضاح :﴿ وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا ﴾أي وإذا تتلى آيات الكتاب الكريم على هذا الذي اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله - يعرض عن سماعها ويولي مستكبرا، كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه ثقلا، فلا يصيخ لها، ولا يأبه لتلقفها وتأملها.
ونحو الآية قوله :﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ﴾( فصلت : ٤٤ ).
ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما يزيل كبره وعظمته قال :
﴿ فبشره بعذاب أليم ﴾أي فبشر هذا المعرض وأوعده بالعذاب الذي يؤلمه ويقض مضجعه يوم القيامة.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر حال من أعرض عن الآيات وبين مآله - عطف على ذلك ذكر مآل من قبل تلك الآيات وأقبل على تلاوتها والانتفاع بها.
الإيضاح :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم * خالدين فيها ﴾أي إن الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة، فأتوا بما أمرهم به ربهم في كتابه على لسان رسله، وانتهوا عما نهاهم عنه لهم جنات ينعمون فيها بأنواع اللذات والمسار من المآكل والمشارب، والملابس والمراكب، مما لم يخطر لأحدهم ببال، وهم فيها مقيمون دائما لا يظعنون، ولا يبغون عنها حولا.
﴿ وعد الله حقا ﴾أي ما أخبرنا به كائن لا محالة، لأنه وعد الله الذي لا يخلف وعده وهو الكريم المنان على عباده.
﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾أي وهو الشديد في انتقامه من أهل الشرك به، الصادّين عن سبيله الحكيم في تدبير خلقه، فلا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة لهم.
تفسير المفردات : العمد : واحدها عماد، وهو ما يعمد به أي يسند به، تقول : عمدت الحائط إذا دعمته، رواسي : أي جبالا ثوابت، تميد أي تضطرب، والبث : الإثارة والتفريق كما قال :﴿ كالفراش المبثوث ﴾( القارعة : ٤ )والمراد الإيجاد والإظهار : وزوج : أي صنف، كريم : أي شريف كثير المنفعة.
المعنى الجملي : بعد أن أبان فيما سلف كمال قدرته وإتقان عمله - أردف ذلك الاستشهاد لما سلف بخلق السماوات والأرض وما بعده، مع تقرير وحدانيته، وإبطال أمر الشرك، وتبكيت أهله.
الإيضاح :﴿ خلق السماوات بغير عمد ترونها ﴾أي ومن الأدلة على قدرته البالغة، وحكمته الظاهرة أن خلق السماوات السبع بغير عمد تستند إليه، بل هي قائمة بقدر الحكيم الفعال لما يشاء، وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة الرعد.
﴿ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ﴾أي وجعل على ظهر الأرض ثوابت الجبال، لئلا تضطرب بكم، وتميد بالمياه المحيطة بها، الغامرة لأكثرها.
﴿ وبث فيها من كل دابة ﴾أي وذرأ فيها من أصناف الحيوان ما لا يعلم عددها ومقادير أشكالها وألوانها إلا الذي أفطرها.
﴿ وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم ﴾أي وأنزلنا من السماء مطرا فكان ذلك سببا لإنبات كل صنف كريم، من النبات ذي المنافع الكثيرة.
الإيضاح : ثم بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه، فأروني ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة فقال :
﴿ هذا خلق الله ﴾أي هذا الذي تشاهدونه من السماوات والأرض وما فيهما من الخلق خلق الله وحده دون أن يكون له شريك في ذلك.
فأروني ماذا خلق الذين من دونه }أي فأخبروني أيها المشركون الذين تعبدون هذه الأصنام والأوثان : أي شيء خلق الذين من دونه مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة، حتى استحقوا به العبودية، كما استحق ذلك عليكم خالقكم وخالق هذه الأشياء التي عددتها لكم ؟.
ثم انتقل من توبيخهم بما ذكر إلى تسجيل الضلال عليهم، المستدعي للإعراض عنهم، وعدم مخاطبتهم بالمعقول من القول لاستحالة أن يفهموا منه شيئا فيهتدوا إلى بطلان ما هم عليه، فقال :
﴿ بل الظالمون في ضلال مبين ﴾أي بل المشركون بالله، العابدون معه غيره في جهل وعمي واضح لا اشتباه فيه لمن تأمله ونظر فيه، فأنّى لهم أن يرعووا عن غيّ أو يهتدوا إلى رشد وحق ؟.
تفسير المفردات : لقمان كان نجارا أسود من سودان مصر ذا مشارف آتاه الله الحكمة، ومنحه النبوة. والحكمة : العقل والفطنة، وقد نسب إليه من المقالات الحكيمة شيء كثير، كقوله لابنه : أي بني إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها ناس كثيرون، فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى، وحشوها الإيمان وشراعها التوكل على الله، لعلك تنجو، ولا أراك ناجيا.
وقوله : ما كان له من نفسه واعظ، كان له من الله حافظ، ومن أنصف الناس من نفسه، زاده الله بذلك عزا، والذل في طاعة الله، أقرب من التعزز بالمعصية.
وقوله : يا بنيّ لا تكن حلوا فتبتلع، ولا مرا فتلفظ.
وقوله : يا بني إذا أردت أن تواخي رجلا فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه فآخه، وإلا فاحذره.
والشكر : الثناء على الله تعالى، وإصابة الحق، وحب الخير للناس، وتوجيه الأعضاء وجميع النعم لما خلقت له.
المعنى الجملي : بعد أن بين فساد اعتقاد المشركين بإشراك من لا يخلق شيئا بمن خلق كل شيء، ثم بين أن المشرك ظالم ضال - أعقب ذلك ببيان أن نعمه الظاهرة في السماوات والأرض والباطنة : من العلم والحكمة ترشد إلى وحدانيته، وقد آتاهم لبعض عباده كلقمان الذي فطر عليها دون نبي أرشده، ولا رسول بعث إليه.
الإيضاح :﴿ ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ﴾أي ولقد أعطى سبحانه لقمان الحكمة، وهي شكره وحمده على ما آتاه من فضله بالثناء عليه بما هو أهل له، وحب الخير للناس، وتوجيه الأعضاء إلى ما خلقت له.
﴿ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ﴾لأن الله يجزل له على شكره الثواب، وينقذه من العذاب كما قال :﴿ ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ﴾( الروم : ٤٤ ).
﴿ ومن كفر فإن الله غني حميد ﴾أي ومن كفر نعم الله عليه، فإلى نفسه أساء، لأن الله معاقبه على كفرانه إياها، والله غني عن شكره، لأن شكره لا يزيد في سلطانه، وكفرانه لا ينقص من ملكه، وهو المحمود على كل حال، كفر العبد أو شكر.
تفسير المفردات : العظة : تذكير بالخير يرق له القلب.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن لقمان أوتي الحكمة، فشكر ربه على نعمه المتظاهرة عليه وهو يرى آثارها في الآفاق والأنفس آناء الليل وأطراف النهار - أردف ذلك ببيان أنه وعظ ابنه بذلك أيضا، ثم استطرد في أثناء هذه المواعظ إلى ذكر وصايا عامة وصى بها سبحانه الأولاد في معاملة الوالدين رعاية لحقوقهم، وردّا لما أسدوه من جميل النعم إليهم، وهم لا يستطيعون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، على ألا يتعدى ذلك إلى حقوقه تعالى، ثم رجع إلى ذكر بقية المواعظ التي يتعلق بعضها بحقوقه، وبعضها يرجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض.
الإيضاح :﴿ وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ﴾أي واذكر أيها الرسول الكريم موعظة لقمان لابنه، وهو أشفق الناس عليه، وأحبهم لديه حين أمره أن يعبد الله وحده، ونهاه عن الشرك، وبين له أنه ظلم عظيم ؛ أما كونه ظلما، فلما فيه من وضع الشيء في غير موضعه، وأما أنه عظيم، فلما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه، وهو سبحانه وتعالى، ومن لا نعمة لها، وهي الأصنام والأوثان.
روى البخاري عن ابن مسعود قال : لما نزل قوله تعالى :﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ﴾( الأنعام : ٨٢ )شق ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنه ليس بذلك، ألا تسمعون لقول لقمان :﴿ يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ﴾.
وبعد أن ذكر سبحانه ما أوصى به لقمان ابنه من شكر المنعم الأول الذي لم يشركه في إيجاده أحد، وذكر ما في الشرك من الشناعة أتبعه بوصيته الولد بالوالدين لكونهما السبب في وجوده، فقال :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن لقمان أوتي الحكمة، فشكر ربه على نعمه المتظاهرة عليه وهو يرى آثارها في الآفاق والأنفس آناء الليل وأطراف النهار - أردف ذلك ببيان أنه وعظ ابنه بذلك أيضا، ثم استطرد في أثناء هذه المواعظ إلى ذكر وصايا عامة وصى بها سبحانه الأولاد في معاملة الوالدين رعاية لحقوقهم، وردّا لما أسدوه من جميل النعم إليهم، وهم لا يستطيعون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، على ألا يتعدى ذلك إلى حقوقه تعالى، ثم رجع إلى ذكر بقية المواعظ التي يتعلق بعضها بحقوقه، وبعضها يرجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض.
الإيضاح :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه ﴾أي وأمرناه ببرهما وطاعتهما، والقيام بحقوقهما، وكثيرا ما يقرن القرآن بين طاعة الله وبر الوالدين كقوله :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ﴾( الإسراء : ٢٣ ).
ثم ذكر منة الوالدة خاصة لما فيها من كبير المشقة، فقال :
﴿ حملته أمه وهنا على وهن ﴾أي حملته وهي ضعف يتزايد بازدياد ثقل الحمل إلى حين الطلق، ثم مدة النفاس.
ثم أردفها ذكر منة أخرى، وهي الشفقة عليه وحسن كفالته حين لا يملك لنفسه شيئا، فقال :
﴿ وفصاله في عامين ﴾أي وفطامه من الرضاع بعد وضعه في عامين تقاسي فيهما الأم في رضاعه وشؤونه في تلك الحقبة جمّ المصاعب والآلام التي لا يقدر قدرها إلا العليم بها، ومن لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وقد وصى بالوالدين لكنه ذكر السبب في جانب الأم فحسب، لأن المشقة التي تلحقها أعظم، فقد حملته في بطنها ثقيلا، ثم وضعته وربته ليلا ونهارا، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله من أبرّ ؟ :" أمك، ثم أمك، ثم أمك "، ثم قال بعد ذلك :" ثم أباك ".
ثم فسر هذه الوصية بقوله :
﴿ أن اشكر لي ولوالديك ﴾أي وعهدنا إليه أن اشكر لي على نعمي عليك، ولوالديك لأنهما كانا السبب في وجودك، وإحسان تربيتك، وملاقاتهما ما لاقيا من المشقة حتى استحكمت قواك.
ثم علل الأمر بشكره محذرا إياه بقوله :
﴿ إلي المصير ﴾أي إلي الرجوع، لا إلى غيري، فأجازيك على ما صدر منك مما يخالف أمري، وسائلك عما كان من شكرك لي على نعمي عليك، وعلى ما كان من شكرك لوالديك وبرّك بهما.
وبعد أن ذكر سبحانه وصيته بالوالدين وأكد حقهما، ووجوب طاعتهما استثنى من ذلك حقوقه تعالى، فإنه لا يجب طاعتهما فيما يغضبه، فقال :﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن لقمان أوتي الحكمة، فشكر ربه على نعمه المتظاهرة عليه وهو يرى آثارها في الآفاق والأنفس آناء الليل وأطراف النهار - أردف ذلك ببيان أنه وعظ ابنه بذلك أيضا، ثم استطرد في أثناء هذه المواعظ إلى ذكر وصايا عامة وصى بها سبحانه الأولاد في معاملة الوالدين رعاية لحقوقهم، وردّا لما أسدوه من جميل النعم إليهم، وهم لا يستطيعون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، على ألا يتعدى ذلك إلى حقوقه تعالى، ثم رجع إلى ذكر بقية المواعظ التي يتعلق بعضها بحقوقه، وبعضها يرجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض.
الإيضاح :﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ﴾أي وإن ألحف عليك والداك في الطلب، وشدا النكير عليك، بأن تشرك بي في عبادتي غيري مما لا تعلم أنه شريك لي، فلا تطعهما فيما أمراك به، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به.
روي أن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص قال : لما أسلمت حلفت أمي لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا، فناشدتها أول يوم وصبرت، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها فأبت، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت، فقلت : والله لو كانت لك مائة نفس لخرجت قبل أن أودع ديني هذا، فلما رأت ذلك وعرفت أني لست فاعلا أكلت.
﴿ وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾أي وصاحبهما في أمور الدنيا صحبة يرتضيها الدين، ويقتضيها الكرم والمروءة، بإطعامهما وكسوتهما، وعدم جفائهما وعيادتهما إذا مرضا، ومواراتهما في القبر إذا ماتا.
وقوله :﴿ في الدنيا ﴾إشارة إلى تهوين أمر الصحبة، لأنها في أيام قلائل وشيكة الانقضاء، فلا يصعب تحمل مشقتها.
ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة فيه نفي ذلك بقوله :
﴿ واتبع سبيل من أناب إلي ﴾أي واسلك سبيل من تاب من شركه ورجع إلى الإسلام، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم.
والخلاصة : واتبع سبيلي بالتوحيد، والإخلاص والطاعة، لا سبيلهما.
﴿ ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ﴾أي ثم مصيركم إليّ بعد مماتكم، فأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشر، ثم أجازيكم عليه، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن لقمان أوتي الحكمة، فشكر ربه على نعمه المتظاهرة عليه وهو يرى آثارها في الآفاق والأنفس آناء الليل وأطراف النهار - أردف ذلك ببيان أنه وعظ ابنه بذلك أيضا، ثم استطرد في أثناء هذه المواعظ إلى ذكر وصايا عامة وصى بها سبحانه الأولاد في معاملة الوالدين رعاية لحقوقهم، وردّا لما أسدوه من جميل النعم إليهم، وهم لا يستطيعون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، على ألا يتعدى ذلك إلى حقوقه تعالى، ثم رجع إلى ذكر بقية المواعظ التي يتعلق بعضها بحقوقه، وبعضها يرجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض.
الإيضاح : ثم عاد إلى ذكر بقية وصايا لقمان لابنه بعد أن نهى في مطلعها عن الشرك وأكده بالاعتراض الذي ذكره بقوله :
﴿ يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله ﴾أي يا بني إن الفعلة من الإساءة والإحسان إن تك وزن حبة من خردل فتكن في أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو في أعلى مكان كالسماوات أو في أسفله كباطن الأرض - يحضرها الله يوم القيامة، حين يضع الموازين القسط، ويجازي عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كما قال تعالى :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة قلا تظلم نفس شيئا ﴾( الأنبياء : ٤٧ ).
﴿ إن الله لطيف خبير ﴾أي إن الله لطيف يصل علمه إلى كل خفي، خبير : يعلم ظواهر الأمور وخوافيها.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن لقمان أوتي الحكمة، فشكر ربه على نعمه المتظاهرة عليه وهو يرى آثارها في الآفاق والأنفس آناء الليل وأطراف النهار - أردف ذلك ببيان أنه وعظ ابنه بذلك أيضا، ثم استطرد في أثناء هذه المواعظ إلى ذكر وصايا عامة وصى بها سبحانه الأولاد في معاملة الوالدين رعاية لحقوقهم، وردّا لما أسدوه من جميل النعم إليهم، وهم لا يستطيعون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، على ألا يتعدى ذلك إلى حقوقه تعالى، ثم رجع إلى ذكر بقية المواعظ التي يتعلق بعضها بحقوقه، وبعضها يرجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض.
الإيضاح :﴿ يا بني أقم الصلاة ﴾أي أدها كاملة على النحو المرضي، لما فيها من رضا الرب بالإقبال عليه والإخبات له، ولما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، وإذا تم ذلك صفت النفس وأنابت إلى بارئها في السراء والضراء كما جاء في الحديث :" اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك ".
وبعد أن أمره بتكميل نفسه توفية لحق الله عليه عطف على ذلك تكميله لغيره، فقال :
﴿ وأمر بالمعروف ﴾أي وأمر غيرك بتهذيب نفسه قدر استطاعتك، تزكية لها، وسعيا إلى الفلاح، كما قال :﴿ قد أفلح من زكاها( ٩ )وقد خاب من دساها ﴾( الشمس : ٩-١٠ ).
﴿ وإنه عن المنكر ﴾أي وانه الناس عن معاصي الله ومحارمه التي توبق من اكتسبها، وتلقي به في عذاب السعير، في جهنم وبئس المصير.
﴿ واصبر على ما أصابك ﴾من أذى الناس في ذات الله إذا أنت أمرتهم بالمعروف أو نهيتهم عن المنكر.
وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة، وختمها بالصبر، لأنهما عمادا لاستعانة إلى رضوان الله كما قال :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾( البقرة : ٤٥ ).
ثم ذكر علة ذلك، فقال :
﴿ إن ذلك من عزم الأمور ﴾أي إن ذلك الذي أوصيك به من الأمور التي جعلها الله محتومة على عباده لا محيص منها، لما لها من جزيل الفوائد، وعظيم المنافع، في الدنيا والآخرة، كما دلت على ذلك تجارب الحياة وأرشدت إليه نصوص الدين.
وبعد أن أمره بأشياء حذره من أخرى، فقال :
١ )﴿ ولا تصعر خدك للناس ﴾.
٢ )﴿ ولا تمش في الأرض مرحا ﴾.
٣ )﴿ واقصد في مشيك ﴾.
وكنا إذا الجبار صعر خده | أقمنا له من ميله فتقوما |
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن لقمان أوتي الحكمة، فشكر ربه على نعمه المتظاهرة عليه وهو يرى آثارها في الآفاق والأنفس آناء الليل وأطراف النهار - أردف ذلك ببيان أنه وعظ ابنه بذلك أيضا، ثم استطرد في أثناء هذه المواعظ إلى ذكر وصايا عامة وصى بها سبحانه الأولاد في معاملة الوالدين رعاية لحقوقهم، وردّا لما أسدوه من جميل النعم إليهم، وهم لا يستطيعون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، على ألا يتعدى ذلك إلى حقوقه تعالى، ثم رجع إلى ذكر بقية المواعظ التي يتعلق بعضها بحقوقه، وبعضها يرجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض.
الإيضاح : ١ )﴿ ولا تصعر خدك للناس ﴾أي ولا تعرض بوجهك عمن تكلمه تكبرا واحتقارا له، بل أقبل عليه بوجهك كله متهللا مستبشرا من غير كبر ولا عتو.
ومن هذا ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ".
٢ )﴿ ولا تمش في الأرض مرحا ﴾أي ولا تمش في الأرض مختالا متبخترا، لأن تلك مشية الجبارين المتكبرين الذين يبغون في الأرض، ويظلمون الناس، بل امش هونا، فإن ذلك يفضي إلى التواضع، وبذا تصل إلى كل خير.
روى يحيى بن جابر الطائي عن غضيف بن الحارث قال :" جلست إلى عبد الله بن عمرو بن العاصي، فسمعته يقول : إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه : فيقول : يابن آدم ما غرك بي ؟ ألم تعلم أني بيت الوحدة ؟ ألم تعلم أني بيت الظلمة ؟ ألم تعلم أني بيت الحق ؟ يابن آدم ما غرك بي ؟ لقد كنت تمشي حولي فدّادا( ذا خيلاء وكبر ) ". وفي الحديث :" من جرّ ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة ".
ثم ذكر علة هذا النهي بقوله :
﴿ إن الله لا يحب كل مختال فخور ﴾أي إن الله لا يحب المختال المعجب بنفسه، الفخور على غيره، ونحو الآية ما مر من قوله :﴿ ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ﴾( الإسراء : ٣٧ ).
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن لقمان أوتي الحكمة، فشكر ربه على نعمه المتظاهرة عليه وهو يرى آثارها في الآفاق والأنفس آناء الليل وأطراف النهار - أردف ذلك ببيان أنه وعظ ابنه بذلك أيضا، ثم استطرد في أثناء هذه المواعظ إلى ذكر وصايا عامة وصى بها سبحانه الأولاد في معاملة الوالدين رعاية لحقوقهم، وردّا لما أسدوه من جميل النعم إليهم، وهم لا يستطيعون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، على ألا يتعدى ذلك إلى حقوقه تعالى، ثم رجع إلى ذكر بقية المواعظ التي يتعلق بعضها بحقوقه، وبعضها يرجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض.
الإيضاح : ٣ )﴿ واقصد في مشيك ﴾أي وامش مشيا مقتصدا ليس بالبطيء المتثبّط، ولا بالسريع المفرط، بل امش هونا بلا تصنع ولا مراءاة للخلق، بإظهار التواضع أو التكبر.
روي عن عائشة أنها نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتا، فقالت : ما لهذا ؟ فقيل : إنه من القراء( الفقهاء العالمين بكتاب الله )قالت : كان عمر سيد القراء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع.
ورأى عمر رجلا متماوتا، فقال له : لا تمت علينا ديننا أماتك الله. ورأى رجلا مطأطئا رأسه، فقال له :" ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمريض ".
﴿ واغضض من صوتك ﴾أي وانقص منه وأقصر، ولا ترفع صوتك حيث لا يكون إلى ذلك حاجة، لأنه أوقر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه.
ثم علل النهي وبينه بقوله :
﴿ إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ﴾أي إن أبشع الأصوات وأقبحها برفعها فوق الحاجة بلا داع هو صوت الحمير، وغاية من يرفع صوته أنه يجعله شبيها بصوت الحمار في علوه ورفعه، وهو البغيض إلى الله.
وفي ذلك ما لا يخفى من الذم، وتهجين رفع الصوت، والترغيب عنه، ومن جعل الرافع صوته كأنه حمار مبالغة في التنفير من عمله، وهذا أدب من الله لعباده بترك الصياح وجوه الناس تهاونا بهم، أو بترك الصياح جملة.
وقد كانت العرب تفخر بجهارة الصوت، فمن كان منهم أشد صوتا كان أعز، ومن كان أخفض كان أذل، قال شاعرهم :
جهير الكلام جهير العطاس | جهير الرواء جهير النعم |
ويعدو على الأين عدو الظليم | ويعلو الرجال بخلق عمم١ |
المعنى الجملي : بعد أن أقام الأدلة على التوحيد، وذكر أن لقمان فهمه بالحكمة دون أن يرسل إليه نبي - عاد إلى خطاب المشركين وتوبيخهم على إصرارهم على ما هم عليه من الشرك مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد لائحة للعيان، يشاهدونها في كل آن، في السماوات والأرض، وتسخيرهم لما فيها مما فيه مصالحهم في المعاش والمعاد، وإنعامه عليهم بالنعم المحسوسة والمعقولة، المعروفة لهم وغير المعروفة ؛ ثم أبان أن كثيرا من الناس يجادلون في توحيد الله وصفاته بدون دليل عقلي على ما يدّعون، ولا رسول أرسل إليهم بما عنه يناضلون، ولا كتاب أنزل إليهم يؤيد ما يعتقدون، وإذا هم أفحموا بالحجة والسلطان المبين، لم يجدوا جوابا إلا تقليد الآباء والأجداد بنحو قولهم :﴿ إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾( الزخرف : ٢٣ )وما ذاك إلا من نزغات الشيطان، والشيطان لا يدعو إلا إلى الضلال الموصل إلى النار، وبئس القرار.
الإيضاح :﴿ ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ﴾أي ألم تروا أيها الناس أن الله الذي سخر لكم ما في السماوات من شمس وقمر، ونجوم، تستضيئون بها ليلا ونهارا، وتهتدون بها في ظلمات البر والبحر، وسحاب ينزل لكم الأمطار لسقي الناس والحيوان والمزارع المختلفة، وما في الأرض من الدواب والأشجار، والمياه والبحار، والسفن والمعادن التي في باطنها، إلى نحو ذلك من المنافع التي جعلها لغذائكم وأقواتكم، فتتمتعون ببعض ذلك، وتنتفعون بجميع ذلك، وأتم عليكم نعمه محسوسة وغير محسوسة.
والخلاصة : إنه تعالى نبه خلقه إلى ما أنعم به عليهم في الدنيا والآخرة ؛ بأن سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، فأرسل الرسل وأنزل الكتب وأزاح الشبه والعلل.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية :" الظاهرة : الإسلام وما حسن من خلقك، والباطنة : ما ستر عليك من سيئ عملك " وقيل : الظاهرة الصحة وكمال الخلق، والباطنة : المعرفة والعقل ؛ وقيل : الظاهرة : ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال، وتوفيق الطاعات، والباطنة : ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله، وحسن اليقين، وما يدفع عن العبد من الآفات.
ثم ذكر أنه مع كل هذه الأدلة الظاهرة قد مارى بعض الناس دون برهان من عقل ولا مستند من نقل، فقال :
﴿ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ﴾أي وهناك فريق من الناس يجادل في توحيد الله وصفاته كالنضر بن الحارث وأبيّ بن خلف اللذين كانا يجادلان النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بلا علم من عقل، ولا مستند من حجة صحيحة، ولا كتاب مأثور يؤيد صحة ما يدعون.
ثم بين أنه لا مطمع في إيمان مثل هؤلاء، لأنهم قد بلغوا الغاية في الغباوة، واستسلموا للتقليد، وتركوا الدليل وإن كان لائحا ظاهرا، فقال :﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ﴾.
الإيضاح :﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ﴾أي وإذا قيل لهؤلاء المجادلين الجاحدين لوحدانية الله : اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الشرائع - لم يجدوا ردا لذلك إلا قولهم : إنا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من دين، فإنهم كانوا أهل حق ودين صحيح.
فوبخهم سبحانه على تلك المقالة التي هي من حبائل الشيطان ووساوسه فقال :
﴿ أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ﴾أي أيتبعونهم على كل حال دون نظر إلى دليل ؟ فربما كان اعتقادهم مبنيا على الهوى وترهات الأباطيل، سداه ولحمته ما زينه لهم الشيطان من وساوس، لا تستند إلى حجة ولا برهان.
والخلاصة : أما كان لهم أن يفكروا ويتدبروا حتى يعلموا الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، فإن الرجال بالحق وليس الحق بالرجال ؟
وفي هذا ما لا يخفى من تسفيه عقولهم وتسخيف آرائهم، وأنهم بلغوا الدرك الأسفل في هدم العقل، وعدم الركون إلى الدليل مهما استبانت غايته، واستقامت محجته.
تفسير المفردات : يسلم وجهه : أي يفوض أمره، محسن : أي مطيع لله في أمره ونهيه، والمراد بالعروة الوثقى، أوثق العرى وأمتنها، وهو مثل : وأصله أن من يرقى من جبل شاهق أو يتدلى منه يستمسك بحبل متين مأمون الانقطاع.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حال المشرك المجادل في الله بغير علم - أردف ذلك ذكر حال المستسلم المفوض أموره إلى الله، وبيان عاقبته ومآله، ثم سلى رسوله على ما يلقاه من المشركين من العناد والكفران، وبين له أنه قد بلغ رسالات ربه وتلك وظيفة الرسل، وعلى الله الحساب والجزاء، فهو يجازيهم بما يستحقون من العذاب الغليظ في جهنم وبئس المصير.
الإيضاح :﴿ ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ﴾أي ومن يعبد الله وهو متذلل خاضع مع الإحسان في العمل بفعل الطاعات، وترك المعاصي والمنكرات، فقد تعلق بأوثق الأسباب التي توصل إلى رضوان ربه ومحبته، وحسن جزائه على ما قدم من عمل صالح.
ثم بين العلة في أنه يلقى الجزاء الأوفى فقال :
﴿ وإلى الله عاقبة الأمور ﴾أي إن المصير إلى الله لا إلى غيره، فلا يكونن لأحد إذ ذاك أمر ولا نهي، ولا عقاب ولا ثواب، فيجازي المتوكل عليه أحسن الجزاء، ويعاقب المسيء أنكل العذاب.
ثم سلى رسوله ما يلقاه من أذى المشركين وعنادهم فقال :﴿ ومن كفر فلا يحزنك كفره ﴾.
الإيضاح :﴿ ومن كفر فلا يحزنك كفره ﴾أي لا تحزن على كفرهم بالله وبما جئت به، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن قدر الله نافذ فيهم.
ثم بين لرسوله أنه لا يهملهم على أعمالهم بل هو مجازيهم عليها فقال :
﴿ إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا ﴾أي إن مصيرهم يوم القيامة إلينا فنخبرهم بما عملوا في الدنيا من خبيث الأعمال حتى لا يكون هناك سبيل إلى الإنكار ثم نجازيهم على ذلك أشد الجزاء.
ثم بين أنه عادل في الجزاء لسعة علمه وعظيم إحاطته بكل شيء فقال :
﴿ إن الله عليم بذات الصدور ﴾أي إنه تعالى يجازيهم بكل ما عملوا، إذ لا تخفى عليه خافية.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حال المشرك المجادل في الله بغير علم - أردف ذلك ذكر حال المستسلم المفوض أموره إلى الله، وبيان عاقبته ومآله، ثم سلى رسوله على ما يلقاه من المشركين من العناد والكفران، وبين له أنه قد بلغ رسالات ربه وتلك وظيفة الرسل، وعلى الله الحساب والجزاء، فهو يجازيهم بما يستحقون من العذاب الغليظ في جهنم وبئس المصير.
الإيضاح : ثم بين أن ما يمتعون به في الدنيا عرض قليل وظل زائد لا ينبغي لعاقل أن يقيم له وزنا بجانب العذاب الدائم فقال :
﴿ نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ﴾أي نمهلهم في الدنيا زمنا قليلا يتمتعون فيه بزخارفها ثم نلجئهم على كره منهم إلى عذاب شاق على نفوسهم.
ونحو الآية قوله :﴿ قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون( ٦٩ )متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ﴾( يونس : ٦٩-٧٠ ).
المعنى الجملي : بعد أن أقام الأدلة على وحدانيته تعالى بخلق السماوات بلا عمد وبإسباغ نعمه الظاهرة والباطنة عليهم - أردف ذلك ببيان المشركين معترفون بذلك غير جاحدين له، وهذا يستدعي أن يكون الحمد كله له وحده، ومن يستحق الحمد هو الذي يستحق العبادة فأمرهم عجب يعلمون المقدمات ثم ينكرون النتيجة التي تستتبعها، فيعبدون من لا يستحق عبادة، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا من الأصنام والأوثان.
الإيضاح :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ﴾أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء المشركين بالله من قومك : من خلق السماوات والأرض ؟ ليقولن الله.
وفي هذا إيماء إلى أنه قد بلغ من الوضوح مبلغا لا يستطيعون معه الإنكار والجحود.
ولما استبان بذلك صدقه صلى الله عليه وسلم وكذبهم قال آمرا رسوله.
﴿ قل الحمد لله ﴾على إلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به في العبادة التي لا يستحقها سوى الخالق المنعم على عباده.
ثم بين أنهم بلغوا الغاية في الجهل فهم يعترفون بالشيء ويعملون نقيضه فقال :
﴿ بل أكثرهم لا يعلمون ﴾أي بل أكثر المشركين لا يعلمون من له الحمد، وأين موضع الشكر، فهم مع تكذيبك يعترفون بما يوجب تصديقك.
ولما أثبت لنفسه الإحاطة بأوصاف الكمال استدل على ذلك بقوله :﴿ لله ما في السماوات و الأرض إن الله هو الغني الحميد ﴾.
الإيضاح :﴿ لله ما في السماوات و الأرض إن الله هو الغني الحميد ﴾أي له سبحانه كل ما في السماوات والأرض ملكا وخلقا وتصرفا وليس ذلك لأحد سواه، فلا يستحق العبادة فيهما غيره، وهو الغني عن عبادة جميع خلقه، لأنهم ملكه وهم المحتاجون إليه المحمود على نعمه التي أنعمها عليهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أنه أجرى الحكمة على لسان لقمان، ثم قفى على ذلك ببيان أنه أسبغ نعمه على عباده ظاهرة وباطنة، وأن له ما في السماوات وما في الأرض - أردف ذلك ببيان أن تلك النعم وهذه المخلوقات لا حصر لها، ولا يعلمها إلا خالقها كما قال :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾( إبراهيم : ٣٤ ).
ولما كانت تلك النعم لا نهاية لها، وربما ظن أنها مبعثرة لا قانون لها، أو أنها لكثرتها يصعب عليها تدبيرها وتصريف شؤونها كما يريد - دفع هذا بقوله :﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ﴾.
روي أنه لما نزل بمكة قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن الروح ﴾( الإسراء : ٨٥ )الآية وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود وقالوا بلغنا أنك تقول :﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾( الإسراء : ٨٥ )أتعنينا أم تعني قومك ؟ قال :" كلا عنيت "، قالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شيء، فقال صلى الله عليه وسلم :" هي في علم الله قليل، وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم "، قالوا : كيف تزعم هذا وأنت تقول :﴿ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ﴾( البقرة : ٢٦٩ )فكيف يجتمع علم قليل وخير كثير، فنزلت الآية :﴿ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ﴾الخ.
الإيضاح :﴿ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ﴾أي ولو أن أفنان الأشجار وأغصانها بريت أقلاما وجعل البحر مدادا وأمدته سبعة أبحر والخلائق جميعا يكتبون بها كلمات الله الدالة على عظمته وجلاله لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحر ولم تنفد كلمات الله :
ونحو الآية قوله :﴿ قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ﴾( الكهف : ١٠٩ )وإنما ذكرت السبعة الأبحر للدلالة على الكثرة، لا لقصد هذا العدد بعينه، فقد تقدم أن قلنا آنفا إن العرب تذكر السبعة والسبعين والسبعمائة وتريد بذلك الكثرة كما جاء في الحديث :" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " وفي الآية :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ﴾( البقرة : ٢٦١ ).
وقصارى ذلك : إنه سبحانه أخبر أن عظمته وكبرياءه وجلاله وأسماءه الحسنى لا يحيط بها أحد، ولا يصل البشر إلى معرفة كنهها وعدها كما ورد في الحديث :" سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".
﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾أي إن الله قد عز كل شيء وقهره، فلا مانع لما أراد، ولا معقب لحكمه، وهو الحكيم في خلقه وأمره، وأقواله وأفعاله، وشرعه وجميع شؤونه.
ولما كانت تلك النعم لا نهاية لها، وربما ظن أنها مبعثرة لا قانون لها، أو أنها لكثرتها يصعب عليها تدبيرها وتصريف شؤونها كما يريد - دفع هذا بقوله :﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ﴾.
روي أنه لما نزل بمكة قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن الروح ﴾( الإسراء : ٨٥ )الآية وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود وقالوا بلغنا أنك تقول :﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾( الإسراء : ٨٥ )أتعنينا أم تعني قومك ؟ قال :" كلا عنيت "، قالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شيء، فقال صلى الله عليه وسلم :" هي في علم الله قليل، وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم "، قالوا : كيف تزعم هذا وأنت تقول :﴿ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ﴾( البقرة : ٢٦٩ )فكيف يجتمع علم قليل وخير كثير، فنزلت الآية :﴿ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ﴾الخ.
الإيضاح : ثم أبان أن هذا الخلق الذي لا حصر له محيط به علما، ولا يعجزه شيء فيه متى أراد، فقال :
﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ﴾أي ما خلق جميع الناس ولا بعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كخلق نفس واحدة، فالكل هين عليه كما قال :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾( يس : ٨٢ )وقال :﴿ وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ﴾( القمر : ٥٠ )، وقال :﴿ فإنما هي زجرة واحدة( ١٣ )فإذا هم بالساهرة ﴾( النازعات : ١٣-١٤ ).
﴿ إن الله سميع بصير ﴾أي إن الله سميع لأقوال عباده، بصير بأفعالهم.
تفسير المفردات : يولج : أي يدخل والمراد أنه يضيف الليل إلى النهار، والعكس بالعكس، فيتفاوت بذلك حال أحدهما زيادة ونقصانا.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أنه سخر للإنسان ما في السماوات وما في الأرض ذكر هنا بعض ما فيهما بقوله يولج الليل في النهار الخ، وبعض ما في السماوات بقوله وسخر الشمس والقمر، وبعض ما في الأرض بقوله ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله، ثم ذكر أن كل المشركين معترفون بتلك الآيات، إلا أن البصير يدركها على الفور، ومن في بصيرته ضعف لا يدركها إلا إذا وقع في شدة، وأحدق به الخطر، فهو إذ ذاك يعترف بأن كل شيء بإرادة الله.
الإيضاح :﴿ ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ﴾أي ألم تشاهد أيها الناظر بعينيك أن الله يزيد ما نقص من ساعات الليل في ساعات النهار، ويزيد ما نقص من ساعات النهار في ساعات الليل.
والخلاصة : إنه يأخذ من الليل في النهار، فيقصر ذاك ويطول هذا، وذاك في مدة الصيف، إذ يطول النهار إلى الغاية، ثم يبتدئ النهار في النقصان ويطول الليل إلى الغاية في مدة الشتاء.
﴿ وسخر الشمس والقمر ﴾لمصالح خلقه ومنافعهم.
﴿ كل يجري إلى أجل مسمى ﴾أي كل منهما يجري بأمره إلى وقت معلوم، وأجل محدد، إذا بلغه كورت الشمس والقمر.
﴿ وأن الله بما تعملون خبير ﴾أي وأن الله بأعمالكم من خير وشر خبير بها لا تخفى عليه خافية من أمرها، وهو مجازيكم بها.
الإيضاح : ثم بين الحكمة في إظهار آياته للناس، فقال :
﴿ ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل ﴾أي إنما يظهر آياته للناس ليستدلوا بها على أنه هو المستحق للعبادة، وأن كل ما سواه هو الباطل الذي يضمحل ويفنى، فهو الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه.
﴿ وأن الله هو العلي الكبير ﴾أي وأنه تعالى المرتفع على كل شيء، والمتسلط على كل شيء، فكل شيء خاضع له، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أنه سخر للإنسان ما في السماوات وما في الأرض ذكر هنا بعض ما فيهما بقوله يولج الليل في النهار الخ، وبعض ما في السماوات بقوله وسخر الشمس والقمر، وبعض ما في الأرض بقوله ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله، ثم ذكر أن كل المشركين معترفون بتلك الآيات، إلا أن البصير يدركها على الفور، ومن في بصيرته ضعف لا يدركها إلا إذا وقع في شدة، وأحدق به الخطر، فهو إذ ذاك يعترف بأن كل شيء بإرادة الله.
الإيضاح : وبعد أن ذكر الآيات السماوية الدالة على وحدانيته أشار إلى آية أرضية، فقال :
﴿ ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته ﴾أي ألم تشاهد أيها الرسول السفن وهي تسير في البحر حاملة للأقوات والمتاع، من بلد إلى آخر، ومن قطر إلى قطر هو في حاجة إليها لينتفع الناس بما على ظاهر الأرض مما ليس في أيديهم.
وفي هذا دليل على عجيب قدرته التي ترشدكم إلى أنه الحق الذي أوجد ما ترون من الأحمال الثقيلة على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها.
ثم ذكر من يستفيد من النظر في الآيات، فقال :
﴿ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ﴾أي إن فيما ذكر لدلائل واضحات لكل صبار في الضراء، شكور في الرخاء. قال الشعبي : الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، ألم تر إلى قوله :﴿ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ﴾( الشورى : ٣٣ )وقوله :﴿ وفي الأرض آيات للموقنين ﴾( الذاريات : ٢٠ )وقال عليه الصلاة والسلام :" الإيمان نصفان : نصف صبر، ونصف شكر ".
فإنك لو رأيت أبا عمير | ملأت يديك من غدر وختر |
بالأبلق الفرد من تيماء منزله | حصن حصين وجار غير ختار |
الإيضاح : ثم بين أن المشركين ينسون الله في السراء ويلجئون إليه حين الضراء، فقال :
﴿ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ﴾أي وإذا أحاطت بالمشركين الذين يدعون من دون الله الآلهة والأوثان - الأمواج العالية كالجبال، وأحدق بهم الخطر من كل جانب حين يركبون السفن- فزعوا بالدعاء إلى الله مخلصين له الطاعة لا يشركون به شيئا، ولا يدعون معه أحدا سواه، ولا يستغيثون بغيره.
فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور }أي فلما نجوا من الأهوال التي كانوا فيها، وخلصوا إلى البر، فمنهم متوسط في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء، موف بما عاهد عليه الله في البحر، ومنهم من غدر ونقض عهد الفطرة، وكفر بأنعم الله عليه.
تفسير المفردات : اتقوا ربكم : أي خافوا عقابه، لا يجزي : أي لا يغني، والغرور : ما غر الإنسان من مال وجاه، وشهوة وشيطان.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر دلائل التوحيد على ضروب مختلفة، وأشكال منوعة - أمر بتقوى الله على سبيل الموعظة والتذكير بيوم عظيم، يوم يحكم الله بين عباده، يوم لا تنفع فيه قرابة، ولا تجدي فيه صلة رحم، فلو أراد والد أن يفدي ابنه بنفسه لما قبل منه ذلك وهكذا الابن مع أبيه، فلا تلهينكم الدنيا عن الدار الآخرة ولا يغرنكم الشيطان فيزيننّ لكم بوساوسه المعاصي والآثام ثم ختم السورة بذكر ما استأثر الله بعلمه، مما في الكائنات، وهي الخمس التي اشتملت عليها الآية الكريمة، مما لم يؤت علمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
الإيضاح :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا ﴾أي يا أيها المشركون من قريش وغيرهم، اتقوا الله وخافوا أن يحل بكم سخطه في يوم لا يغني والد عن ولده، ولا مولود هو مغن عن والده شيئا، لأن الأمور كلها بيد من لا يغالب، ومن لا تنفع عنده الشفاعة والوسائل التي تنفع في الدنيا، بل لا تجدي عنده إلا وسيلة واحدة، هي العمل الصالح الذي قدمه المرء في حياته الأولى.
ثم أكد ما سلف بقوله :
﴿ إن وعد الله حق ﴾أي اعلموا أن مجيء هذا اليوم حق، لأن الله قد وعد به، ولا خلف لوعده.
ثم حذرهم من شيئين، فقال :
﴿ فلا تغرنكم الحياة الدنيا ﴾أي فلا تخدعنكم زينة هذه الحياة ولذاتها، فتميلوا إليها وتدعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب الله في ذلك اليوم.
﴿ ولا يغرنكم بالله الغرور ﴾أي ولا يغرنكم الشيطان، فيحملنكم على المعاصي بتزيينها لكم، ثم إرجاء التوبة إلى ما بعد ذلك، ثم هو ينسينكم ذلك اليوم، فلا تتخذن له زادا، ولا تعدّنه معادا.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر دلائل التوحيد على ضروب مختلفة، وأشكال منوعة - أمر بتقوى الله على سبيل الموعظة والتذكير بيوم عظيم، يوم يحكم الله بين عباده، يوم لا تنفع فيه قرابة، ولا تجدي فيه صلة رحم، فلو أراد والد أن يفدي ابنه بنفسه لما قبل منه ذلك وهكذا الابن مع أبيه، فلا تلهينكم الدنيا عن الدار الآخرة ولا يغرنكم الشيطان فيزيننّ لكم بوساوسه المعاصي والآثام ثم ختم السورة بذكر ما استأثر الله بعلمه، مما في الكائنات، وهي الخمس التي اشتملت عليها الآية الكريمة، مما لم يؤت علمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
الإيضاح : ثم ذكر سبحانه خمسة أشياء لا يعلمها إلا هو، فقال :
﴿ إن الله عنده علم الساعة ﴾فلا يعلمها أحد سواه ؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، كما قال :﴿ لا يجليها لوقتها إلا هو ﴾( الأعراف : ١٨٧ ).
﴿ وينزل الغيث ﴾في وقته المقدر له، ومكانه المعين في علمه تعالى، والفلكيون وإن علموا الخسوف والكسوف، ونزول الأمطار بالأدلة الحسابية، فليس ذلك غيبا، بل بأمارات وأدلة تدخل في مقدور الإنسان، ولاسيما أن بعضها قد يكون أحيانا في مرتبة الظن، لا في مرتبة اليقين.
﴿ ويعلم ما في الأرحام ﴾أذكر هو أم أنثى، أتام الخلق أن ناقصه، أو نحو ذلك من الأحوال العارضة له.
﴿ وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ﴾من خير أو شر.
﴿ وما تدري نفس بأي أرض تموت ﴾أي لا يدري أحد أين مضجعه من الأرض ؟ أفي بحر أم في بر أم في سهل، أم في جبل.
﴿ إن الله عليم خبير ﴾أي إن الله عليم بجميع الأشياء، خبير ببواطنها كما هو خبير بظواهرها.
أخرج ابن المنذر عن عكرمة " أن رجلا يقال له : الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد متى قيام الساعة، وقد أجدبت بلادنا، فمتى تخصب ؟ وقد تركت امرأتي حبلى فما تلد ؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا ؟ وقد علمت بأي أرض ولدت، فبأي أرض أموت، فنزلت الآية :﴿ إن الله عنده علم الساعة ﴾الخ.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مفاتيح الغيب خمس : إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا كسبت غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ". وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.