ﰡ
وروي عن مقاتل: أنه كان يخرج تاجرًا إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم، فيرويها ويحدث بها قريشًا، ويقول لهم: إن محمدًا يحدثكم حديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم حديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه، ويتركون سماع القرآن.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الم (١)﴾؛ أي: هذه (١) سورة ﴿ألم﴾. قال بعضهم: الحروف المقطعات مبادىء السور ومفاتيح كنوز العبر، والإشارة هنا بهذه الحروف الثلاثة إلى قوله: أنا الله ولي جميع صفات الكمال، ومني الغفران والإحسان، وقال بعضهم الألف إشارة إلى ألفة العارفين، واللام إلى لطف صنعه مع المحسنين، والميم إلى معالم محبة قلوب المحبين، وقال بعضهم: يشير بالألف إلى آلائه، وباللام إلى لطفه وعطائه، وبالميم إلى مجده وثنائه، فبآلائه رفع الحجاب عن قلوب الأولياء، وبلطف عطائه أثبت المحبة في أسرار أصفيائه، وبمجده، وثنائه مستغن عن جميع خلقه بوصف كبريائه.
٢ - ﴿تِلْكَ﴾؛ أي: هذه السورة وآياتها. ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾؛ أي: آيات من الكتاب المحكم المحروس من التغيير والتبديل، والممنوع من الفساد والبطلان، فهو فعيل بمعنى المفعل، وإن كان قليلًا في كلامهم، كما قالوا: أعقدت اللبن فهو عقيد؛ أي: معقدًا، أو ذي الحكمة لاشتماله عليها، أو الحاكم بين عباده ببيان الأحكام من الحلال والحرام مثلًا.
٣ - وقوله: ﴿هُدًى﴾ من الضلالة ﴿وَرَحْمَةً﴾ من العذاب بالنصب على الحالية من الآيات، والعامل فيها ما في الإشارة من معنى الفعل؛ أي: حالة كون تلك
وقال بعضهم (١): سماه هدًى لما فيه من الدواعي إلى الفلاح، والألطاف المؤدية إلى الخيرات، فهو هدى ورحمة للعابدين، ودليل وحجة للعارفين. اهـ.
وفي "التأويلات النجمية": هدى يهدي إلى الحق، ورحمة لمن اعتصم به، يوصله بالجذبات المودعة فيه إلى الله تعالى، وفي تخصيص كتابه بالهدى والرحمة للمحسنين: دليل على أنه ليس يهدي غيرهم، والمحسن لا يقع مطلقًا إلا مدحًا للمؤمنين، والمحسن: العامل للحسنات، أو من يعبد الله تعالى كأنه يراه، كما ثبت في الحديث الصحيح: أنه - ﷺ - لما سأله جبريل عن الإحسان.. قال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وقرأ الجمهور (٢): ﴿هُدًى وَرَحْمَةً﴾ بالنصب على الحال من الآيات، وقرأ حمزة والأعمش والزعفراني، وطلحة وقنبل من طريق أبي الفضل الواسطي: بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر على مذهب من يجيز ذلك.
٤ - ثم بين عمل المحسنين فقال: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ المفروضة وغيرها؛ أي: يؤدونها بحقوقها وشروطها في أوقاتها، وعبر عن الأداء بالإقامة، إشارةً إلى أن الصلاة عماد الدين، وفي "المفردات": إقامة الصلاة: توفية شرائطها لا الإتيان بهيئتها، ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾؛ أي: يعطونها بشرائطها إلى مستحقيها المذكورين في آية ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ﴾ الآية. ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ﴾؛ أي: بمجيء الدار الآخرة بما فيها من الحساب والميزان، والجزاء على الأعمال، سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾؛ أي: يصدقون فلا يشكون في البعث والحساب والجزاء، وإعادة لفظة ﴿هم﴾ للتوكيد في الإيقان بالبعث والحساب، ولما حيل بينه وبين خبره بقوله: ﴿بِالْآخِرَةِ﴾. وخص هذه العبادات الثلاث؛ لأنها عمدة العبادات.
(٢) البحر المحيط.
٥ - ولما كان المتصفون بهذه الخصال هم الغاية في الهداية والفلاح.. قال: ﴿أُولَئِكَ﴾ المحسنون المتصفون بتلك الصفات الجليلة كائنون ﴿عَلَى هُدًى﴾ وبيان كائن ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ بين لهم طريقهم ووفقهم، وفي الآية (٢) دليل على أن العبد لا يهتدي بنفسه إلا بهداية الله تعالى، ألا ترى أنه قال: ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ وهو رد على المعتزلة، فإنهم يقولون: العبد يهتدي بنفسه، قال بعضهم: ثلاث من علامات الهدى: الاسترجاع عند المصيبة، والاستكانة عند النعمة، وترك الامتنان عند العطية.
﴿وَأُولَئِكَ﴾: المذكورون ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ أي: الفائزون بكل مطلوب، والناجون من كل مهروب، لاستجماعهم العقيدة الحقة والعمل الصالح، وكرر اسم الإشارة تنبيهًا على عظم قدرهم، قال في "المفردات": الفلاح: الظفر وإدراك البغية، وذلك ضربان: دنيوي وأخروي، فالدنيوي: الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا، والأخروي: أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنًى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل، ولذلك قيل: لا عيش إلا عيش الآخرة، ألا ترى إلى قوله عليه السلام: "المؤمن لا يخلو عن قلة أو علة أو ذلة" يعني: ما دام في الدنيا، فإنها دار البلايا والمصائب والأوجاع.
٦ - ولما ذكر (٣) من صفات القرآن الحكمة وأنه هدى ورحمة، وأن متبعه فائز.. ذكر حال من بدل الحكمة باللهو، وذكر مبالغته في ارتكابه، حتى جعله مشتريًا له وباذلًا فيه رأس عقله، وذكر علته وأنها الإضلال عن طريق الله سبحانه
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
والاشتراء: دفع الثمن وأخذ المثمن، والبيع: دفع المثمن وأخذ الثمن، وقد يتجوز بالشراء والاشتراء في كل ما يحصل به شيء.
والمعنى هاهنا: يستبدل ويختار ما يشغله عن مهماته، وليس بمهم بدل مهماته، وقال الحسن: الحديث: كل ما يشغل عن عبادة الله وذكره، من السمر والأضاحيك والخرافات والمغنيات، والمزامير والمعازف والملاهي، والإضافة في لهو الحديث على معني من، لأن اللهو يكون حديثًا وغيره، هو كثوب خز.
وقال القرطبي: إن أول ما قيل في هذا الباب هو تفسير لهو الحديث بالغناء، قال: وهو قول الصحابة والتابعين. اهـ. "شيخنا"
أي: يختار ويأخذ لهو الحديث بدل ما ينفعه في الآخرة، وهو استماع القرآن والعمل به، وعبارة "الروح" هاهنا (٢): ولهو الحديث: كل ما يلهي ويشغل صاحبه عما يعني من المهمات، كالأحاديث التي لا أصل لها، والأساطير التي لا اعتداد بها، والأضاحيك، وسائر ما لا خير فيه من الكلام، والحديث: يستعمل في قليل الكلام وكثيره؛ لأنه يحدث شيئًا فشيئًا.
وقال أبو عثمان النهدي: كل كلام سوى كتاب الله، أو سنة رسوله، أو سيرة الصالحين فهو لهو، وفي "التأويلات النجمية": كل ما يشغل عن الله ذكره ويحجب عن الله سماعه، فهو لهو الحديث، والإضافة فيه بمعنى من البيانية، كما مر، إن أريد بالحديث المنكر، لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فأضيف
(٢) روح البيان.
أي: كان يشتري بماله كتبًا فيها لهو الحديث، وباطل الكلام من فارس، ويحدث بها قريشًا في أنديتهم، ولعلها كانت مترجمة بالعربية. ﴿لِيُضِلَّ﴾ الناس ويصرفهم ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: عن دينه الحق الموصل إليه، أو ليضلهم ويمنعهم بتلك الكتب المزخرفة عن قراءة كتاب الله الهادي إليه، وإذا أضل غيره فقد ضل هو أيضًا، واللام فيه للتعليل.
وقرأ الجمهور (١): ﴿لِيُضِلَّ﴾ بضم الياء؛ أي: ليضل غيره عن طريق الهدى ومنهج الحق، وإذا أضل غيره فقد ضل في نفسه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وحميد وورش وابن أبي إسحاق: بفتح الياء، أي: ليضل هو في نفسه، قال الزجاج: من قرأ بضم الياء.. فمعناه ليضل غيره، فإذا أضل غيره.. فقد ضل هو، ومن قرأ بفتح الياء.. فمعناه ليصير أمره إلى الضلال، وهو وإن لم يكن يشتري للضلالة فإنه يصير أمره إلى ذلك، فأفاد هذا التعليل أنه إنما يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد، ويؤيده سبب نزول الآية.
حال كونه ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾؛ أي: حال كونه جاهلًا بحال ما يشتريه ويختار، هل ينفعه أو يضره، أو بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن؛ أي: أو جاهلًا بحال تجارته هل تخسره أو تربح له، فلهذا استبدل الخير بما هو شر محض ﴿وَيَتَّخِذَهَا﴾ بالنصب عطفًا على ﴿لِيُضِلَّ﴾، والضمير المنصوب لـ ﴿سَبِيلِ﴾، فإنه مما يذكر ويؤنث؛ أي: وليتخذها ﴿هُزُوًا﴾؛ أي: مهزوءًا بها ومستهزأةً، وبالرفع عطفًا على يشتري فهو من جملة الصلة، وقيل: الرفع على الاستئناف، والضمير المنصوب في يتخذها إلى الآيات المتقدم ذكرها، والأول أعني العطف على
والمعنى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث، ويتخذ آيات الله هزوًا ليضل عن سبيل الله.
وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وحفص (١): ﴿ويتخذها﴾ بالنصب عطفًا، على ﴿لِيُضِلَّ﴾. وقرأ باقي السبعة: بالرفع عطفًا على ﴿يَشْتَرِي﴾.
وحاصل معنى الآية: أي (٢) ومن الناس فريق يتخذ ما يتلهى به عن الحديث النافع للإنسان في دينه، فيأتي بالخرافات والأساطير والمضاحيك، وفضول الكلام، كالنضر بن الحارث، الذي كان يشتري الكتب ويحدث بها الناس، وربما اشترى الفتيات وأمرهن بمعاشرة من أسلم، ليحملهم على ترك الإِسلام، وما مقصده من ذلك إلا الإضلال والصد عن دين الله، وقراءة كتابه واتخاذه هزوًا ولعبًا.
وعن نافع قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر في الطريق، فسمع مزمارًا فوضع إصبعيه في أذنيه، وعدل عن الطريق، فلم يزل يقول: يا نافع أتسمع؟ قلت: لا، فأخرج إصبعيه من أذنيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله - ﷺ - صنع. وعن ابن عوف أن رسول الله - ﷺ - قال: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان".
والخلاصة: أن سماع الغناء الذي يحرك النفوس، يبعثها على اللهو والمجون، بكلام يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات، لا خلاف في تحريمه، أما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح، كالعرس والعيد، وحين التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق، وحدو أنجشة - عبد أسود - كان يقول راحلة نساء النبي - ﷺ - عام حجة الوداع، وأما طبل الحرب فلا حرج فيه؛ لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو،
(٢) المراغي.
نَحْنُ بَنَاتُ النَّجَّارِ | حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ |
ثم بين عاقبة أمرهم، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بما ذكر من الاشتراء والإضلال ﴿لَهُمْ عَذَابٌ﴾ شديد ﴿مُهِينٌ﴾؛ أي: ذو إهانة وإذلال لهم، لإهانتهم الحق بإيثار الباطل عليه، وترغيب الناس فيه؛ أي: إنه كتب لهم العذاب والخزي يوم القيامة؛ لأنهم لما أهانوا الحق باختيارهم الباطل.. جوزوا بإهانتهم يوم الجزاء بعذاب يفضحهم ويخزيهم أمام الخلائق.
٧ - ثم أشار سبحانه إلى أن هذا داء قد استشرى في نفسه، فكلما تليت عليه آية.. ازداد إباءً ونفورًا، فقال: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ﴾؛ أي: على هذا المشتري المستهزىء (١)، أفرد الضمير فيه وفيما بعده، كالضمائر الثلاثة الأولى باعتبار لفظ من وجمع في ﴿أُولَئِكَ﴾ باعتبار معناه كما مر، قال في "كشف الأسرار": وهذا دليل على أن الآية السابقة نزلت في النضر بن الحارث.
﴿آيَاتُنَا﴾؛ أي: آيات كتابنا القرآنية ﴿وَلَّى﴾؛ أي: أعرض هذا المستهزىء عنها غير معتد بها حال كونه ﴿مُسْتَكْبِرًا﴾؛ أي: مبالغًا في التكبر ودفع النفس عن الطاعة والإصغاء، وجملة قوله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا﴾ حال من ضمير ﴿وَلَّى﴾ أو من ضمير ﴿مُسْتَكْبِرًا﴾، والأصل: كأنه، فحذف ضمير الشأن، وخففت المثقلة؛ أي: كأن ذلك المعرض المتكبر لم يسمعها مع أنه قد سمعها، ولكن أشبهت حاله حال من لم يسمع؛ أي: حال كونه مشابهًا حاله حال من ﴿لَمْ يَسْمَعْهَا﴾ وهو
وجملة قوله: ﴿كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا﴾ (١) حال ثانية أو بدل من التي قبلها، أو حال من ضمير ﴿لَمْ يَسْمَعْهَا﴾؛ أي: حال كونه مشابهًا حاله حال من في أذنيه، وقر؛ أي: ثقل مانع من السماع، ﴿فَبَشِّرْهُ﴾؛ أي: فبشر ذلك المعرض ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؛ أي: مؤلم؛ أي: فأخبره بأن العذاب لمفرط في الإيلام، لاحق به لا محالة، وذكر البشارة للتهكم.
أي (٢): وإذا تتلى آيات الكتاب الكريم على هذا الذي اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله.. يعرض عن سماعها ويولي مستكبرًا، كأن في أذنيه ثقلًا فلا يصيخ لها، ولا يأبه لتلقفها وتأملها، ونحو الآية قوله: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما يزيل كبره وعظمته قال: ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؛ أي: فبشر هذا المعرض وأوعده بالعذاب الذي يؤلمه ويقض مضجعه يوم القيامة.
فإن قلت (٣): لم زاد هنا ﴿كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا﴾ وحذفه في الجاثية حيث قال هنا: ﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨)﴾ مع أنهما نزلا في النضر بن الحارث، حيث كان يعدل عن سماع القرآن إلى اللهو وسماع الغناء؟
قلت: لأنه تعالى بالغ في ذمه هنا، فناسب زيادة ذلك بخلاف ما في الجاثية.
٨ - ولما بين سبحانه حال من يعرض عن الآيات بين حال من يقبل عليها، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا﴾ بآياتنا ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: عملوا بموجبها، قال في "كشف الأسرار": الإيمان التصديق بالقلب، وتحقيقه بالأعمال الصالحة،
(٢) المراغي.
(٣) فتح الرحمن.
٩ - وقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ حال من الضمير في ﴿لَهُمْ﴾. وقرأ زيد بن علي: خالدون (١) فيها على أنه خبر ثان لـ ﴿إن﴾. وقرأ الجمهور بالياء. ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾؛ أي: وعدهم الله سبحانه جنات النعيم وعدًا، فهو مصدر مؤكد لنفسه؛ لأن معنى ﴿لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾ وعدهم بها ﴿حَقًّا﴾؛ أي: حق ذلك الوعد حقًا، فهو تأكيد لقوله: ﴿لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾ أيضًا، لكنه مصدر مؤكد لغيره؛ لأن قوله: ﴿لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾ وعد، وليس كل وعد حقًا.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْعَزِيزُ﴾ الذي لايغلب به غالب فيمنعه من إنجاز وعده أو تحقيق وعيده ﴿الْحَكِيمُ﴾ في كل أفعاله وأقواله، الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
ومعنى الآية (٢): أي إن الذين آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة، فأتوا بما أمرهم به ربهم في كتابه، على لسان رسله، وانتهوا عما نهاهم عنه، لهم جنات ينعمون فيها بأنواع اللذات والمسار، من المآكل والمشارب والملابس والمراكب، ومما لم يخطر لأحدهم ببال، وهم فيها مقيمون دائمًا، لا يظعنون ولا يبغون عنها حولًا ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾؛ أي: ما أخبرنا به كائن لا محالة؛ لأنه وعد الله الذي لا يخلف وعده، وهو الكريم المنان على عباده ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾؛ أي: وهو الشديد في انتقامه من أهل الشرك به،
(٢) المراغي.
١٠ - ثم بين سبحانه عزته وحكمته بقوله: ﴿خَلَقَ﴾ الله سبحانه وتعالى وأوجد ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ السبع وكذا الكرسي والعرش ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾؛ أي: بغير دعائم وسواري، على أن الجمع لتعدد السماوات، والعمد، بفتحتين: جمع عماد، كأهب وإهاب، وهو ما يعمد به؛ أي: يسند، والأولى أن تكون جملة ﴿تَرَوْنَهَا﴾ مستأنفة، جيء بها للاستشهاد على ما ذكر من خلقه تعالى إياها غير معمودة بمشاهدتهم لها كذلك، ويحتمل أن تكون في محل جر صفة لعمد؛ أي: خلقها بغير عمد مرئية على أن التقييد للرمز، على أنه تعالى عمدها بعمدٍ لا ترى، هي عمد القدرة.
واعلم: أن وقوف السماوات وثبات الأرض على هذا النظام، من غير اختلال، إنما هو بقدرة الله الملك المتعال. ﴿وَأَلْقَى﴾ سبحانه وتعالى وطرح ﴿الْأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾؛ أي: جبالًا ثوابت في نفسها، وثبت بها الأرض، شبه الجبال الرواسي استحقارًا لها، واستقلالًا لعددها، وإن كانت خلقًا عظيمًا بحصيات قبضهن قابض بيده، فنبذهن في الأرض، وما هو إلا تصوير وتمثيل لقدرته، وإن كل فعل عظيم يتحير فيه الأذهان، فهو هين عليه، والمراد: قال لها: كوني، فكانت فأصبحت الأرض قد أرسيت بالجبال، بعد أن كانت تمور مورًا؛ أي: تضطرب اضطرابًا، فلم يدر أحد مم خلقت.
وقوله: ﴿أَنْ تَمِيدَ﴾ الأرض، تتحرك وتضطرب ﴿بِكُمْ﴾ في محل نصب على العلة؛ أي: ألقى فيها رواسي كراهية أن تميد بكم، والكوفيون يقدرونه لئلا تميد بكم.
والمعنى (١): أنه خلقها وجعلها مستقرةً ثابتةً لا تتحرك، بجبال جعلها عليها وأرساها على ظهرها، والميد (٢): اضطراب الشيء العظيم كاضطراب الأرض، والمعنى: كراهية أن تميل بكم، فإن بساطة أجزائها تقتضي تبدل أحيازها
(٢) روح البيان.
﴿وَبَثَّ فِيهَا﴾؛ أي: وفرق الله سبحانه في الأرض ﴿مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾؛ أي: من كل نوع من أنواع الدواب مع كثرتها واختلاف أجناسها، وبث الشيء: تفريقه، كبث الريح التراب، فبث كل دابة في الأرض إشارة إلى إيجاده تعالى، ما لم يكن موجودًا وإظهاره إياه، والدب والدبيب: مشي خفيف - كما سيأتي - ويستعمل ذلك في الحيوان وفي الحشرات أكثر.
﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: من السحاب؛ لأن السماء في اللغة: ما علاك وأظلك، ﴿مَاءً﴾ هو المطر ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا﴾؛ أي: في الأرض بسبب ذلك الماء، والالتفات إلى نون العظمة في الفعلين لإبراز مزيد الاعتناء بأمرهما ﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ﴾؛ أي: صنف ﴿كَرِيمٍ﴾؛ أي: كثير المنفعة، ووصفه بكونه كريمًا لحسن لونه وكثرة منافعه، وقيل المراد بذلك: الناس، فالكريم منهم من يصير إلى الجنة، واللئيم من يصير إلى النار، قاله الشعبي وغيره، والأول أولى.
واعلم: أن كل ما في العالم فهو زوج، من حيث إن له ضدًا ما، أو مثلًا ما، أو تركبًا ما، من جوهر وعرض مادة وصورة، وفيه تنبيه على أنه لا بد للمركب من مركب، وهو الصانع الفرد.
ومعنى الآية (١): أي ومن الأدلة على قدرته البالغة، وحكمته الظاهرة: أن خلق السماوات السبع بغير عمد تستند إليه، بل هي قائمة بقدرة الحكيم الفعال لما يشاء، وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة الرعد، وأن ألقى في الأرض، وجعل على ظهرها ثوابت الجبال، لئلا تضطرب بكم وتميد بالمياه المحيطة بها الغامرة لأكثرها، وأن بث فيها من كل دابة؛ أي: وأن ذرأ فيها من أصناف الحيوان ما لا يعلم عددها، ومقادير أشكالها وألوانها، إلا الذي فطرها، وأن أنزلنا من السماء ماء، فكان ذلك سببًا لإنبات كل صنف كريم من النبات ذي المنافع الكثيرة،
١١ - ثم
﴿فَأَرُونِي﴾؛ أي (١): فأخبروني أيها المشركون الذين يعبدون هذه الأصنام والأوثان ﴿مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى؛ أي: أي شيء خلق الذين من دونه تعالى مما اتخذتموه شركاء له سبحانه في العبادة، حتى استحقوا به العبودية، كما استحق ذلك عليكم خالقكم وخالق هذه الأشياء التي عددتها لكم، و ﴿مَاذَا﴾ بمنزلة اسم واحد بمعنى: أي شيء، نصب بـ ﴿خَلَقَ﴾، أو ما مرفوع بالابتداء وخبره ذا وصلته، و ﴿أَرُونِي﴾: معلق عنه على كلا التقديرين، والاستفهام: للتقريع والتوبيخ، والمعنى: فأروني أي شيء خلقوا مما يحاكي خلق الله أو يقاربه، وهذا الأمر لهم لقصد التعجيز والتبكيت.
ثم انتقل من توبيخهم بما ذكر إلى تسجيل الضلال عليهم، المستدعي للإعراض عنهم، وعدم مخاطبتهم بالمعقول من القول، لاستحالة أن يفهموا منه شيئًا فيهتدوا إلى بطلان ما هم عليه فقال: ﴿بَلِ الظَّالِمُونَ﴾؛ أي: بل المشركون بالله، العابدون معه غيره من أهل مكة وغيرهم ﴿فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: في خطأ واضح ظاهر لا اشتباه فيه لمن تأمله ونظر فيه، فأنى لهم أن يرعووا عن غي أو يهتدوا إلى رشد وحق.
فقرر ظلمهم أولًا، وضلالهم ثانيًا، ووصف ضلالهم بالوضوح والظهور، ومن كان هكذا فلا يعقل الحجة، ولا يهتدي إلى الحق.
١٢ - ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشك. اهـ. "أبو السعود". واختلف في لقمان هل هو عجمي أم عربي، مشتق من اللقم، مرتجلًا إذ لا يعلم له وضع في النكرات، فمن قال: إنه عجمي.. منعه للتعريف والعجمة، ومن قال: إنه عربي.. منعة للتعريف وزيادة الألف والنون، واختلفوا أيضًا هل هو نبي أم رجل صالح، فذهب أكثر أهل العلم أنه ليس بنبي، وحكى الواحدي عن عكرمة والسدي والشعبي: أنه كان نبيًا، والأول أرجح، وقيل: لم يقل بنبوته إلا عكرمة فقط، مع أن الراوي لذلك عنه جابر الجعفي، وهو ضعيف جدًا، وهو لقمان بن باعورا بن ناحور بن تارخ، وهو آزر أبو إبراهيم، فعلى هذا هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وقيل: هو لقمان بن عنقا بن سرون، كان عبدًا نوبيًا من أهل أيلة، ذكره السهيلي، أسود اللون ولا ضير، فإن الله تعالى لا يصطفي عباده اصطفاء نبوة أو ولاية وحكمة على الحسن والجمال، وإنما يصطفيهم على ما يعلم من غائب أمرهم، وقيل: كان ابن أخت أيوب، وقيل: كان ابن خالته، وقيل: إنه عاش ألف سنة حتى أدرك داود وأخذ عنه العلم، كان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث داود قطع الفتوى، فقيل له: فقال: ألا أكتفي إذ كفيت.
وفي بعض الكتب: قال لقمان: خدمت أربعة آلاف نبي، واخترت من كلامهم ثماني كلمات: إن كنت في الصلاة.. فاحفظ قلبك، وإن كنت في الطعام.. فاحفظ حلقك، وإن كنت في بيت الغير.. فاحفظ عينيك، وإن كنت بين الناس.. فاحفظ لسانك، واذكر اثنين، وأنس اثنين، أما اللذان تذكرهما: فالله والموت، وأما اللذان تنساهما: إحسانك في حق الغير، وإساءة الغير في حقك.
وقيل: كان لقمان عبدًا حبشيًا نجارًا، وقيل: كان خياطًا، وقيل: كان راعي غنم، فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة، فقال: ألست فلانًا الراعي؟ قال: بلى، قال: فبم بلغت ما بلغت، قال: بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك مالا
واتفق العلماء على أنه كان حكيمًا، ولم يقل نبيًا إلا عكرمة والشعبي، فقالا بنبوته، وعلى هذا تكون الحكمة هي النبوة، ويؤيد كونه حكيمًا لا نبيًا كونه أسود اللون؛ لأنه تعالى لم يبعث نبيًا إلا حسن الشكل حسن الصوت، وما روي أنه قيل له: ما أقبح وجهك يا لقمان، فقال: أتعيب بهذا على النقش أم على النقاش، وما قال عليه السلام: "حقًا أقول لم يكن لقمان نبيًا، ولكن كان عبدًا كثير التفكر حسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمنّ عليه بالحكمة" وهي إصابة الحق باللسان، وإصابة الفكر بالجنان، واصابة الحركة بالأركان، إن تكلم.. تكلم بحكمة، وإن تفكر.. تفكر بحكمة، وإن تحرك.. تحرك بحكمة.
أي: وعزتي وجلالي لقد أعطينا لقمان الحكمة؛ أي: العقل والفطنة والإصابة في القول، وقيل: الحكمة: توفيق العمل بالعلم، فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة، وقد نسب إليه من المقالات الحكيمة شيء كثير، كقوله لابنه: أي بني إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها ناس كثيرون، فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل على الله، لعلك تنجو ولا أراك ناجيًا وقوله: من كان له من نفسه واعظ كان له من الله حافظ، ومن أنصف الناس من نفسه.. زاده الله بذلك عزًا، والذلّ في طاعة الله، أقرب من التعزز بالمعصية وقوله: يا بني، لا تكن حلوًا فتبتلع، ولا مرًا فتلفظ. وقوله: يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلًا.. فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه.. فآخه، وإلا فاحذره.
ولما كانت الحكمة من إنعام الله تعالى على لقمان، ونعمة من نعمه.. طالبه بشكره فقال: وقلنا له: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى على ما أعطاك من الحكمة، إذ آتاك الله إياها وأنت نائم غافل عنها جاهل بها، والشكر لله: هو الثناء عليه في مقابلة النعمة، وطاعته فيما أمر به.
والمعنى عليه: ولقد أعطينا لقمان الحكمة ووفقناه إياها، وهي شكره وحمده على ما آتاه من فضله، بالثناء عليه بما هو أهل له، وحب الخير للناس، وتوجيه الأعضاء إلى ما خلقت له.
ثم بين سبحانه أن الشكر لا ينتفع به إلا الشاكر، فقال: ﴿وَمَنْ يَشْكُرْ﴾ له تعالى على نعمه ﴿فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ لأن منفعة شكره التي هي دوام النعمة واستحقاق مزيدها، عائدة إليها مقصورة عليها، ولأن الكفران من الوصف اللازم للإنسان، فإنه ظلوم كفار، والشكر من صفة الحق تعالى، فإن الله شاكر عليم، فمن شكر.. فإنما يشكر لنفسه بإزالة صفة الكفران عنها، واتصافها بصفة شاكرية الحق تعالى، فيفوز بالثواب الجزيل على شكره، وينجو من العذاب الأليم، كما قال: ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾.
﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ نعمة ربه فعليه وبال كفره ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿غَنِيٌّ﴾ عنه وعن شكره ﴿حَمِيدٌ﴾؛ أي: محمود في ذاته وصفاته وأفعاله، سواء حمده العباد وشكروه، أم كفروه، ولا يحيى عليه أحد ثناء كما يثني هو على نفسه، وعدم التعرض لكونه تعالى شكورًا، لما أن الحمد متضمن للشكر، وهو رأسه، كما قال عليه السلام: "الحمد رأس الشكر، لم يشكر الله عبد لم يحمده" فإثبات الحمد له تعالى إثبات للشكر، قال في "كشف الأسرار": رأس الحكمة: الشكر لله ثم المخافة منه، ثم القيام بطاعته. ولا شك أن لقمان امتثل أمر الله في الشكر وقام بعبوديته.
والمعنى: أي ومن كفر نعم الله عليه.. فإلى نفسه أساء؛ لأن الله معاقبه على كفرانه إياها، والله غني عن شكره؛ لأن شكره لا يزيد في سلطانه، وكفرانه لا ينقص من ملكه، وهو محمود على كل حال كفر العبد أو شكر. وقال يحيى بن سلام: غني عن خلقه، حميد في فعله.
وقال في "فتح الرحمن": وقبر لقمان بقرية صرفند، ظاهر مدينة الرملة من أعمال فلسطين - بكسر الفاء وفتح اللام وسكون السين - وهي البلاد التي بين الشام وأرض مصر، منها الرملة وغزة وعسقلان، وعلى قبره مشهد، وهو مقصود بالزيارة، وقال قتادة: قبره بالرملة ما بين مسجدها وسوقها، وهناك قبور سبعين نبيًا ماتوا بعد لقمان جوعًا في يوم واحد، أخرجهم بنو إسرائيل من القدس، فألجؤوهم إلى الرملة، ثم أحاطوهم هنا. انتهى.
١٣ - وجملة قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ﴾ قيل: معطوفة على ما تقدم، والتقدير: ولقد آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرًا في نفسه، وحين جعلناه واعظًا لغيره، والأولى أن تكون ﴿وَإِذْ﴾ معمولة لـ: اذكر محذوفًا؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة وقت قول لقمان ﴿لِابْنِهِ﴾ قيل: اسمه أنعم، فهو أبو أنعم؛ أي: يكنى به، كما قالوا. وقال السهيلي: اسم ابنه ثاران، في قول ابن جرير والقتيبي، وقال الكلبي: اسمه مكشم، وقال النقاش: أنعم، وقيل: ماتان، قال القشيري: كان ابنه وامرأته كافرين، فما زال يعظهما حتى أسلما، قيل: وضع لقمان جرابًا من خردل إلى جنبه، وجعل يعظ ابنه موعظةً موعظةً، ويخرج خردلةً خردلةً، فنفذ الخردل، فقال: يا بني وعظتك موعظةً، لو وعظتها جبلًا.. لتفطر، فتفطر ابنه ومات.
﴿وَهُوَ﴾؛ أي: والحال أن لقمان ﴿يَعِظُهُ﴾؛ أي: يعظ الابن، والوعظ: زجر يقترن بتخويف؛ أي: يخاطبه بالمواعظ التي ترغبه في التوحيد، وتصده عن الشرك. ﴿يَا بُنَيَّ﴾ بالتصغير والإضافة إلى ياء المتكلم - بالفتح والكسر - وهو تصغير
وقرأ البزي وابن كثير (١): ﴿يا بني﴾ بإسكان الياء، ﴿ويا بني إنها﴾ بكسر الياء. ﴿ويا بني أقم﴾ بفتحها. وقيل: بالسكون في الأولى والثالثة. والكسر في الوسطى، وقرأ حفص والمفضل عن عاصم بالفتح في الثلاثة على تقدير يا بنيا، والاجتزاء عن الألف، وقرأ باقي السبعة بالكسر في الثلاثة.
﴿لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾؛ أي: لا تعدل بالله شيئًا في العبادة، ونهيه عن الشرك يدل على أنه كان كافرًا، كما تقدم، وجملة قوله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ تعليل لما قبلها؛ أي: أنه تسوية من لا نعمة إلا منه ومن لا نعمة منه، وبدأ في وعظه بنهيه عن الشرك؛ لأنه أهم من غيره، وأما عظمه، فلأنه لا يغفر أبدًا، قال الشاعر:
الْحَمْدُ للهِ لَا شَرِيْكَ لَهُ | وَمَنْ أبَاهَا فَنَفْسَهُ ظَلَمَا |
وقد اختلف في هذه الجملة (٢)، فقيل: هي من كلام لقمان، وقيل: من كلام الله تعالى، فتكون منقطعة عما قبلها، ويؤيد هذا ما ثبت في الحديث الصحيح: أنها لما نزلت ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ شق ذلك على الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه فأنزل الله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ فطابت أنفسهم. أخرجه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(٢) الشوكاني.
١٤ - وبعد أن ذكر سبحانه ما أوصى به لقمان ابنه، من شكر المنعم الأول، الذي لم يشركه أحد في إيجاده إياه، وذكر ما في الشرك من الشناعة.. أتبعه بوصيته الولد بالوالدين، لكونهما السبب في وجوده، فقال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ إلى قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: اعتراض في أثناء وصية لقمان، تأكيدًا لما فيها من النهي عن الشرك؛ أي: وأمرنا (٢) الإنسان ببر والديه وطاعتهما، والقيام بحقوقهما وبالإحسان إليهما، وكثيرًا ما يقرن القرآن بين طاعة الله وبر الوالدين، كقوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ وفسر الوصية بقوله الآتي: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ وما بينهما: اعتراض بين المفسَّر والمفسِّر، وفي جعل الشكر لها مقترنًا بالشكر لله، دلالة على أن حقهما من أعظم الحقوق على الولد، وأكبرها وأشدها وجوبًا.
ومعنى ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ﴾ في بطنها ﴿وَهْنًا﴾؛ أي: حالة كونها ذات وهن وضعف بحمله، أو تهن وهنًا ﴿عَلَى وَهْنٍ﴾؛ أي: تضعف ضعفًا فوق ضعف، فإنها لا تزال يتضاعف ضعفها؛ أي: حملته وهي في ضعف بتزايد بازدياد ثقل الحمل إلى حين الطلق، ثم مدة النفاس، وقيل: المعنى: إن المرأة ضعيفة الخلقة، ثم يضعفها الحمل، وهذه منة خاصة بالوالدة لما فيها من كبير المشقة.
وقرأ الجمهور: ﴿وهنًا﴾ بسكون الهاء في الموضعين، وقرأ عيسى الثقفي - وهي رواية عن أبي عمرو: بفتحمهما وهما لغتان، ثم أردفها بمنة أخرى، وهي الشفقة عليه، وحسن كفالته حين لا يملك لنفسه شيئًا، فقال: ﴿وَفِصَالُهُ﴾: مبتدأ
(٢) المراغي.
وقرأ الجمهور: ﴿وفصاله﴾ بالألف، وقرأ الحسن وأبو جعفر وقتادة والجحدري ويعقوب ﴿وفصله﴾ ومعناه الفطام، وهما لغتان.
والمعنى: أي وفطامه من الرضاع بعد وضعه في تمام عامين، تقاسي فيها الأم في رضاعه وشؤونه في تلك الحقبة جم المصاعب والآلام، التي لا يقدر قدرها إلا العليم بها، ومن لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وقد وصى (٢) بالوالدين، لكنه ذكر السبب في جانب الأم فحسب؛ لأن المشقة التي تلحقها أعظم، فقد حملته في بطنها ثقيلًا، ثم وضعته وربته ليلًا ونهارًا، ومن ثم قال - ﷺ - لمن سأله من أبر: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم قال بعد ذلك: ثم أباك، ثم فسر هذه الوصية بقوله: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ والأولى أن تكون ﴿أَنِ﴾ مفسرة؛ أي: قلنا له: اشكر لي حيث أوجدتك وهديتك بالإِسلام، واشكر لوالديك حيث ربياك صغيرًا، وقاسا فيك ما قاسا من المشقة، حتى استحكمت قواك، وشكر الحق بالتعظيم والتكبير، وشكر الوالدين بالإشفاق والتوقير، وقال الزجاج: هي مصدرية، والمعنى: بأن اشكر لي، وقال النحاس: وأجود منه أن تكون ﴿أَنِ﴾ مفسرة، وفي "شرح الحكم": قرن شكرهما بشكره، إذ هما أصل وجودك المجازي، كما أن أصل وجودك الحقيقي فضله وكرمه، فله حقيقة الشكر، كما له حقيقة النعمة، ولغيره مجازه، كما لغيره مجازها.
وفي الحديث: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" فجعل شكر الناس شرطًا
(٢) المراغي.
ثم علل الأمر بشكره محذرًا إياه بقوله: ﴿إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾؛ أي: إلى الرجوع لا إلى غيري، فأجازيك على شكرك وكفرك، ومعنى الرجوع إلى الله: الرجوع إليه، حيث لا حاكم ولا مالك سواه.
والمعنى: إليّ رجوعك بالبعث بعد الموت، لا إلى غيري، فأجازيك على ما صدر منك مما يخالف أمري، وسائلك عما كان من شكرك لي، على نعمي عليك، وعلى ما كان من شكرك لوالديك وبرك بهما.
قال سفيان بن عيينة - رحمه الله تعالى -: من صلى الصلوات الخمس.. فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات الخمس.. فقد شكر والديه. وفي الحديث: "من أحب أن يصل أباه في قبره.. فليصل إخوان أبيه من بعده، ومن مات والداه وهو غير بار لهما، وهي حي.. فليستغفر لهما ويتصدق لهما حتى يكتب بارًا لوالديه، ومن زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة.. كان بارًا".
فإن قلت (٢): كيف وقعت الآيتان في أثناء وصية لقمان لابنه؟.
قلت: هما من الجمل الاعتراضية التي لا محل لها من الإعراب، اعترض بها بين كلامين متصلين معنًى، تأكيدًا لما في وصية لقمان لابنه من النهي عن الشرك.
فإن قلت: لم فصل بين الوصية ومفعولها بقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ
(٢) فتح الرحمن.
قلت: تخصيصًا للأم بزيادة التأكيد في الوصية، لما تكابده من المشاف.
١٥ - وبعد أن ذكر سبحانه وصيته بالوالدين، وأكد حقهما ووجوب طاعتهما، استثنى من ذلك حقوقه تعالى؛ فإنه لا يجب طاعتهما فيما يغضبه، فقال: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ﴾؛ أي: وإن كلفك الولدان أيها الإنسان وحملاك ﴿عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي﴾ في العبادة ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ﴾؛ أي: بشركته إياي في استحقاق العبادة ﴿عِلْمٌ﴾ (١) أراد بنفي العلم به نفيه من أصله؛ أي: لا تشرك بي ما ليس بشيء، يريد الأصنام ﴿فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ في الشرك، يعني أن خدمة الوالدين وطاعتهما - وإن كانت عظيمة - فلا يجوز للولد أن يطيعهما في معصية الله تعالى، أيًا كانت شركًا أو غيره؛ أي: فلا تطعهما فيما أمراك به، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به.
روي أن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، قال: لما أسلمت.. حلفت أمي لا تأكل طعامًا، ولا تشرب شرابًا، فناشدتها أول يوم فأبت، وصبرت، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها فأبت، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها، فأبت، فقلت: والله لو كانت لك مئة نفس، فخرجت واحدة واحدة.. لم أدع ديني هذا، فلما رأت ذلك منى وعرفت أنني لست تاركًا له أكلت.
﴿وَصَاحِبْهُمَا﴾؛ أي: وصاحب الوالدين، وعاشرهما أيها الولد ﴿فِي﴾ أمور ﴿الدُّنْيَا﴾ وشؤونها صحابًا ﴿مَعْرُوفًا﴾؛ أي: صحبةً معروفةً في الشرع، يرتضيها الدين ويقتضيها الكرم والمروءة، بإطعامهما وكسوتهما وعدم جفائهما، وعيادتهما إذا مرضًا، ومواراتهما في القبر إذا ماتا، وفي "الخطيب"؛ أي: صاحبهما في أمور الدنيا التي لا تتعلق بالدين ما دمت حيًا ببرهما، إن كانا على دين يقران عليه، ومعاملتهما بالحلم والاحتمال، وما يقتضيه مكارم الأخلاق ومعالم الشيم. اهـ.
وقوله: ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ إشارة (٢) إلى تهوين أمر الصحبة؛ لأنها في أيام قلائل
(٢) المراغي.
ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة فيه.. نفى ذلك بقوله: ﴿وَاتَّبِعْ﴾ في الدين ﴿سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ﴾ ورجع ﴿إِلَيَّ﴾ بالتوحيد والإخلاص في الطاعة، وهم المؤمنون الكاملون من النبي - ﷺ - وأصحابه، ومن اتبعه إلى يوم الدين؛ أي: واسلك سبيل من تاب من تركه ورجع إلى الإِسلام، واتبع محمد - ﷺ -.
والخلاصة: واتبع سبيلي بالتوحيد والإخلاص والطاعة لا سبيلهما ﴿ثُمَّ﴾ بعد انقضاء حياتكم الدنيا ﴿إِلَيَّ﴾ لا إلى غيري ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾؛ أي: مرجعك ومرجعهما ﴿فَأُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أي: فأخبركم وسائر العباد عند رجوعكم ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا، فأجازي كلًّا منكم بما صدر منه من الخير والشر، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته.
نبذة في ذكر أحاديث وآثار وردت في الحث على بر الوالدين
روي أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن أمي هرمت، فأطعمها بيدي وأسقيها وأحملها على عاتقي، فهل جازيتها حقها؟ قال عليه السلام: "لا ولا واحدًا من مئة" قال: ولم يا رسول الله؟ قال: "لأنها خدمتك في وقت ضعفك، مريدة حياتك، وأنت تخدمها مريدًا مماتها، ولكنك أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا".
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "لولا أن أخاف عليكم تغير الأحوال عليكم بعدي.. لأمرتكم أن تشهدوا
وعن عطاء بن يسار: إن قومًا سافروا فنزلوا بريةً فسمعوا نهيق حمار حتى أسهرهم طول الليل، فلما أصبحوا.. نظروا فرأوا بيتًا من شعر فيه عجوز، فقالوا: سمعنا نهيق حمار وليس عندك حمار؟ فقالت: ذاك ابني كان يقول لي: يا حمارة، فدعوت الله أن يصيره حمارًا، فذاك منذ مات ينهق كل ليلة حتى الصباح.
وعن وهب: لما خرج نوح عليه السلام من السفينة.. نام فانكشف عورته، وكان عنده حام ولده فضحك ولم يستره، فسمع سام ويافث صنع حام، فألقيا عليه ثوبًا، فلما سمعه نوح عليه السلام.. قال: غير الله لونك، فجعل السودان من نسل حام، فصار الذل لأولاده إلى يوم القيامة.
ثم إن الآية قد تضمنت النهي عن صحبة الكفار والفساق، والترغيب في صحبة الصالحين، فإن المقارنة مؤثرة، والطبع جذاب، والأمراض سارية، وفي الحديث: "لا تساكنوا المشركين، ولا تجامعوهم، فمن ساكنم أو جامعهم.. فهو منهم، وليس منا"؛ أي: لا تسكنوا مع المشركين في المسكن الواحد، ولا تجتمعوا معهم في المجلس الواحد، حتى لا تسري إليكم أخلاقهم الخبيثة، وسيرهم القبيحة بحكم المقارنة، قال إبراهيم الخواص - رحمه الله تعالى -: دواء القلب خمسة: قراءة القرآن بالتدبر، وإخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع إلى الله تعالى عند السحر، ومجالسة الصالحين. كذا في "البستان".
١٦ - ثم عاد سبحانه إلى ذكر بقية وصايا لقمان لابنه، بعد أن نهى في مطلعها عن الشرك، وأكده بالاعتراض الذي ذكره بقوله: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ﴾ قال مقاتل: إن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبتاه، إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف
وقال بعضهم: المراد بالصخرة (١): أية صخرة كانت، لأنه قال بلفظ النكرة. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: الأرض على الحوت، والحوت في الماء، والماء على صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرةٍ، والصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماوات ولا في الأرض، كذا في "التكملة". هذا ضعيف ليس له أصل، ﴿أَوْ﴾ تكن في ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ مع ما بعدها، وفي بعض التفاسير: في العالم العلوي كمحدب السماوات ﴿أَوْ فِي الْأَرْضِ﴾ مع طولها وعرضها، وفي بعض التفاسير: في العالم السفلي كمقعر الأرض ﴿يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾؛ أي: يحضرها فيحاسب عليها؛ لأنه من يعمل مثقال ذرة خيرًا.. يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا.. يره.
والمعنى: أي (٢) يا بني، إن الفعلة من الإساءة والإحسان، إن تك وزن حبة من خردل، فتكن في أخفى مكان وأحرزه، كجوف الصخرة أو في أعلى مكان، كالسماوات أو في أسفله كباطن الأرض، يحضرها الله يوم القيامة، حين يضع الموازين القسط، ويجازي عليها، إن خيرًا.. فخير، وإن شرًا.. فشر، كما قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾.
(٢) المراغي.
وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى من قول لقمان ﴿لَطِيفٌ﴾ يصل علمه إلى كل خفي، فإن أحد معاني اللطيف هو العالم بخفيات الأمور، ومن عرف أنه العالم بالخفيات.. يحذر أن يطلع عليه فيما هو فيه، ويثق به في علم ما يجهله، ﴿خَبِيرٌ﴾؛ أي: عالم بكنهه يعلم ظواهر الأمور وخوافيها.
قال في "شرح حزب البحر": الخبير: هو العلم بدقائق الأمور، التي لا يتوصل إليها غيره إلا بالاختيار والاحتيال، ومن عرف أنه الخبير.. ترك الرياء والتصنع لغيره بالإخلاص له، فالله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويحيط بأسرار الضمائر وبطون الخواطر ويحاسب عليها، سواء كانت في صخرة النفوس أو في سماء الأرواح، أو في أرض القلوب، وفيه تنبيه لأهل المراقبة، وتحذير من الملاحظات لاطلاع الحق على نوادر الخطرات وبطون الحركات.
١٧ - ولما (١) نهاه أولًا عن الشرك، وأخبره ثانيًا بعلمه تعالى وباهر قدرته.. أمره بما يتوسل به إلى الله تعالى من الطاعات، فبدأ بأشرفها، وهو الصلاة، حيث يتوجه إليه بها، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن جميعها، أو على ما يصيبه بسبب الأمر بالمعروف، ممن يبعثه عليه، والنهي عن المنكر ممن ينكره عليه، فكثيرًا ما يؤذى فاعل ذلك، وهذا إنما يريد
﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ التي (١) هي أكمل العبادات، تكميلًا لنفسك من حيث العمل بعد تكميلها من العلم والاعتقادات؛ لأن النهي عن الشرك فيما سبق قد تضمن الأمر بالتوحيد، الذي هو أول ما يجب على الإنسان؛ أي (٢): أدّها كاملةً على النحو المرضي لما فيها من رضا الرب بالإقبال عليه والإخبات له، ولما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، وإذا تم ذلك.. صفت النفس وأنابت إلى بارئها في السراء والضراء، كما جاء في الحديث: "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وبعد أن أمره بتكميل نفسه توفيةً لحق الله عليه، عطف على ذلك تكميله لغيره فقال: ﴿وَأْمُرْ﴾ غيرك بقدر استطاعتك ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: بالمستحسن شرعًا وعقلًا، وحقيقته: ما يوصل العبد إلى الله تعالى. ﴿وَانْهَ﴾ الناس ﴿عَنِ الْمُنْكَرِ﴾؛ أي: عن المستقبح شرعًا وعقلًا وتكميلًا لغيرك، وحقيقته: ما يشغل العبد عن الله؛ أي: وانْهَهُمْ بقدر استطاعتك عن معاصي الله ومحارمه، التي توبق من اكتسبها، وتلقي به في عذاب السعير، في جهنم وبئس المصير.
﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ من أذى الناس في ذات الله، إذا أنت أمرتهم بالمعروف أو نهيتهم عن المنكر، أو على ما أصابك من الشدائد والمحن، كالأمراض والفقر والهم والغم، والصبر: حبس النفس عما يقتضي الشرع أو العقل والكف عنه، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر؛ لأنهما عمادا الاستعانة إلى رضوان الله تعالى، كما قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾.
ثم ذكر علة ذلك فقال: ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ الذي أوصيك به ﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾؛ أي: من الأمور التي جعلها الله تعالى محتومة واجبةً على عباده، لا محيص عنها لما لها من جزيل الفوائد وعظيم المنافع في الدنيا والآخرة، كما دلت على ذلك تجارب الحياة، وأرشدت إليه نصوص الدين.
(٢) المراغي.
والمعنى: من معزومات الأمور ومقطوعاتها ومفروضاتها، بمعنى مما عزمه الله؛ أي: قطعه قطع إيجاب، وأمر به العباد أمرًا حتمًا، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل؛ أي: من عازمات الأمور وواجباتها ولازماتها من قوله: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ﴾؛ أي: جد. وفي هذا (٢) دليل على قدم هذه الطاعات والحث عليها في شريعة من تقدمنا، وبيان لهذه الأمة من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ينبغي أن يكون صابرًا على ما يصيبه في ذلك، إن كان أمره ونهيه لوجه الله؛ لأنه قد أصابه ذلك في ذات الله وشأنه.
١٨ - وبعد أن أمره بأشياء، حذّره من أخرى فقال:
١ - ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾؛ أي: ولا تعرض بوجهك، ولا تمل خدك عمن تكلمه من الناس، تكبرًا واحتقارًا له، بل أقبل عليه بوجهك كله، متهللًا مستبشرًا من غير كبرٍ ولا عتوٍ، ومن هذا ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله - ﷺ - قال: لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث".
وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وزيد بن علي (٣): ﴿تصعر﴾ بفتح الصاد وشد العين، وباقي السبعة: بألف. والجحدري: ﴿يصعر﴾ مضارع أصعر.
والمعنى: أقبل على الناس بجملة وجهك عند السلام والكلام واللقاء، تواضعًا، ولا تحول وجهك عنهم، ولا تغط شق وجهك وصفحته، كما يفعله المتكبرون استحقارًا للناس، خصوصًا الفقراء، وليكن الغني والفقير عندك على السوية في حسن المعاملة.
٢ - ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ﴾ حال كونك ﴿مَرَحًا﴾؛ أي: ذا مرح وخيلاء وفرح
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
روى (١) يحيى بن جابر الطائي عن غضيف بن الحارث قال: جلست إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه فيقول: يا ابن آدم، ما غرك بي، ألم تعلم أني بيت الوحدة، ألم تعلم أني بيت الظلمة، ألم تعلم أني بيت الحق، يا ابن آدم، ما غرك بي لقد كنت تمشي حولي فدادًا - ذا خيلاء وكبر -. وفي الحديث: "من جرّ ثوبه خيلاء.. لا ينظر الله إليه يوم القيامة".
ثم ذكر علة النهي بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يُحِبُّ﴾ ولا يرضى ﴿كُلَّ مُخْتَالٍ﴾ ومتبختر في مشيه ﴿فَخُورٍ﴾ على الناس، والمختال من الاختيال، وهو التكبر عن تخيل فضيلة فيه، كما سيأتي؛ أي: لا يرضى عن المتكبر المتبختر في مشيته، بل يسخط عليه، وهو بمقابلة الماشي مرحًا، والفخور: هو الذي يفتخر على الناس بما لَهُ من المالِ أو الشرف أو القوة أو غير ذلك، وليس منه التحدث بنعم الله عليه، فإن الله يقول: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ وهو بمقابلة المصعر خده، وتأخيره لرعاية الفواصل.
وفي الحديث: "خرج رجل يتبختر في الجاهلية، عليه حقة، فأمر الله الأرض فأخذته، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة".
قال بعض الحكماء (٢): إذا افتخرت بفرسك.. فالحسن والفراهة له دونك، وإن افتخرت بثيابك وآلاتك.. فالجمال لها دونك، وإن افتخرت بآبائك.. فالفضل فيهم لا فيك، ولو تكلمت هذه الأشياء.. لقالت: هذه محاسننا فما لك
(٢) روح البيان.
وإذا أعجبك شيء من الدنيا.. فاذكر فناءك وبقاءه، أو بقاءك وزواله، أو فناءكما جميعًا، فإذا راقك ما هو لك.. فانظر إلى قرب خروجه من يدك، وبعد رجوعه إليك، وطول حسابه عليك، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر.
حكي: أنه حمل إلى بعض الملوك قدح من فيروزج موضع بالجوهر، لم ير له نظير، ففرح به الملك فرحًا شديدًا، فقال لمن عنده من الحكماء: كيف ترى هذا؟ فقال: أراه فقرًا حاضرًا ومصيبةً عاجلةً، قال: وكيف ذلك؟ قال: إن انكسر.. كانت مصيبة لا جبر لها، وإن سرق.. صرت فقيرًا إليه، وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر، فاتفق أنه انكسر القدح يومًا، فعظمت المصيبة على الملك، وقال: صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا.
إِنَّمَا الدُّنْيَا كَرُؤْيَا فَرَّحَتْ | مَنْ رَآهَا سَاعَةً ثُمَّ انْقَضَّتْ |
وقد ثبت أن رسول الله - ﷺ - كان إذا مشى.. أسرع، فلا بد أن يحمل القصد هنا على ما جاوز الحد في السرعة، وقال مقاتل: معناه: لا تختل في مشيتك، وقال عطاء: امش بالوقار والسكينة، كقوله: ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾.
والمعنى (٢): توسط بين الدبيب والإسراع، فلا تمش كمشي المظهرين الضعف في المشي، فكأنهم أموات، وهم المراؤون الذين ضل سعيهم، ولا كمشي الشطار ووثوبهم، وعليك بالسكينة والوقار.
وفي الحديث: "سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن". قال بعضهم: إن للشيطان من آدم نزغتين، بأيتهما ظفر قنع: الإفراط والتفريط، وذلك في كل شيء
(٢) روح البيان.
وقرىء (١): ﴿وأقصد في مشيك﴾ بهمزة القطع.
والخلاصة: أي وامش مشيًا مقتصدًا، ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل امش هونًا بلا تصنع، ولا مراءة للخلق بإظهار التواضع أو التكبر، روي عن عائشة أنها نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتًا فقالت: ما لهذا؟ فقيل: إنه من القراء - الفقهاء العالمين بكتاب الله - قالت: كان عمر سيد القراء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع.
ورأى عمر رجلًا متماوتًا فقال له: لا تمت علينا ديننا - أماتك الله -. ورأى رجلًا مطأطئًا رأسه فقال له: ارفع رأسك فإن الإِسلام ليس بمريض.
﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾؛ أي: وانقص من صوتك واخفضه واقصر على قدر الحاجة، ولا تتكلف رفعه في محل الخطاب، والكلام خصوصًا عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعند الدعاء والمناجاة، فإن الجهر بأكثر من الحاجة يؤذي السامع، والخفض أوقر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه، والصوت هو الهواء المنضغط عند قرع جسمين، كما سيأتي بسطه في مبحث المفردات.
ثم علل النهي وبينه بقوله: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ﴾؛ أي: إن أبشع الأصوات وأقبحها، الذي ينكره العقل الصحيح، ويحكم بقبحه برفعها فوق الحاجة بلا داعٍ ﴿لـ﴾ هو ﴿صَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ وغاية من يرفع صوته أنه يجعله شبيهًا بصوت الحمار في علوه، ورفعه، وهو البغيض إلى الله تعالى. وفي ذلك ما لا يخفى من الذم وتهجين رفع الصوت، والترغيب عنه، ومن جعل الرافع صوته كأنه حمار مبالغةً في التنفير من عمله، وهذا أدب من الله لعباده بترك الصياح عند وجوه الناس تهاونًا بهم، أو بترك الصياح جملةً، وقد كانت العرب تفخر بجهارة الصوت، فمن كان منهم أشد صوتًا.. كان أعز، وكان أخفض.. كان أذل، قال شاعرهم:
جَهِيْرُ الْكَلاَمِ جَهِيْرُ الْعُطَاسْ | جَهِيْرُ الرُّوَاءِ جَهِيْرُ النِّعَمْ |
وَيَعْدُوْ عَلَى الأيْنِ عَدْوَ الظَّلِيْمِ | وَيَعْلُو الرِّجَالَ بِخَلْق عَمِمْ (١) |
وأفرد الصوت مع إضافته إلى الجمع، لما أن المراد ليس بيان حال صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، بل بيان حال صوت هذا الجنس من بين أصوات سائر الأجناس، فإن كل حيوان يفهم من صوته أنه يصيح من ثقل أو تعب، كالبعير أو لغير ذلك، والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح، ولو قتل لا يصيح، وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق بصوت أوله زفير وآخره شهيق، وهما فعل أهل النار.
قال أبو الليث: صوت الحمار كان هو المعروف عند العرب وسائر لناس بالقبح، وإن كان قد يكون ما سواه أقبح منه في بعض الحيوان، وإنما ضرب الله المثل بما هو معروف عند الناس بالقبح؛ لأن أوله زفير وآخره شهيق، كصوت أهل النار، يتوحش من يسمعه ويتنفر منه كل التنفر.
والمعنى: أن أنكر أصوات الناس حين يصوتون ويتكلمون، لصوت من يصوت صوت الحمار؛ أي: يرفع صوته عند التصويت كما يرفع الحمار صوته.
قال سفيان الثوري: صوت كل شيء تسبيح إلا صوت الحمير، فإنها تصيح لرؤية الشيطان، ولذلك سماه منكرًا. وفي الحديث: "إذا سمعتم نهاقة الحمير - وهو بالضم صوتها - فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانًا، وإذا سمعتم صياح الديكة، بفتح الياء جمع ديك.. فاسألوا من فضله، فإنها رأت ملكًا". وفي الحديث دلالة على نزول الرحمة عند حضور أهل الصلاح، فيستحب الدعاء في ذلك الوقت، وعلى نزول الغضب عند أهل المعصية، فيستحب التعوذ، كما في
ومن هنا قال النبي - ﷺ -: "يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب"؛ أي: يقطع كمالها وينقصها مرور هذه الأشياء بين يدي المصلي، أما المرأة فلكونها أحب الشهوات إلى الناس، وأشد فسادًا للحال من الوسواس، وأما الكلب الأسود فلكونه شيطانًا، كما قال النبي - ﷺ -: "الكلب الأسود شيطان" سمى شيطانًا لكونه أعقر الكلاب وأخبثها وأقلها نفعًا وأكثرها نعاسًا، ومن هذا قال الإِمام أحمد بن حنبل: لا يحل الصيد به، وأما الحمار فلكون الشيطان قد تعلق بذنبه حين دخل سفينة نوح عليه السلام، فهو غير مفارق عنه في أكثر الأوقات، وهو السر في اختصاص الحمار برؤية الشيطان. والله أعلم.
كما أن وجه اختصاص الديك برؤية الملك، كون صياحه تابعًا لصياح ديك العرش، كما ثبت في بعض الروايات الصحيحة، فالملك غير مفارق عنه في غالب الحالات، وفي الحديث: "إن الله يبغض ثلاثة أصواتها، نهقة الحمير، ونباح الكلب، والداعية بالحرب".
٢٠ - ولما فرع الله سبحانه من قصة لقمان.. رجع إلى توبيخ المشركين على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد، وتبكيتهم، وإقامة الحجج عليهم فقال: ﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾؛ أي: ألم تعلموا يا بني آدم ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَخَّرَ﴾ وذلل ﴿لَكُمْ﴾؛ أي: لمنافعكم، والتسخير سوق الشيء إلى الغرض المختص به قهرًا ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من (١) الكواكب السيارة، مثل الشمس والقمر وغيرهما، والملائكة المقربين، بأن جعلها أسبابًا محصلة لمنافعكم، ومراداتكم، فتسخير الكواكب بأن الله تعالى سيرها في البروج على الأفلاك التي دبر لكل واحد منها فلكًا، وقدر لها القرانات والاتصالات، وجعلها مدبرات العالم السفلي من الزماني، مثل الشتاء والصيف والخريف والربيع، ومن المكاني مثل المعدن والنبات والحيوان والإنسان، وظهور الأحوال المختلفة بحسب
ومنها المعقبات من بين أيديهم ومن خلفهم، يحفظونهم من أمر الله، حتى جعل على الأرحام ملائكةً، فإذا وقعت نطفة الرجل في الرحم. يأخذها الملك بيده اليمنى، وإذا وقعت نطفة المرأة.. يأخذها الملك بيده اليسرى، وإذا أمر بمشجها.. يمشج النطفتين، وذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ والملائكة الموكلون على الجنة والنار، كلهم مسخرون لمنافع الإنسان ومصالحهم، حتى الجنة والنار مسخرتان لهم تطميعًا وتخويفًا؛ لأنهم يدعون ربهم خوفًا وطمعًا.
﴿و﴾ سخر لكم ﴿مَا فِي الْأَرْضِ﴾ من الجبال والصحارى والبحار والأنهار والحيوانات والنباتات والمعادن، بأن مكنكم من الانتفاع بها بوسط أو بغير وسط، فيدخل في ذلك جميع مخلوقات الأرض المسخرة لبني آدم، من الأحجار والتراب والزرع والشجر، والثمر والحيوانات التي ينتفعون بها، والعشب الذي يرعون فيه دوابهم، وغير ذلك مما لا يحصى كثرةً.
فالمراد بالتسخير: جعل المسخر بحيث ينتفع به المسخر له، سواء كان منقادًا له وداخلًا تحت تصرفه أم لا، ﴿و﴾ أن الله ﴿أَسْبَغَ﴾ وأتم وأكمل ﴿عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ﴾ يقال: سبغت النعمة: إذا تمت وكملت وكثرت.
وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة (١): ﴿وأصبغ﴾ بالصاد، وهي لغة لبني كلب يبدلونها من السين إذا جامعت الغين أو الخاء أو القاف صادًا، وباقي
حالة كون تلك النعم ﴿ظَاهِرَةً﴾؛ أي (١): محسوسةً مشاهدة، مثل حسن الصورة وامتداد القامة، والحواس الظاهرة من السمع والبصر والشم والذوق واللمس والنطق، وذكر اللسان والرزق والمال والجاه والخدم والأولاد والصحة والعافية والأمن ووضع الوزر ورفع الذكر، والأدب الحسن، ونفس بلا ذلة، وقدم بلا زلة، والإقرار والإِسلام من نطق الشهادتين، والصلاة والصوم والزكاة، والحج وتعلم القرآن وحفظه، ومتابعة الرسول إلى غير ذلك.
﴿و﴾ حالة كونها ﴿بَاطِنَةً﴾؛ أي: معقولةً غير مشاهدة بالحس، كنفخ الروح في البدن، وإشراقه بالعقل والفهم والفكر والمعرفة، وتزكية النفس عن الرذائل، وتحلية القلب بالفضائل، ولذا قال عليه السلام: "اللهم كما حسنت خَلقي، فحسن خُلقي" ومحبة الرسول وزينه في قلوبكم، واتصال الذكر على الدوام والرضى والغفران وقلب بلا غفلة، وتوجهٍ بلا علةٍ، وفيض بلا قلةٍ".
والمعنى (٢): أي ألم تروا أيها الناس، أن الله هو الذي سخر لكم ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم، تستضيئون بها ليلًا ونهارًا، وتهتدون بها في ظلمات البر والبحر، وسحاب ينزل لكم الأمطار لسقي الناس والحيوان والمزارع المختلفة، وما في الأرض من الدواب والأشجار والمياه والبحار والسفن والمعادن التي في باطنها إلى نحو ذلك من المنافع التي جعلها لغذائكم وأقواتكم، فتتمتعون ببعض ذلك وتنتفعون بجميع ذلك، وأتم عليكم نعمة محسوسة وغير محسوسة.
والخلاصة: أنه تعالى نبه خلقه إلى ما أنعم به عليهم في الدنيا والآخرة، بأن سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليهم من النعم الظاهرة
(٢) المراغي.
روي: أن النبي - ﷺ - قال لابن عباس، وقد سأله عن هذه الآية: "الظاهرة: الإِسلام وما حسن من خلقك، والباطنة: ما ستر عليك من سيء عملك" وقيل: الظاهرة: الصحة وكمال الخلق، والباطنة: المعرفة والعقل، وقيل: الظاهرة: ما يرى بالأبصار من المال والجاة والجمال وتوفيق الطاعات، والباطنة: ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين، وما يدفع عن العبد من الآفات، وقيل: الظاهرة: نعم الدنيا، والباطنة: نعم الآخرة.
ثم ذكر أنه مع كل هذه الأدلة الظاهرة قد مارى وجادل بعض الناس دون برهان عقل، ولا مستند من نقل، فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾؛ أي: وبعض الناس، فهو مبتدأ، وخبره قوله: ﴿مَنْ يُجَادِلُ﴾؛ أي: وبعض الناس والمشركين يخاصم ﴿فِي﴾ توحيد ﴿اللَّهِ﴾ سبحانه وصفاته وينكرها، كالنضر بن الحارث وأبي بن خلف، ويميل إلى الشرك حيث يزعم أن الملائكة بنات الله ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ مستفاد من عقل ﴿وَلَا هُدًى﴾ مستفادٍ من جهة الرسول ﴿وَلَا كِتَابٍ﴾ أنزله الله سبحانه ﴿مُنِيرٍ﴾؛ أي: مضيء له بالحجة،
٢١ - بل يجادل بمجرد التقليد، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾؛ أي: لهؤلاء المجادلين، والجمع باعتبار معنى من ﴿اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ تعالى على نبيه من القرآن الواضح، والنور البيّن، فآمنوا به ﴿قَالُوا﴾ لا نتبعه ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ الأقدمين من عبادة الأصنام والأوثان والملائكة، فإنهم كانوا أهل حق ودين صحيح، فنعبد ما كانوا يعبدونه من الأصنام، ونمشي في الطريق الذي كانوا به في دينهم، فوبخهم سبحانه على تلك المقالة التي هي من حبائل الشيطان ووساوسه، فقال: ﴿أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ﴾؛ أي: يدعو آباءهم، والهمزة فيه (١) للاستفهام الإنكاري المضمن للتعجب من التعلق بشبهة هي في غاية البعد من مقتضى العقل، داخلة على محذوف، والضمير عائد إلى الآباء، والجملة في حيز النصب على الحالية من المحذوف.
ويجوز أن يراد أنه يدعو هؤلاء الأتباع إلى عذاب السعير؛ لأنه زين لهم اتباع آبائهم والتدين بدينهم، ويجوز (١) أن يراد أنه يدعو جميع التابعين والمتبوعين إلى العذاب، فدعاؤه للمتبوعين بتزيينه لهم الشرك، ودعاؤه للتابعين بتزيينه لهم دين آبائهم، وفي الآية منع صريح من التقليد، وما أقبح التقليد، وأكثر ضرره على صاحبه، وأوخم عاقبته، وأشأم عائدته على من وقع فيه، فإن الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله، كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحترق، فتأبى ذلك، وتتهافت في نار الحريق وعذاب السعير.
فائدة: والتقليد لغةً (٢): وضع الشيء في العنق محيطًا به، ومنه القلادة، ثم استعمل في تفويض الأمر إلى الغير كأنه ربطه بعنقه، واصطلاحًا: قبول قول الغير بلا حجة، فيخرج الأخذ بقول النبي - ﷺ -؛ لأنه حجة في نفسه، وفي "التعريفات" (٣): التقليد: عبارة عن اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل، معتقدًا للحقية فيه من غير نظر وتأمل في الدليل، كأن هذا المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادةً في عنقه. انتهى.
والمعنى (٤): أي أيتبعونهم على كل حال دون نظر إلى الدليل، فربما كان اعتقادهم مبنيًا على الهوى وترهات الأباطيل، سداه ولحمته: ما زينه لهم الشيطان من وساوس لا تستند إلى حجة ولا برهان.
والخلاصة: أما كان لهم أن يفكروا ويتدبروا حتى يعلموا الحق من الباطل،
(٢) روح البيان.
(٣) التعريفات.
(٤) المراغي.
الإعراب
﴿الم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)﴾.
﴿الم (١)﴾: تقدم إعراب هذه الكلمة مرةً بعد مرةً، فلا عودة ولا إعادة. ﴿تِلْكَ﴾: مبتدأ. ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾: خبره ومضاف إليه، والجملة: مستأنفة. ﴿الْحَكِيمِ﴾: صفة لـ ﴿الْكِتَابِ﴾، وسيأتي معنى إسناد الحكمة إليه في مبحث البلاغة، ﴿هُدًى وَرَحْمَةً﴾: حالان من ﴿الآيات﴾، والعامل فيهما ما في تلك من معنى الإشارة. ﴿لِلْمُحْسِنِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة أو بنفس المصدر، تنازع فيه كل من الحالين ﴿الَّذِينَ﴾ صفة ﴿لِلْمُحْسِنِينَ﴾. ﴿يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾: كذلك معطوف على الصلة، ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ، ﴿بِالْآخِرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يُوقِنُونَ﴾، و ﴿هُمْ﴾: الثاني تأكيد للأول، وجملة ﴿يُوقِنُونَ﴾: خبر لـ ﴿هُم﴾ الأول، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة الصلة. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿عَلَى هُدًى﴾: خبره، ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾: صفة لـ ﴿هُدًى﴾، والجملة الاسمية: مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها ومدحًا لهم، ﴿وَأُولَئِكَ﴾: مبتدأ، ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل، ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾: خبر للمبتدأ، والجملة: معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٦)﴾.
﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾: خبر مقدم، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول مبتدأ مؤخر، ﴿مَنْ﴾: فعل وفاعل مستتر، وهو عائد الموصول ومفعول به، والجملة الفعلية: صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والجملة الاسمية: مستأنفة مسوقة لتقرير حال
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٧)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿تُتْلَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُتْلَى﴾، ﴿آيَاتُنَا﴾: نائب فاعل لـ ﴿تُتْلَى﴾. والجملة الفعلية: في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، ﴿وَلَّى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، ﴿مُسْتَكْبِرًا﴾: حال من فاعل ﴿وَلَّى﴾، وجملة ﴿وَلَّى﴾: جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾: معطونة على جملة ﴿يَشْتَرِي﴾ على كونها صلة الموصول. ﴿كَأَنْ﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، أي: كأنه، وجملة: ﴿لَمْ يَسْمَعْهَا﴾: في محل الرفع خبرها، وجملة؛ ﴿كَأَنْ﴾: في محل النصب حال ثانية من فاعل ﴿وَلَّى﴾، ﴿كَأَنْ﴾: حرف نصب وتشبيه، ﴿فِي أُذُنَيْهِ﴾: خبر مقدم لـ ﴿كَأَنْ﴾، ﴿وَقْرًا﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿كَأَنْ﴾: حال من فاعل: ﴿يَسْمَعْهَا﴾ أو بدل من جملة ﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا﴾، وأجاز الزمخشري أن تون جملتا التشبيه مستأنفتين، ﴿فَبَشِّرْهُ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر،
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿خَالِدِينَ﴾ حال مقدرة من ضمير لهم، ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾: مصدر مؤكد لنفسه منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: وعدهم الله ذلك وعدًا، والجملة المحذوفة: مستأنفة مسوقة لتأكيد ما قبلها، وإنما قلنا مؤكد لنفسه لأن معنى ﴿لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾: وعدهم الله بها، فأكد معنى الوعد بالوعد، ﴿حَقًّا﴾: مصدر مؤكد لغيره، منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: حقه حقًا، أي: حق ذلك الوعد حقًا، والجملة المحذوفة: مستأنفة مسوقة لتأكيد ما قبلها، وإنما قلنا مؤكد لغيره؛ لأن ﴿حَقًّا﴾: دال على معنى الثبات أكد به معنى الوعد، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾: مبتدأ وخبر أول، ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر ثان، والجملة الاسمية: مستأنفة. ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية: مستأنفة مسوقة للاستدلال على قدرته تعالى وعزته، ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من ﴿السَّمَاوَاتِ﴾؛ أي: حالة كونها خاليةً من عمد، ﴿تَرَوْنَهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والرؤية هنا بصرية، والجملة الفعلية: في محل الجر صفة لـ ﴿عَمَدٍ﴾؛ أي: بغير عمدٍ مرئية لكم.
﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١١)﴾.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف
﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة إذ قال لقمان، والجملة المحذوفة: مستأنفة، ﴿قَالَ لُقْمَانُ﴾: فعل وفاعل، ﴿لِابْنِهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾، ﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿هو﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَعِظُهُ﴾: خبره، والجملة الاسمية، في محل النصب حال من ﴿لُقْمَانُ﴾. ﴿يَا بُنَيَّ﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿بني﴾: منادى مضاف إلى ياء
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤)﴾.
﴿وَوَصَّيْنَا﴾: ﴿الواو﴾: اعتراضية. ﴿وصينا الإنسان﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية مع ما بعدها، إلى قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين وصايا القمان لابنه، مؤكدة لما اشتملت عليه من النهي عن الشرك، ﴿بِوَالِدَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿وصينا﴾، ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة: معترضة بين المفسَّر الذي هو ﴿وصينا﴾ والمفسِّر الذي هو ﴿أَنِ اشْكُرْ﴾: لا محل لها من الإعراب، ﴿وَهْنًا﴾: حال من ﴿أُمُّهُ﴾ ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: حالة كونه ذات وهن، أو مصدر مؤكد لفعل محذوف وقع حالًا، تقديره حالة كونها تهن وهنًا على. ﴿عَلَى وَهْنٍ﴾ صفة لـ ﴿وَهْنًا﴾. ﴿وَفِصَالُهُ﴾: مبتدأ، ﴿فِي عَامَيْنِ﴾: خبره، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿حَمَلَتْهُ﴾: على كونها معترضة. ﴿أَنِ﴾: مفسرة، ﴿اشْكُرْ﴾: فعل وفاعل مستتر، والجملة: مفسرة لـ ﴿وصينا﴾، واختار الزجاج أن تكون ﴿أَنِ﴾ مصدرية، والمصدر المؤول منها: منصوب بنزع الخافض، والخافض المحذوف: متعلق بـ ﴿وصينا﴾؛ أي: ولقد وصينا الإنسان بالشكر لي ولوالديه وليس ببعيدٍ ﴿لِي﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اشْكُرْ﴾، ﴿وَلِوَالِدَيْكَ﴾: معطوف عليه، ﴿إِلَيَّ﴾: خبر مقدم، ﴿الْمَصِيرُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة.
﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾.
﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
﴿وَصَاحِبْهُمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿صاحبهما﴾: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على جواب ﴿إن﴾ الشرطية، ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: حال من ضمير المفعول، ﴿مَعْرُوفًا﴾: منصوب بنزع الخافض؛ أي: بالمعروف، ﴿وَاتَّبِعْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على الجواب أيضًا، ﴿سَبِيلَ﴾: مفعول به، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، وجملة ﴿أَنَابَ﴾: صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿إِلَيَّ﴾: متعلق بـ ﴿أَنَابَ﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿إِلَيَّ﴾: خبر مقدم، ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة ﴿اتبع﴾، ﴿فَأُنَبِّئُكُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أنبئكم﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أنبئكم﴾، والجملة الفعلية: معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: خبره،
﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)﴾.
﴿يَا بُنَيَّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء، معطوفة بعاطف مقدر على جملة النداء في قوله: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قال﴾، ﴿إِنَّهَا﴾: ناصب واسمه، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم، ﴿تَكُ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، وعلامة جزمه سكون النون المحذوفة للتخفيف، واسمها ضمير مستتر جوازًا، تقديره: هي يعود على الخطيئة، ﴿مِثْقَالَ حَبَّةٍ﴾: خبرها، ﴿مِنْ خَرْدَلٍ﴾: صفة لـ ﴿حَبَّةٍ﴾، ﴿فَتَكُنْ﴾: فعل مضارع ناقص معطوف على ﴿تَكُ﴾، واسمها ضمير يعود على الخطيئة أيضًا، ﴿فِي صَخْرَةٍ﴾ خبر ﴿تكن﴾، ﴿أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ﴾: معطوفان على ﴿فِي صَخْرَةٍ﴾، ﴿يَأْتِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، ﴿بِهَا﴾: متعلق بـ ﴿يَأْتِ﴾، ﴿اللَّهُ﴾: فاعل ﴿يَأْتِ﴾. وجملة ﴿إن﴾ الشرطية من فعل شرطها وجوابها في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾. وجملة ﴿إنّ﴾ واسمها في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها جواب النداء، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَطِيفٌ﴾: خبر أول له، ﴿خَبِيرٌ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها معللةً لما قبلها.
﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧)﴾.
﴿يَا بُنَيَّ﴾: منادى مضاف معطوف بعاطف مقدر على قوله: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ على كونه مقول ﴿قال﴾، ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قال﴾: على كونها جواب النداء، ﴿وَأْمُرْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على ﴿أَقِمِ﴾، ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾: متعلق به، ﴿وَانْهَ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على أيضًا على ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾، {عَنِ
﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (١٨)﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تُصَعِّرْ خَدَّكَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿تُصَعِّرْ﴾، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾. ﴿وَلَا تَمْشِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَمْشِ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾، ﴿مَرَحًا﴾: منصوب على الحالية، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: ذا مرح، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: مشيًا مرحًا، أو مفعول لأجله، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ﴾: حرف ناف وفعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، ﴿فَخُورٍ﴾: صفة لـ ﴿مُخْتَالٍ﴾: أو عطف بيان منه، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها معللةً لما قبلها.
﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)﴾.
﴿وَاقْصِدْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾، ﴿فِي مَشْيِكَ﴾: متعلق بـ ﴿اقصد﴾، ﴿وَاغْضُضْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾، ﴿مِنْ صَوْتِكَ﴾ متعلق بـ ﴿اغضض﴾. ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾: خبره ومضاف إليه، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها معللةً لما قبلها.
﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿تَرَوْا﴾: فعل مضارع وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾، والرؤية هنا قلبية، والجملة: مستأنفة مسوقة لتوبيخ المشركين على شركهم مع قيام الحجة، ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿سَخَّرَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿سَخَّرَ﴾ وجملة ﴿سَخَّرَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾: في تأويل مصدر ساد مسد مفعول ﴿تَرَوْا﴾. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَّا﴾ الموصولة، ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿وَأَسْبَغَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على ﴿سَخَّرَ﴾، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أسبغ﴾. ﴿نِعَمَهُ﴾: مفعول به، ﴿ظَاهِرَةً﴾: حال من ﴿نِعَمَهُ﴾، ﴿وَبَاطِنَةً﴾: معطوف على ﴿ظَاهِرَةً﴾، ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾: خبر مقدم، ﴿مَن﴾: مبتدأ مؤخر، وجملة ﴿يُجَادِلُ﴾: صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، ﴿فِي اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُجَادِلُ﴾، والجملة الاسمية: مستأنفة، ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل ﴿يُجَادِلُ﴾، ﴿وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ﴾: معطوفان على ﴿علم﴾، ﴿مُنِيرٍ﴾: صفة لـ ﴿كِتَابٍ﴾.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٢١)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لَهُمُ﴾: متعلق به، ﴿اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: نائب فاعل محكي لـ ﴿قِيلَ﴾، وجملة ﴿قِيلَ﴾: في محل الجر بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، وإن شئت قلت: ﴿اتَّبِعُوا﴾: فعل أمر وفاعل، ﴿مَا﴾: اسم موصول مفعول به، والجملة: في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾، ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿مَا﴾، والعائد: محذوف: ؛ أي: أنزله الله. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل جواب ﴿إذا﴾، وجملة ﴿إذا﴾: معطوفة على جملة ﴿يُجَادِلُ﴾ على كونها
التصريف ومفردات اللغة
﴿الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾: إما فعيل بمعنى مفعل؛ أي: المحكم المحروس من التغيير والتبديل، والممنوع من الفساد والبطلان، فهو فعيل بمعنى مفعل، وإن كان قليلًا في كلامهم، كقولهم: أعقدت الدبس فهو عقيد؛ أي: معقد، أو بمعنى فاعل؛ أي: الحاكم بين العباد ببيان الحلال والحرام، والصحيح والفاسد.
﴿يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾: وفي "المفردات": إقامة الشيء، توفية حقه، وإقامة الصلاة: توفية شرائطها، لا الإتيان بهيئتها.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾: والاشتراء: دفع الثمن وأخذ المثمن، والبيع: دفع المثمن وأخذ الثمن، وقد يتجوز بالشراء والاشتراء عن كل ما يحصل به شيء، واللهو: مصدر لها يلهو، والمراد به هنا: اسم الفاعل؛ أي:
﴿كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا﴾ والوقر الصمم، قال في "المفردات": الوقر: الثقل في الأذن، وفي "فتح الرحمن": الوقر الثقل الذي يغير إدراك المسموعات. ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾: والعمد: بفتحتين: جمع عماد، كأهب وإهاب، وهي السارية، وفي "المصباح": وعمدت الحائط عمدًا: دعمته، وأعمدته بالألف لغةً، والعماد: ما يسند به، والجمع عمد بفتحتين، وفيه أيضًا الدعامة بالكسر: ما يسند به الحائط إذا مال يمنعه السقوط، ودعمت الحائط دعمًا من باب نفع.
﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾ قال ابن عباس: هي الجبال الشامخات من أوتاد الأرض، وهي سبعة عشر جبلًا، منها: قاف - وأبو قبيس - والجودي ولبنان - وطور سنين - وطور سيناء، أخرجه ابن جرير في "المبهمات" للسيوطي. اهـ. ابن لقيمة على "البيضاوي"، وفي "المختار" رسا الشيء، ثبت، وبابه عدا وسما، والرواسي من الجبال: الثوابت الرواسخ، واحدتها راسية. اهـ. والإلقاء: طرح الشيء حيث تلقاه وتراه، ثم صار في التعارف اسمًا لكل طرح.
﴿أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾: الميد: اضطراب الشيء العظيم، كاضطراب الأرض، يقال: ماد يميد ميدًا وميدانًا: إذا تحرك واضطرب.
﴿وَبَثَّ فِيهَا﴾: وأصل البث: إثارة الشيء، وتفريقه، كبث الريح التراب.
﴿مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ وهي كل ما يدب على الأرض، من الدب، والدبيب، وكذا الدب: المشي الخفيف، ويستعمل ذلك في الحيوان، وفي الحشرات أكثر.
﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: من السحاب؛ لأن السماء في اللغة: ما علاك وأظلك، كما مر.
﴿كَرِيمٍ﴾؛ أي: كثير المنفعة، قال في "المفردات": وكل شيء يشرف في بابه، فإنه يوصف بالكرم.
واعلم: وفقنا الله تعالى جميعًا للتفكر في عجائب صنعه، وغرائب قدرته، أن عقول العقلاء، وأفهام الأذكياء قاصرة متحيرة في أمر النباتات والأشجار، وعجائبها وخواصها وفوائدها ومضارها ومنافعها، وكيف لا؟ وأنت تشاهد اختلاف أشكالها، وتباين ألوانها، وعجائب صور أوراقها، وروائح أزهارها، وكل لون من ألوانها ينقسم إلى أقسام، كالحمرة مثلًا كوردي وأرجواني وسوسني وشقائق وخمري وعنابي وعقيقي ودموي، ولكي وغير ذلك، مع اشتراك الكل في الحمرة، ثم عجائب روائحها ومخالفة بعضها بعضًا، واشتراك الكل في طيب الرائحة، وعجائب أشكال أثمارها وحبوبها وأوراقها، ولكل لون وريح وطعم وورقٍ وثمرة وزهر وحب خاصية لا تشبه الأخرى، ولا يعلم حقيقة الحكمة فيها إلا الله تعالى، والذي يعرف الإنسان من ذلك بالنسبة إلى ما لا يعرفه كقطرة من بحر.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ قال الراغب: الحكمة: إصابة الحق بالعلم والعمل، فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الأحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات على ما هي عليه، وفعل الخيرات، وهذا هو الذي وصف به لقمان في هذه الآية.
﴿وَهُوَ يَعِظُهُ﴾ والوعظ: زجر يقترن بتخويفٍ، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب، والاسم: العظة والموعظة.
﴿يَا بُنَيَّ﴾: بالتصغير والإضافة إلى ياء المتكلم بالفتح والكسر، وتقدم البحث عن إعرابه، وأصله في سورة يوسف، فراجعه.
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: أمرناه، يقال: وصيت زيدًا بعمرو: أمرته بتعهده ومراعاته.
﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ في "القاموس": الفصال: فطم الولد، وفيه أيضًا: وفصل الولد عن الرضاع، وبابه ضرب، والفصال: التفريق بين الصبي والرضاع، ومنه الفصيل، وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه، والعام بالتخفيف: السنة، لكن كثيرًا ما تستعمل السنة في الحول الذي فيه الشدة والجدب، ولذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام: فيما فيه الرخاء؛ أي: فطام الإنسان من اللبن، يقع في تمام عامين من وقت الولادة، وهي مدة الرضاع عند الشافعي، كما مر.
﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ﴾ المجاهدة: استفراغ الجهد؛ أي: الوسع في مدافعة العدو.
﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ قال في "المفردات": المعروف: اسم لكل فعل يعرف بالعقل، والشرع حسنه، والمنكر: ما ينكر بهما، ولهذا قيل للاقتصاد في الجود: معروف، لما كان ذلك مستحسنًا في العقول بالشرع.
﴿إِنَّهَا إِنْ تَكُ﴾ أصله: تكون، حذف الواو لاجتماع الساكنين، الحاصل من سقوط حركة النون بـ ﴿إن﴾ الشرطية، وحذفت النون أيضًا تشبيهًا لها بحرف العلة في امتداد الصوت، أو بالواو وفي الغنة، أو بالتنوين، وقال بعضهم: حذفت تخفيفًا لكثرة الاستعمال، فلا تحذف من مثل لم يصن ولم يخن، فإن وصلت بساكن.. ردت النون وتُحرك نحو ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
﴿مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ المثقال: ما يوزن به، وهو من الثقل، وذلك اسم لكل صنج. وفي "كشف الأسرار": مثقال الشيء: ما يساويه في الوزن، وكثر الكلام فيه، فصار عبارةً عن مقدار الدنيا. انتهى، والحبة: واحد الحبوب، والخردل: نبات له حب صغير جدًا أسود مقرح، الواحدة: خردلة، ويقال: خردل الطعام: أكل خياره، وخردل اللحم: قطع أعضاءه وافرةً صغارًا.
﴿فِي صَخْرَةٍ﴾ الصخر: الحجر الصلب، والمراد بالصخرة: أية صخرة
﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ العزم والعزيمة: عقد القلب على إمضاء الأمر، وعزم الأمور: ما لا يشوبه شبهة، ولا يدافعه ريبة.
﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ التصعر: التواء وميل في العنق من خلقة أو داء أو من كبر في الإنسان وفي الإبل، والتصعير: إمالته عن النظر كبرًا كما في "تاج المصادر". ولما كان ذلك لغرض من الأغراض التي لا تدوم.. أشار إلى المقصود به بقوله: ﴿لِلنَّاسِ﴾ بلام العلة؛ أي: لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم، وفي "المصباح": الصعر، بفتحتين: ميل في العنق وانقلاب في الوجه إلى أحد الشدقين، وربما كان الإنسان أصعر خلقةً، أو صعره غيره بشيء يصيبه، وهو مصدر من باب تعب وصعر خده بالتثقيل، وصاعره: أماله عن الناس إعراضًا وتكبرًا. انتهى. وخد الإنسان: ما اكتنف الأنف عن اليمين والشمال، أو ما جاوز مؤخر العينين إلى منتهى الشدق، أو من لدن المحجر إلى اللحى، كما في "القاموس".
﴿مَرَحًا﴾ المرح: أشد الفرح والخفة الحاصلة من النعمة، كالأشر والبطر.
﴿مُخْتَالٍ﴾ الاختيالَ والخيلاء: التكبر عن تخيل فضيلة، ومنه لفظ الخيل، كما قيل: إنه لا يركب أحد فرسًا إلا وجد في نفسه نخوةً، فالمختال: المتكبر المتبختر في مشيته.
﴿فَخُورٍ﴾ من الفخر، والفخر: المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان، كالمال والجاه، والفخور: الذي يعدد مناقبه تطاولًا بها، واحتقارًا لمن عدم مثلها.
﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ القصد: ضد الإفراط والتفريط، والمعنى: واعدل في المشي بعد الاجتناب عن المرح، فيه، حتى يكون مشيًا بين مشيين، لا تدب دبيب المتماوتين، ولا تثب وثب الشطار.
﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾ يقال: غض صوته وغض بصره: إذا خفض صوته
﴿لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾: جمع حمار، قال بعضهم: سمي حمارًا لشدته، من قولهم طعنة حمراء؛ أي: شديدة، وحمارة القيظ: شدته.
﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ﴾ أصل تروا تريوا: تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان ثم حذفت الألف لبقاء دالها، فصار تروا بوزن تفوا، والتسخير: سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهرًا.
﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ﴾ يقال: أسبغ الله عليه النعمة: أتمها، وأسبغ الثوب أوسعه وأطاله، وأسبغ الرجل: لبس درعًا سابغةً، وأسبغ له النفقة: وسع عليه وأنفق تمام ما يحتاج إليه، وفي "المصباح": وسبغت النعمة سبوغًا: اتسعت، وأسبغها الله: أفاضها وأتمها، وأسبغت الوضوء: أتممته، وقرىء بالسين وبالصاد، وهكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف، تقول في سلخ صلخ، وفي سقر صقر، وفي سالغ صالغ، ومعنى سالغ من سلغت البقرة والشاة، إذا أسقطت السن التي خلقت بها السديس، والسلوغ في ذوات الأظلاف، بمنزلة البزول في ذوات الأخفاف.
﴿نِعَمَهُ﴾: جمع نعمة، وهي في الأصل: الحالة الطيبة التي يستلذها الإنسان، فأطلقت للأمور اللذيدة الملائمة للطبع المؤدية إلى تلك الحالة الطيبة.
﴿مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ﴾ يقال: جدلت الحبل، إذا أحكمت فتله، ومنه الجدال، فكأن المتجادلين يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ لأن فيه وصف الشيء بصفة فاعله، ويجوز أن يكون الأصل: الحكيم قائله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وهو الضمير المجرور، فبانقلابه مرفوعًا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة، وهو من أحسن الصناعة.
فائدة: وصف الكتاب هنا بالحكيم مناسب لموضوع السورة؛ لأنه قد كرر في موضوعها الحكمة، حيث قال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ الخ. فناسب أن يختار هذا الوصف من أوصاف الكتاب المجيد على اصطلاحات القرآن، من التنسيق بين الألفاظ والموضوعات.
ومنها: وضع المصدر موضع الوصف للمبالغة، في قوله: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣)﴾.
ومنها: الإيجاز في قوله: ﴿لِلْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: للذين يعملون الحسنات، ففيه إيجاز بليغ؛ لأن الحسنات لا تحصى، ولكنه خص منها هذه الثلاث المذكورة هنا لفضلها وشرفها.
ومنها: الإشارة إلى القريب باسم إشارة البعيد في قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾؛ أي: هذه آيات الكتاب تنزيلًا للبعد الرتبي منزلة البعد الحقيقي.
ومنها: الإطناب بتكرار الضمير، وبتكرار اسم الإشارة في قوله: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)﴾ لزيادة الثناء عليهم والتشريف لهم، كما أن الجملة تفيد الحصر؛ أي: هم المفلحون لا غيرهم.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا﴾ لأنه ذكر فيه أداة التشبيه، وحذف وجه الشبه، فهو تشبيه مرسل مجمل.
ومنها: أسلوب التهكم في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، لأن البشارة إنما تكون في الخير، واستعمالها في الشر سخريةٌ وتهكمٌ.
ومنها: والمعاكسة في الإضافة للمبالغة في قوله: ﴿لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾ لأن المعنى: لهم نعيم الجنات، فعكس للمبالغة كما في "البيضاوي".
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾ شبه الجبال الرواسي استحقارًا لها، واستقلالًا لعددها، وإن كانت خلقًا عظيمًا بحصيات قبضهن قابض بيده، فنبذهن في الأرض، وما هو إلا تصوير لعظمته وتمثيل لقدرته، وإن كل فعل يتحير فيه الأذهان فهو هين عليه تعالى.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾؛ أي: كراهية أن تميد بكم.
ومنها: الالتفات إلى نون العظمة في قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا﴾ بعد قوله: ﴿خَلَقَ﴾، ﴿وَأَلْقَى﴾ ﴿وَبَثَّ﴾ كلها بضمير الغائب، التفت في الفعلين إلى نون العظمة، لإبراز مزيد الاعتناء بأمرهما، وتوفيةً لمقام الامتنان، وقال الفخر الرازي: وفي هذا الالتفات فصاحة وحكمة: أما الفصاحة: فهي أن السامع إذا سمع كلامًا طويلًا من نمط واحد، ثم ورد عليه نمط آخر يستطيبه، ألا ترى أنك إذا قلت: قال زيد كذا، وقال خالد كذا، وقال عمرو كذا، ثم إن بكرًا قال قولًا حسنًا يستطاب لما قد تكرر القول مرارًا، وأما الحكمة: فهو أن إنزال الماء نعمة ظاهرة متكررة في كل زمان، ومكان، فأسند الإنزال إلى نفسه صريحًا، ليتنبه
ومنها: إطلاق المصدر على اسم المفعول في قوله: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ﴾؛ أي: مخلوقة.
ومنها: الاستفهام للتوبيخ والتبكيت في قوله: ﴿مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التوبيخ وللتسجيل عليهم بغاية الظلم والجهل بإشراكهم في قوله: ﴿بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ وكان الأصل أن يقال: بل هم في ضلال مبين.
ومنها: الطباق بين ﴿شكر﴾ و ﴿كَفَرَ﴾.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿فَخُورٍ﴾ لأن فعولًا من صيغ المبالغة؛ أي: كثير الفخر.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: ﴿بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ﴾ لزيادة العناية والاهتمام بشأن الخاص.
ومنها: تقديم ما حقه التأخير لإفادة الحصر مثل ﴿إلي المصير﴾، ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾؛ أي: لا إلى غيري.
ومنها: التمثيل في قوله: ﴿إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ مثل ذلك لسعة علم الله، وإحاطته بجميع الأشياء، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، فإنه تعالى يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة.
ومنها: التتميم في قوله: ﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ تمم خفاءها في نفسها بخفاء مكانها، وهذا من البديع.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ثم قال: ﴿وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ فقابل بين اللفظين.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ شبه الرافعين أصواتهم بالحمير، وأصواتهم بالنهيق، ولم يذكر أداة التشبيه، بل أخرجه
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿ظَاهِرَةً﴾ ﴿وَبَاطِنَةً﴾.
ومنها: الإنكار والتوبيخ مع الحذف في قوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ﴾؛ أي: أيتبعونهم ولو كان الشيطان إلخ.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال المشرك المجادل في الله بغير علم.. أردف ذلك بذكر حال المستسلم المفوض أموره إلى الله، وبيان عاقبته ومآله، ثم سلى رسوله على ما يلقاه من المشركين من العناد والكفران، وبين له أنه قد بلغ رسالات ربه، وتلك وظيفة الرسل، وعلي الحساب والجزاء، فهو يجازيهم بما يستحقون من العذاب الغليظ في جهنم، وبئس المصير.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنه أجرى الحكمة على لسان لقمان، ثم قفى على ذلك ببيان أنه أسبغ نعمه على عباده ظاهرةً وباطنةً، وأن له ما في السماوات وما في الأرض.. أردف ذلك ببيان أن تلك النعم وهذه المخلوبات لا حصر لها، ولا يعلمها إلا خالقها، كما قال: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.
ولما كانت تلك النعم لا نهاية لها، وربما ظن أنها مبعثرة لا قانون لها أو أنها لكثرتها يصعب عليه تدبيرها، وتصريف شؤونها كما يريد.. دفع هذا بقوله: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنه سخر للإنسان ما في السماوات وما في الأرض.. ذكر هنا بعض ما فيهما بقوله: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ...﴾ إلخ. وبعض ما في السماوات بقوله: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾. وبعض ما في الأرض بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ﴾ ثم ذكر أن كل المشركين معترفون بتلك الآيات، إلا أن البصير يدركها على الفور، ومن في بصيرته ضعف لا يدركها إلا إذا وقع في شدة وأحدق به الخطر، فهو إذ ذاك يعترف بأن كل شيء لإرادة الله تعالى.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله - ﷺ - عن الروح، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥)﴾ فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلًا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، فنزلت: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ...﴾ الآية.
وأخرج ابن إسحاق عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ فلما هاجر النبي - ﷺ - إلى المدينة.. أتاه أحبار اليهود فقالوا: ألم يبلغنا عنك أنك تقول: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ إيانا تريد أم قومك؟ فقال: "كلًّا عنيت"، قالوا: فإنك تتلو أنا قد أوتينا التوراة، وفيها تبيان كل شيء، فقال رسول الله - ﷺ -: "هي في علم الله قليل"، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية:
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر: أن رسول الله - ﷺ - قال: "مفاتيح الغيب خمس: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)﴾ ".
التفسير وأوجه القراءة
٢٢ - ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ﴾: ﴿من﴾: شرطية. ﴿أسلم﴾ (٢) إذا عدي بإلى.. يكون بمعنى سلم، وإذا عدي باللام.. تضمن معنى الإخلاص، والوجه: بمعنى الذات؛ أي: ومن يسلم نفسه إلى الله تسليم المتاع للعامل، بأن فوض أمره إليه، وأقبل بكليته إليه، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾؛ أي: موحد مخلص في عمله؛ أي: والحال أنه محسن في عمله، آتٍ به على الوجه اللائق، الذي هو حسنه الوصفي المستلزم لحسنه الذاتي، ولا يحصل ذلك غالبًا إلا على مشاهدة، ولذا فسر النبي - ﷺ - الإحسان في حديث جبريل عليه السلام، "بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وجواب الشرط قوله: ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ﴾؛ أي: تعلق وأخذ ﴿بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾؛ أي: بعروة الحبل المعلق في الهواء، المحكمة: تلك العروة الموثقة المأمونة من الانقطاع وسقوط من تمسك وتعلق بها، والاستمساك هنا بمعنى: الإمساك، والسين والتاء فيه زائدتان، وإمساك الشيء: التعلق به، كما سيأتي في مباحث اللغة، والعروة: ما يعلق به الشيء، والمراد بها: مقبض نحو الدلو والكوز، والوثقى: تأنيث الأوثق؛ أي: الوثيقة القوية التي يؤمن من تمسك وتعلق
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): فقد تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب وأقواه، وهو تمثيل لحال المتوكل على الله، المشتغل بالطاعة بحال من أراد أن يترقى إلى شاهق جبل، فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه، بحيث لا يخاف انقطاعه.
وخلاصة المعنى (٢): أي ومن يعبد الله وهو متذلل خاضع، مع الإحسان في العمل بفعل الطاعات، وترك المعاصي والمنكرات.. فقد تعلق بأوثق الأسباب التي توصل إلى رضوان ربه، ومحبته وحسن جزائه على ما قدم من عمل صالح.
ثم بين العلة في أنه يلقى الجزاء الأوفى فقال: ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، لا إلى أحد غيره ﴿عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾؛ أي: عاقبة أمر المتوكل وأمر غيره، فيجازيه أحسن الجزاء.
والمعنى: أي إن مصير أمور الخلائق ومرجعها إلى الله سبحانه، لا إلى غيره، فلا يكون لأحد إذ ذاك أمر ولا نهي، ولا عقاب ولا ثواب، فيجازي المتوكل عليه أحسن الجزاء، ويعاقب المسيء أنكل العذاب.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ﴾ مضارع أسلم من باب أفعل، وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي، وعبد الله بن مسلم بن يسار: ﴿يسلم﴾ بتشديد اللام مضارع سلم المضعف.
٢٣ - ثم سلى رسوله على ما يلقاه من أذى المشركين وعنادهم فقال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ بالله من قريش أو غيرهم ولم يسلم وجه لله ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ﴾ يا محمد ﴿كُفْرُهُ﴾ فإنه لا يضرك في الدنيا ولا في الآخرة، يقال: أحزنه من المزيد، ويحزنه من الثلاثي، كما سيأتي في مبحث التصريف، ﴿إِلَيْنَا﴾ لا إلى غيرنا ﴿مَرْجِعُهُمْ﴾ بعد الموت؛ أي: رجوعهم للمجازاة، ومعنى الرجوع إلى الله سبحانه الرجوع إلى
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾؛ أي: بما في القلوب من الخير والشر؛ أي (١): بالضمائر والنيات المصاحبة بالصدر الذي هو محل القلب؛ أي: عليم بما تسره صدورهم، لا تخفى عليه من ذلك خافية، فالسر عنده كالعلانية، فيجازي عليها كما يجازي على الأعمال الظاهرة.
والمعنى: أن مصيرهم يوم القيامة إلينا، فنخبرهم بما عملوا في الدنيا من خبيث الأعمال، حتى لا يكون هناك سبيل إلى الإنكار، ثم نجازيهم على ذلك أشد العذاب، ثم بين أنه عادل في الجزاء لسعة علمه، وعظيم إحاطته بكل شيء فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ تعالى ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ فيجازيهم بكل ما عملوا سرًا وعلانيةً، إذ لا يخفى عليه خافية.
٢٤ - ثم بين أن ما يمتعون به في الدنيا عرض قليل، وظل زائل، لا ينبغي لعاقل أن يقيم له وزنًا بجانب العذاب الدائم، فقال: ﴿نُمَتِّعُهُمْ﴾؛ أي: نمتع الكافرين وننعمهم بمنافع الدنيا ﴿قَلِيلًا﴾؛ أي: تمتيعًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا، فإن ما يزول وإن كان بعد أمد طويل بالنسبة إلى ما يدوم قليل؛ أي: نبقيهم في الدنيا مدةً قليلةً، يستمتعون بها ﴿ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ﴾؛ أي (٢): نلجئهم ونردهم في الآخرة قهرًا ﴿إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾؛ أي: شديد يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ، فإنه لا أثقل منه على من وقع فيه وأصيب به، فلهذا استعير له الغلظ، أو نضم إلى الإحراق الضغط والتضييق، وفي "التأويلات النجمية": غلظة العذاب: عبارة عن دوامه إلى الأبد، انتهى. والغليظ ضد الرقيق كما سيأتي.
(٢) روح البيان.
٢٥ - ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك: ﴿مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾؛ أي: خلق الأجرام العلوية والسفلية ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ في الجواب لك: خلقهن ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، لغاية وضوح الأمر، بحيث اضطروا إلى الاعتراف به، وفي هذا إيماء إلى أنه قد بلغ من الوضوح مبلغًا لا يستطيعون معه الإنكار والجحود، ولما استبان بذلك صدقه - ﷺ - وكذبهم.. قال آمرًا رسوله ﴿قُلِ﴾ يا محمد ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على اعترافهم بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به في العبادة التي لا يستحقها سوى الخالق المنعم على عباده، أو المعنى: فقل الحمد لله على ما هدانا من دينه.
ثم بين أنهم بلغوا الغاية في الجهل فهم يعترفون بالشيء ويعملون نقيضه، فقال: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾؛ أي: بل أكثر المشركين ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ من له الحمد، وأين موضع الشكر، فهم مع تكذيبك يعترفون بما يوجب تصديقك، أو لا يعلمون شيئًا من الأشياء، فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافهم بأن يتركوا الشرك، ويعبدوا الله وحده.
٢٦ - ولما أثبت لنفسه الإحاطة بأوصاف الكمال.. استدل على ذلك بقوله: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: له سبحانه وتعالى لا لغيره جميع ما في السماوات والأرض، ملكًا وخلقًا وتصرفًا، وليس ذلك لأحد سواه، فلا يستحق العبادة غيره تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُوَ الْغَنِيُّ﴾ بذاته وصفاته قبل خلق السماوات والأرض وبعده لا حاجة به في وجوده وكماله الذاتي إلى شيء أصلًا، وغني عن
﴿الْحَمِيدُ﴾؛ أي: المحمود في ذاته وصفاته، وإن لم يكن له حامد.. فهو الحامد لنفسه، أو المحمود على نعمه التي أنعمها عليهم، وفي هذه الآيات أمور:
منها: أنّ التفويض والتوكل وإخلاص القصد والإعراض عما سوى الله تعالى، والإقبال على الله بالتوحيد والطاعة من موجبات حسن العاقبة، وهي الجنة والقربة والوصلة، كما أن الكفر والشرك والرياء والسمعة من أسباب سوء العاقبة، وهي النار والعذاب الغليظ، والفرقة والقطيعة، فالتمسك بأحكام الدين هي العروة الوثقى لأهل اليقين، فإنها لا تنفصم، بخلاف سائر العرى.
ومنها: أنّ ليس لعمر الدنيا بقاء، بل هي ساعة من الساعات، فعلى العاقل أن لا يغتر بالتمتع القليل، بل يتأهب لليوم الطويل.
ومنها: أنّ الله تعالى قدر المقادير، ودبر الأمور، فالكل يجري في الأفعال والأحوال على قضائه وقدره، وليس على الناصح إلا التبليغ دون الجبر والحزن على عدم القبول، فإن الحجر يصير مرآةً الصيقل.
ومنها: أنّ عدم الجريان بموجب العلم من الجهل في الحقيقة.
ومنها: أنّ الله تعالى خلق الخلق ليربحوا عليه، لا ليربح عليهم، فمنفعة الطاعات والعبادات راجعة إلى العباد، لا إلى الله تعالى، إذ هو غني عن العالمين، لا ينتفع بطاعاتهم، ولا يتضرر بمعاصيهم، فهو يمن عليهم أن هداهم للإيمان والطاعات، وليس لهم أن يمنوا عليه بإسلامهم، جعلنا الله سبحانه وإياكم من عباده المخلصين، وحفظنا في حصنه الحصين، بمنه وكرمه وتوفيقه الرصين.
والمعنى: لو ثبت أن الأشجار كلها أقلام، ﴿وَالْبَحْرُ﴾؛ أي (١): والحال أن البحر المحيط بسعته، وهو البحر الأعظم الذي منه مادة جميع البحار المتصلة والمنقطعة، وهو بحر لا يعرف له ساحل، ولا يعلم عمقه إلا الله تعالى، والبحار التي على وجه الأرض خلجان منه، وفي هذا البحر عرش إبليس - لعنه الله - وفي مدائن تطفو على وجه الماء، وأهلها من الجن في مقابلة الربع الخراب من الأرض، وفي هذا البحر ينبت شجر المرجان، كسائر الأشجار في الأرض، وفيه من الجزائر المسكونة والخالية ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
وهو؛ أي: ﴿البحر﴾: مبتدأ، خبره: قوله: ﴿يَمُدُّهُ﴾؛ أي: يزيده وينصب فيه، من مد الدواة: جعلها ذات مداد وزاده فيها، فلذا أغنى عن ذكر المداد، ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: من بعد نفاده وفنائه ﴿سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾ أخرى، نحو بحر الصين، وبحر تُبَّت كَسُكَّر على ما في "القاموس"، وبحر الهند، وبحر السند، وبحر فارس، وبحر الشرق، وبحر الغرب، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون المراد: الأنهار السبعة من الفرات، ودجلة، وسيحان، وسيحون، وجيحان، وجيحون، والنيل؛ لأن البحر عند العرب الماء الكثير.
والمعنى: يمده الأبحر السبعة مدًا لا ينقطع أبدًا، وكتبت بتلك الأقلام
وجواب ﴿لو﴾ ﴿مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾؛ أي: ما فنيت كلماته التي هي عبارة عن معلوماته، بل نفذت تلك الأقلام وذلك المداد قبل نفاذها، وإيثار جمع القلة في الكلمات للإيذان بأن ما ذكر لا يفي بالقليل من كلمات الله، فكيف بالكثير منها.
قال أبو علي الفارسي: المراد (١) بالكلمات - والله أعلم - ما في المقدور، دون ما خرج منه إلى الوجود، ووافقه القفال، فقال: المعنى أن الأشجار لو كانت أقلامًا، والبحار مدادًا، فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته.. لم تنفد تلك العجائب، قال القشيري: رد القفال معنى الكلمات إلى المقدورات، وحمل الآية على الكلام القديم أولى، وهو الظاهر من النظم القرآني.
وفي "التأويلات النجمية": المعنى (٢): لو أن ما في الأرض من الأشجار أقلام، والبحر يصير مدادًا، وبمقدار ما يقابله ينفق القرطاس، ويتكلف الكتاب، حتى تنكسر الأقلام، وتفنى البحار، وتستوفى القراطيس، ويفنى عمر الكتاب.. ما نفدت معاني كلام الله تعالى؛ لأن هذه الأشياء وإن كثرت فهي متناهية، ومعاني كلامه لا تتناهى؛ لأنها قديمة، والمحصور لا يفي بما لا حصر له، انتهى. وقد قصر من جعل الأرض قرطاسًا.
وقال النحاس (٣): قد تبين أن الكلمات هنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء، لأنه جل وعلا علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السماوات والأرض من شيء، وعلم ما فيه من مثاقيل الذر، وعلم الأجناس كلها، وما فيها من شعرة وعضو، وما في الشجرة من ورقة، وما فيها من ضروب الخلق.
والمعنى عليه (٤): أي ولو أن أفنان الأشجار وأغصانها بريت أقلامًا وجُعل
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
وإنما ذكر السبعة الأبحر للدلالة على الكثرة، لا لقصد هذا العدد بعينه، وقد تقرر أن العرب تذكر السبعة والسبعين والسبع مئة، وتريد بذلك الكثرة، كما جاء في الحديث: "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله" وفي الآية: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾. كحديث "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر في سبعة أمعاء".
ولما كان لفظ سبعة ليس موضوعًا في الأصل للتكثير، وإن كان مرادًا به التكثير.. جاء مميزه بلفظ القلة، وهو أبحر، ولم يقل بحور، وإن كان لا يراد به أيضًا إلا التكثير ليناسب بين اللفظين، فكما يجوز في سبعة واستعمل للتكثير، كذلك يجوز في أبحر واستعمل للتكثير، ذكره أبو حيان.
وقصارى ذلك: أنه سبحانه أخبر أن عظمته وكبرياءه وجلاله وأسماءه الحسنى لا يحيط بها أحد، ولا يصل البشر إلى معرفة كنهها وعدها، كما ورد في الحديث: "سبحانك لا نحصى ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك".
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَالْبَحْرُ﴾ بالرفع على أنه مبتدأ، و ﴿يَمُدُّهُ﴾: خبره، والجملة: في محل الحال، وقال المبرد: مرتفع بفعل مقدر؛ أي: ولو ثبت البحر حال كونه تمده من بعده سبعة أبحر، وقيل: مرتفع بالعطف على ﴿أن﴾ وما في حيزها، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق (٢): ﴿والبحر﴾ بالنصب عطفًا على اسم ﴿أن﴾ أو بفعل مضمر يفسره ﴿يمده﴾. وقرأ عبد الله: ﴿وبحر يمده﴾ بالتنكير وبالرفع، والواو للحال، أو للعطف على ما تقدم، وإن كانت الواو للحال.. كان
(٢) البحر المحيط.
سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أَضَاءَ فَمُذْ بَدَا | مُحَيَّاكَ أَخْفَى ضَوْؤُهُ كُلَّ شَاِرقِ |
وقال أبو حيان: وفي الكلام جملة محذوفة يدل عليها المعنى، تقديرها: وكتب بها الكتَّاب كلمات الله ما نفذت.
والمعنى: ولو أن أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله.. ما نفدت، ونفدت الأقلام والمداد الذي في البحر وما يمده. انتهى.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَزِيزٌ﴾؛ أي: غالب لا يعجزه شيء، قد عز كل شيء وقهره، فلا مانع لما أراد، ولا معقب لحكمه، ﴿حَكِيمٌ﴾ في خلقه وأمره وأقواله وأفعاله وشرعه وجميع شؤونه، لا يخرج عن علمه وحكمته أمر، فلا تنفد كلماته المؤسسة عليها.
فائدة: وقال بعضهم (١): وخاصية الاسم العزيز: وجود الغنى والعز صورةً ومعنًى، فمن ذكره أربعين يومًا في كل يوم أربعين مرة.. أغناه الله وأعزه، فلم يحوجه إلى أحد من خلقه، وخاصية الاسم الحكيم: دفع الدواهي وفتح باب الحكمة، من أكثر ذكره.. صرف عنه ما يخشاه من الدواهي وفتح له بابًا من الحكمة. انتهى.
٢٨ - ثم أبان أن هذا الخلق الذي لا حصر له محيط به علمًا، ولا يعجزه شيء
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَمِيعٌ﴾ يسمع كل مسموع فيدخل فيه ما قالوا في أمر الخلق والبعث، مما يتعلق بالإنكار والاستبعاد، ﴿بَصِيرٌ﴾ يبصر كل مبصر، لا يشغله علم بعضها عن بعض، فكذا الخلق والبعث، وقال بعضهم: بصير بأحوال الأحياء والأموات،
٢٩ - والخطاب بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ لكل أحد يصلح للخطاب، أو للرسول - ﷺ -؛ أي: ألم تعلم يا من يصلح للخطاب علمًا قويًا جاريًا مجرى الرؤية. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُولِجُ﴾ ويدخل بقدرته وحكمته ﴿اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾؛ أي: يدخل الليل في النهار، ويضيفه إليه بأن يزيد من ساعات الليل في ساعات النهار صيفًا بحسب مطالع الشمس ومغاربها، يعني: يصير النهار خمس عشرة ساعة، والليل تسع ساعات.
قال عبد الله بن سلام (١): أخبرني يا محمد عن الليل: لم سمي ليلًا؟ قال: لأنه منال الرجال من النساء، جعله الله ألفةً ومسكنًا ولباسًا" قال: صدقت يا محمد، ولم سمي النهار نهارًا؟ قال: "لأنه محل طلب الخلق لمعايشهم، ووقت سعيهم واكتسابهم" قال: صدقت.
أي: ألم تشاهد أيها الناظر بعينيك: أن الله يزيد ما نقص من ساعات الليل في ساعات النهار، ويزيد ما نقص من ساعات النهار في ساعات الليل.
والخلاصة: أنه يأخذ من الليل في النهار، فيقصر ذلك ويطول هذا، وذاك في مدة الصيف، إذ يطول النهار إلى الغاية، ثم يبتدىء النهار في النقصان، ويطول الليل إلى الغاية في مدة الشتاء.
﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ لمصالح خلقه ومنافعهم؛ أي: ذللهما وجعلهما منقادين بالطلوع والأفول، تقديرًا للآجال، وتتميمًا للمنافع، والجملة: معطوفة على ﴿يُولِجُ﴾ والاختلاف بينهما صيغةً، لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر أمر متجدد في كل حين، وأما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه ولا تجدد، وإنما التعدد والتجدد في آثاره، وقد أشير إلى ذلك حيث قيل: ﴿كُلٌّ﴾ من الشمس والقمر ﴿يَجْرِي﴾ بحسب حركته الخاصة القسرية على المدارات اليومية المتخالفة المتعددة حسب تعدد الأيام، جريًا مستمرًا ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أي: إلى وقت معلوم، وأجل محدد، قدره الله تعالى لجريهما، إذا بلغه كورت الشمس والقمر، وهو يوم القيامة، كما روي عن الحسن، فإنهما لا ينقطع جريهما إلا حينئذٍ، وذلك لأنه تموت الملائكة الموكلون عليهما، فيبقى كل منهما خاليًا كبدنٍ بلا روح، ويطمس نورهما، فيلقيا في جهنم، ليظهر لعبدة الشمس والقمر والنار أنها ليست بآلهة، ولو كانت آلهةً.. لدفعت عن أنفسها، فالجملة معترضة بين المتعاطفين، أعني: قوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ إلخ. وقوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ مسوقة لبيان الواقع بطريق الاستطراد، هذا وقد جعل جريانهما عبارةً عن حركتهما الخاصة بهما في فلكهما، والأجل المسمى عبارة عن منتهى دورتهما، وجعل مدة الجريان للشمس سنةً، وللقمر شهرًا، فالجملة حينئذٍ: بيان لحكم تسخيرهما، وتنبيه على كيفية إيلاج أحد الملوين في الآخر، وكون ذلك
فإن قلت (١): لم قال هنا ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ بلفظ ﴿إِلَى﴾، وقال في فاطر والزمر بلفظ (اللام) حيث قال: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾.
قلت: لأن ما هنا وقع بين جملتين دالّتين على غاية ما ينتهي إليه الخلق، وهما قوله: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا﴾ الآية، فناسب ذكر (إلى) الدالة على الانتهاء.
والمعنى: لا يزال كل من الشمس والقمر جاريًا، حتى ينتهي إلى آخر وقت جريه المسمى له، وما في فاطر والزمر خالٍ عن ذلك، إذ ما في فاطر لم يذكر مع ابتداء خلق ولا انتهاء به، وما في الزمر ذكر مع ابتداءٍ به فناسب ذكر اللام المعدية.
والمعنى: يجري كل مما ذكر لبلوغ أجلٍ.
وقوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾؛ أي: عالم بكنهه، معطوف على ﴿أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ﴾ إلخ، داخل معه في حيز الرؤية، فإن من شاهد ذلك الصنع الرائق، والتدبير اللائق، لا يكاد يغفل عن كون صانعه محيطًا بجلائل أعماله ودقائقها؛ أي: وأن الله سبحانه بأعمالكم من خير أو شر خبير بها، مطلع عليها، لا تخفى عليه خافية من أمرها، وهو مجازيكم بها.
قرأ الجمهور (٢): ﴿تَعْمَلُونَ﴾ بالفوقية على الخطاب، وقرأ السلمي ونصر بن عامر وعياش الدوري عن أبي عمرو: ﴿بما يعملون﴾ بياء الغيبة.
٣٠ - والإشارة في قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى ما تقدم ذكره، و (الباء) في ﴿بِأَنَّ اللَّهَ﴾: للسببية؛ أي: ذلك المذكور من سعة العلم، وشمول القدرة، وعجائب الصنع، واختصاص الباري بها كائن بسبب أن الله تعالى: ﴿هُوَ الْحَقُّ﴾ إلهيته فقط الثابت وجوده، ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ﴾؛ أي: يعبدون ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى من الأصنام
(٢) الشوكاني.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص (٢): ﴿يَدْعُونَ﴾ بياء الغيبة، وغيرهم ﴿تدعون﴾ بالفوقية، وقال هنا: ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾ وفي الحج ﴿مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾ بزيادة هو لمقام التأكيد.
والمعنى: أي إنما يظهر الله آياته للناس، ليستدلوا بها على أنه هو المستحق للعبادة، وأن كل ما سواه هو الباطل، الذي يضمحل ويفنى، فهو الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، ﴿و﴾ بسبب ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ تعالى ﴿هُوَ الْعَلِيُّ﴾ في صفاته ﴿الْكَبِيرُ﴾ في ذاته؛ أي: وأنه تعالى المرتفع على كل شيء، والمتسلط على كل شيء، فكل شيء خاضع له تعالى، وهو الحكم العدل، اللطيف الخبير، وهذه الجملة معطوفةً أيضًا على جملة ﴿أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾.
والمعنى (٣): ذلك الصنع البديع، الذي وصفه في الآيات المتقدمة للاستدلال بها على حقية الله تعالى، وبطلان ما سواه، وعلوه وكبريائه بسبب أنه تعالى، وهو العلي، في مكانته، ذو الكبرياء في ربوبيته وسلطانه.
٣١ - وبعد أن ذكر الآيات السماوية الدالة على وحدانيته تعالى، أشار إلى آيةٍ أرضيةٍ بجامع ما اشتركا فيه من الجريان، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ رؤية عيانيةً أيها الذي من شأنه الرؤية والمشاهدة ﴿أَنَّ الْفُلْكَ﴾ والسفن ﴿تَجْرِي﴾ وتسير ﴿فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ﴾ تعالى؛ أي (٤): بإحسانه ورحمته، أو بالريح لأن الريح من نعم الله تعالى فالباء متعلقة بـ ﴿تَجْرِي﴾ أو بمحذوف حال من فاعله؛ أي: متلبسةً بنعمته تعالى، وإحسانه في تهيئة أسبابه، وفي "الأسئلة المقحمة": تجري برحمة الله،
(٢) المراح.
(٣) الشوكاني.
(٤) النسفي.
وقرأ الجمهور: ﴿بِنِعْمَتِ اللَّهِ﴾ على الإفراد اللفظي، وقرأ (١) الأعرج والأعمش وابن يعمر: ﴿بنعمات الله﴾ بكسر النون وسكون العين جمعًا بالألف والتاء، وقرأ ابن أبي عبلة بفتح النون وكسر العين بالألف والتاء، وقال أبو حيان: والباء تحتمل السببية؛ أي: تجري بسبب الريح، وتسخير الله تعالى، وتحتمل الحالية؛ أي: مصحوبةً بنعمة الله، وهي ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات. انتهى.
وقال ابن عطية: الباء للإلصاق. انتهى. وقرأ موسى بن الزبير: ﴿الفلك﴾ بضم اللام، ﴿لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ﴾ من للتبعيض (٢)؛ أي: ليريكم بعض دلائل قدرته وعجائب صنعه، قال يحيى بن سلام: وهو جري السفك في البحر بالريح، وقال ابن شجرة: المراد بقوله: ﴿مِنْ آيَاتِهِ﴾ ما يشاهدونه من قدرة الله تعالى، وقال النقاش: ما يرزقهم الله في البحر.
والمعنى: أي ألم تشاهد أيها الرسول السفن وهي تسير في البحر حاملة للأقوات والمتاع من بلد إلى آخر، ومن قطر إلى قطر هو في حاجة إليها، لينتفع الناس بما على ظاهر الأرض مما ليس في أيديهم، وفي هذا دليل على عجيب قدرته، التي ترشدكم إلى أنه الحق الذي أوجد ما ترون من الأحمال الثقيلة على وجه الماء، الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها.
ثم ذكر من يستفيد من النظر في الآيات، فقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور من أمر الفلك والبحر ﴿لَآيَاتٍ﴾ عظيمة في ذاتها، كثيرة في عددها، ﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾؛ أي: مبالغ في الصبر على المشاق، فيتعب نفسه في التفكر في الأنفس والآفاق ﴿شَكُورٍ﴾؛ أي: مبالغ في الشكر على نعمائه، فبعث نفسه في التفكر في
(٢) الشوكاني.
وهما صفتا المؤمن، فكأنه قيل: إن في ذلك لآيات لكل مؤمن؛ أي: إن فيما ذكر لدلائل واضحات لكل صبار في الضراء، شكور في الرخاء. قال الشعبي: الصبر نصف الإيمان، والشكر: نصف الإيمان، واليقين: الإيمان كله، ألم تر إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾. وقوله: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠)﴾. وقال - ﷺ -: "الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر".
٣٢ - ثم بين أن المشركين ينسون الله تعالى في السراء، ويلجؤون إليه حين الضراء، فقال: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ﴾ يقال: غشيه: إذا ستره وعلاه، والضمير لمن ركب البحر مطلقًا، أو لأهل الكفر، ففيه التفات من ضمير الخطاب في ﴿لِيُرِيَكُمْ﴾ إلى ضمير الغيبة في ﴿غَشِيَهُمْ﴾؛ أي: وإذا علاهم وأحاط بهم ﴿موج﴾: هو ما ارتفع من الماء ﴿كَالظُّلَلِ﴾؛ أي: كالجبال، أو كالسحاب في الارتفاع.
وقرأ محمد بن الحنفية: ﴿كالظلال﴾: جمع ظله، كقلال وقلة، شبه الموج لكبره بما يظل الإنسان من جبل أو سحاب أو غيرهما، وإنما شبه (١) الموج وهو مفرد بالظلل وهي جمع؛ لأن الموج يأتي شيئًا بعد شيء، ويركب بعضه بعضًا، وقيل: إن الموج في معنى الجمع؛ لأنه مصدر، وأصل الموج الحركة والازدحام، ومنه يقال: ماج الماء: إذا تحرك، وماج الناس: إذا ازدحموا.
﴿دَعَوُا اللَّهَ﴾ وحده حال كونهم ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾؛ أي: الدعاء والاستغاثة، لا يذكرون معه غيره، ولا يستغيثون بغيره، ولا يعولون على غيره في خلاصهم؛ لأنهم يعلمون أنه لا ينفع ولا يضر سواه، لزوال ما ينازع الفطرة من
وقسم كافر جاحد، ففي الكلام حذف، ويدل على هذا المحذوف قوله: ﴿وَمَا يَجْحَدُ﴾ وينكر ﴿بِآيَاتِنَا﴾؛ أي: بدلائل قدرتنا التي منها إنجاء هؤلاء من البحر، والقرآن الذي أنزل على محمد - ﷺ -؛ أي: ما ينكر بحقيتها ﴿إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ﴾؛ أي: غدار نقاض للعهد؛ أي: كثير الختر والغدر لما عاهد على نفسه. ﴿كَفُورٍ﴾؛ أي: كثير الكفران لنعم الله تعالى، وإنما (١) يطلق هذا اللفظ على من صار الكفر عادةً ديدنًا له، كما يقال: ظلوم، لمن كان الظلم عادةً له.
وختم هذه الآية بصيغتي مبالغة اللتين هما (٢): ﴿خَتَّارٍ﴾ و ﴿كَفُورٍ﴾ ليكونا في مقابلة ما ختم به الآية التي قبلها، وهما: ﴿صَبَّارٍ﴾ و ﴿شَكُورٍ﴾ فتوازنت الكلمات الأربع لفظًا ومعنًى، أما توازنها لفظًا فظاهر، وأما معنًى، فالختار: هو الغدار، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر، فإن الصبار يفوض أمره إلى الله تعالى وأما الغدار: فيعهد ويغدر فلا يصبر على العهد، وأما الكفور: فمقابلته معنًى للشكور واضحةٌ.
ومعنى الآية (٣): أي وإذا أحاطت بهؤلاء المشركين الذين يدعون من دون الله تعالى الآلهة والأصنام الأمواج العالية كالجبال، وأحدق بهم الخطر من كل
(٢) البحر المحيط بتصرف.
(٣) المراغي.
٣٣ - ولما ذكر (١) الله تعالى الدلائل على الوحدانية والحشر من أول السورة إلى هنا.. أمر بالتقوى على سبيل الموعظة، والتذكير بهذا اليوم العظيم، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ نداء (٢) عام لكافة المكلفين، وأصله لكفار مكة ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ الذي رباكم بنعمه في جميع أطواركم، بقبول التوحيد، وامتثال المأمورات، والتبري من الكفر، واجتناب المنهيات؛ أي: اجعلوا التقوى وقايةً وسترًا لكم من عذاب ربكم.
قال بعضهم: مرةً يخوفهم بأفعاله فيقول: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً﴾ ومرةً بصفاته فيقول: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (١٤)﴾ ومرةً بذاته فيقول: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾، ﴿وَاخْشَوْا﴾ الخشية: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى به ﴿يَوْمًا﴾، قال في "التيسير": يجوز أن يكون على ظاهره؛ لأن يوم القيامة مخوف، وأن يكون على تقدير مضاف؛ أي: وخافوا عذاب يوم ﴿لَا يَجْزِي﴾؛ أي: لا يدفع فيه، ﴿وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾ شيئًا من العذاب، أو لا يقضي عنه شيئًا من الحقوق، أو لا يحمل والد عن ولده شيئًا من سيئاته، ولا يعطيه شيئًا من طاعته، يقال: جزاه دينه، إذا قضاه عنه.
والمعنى: أي لا يغني الوالد عن ولده شيئًا، ولا ينفعه بوجه من وجوه النفع لاشتغاله بنفسه.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿لَا يَجْزِي﴾ بفتح الياء مضارع جزي الثلاثي، وقرأ
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
والولد (١) ولو كان يقع على القريب والبعيد؛ أي: ولد الولد، لكن الإضافة تشير إلى الصلبي القريب، فإذا لم يدفع عما هو ألصق به.. لم يقدر أن يدفع عن غيره بالطريق الأولى، ففيه قطع لأطماع أهل الغرور، والمفتخرين بالآباء والأجداد، المعتمدين على شفاعتهم من غير أن يكون بينهم جهة جامعة، من الإيمان والعمل الصالح.
﴿وَلَا مَوْلُودٌ﴾ للشخص بلا واسطة، فلا يطلق إلا على ولد الصلب، بخلاف الولد فإنه يطلق على ولد الولد كما في "الكشاف"، ﴿هُوَ جَازٍ﴾؛ أي: دافع أو قاض أو حامل ﴿عَنْ وَالِدِهِ﴾ بلا واسطة ﴿شَيْئًا﴾ من العذاب أو من الحقوق أو من الذنوب، وخص الولد والوالد بالذكر تنبيهًا على غيرهما، والمولود: خاص بالصلبي الأقرب كما مر، فإذا لم يقبل شفاعته للأب الأول الذي ولد منه.. لم يقبل لمن فوقه من الأجداد، وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي، ولقطع طمع من توقع من المؤمنين: أيشفع أباه الكافر في الآخرة، ولذا قالوا: إن هذا الخبر خاص بالكفار، فإن أولاد المؤمنين وآباءهم ينفع بعضهم بعضًا، قال تعالى: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾؛ أي: بشرط الإيمان.
قيل معنى هذا الكلام (٢): أن الله سبحانه ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة، وهما الوالد والولد، فنبه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، فالوالد يجزي عن ولده لكمال شفقته عليه، والولد يجزي عن والده لما له من حق التربية وغيرها، فإذا كان يوم القيامة.. فكل إنسان يقول: نفسي نفسي، ولا يهتم بقريب ولا بعيد، كما قال ابن عباس: كل امرىء تهمه نفسه.
(٢) الخازن.
ثم أكد ما سلف بقوله: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى بالحشر والجنة والنار والثواب والعقاب، والوعد: يكون في الخير والشر، بخلاف الوعيد، فإنه في الشر خاصة، كما سيأتي. ﴿حَقٌّ﴾؛ أي: ثابت كائن لا محالة، ولا خلف فيه؛ أي: اعلموا أن مجيء هذا اليوم حق، لأن الله سبحانه قد وعد به، ولا خلف لوعده.
ثم حذرهم من شيئين فقال:
١ - ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ عن الآخرة، والمراد بالحياة الدنيا: زينتها وزخارفها وآمالها؛ أي: إذا عرفتم ما ذكروا وأردتم بيان ما هو النصيحة لكم.. فأقول لكم: لا تخدعنكم زينة هذه الحياة القريبة الزوال ولذاتها عن الحياة الأخروية الأبدية، فتميلوا إليها، وتدعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب الله في ذلك اليوم، وفي "التأويلات النجمية": فلا تغرنكم بسلامتكم في الحال، وعن قريبٍ ستندمون في المآل. انتهى.
٢ - ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ﴾؛ أي: لا يخدعنكم ﴿بِاللَّهِ﴾ بإطماعكم في سعة رحمة الله وعظيم حلمه وعفوه الشيطان ﴿الْغَرُورُ﴾؛ أي: المبالغ في الغرور والخداع، بأن يرجيكم التوبة والمغفرة، فيجسركم على ارتكاب المعاصي، وينسيكم الرجوع إلى القبور، ويحملكم على الغفلة عن أحوال القيامة وأهوالها، فلا تتخذوا لها زادًا.
قال في "كشف الأسرار" (٢): الغرة بالله: حسن الظن به مع سوء العمل، وفي الخبر: "الكيس من وإن نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه
(٢) روح البيان.
إِنَّ السَّفِيْنَةَ لَا تَجْرِيْ عَلَى الْيَبَسِ
فلا بد من الأعمال الصالحة، فإن بها النجاة، وبها يلتحق الأواخر الأوائل.
ففي الآية حسم لمادة الطمع في الانتفاع بالغير من إهمال الإِسلام أو الطاعات، اعتمادًا على صلاح الغير، فإن يوم القيامة يوم عظيم، لا ينفع فيه من له اتصال الولادة، فما ظنك بما سواها، ويشتغل كل أحد بنفسه، إلا من رحمة الله تعالى، وعن كعب الأحبار: تقول امرأة من هذه الأمة لولدها يوم القيامة يا ولدي، أما كان لك بطني وعاءً، وحجري وطاءً، وثديي سقاءً، فاحمل عني واحدًا فقد أثقلتني ذنونبي، فيقول: هيهات يا أماه، كل نفس بما كسبت رهينة، فإذا حملت عنك فمن يحمل عني.
وقرأ ابن أبي إسحاق وابن أبي عبلة ويعقوب: ﴿فلا تغرنكم﴾ بالنون الخفيفة وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة ﴿الغرور﴾ بالضم، وهو مصدر، والجمهور: بالفتح، صيغة مبالغة، ويمكن حمل قراءة الضم عليه مبالغة في جعل الشيطان نفس المصدر، على حد زيد عدل.
فائدة: قال بعضهم (١): لا ينبغي للمؤمن أن يتطير ويعد نفسه من الأشقياء، فيتكاسل في العمل، بل ينبغي له أن يحسن الظن بالله تعالى، ويجاهد في طريقه، فإن للاعتقاد تأثيرًا بليغًا، وقد وعد الله سبحانه، ووعد الشيطان، ووعد الله تعالى صدق محض؛ لأنه هو الولي، ووعد الشيطان كذب محض، لأنه هو العدو، فالإصغاء لكلام الولي خير من استماع كلام العدو، فلا تغتر بتغرير الشيطان والنفس، ولا بالحياة الدنيا، فإن دولتها ذاهبة، وزينتها زائلة، وليس لها لأحدٍ وفاء.
٣٤ - ثم ذكر سبحانه خمسة أشياء، لا يعلمها إلا هو، فقال:
١ - ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عِنْدَهُ عِلْمُ﴾ وقت قيام ﴿السَّاعَةِ﴾؛ أي: لا عند غيره، قال الفراء (١): إن معنى هذا الكلام النفي؛ أي: ما يعلمه أحد إلا الله عز وجل، والساعة: جزء من أجزاء الجديدين، سميت بها القيامة؛ لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا؛ أي: عنده تعالى علم وقت قيام الساعة، وما يتبعه من الأحوال والأهوال، وهو متفرد بعلمه، فلا يعلمه أحد سواه، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، كما قال: ﴿لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾ فلا يدري أحد من الناس في أي سنة، وفي أي شهر، وفي أي ساعة من ساعات الليل والنهار تقوم القيامة.
٢ - ﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ في وقته المقدر له، ومكانه المعين في علمه تعالى، والفلكيون (٢) وإن علموا الخسوف والكسوف ونزول الأمطار بالأدلة، فليس ذلك غيبًا، بل بأماراتٍ وأدلةٍ تدخل في مقدور الإنسان، ولا سيما أن بعضها قد يكون أحيانًا في مرتبة الظن، لا في مرتبة اليقين.
وهذه الجملة: معطوفة على ما يقتضيه الظرف في قوله: ﴿عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ من الفعل، تقديره: إن الله سبحانه يثبت عنده علم الساعة، وينزل الغيث، كما في "المدارك"، وهذا من (٣) حيث ظاهر التركيب، وأما من حيث المعنى فهو معطوف على ﴿السَّاعَةِ﴾ فيكون العلم مسلطًا عليه؛ أي: وعنده علم وقت نزول الغيث، وسمي المطر غيثًا؛ لأنه غياث الخلق، به رزقهم، وعليه بقاؤهم فالغيث مخصوص بالمطر النافع.
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
قرأ الجمهور: ﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ مشددًا، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي: مخففًا.
٣ - ﴿وَيَعْلَمُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾؛ أي: ما في أرحام النساء من الجنين؛ أي: يعلم ذاته، أذكر أم أنثى، حي أم ميت، وصفاته، أتام الخلق أم ناقصة، حسن أم قبيح، أحمر أم أسود، سعيد أم شقي؛ أي: يعلم أوصافه في حالة كونه نطفةً قبل تمام خلقه، وما يعرفه الناس الآن بالعلم الحديث، فبعد تمام خلقه، والأرحام: جمع رحم: بيت منبت الولد ووعاؤه.
٤ - ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ﴾ من النفوس وما تعرف ﴿مَاذَا﴾؛ أي: أيّ شيء ﴿تَكْسِبُ﴾ وتفعل ﴿غَدًا﴾؛ أي: يومًا تاليًا ليومها الذي هي فيها؛ أي: لا يعرف (٢) أحد من الناس ماذا يفعل غدًا، وماذا يحصل له فيه من خير أو شر، ووفاق وشقاق، وربما يعزم على خير فيفعل الشر وبالعكس، وإذا لم يكن للإنسان طريق إلى معرفة ما هو أخص به من كسبه، وإن أعمل حيله، وأنفذ فيها وسعه.. كان من معرفة ما عداه، مما لم ينصب له دليل عليه أبعد، وكذا إذا لم يعلم ما في الغد مع قربه فما يكون بعده لا يعلمه بطريق الأولى.
والمعنى: أي وما تدري نفس من النفوس كائنةً ما كان، من غير فرق بين الملائكة والأنبياء والجن والإنس، ماذا تكسب غدًا من كسب دين أو كسب دنيا.
(٢) الشوكاني.
وقرأ الجمهور (١): ﴿بِأَيِّ أَرْضٍ﴾، وقرأ أبي بن كعب وموسى الأهوازي وابن أبي عبلة: ﴿بأية أرض﴾ بتاء التأنيث لإضافتها إلى المؤنث، وجوز الفراء ذلك، وهي لغة ضعيفة قليلة.
فإن قلت (٢): لم قال تعالى: ﴿بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ ولم يقل: بأي وقت تموت، مع أن كلًّا منهما غير معلوم لغيره تعالى، بل نفي العلم بالزمان أولى، لأن من الناس من يدعي علمه بخلاف المكان؟
قلت: إنما خص المكان بنفي علمه؛ لأن الكون في مكان دون مكان في وسع الإنسان واختياره، فاعتقاده علم مكان موته أقرب، بخلاف الزمان، ولأن للمكان دون الزمان تاثيرًا في جلب الصحة والسقم، أو تأثيره فيهما أكثر.
تنبيه (٣): أضاف في الآية العلم إلى نفسه في الثلاثة الأولى من الخمسة المذكورة، ونفى العلم عن العباد في الأخيرتين منها، مع أن الخمسة سواء في اختصاص الله تعالى بعلمها، وانتفاء علم العباد بها، لأن الثلاثة الأولى أمرها أعظم وأفخم، فخصت بالإضافة إليه تعالى، والأخيرتان من صفات العباد، فخصتا بالإضافة إليهم، مع أنه إذا انتفى عنهم علمهما.. كان انتفاء علم ما عداهما من الخمسة أولى. اهـ. "كرخي".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال خرج علينا رسول الله - ﷺ - يطوف
(٢) فتح الرحمن.
(٣) الفتوحات.
إِذَا مَا حَمَامُ الْمَرْءِ كَانَ بِبَلدَةٍ | دَعَتْهُ إِلَيْهَا حَاجَةٌ فَيَطِيْرُ |
مَشَيْنَا فِيْ خُطَىً كُتِبَتْ عَلَيْنَا | وَمَنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ خُطَىً مَشَاهَا |
وَأَرْزَاقٌ لَنَا مُتَفَرِّقَاتٌ | فَمَنْ لَمْ تَأتِهِ مِنَّا أَتَاهَا |
وَمَنْ كُتِبَتْ مَنِيَّتُهُ بِأَرْضٍ | فَلَيْسَ يَمُوْتُ فِي أرْضٍ سِوَاهَا |
فإن قلت: لم عد هذه الخمسة المذكورة في الآية فقط، مع أن كل المغيبات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى؟
قلت: خصها لما أن السؤال عنها ورد كما سبق في سبب النزول، وكان أهل الجاهلية يسألون المنجمين عن هذه الخمسة، زاعمين أنهم يعرفونها، وتصديق الكاهن فيما يخبره من الغيب كفر، لقوله - ﷺ -: "من أتى كاهنًا فصدقه فيما يقول.. فقد كفر بما أنزل الله على محمد". والكاهن: هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار، وكان في العرب كهنة يدعون معرفة الأمور، فمنهم من يزعم أن له رئيًا من الجن يلقى إليه الأخبار.
وفي الحديث: "من سأل عرافًا.. لم تقبل له صلاة أربعين ليلة". والعراف: من يخبر عن المسروق ومكان الضالة، والمراد: من سأله على وجه
الإعراب
﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة أو استئنافية. ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما، ﴿يُسْلِمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها ﴿وَجْهَهُ﴾: مفعول به، ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُسْلِمْ﴾، و ﴿يُسْلِمْ﴾ يتعدى باللام، ولكنه عدي هنا بإلى ليكون معناه أنه سلم نفسه إليه، كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد به: التوكل والتفويض إليه، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾: مبتدأ وخبر، و ﴿الواو﴾ فيه: حالية، والجملة: في محل النصب حال من فاعل ﴿يُسْلِمْ﴾. ﴿فَقَدِ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبًا لاقترانه بـ ﴿قد﴾، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿اسْتَمْسَكَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه جوابًا لها، ﴿بِالْعُرْوَةِ﴾: متعلق بـ ﴿اسْتَمْسَكَ﴾، ﴿الْوُثْقَى﴾ صفة لـ ﴿العروة﴾، وجملة ﴿من﴾ الشرطية: معطوفة على جملة: ﴿وَإِذَا قِيلَ﴾ أو مستأنفة، ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية أو اعتراضية، ﴿إلى الله﴾: خبر مقدم، ﴿عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة، أو معترضة.
﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٣)﴾.
﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٥)﴾.
﴿نُمَتِّعُهُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: مستأنفة، ﴿قَلِيلًا﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: تمتيعًا قليلًا، أو لزمان محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿نَضْطَرُّهُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿نُمَتِّعُهُمْ﴾، ﴿إِلَى عَذَابٍ﴾: متعلق بـ ﴿نَضْطَرُّهُمْ﴾، ﴿غَلِيظٍ﴾: صفة ﴿عَذَابٍ﴾. ﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم، ﴿سَأَلْتَهُمْ﴾: فعل ماض وفاعل ومفعول أول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، ﴿مَّنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿سأل﴾، ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، ﴿وَالْأَرْضَ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَّنْ﴾ الموصولة. ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ ﴿اللام﴾: واقعة في جواب القسم، مؤكدة للأولى،
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)﴾.
﴿لِلَّهِ﴾: خبر مقدم، ﴿مَا﴾: اسم موصول مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل، ﴿الْغَنِيُّ﴾: خبره الأول، ﴿الْحَمِيدُ﴾: خبر ثان له، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها. ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿أَنَّمَا﴾ ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب اسم ﴿أن﴾، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿مِنْ شَجَرَةٍ﴾: حال من ﴿ما﴾، أو من ضمير الاستقرار، ﴿أَقْلَامٌ﴾: خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾: من اسمها وخبرها في تأويل مصدر فاعل لفعل محذوف وقع فعل شرط لـ ﴿لو﴾ تقديره: ولو ثبت كون ما في
﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾.
﴿مَا﴾: نافية، ﴿خَلْقُكُمْ﴾: مبتدأ، ﴿وَلَا بَعْثُكُمْ﴾: معطوف على ﴿خَلْقُكُمْ﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة الاستثناء مفرغ، ﴿كَنَفْسٍ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، ﴿وَاحِدَةٍ﴾: صفة ﴿نفس﴾، والجملة الاسمية: مستأنفة، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿سَمِيعٌ﴾: خبره الأول، ﴿بَصِيرٌ﴾: خبره الثاني، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿أَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿لم﴾، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ﴿فِي النَّهَارِ﴾ متعلق بـ ﴿يُولِجُ﴾. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿تر﴾. وجملة قوله: ﴿وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾: في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ﴾.
﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿بِأَنَّ اللَّه﴾: جار ومجرور وخبره، والجملة الاسمية: مستأنفة، ﴿أن﴾: حرف نصب، ﴿اللَّهَ﴾: اسمها، ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل، ﴿الْحَقُّ﴾: خبرها. وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: ذلك كائن بسبب كون الله تعالى هو الحق، ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أن﴾: حرف نصب، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب اسمها، وجملة ﴿يَدْعُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: وأن ما يدعونه، ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿ما﴾ الموصولة، أو من العائد المحذوف، ﴿الْبَاطِلُ﴾: خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾: في محل الجر معطوفة على جملة ﴿أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾، وجملة ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾: معطوفة عليها أيضًا.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١)﴾.
﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿تَرَ﴾:
﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة أو استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿غَشِيَهُمْ مَوْجٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة: في محل الخفض مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب الآتي، وجملة ﴿إذا﴾: معطوفة على جملة قوله: ﴿أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ أو مستأنفة، ﴿كَالظُّلَلِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿مَوْجٌ﴾. ﴿دَعَوُا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: جواب ﴿إذا﴾: لا محل لها من الإعراب، ﴿مُخْلِصِينَ﴾: حال من الواو في ﴿دَعَوُا﴾، ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿مُخْلِصِينَ﴾، ﴿الدِّينَ﴾: مفعول ﴿مُخْلِصِينَ﴾، لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفعل الصحيح. ﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿لما﴾: اسم
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة، ﴿النَّاسُ﴾: بدل لـ ﴿أي﴾، وجملة النداء: مستأنفة، ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية: جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿وَاخْشَوْا يَوْمًا﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿اتَّقُوا﴾، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَجْزِي وَالِدٌ﴾: فعل وفاعل ﴿عَنْ وَلَدِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَجْزِي﴾، والجملة الفعلية: في محل النصب صفة لـ ﴿يَوْمًا﴾، والرابط: محذوف، تقديره: لا يجزي فيه، ﴿وَلَا مَوْلُودٌ﴾: مبتدأ أول، ﴿هُوَ﴾: مبتدأ ثان، ﴿جَازٍ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين؛ لأن أصله: جازي، فأعمل به إعمال قاضٍ، وجملة المبتدأ الثاني: خبر للمبتدأ الأول، أعني: مولود، وجوز الابتداء به مع كونه نكرةً وقوعه في سياق النفي، وجملة المبتدأ الأول: في محل النصب معطوفة على جملة {لَا
أحدهما: أنه مبتدأ، وما بعده الخبر.
والثاني: أنه معطوف على ﴿وَالِدٌ﴾، وتكون الجملة صفة له. انتهى.
﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣)﴾.
﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾: ناصب واسمه ومضاف إليه، ﴿حَقٌّ﴾: خبره، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ﴾. ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم من المواعظ، وأردتم بيان ما هو النصيحة لكم.. فأقول لكم: لا تغرنكم، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تغرن﴾: في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، و ﴿الكاف﴾: مفعول به ﴿الْحَيَاةُ﴾: فاعل ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الْحَيَاةُ﴾. والجملة الفعلية: في فحل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة، مستأنفة. ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ﴾: فعل ومفعول به معطوف على سابقتها، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به، ﴿الْغَرُورُ﴾: فاعل.
﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿عِنْدَهُ﴾: خبر مقدم، ﴿عِلْمُ السَّاعَةِ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة، ﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود عى الله، ومفعول به، والجمة الفعلية: في محل الرفع معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، على كونها خبرًا
التصريف ومفردات اللغة
﴿يُسْلِمْ وَجْهَهُ﴾؛ أي: يفوض أمره، إلى الله، مأخوذ من أسلمت المتاع إلى الزبون. اهـ. "بيضاوي"، والزبون بفتح الزاي: المشتري من الزبن، وهو: الدفع. اهـ. "شهاب"؛ لأنه يدفع غيره عن أخذ المبيع، وأسلم إذا عدي بإلى، يكون بمعنى سلم، وإذا عدي باللام، تضمن معنى الإخلاص، والوجه: بمعنى الذات، والمعنى: أقبل بكليته إلى الله.
﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾؛ أي: مطيع لله في أمره ونهيه.
﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ﴾ قال في "المفردات": إمساك الشيء: التعلق به وحفظه، واستمسكت بالشيء: إذا تحربت بالإمساك، انتهى. والسين والتاء فيه زئداتان.
و ﴿الْوُثْقَى﴾: الموثقة المحكمة، تأنيث الأوثق، كالصغرى تأنيث الأصغر، والشيء الوثيق: ما يأمن صاحبه من السقوط.
والمعنى: فقد تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب وأقواه، وأصله: أن من يرقى إلى جبلٍ شاهقٍ، أو يتدلى منه، يستمسك بحبل متينٍ مأمون الانقطاع.
﴿فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ﴾ يقال: أحزنه، من المزيد، ويحزنه من الثلاثي، وأما حزن الثلاثي ويحزن المزيد، فليس بشائع في الاستعمال.
﴿قَلِيلًا﴾؛ أي: تمتينًا أو زمانًا قليلًا، فهو إما صفة لمصدر أو ظرف محذوف.
﴿ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ﴾: الاضطرار: حمل الإنسان على ما يضره، وهو في التعارف: حمل الإنسان على أمر يكرهه؛ أي: نلجئهم ونردهم في الآخرة قسرًا إلى العذاب.
﴿إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾؛ أي: ثقيل، ثقل الأجرام الغلاظ، والغليظ: ضد الرقيق، وأصله: أن يستعمل في الأجسام، لكن قد يستعمل في المعاني، كما في "المفردات".
﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ بضم اللام لإسناده إلى ضمير الجماعة، أصله: يقولونن، بواو الضمير وثلاث نونات، فهو مرفوع بالنون المحذوفة لعدم مباشرته بنون التوكيد، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الواو لبقاء دالها وهو ضم اللام، فصار: ﴿يقولن﴾ بضم اللام.
﴿أَقْلَامٌ﴾: جمع قلم، وأصل القلم، القص من الشيء الصلب كالظفر، وخص ذلك بما يكتب به، وفي "كشف الأسرار": سمي قلمًا لأنه قط رأسه، والإقليم: القطعة من الأرض، وتقليم الأظفار: قطعها، والفرق بين القط والقد: أن القط: القطع عرضًا، والقد: القطع طولًا، والقطع: فصل الجسم بنفوذ جسم آخر فيه.
﴿وَالْبَحْرُ﴾؛ أي: المحيط، لأنه المتبادر من التعريف، إذ هو الفرد الكامل. اهـ. "شهاب". وهو البحر الأعظم، الذي منه مادة جميع البحار المتصلة به، كبحر الغرب والشرق، والمنقطعة عنه.
﴿يُولِجُ اللَّيْلَ﴾؛ أي: يدخل، والمراد: أنه يضيف الليل إلى النهار والعكس بالعكس، فيتفاوت بذلك حال أحدهما زيادةً ونقصانًا، فالإيلاج: الإدخال، والولوج: الدخول في مضيق.
﴿تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾؛ أي: تسير سيرًا سريعًا. قال في "المفردات": الجري: المر السريع، وأصله لمر الماء ولما يجري بجريه.
﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾؛ أي: مبالغ في الصبر على المشاق.
اعلم: أن الصبر تحمل المشاق بقدر القوة البدنية، وذلك في الفعل كالمشي ورفع الحجر، كما يحصل للجسوم الخشنة، وفي الانفعال كالصبر على المرض، واحتمال الضرب والقطع، وكل ذلك ليس بفضيلة تامة، بل الفضيلة في الصبر عن تناول مشتهى لإصلاح الطبيعة، والصبر على الطاعات لإصلاح النفس، فالصبر كالدواء المر وفيه نفعٌ.
﴿شَكُورٍ﴾؛ أي: مبالغ في الشكر على نعمائه، والشكر: تصور النعمة بالقلب والثناء على المنعم باللسان، والخدمة بالأركان، وجعل الصبر مبدأ، والشكر منتهًى في الآية يدل على كون الشكر أفضل من الصبر.
﴿مُقْتَصِدٌ﴾؛ أي: سالك للقصد؛ أي: للطريق المستقيم، وهو التوحيد لا يعدل عنه إلى غيره، أو متوسط في الكفر لانزجاره في الجملة.
﴿خَتَّارٍ﴾: مبالغة من الختر، من بابي ضرب ونصر، والختر: أشد الغدر وأقبحه، قال في "المفردات": الختر: غدر يختر فيه الإنسان؛ أي: يضعف ويكسر لاجتهاده فيه. اهـ. ومنه قولهم: إنك لا تمد لنا شبرًا من الغدر، إلا مددناك باعًا من ختر. قال الشاعر:
وَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ أبا عُمَيْرٍ | مَلأْتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ |
﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ والوعد: يكون في الخير والشر، يقال: وعدته بنفع وضر وعدًا وميعادًا، والوعيد في الشر خاصةً.
﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ﴾ يقال: غره: إذا خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر هو، كما في "القاموس".
﴿الْغَرُورُ﴾ قال في "المفردات": الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، وقد فسر بالشيطان، إذ هو أخبث الغاوين.
﴿عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ والساعة في الأصل: جزء من أربعة وعشرين جزءًا من الملوين، وسميت القيامة بلفظ الساعة؛ لأنها تقوم في آخر جزء من تلك الأجزاء.
﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾؛ أي: المطر، سمي المطر بالغيث؛ لأن به يغاث الخلق
﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ جمع رحم، والرحم: بيت منبت الولد ووعاؤه.
﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ﴾ والدراية: المعرفة المدركة بضرب من الحيل، ولذا لا يوصف الله سبحانه بها، ولا يقال: الله الداري.
وأما قول الشاعر:
لَا هُمَّ لَا أَدْرِيْ وَأنْتَ الدَّارِيْ
فقول عربي جلف جاهل، جاهل بما يطلق على الله من الصفات، وما يجوز منها وما يمتنع، أو بطريق المشاكلة، كما في قوله تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾.
﴿مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ والكسب: ما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظ، مثل كسب المال، وقد يستعمل فيما يظن الإنسان أن يجلب به منفعةً أو يدفع به مضرة، والغد: اليوم يلي يومك الذي أنت فيه، كما أن أمس اليوم الذي قبل يومك بليلة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ﴾ حيث أطلق الجزء وأراد الكل؛ لأن الوجه هنا بمعنى الذات، لا خصوص العضو الذي تقع به المواجهة.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ فقد مثل حال المتوكل المشتغل بالطاعة، بحال من أراد أن يتدلى من جبل شاهق، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه، وقيل: هو
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ حيث شبه إلزامهم التعذيب، وإرهاقهم باضطرار المضطر إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك منه؛ أي: يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ.
ومنها: الاستعارة المصرحة في لفظ ﴿غَلِيظٍ﴾ لأن الغليظ ضد الرقيق، فهو حقيقة في الأجسام، فاستعاره للتعذيب الذي هو معنى من المعاني؛ لأنه بمعنى عذاب شديد، فالشدة معنًى من المعاني، فاستعار لها لفظ الغلط على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، لجرياتها في المشتق بعد جريانها في الجامد.
ومنها: تقديم ما حقه التأخير لغرض الحصر في قوله: ﴿وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾؛ أي: إليه تعالى، لا إلى أحد غيره.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ حيث أطلق المحل الذي هو الصدر، وأراد به الحال الذي هو القلب؛ لأن المعنى: عليم بخطرات القلوب.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ لأن كلمة ﴿هُوَ﴾ هنا للحصر؛ أي: هو الغني وحده، وليس معه غني آخر، كما مرّ.
ومنها: توحيد لفظ ﴿شَجَرَةٍ﴾ لإفادة الاستغراق في قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ﴾ فكأنه قال من كل شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر شجرة واحدة، إلا وقد بريت أقلامًا.
ومنها: جمع الأقلام لقصد التكثير.
ومنها: المخالفة في الصيغة بين ﴿سخر﴾ المعطوف و ﴿يُولِجُ﴾ المعطوف عليه في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ﴾ وقوله: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ لاختلاف مفادهما؛ لأن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد كل حين، فعبر عنه بالصيغة المتجددة حينًا بعد حين، وأما تسخير النيرين، فهو أمر لا يتجدد ولا
ومنها: الطباق بين لفظ ﴿الْحَقُّ﴾ - و ﴿الْبَاطِلُ﴾ في قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾.
ومنها: كمال الاعتناء بشأن التوحيد في قوله: ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾ حيث صرحه مع أن ثبوت حقيقة إلهيته تعالى، مستتبع لبطلان إلهيةِ ما عداه.
ومنها: صيغ المبالغة في قوله: ﴿صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ وقوله: ﴿خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾.
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
فائدة: فإن قيل: إذا أمكن العلم بالغيب لخلص عباده تعالى بتعليمه إياهم، فلم لم يعلم الله سبحانه نبيه - ﷺ - الغيوب المذكورة في الآية؟
فالجواب: أن الله تعالى إنما لم يعلمه ذلك، إشعارًا بأن المهم للعبد أن يشتغل بالطاعة ويستعد لسعادة الآخرة، ولا يسأل عما لا يهم، ولا يشتغل بما لا يعنيه، فافهم جدًّا، واعمل لتكون عاقبتك خيرًا، انتهى من "روح البيان".
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
١ - القرآن هداية، ورحمة للمؤمنين.
٢ - قصص من ضل عن سبيل الله بغير علم، واتخذ آيات الله هزوًا.
٣ - وصف العالم العلوي والعالم السفلي، وما فيهما من العجائب الدالة على وحدانية الله تعالى.
٤ - قصص لقمان وإيتاؤه الحكمة، وشكره لربه على ذلك، ثم نصائحه لابنه.
٥ - الأمر بطاعة الوالدين، إلا فيما لا يرضي الخالق.
٦ - النعي على المشركين في ركونهم إلى التقليد، إذا دعوا إلى النظر في الكون، وعبادة الخالق له.
٧ - لا نجاة للإنسان إلا بالإخبات إلى الله سبحانه.
٨ - تسلية الرسول على عدم إيمان المشركين.
٩ - تعجيب رسوله من المشركين، بأنهم يقرون بأن الله هو الخالق لكل شيء، ثم هم يعبدون معه غيره، ممن هو مخلوق مثلهم.
١٠ - نعم الله ومخلوقاته لا حصر لها.
١١ - الأمر بالنظر إلى الكون وعجائبه، لنسترشد بذلك إلى وحدانية الصانع لها.
١٢ - تحميق المشركين بأنهم في الشدائد يدعون الله وحده، وفي الرخاء يشركون معه سواه.
١٣ - الأمر بالخوف من عقاب الله، يوم لا يجزي والد عن ولده.
١٥ - إحاطة علمه تعالى بجميع الكائنات، ظاهرها وباطنها (١).
والله أعلم
* * *
سورة السجدة وتسمى سورة المضاجع، مكية كلها كما رواه ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس، ورواه ابن مردويه عن ابن الزبير، وأخرج ابن النجار عن ابن عباس قال: هي مكية، سوى ثلاث آيات.
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا﴾ إلى تمام الآيات الثلاث، فمدنية، وكذا قال الكلبي ومقاتل، وقيل: إلا خمس آيات من قوله.
﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.
وآياتها: ثلاثون آية، وقيل: تسع وعشرون (١) بناء على الاختلاف في أنّ آخر الآية: ﴿لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أو هو ﴿كَافِرُونَ﴾ فعلى الأول تكون ثلاثين آية، وعلى الثاني تكون تسعًا وعشرين. اهـ. "شيخنا". وكلماتها: ثلاث مئة وثمانون كلمة. وحروفها: ألف وخمس مئة وثمانية عشر حرفًا، نزلت بعد سورة المؤمنون.
تسميتها: سميت بسورة السجدة لاشتمالها على آية السجدة.
المناسبة: مناسبتها لما قبلها: أن الله (٢) سبحانه وتعالى لما ذكر فيما قبلها دلائل التوحيد، من بدء الخلق، وهو الأصل الأول، ثم ذكر المعاد والحشر، وهو الأصل الثاني، وختم به السورة.. ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث، وهو تبيين الرسالة.
وعبارة المراغي هنا: ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه (٣):
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
٢ - أنه ذكر في السورة السالفة دلائل التوحيد، وهو الأصل الأول، ثم ذكر المعاد، وهو الأصل الثاني، وهنا ذكر الأصل الثالث وهو النبوة.
٣ - أن هذه السورة شرحت مفاتيح الغيب، التي ذكرت في خاتمة ما قبلها، فقوله:
﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ شرح لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾. وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ﴾ شرح لقوله: ﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ وقوله: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ تفصيل لقوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ وقوله: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ﴾ إيضاح لقوله: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ وقوله: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ إلخ شرح لقوله: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾.
الناسخ والمنسوخ منها: قال ابن حزم: سورة السجدة جميع (١) آياتها محكمة غير آخرها، وهو قوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)﴾ (٣٠) الآية. نسخت بآية السيف.
فضلها: ومن فضائلها ما أخرجه (٢) مسلم وأصحاب "السنن" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بـ ﴿الم (١) تَنْزِيلُ﴾ السجدة ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ﴾. وأخرجه البخاري وغيره أيضًا من حديثه، وأخرج أبو عبيد في فضائله، وأحمد وعبد بن حميد والدارمي والترمذي والنسائي والحاكم، وصححه، وابن مردويه عن جابر قال: كان النبي - ﷺ - لا ينام حتى يقرأ: ﴿الم (١) تَنْزِيلُ﴾ السجدة، و ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾.
وأخرج أبو نصر والطبراني والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس يرفعه إلى رسول الله - ﷺ - قال: "من صلى أربع ركعات خلف العشاء الأخيرة، قرأ في
(٢) الشوكاني.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من قرأ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ - و ﴿الم (١) تَنْزِيلُ﴾ السجدة، بين المغرب والعشاء الآخرة.. فكأنما قام ليلة القدر.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله - ﷺ -: "من قرأ في ليلة ﴿الم (١) تَنْزِيلُ﴾ السجدة، ويس و ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾ و ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾.. كن له نورًا وحرزًا من الشيطان، ورفع في الدرجات إلى يوم القيامة".
وأخرج ابن الضريس عن المسيب بن رافع: أن النبي - ﷺ - قال: " ﴿الم (١) تَنْزِيلُ﴾ تجيء لها جناحان يوم القيامة، تظل صاحبها وتقول: لا سبيل عليه، لا سبيل عليه".
قال الدارمي (١): وأخبرنا أبو المغيرة قال: حدثنا عبدة عن خالد بن معدان قال: اقرؤوا المنجية، وهي ﴿الم (١) تَنْزِيلُ﴾ فإنه بلغني أن رجلًا كان يقرؤها، ما يقرأ شيئًا غيرها، وكان كثير الخطايا، فنشرف جناحها عليه، وقالت: رب اغفر له، فإنه كان يكثر قراءَتي، فشفعها الرب فيه، وقال: اكتبوا له بكل خطيئة حسنةً وارفعوا له درجة.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٩) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)﴾.المناسبة
تقدم لنا بيان المناسبة بين السورة والسورة.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أن الله سبحانه لما أثبت الرسالة في الآية التي قبلها.. بين هنا ما يجب على الرسول من الدعاء إلى توحيد الله تعالى، وإقامة الأدلة على ذلك.
قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أثبت (١) البعث والرجوع إليه.. بين حال المشركين حين معاينة العذاب، ووقوفهم بين يدي الله تعالى أذلاء ناكسي رؤوسهم من الحياء والخجل، طالبي الرجوع إلى الدنيا لتحسين أعمالهم، ثم بين أنه لا سبيل إلى العودة؛ لأنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه، وأنه قد ثبت في قضائه، وسبق في وعيده: أن جنهم تمتلىء من الجِنة والناس، ممن ساءت أعمالهم، وقبحت أفعالهم، فلا يصلحون لدخول الجنة، ويقال لهم: ذوقوا عذاب النار، جزاء ما عملتم في الدنيا، وقد نسيتم لقاء ربكم، فجازاكم بفعالكم، وجعلكم كالمنسيين من رحمته.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر علامة أهل الكفر، من طأطأة الرؤوس خجلًا وحياءً مما صنعوا في الدنيا، وذكر ما يلاقون من العذاب المهين يوم القيامة.. عطف على ذلك ذكر علامة أهل الإيمان، من تذللهم لربهم، وتسبيحهم بحمده، ومجافاة جنوبهم للمضاجع، يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، ثم أردفه ذكر ما يلاقون من نعيم مقيم، وقرة أعين، جزاءً لهم على جميل أعمالهم، ومحاسن أقوالهم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما أخرجه
(٢) لباب النقول.