تفسير سورة سورة سبأ من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
.
لمؤلفه
أبو بكر الحداد اليمني
.
المتوفي سنة 800 هـ
ﰡ
﴿ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ الحمدُ: الوصفُ بالجميلِ على جهةِ التَّعظيمِ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ المعنى: له ما في السماوات والأرض مُلْكاً وخَلْقاً.
﴿ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ ﴾؛ أي يَحمدهُ أهلُ الآخرةِ على دَوَامِ نِعَمِهِ عليهم كما يحمدهُ أهلُ الدُّنيا، ولكنَّ الحمدَ في الدُّنيا تَعَبُّدٌ، وفي الآخرة شُكْرٌ على سبيلِ السُّرور؛ لأنه لا يُكَلَّفُ في الآخرةِ، يقولُ أهلُ الآخرةِ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذا، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ وَالنِّقَمَ فِي الدَّارَيْنِ كُلِّهَا مِنْهُ. قَوْلُهُ: ﴿ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ ﴾؛ أي الْحَكِيْمُ في أفعالهِ، الْخَبيْرُ بأحوالِ عبادِه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾؛ أي ما يدخلُ في الأرضِ ويَغِيبُ فيها مِن المطرِ والحيواناتِ من الْمَيْتَةِ، ويعلمُ ما يخرجُ منها من أنواعِ النَّباتِ والزُّروعِ وغيرِ ذلك مما لا يعلمهُ إلاّ هُوَ، وَيعلمُ ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾؛ مِن الأمطار التي هي سببُ أرزاقِ العباد، وَيعلمُ ﴿ وَمَا يَعْرُجُ ﴾؛ في السَّماء؛ أي مَن يصعدُ.
﴿ فِيهَا ﴾؛ مِن الملائكةِ الْحَفَظَةِ لديوانِ العباد، وما يرتفعُ فيها من الرِّياح والحرِّ والبردِ، ويعلمُ ما يصعدُ فيها من أعمالِ العباد. يقالُ: عَرَجَ يَعْرُجُ؛ إذا صَعَدَ، وعَرَجَ يَعْرِجُ إذا صَارَ أعْرَجاً. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلْغَفُورُ ﴾؛ أي الرَّحِيْمُ بعبادهِ، الغَفُورُ لِمَنِ استحقَّ المغفرةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ ﴾؛ أي قالَ الكفَّارُ: لا تَأتِينَا القيامةُ.
﴿ قُلْ ﴾؛ لَهم يا مُحَمَّد: ﴿ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾؛ على ما أخبرَ اللهُ تعالى.
﴿ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ ﴾.
قرأ حمزةُ والكسائيُّ (عَالِمِ الْغَيْب) بخفضِ الميمِ على وزن فِعَالِ على المبالغةِ، كقولهِ: عَلاَّمِ الْغُيُوب، وقرأ نافعُ وابنُ عامرٍ: (عَالِمُ) برفعِ الميمِ على تقدير: هو عالِمٌ، وقرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمر وعاصمُ (عَالِمِ) بالكسرِ نعتٌ لقولهِ (وَرَبي). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾؛ أي لا يغيبُ عنه ولا يبعدُ عليه معرفةُ وزنِ ذرَّةٍ.
﴿ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ وخصَّ الذرَّةَ بالذِّكر لأنَّها أصغرُ شيءٍ يدخلُ في أوهامِ البَشَرِ، وهذا مَثَلٌ؛ لأنه سُبْحَانَهُ لا يخفَى عليه ما هو دُونَ الذرةِ، والمعنى: اللهُ يعلمُ كلَّ شيءٍ دَقَّ أو جَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾؛ الكتابُ الْمُبيْنُ في هذه الآيةِ هو اللَّوحُ الْمَحفوظُ.
قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿ لِّيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾؛ معناهُ: لتَأتِيَنَّكُم الساعةُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ عَلَى أعمالِهم بالمغفرةِ والرِّزقِ الكريمِ؛ أي الثواب الحسَنِ في الجنَّة.
قََوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾؛ أي سَعَوا فيها بعدَ ظُهورها ووضُوحِها بالتكذيب لَها والجحودِ بها، مقدِّرينَ أنَّهم سيفُوتُونَنا، ويُعاجِزُونَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾؛ من عذابٍ مُؤلِم، والرِّجْزُ: أسْوَأُ الْعَذاب. قرأ ابنُ كثيرٍ (ألِيْمٌ) بالرفعِ على نعتِ العذاب، وقرأ الباقونَ بالخفضِ على نعتِ الرِّجْزِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ وَيَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ ﴾؛ أوَّلُ هذه الآيةِ عطفٌ على قولهِ ﴿ لِّيَجْزِيَ ﴾ أي ولكَي يعلمَ الَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبكَ وهو القُرْآنُ وآيهِ يهدِي إلى صِراط العزيزِ بالنِّقمةِ لِمَن لا يؤمنُ به، الْحَمِيْدِ لِمَن وحَّدَهُ، أي يهدِي إلى دِينِ اللهِ. وقوله تعالى ﴿ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ﴾ يعني مؤمنِي أهلِ الكتاب. وقال قتادةُ: (يَعْنِي أصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم). وقولهُ ﴿ هُوَ ٱلْحَقَّ ﴾ إنَّما دَخلت (هُوَ) في هذا الموضعِ للفصلِ عند البصريِّين، ويُسمَّى ذلك عِمَاداً، ولا يدخلُ العِمَادُ إلاّ في المعرفةِ، قال الشاعرُ: لَيْتَ الشَّبَابُ هُوَ الرَّجِيْعُ عَلَى الْفَتَى وَالشِّيْبُ كَانَ هُوَ الْبَدِئُ الأَوَّلُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾؛ أي قال الكُفَّارُ على وجهِ التَّعَجُّب والإنكار؛ أي قال بعضُهم لبعضٍ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يَعْنُونَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يَزْعُمُ أنَّكُمْ تُبْعَثُونَ بَعْدَ أنْ تَكُونُوا عِظَاماً وَرُفَاتاً! وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ أي يقولُ لكم إذا بَلِيتُمْ وتقطَّعَتْ أجسامُكم وانْدَرَسَتْ آثارُكم تعودونَ. وقوله تعالى ﴿ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ أي إذا تفرَّقتُم في الأرضِ وتفرَّقَت العظامُ والجلودُ كلَّ تفريقٍ.
﴿ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ أي نجدِّدُ خلْقَكم بأنْ تُبعَثُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً ﴾؛ هذا مِن قولِ الكُفَّار بعضُهم لبعضٍ؛ قالوا: افْتَرَى مُحَمَّدٌ على اللهِ كَذِباً حين زَعَمَ أنَّا نُبْعَثُ بعدَ الموتِ! ﴿ أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾؛ أي جنونٌ، يقولون: زَعَمَ كَذِباً أمْ بهِ جنونٌ. فردَّ اللهُ عليهم مقالَتَهم بقوله: ﴿ بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ ﴾؛ أي ليسَ الأمرُ على ما قالوا من افتراءِ وجنون، كأنه قالَ: لا هذا ولا ذاكَ، ولكنَّ الذين لا يؤمنونَ بالبعثِ في الآخرةِ، والخطأ البعيدِ في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ معناهُ: إنَّ سماءَنا محيطةٌ بهم والأرضَ حاملةٌ لَهم.
﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ﴾؛ هذهِ.
﴿ ٱلأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ ﴾ تلكَ.
﴿ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ فما يحذرُونَ هذا فيرتَدِعونَ عنِ التكذيب بآياتِنا. والمعنى: أنَّ الإنسانَ حيث ما نظرَ رأى السماءَ فوقَهُ، والأرضَ قُدَّامَهَُ وخلفَهُ وعن يَمينهِ وعن شِمالهِ، فكأنهُ تعالَى قال: إنَّ أرضِي وسَمائِي محيطةٌ بهم، وأنا القادرُ عليهم، إنْ شِئْتُ خسفْتُ بهم، وإنْ شئتُ أُسقِطْ عليهم قطعةً من السماءِ. قرأ حمزةُ والكسائي وخلَف: (إنْ يَشَأْ) و(يَخْسِفْ) و(يُسْقِطْ) في ثلاثَتها بالياءِ لذكرِ الله تعالى قبلَهُ، وقَوْلُهُ تَعَالَى (أفْتَرَى) ألفُ استفهامٍ دخلَتْ على ألفِ الوَصلِ فلذلك سَقطَتْ. وقَوْلُهُ: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾؛ أي إنِّ فيما ذُكِرَ من مَنيعهِ وقدرتهِ وفيما تَرونَ من السَّماء والأرضِ لعلامةٌ تدلُّ على قُدرةِ اللهِ تعالى على البعثِ، وعلى مَن يشاءُ من الخسفِ بهم، لكلِّ عبدٍ أنابَ إلى الله ورجعَ إلى طاعتهِ وتأمَّلَ ما خلقَ. قال الحسنُ: (الْمُنِيْبُ: الرَّاجِعُ إلَى اللهِ تَعَالَى بقَلْبهِ وَقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فَإذا نَوَى نَوَى للهِ، وَإذا قَالَ قَالَ للهِ، وَإذا عَمِلَ عَمِلَ للهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ﴾؛ يعني النبوةَ والكتابَ والْمُلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ ﴾؛ أي سَبحِي معهُ إذا سَبَّحَ، فكان داودُ عليه السلام إذا سَبَّحَ سَبَّحَتِ الجبالُ معه حتى يُسمَعَ صوتُ تسبيحِها. وقُرئَ (أُوْبي مَعَهُ) أي عُودِي في التَّسبيحِ معه كلَّما عادَ فيهِ. وقال القُتَيْبيُّ: (أصْلُهُ مِنَ التَّأْويْب، وَهُوَ السَّيْرُ باللَّيْلِ كُلِّهِ، كَأَنَّهُ أرَادَ ادْنِي النَّهَارَ كُلَّهُ بالتَّسْبيْحِ مَعَهُ). وَقِيْلَ: تسيرُ معه كيفَ شاءَ. وقوله ﴿ وَٱلطَّيْرَ ﴾، قرأ العامةُ بالنصب، وله وجوهٌ؛ أحدُها: بالفعلِ؛ تقديرهُ: وسخَّرنَا له الطيرَ، تقول: أطعَمتهُ طَعَاماً ومَاءً أي وسَقيتهُ ماءً. والثانِي: بالنِّداءِ، يعني بالعطفِ على موضعِ النداء، لأنَّ موضعَ كلَّ مُنادَى النصبُ. والثالث: بنَزعِ الخافضِ، كأنه قالَ: أوِّبي مَعَهُ الطَّيرَ، كما يقالُ: لو تركتَ الناقةَ وفصِيلَها لرَضَعَها؛ أي مع فصِيلها. وقرأ يعقوبُ (والطَّيْرُ) بالرفعِ عَطفاً على الجبالِ. وَقِيْلَ: على الابتداءِ، قال الشاعرُ: ألاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَاكُ سِيرَا فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خََمَرَ الطَّرِيْقِيُروى هذا البيتُ بنصب (الضَّحَّاكَ) ورفعهِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ ﴾؛ أي جعلنَا له الحديدَ لَيِّناً يضربهُ كيفَ شاءَ من غيرِ نارٍ ولا مِطرَقَةٍ، وكان عندَهُ مثلُ الشَّمعِ والطينِ المسلول والعَجِينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ ﴾؛ أي قُلنا له اعْمَلْ دُرُوعاً واسعاتٍ تامَّاتٍ يجرُّها لابسُها على الأرضِ، فكان داودُ عليه السلام أوَّلُ مَن عَمِلَ الدُّروعَ، والسَّابغُ: هو الذي يغطِّي كلَّ ما على الرجُلِ حتى يفضُلَ، فكان داودُ يبيعُ كلَّ درعٍ بأربعَةِ آلاَفٍ، فيأكلُ ويُطعِمُ عيَالَهُ ويتصدَّقُ على الفُقَرَاءِ والمساكينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ ﴾؛ أي اجْعَلْ حِلَقَ الدِّرعِ متتابعةً مُتناسقةً بعضُها إلى بعضٍ على مقدارٍ مَعلُومٍ لا يتفاوتُ على وجهٍ، ولا تنفذُ فيه السِّهامُ ولا السِّنانُ. يقال: سَرَدَ الكلامَ يسرِدُهُ إذا ذكَرَهُ بالتأليفٍ على وجه تحصلُ به الفائدةُ، ومِن هذا يقالُ لصانعِ الدُّروعِ: سَرَّادٌ وَزَرَّادٌ. والسُّرُودُ والزُّرُدُ للوَصْلِ. وقال بعضُهم: السَّرْدُ سَمْرُكَ طَرَفَي الْحَلَقِ؛ أي لا تَجعَلِ المساميرَ دِقَاقاً فتنغلقَ، ولا غِلاَظاً فتكسرَ الحلَقُ، واجعَلْ ذلك على قَدْر الحاجةِ. والقولُ الأولُ أقربُ إلى الآيةِ، لأن الدروعَ التي عمِلَها داودُ كانت بغيرِ المساميرِ؛ لأنه كانت معجزةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً ﴾؛ أي قالَ اللهُ لآلِ داودَ: اعْمَلُوا صَالِحاً فيما بينَكم وبينَ ربكُم.
﴿ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾؛ من شُكرٍ وطاعةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾؛ أي وسَخَّرنَا لسليمانَ الرِّيحَ كانت تحملُ سَريرَهُ فتذهبُ في الغُدُوِّ مسيرةَ شَهرٍ، وترجعُ في الرَّواحِ مسيرةَ شَهرٍ. قال الفرَّاءُ: (نُصِبَ (الرِّيحَ) عَلَى الْمَفْعُولِ؛ أيْ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيْحَ). وقرأ عاصمُ (الرِّيْحُ) بالرفعِ على معنى: ولَهُ تسخيرُ الرِّيحُ، والمعنى أنَّ الريحَ كانت تسيرُ في اليومِ مسيرةَ شَهرَينِ للرَّاكب الْمُسرعِ. قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ ﴾؛ أي أذبْنَا له عَينَ النُّحاسِ، فسَالَتْ له ثلاثةَ أيَّامٍ كما يسيلُ الماءُ، وإنَّما انتفعَ الناسُ بما أخرجَ الله لسُليمانَ، وكان قبلَ سُليمان لا يذوبُ. والقِطْرُ هو الرَّصَاصُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾؛ أي وسخَّرنا له من الجنِّ ﴿ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ مِنَ القُصُور والبُنيانِ.
﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ﴾؛ أي مَن يَمِلْ من الشَّياطينِ عن أمرِنا الذي أمَرْناهُ من الطاعةِ لسُليمانَ.
﴿ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ ﴾؛ أي مِن عذاب النَّار الموقَدَةِ. وَقِيْلَ: إنَّ اللهَ تعالى وَكَّلَ مَلَكاً بيدهِ سوطٌ من نارٍ، فمَن زَاغَ منهم مِن طاعةِ سُليمانَ ضَرَبَهُ ضربةً أحرقَتْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ ﴾؛ أي يعملونَ لسُليمانَ ما يشاءُ ﴿ مِن مَّحَارِيبَ ﴾ أي مَسَاجِدَ، كان هو والمؤمنونَ يُصَلُّونَ فيها. ويقالُ: أراد بالْمَحَاريب الغُرَفَ والمواضعَ الشريفةَ، يقالُ لأشرفِ موضعٍ في الدار مِحْرَابٌ، والْمِحْرَابُ مُقَدَّمُ كلِّ مسجدٍ ومجلس وبيتٍ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَمَاثِيلَ ﴾ أي تَماثيلَ كلِّ شيءٍ، يعني صُوَراً من نُحاسٍ وزُجاجٍ ورُخامٍ، كانت الجنُّ تعمَلُها، وكانوا يصوِّرُون له الأنبياءَ والملائكةَ في المسجدِ ليَرَاهَا الناسُ فيزدادوا عبادةً، وهذا يدلُّ على أن التصويرَ كان مُباحاً في ذلكَ الزمانِ، ثُم صارَ حَرَاماً في شَريعةِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كما رُوي في الحديثِ:" إنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُ بَيْتاً فِيْهِ صُورَةٌ "ورُويَ:" لَعَنَ اللهُ الْمُصَوِّرِيْنَ بمَا صَوَّرُواْ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ ﴾؛ الْجِفَانُ جمع جُفْنَةٍ وهي القَصْعَةُ الكبيرةُ من الصُّفُرِ. وقَوْلُهُ ﴿ كَٱلْجَوَابِ ﴾ أي كالحِيَاضِ العِظَامِ، فهي كحِيَاضِ الإبلِِ، والْجَوَابُ جمعُ الْجَابيَةِ، وسُمِّيَ الحوضُ جَابيَةً؛ لأنه يَجْبي الماءَ؛ أي يَجمعهُ، والجِبَايَةُ جمعُ الماءِ. يقالُ: إنه كان يجتمعُ على جَفْنَةٍ واحدةٍ ألفُ رجُلٍ يأكلون بين يديهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ﴾؛ أي ثابتاتٌ عِظَامٍ من الْحَجَرِ كالجبالِ لا تُرْفَعُ مِن أماكِنها، ولكن يوقدُ تحتَها حتى ينطَبخَ ما فيها من الأطعمةِ فيأكلُ منها الألُوفُ، وكانت هذه الأعمالُ التي يعملونَها معجزةً لسُليمانَ عليه السلام. وقَولُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً ﴾؛ أي قُلنا لَهم: اعمَلُوا بطاعةِ اللهِ شُكْراً لَهُ على هذه النِّعَمِ التي مَنَّ بها عليكُم. وَقِيْلَ: انتصبَ قوله (شُكْراً) على المصدريَّة. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ ﴾؛ أي قليلٌ مِن عبادِي مَن يَشْكُرُ لِي؛ لأن الشَّاكِرِينَ وَإنْ كَثُرُوا فقَليلٌ في جَنْب مَن لَم يشكُرْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ﴾؛ وذلك أنَّ سُليمانَ عليه السلام كان يعتادُ طُولَ القيامِ في الصَّلاة، وكان إذا أعْيَا اتَّكَأَ على عَصاهُ، فاتَّكَأَ ذاتَ يومٍ على عصاهُ، فقَبَضَ اللهُ رُوحَهُ، فبَقِيَ على تلكَ الحالةِ سَنَةً، والعَمَلَةُ في أعمَالِهم يعملونَ كما هم ولَم يَجتَرِئ أحدٌ أن يَدْنُو منه هيبةً لَهُ. وقوله ﴿ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ﴾ دابَّةُ الأرضِ هي الأَرْضَةُ التي تأكلُ الخشبَ، وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ مِنسَأَتَهُ ﴾ أي عصاهُ التي كان يَتَّكِئُ علَيها. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ ﴾؛ أي فلمَّا سَقَطَ سليمانُ لتَآكُلِ الْمِنْسَأَةِ، تَبَيَّنَ الجِنُّ للإنسِ؛ أي ظَهَرُوا أنَّهم لا يعلمونَ الغيبَ، فلو عَلِمُوا ما عَمِلُوا له سَنةً وهو ميِّتٌ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ ﴾ أي في العذاب مِن أعمالِهم الشاقَّة التي كانوا يعملونَها في بناءِ بيتِ المقدس وغيرهِ، فلمَّا عَلِمُوا بموتهِ لسُقوطِ العصَا ترَكُوا الأعمالَ. ثُم أن الشياطينَ قالوا للأَرْضَةِ: لو كُنْتِ تأكلينَ الطَّعامَ لآتيناكِ بأطيَب الطعامِ، ولو كُنْتِ تشرَبينَ الشرابَ لآتيناكِ بأطيب الشراب، ولَكِنَّا سننقلُ إليكِ الطينَ والماءَ، فهُمْ ينقلونَ إليها ذلك حيث كانَتْ، فما رأيتموهُ من الطِّينِ في جَوفِ الخشب فهو مما ينقلهُ الشياطينُ إليها شُكراً لَها!وسُميتِ العصا مِنْسَأَةً لأنه يَنْسَأُ بها الغنمُ وغيرهُ؛ أي يؤَخِّرُ ويطردُ، يقال: أنْسَأَ اللهُ في أجَلهِ؛ أي أخَّرَ اللهُ في أجَلهِ. وأكثرُ القرَّاء يقرأون (مِنْسَأَتَهُ) بالهمزةِ، وقرأ أبو عمرٍو ونافع بتركِ الهمزةِ، وهما لُغتَانِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ ﴾ أي ظَهَرَ أمرُهم. وَقِيْلَ: في موضع النصب تقديرهُ: عَلِمَتْ وأيْقَنَتِ الجنُّ ﴿ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ ﴾، وكان الإنسُ قَبْلَ هذا يظنُّونَ أن الشَّياطينَ يعلمونَ السِّرَّ يكون بين اثنَينِ، فظَهَرَ لَهم يومئذٍ أنَّهم لا يعلمونَ ذلكَ. قال أهلُ التَّّاريخِ: كان عُمْرُ سليمانَ ثلاثاً وخمسينَ سَنةً، ومدَّة مُلكهِ أربعون سَنةً، ومَلَكَ يومَ مَلَكَ وهو ابنُ ثلاثَ عشرةَ سَنةً، وابتدأ في بناءِ بيت المقدسِ لأربعِ سِنين مَضَينَ من مُلكهِ، وكان عُمْرُ داودَ مائة وأربعون سنة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ﴾؛ قال فروةُ بن مُسَيكٍ:" أتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنْ سَبَأ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: " رَجُلٌ مِنَ الْعَرَب أوْلَدَ عَشْرَةَ أوْلاَدٍ، تَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَامَّ مِنْهُمْ أرْبَعَةٌ. فَأَمَّا الَّذِيْنَ تَيَامَنُواْ فَالأَزْدُ وَكِنْدَةُ وَحِمْيَرُ وَمُذْحَجُ وَالأَشْعَرِيُّونَ وَإنْمَارُ وَمِنْهُمْ بَجِيْلَةُ. وَأمَّا الَّذِيْنَ شَامُوا فعَامِلَةُ وَغَسَّانُ وَلَخْمٌ وَجُذامُ "والمرادُ بسَبَأ القبيلةُ الذين هُم مِن أولادِ سَبَأ بنِ يَشْجُبَ بنِ يَعْرُبَ بن قَحطَانَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فِي مَسْكَنِهِمْ ﴾ أنه كانت مساكِنُهم بمَأْرَبَ مِن اليَمَنِ (آيَةً) أي علامةً يدلُّ على قُدرةِ اللهِ وأنَّ الْمُنْعِمَ عليهم هو اللهُ تعالى. ثُم فسَّر تلكَ الآيةِ فقالَ: ﴿ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ﴾؛ أي عَن يَمين وَادِيهم وشِمالهِ قد أحاطَتَا بذلك الوادِي الذي بين مسَاكِنهم. والمعنى: لقد كان لأهلِ سَبَأَ في مواضِعِهم علامةٌ، وهي جَنَّتَانِ؛ أي بُستَانَانِ؛ إحدَاهُما عن يَمينِ الطريقِ، وأُخرَى عن يسار الطَّريقِ، ويقالُ: كان بُستَانَين عن يَمين الطريقِ وبُستانَين عن شِمال الطريقِ، إلاّ أنَّ البَساتينَ كلَّ واحدٍ مِن الجانبين سُمي جَنَّةً لاتِّصالِ بعضِها ببعضٍ، وكانوا في النِّعمةِ بحيثُ كانتِ المرأةُ تَمشِي في تلك الطريقِ بين البساتينِ وعلى رأسِها الزَّنبيلُ فيمتلئُ من ألوانِ الفاكهةِ مِن غيرِ أن تَمَسَّ شيئاً بيدِها. قرأ حمزةُ والنخعيُّ وحفص (فِي مَسْكَنِهِمْ) بفتحِ الكاف على الواحدِ، وقرأ الأعمشُ والكسائي وخلَف: (مَسْكِنَهُمْ) بكسر الكاف على الواحد أيضاً، وقرأ الباقون: (مَسَاكِنِهِمْ) على الجمعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ ﴾؛ أي قيلَ لَهم: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ ربَكُمْ) يعني هذه النِّعَمَ.
﴿ وَٱشْكُرُواْ لَهُ ﴾؛ أي للهِ على نعمةِ هذه، وهذا حدُّ الكلامِ، اثُم ابتدأ فقال: ﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ﴾؛ أي هذه بلدةٌ طيبة أو لكُم بلدةٌ طيبة، يعني ليست بسَبْخَةٍ، ولَم يكن يُرَى بعوضةٌ قَطُّ، ولا ذُبابٌ ولا بَرغُوثٌ ولا حيَّةٌ ولا عقربٌ، وأنَّ الرجلَ الغريبَ ليأتِيَها وفي ثوبهِ القملُ والدوابُّ، فحين يرَى بُيوتَهم تَموتُ الدوابُ والقملُ. والمعنى: بلدةٌ طيِّبةُ الهواءِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾؛ أي غفورُ الخطَايَا، كثيرُ العطايَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ ﴾؛ أي فأعرَضُوا عن الحقِّ وكفَرُوا وكذبُوا أنبيائَهم، ولَم يشكرُوا نِعَمَ اللهِ، وقالوا: لا نعرفُ لله تعالى نِعْمَةً علينا! وقالوا لأنبياءهم: قولُوا لربكم الذي يَزعمُونَ أنه مُنْعِمٌ فليحبسْ عنَّا نِعَمَهُ إنِ استطاعَ!قال وهبُ: (بَعَثَ اللهُ تَعَالَى إلَى سَبَأ ثَلاَثَةَ عَشَرَ نَبيّاً، فَدَعَوْهُمْ إلَى اللهِ وَذكَّرُوهُمْ نِعَمَهُ، وَخَوَّفُوهُمْ عِقَابَهُ، فَكَذبُوهُمْ وَقََالُواْ: مَا نَعْرِفُ للهِ عَلَيْنَا نِعْمَةً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ ﴾، قال ابنُ الأعرَابيِّ: (الْعَرِمُ: السَّيْلُ الَّذِي لاَ يُطَاقُ)، وقال مقاتلُ: (الْعَرِمُ وَادِي سَبَأ). وَقِيْلَ: العَرِمُ: المطرُ الشديدُ الذي يأتِي منه سَيْلٌ لا يطاقُ دَفْعُهُ، وعَرْمَةُ الماءِ ذهَابُهُ في كلِّ مذهبٍ. وَقِيْلَ: العَرِمُ هو الفَأرُ الذي نَقَبَ السدَّ عليهم، وصِفَةُ ذلكَ: أن الماءَ كان يأتِي أرضَ سَبَأ مِنَ الشَّجرِ وأوديةِ اليَمَنِ، فَرَدَمُوا رَدْماً بين جَبلَين وحبَسُوا الماءَ في ذلك الرَّدْمِ، وجعَلُوا لذلكَ الرَّدمِ ثلاثةَ أبوابٍ بعضُها فوق بعضٍ، وكانوا يَسْقُونَ مِن الباب الأعلى، ثُم مِن الباب الثانِي، ثم مِن الباب الأسفَلِ، فلا ينفذُ الماءُ حتى يأتِي ماءُ السَّنة الثانيةِ، فأخصَبُوا وكَثُرَتْ أموالُهم. فلمَّا كذبُوا الرُّسُلَ بعثَ اللهُ عليهم جِرْذاً نقبَ ذلك الرَّدْمَ، فاندفعَ الماءُ عليهم وعلى جنَّتَيهِم، فدَفَنَ السَّيلُ بُيوتَهم وأغرقَ جنَّتَيهِم وخرَّبَ أراضَيهِم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ﴾؛ أي بدَّلنَاهم بالجنَّتَين اللَّتين أهلكنَاهما جنَّتين.
﴿ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾؛ الأُكُلُ: اسمٌ لِمَا يؤكَلُ. والْخَمْطُ: شَجَرُ الأرَاكِ، ويقالُ: الْخَمْطُ كلُّ نَبْتٍ قد أخذ طَعْماً مِن مرارةٍ حتى لا يُمكنُ أكلهُ. وَقِيْلَ: هو شجرٌ ذاتُ شَوكٍ. قرأ أبو عمرٍو ويعقوبُ (أُكُلِ خَمْطٍ) بالإضافةِ، وقرأ الباقون (أُكُلٍ) بالتَّنوينِ، وهما مُتقاربان في المعنى. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَثْلٍ ﴾؛ الأثْلُ: ما عَظُمَ من شَجَرِ الطَّرْفَاءِ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾؛ والسِّدْرُ إذا كان بَرِّيّاً لا يُنتفَعُ به ولا يصلحُ ورَقُهُ للغُسُولِ، كما يكونُ ورَقُ السِّدر الذي نَبَتَ على الماءِ. ومعنى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ يعني أن الْخَمْطَ وَالأثْلَ كان أكثرَ في الجنَّتين المبدَّلَتين من السِّدر. قال قتادةُ: (كَانَ شَجَرُ الْقَوْمِ مِنْ خَيْرِ الشَّجَرِ، فَبَدَّلَهُ اللهُ مِنْ شَرِّ الشَّجَرِ بأعْمَالِهِمْ)، والسِّدْرُ هو شجرُ النَّبْقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ ﴾؛ أي جَزَينَاهُمْ ذلك التَّبديلِ والتَّخريب بكُفْرِهم بنِعَمِ اللهِ تعالَى.
﴿ وَهَلْ نُجَٰزِيۤ ﴾؛ بمثل هذه العقوبةِ وتعجيلِ سَلْب النِّعمةِ.
﴿ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ ﴾؛ أي الكافِرَ المعَانِدَ، وَقِيْلَ: معناهُ: إنَّ المؤمنَ نُكَفِّرُ عنه ذُنوبَهُ بطاعاتهِ، والكافرُ يُجازَى على كلِّ سوءٍ يعملهُ. وقال الفرَّاءُ: (الْمُؤْمِنُ يُجْزَى وَلاَ يُجَازَى) أيْ يُجْزَى الثَّوَابَ بعَمَلِهِ، وَلاَ يُكَافَؤُ بسَيِّئَاتِهِ. قرأ أهلُ الكوفةِ: (نُجَازي) بالنُّونِ وكسرِ الزَّاي. ونُصِبَ (الكَفُورَ) لقولهِ (جَزَيْنَاهُمْ) ولَم يقل جُوزُوا، وقرأ الآخرونَ (يُجَازيُ) بياءٍ مضمومة ورفعِ (الْكَفُورُ). وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ ﴾ مَن قرأ بالنصب فهو اسمُ قبيلةٍ، فلِهَذا لَم ينصرِفْ، ومَن نَوَّنَهُ وخفضَهُ فهو اسمٌ لرَجُلٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً ﴾ أي جعَلنا بين أهلِ سَبَأ وبين قُرَى الأرضِ التي بارَكْنا فيها وهي الأرضُ المقدَّسة بارَكنا فيها بالماءِ والشَّجرِ، يعني قُرَى الشَّامِ ومصر، وقوله ﴿ قُرًى ظَاهِرَةً ﴾ أي قرى متقاربةً متَّصِلةً، إذا خرجَ الرجلُ من واحدةٍ من القُرَى ظهرَتْ له الأُخرى، فكانوا لا يحتاجُونَ في سَيْرِهم إلى الشَّامِ إلى زادٍ، وكانت المرأةُ تخرجُ ومعَها مِغْزَلُهَا، وعلى رأسِها مِكْتَلُهَا، ثُم تَغْزِلُ ساعةً فلا ترجعُ بيتَها حتى يَمتَلِئ مكْتَلُها من الثِّمار، وكان ما بين الشَّام وأرضِ سبأ على تلكَ الصفةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ ﴾؛ أي جعلنا القُرَى مُوَاصَلةً بقدر السَّير المتَّصلِ على قدر الْمَقِيْلِ والمبيتِ مِن قريةٍ إلى قرية، أنعَمْنا عليهم في مَسِيرِهم كما أنعَمْنا عليهم في مسَاكنِهم، فقُلنَا لَهم: ﴿ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً ﴾؛ إنْ شِئْتُم باللَّيالِي وإنْ شِئتُمْ بالأيَّامِ.
﴿ آمِنِينَ ﴾؛ مِن الظُّلمِ والجوعِ والعطشِ وعن جميع ما يُخَافُ في الطريقِ. ومعنَى الآيةِ: ﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ ﴾ من القريةِ إلى القريةِ مِقْدَاراً واحداً، نِصْفَ يَوْمٍ، وقُلنا لَهم: ﴿ سِيرُواْ فِيهَا ﴾ في تِلكَ القُرَى.
﴿ لَيَالِيَ وَأَيَّاماً ﴾؛ لِيْلاً شِئتُمْ السيرَ أو نَهاراً ﴿ آمِنِينَ ﴾ من الجوعِ والعطَشِ والسِّباعِ والتَّعب ومِن كلِّ خوفٍ. ثم إنَّهم بطَرُوا النعمةَ، وسألُوا أن تكونَ القُرَى والمنازلَ بعضُها أبعدَ من بعضٍ.
﴿ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ﴾؛ أي اجعَلْ بيننا وبين الشَّامِ فَلَوَاتٍ وَمَفَاوزَ لنَركَبَ عليها الرَّواحِلَ ونَتَزَوَّدَ الأَزْوَادَ، ذلك أنَّهم قالوا لو كانَتْ ثِمارُنا أبعدَ مما هي لكان أجدرَ أن نشتَهِيَها، فاجعَلْ بين منازلنا وبين مقصَدِنا الْمَفَاوزَ. ويقالُ: كانت هذه المسألةُ من تُجَّارُهم ليربَحُوا في أمولِهم. قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو (بَعِّدْ) على وجهِ الدُّعاء. وقرأ ابنُ الحنفيَّة ويعقوب (رَبُّنَا) برفعِ الباء (بَاعَدَ) بألفٍ وفتح العينِ والدلالةِ على الخبر، استبعَدُوا أسفارَهم بَطَراً منهم وأشَراً. وقرأ الباقونَ (رَبَّنَا) بفتح الباء و(بَاعِدْ) بالألفِ وكسرِ العين وجزمِ الدَّالِ على الدُّعاء. وقد قُرئَ (بَعُدَ) بضمِّ العين و(بَيْنُ) بالرفع؛ أي بَعُدَ مَا يتَّصِلُ بسفَرِنا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ ﴾؛ يعني بتَرْكِ الشُّكرِ والطاعةِ، وَقِيْلَ: بالكُفرِ.
﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾؛ لِمَن بعدَهم يتحدَّثون بأمرِهم وشأنِهم، ولَم يبقَ منهم ولا مِن ديارهم أثرٌ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾؛ أي فرَّقنَاهم في البلادِ المختلفة كلَّ تفريقٍ، وذلك أنَّهم شُرِّدُوا في البلادِ، وصَارُوا بحيث يتمثلُ بهم العربُ يقولون: تفرَّقَ القومُ أيدِي سَبََأَ وأيَادِي سَبَأ. قال الشعبيُّ: (أمَّا غَسَّانُ فَلَحِقُواْ بالشَّامِ، وَأمَّا الأَنْصَارُ فَلَحِقُواْ بيَثْرِبَ، وَأمَّا خُزَاعَةُ فَلَحِقُواْ بتُهَامَةَ، وَأمَّا الأَزْدُ فَلَحِقُواْ بعُمَانَ) وَكَانَتْ غَسَّانُ مُلُوكَ الشَّامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾؛ أي فيما فُعِلَ بسَبأ ﴿ لآيَاتٍ ﴾؛ لَعِبَرٍ ودلالاتٍ ﴿ لِّكُلِّ صَبَّارٍ ﴾، عنِ معاصيِ اللهِ.
﴿ شَكُورٍ ﴾؛ لأَنْعُمِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ قرأ أهلُ الكوفةِ (صَدَّقَ) بالتشديدِ؛ أي ظنَّ فيهم ظَنّاً حيثُ قال:﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾[ص: ٨٢]﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾[الأعراف: ١٧] فصدَّقَ ظنَّهُ وحقَّقهُ بفعلهِ ذلك واتِّباعِهم إيَّاه. وقرأ الآخَرونَ (صَدَقَ) بالتخفيفِ؛ أي صَدَقَ عليهم في ظَنِّهِ بهم. وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ أي على أهلِ سَبأ، وقال مجاهدُ: عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ إلاَّ مَنْ أطَاعَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ وهمُ الَّذين قَالَ اللهُ تَعَالَى فيهِم﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾[الاسراء: ٦٥].
وَقِيْلَ: إن إبليسَ لَمَّا وَسْوَسَ إلى آدمَ وعمِلتْ فيه وَسْوَسَتُهُ، طَمِعَ في ذرِّيته؛ فقال: إنَّهُ مع فضلهِ وعقْلهِ، وعَمِلَتْ فيه وسْوَسَتِي؛ فكيفَ لا تعملُ في ذرِّيتهِ؟ فأخبرَ اللهُ في هذه الآيةِ: أنَّ القومَ اتبعُوهُ فصدَّقُوا ظَنَّهُ، إلاَّ طائفةً مِن المؤمنينَ لَم يتَّبعوهُ في شيءٍ. وَقِيْلَ: إنَّ ابليسَ لَمَّا سألَ النَّظِرَةَ فأَنْظَرَهُ اللهُ تعالى قال: لأَضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأُمَوِّهَنَّهُمْ، ولَم يكن في وقتِ هذه المقالةِ مُستَيقِناً، وإنَّما قالَ ظَنّاً منهُ، فلما اتَّبَعُوهُ وأطاعوهُ صَدَقَ عليهم ما ظَنَّهُ فيهم. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾؛ أي ما كانَ لأبليسَ عليهم من حُجَّةٍ ولا نَفَاذِ أمْرٍ إلاّ بالتَّزيين والوَسْوَسَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ﴾؛ أي ما كان تُسْلِيْطُنَا إياه عليهم إلاّ لنعلمَ المؤمنينَ مِن الشاكرين. والمعنى: ما سَلَّطْنَاهُ عليهم إلاّ لنعلمَ إيْمانَ المؤمنِ ظَاهراً وكُفْرَ الكافرِ ظَاهِراً، وقد يذكرُ العلمُ ويراد به الإظهارُ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ ﴾؛ أي عالِمٌ بكلِّ شيء مِن الإيْمَانِ وشَكٍّ وغيرِ ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي قُل لكُفَّار مكَّة: أدعُوا الَّذينَ زَعمتُم أنَّهم آلهةٌ مِن دون اللهِ، قال مقاتلُ: (أيِ ادْعُوهُمْ لِيَكْشِفُواْ عَنْكُمُ الضَّرَرَ الَّذِي نَزَلَ بكُمْ فِي سِنِيْنِ الْجُوعِ). وَقِيْلَ: معناهُ: ادْعُوا الذين زَعمتُم أنَّهم آلهةٌ لكم لكي يرزُقوكم ويدفَعُوا عنكم الشدائدَ، ثُم إنَّهم لا يَملكون مِثْقَالَ ذرَّةٍ؛ أي لَم يخلِقُوا زنَةَ ذرَّة في السَّماوات ولا في الأرضِ، فمِن أينَ يستَحقُّون العبادةَ؟!وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ ﴾؛ أي ما لَهم في السَّماوات والأرضِ مِنْ شِرْكٍ في خَلْقِهما، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ ﴾؛ أي وما اللهُ تعالى منهم من مُعِينٍ فيما خَلَقَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾؛ أي ولا تنفعُ شفاعةُ مَلَكٍ مقرَّبٍ ولا نَبيٍّ ولا أحدٍ حتى يأْذنَ اللهُ له في الشَّفاعةِ. وهذا تكذيبٌ مِن الله لَهم حيثُ قالُوا: هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ. قرأ أبو عَمرٍو وحمزةُ والكسائي وخلف (أُذِنَ) بضمِّ الألفِ، وقرأ غيرُهم بالفتحِ، فمَن فَتَحَ كان المعنى لِمَن أذِنَ اللهُ له في الشَّفاعةِ، وكذلك مَن قرأ بالضمِّ لأنَّ الآذِنَ هو اللهُ تعالى في القِراءَتين جميعاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ ﴾؛ قرأ ابنُ عامرٍ ويعقوب: (فَزَّعَ) بفتح الفاء والزاي، وقرأ غيرُهما بضمِّ الفاءِ وكسرِ الزاي. والمعنى: حتى إذا كُشِفَ الفزعُ والجزَعُ عن قلوبهم. ومَن قرأ بالفتحِ فالمعنى: حتَّى إذا كَشَفَ اللهُ الفزعَ عن قلوبهم. واختلَفُوا في هذه الكتابةِ والموصُوفِين بهذه الصِّفةِ، مَن هم؟ ومَن النَّصَب الذي مِن أجلهِ فَزَّعَ عن قلوبهم؟ فقال قومٌ: همُ الملائكةُ. واختلَفُوا في سبب ذلك، فقال بعضُهم: إنَّما فَزَّعَ عن قلوبهم مِن غَشْيَةٍ تصيبُهم عند سَماعِ كلامِ الله عَزَّ وَجَلَّ. قال عبدُالله بنُ مسعودٍ: (إذا تَكَلَّمَ اللهُ تَعَالَى بالْوَحْيِ، سَمِعَ أهْلُ السَّمَاءِ صَلْصَلَةً مِثْلَ صَلْصَلَةِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ، فِيُصْعَقُونَ لِذلِكَ وَيَخُرُّونَ سُجَّداً، فَإذا عَلِمُوا أنَّهُ وَحْيٌ فَزَّعَ عَنْ قُلُوبهِمْ فَتُرَدُّ إلَيهِمْ، فَيُنَادِي أهْلُ السَّمَاواتِ بَعْضُهُمْ بَعْضاً: (ماذا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبيرُ). وعن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:" إنَّ اللهَ تَعَالَى إذا تَكَلَّمَ بالْوَحْيِ، سَمِعَ أهْلُ السَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا، فيُصْعَقُونَ فَلاَ يَزَالُونَ كَذلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيْلُ، فَيَقُولُونَ لَهُ: مَاذا قَالَ رَبُّكَ؟ قَالَ: يَقُولُ الْحَقَّ ". وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" إذا قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ بأَجْنِحَتِهَا خُضُوعاً لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإذا فَزَّعَ عَنْ قُلُوبهِمْ، قَالُواْ: مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُواْ: الْحَقَّ ". وقال صلى الله عليه وسلم:" إذا تَكَلَّمَ اللهُ بالْوَحْيِ، أخَذتِ السَّمَاوَاتُ مِنْهُ رَجْفَةً أوْ رَعْدَةً شَدِيْدَةً خَوْفاً مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَإذا سَمِعَ ذلِكَ أهْلُ السَّمََاوَاتِ صُعِقُواْ وَخَرُّواْ سُجَّداً، فَيَكُونُ أوَّلُ مَنْ رَفَعَ رَأسَهُ جِبْرِيْلُ عليه السلام، فَيُكَلِّمُهُ اللهُ مِنْ وَحْيهِ بمَا أرَادَ، ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيْلُ بالْمَلاَئِكَةِ، فَكُلَّمَا مَرَّ بسَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلاَئِكَتُهَا: مَاذا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيْلُ؟ فَيَقُولُ جِبْرِيْلُ: قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبيْرُ، فَيَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيْلُ، فَيَنْتَهِي جِبْرِيْلُ بالْوَحْيِ حَيْثُ أمَرَ اللهُ ". وقال مقاتلُ والكلبيُّ: (لَمَّا كَانَتِ الْفَتْرَةُ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ عَاماً، فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم كَلَّمَ اللهُ تَعَالَى جِبْرِيْلَ بالرِّسَالَةِ إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعَتِ الْمَلاَئِكَةُ الصَّوْتَ بالْوَحْيِ، فَظَنُّواْ أنَّهَا الْقِيَامَةُ قَامَتْ، فَصُعِقُواْ مِمَّا سَمِعُواْ، فَلَمَّا انْحَدَرَ جِبْرِيْلُ بالرِّسَالَةِ، جَعَلَ أهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ يَسْأَلُونَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَرُّفِ بَعْدَ مَا انْكَشَفَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبهِمْ، قَالُواْ: مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ جِبْرِيْلُ وَمَنْ مَعَهُ: قَالَ الْحَقَّ). وَقِيْلَ: لَمَّا سَمعَتِ الملائكةُ الوحيَ صُعِقُوا فَخَرُّوا سُجَّداً ظَانِّينَ أنَّها القيامةُ، فلما نَزَلَ جبريلُ بالوحيِ انكشَفَ فزَعُهم فرَفَعُوا رُؤوسَهم، وقال بعضُهم لبعضٍ: (مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُواْ الْحَقَّ) يعنِي الوحيَ ﴿ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ ﴾ أي الغالبُ القاهر السيِّدُ المطاعُ الكبيرُ العظيم، فلا شيءَ أعظمَ منهُ. وقرأ الحسنُ (حَتَّى إذا فَزِعَ عَنْ قُلُوبهِمْ) بالعَينِ المعجمةِ والزَّاي بمعنى فَزِعَتْ قلوبُهم من الفزَعِ، وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ قولَهُ ﴿ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ راجعٌ إلى المشرِكينَ، فإنَّهم إذا شاهَدُوا أهوالَ يومِ القيامةِ غَشِيَ عليهم، فيُزِيلُ اللهُ ذلك عن قلوبهم، ثُم تقولُ لَهم الملائكةُ: مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ في الدُّنيا والآخرةِ؟ فيقولونَ: الْحَقَّ، فأَقَرُّوا حين لا ينفعُهم الإقرارُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ ﴾؛ أي قُل يا مُحَمَّد لكُفَّار مكَّة: مَن يرزُقكم من السَّماواتِ المطرَ، ومِن الأرضِ النباتَ والثمرَ؟ وإنَّما أمرَ بهذا السُّؤالِ احتِجَاجاً عليهم؛ لأنَّ الذي يرزقُ هو المستحقُّ للعبادةِ لا غيره، وذلك أنه إذا استفهَمَهم عن الرِّزقِ لَم يُمكِنُهم أن يُبَيِّنُوا رَازقاً غيرَ اللهِ، فيتحيَّرُوا في الجواب فيُؤمَرُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالجواب، فيقولُ لَهم: إنَّ الذي يرزقُكم هو اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وتَمَّ الكلامُ. ثُم أمَرَ بأنْ يُخبرَهم أنَّهم على الضَّلالِ بعبادةِ غيرِ الله تعالى بقولهِ تعالى: ﴿ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾؛ وهذا على وجهِ الإنصَافِ في الحجَّة لاستمالةِ قُلوبهم، كما يقولُ القائلُ من المسَارعِين: أحَدُنا كاذبٌ؛ وهو يعلمُ أنَّهُ صادقٌ وصاحبهُ كاذبٌ. والمعنى: مَا نحنُ وأنتم إلاَّ على أمرٍ واحدٍ؛ أحدُ الفرِيقَين مهتَدٍ والآخرُ ضَالٌّ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم ومَنِ اتَّبَعَهُ على الْهُدَى، ومَن خالفَهُ في ضَلالٍ مُبينٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ أي قُل يا مُحَمَّدُ للكفَّار لا تُؤاخَذُونَ بجُرمِنا، ولا نؤاخَذُ بجُرمِكُم، فانظُرُوا لأنفُسِكم واعلَمُوا أنَّ حِرصَنا على إيْمانِكم لا ينفعُكم، وهذا على وجهِ التَّبَرُّؤ منهُم ومِن كُفرِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ﴾؛ يعني بَعْدَ الْبَعْثِ في الآخرةِ فِي الْمَحشَرِ.
﴿ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي ثُم يقضِي بينَنا ويحكُمَ بيننا بالعدلِ.
﴿ وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ ٱلْعَلِيمُ ﴾؛ أي وهو القاضِي العليم بما يقضِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ أَرُونِيَ ٱلَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاَّ ﴾؛ أي قُل لَهم أرُونِي الَّذينَ ألْحَقْتُمُوهُمْ بالله تعالَى وجعلتمُوهم شركاءَ اللهِ في العبادةِ؛ هل لَهم قدرةٌ على الْخَلْقِ والأمرِ، وهل يرزُقون ويخلُقون؟ وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ كَلاَّ ﴾ كلمة رَدْعٍ وزَجْرٍ؛ أي ارتَدِعُوا عن مقالَتِكم وانْزَجِرُوا؛ فإنَّكم لا تَقدِرُونَ أن تجعَلُوا للهِ شُركاءَ.
﴿ بَلْ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحْكِيمُ ﴾؛ أي المنيعُ الغالِبُ لكلِّ شيءٍ، الْحَكِيْمُ في تدبيرهِ لخلقِه، فأنَّى يكونُ له شريكٌ في مُلْكِهِ. وَقِيْلَ: معناهُ: قل أرُونِي الذين ألحقتُموهم باللهِ في العبادة شُركاءَ هل يَرزُقونَ ويَخلُقون؟ كَلاَّ؛ لا يرزُقون ولا يخلُقون، بل الذي يخلُقُ ويرزقُ هو اللهُ العزيز في مُلكهِ، الحكيمُ في أمرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾؛ أي ما أرسلنَاكَ يا مُحَمَّدُ إلاّ للناس كافَّة أي كلَّهم، أحمَرِهم وأسوَدِهم. وَقِيْلَ: معناهُ: إلاَّ مَانِعاً للناسِ من الكُفرِ والضَّلالِ، والكفُّ على هذا هو المنعُ. وأُدخِلَتِ الهاءُ ها هُنا للمبالغةِ كالرِّوايةِ والعلامةِ، (بَشِيراً) بالخيرِ لِمَن أطاعَ الله، (وَنَذِيراً) أي ومُخَوِّفاً بالنار لِمَن كَفَرَ باللهِ.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ يعني كُفَّارَ مكَّة لا يتدبَّرُون القُرْآنَ، فلو تدَبُّرُوا لعَلِمُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ ﴾؛ أي يقولُ الكفَّارُ: مَتَى هَذا الْوَعْدُ الذي تُخوِّفُونا به مِن البعثِ والعذاب.
﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾؛ فِي مَقالَتِكم.
﴿ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ ﴾؛ أي قُل لِبَعثِكُم وعَذابكم ميقاتُ يَوْمٍ لا يؤخَّرُ عن وقتِ الوَعْدِ ولا يُقَدَّمُ وهو يومُ القيامةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾؛ أي قالَ الكفَّارُ: لن نؤمِنَ بصِدْقِ هذا القُرْآنِ ولا بالَّذي بينَ يديهِ من أمرِ الآخرةِ، والنشأةُ الثانية. وَقِيْلَ: معنَى ﴿ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ يعنُونَ التَّوراةَ والإنجيلَ، وذلك: أنَّهُ لَمَّا قالَ مؤمِنُوا أهلِ الكتاب: إنَّ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في كِتَابنا وهو نبيٌّ مبعوثٌ، كَفَرَ أهلُ مكَّةَ بكِتَابهم. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ ﴾؛ أي ولو ترَى يا مُحَمَّدُ مُشرِكي مكَّة مَحبُوسُونَ في الْمَحْشَرِ للحِسَاب يومَ القيامةِ، يتجَاوَبونَ فيما بينِهم يرُدُّ بعضُهم على بعضٍ القولَ في الجدالِ، ويحمِلُ كلُّ واحدٍ منهُم الذنبَ على صاحبهِ، فيقولُ الأتبَاعُ لرُؤسَائِهم: ﴿ لَوْلاَ أَنتُمْ ﴾؛ ودعَاؤُكم إيَّانا إلى الكُفرِ.
﴿ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾؛ كغِيرِنا، بل أنتُم منعتُمونا وصدَدتُمونا عنِ الإيْمانِ. فأجَابَهم رؤسَاؤُهم على وجهِ الإنكار: ﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوۤاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ ﴾ باختياركم الكُفرَ على الإيْمانِ. فقالَ الأتباعُ للرُّؤسَاءِ: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ﴾؛ قال الأخفشُ: (اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لاَ يَمْكُرَانِ بأَحَدٍ، وَلَكِنْ يُمْكَرُ فِيْهِمَا، وَهَذا كَقَوْلِهِ﴿ مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ ﴾[محمد: ١٣] وَهَذا مِنْ سَعَةِ الْعَرَبيَّةِ). والمعنى: بل مَكْرُكم بنَا في الليلِ والنهار إذ تأمُرونَنا، وكذلك يقالُ: فلانٌ نَهارُ صائمٍ وليلهُ قائمُ، وقال الشَّاعرُ: (مَا لَيْلُ الْمِطَي بنَائِمِ). ومثلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ ﴾[محمد: ٢١].
وَقِيْلَ: مكرُ اللَّيلِ والنهار بهم طولُ السَّلامةِ فيهما، كقولهِ﴿ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾[الحديد: ١٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ ﴾؛ أي أضْمَرُوها في أنفسِهم؛ لأن موضعَ النَّدامَةِ القلبُ. وَقِيْلَ: أظهَرُوها فيما بينهم، أقبلَ بعضُهم يَلُومُ بَعْضاً، ويعرضُ بعضُهم بعضاً الندامةَ، وهذا مِن ألفاظِ الأضدَادِ، يقالُ: أسَرَّ إذا كَتَمَ، وأسَرَّ إذا أظهَرَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾؛ أي غُلَّتْ أيْمَانُهم إلى أعناقِهم.
﴿ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾؛ من الشِّركِ في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ ﴾؛ أي ما أرسَلنَا في أهلِ قريَةٍ مِن رسولٍ إلاَّ قال رؤَساؤُها وأعيَانُها وأُولُو النِّعمَةِ فيها: ﴿ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ ﴾؛ مِن الإيْمانِ والتَّوحيدِ.
﴿ كَافِرُونَ * وَقَالُواْ ﴾؛ للرُّسُلِ: ﴿ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً ﴾؛ فكما فُضِّلْنَا عليكم في الدُّنيا لن نُعَذبَ بذُنوبنا في الآخرةِ! افتخَرَ مُشرِكُوا مكَّة على رسولِ الله والمؤمنينَ بأموَالِهم وأولادِهم، وظَنُّوا أنَّ اللهَ إنَّما خوَّلَهم المالَ والولدَ كرامةً لَهم عندَهُ، فقالوا ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾؛ أي إنَّ اللهَ أحسَنَ إليْنا بالمالِ والولدِ فلا يعذِّبُنا!فقَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبيِّهِ عليه السلام: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾؛ يعني أنَّ بَسْطَ الرزقِ وتضييقهِ مِن الله تعالى بفعلهِ إبتلاءً وامتحاناً، ولا يدلُّ البسطُ على رضَا اللهِ تعالى، ولا التضييقُ على سَخَطِهِ.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ يعني أهلَ مكَّة لا يعلمونَ حين ظَنُّوا أنَّ أموالَهم وأولادَهم دليلٌ على كرامةِ اللهِ لَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ ﴾؛ أي ليست كَثْرَةُ أموَالِكم ولا أولادِكم بِـ الخصلَةِ ﴿ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ ﴾؛ أي بالتي تُقرِّبُكم إلى الثواب والكرامة قُرْبَةً. وَقِيْلَ: معناهُ: بالَّتي تقرِّبُكم عندَنا قُربَى. قال الأخفشُ: (زُلْفَى: اسْمُ الْمَصْدَر؛ كَأَنَّهُ أرَادَ: بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا تَقْرِيْباً). ﴿ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾؛ بصرفِ المال في وجُوهِ الخيرِ، وبصرفِ الأولاد في طاعةِ الله تعالى. وَقِيْلَ: معناهُ: إلاَّ مَن آمَنَ وعَمِلَ صَالحاً فإنَّ إيْمَانَهُ وعملَهُ يقرِّبُه منِّي. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ ﴾؛ أي لَهم الجزاءُ الْمُضَاعَفُ على حسَنَاتِهم بالحسَنةِ الواحدةِ عشراً.
﴿ وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ ﴾؛ الجنَّة.
﴿ آمِنُونَ ﴾؛ مِن كلِّ آفَةٍ ومَكروهٍ. والغُرْفَةُ: هي البيوتُ فوقَ الأبنية. قرأ حمزةُ (وَهُمْ فِي الْغُرْفَةِ) على الواحدةِ، لقوله﴿ أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ ﴾[الفرقان: ٧٥]، وقرأ الباقون (فِي الْغُرُفَاتِ) على الجمعِ، لقوله﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً ﴾[العنكبوت: ٥٨]، وقرأ يعقوبُ (فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءًَ) بالنصب مُنَوَّناً (الضِّعْفُ) بالرفع تقديرهُ: فأولئكَ لَهم الضعفُ جَزاءً على التقديرِ والتأخيرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾؛ أي يَسْعَوْنَ في دَلائلِ التوحيدِ والنبوَّة مُعَانِدِيْنَ، يحسَبُون أنَّهم يَفُوتُونَنَا ويُعجِزُوننا.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾؛ أي مَحبُوسُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ﴾؛ قد تقدَّم تفسيرهُ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾؛ أي ما أنفَقتُم من مالٍ في غير إسْرافٍ ولا تَقتِيرٍ فهو يُخلِفُهُ في الدُّنيا بالعِوَضِ، وفي الآخرةِ بالحسَناتِ والدَّرجَاتِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ لكم أو علَيكم، يقالُ: أخلَفَ اللهُ لَهُ وعليهِ؛ إذا أبدلَ اللهُ لَهُ ما ذهبَ عنهُ، وعن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ:" مَنْ فَقِهَ الْمُرَادَ فَقِهَ فِي مَعِيْشَتِهِ ". وقال الكلبيُّ: (مَعْنَاهُ: وَمَا أنْفَقْتُمْ فِي الْخَيْرِ وَالْبرِّ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، إمَّا أنْ يُعَجِّلَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإمَّا أنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الآخِرَةِ). وعن سعيدِ بن بشَّار قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبحُ الْعِبَادُ فِيْهِ إلاَّ وَمَلَكَانِ أحَدُهُمَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً "وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ ﴾؛ أي وهو خيرُ الْمُخْلِفِيْنَ، وإنَّما خَيْرُ الرَّازِقينَ لأنه قَدْ يُقالُ: رزَقَ السُّلطانُ الْجُنْدَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ﴾؛ يعني المشرِكين.
﴿ ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾؛ هذا استفهامُ تَوبيخٍ للعَابدين كقوله تعالَى لعيسَى:﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾[المائدة: ١١٦].
فنَزَّهَتِ الملائكةُ ربَّهُم عن الشِّرك و ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ ﴾؛ تَنْزِيْهاً لكَ مما أضَافُوا إليكَ مِن الشُّركاء.
﴿ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ ﴾؛ أي ما اتَّخذنَاهم عَابدين، ولا تولَّينَاهم ولسْنَا نريدُ غيرَكَ وَلِيّاً، وأنتَ العالِمُ بأمورنا وافتِرَائِهم علينا، كنَّا نُوالِيكَ ولا نُوالِيهم.
﴿ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴾، أي أطَاعُوا الشيَّاطينَ في عِبادَتِهم إيَّانا؛ لأن الشياطينَ كانت دعوتُهم إلى ذلكَ، فكان أكثرُهم بالشَّياطين مؤمنينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱلْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً ﴾؛ أي يقالُ لَهم: اليومُ لا يَقْدِرُ بعضُكم لبعضٍ جَرَّ نفعٍ ولا دَفْعَ ضُرٍّ.
﴿ وَنَقُولُ ﴾، خَزَنَهُ النار بأمرِ الله.
﴿ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ﴾؛ معناهُ: إذا يُقْرَأُ على أهلِ مكَّة آياتِنا وهي القُرْآنُ واضحات الْحُجَجِ.
﴿ قَالُواْ مَا هَـٰذَا ﴾؛ يعنون مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ﴿ إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى ﴾، وقالُوا: ما هَذا الذي أتَانا به إلاّ كذبٌ مُفتَرَى؟ يعنُونَ القُرْآنَ.
﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ ﴾؛ وهو القُرْآنُ: مَا هَذا القُرْآنُ؟ ﴿ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ ﴾؛ أي ما آتَينا أهلَ مكَّة مِن كُتُبٍ يقرَؤُنَها. والمعنى: مِن أين كذبُوكَ، ولَم يأتِهم كتابٌ ولا نذير بهذا الذي فعلوهُ، وما أرسلنا إليهم قَبْلَكَ يا مُحَمَّد مِن رسولٍ. ثُم خوَّفَهم وأخبرَ عن عاقبةِ مَن كذبَ قبلَهم فقال: ﴿ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ ﴾؛ يعني أمم كافرة.
﴿ وَمَا بَلَغُواْ ﴾؛ يعني أهلَ مكَّة.
﴿ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ ﴾؛ أي ما بَلَغَ هؤلاءِ الذين أُرسِلْتَ إليهم عُشْرَ ما أُوتِيَ الأممُ قبلَهم من القوَّة والعُدَّة.
﴿ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾؛ فَانْظُرْ كيفَ كان إنْكَاري عليهم وتَعذِيبي لَهم، ألَيسُوا مُهلَكِين بالعذاب إذ لَم يُؤمِنُوا به مِعْشَارَ. والعُشْرُ والعَشِيرُ جزءٌ من عشرةٍ. قال ابنُ عبَّاس: (الْمَعْنَى: وَمَا بَلَغَ قَوْمُكَ مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ وَطُولِ الْعُمُرِ فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ﴾؛ أي آمُرُكم وأُوصِيكُم بخِصْلَةٍ واحدةٍ، وهي: ﴿ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ﴾؛ أي تقُومُوا للهِ اثنَين اثنَين وواحداً واحداً.
﴿ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ ﴾، فيُناظِرُوا ويذكِّرُوا في أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، هَل تَرَوْنَ في فعلهِ وقَولهِ ودُعائهِ إلى توحيدِ الله ما يكونُ مِن كلامِ الْمَجانِين وأفعَالِهم، وهُو كَلامُ عالِمٍ حازمٍ؟ قال مقاتلُ: (وَالْمَعْنَى: ألاَ يَتَفَكَّرُ مِنْكُمْ وَاحِدٌ وَمَعَ صَاحِبهِ يَنْظُرُوا أنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ دَلِيْلٌ عَلَى أنَّ خَالِقَهَا وَاحِدٌ لاَ شَرِيْكَ لَهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ ﴾؛ وذلكَ أنَّ المشركينَ قالُوا: إنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ساحرٌ مجنونٌ! فقال اللهُ تعالى: ﴿ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ ﴾ وما صَاحِبُكم بمجنُونٍ، فعلَى هذا المعنى يكونُ قولهُ ﴿ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ ﴾ ابتداءُ كلامٍ مِن اللهِ تعالى، ويجوزُ أن يكونَ المعنى: ثُم تتفكَّرُوا فتعلَمُوا بُطلاَن قولِكم في نِسْبَتِهِ إلى الجنونِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ ﴾؛ أي ما هُو إلاَّ رسولٌ مُخَوِّفٌ.
﴿ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾؛ أي بينَ يدَي القيامةِ لكي تُخَلِّصُوا أنفُسَكم من عذاب اللهِ بالتَّلافِي والتَّوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ﴾؛ معناهُ: قُل لَهم يا مُحَمَّد: ما سألْتُكم على تبليغِ الرِّسالة أجْراً فتتَّهمُونِي، وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ فَهُوَ لَكُمْ ﴾ هذا الرجلُ يقول لغيرهِ: ما أعطَيتَنِي فخُذْهُ، يريدُ بذلك لَم يُعْطِهِ شيئاً، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ ﴾؛ أي ما ثَوابي إلاَّ على اللهِ.
﴿ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾؛ مِن أعمالِ العِبَادِ ﴿ شَهِيدٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ ﴾؛ القَذْفُ: هو الرَّمْيُ بألْسِنَتِهم والحصَى والكلامِ، قال الكلبيُّ: (فَمَعْنَى الآيَةِ: قُلْ إنَّهُ يَأْتِي بالْحَقِّ؛ أيْ يَتَكَلَّمُ بالْوَحْيِ وَهُوَ الْقُرْآنُ يُلْقِيْهِ إلَى نَبيِّهِ عليه السلام). والمعنَى: قُل إنَّ رَبي يُنْزِلُ الوحيَ مِن السَّماء فَيَقْذِفُهُ ويُلقيهِ إلى الأنبياءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ ﴾ ظاهرُ المعنَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ ﴾؛ يعني الإيْمَانَ والقُرْآنَ؛ أي ظَهَرَ الإسلامُ والقُرْآنُ.
﴿ وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾؛ معناهُ: ذهبَ الباطلُ وزَهِقَ، فلم يَبْقَ له بَقِيَّةٌ يُبدِئُ بها ولا يعيدُ. قال الحسنُ: (الْبَاطِلُ: كُلُّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ، فَإنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ لاَ يُبْدِئُ لأَهْلِهِ خَيْراً فِي الدُّنْيَا، وَلاَ يُعِيْدُ بخَيْرِهِ فِي الآخِرَةِ). فقال قتادةُ: (الْبَاطِلُ إبْلِيْسُ؛ أيْ مَا يَخْلُقُ إبْلِيْسُ أَحَداً وَلاَ يَبْعَثُهُ). ويجوزُ أن يكون هذا اسْتِفْهَاماً، كأنَّهُ قالَ: وأيُّ شيءٍ يُبدِئُ الباطلُ؟ وأيُّ شيء يعيدهُ؟ وعنِ ابنِ مسعودٍِ قال:" دَخَلَ رَسُُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسُتُّونَ صَنَماً، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بعُودٍ مَعَهُ وَيَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيْدُ "أيْ ذهبَ الباطلُ بحيثُ لا يبقَى له بقيَّة، لا إقبالٌ ولا إدبارٌ ولا إبداءٌ ولا إعادة كما قَالَ تَعَالَى﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ ﴾[الأنبياء: ١٨].
ويقالُ: فلانٌ ظهرَتْ عليه الحجَّة، فما يُبدِئُ وما يعيدُ، ومَا يحل وما يَمرُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي ﴾؛ وذلك أنَّ كفارَ مكَّة قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: لقد ضَلَلْتَ حين تركتَ دِين آبائِكَ! فَقَالَ اللهُ تَعَالَى ﴿ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي ﴾ أي ضَرَرُ ذلكَ راجعٌ إلى نفسِي.
﴿ وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ ﴾؛ إلى الحقِّ.
﴿ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ﴾؛ من القُرْآنِ والبَيانِ.
﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ ﴾؛ لكلِّ ما يقولهُ الْخَلْقُ من حقٍّ وباطلٍ.
﴿ قَرِيبٌ ﴾؛ مِنِّي، لا تخفَى عليه خافيةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ﴾؛ ولو ترَى يا مُحَمَّدُ الكفَّار، يعنِي عندَ البعثِ، فلا يُمكِنُهم الغَوْثُ ولا الْهَرَبُ مِن ما هو نازلٌ بهم، لرأيتَ ما يُعْتَبَرُ به غايةَ الاعتبار. ومعنى الآيةِ: ﴿ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ ﴾ عند البعثِ فلا يَفُوتُونَنِي؛ أي لاَ يَفُوتُنِي أحدٌ ولا ينجُوا منِّي ظالِمٌ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾؛ يعنِي من القُبُور حيثُ كانوا، فَهُمْ مِن اللهِ قريبٌ لا يبعُدونَ عنه ولا يَفُوتُونَهُ. تعني هذه الآيةِ؛ قال بعضُهم: أرادَ بقولهِ ﴿ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ﴾ مما أصَابَهم يومَ بدرٍ عند القتالِ. وقال بعضُهم: أرادَ به يومَ القيامةِ إذ فَزِعُوا مِن مُشاهدَةِ عذاب جهنَّم، وعلِمُوا أنَّهم لا يفُوتُونَ للهَ، وأُخِذُوا بالعذاب مِن مكانٍ قريبٍ إلى جهنَّم فقُذِفُوا فيها.﴿ وَقَالُوۤاْ ﴾، عندَ رُؤيَةِ العذاب: ﴿ آمَنَّا بِهِ ﴾، أي آمَنَّا باللهِ تعالَى وبرسُولهِ، يقولُ اللهُ تعالى: ﴿ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾؛ أي أينَ لَهم تَنَاوُلُ ما أرادُوا بُلُوغَهُ مِن مكانٍ بعيد، يعني مِن الآخرةِ وقد تركوهُ في الدُّنيا؟ يعني أنَّهم قد تَعَذرَ عليهم تناولُ الإيْمانِ كما يتعذرُ على الإنسانِ تناوُلُ النُّجومِ. والتَّنَاوُشُ هو التَّنَاوُلُ، نِشْتُهُ أنُوشُهُ نَوْشاً، إذا تَنَاوَلَهُ، كأنَّهُ قالَ: وأنَّى لَهُمُ التوبةُ. وَقِيْلَ: ما يتَمَنَّوْنَ. قال ابنُ عبَّاس: (يَتَمَنَّوْنَ الرَّدَّ حِيْنَ لاَ رَدَّ). قرأ أبُو عمرٍو والأعمشُ وحمزة والكسائيُّ وخلف: (التَّنَاؤُشُ) بالمدِّ والهمزةِ، وهو الإبطاءُ والبُعْدُ؛ أي مِن أينَ لَهم أن يتحرَّكُوا فيما لا حيلةَ لَهم فيهِ. يقالُ: أنَشْتُ الشَّيءَ؛ إذا أخذتهُ مِن بعيدٍ، والنَّيْشُ: الشيءُ البطيءُ. وقرأ الباقونَ بغيرِ همزةٍ من التَّناوُلِ، يقالُ: نِشْتُهُ إذا تناوَلتهُ، وَتَنَاوَشَ القومُ في الحرب إذا تدَانَوا وتناولَ بعضُهم بعضاً. واختارَ أبو عُبيد تركَ الهمزِ؛ لأنه قالَ: (مَعْنَاهُ مِنَ التَّنَاوُلِ، فَإذا هُمِزَ كَانَ مَعْنَاهُ الْبُعْدُ فكيف يقول: ﴿ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ﴾ البُعْدُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيْدٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ يعني أنَّهم يريدونَ أنْ يتناوَلُوا التوبةَ، وقد صَارُوا في الآخرةِ، وإنَّما تُقْبَلُ التوبةُ " في الدنيا " وقد ذهبَتِ الدُّنيا فصارت بعيداً مِن الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ ﴾؛ أي كانوا كَافِرينَ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقُرْآنِ في الدُّنيا قبلَ ما عايَنُوا مِن العذاب وأهوالِ القيامةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾؛ أي يَنْسِبُونَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم إلى السِّحرِ والجنونِ والكَهَانَةِ رَجْماً منهم بالغَيْب والقذفِ. والرَّجْمُ بالغَيْب: أن يَلْفِظَ الإنسانُ شَيئاً لاَ يَتَحَقَّقُ، ومنه سُمِّي الرميُ بالفاحشةِ قَذْفاً. ومعنى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ بِٱلْغَيْبِ ﴾ أنْ يقذِفُون مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم بالظَّنِّ لا باليقينِ، والغيبُ على هذا الظَّنُّ، وهو ما غَابَ عِلمُه عنهم. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ يعني بُعْدَهم عن الحقِّ. وقال قتادةُ: (مَعْنَى ﴿ وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ ﴾ يَقُولُونَ: لاَ بَعْثَ وَلاَ جَنَّةَ وَلاَ نَارَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾: أي حِيْلَ بين هؤلاءِ الكفَّار وبين الرَّجعةِ إلى الدُّنيا، وقال الحسنُ: (مَعْنَاهُ: حِيْلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الإيْمَانِ وَالتَّوْبَةِ).
﴿ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم ﴾؛ أي كما فُعِلَ بنُظَرَائِهم أو أشيَاعِهم، ومَن كان على مِثْلِ حالِهم من الكفَّار.
﴿ مِّن قَبْلُ ﴾، أي قَبْلَ هؤلاءِ.
﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ ﴾؛ مِن البعثِ ونُزولِ العذاب بهم.
﴿ مَّرِيبٍ ﴾، أي ظاهرِ الشَّكِّ. وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" مَنْ قَرَأ سُورَةَ سَبَأ لَمْ يَبْقَ رَسُولٌ وَلاَ نَبيٌّ إلاَّ كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَفِيْقَاً وَمُصَافِحاً ".