تفسير سورة الحجرات

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه ابن عثيمين . المتوفي سنة 1421 هـ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد.
فإننا نبدأ بتفسير سور المفصل التي تبتدىء من سورة ( ق ) عند بعض العلماء، أو من سورة الحجرات عند آخرين.
وسنتكلم على سورة الحجرات لما فيها من الآداب العظيمة النافعة التي ابتدأها الله بقوله تبارك وتعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله

﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ﴾. اعلم أن الله تعالى إذا ابتدأ الخطاب بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ﴾ فإنه كما قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : إما خير تُؤمر به، وإما شر تنهى عنه، فأرعه سمعك، واستمع إليه لما فيه من الخير، وإذا صدَّر الله الخطاب ب﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ﴾ دل ذلك على أن التزام ما خوطب به من مقتضيات الإيمان، وأن مخالفته نقص في الإيمان، يقول الله عز وجل :﴿ لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ﴾ قيل : معنى ﴿ لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ﴾ أي : لا تتقدموا بين يدي الله ورسوله، والمراد : لا تسبقوا الله ورسوله بقولٍ أو بفعل. وقيل : المعنى لا تقدموا شيئاً بين يدي الله ورسوله. وكلاهما يصبان في مصب واحد، والمعنى : لا تسبقوا الله ورسوله بقولٍ ولا فعلٍ، وقد وقع لذلك أمثلة، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :«لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين » لأن الذي يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين كأنه تقدم بين يدي الله ورسوله، فبدأ بالصوم قبل أن يحين وقته، ولهذا قال عمار بن ياسر رضي الله عنهما :«من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ». ومن التقدُّم بين يدي الله ورسوله البدع بجميع أنواعها، فإنها تقدم بين يدي الله ورسوله ؛ بل هي أشد التقدم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور ». وأخبر بأن «كل بدعة ضلالة ». وصدق - عليه الصلاة والسلام - فإن حقيقة حال المبتدع أنه يستدرك على الله ورسوله ما فات، مما يدعي أنه شرع، كأنه يقول : إن الشريعة لم تكمل، وأنه كملها بما أتى به من البدعة، وهذا معارض تماماً لقوله تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ﴾. فيقال لهذا الرجل الذي ابتدع : أهذا الذي فعلته كمال في الدين ؟ إن قال : نعم، فإن قوله هذا يتضمن أو يستلزم تكذيب قوله تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ﴾، وإن قال : ليس كمالاً في الدين، قلنا : إذن هو نقص ؛ لأن الله يقول :﴿ فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ﴾ فالبدعة كما أنها ضلالة في نفسها فهي في الحقيقة تتضمن الطعن في دين الله، وأنه ناقص، وأن هذا المبتدع كمله بما ادعى أنه من شريعة الله - عز وجل - فالمبتدعون كلهم تقدموا بين يدي الله ورسوله، ولم يبالوا بهذا النهي حتى وإن حسن قصدهم ؛ فإن فعلهم ضلالة، وقد يُثاب على حسن قصده، ولكنه يؤزر على سوء فعله، ولهذا يجب على كل مبتدع علم أنه على بدعة أن يتوب منها، ويرجع إلى الله - عز وجل - ويلتزم سنة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، والبدعة أنواع كثيرة : بدع في العقيدة، وبدع في الأقوال، وبدع في الأفعال.
أما البدع في العقيدة، فإنها تدور على شيئين :
إما تمثيل، وإما تعطيل. فالتمثيل أن يثبت لله تعالى الصفات، لكن على وجه المماثلة، فإن هذا بدعة ؛ لأنه لم يكن من طريق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخلفائه الراشدين، فيكون بدعة، فمثلاً يثبت أن لله وجهاً ويجعله مماثلاً لأوجه المخلوقين، أو أن لله يداً ويجعلها مماثلة لأيدي المخلوقين، وهلم جرا، فهؤلاء مبتدعة بلا شك، وبدعتهم تكذيب لقوله تعالى :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ ولقوله :﴿ ولم يكن له كفواً أحد ﴾. ولقوله تعالى :﴿ هل تعلم له سمياً ﴾.
أما التعطيل فهو أن ينكر ما وصف الله تعالى به نفسه، فإن كان إنكار جحد وتكذيب، فهو كفر، وإن كان إنكار تأويل فهو تحريف وليس بكفر إذا كان اللفظ يحتمله، فإن كان لا يحتمله فلا فرق بينه وبين إنكار التكذيب، فمثلاً إذا قال إنسان : إن الله سبحانه وتعالى قال :﴿ بل يداه مبسوطتان ﴾ والمراد باليدين النعمة نعمة الدين ونعمة الدنيا، أو نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، فهذا تحريف ؛ لأن النعمة ليست واحدة، ولا ألف ولا ملايين، ﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾ فليست النعمة اثنتين لا بالجنس ولا بالنوع، فيكون هذا تحريفاً وبدعة، لأنه على خلاف ما تلقاه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه، والأئمة الهداة من بعدهم.
أما البدعة في الأقوال : فمثل أولئك الذين يبتدعون تسبيحات أو تهليلات أو تكبيرات، لم ترد بها السنة، أو يبتدعون أدعية لم ترد بها السنة، وليست من الأدعية المباحة.
وأما بدع الأفعال : فمثل الذين يصفقون عند الذكر، أو يهزون رؤوسهم عند التلاوة تعبداً، أو ما أشبه ذلك من أنواع البدع، وكذلك الذين يتمسحون بالكعبة في غير الحجر الأسود والركن اليماني، وكذلك الذين يتمسَّحون بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، حجرة قبره الشريف، وكذلك الذين يتمسَّحون بالمنبر الذي يقال إنه منبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي، وكذلك الذين يتمسحون بجدران مقبرة البقيع أو بغير ذلك.
والبدع كثيرة : العقدية والقولية والفعلية، وكلها من التقدم بين يدي الله ورسوله، وكلها معصية لله ورسوله، فإن الله يقول :﴿ لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ﴾ والنبي - عليه الصلاة والسلام - يقول :«إياكم ومحدثات الأمور ».
ومن البدع ما يُصنع في رجب، كصلاة الرغائب التي تُصلَّى ليلة أول جمعة من شهر رجب، وهي صلاة ألف ركعة يتعبدون لله بذلك، وهذا بدعة لا تزيدهم من الله إلا بعداً ؛ لأن كل من تقرَّب إلى الله بما لم يشرعه فإنه مبتدع ظالم، لا يقبل الله منه تعبده، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ». ومن التقدم بين يدي الله تعالى ورسوله أن يقول الإنسان قولاً يُحكم به بين عباد الله أو في عباد الله، وليس من شريعة الله، مثل أن يقول : هذا حرام، أو هذا حلال، أو هذا واجب، أو هذا مستحب بدون دليل، فإن هذا من التقدم بين يدي الله ورسوله، وعلى من قال قولاً وتبين له أنه أخطأ فيه أن يرجع إلى الحق حتى لو شاع القول بين الناس وانتشر وعَمِلَ به مَن عمل من الناس، فالواجب عليه أن يرجع وأن يُعلن رجوعه أيضاً، كما أعلن مخالفته التي قد يكون معذوراً فيها إذا كانت صادرة عن اجتهاد، فالواجب الرجوع إلى الحق، فإن تمادى الإنسان في مخالفة الحق فقد تقدم بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
﴿ واتقوا الله ﴾ هذا تعميم بعد تخصيص ؛ لأن التقدم بين يدي الله ورسوله مخالف للتقوى، لكن نص عليه وقدمه لأهميته، ومعنى ﴿ واتقوا الله ﴾ أي اتخذوا وقاية من عذاب الله - عز وجل - وهذا لا يتحقق إلا إذا قام الإنسان بفعل الأوامر وترك النواهي، بفعل الأوامر تقرُّباً إلى الله تعالى، ومحبة لثوابه، وترك النواهي خوفاً من عذاب الله - عز وجل -، ومن الناس من إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، وتصاعد في نفسه وعز في نفسه، وأوغل في الإثم، وانتفخت أوداجه، وقال : أمثلي يُقال له : اتق الله ! وما علم المسكين أن الله خاطب من هو أشرف منه ومن هو أتقى عباد الله لله، فأمره بالتقوى، قال الله تبارك وتعالى :﴿ يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليماً حكيماً ﴾. وقال الله تعالى :﴿ واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ﴾. ومن الذي لا يستحق أن يُؤمر بتقوى الله ؟ فكل واحد منَّا يستحق أن يؤمر بتقوى الله - عز وجل - والواجب أنه إذا قيل له : اتق الله. أن يزداد خوفاً من الله، وأن يراجع نفسه، وأن ينظر ماذا أمر به، إنه لم يؤمر أن يتقي فلاناً وفلاناً، إنما أمر أن يتقي الله عز وجل، وإذا فسرنا التقوى بأنها اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، تقرباً إليه ومحبة لثوابه، وترك نواهيه خوفاً من عقابه، فإن أي إنسان يترك واجباً فإنه لم يتق الله، وقد نقص من تقواه بقدر ما حصل منه من المخالفة، فالتقوى مخالفتها تختلف، فقد تكون مخالفتها كفراًًً وقد تكون دون ذلك، فترك الصلاة مثلاً ترتفع به التقوى نهائياً ؛ لأن تارك الصلاة كافر، كما دلَّ على ذلك كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، حتى إن بعض العلماء حكى إجماع الصحابة على أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة، ومنهم التابعي المشهور عبدالله بن شقيق - رحمه الله - حيث قال :( كان أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ). وكذلك نقل إجماعهم إسحاق بن راهويه، ولم يصح عن أي صحابي أنه قال عن تارك الصلاة : إن تارك الصلاة في الجنة، أو إنه مؤمن، أو ما أشبه ذلك، والزاني لم يتق الله ؛ لأنه زنا فخالف أمر الله وعصاه، والسارق لم يتق الله، وشارب الخمر لم يتق الله، والعاق لوالديه لم يتق الله، والقاطع لرحمه لم يتق الله، والأمثلة على هذا كثيرة، فقوله تعالى :﴿ واتقوا الله ﴾ كلمة عامة شاملة تشمل كل الشريعة ﴿ إن الله سميع عليم ﴾ هذه الجملة تحذير لنا أن نقع فيما نهانا عنه من التقدُّم بين يدي الله ورسوله، أو أن نخالف ما أمر به من تقواه ﴿ سميع ﴾ أي سميع لما تقولون ﴿ عليم ﴾ أي عليم بما تقولون وما تفعلون ؛ لأن العلم أشمل وأعم، إذ إن السمع يتعلق بالمسموعات، والعلم يتعلق بالمعلومات، والله تعالى محيط بكل شيء علماً، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يقول العلماء - رحمهم الله - : إن السمع الذي اتصف به ربنا - عز وجل - ينقسم إلى قسمين : سمع إدراك وسمع إجابة، فسمع الإدراك معناه أن الله يسمع كل صوت خفي أو ظهر، حتى إنه - عز وجل - يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قد سمع الله قول التى تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير ﴾. قالت عائشة - رضي الله عنها - :( الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد كنت في الحجرة - أي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم - والمرأة تجادله وهو يحاورها وإنه ليخفى عليَّ بعض حديثها ). والله - عز وجل - أخبر بأنه سمع كل ما جرى بين هذه المرأة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا سمع إدراك، ثم إن سمع الإدراك قد يُراد به بيان الإحاطة والشمول، وقد يراد به التهديد، وقد يُراد به التأييد، فهذه ثلاثة أنواع.
الأول : يراد به بيان الإحاطة والشمول مثل هذه الآية.
الثاني : يُراد به التهديد مثل قوله تعالى :﴿ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأَنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ﴾. وانظر كيف قال :﴿ سنكتب ما قالوا ﴾ حين وصفوا الله تعالى بالنقص، قبل أن يقول :﴿ وقتلهم الأَنبياء ﴾ مما يدلّ على أن وصف الله بالنقص أعظم من قتل الأنبي
أما الأدب الثاني ففي قوله تعالى :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ﴾، الآية الأولى فيها النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله في أي شيء، سواء من الأقوال أو الأفعال أو غيرها، أما هذه الآية فهي في رفع الصوت وإن لم يكن هناك تقدم في الأحكام من تحليل أو تحريم أو إيجاب، يقول الله - عز وجل - :﴿ لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي ﴾ فإذا خاطبك النبي صلى الله عليه وسلم بصوت فاخفض صوتك عن صوته، وإذا رفع صوته فارفع صوتك لكن لابد أن يكون دون صوت الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولهذا قال :﴿ لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي ﴾.
﴿ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ﴾ يعني لا تنادونه بصوت مرتفع، كما ينادي بعضكم بعضاً، بل يكون جهراً بأدب وتشريف وتعظيم، يليق به صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا كقوله :﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ﴾. يعني إذا دعاكم لشيء فلا تجعلوا دعاءه كدعاء بعضكم لبعض، إن شئتم أجبتم وإن شئتم فلا تجيبوا، بل يجب عليكم الإجابة، كما قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾ وهنا قال :﴿ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون بعضكم لبعض ﴾ كذلك أيضاً لا تنادونه بما تتنادون به، فلا تقولون : يا محمد، ولكن قولوا : يا رسول الله، يا نبي الله، وما أشبه ذلك. ﴿ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ﴾ يعني كراهة أن تحبط أعمالكم، والمعنى إنما نهيناكم عن رفع الصوت فوق صوته، وعن الجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض كراهة أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون، ففي هذا دليل على أن الذي يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، أو يجهر له بالقول كجهره لبعض الناس، قد يحبط عمله من حيث لا يشعر ؛ لأن هذا قد يجعل في قلب المرء استهانة بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والاستهانة بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ردَّة عن الإسلام توجب حبوط العمل، ولما نزلت هذه الآية كان ثابت بن قيس بن شماس - رضي الله عنه - جهوري الصوت، وكان من خطباء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلما نزلت هذه الآية تغيَّب في بيته وصار لا يحضر مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فافتقده الرسول صلى الله عليه وسلم وسأل عنه فأخبروه أنه في بيته منذ نزلت الآية، فأرسل إليه رسولاً يسأله، فقال : إن الله تعالى يقول :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ﴾.
وإنه قد حبط عمله، وإنه من أهل النار، فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فحضر، وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، وقال :«أما ترضى أن تعيش حميداً، وتُقتل شهيداً، وتدخل الجنة ؟ » قال : بلى رضيت، فقُتل - رضي الله عنه - شهيداً في وقعة اليمامة، وعاش حميداً، وسيدخل الجنة بشهادة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولذلك كان ثابت - رضي الله عنه - ممن يُشهد له بأنه من أهل الجنة بعينه ؛ لأن كل إنسان يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه في الجنة فهو في الجنة، وكل إنسان يشهد له بأنه في النار فهو في النار، وأما من لم يشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم فنشهد له بالعموم، فنقول : كل مؤمن في الجنة، وكل كافر في النار، ولا نشهد لشخص معين بأنه من أهل النار، أو من أهل الجنة إلا من شهد له الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ففي هذه الآية الكريمة بيان تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يجوز للإنسان أن يجهر له بالقول كجهره لسائر الناس، وأنه لا يجوز له أن يرفع صوته على صوت الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولما نزلت هذه الآية تأدَّب الصحابة - رضي الله عنهم - بذلك حتى كان بعضهم يكلمه مسارَّة ولا يفهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقول من إسراره، حتى يستثبته مرة أخرى، وفي هذه الآية دليل على أن كل من استهان بأمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - فإن عمله حابط ؛ لأن الاستهانة بالرسول - عليه الصلاة والسلام - ردَّة، والاستهزاء به ردَّة كما قال الله تعالى في المنافقين الذين كانوا يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ﴾ وكانوا يقولون : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء - يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه - أرغب بطوناً - يعني أوسع - ولا أجبن عند اللقاء، ولا أكذب ألسناً، فأنزل الله هذه الآية، ولما سألهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك قالوا : إنما كنا نخوض ونلعب، يعني نتكلم بكلام لا نريده، ولكن لنقطع به عنا عناء الطريق، فأنزل الله هذه الآية. ﴿ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ﴾. ولهذا كان الصحيح أن من سب الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان كافراً مرتدًّا، فإن تاب قبلنا توبته لكننا لا نرفع عنه القتل، بل نقتله أخذاً بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قتلناه بعد توبته النصوح الصادقة صلينا عليه كسائر المسلمين الذين يتوبون من الكفر أو من المعاصي.
ثم أثنى الله تعالى على الذين يغضون أصواتهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم فقال :
﴿ إن الذين يغضون أصوتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ﴾ لما نهى عن رفع الصوت فوق صوته، وعن الجهر له بالقول كجهر بعضنا لبعض، أثنى على الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله، أي يخفضونها ويتكلمون بأدب، فلا إزعاج ولا صخب، ولا رفع صوت، لكن يتكلمون بأدب وغض، قال الله تعالى :﴿ أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ﴾ أعاد الإشارة ﴿ أولئك ﴾ تعظيماً لشأنهم ورفعة لمنزلتهم، لأن ﴿ أولئك ﴾ من أسماء الإشارة الدالة على البعد، وذلك لعلو منزلتهم، فأتى باسم الإشارة بياناً لرفعة منزلتهم وعلوها.
﴿ امتحن الله قلوبهم ﴾. قال العلماء : معناها أخلصها للتقوى، فكانت قلوبهم مملوءة بتقوى الله - عز وجل - ولهذا تأدَّبوا بآداب الله تعالى التي وجه لها فغضوا أصواتهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبر عن ثوابهم :﴿ لهم مغفرة وأجر عظيم ﴾، مغفرة من الله لذنوبهم، وأجر عظيم على أعمالهم الصالحة، وفي هذه الآية إشارة إلى أن الصلاح صلاح القلب، لقوله :﴿ امتحن الله قلوبهم للتقوى ﴾. وكما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح :«التقوى هاهنا » وأشار إلى صدره الذي هو محل القلب ثلاث مرات :«التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا » ولا شك أن التقوى تقوى القلب، أما تقوى الجوارح وهي إصلاح ظاهر العمل، فهذا يقع حتى من المنافقين :﴿ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ﴾ لكن الكلام على تقوى القلب التي هي بها الصلاح، نسأل الله تعالى أن يرزقنا ذلك. وبعض الناس يفعل المعاصي كإسبال الثوب مثلاً، أو حلق اللحية، أو شرب الدخان، وتنهاه وتخوِّفه من عقاب الله، فيقول : التقوى هاهنا، كأنه يزكي نفسه، وهو قائم بمعصية الله، فنقول له بكل سهولة : لو كان ما هنا متقياً لكانت الجوارح متقية ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول :«ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ».
﴿ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ﴾. هذه الآية تشير إلى قوم أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان معهم قوم جُفاة لا يقدرون الأمور قدرها، فجعلوا ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته - أي حجرات نسائه - ويرفعون أصواتهم بذلك يريدون أن يخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليهم، يقول الله في هؤلاء :﴿ أكثرهم لا يعقلون ﴾ يعني ليس عندهم عقل، والمراد بالعقل هنا عقل الرشد ؛ لأن العقل عقلان : عقل رشد، وعقل تكليف، فأما عقل الرشد فضده السفه، وأما عقل التكليف فضده الجنون، فمثلاً : إذا قلنا : يشترط لصحة الوضوء أن يكون المتوضىء عاقلاً مميزاً، فالمراد بالعقل هنا عقل التكليف، وإذا قلنا : يشترط للتصرف في المال أن يكون المتصرف عاقلاً، أي عقل رشد، يحسن التصرف، فالمراد بقوله هنا :﴿ أكثرهم لا يعقلون ﴾ أي عقل رشد ؛ لأنهم لو كانوا لا يعقلون عقل تكليف لم يكن عليهم لوم ولا ذم، لأن المجنون فاقد العقل لا يلحقه لوم ولا ذم، وهذا واضح، وقوله :﴿ أكثرهم لا يعقلون ﴾ يفهم منه أن بعضهم يعقل وأنه لم يحصل منه رفع صوت، بل هو متأدب مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ثم قال تعالى :﴿ ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم ﴾ أي لو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم من بيتك، وتكلمهم بما يريدون لكان خيراً لهم في أنهم يلتزمون الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وحاجتهم ستقضى ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يأته أحد في حاجة إلا قضاها، إذا كان يدركها، وهو أحق الناس بقول الشاعر :
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
﴿ والله غفور رحيم ﴾ في قوله :﴿ والله غفور رحيم ﴾ إشارة إلى أن الله غفر لهم ورحمهم، وهذا من كرمه - جل وعلا - أنه يغفر ويرحم، وقد أخبر الله تعالى في كتابه أن الله لا يغفر الشرك به، ويغفر ما دون ذلك، أي سوى الشرك لمن يشاء، فكل أحد أذنب ذنباً دون الشرك مهما عظم فإنه تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ما لم يتب، فإذا تاب فلا عذاب، لقوله تعالى :﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها ءاخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ﴾. وقلنا : إن الآية تدل على أن الله غفر لهم ورحمهم ؛ لأن الله ختم الآية بقوله :﴿ والله غفور رحيم ﴾ وهذا يدل على أنه غفر لهم ورحمهم، ولذلك قال العلماء في قول الله تعالى في الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً، قال :﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأَرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأَرض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الأَخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ﴾. أخذ العلماء من هذه الآية أن هؤلاء المفسدين المحاربين لله ورسوله، إذا تابوا قبل القدرة عليهم سقط عنهم العذاب، واستدلوا بأن الله ختم الآية بقوله :﴿ فاعلموا أن الله غفور رحيم ﴾ أي قد غفر لهم فرحمهم، وهذه مسألة ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها في الآيات، إن ختم الآية بعد ذكر الحكم دليل على ما تقتضيه هذه الأسماء التي ختمت بها الآية، ولهذا قرأ رجل فقال :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم ﴾ فسمعه أعرابي عنده فقال له : أعد الآية، فأعادها وقال :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم ﴾ قال له : أعد الآية، فأعادها فقال :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم ﴾ فقال : الآن أصبت، ثم علل فقال : لأنه لو غفر ورحم ما قطع، ولا تتناسب المغفرة والرحمة مع القطع، لكنه عز وحكم فقطع، فتأمل هذا الفهم فإنه مفيد جدًّا، والشاهد من هذا أن قوله تعالى :﴿ ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفور رحيم ﴾ يدل على أن الله غفر لهم ورحمهم.
ثم قال الله - تبارك وتعالى - :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ﴾ تقدم الكلام على قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ :﴿ إن جاءكم فاسق ﴾ الفاسق هو من انحرف في دينه وعقيدته ومروءته، وضده العدل وهو من استقام في دينه ومروءته، فإذا جاءنا فاسق منحرف في دينه ومروءته بمعنى أنه مصر على المعاصي تارك للواجبات، لكنه لم يصل إلى حد الكفر، أو منحرف في مروءته لا يبالي بنفسه يمشي بين الناس مشية الهوجاء، ويتحدث برفع صوت، ويأتي معه بأغراض بيته، يطوف بها في الأسواق وما أشبه ذلك مما يخالف المروءة، فهذا عند العلماء ليس بعدل. ﴿ إن جاءكم فاسق بنبإ ﴾ أي جاءكم بخبر من الأخبار، وهو فاسق، مثال ذلك : جاءنا رجل حالق للحيته، وحالق اللحية فاسق، لأنه مصر على معصية الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال :«أعفوا اللحى ». وهذا لم يعف لحيته، بل حلقها، فهذا الرجل من الفاسقين ؛ لأنه مصر على معصية، جاءنا بخبر فلا نقبله لما عنده من الفسق، ولا نرده لاحتمال أن يكون صادقاً، ولهذا قال الله - عز وجل - :﴿ فتبينوا ﴾ ولم يقل فردوه، ولم يقل فاقبلوه، بل يجب علينا أن نتبين، وفي قراءة ( فتثبتوا ) وهما بمعنى متقارب، والمعنى : أن نتثبت.
فإذا قال قائل : إذن لا فائدة من خبره.
قلنا : لا بل في خبره فائدة، وهو أنه يحرك النفس حتى نسأل ونبحث ؛ لأنه لولا خبره ما حركنا ساكناً، لكن لما جاء بالخبر نقول : لعله كان صادقاً، فنتحرك ونسأل ونبحث، فإن شهد له الواقع بالحق قبلناه لوجود القرينة الدالة على صدقه، وإلا رددناه، وقوله - سبحانه وتعالى - :﴿ إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ﴾ يفيد أنه إن جاءنا عدل فإننا نقبل الخبر، لكن هذا فيه عند العلماء تفصيل، دل عليه القرآن والسنة، فمثلاً الشهادة بالزنا : لو جاءنا رجل عدل في دينه، مستقيم في مروءته، وشهد أن فلاناً زنا فلا نقبل شهادته، وإن كان عدلاً، بل نجلده ثمانين جلدة ؛ لأنه قذف هذا الرجل البريء بالزنا، وقد قال الله تعالى :﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ﴾، فنجلده ثمانين جلدة ولا نقبل له شهادة أبداً، ونحكم بأنه فاسق، وإن كان عدلاً حتى يتوب، وإذا شهد رجلان عدلان على زيد أنه زنا فلا نقبل شهادتهما، ولا ثلاثة، فإذا كانوا أربعة عدول فنعم ؛ لأن الله تعالى قال :﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون ﴾. وقال تعالى :﴿ لولا جاءو عليه بأربعة شهداء ﴾ ﴿ فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ﴾ حتى وإن كانوا صادقين، فلو جاءنا ثلاثة نعرف أنهم ثقات عدول وشهدوا بالزنا على شخص فهم عند الله كاذبون غير مقبولين، نجلد كل واحد ثمانين جلدة، وإذا جاءنا رجل شهد على شخص بأنه سرق فلا نقبل شهادته، بل لابد من رجلين، وإذا جاءنا رجل شهد بأنه رأى هلال رمضان فنقبل شهادته، لأن السنة وردت بذلك، فقد قال عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - : تراءى الناس الهلال - يعني ليلة الثلاثين من شعبان - فرأيته فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصامه، وأمر الناس بالصيام، وإذا كان رجل غنيًّا ثم أصيب بجائحة ثم جاء يسأل الزكاة، وأتى بشاهد أنه كان غنيًّا وأصابته جائحة وافتقر فلا نقبل شهادة الواحد، ولا نقبل شهادة اثنين، بل لابد من ثلاثة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيصة :«إنها لا تحل المسألة » وذكر منها رجل أصابته جائحة - يعني اجتاحت ماله - فشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : إن فلاناً قد أصابته جائحة فحلت له المسألة ( ثلاثة من ذوي الحجا ) يعني من ذوي العقل، وكذلك نقبل رجلاً مع يمين المدعي كما لو ادعى شخص على آخر بأنه يطلبه ألف ريال، فقلنا للمدعي : هات بينة، قال : عندي رجل واحد، فإذا أتى برجل واحد وحلف معه، حكمنا له بما ادعاه وهناك أشياء أيضاً لا يتسع المجال لذكرها، وعلى هذا فخبر العدل فيه تفصيل على ما تقدم وخبر الفاسق يتوقف فيه حتى يتبين الأمر، ثم بين الله - عز وجل - الحكمة من كوننا نتبين بخبر الفاسق فقال :﴿ أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ﴾ يعني أمرناكم أن تتثبتوا كراهة أن تصيبوا قوماً بجهالة ؛ لأن الإنسان إذا تسرع ولم يتثبت فقد يعتدي على غيره بناءً على الخبر الذي سمعه من الفاسق، وقد يكرهه، وقد يتحدث فيه في المجالس، فيصبح بعد أن يتبين أن خبر الفاسق كذب نادماً على ما جرى منه، وفي هذه الآية دليل على أنه يجب على الإنسان أن يتثبت فيما ينقل من الأخبار ولا سيما مع الهوى والتعصب، فإذا جاءك خبر عن شخص وأنت لم تثق بقول المخبر فيجب أن تتثبت، وألا تتسرع في الحكم ؛ لأنك ربما تتسرع وتبني على هذا الخبر الكاذب فتندم فيما بعد، ومن ثم جاء التحذير من النميمة، وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم، حتى قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :«لا يدخل الجنة قتَّات » أي نمَّام، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر بقبرين يُعذبان، فقال :«إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير » - أي في أمر شاق عليهما - «أما أحدهما فكان لا يستتر من البول »، أو لا يستبرىء أو لا يستنزه من البول «وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة » يمشي بين الناس ينمّ الحديث إلى الآخرين ليفسد بين الناس، ثم أخذ جريدة رطبة فشقَّها نصفين وغرز في كل قبر واحدة فقالوا : يا رسول الله، لمَ فعلت هذا ؟ قال :«لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ». ومن هذا النوع ما ينسب إلى بعض العلماء من الفتاوى التي لم يتكلم بها إطلاقاً، أو تكلم ولكن فُهِمَ ما ينقل عنه خطأ، فإن بعض الناس قد يفهم من العالِم كلمة على غير مراد العالِم بها، وقد يسأل العالِم سؤالاً يتصوره العالم على غير ما في نفس هذا السائل، ثم يجيب على حسب ما فهمه، ثم يأتي هذا الرجل وينشر هذا القول الذي ليس بصحيح، وكم من أقوال نسبت إلى علماء أجلاء، لم يكن لها أصل ؛ لهذا يجب التثبُّت فيما يُنقل عن العلماء أو غير العلماء، ولا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الأهواء، وكثر فيه التعصب، وصار الناس كأنهم يمشون في عمى.
قول الله - تبارك وتعالى - :
﴿ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأَمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإِيمان وزينه في قلوبكم ﴾ هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين واعلموا أن فيكم رسول الله ﴾ وسبب ما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه عن قوم ما ليس فيهم، فأمر الله تعالى بالتأكد من الأخبار إذا جاء بها من لا تُعرف عدالته، وكأن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أرادوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعاقب هؤلاء الذين بلغه عنهم ما بلغه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل بعد أن نزلت عليه الآية :﴿ إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ﴾ ولكن العبرة بعموم اللفظ وقوله :﴿ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأَمر لعنتم ﴾ أي لشق عليكم ما تطلبونه من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا له أمثلة كثيرة منها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بأصحابه في رمضان يصلي بهم صلاة القيام فانصرفوا وقد بقي من الليل ما بقي، وقالوا : يا رسول الله، لو نفلتنا بقية ليلتنا - يعني طلبوا منه أن يقوم بهم كل الليل - ولكنه صلى الله عليه وسلم قال لهم :«من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة » ولم يوافقهم على طلبهم، لما في ذلك من العنت والمشقة، ومنها أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحثوا عن أمره في السر - يعني فيما لا يظهر للناس - وهو العمل الذي يفعله في بيته من العبادات فكأنهم تقالُّوها فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما هم فلم يكن لهم ذلك، فقال أحدهم : أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثاني : أنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث : أنا لا أتزوج النساء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال :«أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني » فحذرهم أن يعملوا عملاً يشق عليهم، ومن ذلك أيضاً حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه وعن أبيه - أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قوله : إنه ليصومن النهار، وليقومن الليل ما عاش، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم قال :«أنت قلت هذا ؟ » قال : نعم، قال :«إنك لا تطيق ذلك » ثم أرشده لما هو أفضل وأهون، والحاصل أنه يوجد من الصحابة - رضي الله عنهم - من له همَّة عالية لكن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا يطيعهم في كثير من الأمر ؛ لأن ذلك يشق عليهم لو أنه أطاعهم، ثم قال عز وجل :﴿ ولكن الله حبب إليكم الإِيمان ﴾، قد يقول قائل : ما هو ارتباط قوله :﴿ ولكن الله حبب إليكم الإِيمان ﴾ بقوله :﴿ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأَمر لعنتم ﴾ ؟.
والجواب : أنكم تطيعونه - أي الرسول عليه الصلاة والسلام - فيما يخالفكم فيه ؛ لأن الله حبَّب إليكم الإيمان فتقدمون طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يخالفكم فيه ؛ لأن الله حبَّب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وهذا استدراك من أبلغ ما يكون من الاستدراك، يعني : ولكن إذا خالفكم النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأمر الذي تريدونه فإنكم لن تكرهوا ذلك، ولن تخالفوه، ولن تحملوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بسببه، ﴿ ولكن الله حبب إليكم الإِيمان ﴾ - أي جعله محبوباً في قلوبكم - ﴿ وزينه في قلوبكم ﴾ بحيث لا تتركونه بعد أن تقوموا به - وذلك أن فعل الإنسان الشيء للمحبة قد يكون محبة عارضة، لكن إذا زُيّن له الشيء ثبت في المحبة ودامت، ولهذا قال :﴿ حبب إليكم الإِيمان ﴾ وهذا في القلب، ﴿ وزينه في قلوبكم ﴾ أيضاً في القلب، لكن إذا زين الشيء المحبوب للإنسان فإنه يستمر عليه ويثبت عليه ﴿ وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ﴾ كرّه إليكم الكفر الذي هو مقابل الإيمان، والفسوق الذي هو مقابل الاستقامة، والعصيان الذي هو مقابل الإذعان، وهذا تدرج من الأعلى إلى ما دون : فالكفر أعظم من الفسق، والفسق أعظم من العصيان، فالكفر هو الخروج من الإسلام بالكلية، وله أسباب معروفة في كتب أهل العلم ذكرها الفقهاء - رحمهم الله - في باب أحكام المرتد، وأما الفسق فهو دون الكفر، لكنه فعل كبيرة، مثل أن يفعل الإنسان كبيرة من الكبائر ولم يتب منها، كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والقذف، وما أشبه ذلك، والعصيان : هو الصغائر التي تكفَّر بالأعمال الصالحة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :«الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ».
﴿ أولئك هم الراشدون ﴾. أولئك : المشار إليه من حبب الله إليهم الإيمان وزيَّنه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان ﴿ هم الراشدون ﴾ يعني الذين سلكوا طريق الرشد، والرشد في الأصل : حسن التصرف، وهو في كل موضع بحسبه، فالرشد في المال أن يحسن الإنسان التصرف فيه، ولا يبذله في غير فائدة، والرشد في الدين : هو الاستقامة على دين الله - عز وجل - فهؤلاء الذين حبَّب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان هم الراشدون، وهنا تجد هذه الأفعال كلها مضافة إلى الله، ولهذا قال بعدها :﴿ فضلاً من الله ﴾
﴿ فضلاً من الله ﴾ يعني أن الله أفضل عليكم فضلاً أي تفضُّلاً منه، وليس بكسبكم، ولكنه من الله - عز وجل - ولكي يُعلم أنّ الله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم حيث يجعل الإيمان في الشخص، فمن علم الله منه حُسن النية، وحُسن القصد والإخلاص حبَّب إليه الإيمان وزيَّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، ومن لم يعلم الله منه ذلك فإنَّ الله تعالى يقول :﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾ ويقول الله - عز وجل - :﴿ فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ﴾ فالذنوب سبب للمخالفة والعصيان، فهؤلاء الذين تفضَّل الله عليهم وأنعم عليهم نعمة الدين هم الذين وُفقوا للحق، قال الله - عز وجل - :﴿ فضلاً من الله ونعمةً ﴾ يعني إنعاماً منه عليهم، والنعمة نعمتان : نعمة في الدنيا، ونعمة في الآخرة، فنعمة الدنيا متصلة بنعمة الآخرة في حقهم. وأما الكفار فهم منعَّمون في الدنيا، كما قال الله تبارك وتعالى :﴿ كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين ﴾ أي تنعُّم، فهؤلاء الكفار عليهم نعمة في الدنيا، لكن في الآخرة عليهم العذاب واللعنة والعياذ بالله، أما المؤمن فإنه يحصل على النعمتين جميعاً، على نعمة في الدنيا، ونعمة في الآخرة، حتى وإن كان فقيراً أو مريضاً أو عقيماً، أو لا نسب له، فإنه في نعمة، لقول الله تعالى :﴿ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾.
وخلاصة الكلام في النعمة، أن هناك نعمتين : نعمة عامة لجميع الخلق، الكافر والمؤمن، والفاسق والمطيع، ونعمة خاصة للمؤمن، وهذه النعمة الخاصة تتصل بنعمة الدين والدنيا، وأما الأولى فإنها خاصة بنعمة الدنيا فقط لتقوم على الكفار الحجة ﴿ والله عليم حكيم ﴾ هذان إسمان من أسماء الله يقرن الله بينهما دائماً : العلم والحكمة، عليم بكل شيء، قال الله تعالى :﴿ لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ﴾. وقال تعالى :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأَرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأى أرض تموت ﴾. وقال تعالى :﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأَرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ﴾. وقال تعالى :﴿ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأَرض ولا في السماء ﴾. فعلم الله تعالى محيط بكل شيء، والإنسان إذا علم أن الله محيط بكل شيء حتى ما يضمره في قلبه، فإنه يخاف ويرهب ويهرب من الله إليه - عز وجل - ولا يقول قولاً يغضب الله، ولا يفعل فعلاً يغضب الله، ولا يضمر عقيدة تُغضب الله ؛ لأنه يعلم أن الله - سبحانه وتعالى - يعلم ذلك، لا يخفى عليه، وأما الحكيم فهو ذو الحكمة البالغة، والحكمة هي أن جميع ما يحكم به جل وعلا موافق ومطابق للمصالح، ما من شيء يحكم الله به إلا وهو حكمة عظيمة، قال الله تبارك وتعالى :﴿ حكمة بالغة فما تغنى النذر ﴾. وقال تعالى :﴿ أليس الله بأحكم الحاكمين ﴾. وقال تعالى :﴿ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ﴾. فمعنى الحكيم، أي ذو الحكمة البالغة، وله معنى آخر وهو : ذو الحكم التام، فإن الله تعالى له الحكم، كما قال تعالى :﴿ وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ﴾. وقال تعالى :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأَخر ﴾ ولا أحد يحكم بهواه ﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأَرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ﴾
﴿ وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأُخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ﴾ طائفتان مفردها طائفة، وهي الجماعة من الناس، وقوله :﴿ اقتتلوا ﴾ جمع، وإنما جمع لأن الطائفة تشتمل على أفراد كثيرين، فلذلك صح أن يعود الضمير على مثنى ؛ مراعاة للمعنى، وإلا لكان مقتضى اللغة أن يقول :( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلا )، ليطابق الضمير مرجعه لكنه عاد إليه بالمعنى.
والاقتتال بين المؤمنين له أسباب متعددة، والشيطان قد يئس أن يُعبد في جزيرة العرب، ولكنه رضي في التحريش بينهم، يحرش بينهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، فإذا حصل الاقتتال فالواجب على المؤمنين الآخرين الصلح بينهما، ولهذا قال :﴿ فأصلحوا بينهما ﴾، أي اسعوا إلى الصلح بكل وسيلة حتى ولو كان ببذل المال، والتنازل عن الحق لأحدهما عن الآخر ؛ لأن الصلح لابد فيه من أن يتنازل أحد الطرفين عما يريد من كمال حقه، وإلا لما تم الصلح، ولهذا لما قال الله تعالى :﴿ والصلح خير ﴾ وقال :﴿ وأحضرت الأنفس الشح ﴾. لأن كل إنسان يريد أن يتم قوله فلابد من التنازل، فإذا أصلحنا بينهما ثم حصل بغي قال الله عز وجل :﴿ فإن بغت إحداهما على الأُخرى فقاتلوا التى تبغى ﴾ يعني لو فرض أنه بعد الصلح عادت إحدى الطائفتين تقاتل الأخرى فهنا لا صلح، بل نقاتل التي تبغي ﴿ حتى تفيء إلى أمر الله ﴾ أي ترجع إليه، وأمر الله يعني دينه وشرعه، فانظر في أول الأمر الإصلاح، فإذا تم الصلح وبغت إحداهما على الأخرى، وجب أن نساعد المبغي عليها، فنقاتل معها ﴿ فإن فاءت ﴾ فإنه يجب الكف عن قتالهم، ولا يجوز أن نجهز على جريح، ولا أن نتبع مدبراً، ولا أن نسلب مالاً ولا أن نسبي ذرية، لأن هؤلاء مؤمنون، ﴿ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ﴾ أي : فإن فاءت إلى أمر الله بعد أن قاتلناها ورجعت ووضعت الحرب، وجب أن نصلح بينهما بالعدل، وهذا غير الإصلاح الأول، الإصلاح الأول لوقف القتال، وهذا الإصلاح بالتقدير فننظر ماذا تلف على كل طائفة، ثم نسوي بينهما، فمثلاً إذا كانت إحدى الطائفتين أتلفت على الأخرى ما قيمته مليون ريال، والثانية أتلفت على الأخرى ما قيمته مليون ريال، فحينئذ تعادل الطائفتان، فإن كانت إحداهما أتلفت على الأخرى ما قيمته ثمانمائة ألف ريال، والأخرى أتلفت ما قيمته مليون فالفرق مائتا ألف ريال تحملها على الأخرى التي أتلفت ما قيمته مليون، ولهذا قال :﴿ فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ﴾ أي يحب العادلين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن المقسطين على منابر من نور عن يمين الله عز وجل، الذين يعدلون في أهليهم، وما ولوا من أمور المسلمين،
ثم قال - عز وجل - :﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ هذا كالتعليل لقوله :﴿ فأصلحوا بينهما ﴾ يعني إنما أوجب الله علينا الإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين ؛ لأن المؤمنين إخوة. الطائفتان المقتتلتان هما أخوان، ونحن أيضاً إخوة لهم حتى مع القتال.
فإذا قال قائل : أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد قال :«سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر » والكافر ليس أخاً للمؤمن ؟
فالجواب أن يقال : إن الكفر الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام هو كفر دون كفر، فليس كل ما أطلق الشرع عليه أنه كفر يكون كفراً، فهنا صرح الله - عز وجل - بأن هاتين الطائفتين المقتتلتين إخوة لنا مع أن قتال المؤمن كفر. فيقال : هذا كفر دون كفر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :«اثنتان في الناس هما بهما كفر : الطعن في النسب، والنياحة على الميت » ومعلوم أن الطاعن في النسب والنائح على الميت لا يكفر كفراً أكبر، فدل ذلك على أن الكفر في شريعة الله في الكتاب وفي السنة كفران : كفر مخرج عن الملة، وكفر لا يخرج عن الملة ﴿ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ﴾ وفي هذا من الحمل على العطف على هاتين الطائفتين المقتتلتين ما هو ظاهر في قوله :﴿ فأصلحوا بين أخويكم ﴾ كما أنك تصلح بين أخويك الأشقاء من النسب، فأصلح بين أخويك في الإيمان ﴿ واتقوا الله لعلكم ترحمون ﴾ يعني اتقوا الله تعالى بأن تفعلوا ما أمركم به وتتركوا ما نهاكم عنه ؛ لأنكم إذا قمتم بهذا فقد اتخذتم وقاية من عذاب الله، وهذه هي التقوى، وعلى هذا كلما سمعت كلمة تقوى في القرآن فالمعنى أنها اتخاذ الوقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه ﴿ لعلكم ترحمون ﴾ أي ليرحمكم الله - عز وجل - إذا اتقيتموه.
ثم قال الله - عز وجل - في جملة ما بيّن لعباده من الآداب والأخلاق الفاضلة :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ﴾. السخرية : هي الاستهزاء والازدراء، ومن المعلوم أن الله تعالى جعل الناس في هذه الحياة الدنيا طبقات، فقال الله تبارك وتعالى :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ﴾ أي ليسخِّر بعضهم بعضاً في المصالح، وليس المراد هنا الاستهزاء، وقال الله تبارك وتعالى :﴿ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللأَخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ﴾ إذا ثبت هذا التفضيل بين الناس فهم يتفاضلون في العلم، فبعضهم أعلم من بعض في علوم الشريعة، وعلوم الوسيلة إلى علوم الشريعة كعلوم اللغة العربية من النحو والبلاغة وغيرها، وهم يتفاضلون في الرزق، فمنهم من بسط له في رزقه، ومنهم من قَدَرَ عليه في رزقه، وهم يتفاضلون في الأخلاق، فمنهم ذوو الأخلاق الفاضلة العالية، ومنهم دون ذلك، وهم يتفاضلون في الخلقة، منهم السوي الخلقة، ومنهم من دون ذلك، ويتفاضلون كذلك في الحسب، منهم من هو ذو حسب ونسب، ومنهم دون ذلك، فهل يجوز لأحد أن يسخر ممن دونه ؟ يقول الله - عز وجل - :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ﴾ فيخاطبنا - جل وعلا - بوصف الإيمان، وينهانا أن يسخر بعضنا من بعض ؛ لأن المفضِّل هو الله - عز وجل - وإذا كان هو الله لزم من سخريتك بهذا الشخص الذي هو دونك أن تكون ساخراً بتقدير الله - عز وجل - وإلى هذا يوحي قول الرسول - عليه الصلاة والسلام - :«لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر ». وفي الحديث القدسي :«يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار ». فلماذا تسخر من هذا الرجل الذي هو دونك في العلم أو في المال، أو في الخُلُق، أو في الخلقة، أو في الحسب، أو في النسب، لماذا تسخر منه ؟ أليس الذي أعطاك الفضل هو الله الذي حرمه هذا - في تصورك - فلماذا، ولهذا قال - عز وجل - :﴿ عسى أن يكونوا خيراً منهم ﴾ رب ساخر اليوم مسخور منه في الغد، ورب مفضول اليوم يكون فاضلاً في الغد، وهذا شيء مشاهد، وفي بعض الآثار يروى :«من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله ». وفي الآثار أيضاً :«لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك ». إذن يجب على الإنسان أن يتأدب بما أدبه الله به، فلا يسخر من غيره عسى أن يكون خيراً منه، ﴿ ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ﴾ ونص على النساء والرجال بالتفصيل، حتى لا يقول أحد : إن هذا خاص بالرجال، لو ذكر الرجال وحدهم، أو خاص بالنساء وحدهن، وبهذا نعرف الفرق بين القوم والنساء. إذا جمع بين القوم والنساء فالقوم هم الرجال والنساء هن الإناث، وإن ذكر القوم وحدهم شمل الرجال والنساء، مثل ما يذكر في الرسل عليهم الصلاة والسلام أنهم أرسلوا إلى قومهم فهو يشمل الذكور والإناث، لكن إذا ذكر القوم والنساء صار النساء هن الإناث، والقوم هم الذكور.
وهذا الأدب عام لجميع الأمة، ويجب على كل طالب علم أن يكون أول من يمتثل أمر الله - عز وجل - ويجتنب نهيه ؛ لأنه مسؤول عن ذلك من وجهين :
الوجه الأول : أنه كغيره من المكلفين.
والثاني : أن طالب العلم قدوة، أي عمل يعمله فسوف يقتدي به الناس، ويحتجون به، فإذا كان طالب العلم هو الذي يسخر من العلماء أو من دون العلماء فهذه بلية في الواقع، فالواجب على الإنسان إذا خالف غيره أن يلتمس له العذر، ثم يتصل بهذا المخالف ويبحث معه، فربما يكون الحق مع من خالفه ويناقشه بأدب واحترام وهدوء، حتى يتبين الحق، وأما سخريته بما خالف رأيه أو رأي شيخه فهذا غلط، وكل إنسان يخالفك في قولك فإن الواجب عليك أن تحمله على أحسن المحامل وأن هذا اجتهاده، وأن الله - عز وجل - سيأجره على اجتهاده إذا أخطأ، وإن أصاب فله أجران، ثم تتصل به وتناقشه، ولا تستحي، فربما تبين أن الحق معك فتكون لك منة على هذا الرجل، وربما يتبين لك أن الحق معه فيكون له منة عليك، وأما السخرية فهذا ليس من آداب طالب العلم، بل ولا من آداب المؤمن مع أخيه.
﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾ اللمز : العيب، بأن تقول : فلان بليد، فلان طويل، فلان قصير، فلان أسود، فلان أحمر، وما أشبه ذلك مما يعد عيباً، وقوله :﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾ فسَّر بمعنيين :
المعنى الأول : لا يلمز بعضكم بعضاً، لأن كل واحد منا بمنزلة نفس الإنسان، أخوك بمنزلة نفسك، فإذا لمزته فكأنما لمزت نفسك.
والمعنى الثاني : إن المعنى لا تلمز أخاك، لأنك إذا لمزته لمزك، فلمزك إياه سبب لكونه يلمزك، وحينئذ تكون كأنك لمزت نفسك، وعليه قول النبي صلى الله عليه وسلم :«لعن الله من لعن والديه » فقالوا : يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال :«يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه » وعلى كل حال في الآية تحريم عيب المؤمنين بعضهم بعضاً، فلا يجوز لك أن تعيب أخاك بصفة خَلْقية أو صفة خُلُقية، أما الصفة الخَلْقية التي تعود إلى الخلقة فإن عيبك إياه في الحقيقة عيب لخالقه - عز وجل - فالذي خلق الإنسان هو الله عز وجل، والذي جعله على هذه الصفة هو الله عز وجل، والإنسان لا يمكن أن يكمل خِلقته فيكون الطويل قصيراً، أو القصير طويلاً، أو القبيح جميلاً، أو الجميل قبيحاً ؟ فأنت إذا لمزت إنساناً وعبته في خلقته فقد عبت الخالق في الواقع، ولهذا لو وجدنا جداراً مبنيًّا مائلاً وعبنا الجدار فعيبنا لباني الجدار، إذن إذا عبت إنساناً في خلقته فكأنما عبت الخالق - عز وجل - فالمسألة خطيرة، أما عيبه بالخُلُق بأن يكون هذا الرجل سريع الغضب، شديد الانتقام، بذيء اللسان، فلا تعبه ؛ لأنه ربما إذا عبته ابتلاك الله بنفس العيب، ولهذا جاء في الأثر :«لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك » لكن إذا وجدت فيه سوء خُلُق فالواجب النصيحة، أن تتصل به إن كان يمكن الاتصال به، وتبين له ما كان به من عيب، أو أن تكتب له كتاباً : رسالة باسمك أو باسم ناصح مثلاً، ﴿ ولا تنابزوا بالأَلقاب ﴾ يعني لا ينبز بعضكم بعضاً باللقب، فتقول له مثلاً : يا فاسق، يا فاجر، يا كافر، يا شارب الخمر، يا سارق، يا زاني، لا تفعل هذا ؛ لأنك إذا نبزته باللقب فإما أن يكون اللقب فيه، وإما أن لا يكون فيه، فإن كان فيه فقد ارتكبت هذا النهي، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه وارتكبت النهي أيضاً، ثم قال - عز وجل - :﴿ بئس الاسم الفسوق بعد الإِيمان ﴾ يعني بئس لكم أن تنقلوا من وصف الإيمان إلى وصف الفسوق، فإذا ارتكبتم ما نهى الله عنه صرتم فسقة، فالإنسان إذا ارتكب كبيرة واحدة من الكبائر صار فاسقاً، وإذا ارتكب صغيرة وكررها وأصرّ عليها صار فاسقاً، فلا تجعل نفسك بعد الإيمان وكمال الإيمان فاسقاً، هذا معنى قوله :﴿ بئس الاسم الفسوق بعد الإِيمان ﴾ لأن هذه الجملة جملة إنشائية تفيد الذم، وما أفاد الذم فإنه منهي عنه بلا شك، فاستفدنا من هذه الآية الكريمة تحريم السخرية، وتحريم لمز الغير، وتحريم التنابز بالألقاب، وأن من صنع ذلك فهو فاسق بعد أن كان مؤمناً، والفسق ليس وصفاً على اللسان فقط، بل يترتب عليه أحكام، فمثلاً قال العلماء : الفاسق لا يصح أن يكون وليًّا على ابنته، فيزوجها من يصح أن يكون وليًّا من أقاربها، فإن لم يكن لها أقارب أو خافوا من أبيها إن زوَّجها فيزوِّجها القاضي، والفاسق لا تقبل شهادته ؛ لأن الله تعالى قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ﴾ فيشهد عند القاضي بحق، فيقول القاضي : لا نقبلك ؛ لأنك فاسق، والفاسق لا يصلح أن يكون إماماً بالناس في الصلاة، والفاسق الذي يظهر فسقه لا يصح أذانه، كل هذا قال به العلماء رحمهم الله، وإن كان في بعض هذه المسائل خلاف، لكني أقول : إن كلمة فاسق ليست بالأمر الهين حتى يقولها الإنسان ﴿ بئس الاسم ﴾ ولهذا ذمه الله، فقال :﴿ بئس الاسم الفسوق بعد الإِيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ﴾ يعني من كان يفعل هذه الأشياء الثلاثة، ولم يتب فأولئك هم الظالمون، فالذي لا يتوب يكون ظالماً، والظلم كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - «ظلمات يوم القيامة »، وإذا كان المؤمنون يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، فهؤلاء الظلمة ليس لهم نور، فيجب الحذر مما نهى الله - عز وجل - لأنك أيها العبد، عبد لله تأتمر بأمره، وتنتهي عن نهيه.
فإن قال قائل : ما معنى التوبة ؟
فنقول : التوبة من العبد أن ينتقل من معصية الله إلى طاعته، والتوبة من الله أن يقبل الله من العبد فيبدل سيئاته حسنات.
قال الله تبارك وتعالى :﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله ﴾ إلى أن قال :﴿ إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ﴾، وقد تطلق التوبة من الله على توفيقه العبد إلى التوبة، فلله تعالى على العبد توبتان : توبة بمعنى التوفيق للتوبة، وتوبة بمعنى قبول التوبة. والدليل على هذا قول الله تبارك وتعالى :﴿ وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأَرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ﴾. ﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا ﴾ أي وفقهم للتوبة فتابوا، أما التوبة الأخرى وهي قبول توبة العبد، فمثل قوله تعالى :﴿ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ﴾ وتوبة العبد تحتاج إلى شروط، إذ ليس كل توبة مقبولة، وليس كل من قال : أنا تائب إلى الله يكون تائباً، بل لابد من شروط :
الشرط الأول : أن يخلص لله تعالى في التوبة، أي لا يحمله على التوبة أنه خائف من أبيه، أو خائف من أخيه الأكبر، أو خائف من السلطات، أو تاب لأجل أن يقال : فلان مستقيم، والإخلاص لله في التوبة أن يكون الحامل له على التوبة طلب رضى الله - عز وجل - والوصول إلى كرامته، والإخلاص شرط في كل عبادة.
الشرط الثاني : الندم على ما فعل، ومعنى يندم أي : يتحسر، ويتكدر أنه وقع منه هذا الشيء. ويخجل من الله عز وجل.
الشرط الثالث : أن يقلع عن الذنب في الحال. وذلك بأن يأتي بالواجب إن أمكن تداركه، أو بدله إذا لم يكن تداركه، وأن يقلع عن المحرم إذا كان الذنب فعلاً محرماً، فإذا كان الذنب في حق الإنسان بأن يكون شخص سرق من إنسان مالاً، والسرقة حرام، وتاب الرجل وندم وعزم على ألا يعود، فلابد أن يوصل هذا المال إلى صاحبه، ولا يمكن أن تتم التوبة إلا بهذا، فإذا قال : أخشى إن ذهبت إلى هذا الرجل وأعطيته المال أن يترتب على ذلك ضرر عليَّ، وعلى سمعتي، وربما أُحبس، وربما يدعي أن المبلغ المسروق أكثر، وأنا قد تبت إلى الله قبل أن يقدر عليَّ فكيف تكون الحال ؟ فهل يجوز أن يتصدق به عن صاحبه ؟
والجواب : لا يجوز، لأن صاحبه معلوم، أما لو كان مجهولاً كما لو سرق من أناس نسيهم أو جهلهم ولا يدري أين هم، فهنا يتصدق بما سرق عنهم، لكن إذا كان معلوماً لابد أن يوصله، ويمكن أن يعطي شخصاً يثق به، ويقول : يا فلان، إني سرقت هذا المال من فلان، وقد ندمت وتبت إلى الله، ومن فضلك
﴿ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً ﴾. تصدير الخطاب ب ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ يدل على العناية به، ولهذا روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : إذا سمعت الله يقول ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ فارعها سمعك : فإما خير تؤمر به، وإما شر تُنهى عنه. ويعني : وإما خير تحصل به العبرة والاتعاظ، كما قال تعالى :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأُولى الأَلباب ﴾ وهنا يقول - عز وجل - :﴿ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ﴾، الظن : هو أن يكون لدى الإنسان احتمالان يترجح أحدهما على الآخر، وهنا عبر الله تعالى بقوله :﴿ كثيراً من الظن ﴾ ولم يقل : اجتنبوا الظن كله، لأن الظن ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ظن خير بالإنسان، وهذا مطلوب أن تظن بإخوانك خيراً ماداموا أهلاً لذلك، وهو المسلم الذي ظاهره العدالة، فإن هذا يُظن به خيراً، ويُثنى عليه بما ظهر لنا من إسلامه وأعماله.
القسم الثاني : ظن السوء، وهذا يحرم بالنسبة لمسلم ظاهره العدالة، فإنه لا يحل أن يظن به ظن السوء، كما صرح بذلك العلماء، فقالوا - رحمهم الله - : يحرم ظن السوء بمسلم ظاهره العدالة. أما ظن السوء بمن قامت القرينة على أنه أهل لذلك، فهذا لا حرج على الإنسان أن يظن السوء به، ولهذا من الأمثال المضروبة السائرة :( احترسوا من الناس بسوء الظن )، ولكن هذا ليس على إطلاقه، كما هو معلوم، وإنما المراد : احترسوا من الناس الذين هم أهل لظن السوء فلا تثقوا بهم، والإنسان لابد أن يقع في قلبه شيء من الظن بأحد من الناس لقرائن تحتف بذلك، إما لظهور علامة في وجهه، بحيث يظهر من وجهه العبوس والكراهية في مقابلتك وما أشبه ذلك، أو من أحواله التي يعرفها الإنسان منه أو من أقواله التي تصدر منه فيظن به ظن السوء، فهذه إذا قامت القرينة على وجوده فلا حرج على الإنسان أن يظن به ظن السوء.
فإذا قال قائل : أيهما أكثر الظن المنهي عنه أم الظن المباح ؟
قلنا : الظن المباح أكثر ؛ لأنه يشمل نوعاً كاملاً من أنواع الظن، وهو ظن الخير، ويشمل كثيراً من ظن السوء الذي قامت القرينة على وجوده ؛ لأنه إذا لم يكن هناك قرينة تدل على هذا الظن السيء، فإنه لا يجوز للإنسان أن يتصف بهذا الظن، ولهذا قال :﴿ كثيراً من الظن ﴾ ولم يقل : أكثر الظن، ولا كل الظن، بل قال :﴿ كثيراً من الظن ﴾ ثم قال :﴿ إن بعض الظن إثم ﴾ وقد توحي هذه الجملة أن أكثر الظن ليس بإثم، وهو منطبق تماماً على ما بيناه وقسمناه، أن الظن نوعان : ظن خير، وظن سوء، ثم ظن السوء لا يجوز إلا إذا قامت القرينة على وجوده، ولهذا قال :﴿ إن بعض الظن إثم ﴾ فما هو الظن الذي ليس بإثم ؟ نقول : هو ظن الخير، وظن السوء الذي قامت عليه القرينة هذا ليس بإثم، لأن ظن الخير هو الأصل، وظن السوء الذي قامت عليه القرينة هذا أيضاً أيدته القرينة. ﴿ ولا تجسسوا ﴾ التجسس طلب المعايب من الغير، أي أن الإنسان ينظر ويتصنت ويتسمع لعله يسمع شرًّا من أخيه، أو لعله ينظر سوءاً من أخيه، والذي ينبغي للإنسان أن يعرض عن معايب الناس، وأن لا يحرص على الاطلاع عليها، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال - عليه الصلاة والسلام - :«لا يخبرني أحد عن أحد شيئاً »، يعني شيئاً مما يوجب ظن السوء به «فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر » فلا ينبغي للإنسان أن يتجسس، بل يأخذ الناس على ظاهرهم، ما لم يكن هناك قرينة تدل على خلاف ذلك الظاهر، وفي هذه الجملة من الآية قراءة أخرى ( ولا تحسسوا ) فقيل : معناهما واحد، وقيل : بل لكل واحدة منهما معنى، والفرق هو أن التجسس أن يحاول الإنسان الاطلاع على العيب بنفسه، والتحسس أن يلتمسه من غيره، فيقول للناس مثلاً : ما تقولون في فلان، ما تقولون في فلان ؟ وعلى هذا فتكون القراءتان مبينتين لمعنيين كلاهما مما نهى الله عنه، لما في هذا من إشغال النفس بمعايب الآخرين، وكون الإنسان ليس له هم إلا أن يطلع على المعايب، ولهذا من ابتلي بالتجسس أو بالتحسس تجده في الحقيقة قلقاً دائماً في حياته، وينشغل بعيوب الناس عن عيوبه، ولا يهتم بنفسه، وهذا يوجد كثيراً من بعض الناس الذين يأتون إلى فلان وإلى فلان، ما تقول في كذا ؟ ما تقول في كذا ؟ فتجد أوقاتهم ضائعة بلا فائدة، بل ضائعة بمضرة ؛ لأن ما وقعوا فيه فهو معصية لله - عز وجل - هل أنت وكيل عن الله - عز وجل - تبحث عن معايب عباده، والعاقل هو الذي يتحسس معايب نفسه، وينظر معايب نفسه ليصلحها، لا أن ينظر في معايب الغير ليشيعها - والعياذ بالله - ولهذا قال الله - عز وجل - :﴿ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم ﴾ فعلى كل حال هذه آداب وتوجيه من الله - عز وجل - إلى أخلاق فاضلة، مأمور بها، وأخلاق منهي عنها.
﴿ ولا يغتب بعضكم بعضاً ﴾ الغيبة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :«ذكرك أخاك بما يكره » وهذا تفسير من الرسول - عليه الصلاة والسلام - وهو أعلم الناس بمراد الله - تبارك وتعالى - في كلامه :«ذكرك أخاك بما يكره »، سواء كان ذلك في خلقته، أو خلقه، أو في أحواله، أو في عقله، أو في ذكائه، أو في غير ذلك، مثل أن تقول : فلان قبيح المنظر، دميم، فيه كذا، فيه كذا، تريد معايب جسمه، أو في خُلقه بأن تقول : فلان أحمق، سريع الغضب، سيء التصرف، وما أشبه ذلك، أو في خلقته الباطنة كأن تقول : فلان بليد، فلان لا يفهم، فلان سيء الحفظ، وما أشبه هذا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حدها بحد واضح بيّن «ذكرك أخاك بما يكره »، قالوا : يا رسول الله، أرأيت إن كان فيه ما أقول ؟ قال :«إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته » أي جمعت بين البهتان والغيبة، وعلى هذا فيجب الكف عن ذكر الناس بما يكرهون، سواء كان ذلك فيهم، أو ليس فيهم، واعلم أنك إذا نشرت عيوب أخيك فإن الله سيسلط عليك من ينشر عيوبك، جزاءً وفاقاً، لا تظن أن الله غافل عما يعمل الظالمون، بل سيسلط عليه من يعامله بمثل ما يعامل الناس، لكن إذا كانت الغيبة للمصلحة فإنه لا بأس بها، ولا حرج فيها، ولهذا لما جاءت فاطمة بنت قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستشيره في رجال خطبوها، بيَّن معايب من يرى أن فيه عيباً، فقد خطبها ثلاثة : معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وأبو جهم بن حارث، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم :«أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، انكحي أسامة بن زيد »، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم عيباً في هذين الرجلين، للنصيحة وبيان الحق، ولا يعد هذا غيبة بلا شك، ولهذا لو جاء إنسان يستشيرك في معاملة رجل، قال : فلان يريد أن يعاملني ببيع، أو شراء، أو إجارة، أو في تزويج أو ما أشبه ذلك، وأنت تعرف أن فيه عيباً فإن الواجب أن تبين له ذلك، ولا يعد هذا كما يقول العامة من قطع الرزق، بل هو من بيان الحق، فإذا عرفت أن في هذا الرجل الذي يريد أن يعامله هذا الشخص ببيع أنه مماطل كذاب محتال، فقل له : يا أخي لا تبع لهذا إنه كذاب مماطل، إنه محتال، ربما يدعي أن في السلعة عيباً وليس فيها عيب، وربما يدعي الغبن وليس مغبوناً، وما أشبه ذلك فتقع معه في صراع ومخاصمة، أو جاء إنسان يستشيرك في شخص خطب منه ابنته، والشخص ظاهره العدالة والاستقامة، وظاهره حسن خلق، ولكنك تعرف فيه خصلة معيبة فيجب عليك أن تبين هذا، فمثلاً : تعرف أن في هذا الرجل كذباً، أو تعرف أنه يشرب الدخان لكنه يجحده ولا يبينه للناس، يجب أن تبين تقول : هذا الرجل ظاهره أنه مستقيم، وأنه خلوق، وأنه طيب، ولكن فيه العيب الفلاني، حتى لو كان هذا متجهاً إلى أن يزوجه، ثم هو بعد ذلك بالخيار ؛ لأنه سيدخل على بصيرة، وعلى كل حال يستثنى من الغيبة وهي ذكر الرجل بما يكره، إذا كان على سبيل النصيحة، ومنه ما يذكر في كتب الرجال مثلاً، فلان بن فلان سيء الحفظ، فلان بن فلان كذوب، فلان بن فلان فيه كذا وكذا، يذكرون ما يكره من أوصافه، نصيحة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإذا كان الغرض من ذكرك أخاك ما يكره النصيحة فلا بأس.
كذلك لو كان الغرض من ذلك الظلم والتشكي، فإن ذلك لا بأس به، مثل أن يظلمك رجل وتأتي إلى رجل يستطيع أن يزيل هذه المظلمة، فتقول : فلان أخذ مالي، فلان جحد حقي، وما أشبه ذلك، فلا بأس، فإن هند بنت عتبة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها أبا سفيان، تقول : إنه رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال لها الرسول - عليه الصلاة والسلام - :«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » فذكرت وصفاً يكرهه أبو سفيان بلا شك ولكنه من باب التظلم والتشكي، وقد قال الله تعالى في كتابه ﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ﴾ يعني فله أن يجهر بالسوء من القول لإزالة مظلمته.
ولكن هل يجوز مثل هذا إذا كان قصد الإنسان أن يخفف عليه وطأة الحزن والألم الذي في قلبه بحيث يحكي الحال التي حصلت على صديق له، وصديقه لا يمكن أن يزيل هذه المظلمة لكنه يفرج عنه أو لا ؟
الظاهر أنه يجوز ؛ لعموم قوله تعالى :﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ﴾ وهذا يقع كثيراً، كثيراً ما يؤذى الإنسان، ويجنى عليه بجحد مال أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك فيأتي الرجل إلى صديقه ويقول : فلان قال في كذا، يريد أن يخفف ما في قلبه من الألم والحسرة، أو يتكلم في ذلك مع أولاده، أو مع أهله، أو مع زوجته أو ما أشبه ذلك، هذا لا بأس به ؛ لأن الظالم ليس له حرمة بالنسبة للمظلوم.
﴿ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله ﴾ التقوى يكثر الأمر بها في القرآن الكريم، وكذلك في السنة، فما هي التقوى التي يكثر ورودها في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ إنها كلمة عظيمة، إنها تعني الوقاية من عذاب الله، وتكون الوقاية من عذاب الله بأمرين :
الأمر الأول : امتثال أوامر الله - عز وجل - بأن يقول القائل إذا سمع أمر الله ﴿ سمعنا وأطعنا ﴾ فإن هذا هو قول المؤمنين، قال الله تعالى :﴿ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ﴾ ولا تقل : ما الفرق بين كذا وكذا ؟ يعني : لماذا يأمر الله بكذا ولا يأمر بكذا، فمثلاً في لحوم الإبل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نتوضأ من لحومها، ولهذا كان أكل لحوم الإبل ناقض للوضوء على القول الراجح من أقوال العلماء، فلا تقل : لماذا يأمرنا بالوضوء من أكل لحم الإبل، ولا يأمرنا بالوضوء من أكل لحم البقر ؟ مع أن كل منهما يسمى بدنة، ولا تقل : لماذا تؤمر الحائض بقضاء شهر الصوم ولا تؤمر بقضاء الصلاة، على سبيل التشكيك، ولكن قل : سمعنا وأطعنا.
الأمر الثاني : اجتناب ما نهى الله عنه، فإذا نهى الله عن شيء فقل : سمعنا وأطعنا، واجتنبنا. وتأمل قول الله - عز وجل - في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام حيث قال :{ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأَنصاب والأَزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم ت
﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبآئل لتعارفوا ﴾ الخطاب هنا مصدر بنداء الناس عموماً، مع أن أول السورة وجه الخطاب فيه للذين آمنوا، وسبب ذلك أن هذا الخطاب في هذه الآية موجه لكل إنسان ؛ لأنه يقع التفاخر بالأنساب من كل إنسان، فيقول - عز وجل - :﴿ يا أيها الناس ﴾، والخطاب للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، ﴿ إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ﴾ من ذكر هو آدم، وأنثى هي حواء، هذا هو المشهور عند علماء التفسير، وذهب بعضهم إلى أن المقصود بالذكر والأنثى هنا الجنس، يعني أن بني آدم خُلقوا من هذا الجنس من ذكر وأنثى، وفي الآية دليل على أن الإنسان يتكون من أمه وأبيه أي يخلق من الأم والأب، ولا يعارض هذا قول الله تعالى :﴿ فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترآئب ﴾ فإذا قلنا : إن المراد بالصلب صلب الرجل، والترائب ترائب المرأة فلا إشكال، وإن قلنا بالقول الراجح : إن الصلب والترائب وصفان للرجل، يعني الماء الدافق هو ماء الرجل، أما المرأة فلا يكون ماؤها دافقاً، وعلى هذا فيكون الإنسان مخلوقاً من ماء الرجل، لكن ماء الرجل وحده لا يكفي، بل لابد أن يتصل بالبويضة التي يفرزها رحم المرأة فيزدوج هذا بهذا، فيكون الإنسان مخلوقاً من الأمرين جميعاً، أي من أبيه وأمه، ﴿ وجعلنكم شعوباً ﴾ أي صيرناكم شعوباً ﴿ وقبآئل ﴾ فالله تعالى جعل بني آدم شعوباً وهم أصول القبائل، وقبائل وهم ما دون الشعوب، فمثلاً بنو تميم يعتبرون شعباً، وأفخاذ بني تميم المتفرعون من الأصل يسمون قبائل، ﴿ وجعلنكم شعوباً وقبآئل ﴾ هل الحكمة من هذا الجعل أن يتفاخر الناس بعضهم على بعض، فيقول هذا الرجل : أنا من قريش، وهذا يقول أنا من كذا، أنا من كذا ؟ ليس هذا المراد، المراد التعارف، أن يعرف الناس بعضهم بعضاً، إذ لولا هذا الذي صيره الله - عز وجل - ما عرف الإنسان من أي قبيلة، ولهذا كان من كبائر الذنوب أن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه، لأنه إذا انتسب إلى غير أبيه غير هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي أنهم شعوب وقبائل من أجل التعارف، فيقال : هذا فلان ابن فلان ابن فلان إلى آخر الجد الذي كان أباً للقبيلة، ﴿ لتعرفوا ﴾ أي : لا لتفاخروا بالأحساب والأنساب، ﴿ إن أكرمكم عند الله أتقكم ﴾ ليس الكرم أن يكون الإنسان من القبيلة الفلانية، أو من الشعب الفلاني، الكرم الحقيقي النافع هو الكرم عند الله، ويكون بالتقوى، فكلما كان الإنسان أتقى لله كان عند الله أكرم، فإذا أحببت أن تكون عند الله كريماً، فعليك بتقوى الله - عز وجل - والتقوى كلها الخير، وكلها البركة، وكلها سعادة في الدنيا والآخرة، ﴿ ألآ إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾. وما أكثر ما ترد على أسماعنا كلمة التقوى، وليس لفظاً يجري على الألسن ويمر بالآذان بل يجب أن يكون لفظاً عظيماً موقراً معظماً محترماً، ويفوت الإنسان من التقوى بقدر ما خالف فيه أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأينا مثلاً إنساناً يتقدم إلى المسجد ويصلي مع الجماعة ويخشع في صلاته، ويؤديها بكل طمأنينة، وآخر بالعكس يصلي في بيته ويقتصر فيها على الواجب، فالأول أتقى، إذن فهو أكرم عند الله حتى لو كان مولى من الموالي، والآخر من أرفع الناس نسباً، فإن الأتقى لله هو الأكرم عند الله - عز وجل - وكل إنسان يحب أن يحظى عند السلطان في الدنيا، ويكون أقرب الناس إليه، فكيف لا نحب أن نكون أقرب الناس إلى الله، وأكرمهم عنده ؟ ! المسألة هوى وشيطان، وإلا لكان الأمر واضحاً، فعليك بتقوى الله - عز وجل - لتنال الكرم عند الله، ﴿ إن الله عليم خبير ﴾ بكل شيء، لأنه هنا مطلق، ولم يقيد بحال من الأحوال، ﴿ خبير ﴾ الخبرة هي العلم ببواطن الأمور، والعلم بالظواهر لا شك أنه صفة مدح وكمال، لكن العلم بالبواطن أبلغ، فيكون عليم بالظواهر، وخبير بالبواطن، فإذا اجتمع العلم والخبرة صار هذا أبلغ في الإحاطة، وقد يقال إن الخبرة لها معنى زائد عن العلم، لأن الخبير عند الناس هو العليم بالشيء الحاذق فيه، بخلاف الإنسان الذي عنده علم فقط، ولكن ليس عنده حذق، فإنه لا يسمى خبيراً، فعلى هذا يكون الخبير متضمناً لمعنى زائد على العلم.
ثم قال الله تعالى :﴿ قالت الأَعراب آمنا ﴾ الأعراب اسم جمع لأعرابي، والأعرابي هو ساكن البادية كالبدوي تماماً، فالأعراب افتخروا، فقالوا : آمنا آمنا، افتخروا بإيمانهم، فقال الله - عز وجل - :﴿ قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ﴾ قيل : إن هؤلاء من المنافقين، لقول الله تعالى :﴿ وممن حولكم من الأَعراب منافقون ﴾ والمنافق مسلم، ولكنه ليس بمؤمن، لأنه مستثنى في الظاهر، إذ إن حال المنافق أنه كالمسلمين، ولهذا لم يقتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، مع علمه بنفاقهم مع أنهم مسلمون ظاهراً لا يخالفون، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا.
وقيل : إنهم أعراب غير منافقين، لكنهم ضعفاء الإيمان، يمشون مع الناس في ظاهر الشرع، لكن قلوبهم ضعيفة، وإيمانهم ضعيف.
وعلى القول الأول : يكون قوله :﴿ ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ﴾ أنه لم يدخل أصلاً، وعلى الثاني : أي لما يدخل الإيمان الدخول الكامل المطلق، ففيهم إيمان لكن لم يصل الإيمان في قلوبهم على وجه الكمال، والقاعدة عندنا في التفسير أن الآية إذا احتملت معنيين، فإنها تحمل عليهما جميعاً إذا لم يتنافيا، فإن تنافيا طلب المرجح.
فالأعراب الغالب عليهم أنهم لا يعرفون حدود ما أنزل الله على رسوله، فيقولون آمنا، فقال الله تعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ﴾ ووجه ذلك أن الإسلام في القلب، وهو صعب، والإسلام علامة في الجوارح، وكل إنسان يمكن أن يعمل بجوارحه عملاً متقناً كأحسن ما يكون، فقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن الخوارج أنهم يقرءون القرآن، وأنهم يصلون، وأن الواحد من الصحابة يحقر صلاته عند صلاتهم، وقراءته عند قراءتهم، ومع ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام :«إنهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم » نسأل الله العافية، وأنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وهذا يدل على أن الإسلام يستطيعه كل إنسان يمكن أن يصلي ويسجد ويقرأ ويصوم ويتصدق وقلبه خالٍ من الإيمان، ولهذا قال :﴿ قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ﴾ وهنا التعبير يقول :﴿ لما يدخل ﴾ ولم يقل :( ولم يدخل )، قال العلماء : إذا أتت ( لما ) بدل ( لم ) كان ذلك دليلاً على قرب وقوع ما دخلت عليه، فمثلاً إذا قلت :( فلان لمّا يدخلها ) أي أنه قريب منها، ومنه قوله تعالى :﴿ بل هم في شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب ﴾ أي لم يذوقوه، ولكن قريب منه، وهنا قال :( لما يدخل ) أي لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولكنه قريب من الدخول، ﴿ وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعملكم شيئاً ﴾ إن أطعتم الله ورسوله بالقيام بأمره واجتناب نهيه فإنه لن ينقصكم من أعمالكم شيئاً بل سيوفرها لكم كاملة، كما قال الله تبارك وتعالى :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجززز إلا مثلها وهم لا يظلمون ﴾. فكل إنسان يجزى على عمله إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر، لكن رحمة الله تعالى سبقت غضبه ﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ﴾ وقد يعاقب، وقد يعفو الله عنه، فالسيئات يمكن أن تمحى، والحسنات لا يمكن أن تنقص، ولهذا قال :﴿ لا يلتكم من أعملكم شيئاً ﴾ أي لا ينقصكم. ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ ختم الآية بالمغفرة والرحمة، إشارة إلى أن هؤلاء الذين قالوا إنهم آمنوا، قريبون من المغفرة والرحمة، لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولكنه قريب من دخوله.
في هذه الآية الكريمة فرق بين الإسلام والإيمان، وكذلك في حديث جبريل عليه السلام فرق بين الإسلام والإيمان، ففي حديث جبريل عليه السلام لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام قال :«أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ». وفي الإيمان قال :«أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره ». ففرق بين الإسلام والإيمان، وفي أدلة أخرى يجعل الله الإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان، فهل في هذا تناقض ؟
والجواب : لا، فإذا قرن الإسلام بالإيمان صارا شيئين، وإذا ذكر الإسلام وحده، أو الإيمان وحده صارا بمعنى واحد، ولهذا نظائر في اللغة العربية كثيرة، ولهذا قال أهل السنة والجماعة : إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا، يعني إذا ذُكرا في سياق واحد فهما شيئان، وإذا ذُكر أحدهما دون الآخر فهما شيء واحد، ويدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم عدد أعمالاً هي من الإسلام، وجعلها من الإيمان فقال :«الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول : لا إله إلا الله » مع أنها من الإسلام، قال :«الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ». «وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ». وإماطة الأذى عن الطريق من الإسلام ؛ لأنها عمل، والأعمال جوارح «والحياء شعبة من الإيمان » وهذا في القلب، فالمهم الإيمان والإسلام إذا افترقا فهما شيء واحد، وإن اجتمعا فهما شيئان.
﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ﴾ إنما أداة حصر تفيد إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه، أي ما المؤمنون إلا هؤلاء، والمراد : المؤمنون حقًّا الذين تم إيمانهم إلا هؤلاء الذين آمنوا بالله ورسوله، آمنوا أقروا إقراراً مستلزماً للقبول والإذعان، وليس مجرد الإقرار كافياً، بل لابد من قبول وإذعان، والدليل على أن مجرد الإقرار ليس بكاف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن عمه أبي طالب أنه في النار، وذلك مع أنه مؤمن بالرسول عليه الصلاة والسلام، مصدق به، يقول في لاميته المشهورة :
لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
ويقول عن دين الرسول :
ولقد علمت أن دين محمد خير أديان البرية دينا
لكنه والعياذ بالله لم يقبل هذا الدين، ولم يذعن له، وكان آخر ما قال : إنه على الشرك على ملة عبدالمطلب، فالذين آمنوا بالله ورسوله، هم الذين أقروا إقراراً تامًّا بما يستحق الله عز وجل، وبما يستحق الرسول عليه الصلاة والسلام، وقبلوا بذلك وأذعنوا، ﴿ ثم لم يرتابوا ﴾ كلمة، ﴿ ثم ﴾ هنا في موقع من أحسن المواقع ؛ لأن ( ثم ) تدل على الترتيب والمهلة، ثم استقروا وثبتوا على الإيمان مع طول المدة، ﴿ لم يرتابوا ﴾ : أي لم يلحقهم شك في الإيمان بالله ورسوله.
وهنا ننبه إلى مسألة يكثر السؤال عنها في هذا الوقت - وإن كان أصلها موجوداً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام - : وهي الوساوس التي يلقيها الشيطان في قلب الإنسان، فيلقي الشيطان في قلب الإنسان أحياناً وساوس وشكوكاً في الإيمان أو في القرآن، أو في الرسول، يحب الإنسان أن يمزق لحمه، ويكسر عظمه ولا يتكلم بذلك، فما موقف الإنسان من هذا ؟ موقف الإنسان من هذا أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وينتهي، ويعرض عن هذا، ولا يفكر فيه إطلاقاً، وقد أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - أن مثل هذه الوساوس صريح الإيمان، أي خالص الإيمان، وهذا إنما كان خالص الإيمان، لأن الشيطان لا يأتي للإنسان الشاك يشككه في دينه، وإنما يأتي لإنسان ثابت مستقر، ليشككه في دينه، فيفسده عليه، فالمؤمن الذي استقر الإيمان في قلبه واطمأن قلبه بالإيمان هو الذي يأتيه الشيطان ليفسد عليه، أما من ليس بمؤمن فإن الشيطان لا يأتيه بمثل هذه الوساوس، لأنه منته منه، والمهم أن قوله :﴿ ثم لم يرتابوا ﴾ يدل على أنهم ثبتوا على الإيمان، ولو طالت المدة.
فإذا قال قائل : ما الطريقة التي توجب للإنسان ثبوت الإيمان واستقراره ؟
قلنا : أولاً : أن يتفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وأن هذه المخلوقات العظيمة لم تكن وليدة الصدفة، ولم تكن وليدة بنفسها.
ثانياً : أن يتفكر في شريعة الله وكمالها.
ثالثاً : أن يتفكر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وآياته وما إلى ذلك.
رابعاً : أن يكثر من ذكر الله - عز وجل - فإنه بذكر الله تطمئن القلوب، ويكثر من الطاعات والأعمال الصالحة، لأن الطاعات والأعمال الصالحة تزيد في الإيمان، كماهو مذهب أهل السنة والجماعة - رحمهم الله -.
﴿ وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾ هذا أيضاً معطوف على قوله :﴿ آمنوا ﴾ أي هم مع إيمانهم بالله - عز وجل - ويقينهم وعدم ارتيابهم يريدون أن يصلحوا عباد الله بالجهاد في سبيل الله، يجاهدون أعداء الله ليرجعوا إلى دين الله ويستقيموا عليه، لا للانتقام منهم، ولا للانتصار لأنفسهم، ولكن ليدخلوا في دين الله - عز وجل - والجهاد في سبيل الله هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا، لا للانتقام، فالقتال للانتقام ليس إلا مدافعة عن النفس، أو أخذاً بالثأر فقط، لكن الجهاد حقيقة هو أن يقاتل الإنسان لتكون كلمة الله هي العليا، أما الجهاد انتصاراً للنفس، أو دفاعاً عن النفس فقط، فليس في سبيل الله، لكن لاشك أن من قاتل دفاعاً عن نفسه فإنه إن قتل فهو شهيد، وإن قتله صاحبه فصاحبه في النار كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيمن أراد أن يأخذ مالك قال :«لا تعطه »، قال : يا رسول الله، أرأيت إن قاتلني، قال :«قاتله »، قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال :«أنت شهيد »، قال : إن قتلته ؟ قال :«فهو في النار »، فالجهاد في سبيل الله هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا، هذا هو الذي حده النبي عليه الصلاة والسلام وفصَّله فصلاً قاطعاً، ﴿ أولئك هم الصادقون ﴾ في إيمانهم وعدم ارتيابهم، أما الذين قالوا من الأعراب آمنا ولكنهم لم يؤمنوا حقيقة ولكن أسلموا فإنهم ليسوا صادقين، ولهذا قال الله تعالى :﴿ قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ﴾.
﴿ قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأَرض ﴾ هذا إنكار لقول الذين قالوا آمنا، يعني أتعلمون الله تعالى بأنكم آمنتم وهو عليم بكل شيء، وتعلمون الله بمعنى : تخبرون الله، وليس المراد أن ترفعوا جهله عن حالكم، فهو يعلم حالهم - عز وجل - ويعلم أنهم مؤمنون أو غير مؤمنين، لكن تعلمون هنا بمعنى تخبرون، وليس معناه أن ترفعوا الجهل عن الله - عز وجل - لأن الله ليس جاهلاً بحالهم، بل هو عالم، ﴿ أتعلمون الله بدينكم ﴾ حينما قلتم آمنا، ﴿ والله يعلم ما في السماوات وما في الأَرض ﴾ ومنها أي ما في السموات وما في الأرض حالكم إن كنتم مؤمنين أو غير مؤمنين، وفي هذه الآية إشارة إلى أن النطق بالنية في العبادات منكر ؛ لأن الإنسان الذي يقول : أريد أن أصلي، يعلّم الله - سبحانه وتعالى - بما يريد من العمل، والله يعلم، والذي يقول : أريد أن أصوم كذلك، والذي يقول : نويت أن أتصدق كذلك، والذي يقول : نويت أن أحج كذلك أيضاً، ولهذا لا يسن النطق بالنية في العبادات كلها لا في الحج ولا في الصدقة، ولا في الصوم، ولا في الوضوء، ولا الصلاة، ولا في غير ذلك، لأن النية محلها القلب، والله عالم بذلك، ولا حاجة إلى أن تخبر الله بها، ﴿ والله بكل شيء عليم ﴾، فما في السموات عام، وما في الأرض عام، فكل شيء يعلمه الله، وقد تقدم لنا الكلام مراراً على هذه الصفة من صفات الله، والتي هي من أوسع صفاته - جل وعلا - ﴿ والله بكل شيء عليم ﴾ خفي أو بين، عام أو خاص، فهو عالم به - جل وعلا -.
﴿ يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ﴾ في هذه الآية تكررت ﴿ أن ﴾ ثلاث مرات : أي يمنون عليك يا محمد بإسلامهم، وحذف الجملة مع ( أن )، مطرد كما قال ابن مالك - رحمه الله - في الألفية. ﴿ يمنون عليك أن أسلموا ﴾ أي : بأن أسلموا أي بإسلامهم، ويعني بذلك قوماً أسلموا بدون قتال فجعلوا يمنون على الرسول - عليه الصلاة والسلام - يذكرون له الفضائل ويقولون : نحن آمنا بك من دون قتال، مع أن المصلحة لهم، ولهذا قال الله تعالى :﴿ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ﴾، وقوله :﴿ بل الله يمن عليكم ﴾ هذا إضراب لإبطال ما سبق، أي ليس لكم منة على الرسول - عليه الصلاة والسلام - بإسلامكم، بل المنة لله - عز وجل - عليكم أن هداكم للإيمان، ولا شك أن هذا أعظم منة أن يمن الله على العبد بالهداية إلى الإيمان، مع أن الله أضل كثيراً من الأمة عنه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين كلهم في النار وواحداً من الجنة، فمن وفق بأن واحداً في الجنة فإن هذه منة عظيمة، ولهذا كان الأنصار رضي الله عنهم حين جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين كلما ذكر إليهم شيئاً قالوا : الله ورسوله أمن، قال :«ألم أجدكم في ضلال فهداكم الله بي »، قالوا : الله ورسوله أمن، قال :«ألم أجدكم متفرقين فجمعكم الله بي ؟ » قالوا : الله ورسوله أمن، كلما ذكر شيئاً قالوا : الله ورسوله أمن، فالمنة لله على كل من هداه الله بنعمه، فالمنة لله - عز وجل - عليه وقوله :﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي إن كنتم من ذوي الصدق القائلين بالصدق، فإن المنة لله عليكم ﴿ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ﴾.
﴿ إن الله يعلم غيب السماوات والأَرض والله بصير بما تعملون ﴾. أخبر الله في هذه الآية أنه يعلم كل ما غاب في السموات والأرض، وما ظهر فهو من باب أولى، وأخبر - عز وجل - أن من جملة ما يعلمه عمل بني آدم، ولهذا قال :﴿ والله بصير بما تعملون ﴾، وهذه الآية تفيد مسألة عظيمة في سلوك الإنسان وعمله، وهي أن يعلم بأن الله تعالى بصير بعمله محيط به، فيخشى الله ويتقيه، وفيها الترغيب في الأعمال الصالحة فإنها لن تضيع، وفيها الترهيب من العمل السيىء ؛ لأن العبد سيجازى عليه ؛ لأن الكل معلوم عند الله عز وجل، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالهداية والتوفيق.
Icon